آخر 10 مشاركات
[تحميل] أحببت راعية الغنم ،للكاتبة/ أسماء خالد البحيري ،مصرية (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          تشعلين نارى (160) للكاتبة : Lynne Graham .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          قدرها ان يحبها شيطان (1) .. سلسلة زهرة الدم. (الكاتـب : Eveline - )           »          رافاييل (50) للكاتبة: ساندرا مارتون (الجزء الأول من سلسلة الأخوة أورسيني) .. كاملة.. (الكاتـب : Gege86 - )           »          أحفاد الصائغ *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : مروة العزاوي - )           »          479 - مرايا الزمن العائد - بيني جوردان ( عدد جديد ) (الكاتـب : marmoria5555 - )           »          سيدة قصر الدوقية توسكية (77) ج 3"عائلة ريتشي":أميرة الحب {مميزة}*كاملة&رابط أخف* (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          رجل السانتا (93) للكاتبة Kristine Rolofson .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          للحب سجناء (الكاتـب : طيف الاحباب - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة

Like Tree59Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-01-25, 01:39 AM   #21

هاجر جوده

مشرفة منتدى الروايات المنقولة

 
الصورة الرمزية هاجر جوده

? العضوٌ??? » 402726
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,948
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » هاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond repute
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة افنان23 مشاهدة المشاركة
الله يحيكي يقلبي ان شاء الله يكون العمل يستحق واكون استحق ثقة الغالية هاجر..
العمل مكتمل وهينزل يومين في الاسبوع لمدة ستة اشهر تقريبا وأن شاء الله يكون عند حسن ظنكم
تستاهلي كل خير حبيبتي
و أنا اكيدة حتعجبهم كتير باذن الله
موفقة يا قلبي ❤️

افنان23 likes this.

هاجر جوده غير متواجد حالياً  
التوقيع
"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم." ❤




رد مع اقتباس
قديم 26-01-25, 04:20 AM   #22

shoagh

? العضوٌ??? » 340962
?  التسِجيلٌ » Apr 2015
? مشَارَ?اتْي » 435
?  نُقآطِيْ » shoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond reputeshoagh has a reputation beyond repute
افتراضي

انتظر بفارغ الصبر

shoagh غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-01-25, 03:32 PM   #23

عزة عبالنبي

? العضوٌ??? » 511458
?  التسِجيلٌ » May 2023
? مشَارَ?اتْي » 19
?  نُقآطِيْ » عزة عبالنبي is on a distinguished road
افتراضي مصر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرواية كتير رائعه اشكرك على جمال الكتابة

هاجر جوده likes this.

عزة عبالنبي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-01-25, 12:04 AM   #24

ريجينا فلانجي

? العضوٌ??? » 474361
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 89
?  نُقآطِيْ » ريجينا فلانجي is on a distinguished road
افتراضي

بالانتظار لنبدأ الرحلة الجميله معاك
هاجر جوده likes this.

ريجينا فلانجي متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-25, 05:39 PM   #25

مي مدحت٣

? العضوٌ??? » 516794
?  التسِجيلٌ » Feb 2024
? مشَارَ?اتْي » 7
?  نُقآطِيْ » مي مدحت٣ is on a distinguished road
افتراضي

لنللتىورتب ؤىيف
هاجر جوده likes this.

مي مدحت٣ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-25, 09:53 PM   #26

هاجر جوده

مشرفة منتدى الروايات المنقولة

 
الصورة الرمزية هاجر جوده

? العضوٌ??? » 402726
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,948
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » هاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond repute
افتراضي


المقدمة



ركضت بأقصى طاقتها نحو البوابة تسابق الزمن لتصل قبل أن تقع المصيبة فتخسر كل شيء بَنَته بسبب حقير لا يتوانى عن إفساد حياتها للمرة التي توقفت عن عدّها رغم أنها لم تضره بشيء. كانت تجري على السلالم التي تشعر أنها تعيدها للأسفل ولا تصعد بها...
تتساءل هل هي في كابوس جديد؟
أم حلم جديد سيتحقق كالذي سبقه والمتضرر الوحيد في كل هذا لن يكون سواها، لقد حلمت بهذا؛ حلمت بأنها تخسر للمرة الثانية حياتها وإن كانت في المرة الأولى قد وجدت من يداويها فهل ستجد في الثانية وماذا سيحدث لها عندما تفقد من تعلّق به قلبها دون أن تشعر ولم تدرك مشاعرها نحوه إلا بعد بُعده عنها كأن وجوده حولها جعلها تحجب عن وعيها مشاعرها الواضحة للجميع عداها.. الآن فقط تستطيع أن تعترف بأنها تحبه، بل تهيم به عشقاً، ومن يعرفه ولا يحبه؟ من يتقرب من دفئه ولا يهيم به؟ من يحاط بحمايته المفرطة ولا يدمنها؟ من يعتاد عليه ولا يتعلق به؟ كالشمس هو في حياتها جاءها في أكثر أيامها سواداً فغطى بنوره عتمة ظلامها وأدفأ قلبها الذي تجمد وأحيا فيها الروح بعد أن قتلوها بأفظع الطرق.. لن تتحمل فقداً آخر خاصة فقده هو هذه المرة سيكون الفقد بنكهة أب، وأخ، وزوج، وحياة بأكملها.
وصلت أخيراً بعد أن كادت تقسم أن السلالم سترميها معيدةً إياها إلى أولها أخذت نفساً قوياً تجاهد لتسحب الهواء لرئتيها تمسك قلبها الذي تعالت ضرباته حتى كاد يحطم قفصها الصدري تتوسل ربها أن يرحمها ولا يتركها لهم مرة أخرى، مدت كفها المرتجفة نحو مقبض الباب لتغمض عينيها بقوة وفزع وصوت العيار الناري يصلها واضحاً فسقط جسدها المرتجف أرضاً وساقاها لم تعودا قادرتين على حملها وكابوسها للمرة الثانية، يتجسد أمامها واقعاً لا مهرب منه.

ام سامي likes this.

هاجر جوده غير متواجد حالياً  
التوقيع
"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم." ❤




رد مع اقتباس
قديم 01-02-25, 10:14 PM   #27

هاجر جوده

مشرفة منتدى الروايات المنقولة

 
الصورة الرمزية هاجر جوده

? العضوٌ??? » 402726
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,948
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » هاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الأول





نتساقط كأوراق الشجر
وعلى أرواحنا أن تتحمل الهجر
لم نخلق لنعرف الأمل بل
نسير بدروبنا متناسيين جرح الغدر
وكأننا على موعد مع الوجع
مع التحطم مع الحزن والسهر
وكأن ما مررنا به لا يكفي
فعلينا أن نرضى أيضا بحكم القدر



الماضي... قبل سنوات…


" أهربن"
همستها بصوتها الضعيف الخافت ووجهها الأصفر الشاحب يحكي معاناة صاحبته ومقدار ما تخفيه من أوجاعها بواجهة خادعة، تظن أنها بذلك تمنح أملًا غير موجود لفلذتي كبدها اللتين حملتا حظها كما أخذتا من حسنها. وقد ساقهن القدر لرجل تناديانه (أبي) لقب لا يستحقه ولا يستحق المكانة التي نالها دون جهد منه مالت برأسها الملقى على الوسادة الصلبة عندما سمعت ابنتها الكبرى، ذات الستة عشر عامًا، تقول، وهي من حملت الهم صغيرة ولم تعرف لا طفولة ولا مراهقة، وحتى الدراسة حرمت منها:" بالله عليكِ أمي ماذا تقولين؟ هل هذا وقته؟! ثم إن أبي لن يسمح لنا بذلك فإبليس لا يترك ضحاياه إلا بموتهم ودخولهم الجحيم.."
لم تبعد نظرها عن صغيرتها ذات النظرات الحادة بتلك العيون المسحوبة بشكل مبهر خاطف للأنفاس. فرغم صغر سنها كان جسدها يفيض بالأنوثة وتكفي عيناها لتسحر أكبر الرجال وأعتاهم، حملت نظراتها نحو صغيرتها حزنها وندمها وهي تسمع ذلك اللقب الذي داومت عليه ابنتها منذ سنوات وقد أدركت رغم صغر سنها أن ذلك الرجل ليس بشراً فهو لا يملك شفقة البشر ولا غريزة الحماية وكل ما يهمه هو نفسه ونجاته.. لم ترد عليها بل التفتت بنظرها إلى صغيرتها الأخرى ذات الست سنوات التي كانت تبكي بصمت فقط صوت شهقاتها الخافتة يُسمع وتلك الدموع كحبات الدرر تتساقط من عينيها توجع قلبها تنحر أمومتها على أعتاب باب إبليس في كل مرة يسلمها لمجرم آخر، يسلب منها ما تبقى من روحها التي شطرت ألف مرة ولم تمت وها هي الآن تنازع لحظاتها الأخيرة تنتظر لحظة تصعد فيها إلى بارئها لتعاقب على أعمالها مرة وتشكو له ألف مرة.
عادت إلى الكبرى تقول بذات النبرة التي جمعت بين الوجع والحزن والقهر والاضطرار فهي مجبرة على ذلك مجبرة على الذهاب، كما ستجبر ابنتها على الهرب:" بل هو وقته تماماً يا ابنتي خذي شقيقتك وابتعدن عن بؤرة الموت التي ستقضي عليكما لو بقيتن هنا أنا عاجزة عن حمايتكن يا عيون أمكِ ولم يحميك من أبيك حتى الآن إلا وجود من تعوض مكانك لكن بعد موتي لن يحميك أحد منه ولا مما يخطط له لكما وإن تحملتِ أنتِ ما يعده لكِ بعد موتي فأختك لن تتحمل يكفي ما نالك أنت فأنقذيها وافعلي ما فشلت به معكِ."
كانت تتحدث بصوت متقطع تسعل مع كل كلمة تنطقها بأنفاس لاهثة ودقات قلب بطيئة تنتظر أن تتوقف نهائيًا والأخرى تراقبها بعيون جامدة تحمل تجبراً وقسوة فاقت تلك التي ربتها وقلب يرتعد خوفًا الصور تمر على عقلها، فتميتها مرة تلو الأخرى تسأل نفسها: هل ستعاني كما عانت والدتها؟
هل ستعيش ما عاشته الأخرى؟
هل سيحدث ما أنقذتها منه والدتها مرات عديدة حتى أخذت بثأرها تحت عينيّ والدها؟
التفتت نحو شقيقتها ليعتصر قلبها رعبًا من مجرد الخاطرة التي قصفت عقلها قبل قلبها ورمتها في جحيم خيالي تعرف أنه لن يطول حتى يحدث فإن كانت بكل قوتها وكل ما علمتها إياه الحياة لم تقدر على النجاة من ذلك الفخ الذي يريد إبليس رميها فيه، فهل ستقدر أختها الصغيرة؟ إن كانت هي قد وجدت أمًا دافعت عنها بروحها وجسدها، فهل ستتمكن هي من فعل ذلك لأختها؟ عادت بنظرها لوالدتها التي استقبلتها بنظرات مواسية متوجعة وخائفة وقد قرأت بعين قلبها ما يدور في خلد ابنتها..
شامة تصارع الموت والرحيل يقترب…
همست لنفسها وهي تطالع والدتها بقلب منقبض كانت تعرف في سرها أن الموت يحيط بهن فرائحته تلتصق بهذا الجسد الواهن أمامها وقد أدركت قرب الفقد الذي يحوم حولهن وعرفت أنها ستفقد قريبًا جدًا الصدر الحنون والقلب المحب المعطاء وتعرف أنهن بعد ذلك أموات وإن بقين على قيد الحياة فطريق الموت الذي يقودهن إليه إبليس طويل، طريق أجبرت عليه والدتهن وهي أكبر شاهدة عليهن وموت شامة معناه أن عليهن أن يسلكن ذات الدرب الذي هربت منه الأخيرة ألف مرة وأعادها إليه إبليس ألف مرة.
حدقت بشقيقتها التي لم تتوقف عن البكاء الصامت وكأن الصغيرة تبكي بالنيابة عنهما كلتاهما فدموعها نضبت منذ زمن توقفت عن عدّها؛ يخبرونها أنها صغيرة وأن كل ما عاشته على هذه الأرض هو ستة عشر عامًا لكنهم كاذبون فهي تبلغ من العمر ألف عام لقد شاخ قلبها قبل أوانه فالمصائب جاءتها مبكرًا رأتها وعاشتها واحدة تلو الأخرى تستطيع أن تعدهن جميعًا وتحكيهن كحكايات، وتنال عليهن وسام أغرب ما قد يسمعه المرء.
عادت بنظرها لوالدتها التي همست لها بصوتها الذي أذهب المرض رقته وانخفاضه ليصبح أجشًا خافتًا مع سعال لا يتوقف وكأنه يتقاسم معهن وقت والدتهن الضئيل:" الليلة خذي أختك وابتعدن قدر المستطاع ابتعدي أنقذي حياتكِ وحياتها من المستنقع الذي سيرميكِ فيه ثم يلحقها بكِ ما أن تبلغ هذا إن لم يفعلها منذ الآن فالمرضى كثر."
ارتعش جسدها من مجرد خاطرة، فقالت بصوت أوضح ارتجاف بدنها الناعم الصغير ولأول مرة تسمع والدتها في صوتها خوفاً على صغيرة تربت على يد سفاح:" كيف نفعلها وهو لا يبعد نظره عنا وكأنه يدرك ما نفكر به ثم ماذا عنكِ أماه؟"
أبعدت المعنية رأسها قليلًا عن الوسادة ودوار شديد تمكن منها فهي مع مرضها لم تأكل منذ أيام لكن ما حاجتها بالطعام والموت يقترب منها فالحساب اقترب وهي تتأمل رحمة الله التي وسعت كل شيء وهو الأعلم بحالها أخرجت صرة صغيرة ومدتها لها هامسة:" ضعيه في طعامهم الليلة…"
" سم؟"
نطقتها بفجيعة، لتبتسم الأم بوجع ساخر:" ليتني أقدر على فعلها وأخلص العالم من شرهم لكن يكفيني ما سألقاه عندما أقابل وجهه الكريم."
وأضافت بوجع لا تعرف سببه هل لقرب العقاب والحساب أم لقرب فراقها لبناتها أم خوفا ورعبا من ضياعهن وسط وحوش لا يعرفون الرحمة لكنها تتأمل خيرًا تتأمل أن يجدن من يشفق عليهن ويؤويهن وأن ييسر الله لهن الشِهام وأبناء الأصول:" إنه مخدر سيجعلهم ينامون ويمنحكما فرصة للهرب."
لم تنطق بحرف فالتردد كان واضحًا في عينيها خائفة مما سيقدم عليه لأنه سيحدد مصيرها ومصير شقيقتها والخوف الذي تشعر به لم تعرفه منذ سنوات ومخيلتها ترسم لها أسوأ السيناريوهات. أخفضت رأسها تتكئ بذقنها على رأس الصغيرة الباكية والحيرة والخوف يتصارعان بداخلها (هل أهرب وأترك والدتي خلفنا؟ هل أقدر على التضحية بها؟ ولو بقيت هل أقدر على حماية نفسي وأختي؟) الأسئلة مطروحة على طاولة الحقيقة والنهاية واحدة في كل الأحوال (الموت)؛ لو بقيت ستموت إما جسداً أو روحاً، وإن هربت ستموت بطريقة أخرى لم تكتشفها بعد وفي اللحظة الأخيرة من التردد أدركت أنها ستضحي بالغالي لأجل الأغلى من روحها وروح والدتها ستضحي لأجل تلك الدرة الصغيرة التي تستحق أن تعيش حياةً أفضل وهي ستمنحها الفرصة لذلك ستجعلها أفضل إنسانة ولو اضطرت لمصافحة أباليس جهنم جميعاً لن تتخاذل، فلتحميها والباقي تتركه على رب لم تتقرب منه ولكنها تؤمن به وتؤمن أنه سينقذها إن لم يكن لأجلها لكثرة خطاياها فسيكون لأجل هذه الدرة الصغيرة، دون كلام استقامت واضعة شقيقتها في حضن والدتها لتشبع من حضنها قبل الفقد الكبير واتجهت إلى المطبخ لتحضر لهم الطعام.
*******
مرّت ساعتان منذ وضعت الطعام أمامهم وهم يتناولونه كالوحوش الضارية مفجوعين مقرفين. لوت شفتيها بقرف وكلها تنتظر اللحظة التي يبدأ فيها المخدر مفعوله وخاصة لذلك الذي كان ينظر إليها بنظرات شهوانية على مرأى وتحت أعين والدها المبجل الذي يضحك بحقارة وهو يصف جسدها بحركات أرعشت جسدها الغض، تساءلت ماذا ترك هذا الرجل لإبليس؟ فقد بات الأخير تلميذًا عنده، أشاحت بوجهها وتحركت صوب المطبخ تنتظر لحظة الحدث لقد جهزت كل شيء دون تأخير أو خوف أو تردد فهي فرصتها الوحيدة قضت على أي فكرة أخرى قد تراودها تذكرها بالحقائق فإن لم تنجح في ذلك فستكون ميتة على قيد الحياة تأكل وتشرب وتسير على قدمين لكن داخلها عفن وجسدها قذر كلها لا ترقى حتى لكلب أجرب يجوب الشوارع.
دقائق أو أكثر لم تحسب الوقت فمشاعرها جعلتها تشعر بأنهم يأكلون منذ دهر ناداها والدها لتحمل الباقي من الطعام فتوجهت نحوهم وخطواتها تريد الهرب من هذا المكان والفرار إلى آخر لا يستطيع أحد الوصول إليها لا من الأنس ولا من الجن وحيدة لا يشاركها وحدتها إلا درتها. وصلت إلى الطاولة التي كانوا يشغلونها وبدأت بوضع الأواني الفارغة فوق بعضها داخل الصينية التي جلبتها معها عندما شعرت بكف تتحرك على ساقها،أخذت نفسًا عميقًا ورفعت السكين من موضعها ودون لحظة تردد أو تفكير قد يسبق الفعل فعلت ما لم يتوقعه أحد إذ غرست السكين في يده التي كانت تتلمسها صرخ بألم وارتفعت أصوات السب والشتم أعلى من صراخه لكنها لم تبالِ كانت تناظره بنظرات جامدة كجمود جبل في وسط المحيط، تنظر إلى كفه التي سالت منها الدماء وداخلها شعور بالانتشاء شعور يراودها كلما انتقمت من أحدهم كلما أخذت بحقها وحق غيرها من هؤلاء الوحوش وإن لم تعرفهن هي تنتقم وتأخذ الحقوق بكل طريقة ممكنة فهي أصلب من ظاهرها وأكثر شرًا من الذي رباها، كان ردها على سبابه شتيمة قذرة تناسبه ومن معه نطقتها ببرود وصوت واضح ثم ارتفعت بعد صمت أصواتهم بالضحك ووالدها يخاطبها قائلاً :" تصدمني وقاحتك يا بنت…"
نظرت إليه وردت ببرود:" تربيتك…"
حل الصمت في الغرفة بينما نظرات الأب والابنة تتواجهان بقوة هي قوة من تعلمت على يده كيف تقتل بدم بارد، وهو قوة رجل لم يترك في حياته وجعًا لم يطرق بابه حتى تحول لإبليس على هيئة إنسان وسيم، ابتسم الأب مقتربًا من ابنته قائلاً بصوت خافت لم يصل لسواها:" ابنة كلب حقًا."

