آخر 10 مشاركات
أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          109 - لا تغفري لي (الكاتـب : بحر الندى - )           »          سجن العصفورة-قلوب زائرة- للكاتبة : داليا الكومى(كاملة&الروابط) (الكاتـب : دالياالكومى - )           »          الحب هو العسل (46) للكاتبة: فيوليت وينسببر .. كاملة ( تنزيل رابط جديد) (الكاتـب : monaaa - )           »          أسيرة الكونت (136) للكاتبة: Penny Jordan (كاملة)+(الروابط) (الكاتـب : Gege86 - )           »          استسلمي لي(164)للكاتبة:Angela Bissell (ج1من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          1046-حلم صعب المنال - باتريسيا ويلسون - عبير دار نحاس (الكاتـب : Just Faith - )           »          403 - حبيبي المجهول - ماغي كوكس (الكاتـب : أميرة الورد - )           »          456 - حطمت قلبي - سارة مورغان ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          هذه دُنيايْ ┃ * مميزة *مكتمله* (الكاتـب : Aurora - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree39Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-02-25, 01:34 AM   #21

أُفق

? العضوٌ??? » 522961
?  التسِجيلٌ » Feb 2025
? مشَارَ?اتْي » 12
?  نُقآطِيْ » أُفق is on a distinguished road
افتراضي


أسعد الله أوقاتكم بكل خير




-


اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد



-


إليكم





الفصل الرابع: مسافات لا تُرى.

أنهت مكالمتها مع أمها، وأغلقت الهاتف برفق، شعرت بدفء ينساب في صدرها، وكأن الكلمات التي سمعتها لتوها أحاطتها بغطاء من الأمان والسكينة.

أخذت نفسًا وكأنها أزاحت ثقلًا عن قلبها، ابتسمت ورفعت عينيها تتأمل الغرفة حولها، لأول مرة منذ دخولها هذا البيت شعرت بأنه ليس غريبًا تماما، أو على الأقل لم يعد موحشًا كما كان قبل لحظات.

رفعت يديها لتعدل خصلات شعرها التي انسدلت على وجهها، ونظرت إلى انعكاسها في المرآة، لوهلة، لم ترَ عروسا خائفة أو فتاة قلقة، بل شابة على أعتاب حياة جديدة.

لحظات من السكون مرّت قبل أن تسمع صوت خطوات خفيفة تقترب من الباب.

دفع الباب بهدوء ودخل دون أن يطرقه، رفعت رأسها نحوه بسرعة حين سمعت وقع خطواته، شعرت بارتباك خفيف وهي تراه يتقدم نحوها بابتسامة هادئة.

توقف أمامها، نظر إليها قبل أن يميل ويقبل جبينها برفق ويهمس: ماشاء الله وش ذا الزين.

خجلت، شعرت بوجهها يشتعل ولم تستطع رفع عينيها إليه.

ابتسم بحنان: يلا جاهزة ننزل؟

رفعت عينيها أخيرا وترددت قليلا: يلا.

مدّ يده نحوها، لحظة من التردد قبل أن تضع يدها في يده. ضمّ أصابعها بخفة، شعرت بحرارة يده تلامس قلبها، قال بصوت هادئ: لا تستحين أنتي بين أهلك.

خرجت خلفه وخطاها الخجولة تتبع خطاه السريعة

وقفت أمام المجلس، خجولة مترددة، أرخت عينيها إلى الأرض، أشار لها سيف بالدخول فتقدمت خطوات خفيفة، تسبقها رائحة عطرها الهادئ.

رفع عمها رأسه نحوها وابتسم بفرحة ملأت وجهه:

يا هلا يا هلا والله... يا الله حيها.. حي الله بنيتي.

اقتربت هيا بخجل، نهض عمها واقفًا وتقدم نحوها ثم سلم عليها وأخذ يدها بحنان: نورتي بيتك يا هيا... والله إنها أبرك الساعات.

شعرت هيا بالدفء بتسلل إلى قلبها، وابتسمت بخجل ثم جلست بهدوء على طرف المجلس، ضامة كفيها في حجرها لتخفي ارتجافة خفيفة شعرت بها. حاولت أن تتحكم في خجلها، تتنفس بعمق وببطء، بينما عيناها معلقتين بطرف السجادة المزخرفة تحت قدميها.

التفتت إليها أم سيف بعينين مفعمتين بالحنان: بسم الله عليك، وش ذا الزين! عسى الله يحفظك يا بنتي.

رفعت نظرها بخجل، ابتسمت ابتسامة صغيرة وهمست: الله يسلمك يا عمتي.

ابتسم عمها بحنان وهو ينظر إليها مستشعرًا خجلها الطاغي وارتباكها الذي لم تستطع إخفاءه وينظر إلى سيف وهو يجلس بجوارها، وقال بصوت دافئ يحمل في نبرته صدق مشاعره: يا بنتي لا تحسبين نفسك ضيفة البيت بيتك، والمكان مكانك.. وانتي اليوم وحدة منّا.. وأنا أبوك لو ضاق صدرك ولا احتجتي شي اعتبريني فهّاد وما ابيك إلا تكونين مرتاحة ومبسوطة.

توقف للحظة ثم أضاف بنبرة مطمئنة: وإذا سيف ضايقك ولا كدرك تراي خصيمه وما أسمح له أبد.. انتي نوارة هالبيت وما نرضى لك إلا كل خير.

شعرت هيا بحرارة كلماته تتسلل إلى قلبها، تهدئ من ارتباكها وتمنحها شعورًا بالأمان، رفعت عينيها بخجل لتواجه ابتسامة عمها الودودة لم تستطع أن تنطق بكلمة، فاكتفت بهزة خفيفة من رأسها بينما ارتسمت على شفتيها ابتسامة ممتنة، وامتلأت عيناها بلمعة تأثر.

ارتشف عمها القهوة ثم التفت إليها: يا هيا ترايّ أقولها لك وأنا أبوك.. لو زعلك سيف بأدنى شي ماله إلا العصا.. انتي بس أشري وانا اوريك فيه.

ضحكت أم سيف: إي والله هذي الغالية ما نرضى زعلها.

نظر سيف إلى والده مبتسما: عز الله قويتو راس مرتي علي!

ضحكوا جمعيا حتى هيا لم تمنع نفسها من الابتسام، وزاد احمرار وجنتيها، شعرت بشيء من الطمأنينة كأن هذه الكلمات كسرت حاجز الخجل بينها وبينه.

التفت إليها سيف وقال: بنت عمي ما بتشوف مني إلا كل ما يسرها.

لم تستطع منع نفسها من النظر إليه سريعا قبل أن تعود بخجل لتنظر لفنجانها، شعرت بقلبها ينبض بقوة وامتلأت عيناها بمزيج من الخجل والامتنان.



-

بعد أيام الزواج الأولى بدأ سيف يشعر بشيء لم يستطيع تفسيره، كان يتوقع أن يكتشف في هيا شريكة حياة قريبة منه، تفهمه وتشاركه أفكاره، لكنه وجد نفسه أمام صمت لا يعرف كيف يتجاوزه، كانت هيا هادئة، مطيعة، حنونة.. لكنها بعيدة.

في كل مساء، كانت تجلس بقربه بصمت عندما يشاهد الأخبار، عيناها تنتقلان بين الشاشة والأرض، وكأنها تحاول استيعاب عالمه دون أن تسأله عنه، حاول أكثر من مرة أن يفتح معها حوارًا، أن يتحدث عن يومه أو حتى عن أمور بسيطة، لكنها ترد بإجابات مقتضبة لا تزيد عن كلمة أو كلمتين.

في إحدى الليالي، كانت تعد له الشاي، جلس يفكر بصمتها، لماذا لا تسأله عن عمله؟ لماذا لا تبدي رأيًا في شيء؟ لماذا لا تحكي عن يومها؟ شعر وكأن بينهما فجوة لا يعرف كيف يعبرها.

عندما وضعت إبريق الشاي وسكبت له كوبا ووضعته أمامه كالعادة، تجرأ وسألها: هيا.. ما ودك نقضي الخميس والجمعة برا؟

رفعت عينيها إليه وقالت بهدوء: برا.. يعني وين؟

ابتسم ليخفف عنها: يعني نغير جو.. نطلع مطعم ولا حديقة ولا أي مكان يعجبك.

ردت بذات الهدوء: مثل ما تبي.

تنهد سيف بصمت، هذا هو الجواب الذي يسمعه منها دائمًا، "مثل ما تبي"

شعر وكأنها تعيش وفق رغباته فقط، دون أن تكون لها رغبة خاصة بها.

أراد أن يفهمها أكثر، أن يعرف ما يدور في رأسها، فسأل بلطف:

وانتي.. وش تبين؟

نظرت إليه بعينيها الواسعتين: ما عندي شي... اللي يعجبك.

أحس سيف بمرارة خفية، لم يكن هذا ما يريده، يريد شريكة تشاركه اختياراته، تُخبره بما تحب وما تكره، تناقشه وتجادله.. لكنه لم يجد سوى الاستسلام والطاعة.

عاد لصمته وشعر بأن بينهما مسافة بعيدة، رغم قربها الجسدي منه، لا يعرف كيف يتجاوز هذه المسافة ولا كيف يُعلمها بأن تكون أقرب.. أقرب إلى روحه، وأقرب إلى عقله.



-

مرت الأيام، واستمر سيف يشعر بتلك الفجوة، هيا تقوم بكل ما يتوقع منها: البيت نظيف، الطعام لذيذ، اهتمامها به لا غبار عليه.

لكنها تفعل كل ذلك بصمت مطبق، دون أن تشاركه أفكارها أو مشاعرها.

إحدى ليالي يونيو، مضى على الزواج شهرين.

عاد سيف متأخرًا قليلًا، كان الإرهاق بادٍ على ملامحه، وعيناه مثقلتان بشيء أعمق من التعب الجسدي،

كانت هيا تنتظره كما اعتادت منذ زواجهما، ما إن دخل حتى وقفت بخفة وأخذت عقاله وشماغه لترتبهم في الخزانة.

نظرت إليه وسألته بصوت هادئ: تعبان؟

أجاب دون أن يرفع بصره: تعبان.. ومقهور.

تجمد للحظة، شدت من قبضتها على شماغه بين يديها: عسى ما شر؟ وش فيك؟

أسند رأسه على الكنبة وتنهد بعمق، وفك أزرار ثوبه العلوية وهو يشعر بضيق شديد: الوضع في لبنان.. كل يوم أسوأ من اللي قبله.. المجازر والقتال والناس اللي عايشة هناك بجحيم.

أغلقت الخزانة واستدارت إليه بحيرة، لم تكن تفهم السياسة لكنها شعرت بثقل همه ووجه كلماته.

واصل سيف حديثه وعيناه تلمعان بالغضب: كل طرف يبغى يفرض قوته ولا أحد مهتم بالناس اللي تموت بينهم.. تخيلي كيف عايشين لا أمان ولا استقرار.. الواحد ما يدري إذا بيرجع لبيته سالم ولا لا.

لم تُعلق، فقط تراقبه بصمت. شعرت أنه يتحدث عن عالم بعيد.. عالم لا تفهمه ولا تعرفه.

أكمل بمرارة: الناس هناك مالهم ذنب، لكن كل قوة تلعب فيهم.. والعالم كله ساكت ويتفرج وكأنهم موب بشر.

كان صوته مليئًا بالغضب والألم، وكأنه يحاول أن يفرغ ما بداخله من حزن وقهر.

نظرت إليه، تريد أن تقول شيئًا، أن تُُخفف عنه، لكنها لا تعرف كيف

بعد لحظة صمت قالت بحذر: تبي عشاء؟

رفع رأسه ببطء، ينظر إليها بعينين ذاهلتين. للحظة، لم يستوعب كلماتها، شعر بخيبة مريرة تجتاحه، كل ما بذله من جهد ليشرح ما يعتمل بداخله، كل ما حاول إيصاله عن ألم العالم ووجعه، تحوّل فجأة إلى سؤال عن العشاء.

تنهد، شعر أن الكلام اختنق في صدره، أدار وجهه بعيدًا، تمتم ببرود: مالي نفس.

ثم نهض دون أن ينظر إليها، وبدأ يخلع ثوبه بحركاته بطيئة وكأن التعب استولى على كل جزء منه.

شعرت هيا بالارتباك، لم تفهم لماذا شعر فجأة بذلك البرود، ولم تدرك حجم الفجوة التي اتسعت بين عالميهما في تلك اللحظة.



-

بعد مرور ثلاثة أشهر على زواجهما.

تجلس هيا في غرفتها على طرف السرير، تحدق في الأرض بشرود، مضى أربعة أيام منذ أن علمت بحملها، أصرت أمها أن تأخذها إلى المستشفى حين لاحظت إرهاقها وشحوب وجهها. لم تستطع هيا رفض طلبها وهناك تلقت الخبر أن لها شهرين حامل.

شعور غريب اجتاحها يومها، لم تستوعب الكلمات فورًا، تسمع دقات قلبها تتسارع وشيئًا دافئًا يتسلل إلى أعماقها. منذ ذلك الحين، وهي تشعر بمزيج متناقض من الفرح والخوف. كانت تضع يدها على بطنها بخفة، فكرة أن هناك حياة صغيرة تنمو بداخلها كانت تملأها بحيرة غامرة.

تجلس لساعات بمفردها، تفكر فيما يعنيه هذا كله. حياة جديدة، مسؤولية، وأمومة لم تُدرك أبعادها بعد. تخيلت وجهًا صغيرًا لا تعرف ملامحه بعد، صوت بكاء صغير، ويدًا ضئيلة تتشبث بها.

شعرت بارتباك شديد.. كيف ستخبر سيف؟

كلما حاولت أن تتخيل حديثها معه، شعرت بعجزها عن التعبير، لم تجد الكلمات المناسبة، ولم تستطع أن تخبره بتلك البساطة، كانت تشعر بالخجل... خجلا لم تفهمه تمامًا، لكنه كان يُقيد لسانها.

وفي أعماقها كانت تتساءل كيف تكون ردة فعله، هل سيفرح؟ أم أنه سيتلقى الخبر ببرود، هزت رأسها لتطرد الأفكار من رأسها، ربما لهذا السبب اختارت أن تخبر أم سيف أولًا، شعرت أن الأمر سيكون أقل ثقلًا، لكنها لم تفكر فيما قد يعنيه ذلك لسيف.. لم تفكر في أنه ربما كان يتمنى أن يكون أول من يعرف.