زاغت عيناها وتلك الفكرة التي تعشش في عقلها منذ زمن أكدها حديثه الآن هي وأختها لا تنتميان لهذا الرجل القهر بقلبها والحسرة التي تعيشها جعلتها ترد عليه بذات الهمس:" بل ابنة شامة يا إبليس."
ابتسم لها ابتسامة الشياطين التي ترعبها وستبقى عمرها كله تخافها فمن لا يخاف من إبليس أحمق ومن لا يهرب منه مجنون استدارت تسير بخطوات ظاهرها ثابت وداخلها متعثر، اتجهت لغرفتها وهي عبارة عن هيكل من الطين آيل للسقوط عليهم في أي لحظة لكن أعمارهم طويلة كما يبدو بطول هذا البيت القديم والثابت رغم كل ما مر عليه نظرت إلى والدتها ثم إلى شقيقتها الغافية التي وضعت لها كمية ضئيلة جدًا من المخدر لتنام كانت تدرك أن الصغيرة لن توافق على المغادرة وستفضح خطتهم بصراخها، عادت بنظراتها إلى والدتها التي استقبلتها بنظرات حزينة تكللها بسمة صغيرة كانت تريد أن تسألها وتتأكد من هذا الشك الذي يقتلها لكنها لا تستطيع تريد أن تعيش بهذا الشك بدلاً من تحويله إلى حقيقة يصعب عليها التعايش معها، مالت على والدتها هامسة بوجع:" قلبي يتقطع لتركي لكِ هنا وحدك معه تعالي معنا أمي سأحميكِ كما سأفعل معها."
انقبض قلب الأم وجعًا على صغيرتها ودمعت عيناها حسرة ماذا بيدها أن تفعل لتريحها من قدرها؟ هي السبب هي من فعلت هذا بنفسها وببناتها خاصة هذه التي رأت ما لا يجب أن يراه طفل وعاشت أسوأ الأمور، ابتسمت ابتسامة مهتزة ضعيفة تشبه ضعفها وربتت على خد ابنتها بخفة هامسة بوجع مشابه لوجع صغيرتها فتركهما ليس بالأمر السهل عليها لكن للضرورة أحكام وبقاؤهن هنا لن يعود عليهما بالفائدة بل سيسقط عليهما الشر الذي حمتهم منه بروحها وجسدها:" سأكون حملًا ثقيلًا عليكِ حبيبتي تكفيكِ أختكِ كما أن عليّ البقاء حتى لا يشك بشيء سأخبره صباحًا عندما يستيقظ أنكِ ذهبتِ للإشارة وأخذت أختكِ معكِ فهذا قد يمنحك بعض الوقت."
لم تعرف ما تقوله لترد به على والدتها وهل يوجد في قاموسها أي كلمة تساعدها في حالتها؟ كانت ترغب بأن تخبرها كم تحبها، كم تتوجع لأجلها تريد أن تقول لها إنها أفضل أم لكن الكلمات تقف في بلعومها، متكسرة، خانقة، مانعة إياها من التعبير بأبسط الكلمات فالواقع عكس تلك الكلمات رغم صدق شعورها لكن يكفيها أن والدتها عاملتهن بكل حب تستطيع منحه لهما يكفيها أنها دافعت عنهن ورفضت بكل قوتها أن تخطو ابنتها خطوة في الطريق الذي أجبرت هي عليه وتدرك جيدًا أنه وبمجرد موتها ستكون هي الضحية الجديدة له. لن يتركها وشأنها إلا بعد أن تتلطخ بسواد عالمه، لم ترد على ما قالته ولم تخبرها أن إبليس لن يصدق الحجة الواهية التي قالتها قبل ثوانٍ. فهو يعلم مكانة درة لديها ويعلم أنها رفضت أن تذهب معها سابقًا ولن تفعلها الآن إلا لسبب، وما إن يستيقظ سيشعر بشيء غريب نومه المبكر وهدوء البيت دون بكاء الصغيرة سيجعله يشك في الأمر وذكاؤه المرعب لن يتأخر حتى يكتشف الحقيقة.
مالت تحضن والدتها دون كلام وقبلت خدها بقوة تشم رائحتها لتحفظها في قلبها وروحها أرادت أن تملك صورة لها صورة أخيرة لكن حتى هذا ممنوع.


******
كانت تحمل شقيقتها الغافية على كتفها تغطيها بوشاح قديم لوالدتها كان من ذكرياتها الأخيرة لتلك الحياة التي هربت منها، ودون أن تودع والدتها اكتفت بنظرة أخيرة حكت لها فيها كل ما تحمله من حب لها بعد أن سرقت مبلغًا كبيرًا مع صورة قديمة لوالدتها عندما كانت سعيدة وابنة عائلة يعرفها القاصي والداني صورة وجدتها تحتفظ بها ولا تعلم لماذا ولم تندم ولو للحظة لأنها سرقت منه المال فقد حان الوقت لتأخذ حقها الذي حرمت منه فهي ومنذ الخامسة من عمرها كانت تقف على إشارة المرور تتسول لتعود بحصيلة ليست هينة يأخذها ذلك الحقير منها ليصرفها على نفسه ومتعته ولا ينلن منها إلا الفتات إن وُجد. وأيضًا أخذت أوراقها وأوراق شقيقتها الرسمية فلن تخطو خطوة دونهما لا تعلم ما أسبابه لإخراج أوراق رسمية لهن وأيضًا باسمه هو ولكن كل هذا غير مهم المهم أنه فعل هذا وقد أفادهن ولو لمرة واحدة في العمر.
غادرت حاملة أغلى البشر على قلبها تاركة خلفها فقرًا مقيتًا؛ أبًا حقيرًا وأمًا مريضة تنازع الموت الذي تخاف منه مودعة ماضيًا تعرف أنه سيلاحقها طويلاً جدًا ولكنها مستعدة له وفي جيب حقيبتها الصغيرة تقبع أوراقهما الرسمية أوراق تثبت نسبها ونسب شقيقتها له (تاج محمود عواد الكصاب) و(درة محمود عواد الكصاب) القصاب.

*****
تمر الأعوام
وتشرق الشمس وتغيب
ويتعاقب الليل والنهار
ويبقى القلب يحمل تلك الأمنية الأثيرة
منتظراً شمس الأمل التي تأبى الظهور

الوقت الحاضر// بعد 12سنوات..


في غابة كبيرة رائعة الجمال أشجارها عالية وتتقاطع أغصانها متشابكة بحب يتخللها ضوء الشمس وصوت الماء في الخلفية يصل واضحاً تحيط بهما رائحة الشجر والخضرة غامرة إياهما بنشوة… وفي وسط الغابة تطير يمامتان جميلتان تحلقان سعيدتين تغردان بسعادة ورضا كانتا تحلقان بحرية بعيدتين عن قيود ألجمتهما طويلاً فالحياة منحتهما فرصة للتحليق والعيش بسعادة بعيداً عن ظلم البشر، كان قلبيهما الصغيران يرتجفان ببهجة لم يعرفاها من قبل، فجأة ودون سابق إنذار اختفت الشمس وحل محلها الظلام. توقف الماء عن التدفق، ومن السماء تساقطت الحجارة بدلاً من الأمطار. أين المطر؟ ولماذا الحجارة؟!!
سقطت على إثر تلك الأحجار إحدى اليمامتين، مضرجة بالدماء. سقطت على الأرض باكية، شاكية، نائحة. وحولها ظلت الأخرى تطوف، تبكيها وتندب حظ رفيقتها. لتختفي اليمامة الأخرى عن نظرها بينما ظلت هي غارقة في دمائها التي أحاطت بها كبركة ماء تحيط جذع نخلة ساقطة بعد أن بقيت سنوات شامخة تعطي ولا تنال من البشر إلا الألم.
ومن العدم، ظهر شخص غامض الملامح لم ترَ من ملامحه شيئًا فقط لمعة خاتمه التي توهجت في عيني اليمامة حملها بين كفيه فانتفضت مرتعبة راغبة في الابتعاد والهروب منه كان يخيفها يرعبها قربه، كانت تريد النجاة ولا تعرف كيف وجاءها رده بهمسة اعتذار أسكنها ودمعة تسقط على وجهها فرفعت رأسها نحوه مرهفة السمع لصوته الباكي الذي لم يتوقف عن الاعتذار ولا عن البكاء. لم ترَ ملامحه فقط خاتمه الذي يضغط على جسدها البض وصوته الحزين الذي يصل مسامعها فيواسي وجعًا كبيراً بداخلها كوحش يقتات على روحها اعتذاره كان يسكن ذلك الوجع، وكفه الضخم يحيط بها بأمان تستشعره دون أن تعلم مصدره.