كانت غارقة في أفكارها عندما دخل سيف الغرفة، أغلق الباب خلفه ونظر إليها، سألها مباشرة دون مقدمات: صحيح اللي سمعته من أمي؟

تجمدت هيا في مكانها، شعرت أن قلبها توقف للحظة، ثم ارتبكت وهي تتهرب من نظرته: وش سمعت؟

تقدم نحوها بخطوات بطيئة وعيناه لم تفارقا وجهها: إنك حامل.

احمر وجهها خجلًا، ولم تستطع رفع عينيها إليه، اكتفت بهزة خفيفة من رأسها.

صمت للحظة، ثم نطق بصوت منخفض لكنه حاد: وليه أمي اللي تقولي؟ ليه ما قلتي لي انتي؟

ارتبكت وعضت على شفتيها بخجل: استحيت.

نظر إليها بدهشة: استحيتي؟ هذي لحظة تخصنا حنا.. المفروض أول من يدري أنا مو أمي.

شعرت هيا بوخز في قلبها من كلماته، لم تتخيل أن سعادتها بخبر حملها ستنقلب إلى لحظة توتر.

واصل سيف بنبرة خيبة: كنت أتخيل هذي اللحظة غير.. كنت أتخيلك تقولينها لي أنتي.. ابي أعيشها معك.

نظر لها واقفة في مكانها، عيناها متسمرتان على الأرض.

تنهد بعمق وقال بصوت أكثر هدوءا: كنت أبي اللحظة هذي تكون بيني وبينك.. نتشاركها سوا.. لكنك خليتيني أحس إني بعييد عنك.

مرت لحظة صمت طويلة، قبل أن يغادر سيف الغرفة دون أن ينظر إليها مرة أخرى، تاركًا خلفه فرحة مبتورة.. وغصة في قلبها.

تتسارع خطواتها نحوه، تلحق به قبل أن يخرج، تمسك بيده بحنان وتنظر إليه بعينين تملؤهما البراءة والصدق صوتها يرتجف: سيف والله ما فكرت بكذا.. ولا خطر على بالي.

يتجمد في مكان، ينظر إليها عيناه تبحثان في ملامحها عن أي إشارة، عن أي فهم لما يعصف به، لكنه لا يجد شيئًا.

تكمل بصوت خافت: توقعت بتفرح لما تسمع الخبر.. ما يهم كيف وصلك الأهم أنه صار.

تتسع الفجوة في داخله، فجوة لا يدري كيف يعبرها، يدرك الآن أن عالمها بسيط، واضح، لا مساحة فيه للمشاعر المعقدة أو التساؤلات العميقة، عالمها يقدس الرجل ويراه رمز القوة والمسؤولية، لكن الحب.. المشاركة.. التفاصيل الصغيرة.. ليست ضمن حساباتها.

يشعر كم هو غريب عنها، وكم هي بعيدة عن كل ما يحمله في داخله، كل ما كان يبحث عنه، كل ما كان يحلم به لا وجود له في عالمها.

ينظر إلى يديها الممسكتين بيده، دفء لم يشعر به، لأنها تمسكه كواجب، كمسؤولية، يتنهد ينظر إليها بنظرة تحمل أكثر مما تعبر عنه كلماته، يقول بتهكم خفي، يحاول أن يبدو طبيعيًا: لا أبد، ما أزعل عليك.. ما عمرك قصرتي.

يتوقف لوهلة، يعقد ذراعيه أمام صدره، ثم يكمل بنبرة باردة: ما يجي منك قصور يا هيا.. شلتي شغل البيت عن أمي وريحتيها.. الله يجزاك خير ويكتب أجرك.

تتورد وجنتاها بخجل ورضا، وتبتسم براحة، تقول بصوت خافت: هذا واجبي.

عيناه تتأملان ملامحها الطفولية التي لا تحمل سوى البراءة والاستسلام

يتمتم بلهجة فارغة: ما تقصرين يا هيا.

يهرب ببصره بعيدًا، يشعر بأنه يبتعد أكثر مما يقترب، يقولها بصدق فهي حقًا لم تُقصر، لكنها لم تكن يومًا أقرب منه.

تبتسم هيا براحة، وكأن كلمات الثناء هذه كل ما تحتاجه لتطمئن. لم تدرك أنها رغم كل ما تقدمه بعيدة جدًا عنه.

أشاح بنظره واتجه إلى الباب بخطوات بطيئة، وكأنما يهرب من شعور ثقيل يضغط على صدره. تتبعه بعينيها وقلبها يزداد طمأنينة، وترى في كلماته مديحًا ورضا، غير مدركة أبدًا للهوة العميقة التي تتسع بين عالميهما.





-



في صباح اليوم التالي، يجلس سيف في مكتبه بالجامعة. الشمس تتسلل عبر النافذة لتلقي ضوءها الدافئ على أوراقه المكدسة وكتبه المفتوحة، لكنه لا يشعر بحرارة الضوء ولا ببرودة المكتب، هناك شعور بالجمود يسيطر عليه، كأن الزمن توقف منذ ليلة البارحة.

يحاول التركيز على الأوراق أمامه، محاضرات يحتاج لتحضيرها، لكنه يجد نفسه يحدق في الكلمات دون أن يقرأها.

عقله مشغول بتلك اللحظة التي كان يفترض أن تكون سعيدة، يضغط أصابعه على القلم بقوة حتى يشعر بألم خفيف، كأنه يحاول إجبار نفسه على العودة إلى واقعه، لكنه يفشل.

تعود إليه كلمات هيا، بتلك البراءة الموجعة "ظنيت بتفرح لما تدري.. ما يهم كيف تسمعها الأهم أنها صارت" كم كانت صادقة في بوحها، وكم كانت بعيده عن عالمه.

يدخل عليه أحد زملائه يحييه بابتسامه ودودة، يسأله عن شيء ما، لكنه لا يسمع سوى صدى أفكاره، يهز رأسه بالموافقة دون أن يدرك ما قاله زميله، ثم يعود إلى صمته.

يمرر يده على جبينه بتعب، يشعر بثقل الأفكار في رأسه، كان يتخيل لحظة معرفته بحمل هيا بشكل مختلف تمامًا، كان يتخيلها تأتيه بخجلها المعتاد، بعينيها الواسعتين الممتلئتين بالبراءة، تهمس له بالخبر كأنها تبوح بسر مقدس. لكنه لم يتخيل أبدًا أن تصله البشرى من أمه.

يتذكر ملامح وجه أمه المشرق وهي تزفّ إليه الخبر، كيف ربتت على كتفه بسعادة وكيف دعت له ولها بالسعادة، ربما كانت أمه تحلم بهذا اليوم أكثر منه، لكنه لم يستطع أن يشاركها حماسها، كان يشعر بفراغ هائل، شعور بفقدان شيء لم يعرف كيف يصفه.

يكاد يضحك بسخرية من نفسه، لماذا يشعر بالخذلان؟ لماذا يتألم وهو يعلم أن هيا لم تقصد أي أذى؟ هي فقط... لا تعرف. لم تتعلم كيف تشاركه مشاعرها، بالنسبة لها كل ما عليها فعله أن تكون زوجة مثالية، مطيعة، مهتمة بواجباتها.

يأخذ نفسًا عميقًا، يحاول أن يستعيد هدوءه، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل شعوره بالوحدة، تلك الفجوة التي تتسع بينهما دون أن تدركها هيا.