" الله أكبر… الله أكبر…"
فتحت عينيها على وسعهما مستعيدة وعيها مع صوت الأذان وذلك الحلم بتفاصيله يعاد عليها فيزيدها أرقًا وخوفًا مضت فترة لم يعاودها هذا الحلم بهذه التفاصيل الواضحة مع ظهور ذلك الرجل لأول مرة ليزداد الخوف بداخلها أضعافًا تسكنه بالاستغفار لكنه يبقى بداخلها يتحين الفرص ليقض مضجعها. جلست على سريرها تضم ساقيها لصدرها مفكرة وعقلها يعيد نفس التساؤلات التي لا تجد لها إجابة شافية تسكت بها تساؤلاتها... لماذا يتكرر هذا الحلم؟
لماذا يعاد كل فترة؟
وما قصة هذا الرجل؟ وعلى ماذا يعتذر؟
لماذا تتذكر أدق تفاصيله كلما استيقظت؟
لماذا لا تنساه كالكثير من الأحلام؟
هل هو رؤية…؟
لامست بنصرها ضاغطة على خاتم زواجها متذكرة خاتم الغريب الضخم خاتم رجالي بامتياز بحجر مميز لا تعرف نوعه هذه الأحجار مشهورة هنا في العراق وعادة ما يرتديها الرجال وتكون باحجار الكريمة والمصنوعة من الفضة وذات تصاميم جميلة وكان ذلك الخاتم الذي رأته ذو تصميم مميز وكأنه صنع خصيصًا لصاحبه.
صدر صوت شخير خفيف من التي تشاركها الغرفة وشكل ملاك أجبرها على الابتسام كانت ابتسامة خفيفة تشق ملامحها وشكل شقيقتها النائمة بشكل عرضي رأسها ساقط من السرير وساقاها في اتجاهين متعاكسين مشهد يحثها على الضحك لكنها لم تكن تمتلك هذه الرفاهية فزفافها يقترب حياتها تسير كما لا تريد أُجبرت على زواجها بعد أن رفضته ملاك، هي وملاك كم تختلفان وكم تتمنى لو تملك قدرتها على صنع المشاكل كما تفعل الأخرى تتمنى لو أنها تملك القدرة على قول (لا) وعلى رفض ما لا تريده لكنها لا تفعل.تطيع باستسلام يغيظ الأخرى التي تراه جبنًا بينما تراه هي تماشياً مع حياتهما التي لن تسير على هواهما مهما فعلتا ومهما قالتا وصرختا ستسير حياتهما كما قرروا هم وكما قُدر لهن لا يوجد شيء اسمه حرية الرأي والقرار فالحرية للرجال فقط والقرار بيدهم وهن مجرد جواري يقمن بالوظيفة الوحيدة التي خلقن لها.
عادت بنظرها إلى كف يدها وذلك الخاتم الناعم القابع فيه يوترها فيضرب قلبها ضربة خافتة فيها أنين متوجع صامت كحالها فهذا الخاتم ليس لها لم يخصها ولن يفعل ولو ارتدته ألف عام هو ينتمي لأخرى اختارها صاحبه واختاره لها وهي مجرد دخيلة تلعب دورًا لا يناسبها في لعبة لن يخسر فيها سواها.
انتبهت على انتهاء الأذان فرفعت الشرشف الخفيف عن جسدها، ومدت كفها إلى جهاز التحكم وأطفأت التكييف أنزلت ساقيها إلى الأرض وظلت في مكانها انتهى الأذان وعاد الهدوء يحوطها لكن روحها لم تهدأ كما اعتادت فبعد هذه الجلسة الصريحة مع النفس تخور قواها وهي تكتشف حماقتها وضعفها. ليتها تملك ما يجعلها أقوى وجاء هذا الحلم ليعكر صفاء روحها الذي اصطنعته مما يجعلها أكثر ضعفًا وتميل لمشاعر سوداوية لا تريد لها أن تنمو بداخلها لكنها كالأعشاب الضارة تنمو سريعًا جداً وتحيط بالصالح فتقتله دون رحمة:" أستغفر الله ربي وأتوب إليه…"
همست بصوت خافت مستغفرة، واستقامت تتحرك نحو ملاك قائلة:" استيقظي لتصلي انتهى الأذان ملاك.."
والرد الآلي جاءها سريعًا:" اتركيني ملك لأنام ما زال الوقت باكرًا"
وعادت للنوم وصوت شخيرها يبدأ خافتًا حتى يعلو قليلاً فاكتفت بالتنهد بخفوت وتحركت خارجة لتلتقي بوالدتها عند باب الحمام، فقالت بهمس:" صباح الخير.."
ردت قمر عليها وهي تنشف وجهها وذراعيها:" صباح النور حبيبتي ألم تستيقظ ملاك؟"
نفت برأسها وردت قبل أن تدخل الحمام:"وستستيقظ بعد ساعتين ولن تتذكر محاولتي لإيقاظها وطبعاً ستلومني على ذلك."

أجابتها قمر وهي تسير نحو غرفتها:" وأنت أيضًا لا تصرين عليها هي محاولة يتيمة وتستسلمين."
ابتسمت ملك هامسة:" ليس على النائم حرج."
ناظرتها قمر لثوانٍ قبل أن تقول برفض لطبع ابنتها:" لا أعرف كيف ستعيشين وأنتِ بكل هذا الاستسلام…!!!"
قمر، الأم التي أنجبتها والمرأة التي ربتها الشيء الذي لم تستطع فعله مع عدنان أو ملاك فالابن رباه الأب (الشيخ مضر) قائلاً إنها لن تقدر على تربية طفل وهي طفلة وأرضعته ضرتها الثانية وتربى مع أبنائها ولم يختلف الأمر بعد خمس سنوات من ولادة الأخير وما زالت الأم صغيرة وطفلة فأخذت ابنتها من حضنها لتربيها ضرتها الأولى فقط نالت القليل من الحظ هذه المرة وأرضعت ملاك وبعد عامين ثار القمر على الكون وتسيد الموقف عندما خلع ثوب الاستسلام وارتدى ثوب الحرب نجحت الأم في أخذ حقها بها وربتها مع ملاك لكن بعد ماذا…
لم ترد على كلام والدتها فالصمت كان أبلغ جواب بينهما هي مستسلمة لقدرها والأم غير قادرة على حمايتها كما يجب هي تدافع عنها وتحميها في أغلب الحالات لكن عندما يقول القدر كلمته تخسر الأم حربها.

*******
الاستيقاظ لديها لا يشبه استيقاظ البشر الطبيعيين فهي تنام كالأَسير الذي يبقي عقله على أهبة الاستعداد وأقل حركة يشعر بها بجواره تجعله يفتح عينيه على اتساعهما لا تأخذ وقتًا في السرير لا تطالع السقف ولا تستمتع بما حولها بل تقفز كمن ينام على جمر أحرق جسده، منذ سنوات تنام دون نوم حقيقي فالعقل لا يغفو لا يدخل إلى تلك المنطقة الخاصة بالسبات ومتى فعلت ونامت نوماً حقيقياً؟ ربما عندما كانت رضيعة لا تدرك سواد الدنيا وأنها وُلدت في أسوأ مكان في الدنيا!! فشخص مثلها تربى في ذلك البيت أو الجُحر-لا يهم أيًّا كان وصفه- شخص تعلّم منذ الصغر الحذر والتشكيك في كل شيء حتى اعتادت على ذلك وأصبح الشك مسيطراً على حياتها بأكملها لا تثق بأحد؛ لا تمنح أحداً القوة دائماً لديها ما تخفيه ولا تخرجه إلا في الوقت المناسب دائماً هي مستعدة لتنقض على كل من يتعرض لها أو لأختها بسوء.
فتحت عينيها ونظرت إلى سقف الغرفة التي تسكنها مع شقيقتها التفتت نحو الأخيرة لتجدها تجلس مستقيمة تستغفر وتحوقل بهمس لم يصل مسامعها ترى فقط حركة شفتيها فالضوء القادم من الخارج ينير الغرفة رغم الستائر التي تغطي النافذة. استيقظت درة مع صوت الأذان -مثلها- مع اختلاف الأسباب فالأولى تستيقظ لتصلي بعد ليلة هادئة لا تزاحمها كوابيس بينما هي تستيقظ لأقل الأصوات خفوتاً والكوابيس جزء لا يتجزأ من أيامها لا فكاك لها منها فالحذر واجب وهي كالثعلب تنام بعينين مفتوحتين تخاف الخيانة والغدر مدركة أن العدو هو الأقرب لها.
انتبهت لحركة كف درة عندما أعادت شعرها الطويل نحو الخلف بحركة سريعة ثم بدأت بجمعه بكفيها حتى لفته حول نفسه وجمعته خلف رأسها بمشبك بلاستيكي.
كانت تاج تتابع ما تفعل شقيقتها الصغيرة تلك التي كبرت على يديها أطعمتها، حمّمتها، رعتها في مرضها حتى كبرت وأصبحت أنثى رائعة الجمال بملامح بريئة لا تنتمي لذلك الرجل، لقد فعلت لها كل شيء إلا شيئاً واحداً وجدته عند غيرها أو ربما شيئين وربما أكثر من شيء لم تعد تعلم شيئًا تشعر أنها تفقد الشخص الوحيد الذي يشعرها بآدميتها فمع درة تعود إنسانة عادية تتباين بين الخطأ والصواب ودونها ستسقط في درب تعرفه وتهرب منه رغم أن كل شيء حولها يدعوها نحوه:" تاج هيا للصلاة أعلم أنك مستيقظة…"
لم تتلق منها رداً ولم تستجب بل أعطت ظهرها لدرة حاضنة الوسادة بقوة وهي تسحب الغطاء لتغطي به رأسها بينما كتفت الأخرى ذراعيها عند صدرها قائلة باستنكار حاد:" تاج…"
وتاج تتجاهل وتفعل ما يأمرها به عقلها بل شيطانها وككل يوم لا تيأس درة وتحاول مرة تلو الأخرى وفي النهاية تستسلم مؤقتاً فتاج هي الشخص الوحيد الذي يستحيل عليها إقناعه أو تغييره فتتشبث أكثر بقناعاتها وإن كانت بداخلها مقتنعة أنها على خطأ وأن أفعالها معصية لخالقها لكن تاج لا تستجيب لكل محاولاتها تعيش شقيقتها بقناعاتها دون محاولة للتغيير تتباين بين معرفتها لطريق الحق وسيرها في طريق المعصية باستسلام، تركتها درة وتحركت نحو الخارج حيث المرافق الصحية وعندما تأكدت تاج من مغادرتها رفعت الغطاء عن رأسها ترمق الباب بنظرات غامضة وتهمس بسرها:" وهل لمن مثلي توبة؟"

******
عصرا
شكر صديقه على الشاي وذهنه مع ما يقال:" المادة القانونية بحد ذاتها بحاجة إلى معالجة فهي غير منطقية وفيها ثغرة قانونية واضحة.."
جاء الرد من آخر بينما هو يستمع كعادته يجمع النقاط في ذهنه:" المادة جاءت لتساعد الفتيات على المضي قدماً في حياتهن بدلاً من الموت أو أن يدفن وهن على قيد الحياة."
والثالث، بأفكار غربية، يرد على الثاني:" محض هراء فما ذنبها بما حدث لها ثم لماذا لا تُلغى المادة وننتهي من هذا الأمر؟"
ليتدخل الجالس بجانبه يرد بسخرية على كلام الأخير:" تتحدث وكأننا نعيش في أمريكا هنا تقودنا العشيرة وقوانينها أما قوانيننا هذه نبلها ونشرب ماءها."
رد المعني باستنكار على الجالس بجانبه:" أستاذ أمير نحن نتحدث بصفتنا محاميين نتعامل مع القانون يومياً."
بثقة رد أمير عليه ببساطة مغيظة للأخر وتسببت برسم ابتسامة خفيفة أخفاها سراج بكوب الشاي الذي أخذ منه رشفة:" وأنا فرد من هذا الشعب وابن عشيرة وأرى وأسمع وأعيش ما لا تراه أو تعرفه حضرتك."
قاطع صاحب البيت هذه الحرب القديمة بين أمير وغريمه، قائلاً:" لكن يا أمير هذا القانون يجب أن يُعدل على الأقل فكما قال قاسم فيه ثغرات كارثية."
أومأ أمير برأسه وقال بينما يضع كوبه على الطاولة الصغيرة القريبة منه:" لم أنكر هذا الأمر ففي النهاية أنا أيضاً درست القانون والآن أنا أستاذ جامعي وهذه المادة واحدة من أصل الكثير التي تحتاج إلى تعديل لكن المشكلة أن المطالبين بتغييرها لهم كل الحق وأيضاً الرافضين لهم كل الحق."
استنفر من كان يردّد أمير قائلاً باستنكار:" اشرح لنا بالله عليك أي حق هذا الذي تتحدث عنه؟!"
نظر له أمير لثواني بنظرات مدققة ومستخفة في آن واحد، ليكون الرد على سؤاله من جانب سراج الذي قال:" هذا القانون جاء بالأصل لحماية الفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب كما قال الأساتذة فالمشرّع فكر فيهن على اعتبار أننا بلد تحكمه العشائر أكثر من القانون ورغم مرور السنوات وتعاقب السلطات بأنواعها علينا ظّل العراق تحكمه قوانين العشائر وسلطتها تفوق سلطتنا القانونية."
ثم أردف بهدوء وجدية مدققاً في كل حرف ينطقه:" الكثير من الفتيات قُتلن نتيجة لما حدث لهن دون أي ذنب اقترفنه وترك الجاني طليقاً أو قُتل هو الآخر وندخل في حرب دماء لا تنتهي إلا بكوارث أكبر."
" وتسليم الفتاة لمغتصبها هو الشيء الصحيح؟"
صاح المحاور بغضب واستنكار، فرد سراج بذات الهدوء: " بل هنا ندخل في الجانب الآخر من المادة 398 وهو الجانب الذي تجاهله المشرعون وهو جانب الفتاة ذاتها فمن جانب أنقذها من الموت ومن جانب آخر أوقعها في وضع أسوأ فبين حالتها النفسية وبين سوء المعاملة التي ستتلقاها لاحقاً تغرق مع رجل أخذ ما لا يحق له وكل هذا ولم نتطرق للمصيبة الكبرى وهي المدة التي شرعها المشرع والتي تجعل المغتصب يعيش حياته طوال هذه المدة بينما هي تعاني الويلات حتى تنتهي المدة القانونية ثم يطلقها."
ضرب تيسير على ساقه مؤيداً كلام سراج:" وهذا رأيي لهذا يجب أن تُلغى هذه المادة بل وتُشدد عقوبة الجاني."
ابتسم أمير بسخرية، ثم قال بذات السخرية والاستخفاف:" والفتاة؟ ها نحن نعود للمربع الأول."
همّ الآخر بالرد عليه ليقول سراج منهياً حرباً ستقام بين هذين الاثنين قبل أن تبدأ:" لو ألغينا هذه المادة يجب أن توجد في المقابل مادة تحمي الفتاة وتعاقب من يؤذيها."
ثم قال بنبرة من لا شيء بيده:" لكن حكم العشيرة سيطبق أكثر حينها وسنعود ندور في دائرة مغلقة والضحية في كل هذا هي الفتاة التي على الأغلب لن تجد أباً أو أخاً يدافع عن حقها المهدور بل سيكونون أول من يؤذيها ودون التطرق للمجتمع الذي سينظر لها كبضاعة بما أنها خسرت شرفها بأقسى الطرق والشرف في مجتمعنا مرتبط بأمور كثيرة."
انتقل النقاش لجانب آخر والجميع يطرحون أفكارهم ووجهات نظرهم لا يتركون نقطة إلا ويناقشوها من وجهة نظرهم كرجال يطبقون القانون بين محامين ومدعين وحتى قضاة. فالجلسة تجمع شخصيات مختلفة لكنها مفيدة لمن مثله، سراج الأمير، الرجل الذي عشق القانون ودرسه مقتديًا بخاله لكن جاء الواقع محطماً لأحلامه فالدراسة شيء والواقع في المحاكم شيء آخر مختلف جداً بأبعاده خاصة في بلد تحكمه العشائر أكثر من القانون، الذي يعتبر في المرتبة الثانية.
*****
أسند امير رأسه على ظهر كرسي سيارة سراج، ينظر لهاتفه قائلاً:" هذا الرجل يرفع ضغطي فعلاً."
ابتسم سراج قائلاً وهو ينظر للطريق من المرآة الجانبية:" أشم رائحة غيرة…"
رمقه أمير بغيظ ولم يرد، ليسأله بعد برهة:" كيف حالها؟"
لم يرد سراج على سؤاله وقد تجاهله تماماً فغير أمير السؤال رغم انزعاجه من فعل صديقه:" ما رأيك في موضوع هذا الأسبوع؟"
"ضده طبعاً وأؤيد أيضاً فقرة تعديله بل وأتمنى لو يُلغى نهائيًا."
تنهد أمير قائلاً:" ونعود للمربع الأول أن الضحية في كل هذا هي الفتاة."
بقناعة راسخة رد عليه سراج:" شيء أرحم من شيء فلك أن تتخيل أن تتزوج الفتاة برجل أخذ منها أغلى ما تملكه جبرًا ودون وجه حق وبدلاً من معاقبته نكافئه على جريمته فتعيش المسكينة ألف حرب بين حالتها النفسية وبين التعامل مع رجل أذاها وبدلاً من الندم يعاملها كبهيمة هذا غير أهل الزوج ونظرتهم لها."
كان سراج يحكي شيئاً يعرفه أمير جيداً حتى وإن لم يعمل كمحامٍ لكنه يعيش في نفس المجتمع ويرى ويسمع ما يشيب له الولدان الأمر صعب على الجميع وأن تقف في موقف رجل القانون وأنت بين نارين بين حق سلب وحقوق الآخرين فتختار الكل على الفرد تظلم شخصًا على حساب عشرة تنقذهم وتقتله وبين هذا وذاك تضيع أنت ويبقى الحق عند صاحب الحق والعدل لا يعرفه البشر ضيقو الأفق مهما توسعت آفاقهم.

******
استدارت حول نفسها وهي تتأنق بفستانها الجديد الذي اشترته أمس مع والدتها، قائلة بفرحة للتي تراقبها بابتسامة شابها حزن يسكنها ويزداد عمقًا كلما اقترب موعد زواجها:" انظري ما أحلاه فرغم كرهي لعدنان ولعرسه لكني مستعدة أن أتنازل عن كل شيء لأجل هذا الجمال."
ضحكت ملك بخفوت وهي ترد على شقيقتها:" الفستان رائع عليكِ حبيبتي أكاد أقسم أنه صنع لكِ خصيصاً."

غمزت لها ملاك قائلة:" ادعي لي حتى اصطاد عريسًا في هذه الحفلة المشؤومة."
ردت ملك بعدم رضا: “كفي عن هذا فهذا الكلام لا يصح ففي النهاية هو أخونا."
عادت ملاك بنظرها للمرآة تتمايل بغنج تتأمل نفسها في الفستان ذو التصميم الرائع كما تمنته تماماً. فستان قصير أسود اللون تنتشر عليه ورود باللون الأحمر دون أكمام ذو سير عريض متصل بفتحة الصدر المثلثية التي تظهر بداية مفاتنها، قالت تجيبها بسخرية:" نعم أخونا الذي لم يترك مصيبة سوداء لم يقع فيها لكن كونه ذكرًا فالقلم مرفوع عنه بينما نحن يكادون يخنقوننا بأوامرهم وليتهم يملكون سببًا بل إنهم يفعلون ذلك فقط لفرض الذكورية الغبية."
هزت ملك رأسها وهمست بخفوت:" كفي عن محاربة الطواحين ألم تكتفي بما فعل الشيخ بكِ عندما رفضتِ الزواج من…"
وصمتت بغصة وذكرى ذلك اليوم تتكرر أمام أنظارها كفيلم سينمائي سخيف لو شاهدته لضحكت كثيرًا لكنها عاشته وصارت في لحظة بطلته لتكمل عنها الأخرى بسخرية مريرة لا تخص بها ذلك اللعين بل مرارة تخص حياتهما، وكم تحمد الله أنها لم تخسر شقيقتها بسببه:" وهل خسر ابن عمك شيئاً؟"
والتفتت نحوها تكمل بصوت غاضب شابه رغبة في البكاء حاربتها بقوة:" عقدوا قرانكما بعد رفضي بساعة واحدة كأنهم يقولون لي ها هو تزوج بينما أنتِ ستبقين دون أن يلتفت لك أحد مجرد كيس رمل للضرب."
ذات الشعور راود ملك وأيضاً السبب لم يكن ابن عمهم فمشاعرها تجاهه باردة وعادية بل تراه أقرب لأخ لم تلده أمها لكن شعورها هذا يراودها كلما فُتح هذا الموضوع؛ الحزن على رضوخها لهم، الغضب من نفسها، والشفقة عليه وعلى ما فعلته ملاك به، وعلى نفسها في المرتبة الأولى ثم تعود لتتمنى لو امتلكت شجاعة ملاك لو استطاعت أن ترفض لكن حتى لو امتلكتها فهم لم يأخذوا برأيها فقد عقدوا قرانها وأجبرها والدها أن تخبر الشيخ أنها موافقة على سلطان كشاة يتم زفها قربانًا لعاداتهم المقيتة لا رأي لها ولا أهمية ولها في الحياة وظيفتان فقط إرضاء زوجها في الفراش وإنجاب الأطفال وإن فشلت في هاتين المهمتين أو إحداهما ستُصنف كامرأة فاشلة، قالت ملاك بحسرة:" لا تخافي سيجدون طريقة ليقودوني كالشاة، فلن يصعب عليهم ذلك."
لدى ملاك قدرة على قراءة دواخلها وكأنهما توأم رغم فارق العامين بينهما لكن كونهما الأصغر سناً بين أبناء الحاج مضر فجميع إخوتهم من الرجال والنساء يكبرونهم بكثير عدا عدنان شقيقهما من الأم والأب وأخيه من الرضاعة، مما جعل علاقتهما متينة جداً رغم اختلاف شخصية كل منهما لتردف ملاك بغمزة جعلت ملك تتوجس منها وقد غيرت أختها الحديث إلى آخ:" اتركي هذا الجمال وتمعني بالآخر حين يصل والله ليشل الناس من جمالي."
سألتها ملك بذات التوجس:" أي فستان؟ أليس هذا الذي سترتدينه يوم الزفاف؟"
ضحكت بدلال وهي تهز كتفها فتراقصت خصلاتها الملتوية حول نفسها فشعر ملاك الأسود الذي قامت بتجعيده بواسطة مكواة التجعيد في أسلوب آخر للتمرد على كل القوانين:" هذا للحنة، أما فستان الزفاف فلم يصل بعد."
همست ملك بخوف:" والله بدأت أخاف ليسترها الله معنا ولا تقومي بمصيبة يقتلنا الشيخ عليها."
استهزأت ملاك بصوت خافت:" هئ.. وكأنه يجيد فعل شيء غير هذا."
ثم قالت بحزن لا تظهره إلا أمام شقيقتها:" كم أتمنى لو كان أبي كباقي الرجال، يدلل بناته ويعاملهن بحب."
ثم التفتت تقول بحلم مبتور:" كنت أسمع الفتيات وهن يتحدثن عن علاقتهن مع آبائهن فأشعر بالحقد والحسرة."
تنهدت ملك بملل من هذه السيرة وقالت مشيحة بنظرها عن الأخرى:" كفي عن المقارنات فأنت لا تعرفين ما هي ظروفهن وكيف تسير حياتهن."
أجابتها ملاك بيقين حزين مس ذات الوجع الساكن في خافق توأم روحها:" على الأقل لا يعاملن كالجواري وظيفتهن قول نعم وحاضر وفقط ومهما كانت الحياة صعبة لن تكون أصعب من أن تكوني بالنسبة لعائلتك حملاً ثقيلاً يجب التخلص منه لأول شخص يطرق بابك دون أن يبالي أحد برأيك أو مشاعرك."
ثم أردفت بصدق:" لم أكره سلطان يوماً لكنهم كرهوني به وهم يشعرونني أن عليّ الموافقة فقط لأنهم قرروا ذلك فقط لأنهم أرادوا ذلك أما أنا فلا رأي لي عليّ الرضوخ والقبول بصمت."
تنهدت ملك بحزن على حالهما قائلة:" فرفضته وأهانته فأجبرتُ أنا على القبول."
استدارت إليها قائلة بحدة:" لقد توسلتك أن ترفضيه رغم حالتي توسلتك لكنك مجنونة ومتهورة."
هزت ملك رأسها وهي ترد على شقيقتها:" بل عاقلة.. لو رفضته أنا أيضاً وأمام الجميع هل تعرفين أي سمعة ستلحق به؟ وأي إهانة ستلاحقه طوال عمره؟ سلطان إنسان رائع بل هو أفضل رجل بينهم وأنتِ كسرته ألف مرة وآخر مرة جاءت على رأسي أنا."
أشاحت ملاك بوجهها رافضة الاعتراف بخطأ فعلتها فاكتفت بالصمت وكذلك فعلت ملك فالحديث في هذا الأمر لا فائدة منه المحظور قد وقع وتزوجت الرجل الذي يعشق شقيقتها.

*******
جلجلت ضحكته على ما سمع، ثم قال بخفض نبرة صوته:" تعال فقط وسأجعلك تعيش ليلة ولا في الأحلام ألم تمل من بنات المدينة؟"
جاءه الرد سريعًا بذات الخبث:" ما بين يدي خامة أجنبية يا رجل وصدقًا كذبوا علينا عندما قالوا إن الشقراوات باردات إنها ك.."
وكان حديثه أقل ما يوصف به أنه فاحش والأخر يضحك ويشاركه الحديث بقذارة تناسب كلاهما ليقول عدنان بامتعاض يتصنع الغضب:" أنا العريس يا ابن الباشوات فلماذا تسرق مني كلماتي؟!"
ضحكة عالية صدرت من الآخر ورد بكلمات تناسب سير حديثهما الذي يزداد فجورًا ثم قال صديق عدنان وهو يتابع بنظره ذلك الجسد العاري الذي تمطى بقربه:" حان وقت الاستمتاع يا عريس وسأنتظرك بعد الزواج لنسمع الأخبار."
ضحك عدنان قائلاً:" وبالتفاصيل المملة رغم أنك خبير ولا تحتاجني."
جاءه الرد سريعًا ضاحكًا ومستمتعًا ثم أغلق الاتصال بينما عدنان يرمق الهاتف بحسد يحسد مؤيد على حظه الذي يعيش متنعمًا بمال والده بينما هو مجبر على البقاء هنا حتى موعد زواجه هذا غير الأوامر التي لا تنتهي من الشيخ، يكره حياته ويتمنى أن يجد سبيلاً للابتعاد عن هنا لكنه ينتظر موت العجوز ولهذا اختار ابنة عمه ليس حبًا فيها بل لأنها أفضل خيار لتتستر عليه، لم ينتبه في خضم أفكاره للتي استمعت لنهاية المكالمة والتي تجعدت ملامحها قرفًا وهي تسمع كلامًا يخدش براءتها بفجاجة تليق بمن سُمي عبثًا أخًا من لا يحمل من الأخوة حتى أول حروفها وهو مجرد مستهتر حقير يرى أنه لا يعيبه شيء ما دام يُكنى برجولة لا يملكها الجميع يعلم أنه يشرب الخمور ويقيم العلاقات المحرمة يسافر بالأيام والليالي دون أن يسأل أو يبالي بهم، الجميع بمن فيهم زوجته أو من ستصبح زوجته بعد يومين، تعرف ماذا يفعل وكيف يعيش حياته لكنها وافقت عليه ورضيت به فحالها كحال كل من حولها يتجاهلون الأمر ويتصرفون بجهل لا يليق بهم أما الشرف الذي يدّعونه فهو معلق على أي تصرف يصدر منهن وإن كانت ضحكة بريئة صدرت منها وهي تسير في الشارع دون قصد أو إن رآها رجل وأعجب بها فهي السبب وبالتأكيد فعلت ما يجعله ينجذب لها، أحاديث كثيرة تجعلها تكرههم وتحقد عليهم وعلى قوانينهم التي تسير حسب أهوائهم.
همَّ عدنان بالتحرك والعودة لإكمال تحضيرات الزفاف عندما لمحها فقال وقد تحولت ملامحه المستمتعة إلى أخرى مستحقر، وكأنها هي من تجلب بأفعالها العار والحرام وليس هو:" ماذا تفعلين هنا ومنذ متى تقفين تتنصتين عليّ؟"
لم تجبه فقط نظراتها كانت تشي بما يجول في ذهنها من كلمات ابتلعتها ليس خوفًا بل لأنها ترفض أن تنزل لمستواه ليقول بذات التبجح وكأنها جارية لديه:"حضري لي شيئًا لأكله، سأخرج بعد قليل."
ناظرته باحتقار وملامح متغضنة بقرف ودون رد تحركت ملاك متجاهلة كلامه فسحبها من ذراعها بقوة وضغط عليها دون أن يبالي بتألمها صارخًا فيها:" ماذا.. هل طرشتي؟ ألا تحترمين أخاك الأكبر؟!"
ردت صارخة وهي تحاول إفلات نفسها من بين كفه الضاغط على رسغها بقوة أوجعتها لكنها لن تكون ملاك لو أظهرت ضعفًا أو ألمًا :" عندما تحترم حضرتك الناس الذين يسكنون معك عندما تحترم نفسك وتدرك أن لديك أخوات لا يليق بهن أن يسمعن هذا الكلام الفاحش الحقير."
وبدلاً من أن يخجل أو يتراجع قال بوقاحة وهو يناظرها بابتسامة أثارت قرفها وهمس بكلماته التي جعلتها ترغب في قتله:" يبدو أن الصغيرة سمعت حديثي لكن الحق عليكِ لو كنتِ وافقتِ على ابن عمكِ لكنتِ سمعتِ هذا الكلام منه ولكنتِ الآن تعشقينها منه هو."
دفعته بقوة فتركها بمزاجه بينما هي كانت تشعر بالغثيان منه ومن حقارته التي تتجاوز كل الحدود ولا أحد يبالي بدحره ولم يعد يبالي حتى بهن هن شقيقاته ليسمعن من حديثه القذر الكثير دون أن يهتم بخجلهن أو عفتهن لقد باتت تصرفاته كالثور الذي يرى راية حمراء وبالنسبة له فرايته النساء، قالت باستهزاء:" إذاً الحمد لله أني رفضت ولم أسمع هذه الألفاظ البذيئة."
ضحك بصوت عالٍ وقال بخبث:" كاذبة بل أنتن مصدر هذه الألفاظ لكنكن تتمنعن حتى نقع فيكن."
باشمئزاز ردت وهي ترتجف من الانحطاط الذي وصل إليه الحديث:" بل كلٌ يرى الناس بعين طبعه ولأنك حقير ووغد ترى كل الناس مثلك لا أقول سوى ليرحمنا الله من أفعالك ولا يعاقبنا بك."
وما أن انهت جملتها غادرت بسرعة وعيناها تبحثان عن الحمام، فمعدتها تحرقها وكلها ترتجف بقرف واستحقار لمجرد أنها نزلت لمستواه وأخذت ترد عليه ليتها كانت صماء وعمياء، ليتها لم تُولد ولم تعش هذه الحياة مع هؤلاء المتناقضين في أخلاقهم ودينهم وعاداتهم وكل ما فيهم من جعلوا الخطأ لا يمس الذكور ورضوا بصاحب الأخلاق السيئة فقط لأنه غني أو ابن عم أو لأي اعتبار آخر يرونه بعقولهم منطقياً ولم ينزل الله به من سلطان.
ألقت كل ما في جوفها بقوة كأنها ترمي ما سمعته منه مع ما يخرج من معدتها تطهر نفسها من حديثه وتصرفاته حتى شعرت بكف تربت على ظهرها، وصاحبته تهمس بصوت مختنق:" اهدئي ملاك بالله عليك ألم تعتادي على وقاحته؟"
أبعدت كف أختها وعدلت من وقفتها وهي تستند بجسدها على رخام الحمام قائلة بغضب:"هذه ليست وقاحة هذه حقارة وقلة تربية بل عدم تربية ألفاظ نابئة وحديث فاجر لا يخرج إلا من…"
وصمتت خجلة من الكلمة التي كانت ستنطقها لتردف بوجع من هذا الإجحاف والتمييز في التعامل بين الابن والبنت:" نسي أنه يتحدث في منزل مليء بالنساء، يقشعر بدني كلما خطر على بالي أن هذه الأحاديث عادية بين الأزواج فيزداد كرهي للرجال وللزواج بسبب ما أسمعه وأراه ممن يحيطون بنا."
مدت ملك المنشفة التي أخذتها من الغرفة عندما انتبهت لملاك والطريق الذي سارت فيه وقد توقعت هذا بعد جدالها مع شقيقهما، همست بخفوت مستسلم:" لا أظن أن هذه الأحاديث هي ما يميز الزواج فلا تعممي ثم الخطأ من أخيك الذي يظن أن الرجولة في هذه الألفاظ…"
ابتسمت ساخرة وهي تسحب المنشفة من يد أختها قائلة:" وهل تظنين أننا سنجد بطلاً أسطورياً يقول كلمات عذبة كالتي نراها في المسلسلات مثلاً أم سيأتينا جحش كهذا الذي ابتلينا به أخاً؟"
أنهت كلماتها وغادرت تاركة الأخرى تتأمل جملة نطقها عدنان وهو يصف خطيبها (لو كنتِ وافقتِ على ابن عمك كنتِ سمعتِ هذا الكلام منه ولكنتِ الآن تعشقينه منه هو.) فهل حقاً ستسمع هكذا كلمات من سلطان بعد الزواج؟ أم أنه كان يخبئها لملاك؟ وهل حقاً هذه الكلمات ينطقها الأزواج؟
ارتجف جسدها برعب من الأفكار التي صورها لها عقلها فتمتمت بسرها:" أتمنى أن يحصل أي شيء ولا يتم هذا الزواج."
لتردف بسخرية من حالها:" وكأنه سيموت عليكِ يا حمقاء فهو أجل الزواج لعامين بألف حجة اخترعها والله أعلم متى سيحدد موعد إعدامه."