ينظر إلى ساعته ما زال أمامه وقت قبل محاضرته التالية، يفكر للحظة في الاتصال بها، في سماع صوتها، لكنه يتراجع، ماذا سيقول؟ وهل ستفهم ما يعصف بداخله؟

يتساءل في داخله " كيف أشرح لها أني كنت أحتاج أكثر من خبر.. كنت أحتاج لحظة تخصنا.. إحساس مشترك يجعلني أشعر أنها شريكتي ورفيقتي يشعرني بأني أكثر من مجرد رجل تعيش لتطيعه وفق ما حدد لها عالمها"

ينهض من مقعده، يجمع أوراقه بعشوائية، ويقرر أن يدفن نفسه في عمله لبقية اليوم، هربًا من شعور لا يعرف كيف تعامل معه.

كيف يمكن لشيء بهذه البساطة أن يحفر داخله هذه الفجوة العميقة.



-

العصر.. هدوء يملأ المنزل وأشعة الشمس الناعمة تتراقص على السجاد في المجلس، هيا تجلس على الكنبة تراقب هند بحنو وهي تحل واجباتها على الأرض، كتبها متبعثرة حولها، وقلمها يمر على الأسطر بسرعة.

ترفع عند رأسها فجأة، بعينيها بريق من الفضول:

بتجيبين ولد ولا بنت؟

تبتسم هيا وتهز كتفيها بخفة: الله أعلم.. اللي يجي من الله حياه الله.

تعدل هند جلستها وتقول بحماس: الله يا هيا! بصير خالة،

وش بتسمينه؟ وتتوقعين يشبهك ولا يشبه سيف؟

تضحك هيا بعفوية على أختها وتربت على كتفها: أهم شي الله يقومني بالسلامة.

تلتفت هند بحب نحو أختها: أكيد.. وأكيد بيطلع حلو مثل خالته هنودة.

في تلك اللحظة تشعر هيا بشيء دافئ يغمر قلبها، لم تكن تفكر في كل هذا من قبل، لم تتخيل الحماس الذي سيملأ البيت، الفرح الذي سيزرعه هذا القادم الصغير.

بعد العشاء عند أهلها، تودع هيا أمها وإخوتها بابتسامة هادئة، تخرج إلى سيف الذي ينتظرها في السيارة، تفتح الباب وتجلس بجواره، تلتزم الصمت عيناها متجهتان نحو الطريق أمامها.

يلتفت إليها بعينين تحملان مزيجًا من مشاعر متداخلة، للحظة تتلاشى ضيقته من طريقة وصول الخبر له، وتدركه حقيقة كان قد نسيها في خضم إحساسه بالجفاء هيا حامل ولم تسمع منه كلمة واحدة.

ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة: حيّ الله أم وضّاح.

ترتفع عيناها ببطء نحوه، وجهها يشع خجل ودهشة طفولية، ترد بهمس: الله يحييك.

يتنهد سيف وكأن ثقلا انزاح عن صدره، يكمل بحنان صادق: مبروك يا هيا.. الله يقومك بالسلامة.

يضئ وجهها بفرحة خجولة تخفض رأسها قليلًا: عقبال ما تفرح بشوفته.

لحظة صمت تتخلل الأجواء، لحظة تحمل وعودًا وأحلامًا لمستقبل يرسمانه معًا. يتأملها سيف وهي تحتضن حقيبتها على حجرها كأنها تحاول حماية سرها الصغير الذي لم يعد سرًا. يشعر بوخز تأنيب ضمير، كيف نسي أن يبارك لها؟ كيف سمح لضيقته أن تحجب عنه فرحته بطفلهما الأول.

يشيح بنظره إلى الطريق وكلماته تخرج ببطء، وكأنه ينتقيها بعناية: هيا.. أبيك قريبة مني.

ترفع رأسها بعفوية: هذا أنا بجنبك.

تسري خيبة ثقيلة في صدره، كأنه ارتطم بجدار بارد، لم تفهه، لم تصلها كلماته كما أراد، شعر بالعجز أمام براءتها البسيطة.

يبتسم ابتسامة واهنة، يحاول أن يشرح: قصدي.. مو بس بجنبي.. أبي أحس إنك معي.. تحسّين فيني.

تحدق فيه بعينين واسعتين، ترتبك ملامحها تحاول استيعاب ما يقوله، لكن عباراته تسبح في بحر من الغموض، لا تستطيع إدراكه. بالنسبة لها هي تفعل كل شي.. تهتم به، تطيعه، تعتني ببيته، تحمل ابنه الآن، ماذا بعد ذلك؟

تهمس بتردد: يعني... وشلون؟

يزفر بضيق، يخفي شعورًا مريرًا باليأس، يعلم أنها لا تتعمد جرحه أو خذلانه، هي فقط لا تفهم ما يحتاج.. يحاول أن يشرح مجددًا: أبيك تشاركيني مشاعرك.. مو بس واجباتك.. أبيك تفرحين معي وتحزنين معي.. أبيك تحسين باللي أحس فيه.

تومئ برأسها بتردد، وشفتيها ترتجفان قليلًا:

أنا ما كان قصدي.. وأبشر بعدين ما أعلم عمتي بشي قبل أعلمك.

تتردد كلماتها في اذنيه، كصفعة رقيقة. يدرك الآن عمق الفجوة التي تفصل بينهما، فجوة لا تتعلق بالحب، بل بطريقة فهمها للحياة والزواج، عالمها محكوم بالبساطة، بالواجبات والطاعة، لم تتعلم أبدًا أن الزواج يتطلب أكثر من ذلك.

يسود الصمت بينهما، تظن أنه انتهى من الحديث، فتعود ملامحها للهدوء.

أما هو! فتتسع الفجوة داخله، كأنه يُبحر في صحراء ممتدة لا حدود لها.

هي بجانبه، قريبة حد اللمس... وبعيدة حد العجز.

يحدق في الطريق أمامه، لكن عيناه تريان أكثر من الإسفلت أمامه، يرى مسافة موحشة تفصل بين قلبين تحت سقف واحد.

يضغط على المقود بقوة، كأنه يمسك بكل ما ينهار داخله

كيف يمكن أن يشعر بهذا القدر من الوحدة وهي هنا؟

كيف لم يدرك من قبل أن المسافة الأشد ألمًا هي تلك التي لا تُقاس بالخطوات.

يشعر بالبرد رغم دفء السيارة، وكأن شيئًا تجمد في صدره.

تتنفس بجواره بهدوء، غافلة عن العاصفة التي تمزقه

يود لو يهزّها، لو يخبرها كم يؤلمه هذا البعد الخفي، لو يسألها كيف تستطيع أن تكون بهذا القرب.. وبهذا البُعد؟

لكنه يصمت.

يعلم أنها لن تفهم، ليس لأنها لا تريد، بل لأنها لم تُدرك هذا التعقيد

هي واضحة كنور الصباح، بسيطة كماء النهر

لا تجيد قراءة ظلال الكلمات ولا ما بين السطور

تؤدي واجبها بدقة، تظن أن هذا يكفي.

تمنحه كل شيء.. إلا نفسها.

يشيح بوجهه ويبتلع مرارته، كيف يشرح لها أن حاجته تتجاوز الواجب؟

أن ما بينهما يجب أن يكون أكثر من ترتيب بيت وإعداد طعام؟

أنه يحتاج منها أكثر من ابتسامة مجاملة أو سؤال روتيني عن يومه؟

يحتاج شعورًا دافئًا، كلمه تشعره بأنه ليس وحده، لمسة تشعره بأنها موجودة حقًا، لكنها لم تتعلم ذلك.. ولم يُطلب منها يومًا أن تتعلمه،

المشكلة أنها لا تدرك وجود هذا الحاجز.