*******
مساء

ابتسمت للمريضة التي أخذت تدعو لها أن يرزقها الله بالزوج الصالح قريبًا كانت ابتسامة تحمل الكثير من الشجن والوجع الأكثر بكثير مما تظهره، لقد يئست منهم حقًا وصلت إلى هذه المرحلة فلم تعد تناقش في هذا الأمر فالجميع يتجاهل كل الحقائق ويركز فقط على هذه التفصيلة الصغيرة الغبية التي أحالت حياتها إلى جحيم لكن حقًا ما ذنبها؟ هل هي من قسمت النصيب مثلاً؟ هل هي من تبطرت كما يدعون؟ هل يجب أن ترضى بأي عابر سبيل لتحمل لقب (مدام؟) لقب بات يشكل لها عقدة في حياتها، لقب يتخطى كل الألقاب التي نالتها بل يمحيها كليًا ويتصدر هو الأهم والمهم، لقب يجعل كل ما قبله يتلاشى ويتسيد هو قائمة حياتها كلها، لقب يجعلها تشعر أنها لا شيء، وإن نالت كل شيء.
أخذت نفساً عميقاً تدعو الله في سرها أن يرزقها الصبر بل الكثير منه علها تمضي به باقي حياتها متجاوزة ضغطهم الذي لا يتوقف، مال نظرها لصورتها المؤطرة على سطح مكتبها عندما كانت طالبة في الجامعة وتحديدًا في عامها الثاني تنظر إلى ملامحها فلا تكاد تتعرف على صاحبة الصورة فكم بدت لها عيناها لامعتين وكم بدت صاحبة الصورة قوية، حالمة، مفعمة بالطاقة والحياة أما الآن فهي أشبه بسعف نخلة يابس تحول إلى مكنسة تكنس طرقات أيامهم الجميلة ولكن من يكنس لها أحزانها وجروحها التي يتفننون بها؟ من يراعي هذه المكنسة اليابسة الخالية من الحياة ويمنحها حقها لتعود سعفة تتسيد عثق نخلة عالية شامخة:" أخ يا بغداد بت مثلك مجرد ماضٍ جميل وحاضر حزين ومستقبل مجهول مخيف."
كانت هذه العبارة هي أصدق ما همست به يومًا وهي تدرك أنها باتت تشبه مدينتها؛ فكلتاهما حزين، كلتاهما مجروحة وتنزف بصمت. هي ومدينتها تفقدان الأمان والحياة ورغم ذلك ما زالتا تقاومان حروبًا تُشن عليهما، كلتاهما تملكان القوة والعزم على مقاومة العدو القريب قبل الغريب، وما زالتا تحملان بداخلهما أملًا لا ينقطع، سحبت هاتفها الذي تعالى رنينه لتقرأ اسم والدتها على الشاشة فحادثت نفسها بخفوت:" يا ترى لمن ذهبت هذه المرة يا أمي؟ ميثاء أم روحاني آخر أم دجال يدعي أن له كرامات وقادر على تزويجي؟"
فتحت الهاتف وردت بصوت خافت ماتت فيه الحياة منذ أن تم تصنيف صاحبته بالعانس العجوز رغم أن بداخلها تسكن أنثى صغيرة ما زالت تركض خلف أحلامها الوردية:" مساء الخير يا أمي."
قالت فجاءها الرد سريعًا ووالدتها تسألها عن حالها بسرعة دون اهتمام حقيقي ثم قالت:" هل أخذتِ الحجاب معكِ؟"
تنهدت جيهان بصوت خافت وردت:" تعرفين أني لا أؤمن بهذه الأمور أمي.."
صرخة مستنكرة نالتها من والدتها التي قالت:" الشيخ قال إنها ستفتح قسمتكِ خلال أيام وأنتِ تتبجحين وترفضين وكأنكِ بنت العشرين ثم هل تنسين المبلغ الذي دفعناه له؟"
دلكت صدغها قائلة بملل:" وأنا لم أوافق وطلبت منكِ ألا تفعلي ذلك وقلت لكِ بالحرف أن تتركي هذه الأمور لكنكِ أصريتِ وأخذتِ المبلغ الشهري الذي أعطيه لكِ لتصرفيه على هذه الأمور."
تجاهلت والدتها كل ما قالته وردت لما تحفظه كلتاهما:" وهل ستبقين هكذا لا رجل ولا أبناء ارحمي قلبي وكبر سني أريد أن أراكِ في بيت زوجك."
نفس الاسطوانة ونفس الحديث يتكرر في كل اللهجات واللغات؛ البكاء والحديث عن الموت لتحريك المشاعر وتفعيل وضع الذنب لمن هي في مثل وضعها لكنها لم تعد قادرة على التعامل مع والدتها وهوسها بزواجها هي استسلمت منذ زمن لكن من حولها يرفضون أن يرضخوا لذلك، ردت بنبرة فاترة:" أعطيها لأخرى علّها تتزوج."
صرخت والدتها بحدة:" سأجن منكِ أي أخرى وهي مكتوبة باسمك!"
أنهت جيهان النقاش قائلة بنبرة قوية:" أمي أنا في العيادة ولدي مرضى لذا سأقفل الخط."
صاحت والدتها مقاطعة حديثها:" سأذهب إلى ميثاء وأطلب منها أن تساعدنا."
ميثاء الروحانية التي تدعي رؤية الجن منذ صغرها وكان والدها سابقًا يعمل في هذه المهنة، في صغرها كانت جيهان تشفق على الفتاة لكن عندما كبرت وبدأت ميثاء تسلك مسلك والدها بدأت تنفر منها، لكن ما تسمعه عنها يثير حيرتها ويزيدها شفقة عليها وعندما تقابلها تجد نفسها تعاملها بأدب وليس مجاملة كما تفعل مع من لا تطيقهم، قالت جيهان بعد ثوانٍ:" افعلي ما تشائين أمي."
وأنهت المكالمة ببرود:" وداعًا."
مسحت وجهها بكفيها ونادت على الممرضة لتدخل المريضة التالية هاربة من كل شيء إلى العمل تشغل عقلها بهموم غيرها ومشاكلهم التي لا تنتهي.

******
دخلت المنزل الفخم أو قصر جدها الذي ورثه والدها من والده قصر له قصة طويلة وقد انتقلت ملكيته من شخص لآخر حتى وصل إلى والدها، لكن القصر الذي كان يشع دفئًا ومحبة ذات يوم تحول ومنذ دخول والدتها ووفاة جدتها إلى مقبرة باردة لا حياة فيها فكل فرد من الأفراد الأربعة الذين يسكنونه حياته بعيدة كل البعد عن الآخر وإن استثنت علاقتها بوالدها فهل تستثني ذلك الخواء الذي يسكنها منذ سنوات؟ هل تمحو وجعها الذي يزداد قوة كل يوم وهو يكذب المثل القائل (إن الحزن يبدأ كبيراً وبمرور الأيام يصغر) فلِمَ حزنها ووجعها يكبران معها ولا يصغران؟ لِمَ كل يوم يمر ينكأ جرحها ويذكرها بما عاشته ومرت به حتى باتت أشبه بتمثال جميل من الخارج ميت من الداخل وحتى الطب لم يساعدها بل يقلب آلامها ويتركها على ضفة الوجع والحزن والخذلان:" شهد…"
نداء والدها جعلها تتوقف وتلتفت نحوه وترسم ابتسامة هادئة رقيقة تليق بملامحها الجميلة الرقيقة الجميع يخبرها أنها تشبه والدتها بملامحها الجميلة والجذابة والتي جذبت ذات يوم انتباهه لها وجعلته يخطبها متجاهلًا حديث والدته التي رأت فيها ما هو أبعد من الملامح الجميلة لكن كما يقولون الحب أعمى، وحب والدها بالذات كان أعمى وأطرش وأخرس أيضًا رغم أن الطلاق الذي توقعه الجميع ولم يحدث رغم الحقيقة التي رآوها جميعا رؤى العين فالحب الذي بدأ كبيرًا أشبه بالقصص العظيمة للعشق والهو، انتهى بعد عام واحد حتى صار مجرد واجب ثقيل على قلبي صاحبيه وقد تحقق ما قاله من حولهم، لكنهما كانا من الكِبر والعناد أن رفضا الرضوخ لهذه الحقيقة:"مساء الخير يا عيون شهد."
لم يجبها حتى بالرد المعتاد الذي يتصنعه هو الآخر وهو يخبرها أنها قليلة أدب فقد اكتفى بضمها إلى صدره وهو موقن أنها تكذب وأنها لن تفكر يومًا بالزواج لا اليوم ولا غدًا ولا بعد ألف عام.
****
كانت تقف تحت الدش مغمضة عينيها تبكي بصمت وكفها يتحرك عند ذلك الجرح الذي يحتل الجانب الأيسر من خصرها، فعاد الألم وعادت الصرخة المكتومة التي كبلت جسدها وصورتها وهي تتلوى تحت يديه تتوسله دون كلام أن يعتقها وأنها بريئة من ظنونه لكن الآخر لا يستجيب بل يكمل ما يفعله بجنون لا يشبه فيه إلا سفاحًا يتلذذ بعذاب ضحيته.

*****
اليوم التالي فجرا

"مؤيد.."
تأفف المعني عندما سمع صوت والده يناديه بغضب، فالتفت بجسد غير ثابت غيبه ما يتعاطاه وهو يقول بتأفف متبجح:" أَجَّلَ ما تريد قوله للغد ؟"
ناظره رضوان لعدة ثوانٍ بقهر وهو يشعر بالانهزام فابنه يسير في درب لا يتمناه حتى لعدوه وابنه الوحيد بين أبناء إخوته أصبح بهذا الحال وكل يوم يزداد سوءًا، وكلما رأى سراج أو باقي أبناء إخوته بنجاحهم وأخلاقهم التي يمدحها الجميع تقتله الحسرة والندم.. ندم آخر يضاف لرصيده، فحياته مضت وهو يغرق في الندم وكل ما عاشه كان من صنع يديه، صرخ بحرقة أب يرى ابنه يضيع من بين يديه وقد تعاظم غضبه من نفسه قبل غضبه من ابنه:" كالعادة جئت سكران وبالتأكيد تعاطيت مخدرات ولم تنسَ طبعًا أن تلوث جسدك بعاهرة مثلك."
تأفف مؤيد بملل من حديثه الذي يراه مواعظ لا فائدة منها وهو يشعر بالصداع ولا صبر له على (تفاهة) حديث والده، فأجابه بملل واضح وقلة احترام:" وكأنه شيء جديد عليك ألا تمل يا هذا ؟"
اشتد غضب رضوان متسائلًا ماذا فعل ليكافأ بابن عاق بهذا الشكل؟ هل ذنبه كبير إلى هذه الدرجة؟ أمسكه من ياقته صارخًا بحدة والقهر في مقلتيه واضح للعيان لكن ليس لمن يحمل دمه واسمه:" ألا تخاف الله؟ ألا تخاف على عرضك يا مجنون؟!"
أبعد مؤيد كف والده الذي أمسكه من ياقة ثيابه وهو يتحدث بذات الأسلوب المتبجح:" ها نحن نعود لتراهاتك وسخافاتك."
رفع رضوان كفه ليضربه يريد إعادته إلى طريق الصواب لكن مؤيد أوقف حركة والده صارخًا بصوت هز سكون الليل حولهما:" سأكسرها لك يا عجوز.."
دفعه رضوان بقوة ليبعده عنه بقهر فعاد مؤيد خطوات للخلف وكاد يسقط لكنه نجح في السيطرة على حركة جسده الضعيف الذي أذهبت المخدرات قوته فبينما كان الأب حزين ضائع لا يعرف سبيلاً لإرشاد ابنه، كان الابن غارق في ملذاته راضٍ بالضياع والصراع بينهما كان لا وجه له ولا ملامح صراع بين الحق والباطل وما لم يُغرس فيه صغيرًا لن يجدي أن يُتَجرع بعد أن شاب والغصن المكسور لا يعود إلى الشجرة وهذا حال مؤيد، فهو لم يتربَ كما تربت أخته ولم يُغرس فيه ما غُرس في أبناء عمومته نشأ بطريقة مختلفة، وهي أمور اكتشفها رضوان في هذه اللحظة مدركا عظم ذنبه لترك ابنه لزوجته منذ رآها تعلّمه التبجح وقلة الأدب وصمت مقنعًا نفسه بأنه ما زال صغيرًا وكبر الصغير وكبرت صفاته معه فغدا نموذجًا للابن العاق والشاب السيئ… قال بخفوت وجسده يسنده على الدربزين خلفه بضعف وحزن:" لماذا لا تكون مثل أختك أو أبناء أعمامك؟"
حل الصمت بينهما صمت من جانب كليهما فلا الابن ولا الأب يملك إجابة على السؤال رغم كثرتهم، خطوات تقترب منهما كانت لسبب البلاء في هذا المنزل تلك التي وقع في حبها أصغر أبناء الحاج بهاء الدين الأمير والتي اختارها زوجة أحالت حياته وحياة أبنائه إلى جحيم وها هي النتائج متمثلة أمامه بابنة تعيش يومها وتنتظر الموت وابن يقوم بكل ما هو حرام وبه هو الذي يتهرب من كل هذا بعمله.. أما سبب البلاء فتعيش كملكة متوجة، قالت اخلاص ما أن وصلت إلى نهاية الدرج:" ما بكما؟ لماذا كل هذا الصراخ؟"
رد مؤيد بملل وهو يتحرك مبتعدًا عنهما:" أبي غاضب لأني تأخرت."
نظرت اخلاص لرضوان بامتعاض وكأنه أجرم في حق مدللها وقالت تخاطب الأخير:" اذهب يا حبيبي ونَم وعندما تستيقظ سأحضر لك الطعام."
صدر صوت ساخر من رضوان الذي تحرك هو الآخر صاعدًا دون كلام، وبعد خطوتين توقف رافعًا رأسه نحو شهد التي رأت وسمعت كل شيء منحها ابتسامة مهتزة وحزينة، ثم تجاوزها صاعدًا، مكسور القلب والخاطر، نظرت شهد إلى والدتها التي قالت بانزعاج:" ماذا هناك، أنتِ أيضًا؟"
لم ترد وهي تنظر لهذه المرأة التي أنجبتها وبداخلها الكثير الذي لا تصرح به فاكتفت بقول:" تصبحين على خير أمي.."
تأففت إخلاص بانزعاج قائلة:" كان ينقصني المعقدين لتأتي ابنتي بكل هذا الغباء والتعقيد..."

*******
حرك جسده المتشنج من كثرة الجلوس ناظرًا للساعة فوجدها تشير للسادسة وخمس دقائق صباحًا، استقام مغادرًا غرفته ليحضر الإفطار إذ كانت والدته بالتأكيد قد استيقظت مع صلاة الفجر وستخرج بعد قليل لتحضره له فسبقها كما يفعل أحيانًا عندما يجد فرصة لذلك، رغبة منه في عدم إتعابها وهي امرأة كبيرة في السن ومريضة لكن والدته ككل النساء الكبيرات في السن تعشق التعب والعمل خاصة إذا كان لبكرها العازب الأشهر والأفضل في العراق حسب وصفها:" صبحك الله بالخير، بني. متى استيقظت؟"
التفت إليها مبتسمًا وتحرك نحوها مقبلاً رأسها وكفها قائلاً:" صبحك الله بكل الخير، يُوّم (أمي). استيقظتُ قبل الأذان بقليل، صليت وأكملت عملي وها أنا أحضر لنا الإفطار."
قالت بانزعاج، وكأنه سلبها حقًا من حقوقها:" كنت انتظرتني يا سراج وأنا أحضره لك.."
أجابها وهو يعود لعمله بعد أن أجلسها على المقعد:" لا داعي يا غالية ها أنا أصنعه ولم ينقص مني شيء ولم تسقط الريشة من فوق رأسي ثم لا فرق بيننا أنا أو أنتِ كلانا واحد."
بعدم رضا ردت وهي تتحرك باحثة عن شيء لتفعله:" بل اثنان يا حبيبي تزوج وكن واحدًا معها."
ضحك بخفوت ولم يرد مدركا الى أين تريد أن تصل فوالدته منذ سنوات تحاول تزويجه فبعد طلاقه بات شغلها الشاغل زواجه وقد اختارت له شهد عروسًا ليس لأنها ابنة أخيها فقط بل بسبب ما مرت به الأخيرة وعانته وما زالت لهذه الساعة تعاني منه رغم تظاهرها بعكس ذلك، تلك الصغيرة التي حملت على عاتقها الكثير دون أن تنحني أو تُكسر بل ظلت تحارب الجميع ومعهم نفسها وأفكارها وضياعها باحثة عن قارب نجاتها دون كلل أو ملل:" أنا أتحدث معك، سراج."
قالتها والدته التي وقفت جواره تناظره نظرة يعرفها جيدًا أي لا مهرب له منها فرد بهدوء وبساطة:" وأنا غير معترض على خياركِ أمي لكن العروس هي من لا تريد الزواج."
أجابته بيقين لا يعرف محله من الإعراب:" ومن غيرك سيستطيع فك عقدتها؟"
(ليتكِ يا أمي تدركين أن ابنة شقيقكِ لا تحمل عقدة واحدة، بل كلها عُقد. وكل تجربة مرت بها بعد ذلك زادتها عُقدًا حتى باتت أشبه ببركان يحمل ما يحمل بداخله وهو يحشد نيرانه الآن وينتظر لحظته المثالية ليبعثر حممه في وجه الجميع ويحترق هو بلهيبه)
فكر وهو يتابع حديث والدته التي تجهل ما تعيشه ابنة أخيها رغم علاقتهما القوية ثم قال وهو يصب البيض في المقلاة:" شهد لا تحتاج رجلاً يحتويها بل تحتاج رجلاً يحبها ويجعلها تتعلم كيف تحب الحياة وقبلها تحب نفسها وهي معه."
بعدم رضا قالت بينما تملأ الترمس بالماء الساخن لتحضير الشاي:" وأنت ألا تحبها؟ فأنا لم أرَ رجلًا يهتم بامرأة كما تهتم أنت بها."
يفعل.. يهتم بها ويحبها أيضًا لكن ليس الحب الذي تعتقده والدته فمشاعره نحوها متذبذبة ليس حب رجل لامرأة بل حب أخ لأخته لكنه أيضًا لا يجد فيها عيبًا كزوجة بل يجد في نفسه ميلاً لذلك، لكن في ذات الوقت هناك ما يجعله يرفض الأمر تمامًا. سبب واحد يجعله لا يستطيع أن يراها كأنثى كاملة ليس رفضًا لها بل لذلك السبب الذي لا يعرفه سواه وقد قاده القدر ليعرفه وأجبره على أن يكون في هذا الموضع:" ألم يحبكِ والدي ويهتم بكِ يا أمي؟"
قالها مشاكسًا متهربًا من الحديث فإن أفصح عن كل أسبابه سيؤذيها ولن يتحمل أن يكون هو الآخر جرحًا جديدًا يضاف لقائمة جراحها، سمع والدته ترد بابتسامة مشتاقة لرجل لم ترَ منه إلا كل خير رجل كان لها الدنيا وما فيها:" وهل هناك مثل أباك رجل!! لقد كان مختلفًا في كل شيء فحتى أخوالكِ ليطيل الله في أعمارهم لا يملكون مثل قلبه ولا ربع حنانه."
استند بجسده على رخام خزانة المطبخ يراقب والدته التي تنهي باقي الإفطار، مفكرًا أنه لم يجد حبًا كالذي رآه بين والديه فمن مثله وعاش في منزل حتى مشاكله تنتهي سريعًا تربى على يد رجل يعامل زوجته كملكة وامرأة تنظر لزوجها كملك متوج عاش معهما وعرف الحب الحقيقي ذلك الحب الذي لا يُكتب عنه ولا يُحكى حتى بات مقتنعًا أن الحب يصنع من الرضا وحسن التعامل وصدق الأحاسيس. فـ(أحبك) لا تعني ألا أتشاجر معك، بل تعني أن يومي لن يكتمل دون النظر إلى وجهك، دون سماع كلماتك الحب ببساطة أن أرضى بك وبعيوبك بل وأراها مميزات. (أحبك) تعني أن ترى بي عيبًا فتمدحه أمام الآخرين وبيني وبينك توبخني وتناقشني، لقد تعلم منهما أن الحب لا يكتمل إلا بأفعال مهما صغرت فهي التي تؤكد صدق الشعور وتصنع الحياة والأمان؛ ربما لهذا السبب دامت أغلب زِيجات عصرهم وفشلت أغلب زِيجات هذا العصر، سمع والدته تقول بنبرة حب تخص بها والده الراحل فالموت وإن غيب الجسد لا يغيب ذكراه ويبقى القلب حاملاً تلك الذكرى بين النبضات:" والدك كان يعرف كيف يحتوي ضعفي وعنادي لم أكن يوماً سهلة المعشر بل كنت مدللة والداي وإخوتي فكوني الأصغر بينهم جعلهم يعاملوني كشيء ثمين يخافون كسره وعندما خطبني والدك رفض أبي بادئ الأمر لأنه كان يدرك طباعي لكن والدك عاد وخطبني مرة ثانية فأخبرته أمي رحمها الله أن يوافق فمن يعود مرة ثانية رغم الرفض الصريح إنسان يشتري نسبنا بالغالي والنفيس وفعلاً تزوجنا وعشت معه ثلاثين عاماً لم تخلو من المشاكل وكنت دائما أعود لأهلي غاضبة منه على أمور تافهة ورغم أن لا جدك ولا أخوالك وقفوا معي وكانوا دائما ما ينصرونه ويوبخونني لكني في كل مرة كنت أعود فيها لوالدك أعرف أنه رفع قدري بين أهلي قبل الناس.."
ثم نظرت لابنها قائلة:" لهذا لم أرضى على زواجك الأول لأني عرفت أنكما لن تتفقا والآن أصر على شهد لأني أشعر أنكما ستكونان علاجاً لبعضكما.."
لم يرد على حديثها لأنه لا يملك ما يقال أخطأ باختيار طليقته كزوجة له وهو الأخر كان صغيراً متهوراً ويريد أن تسير الحياة بمزاجه يريدها أن تكون عجينة يشكلها بيديه كما يشاء متناسياً أنه تزوج إنسانة تربت لسنوات في بيئة مختلفة عنهم ولا تستقيم الحياة بينهما بالذي يريده هو فالحياة تحتاج للنقاش والتعامل والتفهم، ولأنه لم يفعل ذلك انتهى الزواج بعد عدة أشهر.. تقدم نحو طاولة الطعام يتناول فطوره بصمت يفكر بكلام والدته هذه المرة بكل مجالاته؛ فهل يرضى بأن يتزوج بناءً على حسابات العقل بعد أن فشلت حسابات القلب، هل يكفي شعوره الهادئ نحوها لينشأ عائلة ويتناسى السبب الأصلي لتأجيله الحديث مع المعنية..