هي قريبة جسديًا، بعيدة روحيًا.

يهز رأسه بحسرة.

المسافة بينهما لا تُقاس بالخطوات.. بل بالوعي.

وهي بعيدة.. بعيدة جدا.




انتهى..
موعدنا الجمعة إن شاء الله
أتشرف بكل آرائكم وانتقاداتكم.


أُفق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-02-25, 04:21 AM   #22

ارجوان

? العضوٌ??? » 422432
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 591
?  نُقآطِيْ » ارجوان is on a distinguished road
افتراضي

ياصباح الخير

خلي سيف يفرج هياء على مسلسلات بتفتح عيونها واذانيها وتزرع لها عشرين لسان اذا للمسلسلات فايده ففايدتها انها توريك حياة الناس بكل النسخ الموجوده في الواقع ماهو بس النسخ الي تشبهك

هيا تحتاج تقراء تسمع من سيف شرح عن مشاعره حاجاته حتى لو مافهمت في البدايه مع الوقت راح تبدى تفكر وتحاول تفهم واهو اساسا قاعد يتفرج عليها ويادوب شرح لها مره مرتين وبدى ييأس ماشفناه طبق المشاركه الوجدانيه الي يطلبها ليه مايتقرب منها هو ليه مادخل عليها بهيصه وخمها ضمها وشالها وبوسها وبارك لها هو عارف طبيعتها المفروض استثمر الموقف علشان يعطيها درس عملي عن المشاعر الي يبي يعيشها معها لكن الشيخ بدل لايبادر سوى فيها انا المجروح انا الي انحرمت من فرحتي الصدق مشاعره فيها تعالي
عموما نرجع لخط الروايه الصدق اسلوبك جميل وسلس لكن نعتب على قصر البارت وانه بارتات الروايه عباره عن مشهد متشعب يعني مافيه زخم احداث

سارا لونا likes this.

ارجوان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-03-25, 03:42 AM   #23

أُفق

? العضوٌ??? » 522961
?  التسِجيلٌ » Feb 2025
? مشَارَ?اتْي » 12
?  نُقآطِيْ » أُفق is on a distinguished road
افتراضي

صباح الخير لكم جميعًا، ومبارك عليكم الشهر، أعاده الله علينا وعليكم بالخير والبركة. ✨????

أعلم أنني تأخرت، وأن الغياب طال أكثر مما ينبغي، لكنني وجدت نفسي في مواجهة انشغال لم أستطع التغلب عليه.

أعتذر لكل من كان ينتظر جديد الرواية، وأقدّر صبركم ووفاءكم. مبدئيًا، سيكون نزول الأجزاء كل يوم ثلاثاء بإذن الله، وأعدكم بأنني سأبذل جهدي حتى لا يطول الانتظار أكثر.

شكرًا لكم، لدعمكم، لصبركم.


أُفق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-03-25, 03:50 AM   #24

أُفق

? العضوٌ??? » 522961
?  التسِجيلٌ » Feb 2025
? مشَارَ?اتْي » 12
?  نُقآطِيْ » أُفق is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ارجوان مشاهدة المشاركة
ياصباح الخير

خلي سيف يفرج هياء على مسلسلات بتفتح عيونها واذانيها وتزرع لها عشرين لسان اذا للمسلسلات فايده ففايدتها انها توريك حياة الناس بكل النسخ الموجوده في الواقع ماهو بس النسخ الي تشبهك

هيا تحتاج تقراء تسمع من سيف شرح عن مشاعره حاجاته حتى لو مافهمت في البدايه مع الوقت راح تبدى تفكر وتحاول تفهم واهو اساسا قاعد يتفرج عليها ويادوب شرح لها مره مرتين وبدى ييأس ماشفناه طبق المشاركه الوجدانيه الي يطلبها ليه مايتقرب منها هو ليه مادخل عليها بهيصه وخمها ضمها وشالها وبوسها وبارك لها هو عارف طبيعتها المفروض استثمر الموقف علشان يعطيها درس عملي عن المشاعر الي يبي يعيشها معها لكن الشيخ بدل لايبادر سوى فيها انا المجروح انا الي انحرمت من فرحتي الصدق مشاعره فيها تعالي
عموما نرجع لخط الروايه الصدق اسلوبك جميل وسلس لكن نعتب على قصر البارت وانه بارتات الروايه عباره عن مشهد متشعب يعني مافيه زخم احداث
صباح النور

أتفق معك هيا بحاجة إلى أن ترى وتسمع أكثر حتى تتغير نظرتها وتفهم سيف بعمق أكبر وهو أيضًا لم يمنحها المساحة الكافية وكأنه ينتظر منها أن تفهمه دون أن يوضّح مشاعره بوضوح كاف أما عن المشاركة الوجدانية فقد كان بإمكانه استغلال الموقف ليعبّر عن إحساسه بطريقة أقوى بدلًا من أن ينغلق على مشاعره شخصيته لها دور في ذلك، لكنه أيضًا يتحمل جزءًا من المسؤولية.

أما عن قصر البارت فأسلوبي يرتكز على التعمق في المشهد أكثر من تسارع الأحداث لكنني سأحرص على تحقيق توازن أفضل بينهم شكرًا لملاحظاتك أقدّرها وأحتاجها كثيرًا

ارجوان likes this.

أُفق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-03-25, 05:18 AM   #25

أُفق

? العضوٌ??? » 522961
?  التسِجيلٌ » Feb 2025
? مشَارَ?اتْي » 12
?  نُقآطِيْ » أُفق is on a distinguished road
افتراضي

أسعد الله أوقاتكم بالخير


-


اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا

-


إليكم


الفصل الخامس: نبضٌ في غير أوانه.

مغرب الإثنين.. الشمس تجر خيوطها الأخيرة نحو الأفق، مخلفة وراءها لونًا برتقاليًا شاحبًا يتداخل مع زرقة السماء، هواء المساء لا يزال دافئًا لكنه يحمل نسمات خفيفة تنعش الأرواح.

سيف يجلس أمام أبيه في الجلسة الخارجية، ودلة القهوة تتوسطهما، عرق خفيف يلمع على جبينه لكنه يحاول تجاهل الحر، مركزًا على كلماته التي تثقل صدره، يمسك بالدلة ويصب لأبيه القهوة، يأخذ أبوه الفنجان بنظرة طويلة، عيناه تراقبان ابنه كأنما تقرآن ما خلف عينيه، يرتشف القهوة ببطء. ثم يعيد الفنجان إلى الأرض أمامه، صوته هادئ لكنه يحمل صرامة: وش عندك يا سيف أدري بخاطرك حكي.

يشعر بانقباض في صدره، لكنه يستجمع شجاعته ويرفع عينيه لمواجهة نظرة أبيه: جاني قبول من جامعة القاهرة.

لم تتغير ملامح الأب، لكنه أطرق برأسه قليلا، كأنما يعيد ترتيب أفكاره، ظل صامتًا للحظات ثم قال بهدوء: وهيا؟

انحبست الكلمات في حلق سيف، لكنه أجبر نفسه على الرد: هيا طيبة وحليلة ما هيب قايلتن شي.