*******
أغلقت باب غرفتها خلفها وهي تلمح أختها تركض خلف أصغر أبنائها الذي يفر منها عاريًا ولا يرتدي إلا الحفاظة ويضحك بصخب مستمتع باللعبة التي أخترعها متسبباً بإغضاب والدته منه.. ابتسمت جيهان بشجن وهي ترى حلمًا آخر سرقه منها القدر لم يمنحها قدرها أمنية ما زالت تداعب قلبها والأمومة بداخلها تنازع لتنال هذا الشرف ولكن الحياة علمتها أن تشكر الله على ما بين يديها وترضى بقسمتها في الحياة فلا أحد بقادر على قتل الأمل بداخلها وأن تنال ذات يوم حلمًا قد يبدو الآن مستحيلًا فهي تعيش متشبثة بهذا الأمل، فالأمل والثقة بالله يدفعانها لأن تصدق أنها ذات يوم ستنال ابنًا صغيرًا ينتمي لها، تنجبه، تحمله، تراعيه، وتدلله، وتمنحه كل الحب الذي يضج به قلبها ليكون عونًا لها في المستقبل وإن كان قدرها قد تأخر وإن جاءت رياح قدرها بما لا تشتهيه سفنها التي غرقت في محيط أيامها الباردة فلا بأس، فكل تأخير ما هو إلا خير مؤقت، نالت الكثير وتحقق لها الكثير فعملها كطبيبة رغم أنه لم يكن خيارها الأول لكنها اجتهدت وصنعت لنفسها عالمًا خاصًا بها وإن كان خيالها الطفولي قد صور لها الكثير من الأحلام الوردية وأوهمها بالمكانة الرفيعة وأنها ستكون (رفعة رأس) لأهلها وهذا ما حصلت عليه فعلًا، حتى اكتشفت أن أعظم الإنجازات في مجتمعنا لا شيء أمام واقع أهم إنجاز بشري قد تحققينه بصفتك امرأة، وهو (الزواج) وهذا الشيء فعلته شقيقتها التي تصغرها بثمان سنوات والتي تركت دراستها لترتبط بقريب لهم من جهة والدتها وهي لم تتجاوز السابعة عشرة بل وقالت بالحرف(الزواج أهم من الشهادة بكثير، ويومًا ما ستكتشفين ذلك.)
عبارة أصرت عليها الصغرى ورفضتها هي وما زالت ترفضها حتى اليوم لكن الحياة علمتها كيف تعدل من وجهة نظرها فيما يخص كيفية تنفيذ ذلك حيث وصلت لقناعة مفادها أنها يمكن أن ترتبط وتعمل معًا، بدلًا من أن تحقق كل نجاحاتها العملية وتؤجل الزواج لتقف في النهاية وتكتشف الحقيقة المرة أنها فشلت في حياتها الشخصية فشلًا ذريعًا وأن ما حققته كان سببًا في قتل أنوثتها ثم تعود لتجادل نفسها بالحقيقة الأكثر مرارة أن من جاءوا يطرقون بابها ويطلبون ودها لم يكونوا أمراء ولا رجالًا، بل إما طامعين في المال الوفير الذي سينالونه من عملها والذي سيزداد عند افتتاح عيادتها الخاصة أو كانوا خونة لا يهمهم سوى أنفسهم ووجدوا في عملها فرصة لممارسة نزواتهم وحياتهم القذرة دون أن تعلم أو معددين لا يرغبون إلا بتطبيق شرع الله -الذي لا يعرفون منه إلا مصطلحًا واحدًا (مثنى وثلاث ورباع). والكثير من العاهات وصدقًا لا تستطيع أن تصف أي منهم إلا بهذا الوصف الحقيقي كحقيقة ضياع قطار عمرها:" جيهان أمسكيه بالله عليكِ هرب مني رافضًا أن يرتدي ملابسه وقد أتعبني وأنا أركض خلفه هنا وهناك."
تلقفت جيهان الصغير الذي ضحك في حضنها بمحبة صادقة وأمومة فطرية وهو يناديها باسمها الذي ينطقه بطريقته الخاصة فرحًا بها يتدلل عليها فيغمر قلبها بدفق من الحياة ويعيد له بعضًا من رونقه:" جيج…"
ضحكت جيهان وقبلت خده بقوة جعلته يقهقه بطريقة أطربت قلبها المشتاق لطفل يكون ابنًا ينتسب لها:" الوحيدة التي يخافون منها هي أنتِ الحمد لله أنكِ موجودة وقدرتي على إمساكه."
لم ترد جيهان عليها واكتفت برسم ابتسامة ساخرة علت ملامحها بوضوح فشقيقتها وكل من حولها عكسوا الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في كبد السماء وهي أن الأطفال يحبونها ويحترمونها ويسمعون كلامها لأنها وبكل بساطة لا تعاملهم بالصراخ أو الضرب بل تتحدث معهم كما لو أنها تتحدث مع الكبار بل ربما لو أرادت الصدق أنها تتحدث معهم أكثر مما تفعل مع غيرهم تتعامل معهم بهدوء وسعة بال تناقشهم وتسمع منهم تقربهم منها رغم أنها العازبة بين قطيع المتزوجات اللواتي يحيطن بها لكنها الوحيدة التي سعت لتفهم أبناء هذا الجيل والجيل الذي يليه وهي تحاول أن تصل إليهم في عالمهم وليس عالم أهلهم الذي بات بعيدًا بعد الكواكب عن بعضها.
أشقاؤها وحتى شقيقاتها لم ترَ منهم فردًا واحدًا حاول أن يتفاهم مع ابنه أو يناقشه أو يتقرب منه الأغلبية يتعاملون مع أبنائهم كما تربوا، بأسلوب الأوامر والتقليل والمقارنة أسلوب لا ينفع مع جيل خرج من بطن أمه متهورًا لا تحده قوانين ولا أنظمة، جيل متسرع يرجح ما يخاطب عقله ومنطقه، لا يصدق كل ما يسمعه بل يصنفه كخرافات إن لم يعجبه.
تجاهلت كعادتها حديث شقيقتها التي بدأت تشتكي حالها وغضبها من زوجها الذي يتركها في بيت أهلها منذ أشهر -وكأنه شيء جديد- ومن عناد أبنائها وتعبها وقلة حيلتها والكثير من الشكاوى التي لا تنتهي وليتها تطبق النصائح بل إنها تصف أي نصيحة تُمنح لها بأنها خيالية وكونها غير متزوجة لن تفهم معاناتها مع زوجها، صمتت تستمع دون أن تمنحها أي نصيحة فقد ملت منهم وجف نهر قلبها المعطاء فيما يخصهم، لتنتقل أختها من الشكوى من زوجها إلى أبنائها فراقبتها جيهان بنظرات هادئة، أختها هذه هي الأصغر سنًا بينهم وقد باتت امرأة في الثلاثين وأمًا لثلاثة أبناء، أكبرهم سيدخل المراهقة قريبًا ورغم هذا تجدها نموذجًا سيئًا للأمومة ومهما نصحتها كان الجواب يأتي قاصفًا لقلبها (أنتِ لستِ أمًا لتفهمي شعور أم تخاف على أبنائها وتراعيهم بطريقتها.) دائمًا ما كانوا مؤذين، غير مراعين لأحد وألسنتهم أشبه بسكين ثلم يجرح ولا يبالي، وفي كل مرة تسمع كلمة منهم توجعها وتقتلها وتبكيها لأيام ثم تعود لهم ففي النهاية هم عائلتها وبلاؤها في الدنيا، ولكن تبقى جروحهم الأكثر نزفًا وكلماتهم لا تمحى مهما حاولت وكل ما تملكه هو أن تمنحهم الغفران ولا تحمل عليهم شيئًا:" عمة جيجي…"
التفتت جيهان إلى ابنة أكبر أشقائها، هبة، وهي شابة في الرابعة والعشرين من عمرها ومقربة لها جدًا ربما لأنها أكبر الأحفاد وربما لأن الصغيرة وجدت لديها ما تفتقده في عائلتها فشقيقها -سامحه الله- يتعامل مع أولاده على الطراز القديم، الضرب والصراخ فقط، أما زوجته فهي أسوأ منه بضعفها واستسلامها ورضوخها له حتى باتت مجرد ظل في حياة أبنائها وليس على شفتيها سوى كلمة(والدكم وله الحق في تربيتكم) وقد تناسى الاثنان أن التربية لم تكن يومًا بالضرب بل حتى الدين يحاسب على الضرب ولكل علامة يتركها الضرب على الجسد دية يقدرها الشارع لكن ماذا نقول في مجتمع لا يعرف من دينه إلا الهوامش:" ما بكِ حبيبتي؟"
سألتها جيهان ثم أردفت تسألها وهي تضيق ما بين حاجبيها: " هل كنتِ تبكين؟"
تكفلت شقيقتها التي سحبت ابنها من بين يديها قائلة بامتعاض:" الخانم تريد أن تتطلق وكأنها ستجد كل يوم رجلًا لتتزوجه!"
ناظرت جيهان أختها بعدم رضا وقالت مستهجنة هذا المنطق الغبي الذي دائمًا ما يتكرر معهم ولا تعرف كم سيبقى ربما حتى بعد مليار عام وربما حتى يوم القيامة:" وما بها إن رغبت بالطلاق! إن لم تكن مرتاحة فلتنفصل الآن أفضل من الطلاق ومعها طفل."
أشاحت أختها بكفها قائلة برفض لكلامها:" اتركي البنت يا جيهان ولا تجعليها تكرر فعلتك وأنتِ تتطلقين قبل الزواج بشهر واحد والسبب أنه يطالبكِ بترك دراستك."
تكره هذا الموضوع، تكرهه كما تكره كل من يتطرق إليه وهم ينكرون الحقيقة التي يعرفونها ويدعون ما لم يحدث، ردت بحدة لم تقدر على السيطرة عليها:" أفضل من أن أنجب منه ثلاثة أبناء وهو يخونني كل يوم مع واحدة جديدة وأعود غاضبة لبيت أهلي بالأشهر ثم أعود له بعدها دون أن أنسى أن أنجب له طفلًا جديدًا وأستغل كل لحظة لأدعي عليه وعلى الساعة التي قابلت فيها والده وأنعي حظي ونصيبي."
شهقت المعنية بالحديث لكن جيهان لم تبالِ فقد اكتفت برد الصاع لأختها فمن طرق الباب لا بد أن يسمع الجواب وجميعهم يعلمون أن صمتها ليس ضعفًا بل درءًا للمشاكل فهي قادرة على إسماعهم ما يخرسهم للأبد. تحترم الصغير والكبير وتصمت على الكثير لكنهم يحدونها على ما لا تطيق ويجبرونها على إسماعهم ما لا يريدون سماعه، سحبت ابنة أخيها معها وخرجتا من المنزل وهي تتنفس بحدة وكل ما تريده هو أن تجد شيئًا لتحطمه عل هذه النار التي تكوي قلبها تنطفئ علها تجد ما يبرد فؤادها المتوجع منهم ومن معايرتهم فأن قتلها الأهل بكلامهم وأفعالهم ماذا يتركون للغرباء؟ كل مرة يكررون نفس الكلام كل مرة يفتحون هذا الموضوع ولا يدركون الحرب التي كانت تخوضها معه في كل يوم وعلى مدار ستة أشهر التي خطبا بها. ستة أشهر لم تجد روحها تهفو له، كان إنسانًا بألف وجه يظهر شيئًا ويبطن شيئًا آخر، خائن ومغازل وسكير لكن لمن حوله كان ملاكًا بجناحين ولم يعلم أحد كم عانت منه ومن انعدام رجولته وعندما تشتكي تجد الإجابة القاصمة لظهرها في وجهها تُرمى كما تُرمى القذيفة في وجه العدو:" آسفة عمتي…"
التفتت جيهان إلى هبة التي تمسح دموعها والتي ذكرتها بنفسها قبل أعوام وهي تقف أمام والدها ترجوه أن يطلقها تخبره عن عيوب من يُسمى زوجها تتوسله أن يرحمها من العيش مع رجل لا تتحمله وهي ما زالت في بيتهم فكيف لو أغلق الباب عليهما؟ تشكو له تطالبه بحقها كابنة فلا تجد إلا ما يقتلها وهو يخبرها بتجبر وعناد أن الزوجة الأصيلة تتحمل وتصبر وهو بعد الزواج سيعتدل لم يفهموا أنها لا تتحمل ما تعيشه الآن وكل ما يربطهما عقد قرآن إنها لا تستطيع أن تتخيل نفسها زوجة له وأنها لا تريد أن تصبح كشقيقاتها وزوجات أشقائها هي حرة وصاحبة قرار لكن كونها في السادسة والعشرين وكونها تخرجت ولم ترتبط بعد جعلهم يصرون أكثر بل وشبه أجبروها على الاستمرار في تلك الخطبة الكارثية وصدقًا حاولت كثيرًا دون أن تجد ذلك الحب الذي يجعلها تغض النظر عن عيوبه فلا تجد ما يشفع له في قلبها وروحها تنفر منه ومن قربه حتى جاءتها الفرصة الذهبية التي استغلتها جيدًا وتطلقت منه بعد أن أجبروا على ذلك.
لم تنسَ يومًا ذلك اليوم الذي قتل أنوثتها مرة وكرامتها ألف مرة عندما ذهبت مع والدها إلى شقتها حتى تأخذ قياسات النافذة وقد رغبت في شراء ستارة غير التي اشتروها ولم تعجبها حينها لتصدم وهي تجده في فراشها الذي لم تنم عليه بعد، مع أخرى يمارس معها ما جعلها تنفر من الزواج بأسره.. يومها صرخت وبكت وضربت وجهها ليس حبًا فيه بل على كرامة هدرها الجميع بخنوعهم وفرضهم آرائهم عليها لمجرد عادات قمعية وأفكار مغلوطة لا يرضى الله بها فطلقها الحقير في لحظتها بطلب من والدها وهو يرى حالة ابنته التي قطعت قلبه وصدمته مما رآه جعله يتصرف بهذا الشكل، الغريب في كل ما عاشته أنهم في بادئ الأمر دعموها وأخبروها أنها ستجد من هو أفضل منه وأنه حقير وكلمات كثيرة مواسية كانت أو مشجعة لكن بمرور السنوات وتأخرها في الزواج باتوا يرون أنها استعجلت وكان عليها الصبر حتى يعتدل كلمات ما زالت تسمعها لهذا اليوم لم تزدها إلا نفورًا من طليقها وأمثاله.
أخذت نفسًا عميقًا ثم ردت بهدوء حزين:" لا تعتذري حبيبتي فعمتكِ اعتادت على هذا كما أن عليكِ أن تعتادي لو أردتِ فعلاً الانفصال.."
قالت هبة بتردد والخوف يلمع في عينيها من خطوة قد تجعلها تندم باقي عمرها:" أرغب بذلك لكن أخاف ألا أتزوج لو أضعته من يدي…"
أخذت جيهان نفسًا عميقًا وقالت بصدق تخبرها بناءً على تجربة قاسية عاشتها وتعلمت منها الكثير وعلى خبرة اكتسبتها من الحياة وعملها وما تراه كل يوم:" الحقيقة أني أحيانًا أفكر لو تزوجت، ماذا كان سيحدث؟ وأي طريق كانت ستأخذني إليه الحياة؟ لكن أعود وأسأل نفسي: هل أستحق أن أرتبط بشخص أقل مني؟ وهنا لا أقصد المكانة العملية أو العلمية، بل أقل من صدقي معه، من وفائي له يمنحني أقل مما أستحقه من المشاعر، هل أستحق أن يخونني بينما أضعه أنا ملكًا فوق رأسي؟ فأجد نفسي وأخبرها بقناعة تامة أني أستحق أكثر بكثير من الفتات الذي قد يجود به عليّ وأني أستحق رجلًا يقدرني، يحترمني، يحبني، ويتحملني، يبقى بجانبي في كل لحظاتي، التعيسة منها قبل السعيدة، والبشعة قبل الجميلة."
تنهدت بثقل همومها وغمغمت قائلة:" لن أقول إنني لم أندم على عدم زواجي لكني وصدقًا أقولها لكِ لم أندم على عدم رضوخي لكل الضغوطات، وعدم تنازلي عما أستحقه."
وأردفت بهدوء مع ابتسامة صادقة شعرت بها الأخرى:" لذا لو أردتِ فعلاً الانفصال أخبريني لكن بعد أن تفكري مليًا وتحسبي حسابكِ وتعرفي أن ما ستخسرينه أكثر بكثير مما ستكتسبينه."
لم تنطق هبة التي تنظر لعمتها بحيرة بين شعورها بالفخر بإنسانة ناجحة مميزة بقوتها وثقتها ومنصبها الذي يحسدها عليه الجميع وبين ما تسمعه من كل من حولها وهم يصفونها بالغبية والعانس والمجنونة. أما عنها هي فهي أصغر عمرًا وأقل خبرة من أن تتخذ قرارًا مصيريًا كالطلاق لكنها بذات الوقت لا تريد الزواج من ذلك الذي اختاره والدها لها فقط لأنه يمتلك مصنعاً كبيراً وأعطى والدها وظيفة مرموقة في المصنع.. فماذا تفعل وإلى أي قرار سترتكن؟