ابتسم الأب ابتسامة خافتة، لكنها لم تحمل أي بهجة: مافيه شك هيا ماهيب قايلتن شي.. هيا لو قالت لك إنها راضية... أدري بها ماهيب راضية.

أحس بوخزة في قلبه، لكنه قال بصوت حاول أن يبدو واثقًا: ما راح أطول وكل إجازة برجع لها.. لين تقوم بالسلامة وأخذها معي.

هزّ والده رأسه ببطء وقال بنبرة هادئة: وتحسبها بترضى إنك تتركها وهي بحاجتك.

ارتبك سيف لم يتوقع هذا الرد. حاول أن يبرر موقفه: يا يبه بتكون بين أمي وأمها ومارح ينقصها شي.

تغيرت ملامح والده، ظهرت الصرامة في وجهه، وقال بنبرة حاسمة: هيا في ذمتك يا سيف.. ماهيب في ذمة أمك ولا أمها.. أنت المسؤول عنها.

نظر إلى ابنه نظرة طويلة قبل أن يقول: تظن إنها لا جلست بين أهلها بتنسى غيابك؟

صمت قليلًا ثم أكمل بنبرة أعمق: لا جاها ألم الولادة ومدت يدها تدور يد رجّالها وش بتلقى؟ أمها وعمتها ما يقصرن لكن هي بحاجتك.

شعر سيف بوخزة في صدره، لم يكن قد فكر بهذا الشكل. شعر بأن كل كلمة من والده تحمل ثقلًا ومسؤولية لم يتخيلها.

سكت للحظة ثم قال بنبرة أثقل: أول صرخة لولدك بتكون أول من يسمعها؟ ولا غايب وما أنت يمّه.

ارتبكت ملامح سيف لم يعرف كيف يرد. لم يكن مستعدًا لهذه الزاوية من الحديث.

أكمل الأب وعيناه لا تفارق وجه ابنه: أول نظرة وأول خطوة وأول كلمة كلها بتفوتك عشان وشو..؟

نبرة صوته ازدادت عمقًا، وكأنه يتحدث من ذاكرة بعيدة: هيا مارح تشتكي... لكن تدري وش شعورها وهي تولد ورجالها لاهي عنها؟ يوم تسمع أول صرخة من ولدها وأنت بعيد عنها؟

بدأ سيف يشعر بأن كل كلمة من والده تثقل على صدره، كان يظن أن حلمه بالدراسة هو الأهم، لكنه الآن يرى الصورة من زاوية مختلفة.

أخذ الأب نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه محمل بالعاطفة: يوم ولدت أمك العنود.. كنت برا الغرفة أسمع بكاها وصياحها ووجعها.. وقلبي يطيح من بين ضلوعي ما كنت أشوف شي قدامي غير الباب.. ما كنت أدري هي بخير.. هي ولدت.. هي حية أو لا.. كل ما انقطع صوتها طقيت الباب وسمعت صوت أمي تقول أدع لها يا وضاح.. كنت أحس عمري كله معلق ورا ذاك الباب.

سكت قليلًا وعيناه تتعلقان بالأفق البعيد، أكمل بنبرة أكثر حنانًا: ويوم سمعت أول صرخة من العنود.. حسيت الدنيا كلها تغيرت.. ما شفتها ولا شفت أمك لكن ذيك الصرخة بعثتني للحياة من جديد.. ويوم شلتها لأول مرة وفتحت عيونها حسيت إني أول مرة اشوف النور.. عيونها الصغيرة تشوف الدنيا لأول مرة وأنا أول شي شافته.

نظر إلى سيف بنظرة مختلفة، تحمل حكمة السنين وعمق المشاعر:

لحظة ولادة أول ولد لك.. لحظة ما تنفرط.. تأجل حلمك شوي.. لكن ما تفوت لحظة مثل ذي.. الرجال يا سيف يبدي حتى نفسه على مرته وعياله.

ظل سيف ينظر إلى والده، عيناه متسعتان بدهشة، لم يستطع إخفاءها.

كان يسمعه، لكنه في ذات الوقت لم يكن يصدق ما يسمعه.

هل هذا حقًا والده؟

الرجل الذي عرفه طوال عمره بالصبر والصلابة، بالهدوء والوقار، بالصمت حين يتحدث الآخرون، وبالكلمات القليلة التي لا تحمل سوى الأوامر والنصائح.

للمرة الأولى يرى خلف هذه الملامح الصارمة والحاجبين المعقودين دائمًا، قلبًا يخفق بكل هذا الحنان.

للمرة الأولى يرى خلف الصرامة والجدية، رجلا امتلأت عيناه بالذكريات، وتكسر صوته بالعاطفة.

شعر سيف كأنه يرى والده للمرة الأولى، وكأن الصورة التي رسمها عنه طوال السنين تتفكك أمامه لتظهر حقيقة أعمق وأجمل.

لم يتخيل أبدًا أن هذا الرجل الذي لا يتحدث كثيرًا يحمل في قلبه كل هذا الحب.

لم يتوقع أن خلف نظراته الصارمة كل هذه العاطفة والخوف والحنين.

شعر بالرجفة تسري بجسده وكأنه طفل صغير يسمع الحكاية لأول مرة، حكاية عن رجل وقف على باب غرفة الولادة، وقلبه معلق بين الحياة والموت.

حكاية عن أب شعر بخوف لم يعرفه من قبل، وعن حب أكبر من أن يحتويه صدره.

نظر إلى والده، إلى تلك العينين اللتين طالما رأى فيهما الحزم والسلطة، لكنه الآن يرى فيهما ذكريات ومشاعر تكاد تنفجر.

والده حدثه عن العنود، لكنه أيضًا يتحدث عن أمه، أم سيف التي طالما رآها هادئة، صامتة، متحملة كل شيء.

هل يعقل أن والده كان يحبها بهذا العمق؟

هل يعقل أن وراء كلماته القليلة ونظراته الصارمة، مشاعر تخفق بهذه القوة؟

تذكر كيف كان يراهم يجلسون سويًا دون ودٍ يُذكر، وكيف كان والده يأمر وأمه تنفذ.

كان يظن أن كل ما بينهما هو عشرة واحترام وصبر.

لكنه الآن لأول مرة يرى الصورة كاملة.. يرى الحب الذي لم يعبر عنه والده بالكلمات لكنه عاشه بالأفعال.

شعر بأن قلبه يغرق في مشاعر متداخلة، بالدهشة والإعجاب.

لم يتخيل أبدًا أن والده.. الصارم الجدي يحمل في داخله كل هذا الحنان.

كان يراه دائمًا رجلًا شديدًا، لا يهتز، لا يظهر ضعفه، ولا يتحدث عن مشاعره.

لكنه الآن يرى رجلًا رقيقًا، حنونًا، أبًا يحمل ذكرى كل صرخة وكل خطوة وكل نظرة لأولاده.

حاول أن يجيد كلمات يرد بها، لكنه شعر بأن الكلمات هربت منه.

لم يعرف كيف يعبر عن صدمته، عن امتنانه، عن اعجابه بهذا الرجل الذي ظنه يعرفه جيدًا، لكنه أكتشف أنه لم يعرفه أبدًا.

نهض وخرج مع والده متجهين للمسجد، صوت الآذان يتردد في الأرجاء.

يمشي بجواره لكنه غائب عنه، غارق في دوامة أفكاره.

كلمات والده لا تزال تتردد في رأسه، تهز كيانه:

"أول صرخة لولدك بتكون أول من يسمعها؟ ولا غايب وما أنت يمّه"

توقف قليلًا والتفت إلى البيت.

هناك... هيا

هيا.. التي لم يفكر بها إلا كالتزام.

هيا.. التي لم يعترف أمام نفسه بأنه يحبها.

لكنه الآن يشعر بشيء مختلف، شعور يكاد يخنقه.

يريد أن يركض إليها، أن يحتضنها، أن يخبرها بكل ما في قلبه.

يريد أن يمسك بيديها ويعتذر عن كل لحظة قضاها بعيدًا عنها وهو أمامها.

لكن... هل سيتقبلها كما هي؟

تردد السؤال في ذهنه. وهو يتذكر كل اللحظات التي جمعتهما.

يتذكر كيف كانت تجيبه دائما ببراءة: "على أمرك... اللي تبيه"

كان يشعر بالضيق من ردودها القصيرة، من خجلها الذي لا يكسر حاجز الصمت بينهما.

كان يتوقع منها أن تعبر له عن حبها، أن تفتح له قلبها، أن تشاركه أفكارها وأحلامها.

لكنها لم تفعل.



هادئة دائما، مستسلمة لرغباته، تطيعه دون جدال

يراها خجولة وينتظر منها أن تكون غير ذلك!

لكنه الآن بدأ يدرك... هيا تُحبه.

تحبه بطريقتها، بلغتها الخاصة.

هي لا تعرف تنطق كلمات الحب، لكنها تنطقها في كل فعل تقوم به.

تذكر كيف تحضر له ثوبه المكوي كل صباح دون أن يطلب، تضع له فطوره وتمشي بجواره وتقف عند الباب حتى يخرج وتغلق الباب خلفه، كيف كانت تستقبله بابتسامة خجولة حين يعود.

كل تلك التفاصيل الصغيرة كانت حُبًا.

تقول له أحبك بطريقتها البسيطة دون كلمات.

وهو كان أعمى، ينتظر كلمات بينما كانت تغرقه بالأفعال.

تذكر كيف كانت تستمع إليه بانتباه حين يتحدث، حتى لو لم تفهم كلامه

كيف كانت تحرص على راحته، ترتب اغراضه، تجهز طعامه، وكل ذلك دون أن يطلب.

كانت تضعه أولًا... دائمًا.

شعر بشيء يخنقه، وكأنه يختنق بمشاعره.

كم كان أحمقًا!

كم كان قاسيًا وهو يطلب منها أن تتقرب بينما هو لا يمد يده

يطلب منها أن تعبر بينما هو لم يظهر لها أي اهتمام.

يريد منها أن تقترب لكنه لا يخطو نحوها.

يجلس معها لكنه لا يتحدث وينتظرها تبادر.

الآن أدرك الحقيقة!

هي تحبه، لكن بلغتها، لغة الأفعال، لغة الخجل الذي لا يعرف الكلمات الكبيرة، لكنه يعرف كيف يهتم ويعتني ويسهر على راحة من يحب.

كانت تقول "على أمرك" بحب، كانت تقول "اللي تبي" بتفانٍ

كانت تعطيه كل شيء... حتى لو لم تعبر بكلمات.

شعر بغصة في قلبه.. كيف كان أعمى عن حبها؟

كيف لم يرَ تلك الأفعال البسيطة وهي تصرخ بحبها؟

تذكر نظراتها الخجولة وابتسامتها الصغيرة حين يلقي السلام.

تذكر كيف كانت تخفي ارتباكها حيت يقترب منها، وكيف كانت تتلعثم بكلماتها.

إنها تحبه!

لكنها صغيرة وخجولة لا تعرف كيف تعبر.

والآن...

يريد أن يعانقها، أن يخبرها بأنه فهم.

بأنه يرى حبها الآن.. وأدرك كم تحبه

يريد أن يعوضها عن كل لحظة ظن فيها أنها لا تهتم.

يريد أن يخبرها بأنه لم يعد ينتظر كلمات.

بل يريد أن يرد على أفعالها بأفعال

أن يكون لها الزواج الذي يستحق حبها

أن يكسر حاجز الخجل، ويحتضن قلبها الصغير بكل ما فيه.

التفت إلى والده الذي وقف ينتظره على باب المسجد

تقدم نحوه.. لكن قلبه كان خلفه.

هناك... عند هيا.



-

هيا في المطبخ، ترتدي جلابية مشجّرة بألوان هادئة، وشعرها الطويل مجدول في ضفيرة واحدة تتدلى على ظهرها، تقف أمام الموقد تراقب دلة القهوة وهي تغلي على نار هادئة ورائحتها تعبق في المكان.

دخلت العنود تستنشق الهواء بعمق قبل أن تبتسم: يا سلام! ريحة قهوتك معبية البيت.

التفتت هيا نحوها بابتسامة خجولة: تسلمين.

تقدمت العنود ومدت يدها لتأخذ القهوة من هيا: هاتي أنا أكمل الباقي عنك.. تعبناك اليوم.

هيا ترددت قليلًا: لا والله لا تعب ولا شي.

أصرت العنود وأخذت الدلة من يدها: قلت لك خليها علي لا تتعبين نفسك.

ابتسمت بهدوء واستسلمت ثم مسحت كفيها بمريول المطبخ: ما تقصرين يا أم خالد.

خرجن من المطبخ والعنود تحمل الصينية تمشي أمام هيا بخطوات بسيطة، دخلن الصالة حيث تجلس أم سيف وتراقب ابن العنود الذي يتابع التلفاز.

رفعت أم سيف نظرها نحو هيا ثم قالت بنبرة حانية لكن حازمة: يا أمي لا تتعبين نفسك.. انا والعنود نشيل عنك كل الشغل انتي بس ارتاحي.

ابتسمت هيا: ما فيه تعب يا عمه.. وتعرفيني ما أقدر أجلس بدون شغل.. أحس نفسي ثقيلة.

أم سيف أخذت رشفة من قوتها، ثم التفتت الى العنود ونقلت نظرها إلى ابن العنود الذي لاحظت عليه منذ أن أتت العنود قبل يومين يجلس بصمت عيناه معلقة على التلفزيون، على عكس اخوته الذين يلعبون ويتحركون حولها. منذ الأمس وهي تلاحظ تغيره، لم يعد يركض في الحوش أو يلاحق أخاه كما اعتاد وكأن شيئًا يشغله أو يثقل روحه الصغيرة: العنود.. محمد وش فيه؟ من يوم جيتوني وهو ما تحرك ولا لعب!

زفرت العنود بضيق: يا يمه ما ادري وش جاه.. له أسبوعين متغير وصاير كل شي يضايقه ويبكيه.. وما يبي أحد يكلمه.

هزت أم سيف رأسها بحزم: كله من هالرسوم.. اللي ما تفارقه أذهبت عقله.

العنود وضعت فنجانها جانبا: جربت امنعه واشغلني يصيح ما يسكت لين اشغل له التلفزيون... حتى صالح قبل لا يمشي وصاني عليه لكن وش اسوي ماهوب راضي يبعد عنه لو شوي.

تنهدت أم سيف: الله يصلحه ويحفظه.. إلا دريتو عن مرة مبارك..؟

العنود رفعت رأسها والتفتت الى أمها بحماس: إي والله مسكينة سكتت وصبرت وبالأخير طلقها.