******
كانت تمسح الأرضية وهي شاردة الذهن تفكر في حياتها، يومها الذي يبدأ بتنظيف البيوت كخادمة، عملًا سيراه من أنجبها عملاً رخيصًا حقيرًا لا يناسب ابنته، مفضلًا لها عملًا آخر أكثر هدراً للكرامة من وجهة نظرها وأكثر مصلحة من وجهة نظره. يعود عقلها الذي لا يتوقف عن العمل يدور في كل التفاصيل التي تعيشها وأهم شيء في حياتها هو اسم مكون من ثلاث حروف… درة.. فهي وحدها من يشغل بالها دائمًا. أختها الإنسانة الوحيدة التي تهتم بها حقًا الشخص الوحيد الذي يحرك إنسانيتها التي قُتلت منذ زمن بعيد، زمن كانت فيه أقل من باغية في الشارع، أقل من حشرة تسحقها الأقدام عملت في مهنة قتلت طفولتها وإنسانيتها وكرامتها وعزة نفسها. تفكر بنقطة ضعفها والخوف يتملك قلبها من أن يجدهما إبليس فيحيل حياتهما لجحيم دفعت والدتهما حياتها ثمنًا لتنقذهما منه، تخاف بل ترتعب من مجرد فكرة تمر بعقلها، فتجد نفسها تهرب منها لكن من نجح في الهرب من إبليس؟ من نجا من غوايته؟ حتى أول البشر كان أول من خدع فيه.. ورغم ذلك ورغم هربها مما يريده فإن آثار تربيته بداخلها تجني ثمارها بأفعال لا ترضي جانبها الإنساني ذلك الجانب الذي يخاف من خالقها وإن لم تفعل ما يثبت هذا الخوف.
لكنها ما زالت تصر على السير في الطريق الذي اختارته سابقًا بعد أن تعلمت أن الحياة لا تمنح الطيبين فلسًا، لكنها تمنح من يسرق ما يريده من فم التنين بسخاء حتى الغرق وهي تغرق في بحرها الأسود تسبح فيه راضية عالمة أن النهاية هي الموت تصر على استكمال الدرب الذي اختارته حتى نهايته؛ رغم رفض درتها الصغيرة وطلبها الدائم منها أن تبتعد عن هذا الطريق تذكرها بالله وعقابه بالحلال والحرام، فتلتزم هي الصمت ليس لأنها لا تملك ردًا بل لأن ردها لن يرضي شقيقتها لا تستطيع أن تخبرها أنها تعرف الله وتخافه لكنها لا تستطيع أن تتوقف يجب أن تبقى في هذا الطريق لتنجو يجب أن تكون مثلهم، حقيرة، مستغلة، باحثة عن الذهب.
ابتسمت بسخرية على حظ ذلك الرجل فقد أنجب قطبين لا يمكن أن يجتمعا لكنه حكم القدر... آه لو علم ما غدت عليه الدرة فقد أنجب إبليس إنسانة مؤمنة، تقية، نقية، تتقرب من الله كثيرًا تدعو لها بالرزق الذي يبعدها عما تذهب إليه بقدميها، عالمة أنها الهاوية التي ستتلقاها بكل رحابة صدر تدعو لوالدتهما وحتى لمن أنجبهما غير عالمة بالحقيقة التي تخفيها عنها وتخاف أن تكسرها بها. لم تتجرأ على إخبارها أن الله قد يغفر لوالدتهما كل ما فعلته قد يدخلها الجنة لكن من سابع المستحيلات أن يغفر لمن لا يعترف به، ينكره، ويصبو بكل تجبر لكل حرام تصل له يديه. رجل لا يعرف من الدنيا إلا المال وما قد يجلب له المال، وإن باع الغالي لأجله…
وفي خضم أفكارها لم تكن مدركة لنظرات ذلك الواقف يكاد يأكلها بعينيه، يراقب ذلك الجسد الأنثوي الناعم والمثير بمنحنياته التي تشعله وهو يتصورها في فراشه ومجرد التصور لهذه الشعلة النارية في فراشه يقتله حتى ينالها كاملة وليس الفتات الذي تمنحه له بدلال لا يشبه دلال أي أنثى عرفها قبله. وما يكره فيها أنها السبب في أن لا أنثى باتت ترضيه مهما فعلت. يريدها هي... وفقط هي.
عض على شفته بقوة والتفت حوله يرى إن كان أي شخص قريب منه ثم سار نحوها بخطى سريعة خفيفة حتى صار خلفها مباشرة، وما إن وقفت حتى التفت ذراعيه حول خصرها يحضنها بقوة وهو يهمس بصوت غائب في لذته:" آآآآه يا تاجي…"
انتفض جسدها برفض غريزي، لم تستطع رغم هذه السنوات السيطرة عليه وكأن جسدها يملك ذاكرته الخاصة التي لم تنسَ مأساته الخاصة لكنها وبقوة وتمكن سيطرت على نفسها وأبعدته بهدوء تخفي خلفه اشمئزازها ورفضها وهي تقول بدلال ومكر مع ابتسامة جذابة ساحرة تخفي كرهًا لو خرج لأغرقهم جميعًا:" عيب يا أستاذ أبعد كفك فهذا لا يصح قد يرانا أحد.."
همس لها بصوت غارق فيها حتى الثمالة وهي تستمع بذلك يرضي هذا الجانب الشيطاني منها، يسعدها سقوطهم في فخها وكأنها تنتقم منهم جميعا:" أكاد أجن من عشقي لكِ فحني على الغلبان"
ربتت على صدره تجيبه ساخرة وهي تدرك أن ما يريده لا يتعدى جسدًا ينفر من الرجال وأنه سينساها ما إن ينالها وأن أمثاله لا يكتفون بأنثى واحدة، خاصة أمثالها:" لا تسمعك الست الوالدة وتحيل حياتك لجحيم فأنا في النهاية مجرد خادمة تطردها لتجد منزلًا آخر تخدم فيه.."
أمسك كفها قائلاً بهمس مغوٍ قد يغوي الشيطان لكنه فشل في إغواء من جاورت إبليس في عرشه:" وافقي وسأرحمك من هذه المعاناة.."
سحبت كفها من كفه قائلة بجدية:" وكلام تاج لا يُكرر إما الزواج وبإشهار وتأتي لتخطبني من شيخ الحارة ومع الست الوالدة أو أنسى تاج وما تريده من تاج..."
شددت على آخر كلماتها تخبره فيها أنها تدرك غايته وتعرف ما يدور في نفسه، لكنها لا تشبه أحدًا ممن عرفهن هي تاج... ثم أردفت بقوة وعيناها تلمعان بقوة وعنفوان ساحر يجذبهما إليها كالفراشة التي تنجذب للنار برضا عيناها لوحدهما حكاية فيهما أسرار الكون التي لن يقدر رجل على معرفتها إلا ما أرادت ابنة إبليس أن يعرفه:" اسمي تاج والتاج لا يُخبأ بل يعلو رأس صاحبه بل ويتفاخر به بين الناس..."
رمت قطعة القماش التي كانت تستخدمها في الدلو المليء بالماء، فطرطشت قطرات من الماء على سطح الأرضية النظيفة لم تبالِ بها وهي تجابهه بأنظارها، قوية فاتنة خبيثة هي وساحرة لكل ضعيف نفس ثم بحركة متعمدة مالت بجسدها وحملت الدلو بعد صمت دام طويلاً بينهما في حرب غير معلنة وقررت أن تظهر استسلامًا لا تعرف طريقًا إليه ثم استقامت وهي تمنحه نظرة وابتسامة مغوية، غادرت نحو المطبخ لتنهي باقي عملها حتى تتجه إلى منزل آخر في ذات المنطقة، وهمست بسرها:" الاستسلام فوز في الحروب غير المعلنة…"
****

عصرا

غادرت منزل السيدة منال والواقع في أرقى مناطق العاصمة بغداد وككل يوم تلتفت لتنظر له بحقد وحسد تحسد أصحابه على هذا الترف بينما هي وأختها أكلتا التراب وتجرعتا السم حتى وصلتا للغرفة الصغيرة التي تسكنانها والتي لم تنالاها إلا بعد أن واجهتا الويل فهربهما من جحيم والدهن كشف لها أن الجحيم في كل خطوة تخطوها أي أنثى بلا معيل ولا ظهر تستند عليه، حتى ابتسم لهما القدر لتسكنان في بيت سماح وزوجها الشيخ، وتحديدًا في غرفة المخزن غرفة قديمة كانت مليئة بحاجيات أهل المنزل ولها سلم خارجي بعيد عن الباب الرئيسي للمنزل وسلم آخر يهبط لباب المطبخ لكنها لا تستخدمه إلا في حالات معينة.
عاشت في ذلك المنزل دون أن يُسمح لها بدخوله وحدودها غرفتها فقط فكانت تشعر كما لو أنها مجرمة يجب إخفاؤها عن الأنظار، وهذا الشعور بمفرده يكفي لأن تكره الناس وكل ما حولها فكيف بمن عاش ماضيها بكل سواده! كيف بشخص مثلها يحمل كل هذه العقد والوجع بداخلها! وكأنها وُلدت من رحم الوجع فالحياة لم تنصفها يومًا بل كانت تضربها كل مرة ضربة أقوى من التي سبقتها لهذا منحت هذا المدلل العابث (معتز) الابن الثالث والأصغر للسيدة منال فرصة للتقرب منها علها تنجح وتتزوجه وغير مهم لو رفضوها أو قتلوها لن تبالي بما سيفعلونه بها ففي النهاية هي من ستنجح وتغتني عن طريقه وترفع نفسها وأختها من المستنقع الذي رمتهما به الحياة...
******

أسندت رأسها على دفة النافذة تراقب الأطفال يلعبون في ساحة منزلهم وقلبها ينبض بخوف وقلق فمنذ استيقظت وهي تشعر بالاختناق وذلك الحلم بل الكابوس يأبى أن يغادرها وكل لحظة تمر تشعرها أنه يقترب منها، خائفة كلمة لا تصف شعورها الحالي وكلها يرتجف من مجرد رؤى لا تعلم هل هي حقًا رؤى أم أضغاث أحلام، ورغم أمنيتها أن يكون مجرد كابوس لا معنى له ولكنها شيء بداخلها ينبئها أنه حقيقي كحقيقة وقوفها هنا الآن:" ملك "
التفت نحو شقيقتها التي تناديها والتي أردفت تسألها بوجوم من حالة أختها منذ استيقظت:" ما بكِ؟ منذ استيقظتِ وأنت غريبة الأطوار وتتصرفين بغرابة..."
وضعت ملك كفها على قلبها تهدئ وجيبه المتعالي وهمست بغصة خانقة من مجهول يطاردها:" حلمت حلماً يرعبني مجرد التفكير به..."
ضيقت ملاك ما بين حاجبيها بعدم فهم فأي حلم هذا الذي سيجعلها بكل هذا الخوف والتوتر:" مجرد حلم اقرئي المعوذتين واستغفري وانتهى الأمر.."
هزت ملك راسها هامسة بخفوت:" لا... ما يخيفني أني أشعر أنه حقيقة وليس مجرد كابوس.."
ثم التفت نحو النافذة وهي تنظر للصغار هامسة بوجل وصدرها يضيق بما يحمله:" أخاف أن أحكيه فيتحقق وبنفس الوقت لم أعد أقدر على كتمانه.."
عادت بنظرها لملاك تغمغم بتوتر وهي تدعك أصابعها بقوة حتى تحولوا للون الأحمر وما شعرت به وهي في حلمها يعاودها لكن هذه المرة في صحوها:" حلمت بيمامة تطير سعيدة محلقة في السماء برضا وفجأة تقع أرضاً غارقة بدمائها باكية ولا تسأليني كيف رأيتها تبكي فالإجابة هي ما ترعبني.."
وضعت كفها على صدرها تضم أصابعها بقوة تردف باختناق:" فجأة حملها شخصًا غريبًا كان يبكي ويعتذر منها ويخبرها أنه السبب ثم أخذها وابتعد.."
بعيون غارقة بدموعها أكملت بوحها:" كل هذا عادي ومجرد حلم لكن غير العادي والذي يكاد يقتلني رعبًا أن تلك اليمامة كانت... كانت أنا.."
ارتجفت ملاك بقوة وقشعريرة قوية تمر على طول عمودها الفقري ولم يكن السبب في ذلك هذا الحلم الغريب الذي قصته ملك ولا ما قالته عن شعورها أنه حقيقي وأن اليمامة تمثلها، بل لأن ما حكته ترجمة لحلم راودها قبل فترة وكان يعود بين الحين والأخر، تجد نفسها في ذلك الحلم الذي يشعرها أنه حقيقة وسيتحقق ذات يوم....

انتهى الفصل
ننتظر آراءكم و تعليقاتكم بشوق



Ektimal yasine likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة هاجر جوده ; 01-02-25 الساعة 11:01 PM
هاجر جوده غير متواجد حالياً  
التوقيع
"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم." ❤




رد مع اقتباس
قديم 02-02-25, 10:32 AM   #28

Ektimal yasine

? العضوٌ??? » 449669
?  التسِجيلٌ » Jul 2019
? مشَارَ?اتْي » 2,130
?  نُقآطِيْ » Ektimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond repute
افتراضي

صباحووو
الف الف مبروك وبالتوفيق والتألق الدائم يارب
كنت ناطرة عانار نزولها
بدابة ولا اخل قمة التشويق والابداع
صورت عا اقع مجتمعاتنا الذكورية للاسف وسلطت الضوء عا نماذج أهل حرام يصيروا اباء او امهات
والد درة وتاج انسان عا هيئة شيطان
عدنان ومؤيد بىس ال رجال هاد نتيجة دالدلال والتمييز يخق للصبي يفعل ما بدالوبينما البنت حتى لو منتهكة ترخذبجريرة منتهكها حوار امير وقاسم وسراج فعلا صح
النظرة للفتاة العزباء كعانس فاتها القطار رغم انو اخيانا المتزوجة عابشة بظل شبيه الرجال بس ظل رجل ولا ظل حبطة لاتسف مثل بمجتمعاتنا بيدل ها قصور بالفكر
تاج طنت بتكنى تنجو من مستنقع والدها بس قسوة المجتمع احيانا ما بتخلي الشخص مجال مو تبرير بس شفقة تتعاطف معها درة قدرت تنجو من الماضي بس لمساعدة تاج ياللي للاسف كيف سهيت او غفلت عن مصيبة أختها
ملاك وملك وسلطان لنشوف لوين رايحة قصتن وشو ورا هالحلم
جيهان كل الوجع وشهد رغم تماسكها شو وراها من خبايا
نموذج بطلان ترفه الك القبعة لتسلبط الضوءعا قصصن
سراج خطف فلبي من اول مشهد
وناطرة باقي الابطال الرجال ابدعت شابووو الك يا قمر وبانتظار القادم عا نار باذن الله تسلم ايدك يارب

هاجر جوده likes this.

Ektimal yasine غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-25, 04:37 PM   #29

همهماتى

? العضوٌ??? » 381805
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 266
?  نُقآطِيْ » همهماتى is on a distinguished road
افتراضي

الروايه تجننننننننننن اخيرا نزلت روايه على.ذوقي ????

همهماتى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-02-25, 06:45 PM   #30

هاجر جوده

مشرفة منتدى الروايات المنقولة

 
الصورة الرمزية هاجر جوده

? العضوٌ??? » 402726
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,948
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » هاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond repute
افتراضي

انتظرونا الليلة مع الفصل الثاني في العاشرة مساءا إن شاء الله
Ektimal yasine likes this.

هاجر جوده غير متواجد حالياً  
التوقيع
"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم." ❤




رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:24 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.