هيا سألت ببراءة: وش مسوية؟

العنود عقدت ذراعيها وكأنها تستعد لسرد قصة طويلة: يا بنت الحلال.. من يوم اعرست وهي شايفة الويل منهم يتحكمون فيها ما كأن وراها رجال.. ويهينونها ويتطاولون عليها وهي صابرة وساكتة عشان ما تخرب بيتها.. واخرة هالصبر رجالها صف بصف أمه وخواته وطلقها.

أم سيف هزت رأسها بأسف: عسى الله يعوضها.

هيا علقت بهدوء بعدما تناولت فنجانها من العنود: كلن ياخذ نصيبه.

قبل أن تكمل العنود حديثها، سُمع صوت الباب يُفتح، فالتفتت الثلاث الى المدخل، حيث سيف بخطوات هادئة، ألقى السلام بصوت منخفض، ثم تقدم وجلس على الكنب بجانب هيا، قريبًا حدّ أن عطره امتزج بأنفاسها.

يبدو هادئًا في الظاهر، لكنه في داخلة ممتلئًا بالشوق، وكأن المسافة التي تفصل بينهما رغم قصرها أبعد مما يحتمل.

تجلس مستقيمة، يداها مسترخيتان في حجرها، ووجهها لا يحمل سوى الهدوء المعتاد. أما هو فيود لو يضمها إليه، لو يهمس لها كم افتقدها في هذه السويعات القليلة التي غابها، لكنه اكتفى بأن يكون قريبًا منها، علّ قربه يطفئ شيئًا من نار الاشتياق التي تشتعل في داخله.

عيناه تراقبها بطرف خفي، يتأمل تفاصيلها بصمت، يلاحظ خصلات شعرها المجدولة بدقة، وانسياب ثوبها المشجر حول جسدها. كم يتمنى لو يأخذ يدها بين يديه، أن يشعر بدفئها، لكنه التزم الصمت.

العنود التي لم يخفَ عليها شيء، رفعت حاجبها ونظرت إليهما قبل أن تبتسم بمكر: أنا وأمي كأنا جالسين عزولين بينكم.. صح؟

سيف الذي التقط المغزى فورًا، ابتسم بخفة، ورمقها بنظرة جانبية: إي والله بس وش نسوي؟

ضحكت أم سيف، بينما هيا خفضت نظرها قليلًا، وكأنها تحاول إخفاء خجلها، لكنها لم تستطع منع طرف ابتسامة صغيرة من أن تظهر.

ضحكت العنود، وهيا ازداد خجلها.

بعد لحظات، تنحنح سيف وهو ينهض قائلًا بنبرة هادئة: عن إذنكم بطلع أرتاح شوي.

راقبته العنود وهو يسير مبتعدًا، ثم استدارت لهيا بابتسامة ذات معنى، وكأنها قرأت أفكاره دون أن يقول شيئًا: قومي لزوجك.. شكله متضايق حتى ما تقهوى معنا.

كان في صوتها دفء الأخوة، وفهم العشرة. تعرف أخاها أكثر مما يعرف نفسه وتدرك تماما أن "التعب" الذي ادّعاه لم يكن إلا حجة.

هيا شعرت بقلبها ينبض بشكل أسرع، لم تقل شيئًا، لكنها بعد لحظات نهضت بهدوء واتجهت خلفه.



-

دخل سيف الغرفة، أشعل المصباح الجانبي فانسكب الضوء الخافت على زواياها. ألقى بشماغه على الكرسي القريب، ثم جلس وأسند مرفقه إلى فخذه وأسند رأسه إلى راحة يده.

لم يكن بحاجة لادعاء الارهاق، فقد أنهكه الاشتياق أكثر من أي شيء آخر.

كم مرة كتم هذه المشاعر؟

كم مرة اكتفى بالنظر إليها من بعيد، بالمجاملات العابرة أمام أهله، وكأنه لا يشعر بهذا الانجذاب العميق لها، اليوم لم يستطيع التجاهل أكثر.

لم تمر سوى لحظات حتى سمع وقع خطواتها الرقيقة، توقف الزمن للحظة رفع رأيه نحو الباب، وانتظر.

لم يكن بحاجة لأن يناديها، كان واثقًا أنها ستأتي.

طرقة خفيفة، ثم فتحت الباب ببطء، دخلت بملامح هادئة لا تزال تحمل خجلها المعتاد، لكن خطواتها كانت مترددة أكثر من المعتاد، ربما لأنها شعرت بنظرات العنود حين دفعتها للحاق به، أو ربما لأنها هي الأخرى بدأت تدرك أن صمته أمامهم لا يشبه صمته دائما.

وقفت عند الباب للحظة، تلاقت أعينهما، ثم خفضت بصرها بسرعة، لم تعرف ماذا تقول، لم تعتد على هذا، أن يكونا وحدهما بهذه الطريقة.

سيف لم يحرك عينيه عنها، تأملها كما لو أنه يراها لأول مرة، وكأن هذا هو اللقاء الذي كان ينتظره منذ أن عقد قرانه بها، كان يريد أن يحفظ هذه اللحظة بكل تفاصيلها، كيف تقف أمامه بجلابيتها المشجرة، وشعرها الطويلة بضفيرته المرتبة، كيف تحاول أن تخفي خجلها.

عيناه تتحدثان بكل ما عجزت شفتاه عن قوله، بكل ما كتمه طوال الشهور الماضية، بكل ما كبله أمام الآخرين، ليس بينهما حواجز الآن، لا أحد يراقب ليفرض عليهما الرسمية والمجاملات... فقط هو وهي... وقلبه الذي يطرق صدره بعنف.

مدَّ يده ببطء كأنه يخشى أن تهرب منه، لكنه يعلم أنها لن تفعل، كان هناك شيء مختلف في عينيها، شيء لم يكن موجودًا من قبل.

لم يقل شيئًا، فقط جذبها إليه، بخفة في البداية وكأنه يختبر قربها، ثم... لم يستطع أن يكتفي.

ضمّها إليه بقوة، وكأنه يخشى أن تفلت من بين ذراعيه، أن تختفي، أن تكون هذه لحظة عابرة مثل كل اللحظات التي سبقتها، شعر بعا ترتجف قليلًا بين يديه، أنفاسها المضطربة تلامس عنقه، ويديها المترددة تتشبث بثوبه.

كانت رقيقة، ناعمة، لكن دفئها أشعل داخله نيرانًا لم يكن يعلم أنها متقدة إلى هذا الحد.

لم يتحدث، فقط شدّها أكثر، ودفن وجهه في شعرها، استنشق عطرها كما لو أنه يريد أن يحفظه في ذاكرته إلى الأبد.

"هيا" همس باسمها بصوت متحشرج بشوقه، كأنه يخشى أن ينكسر لو قال المزيد.

لن ترد، لكنها لم تبتعد، وهذا وحده كان كافيًا ليجعله يشعر أخيرًا أنها أصبحت قريبة كما أراد دائما.

لحظات طويلة مرت، لا صوت فيها سوى أنفاسهما المتداخلة، قلبه الذي ينبض بجوار قلبها وذراعيه اللتين تأبيان أن تتركها.

حين أفلتها أخيرًا، لم يكن انفصالًا كاملًا، بل كأنه اكتفى بأن يبعدها قليلًا فقط ليتمكن من رؤيتها بوضوح، بقيت يداه على كتفيها للحظة، كأنه يختبر شعور تركها، ثم تراجع ببطء وكأن روحه لم تستوعب تمامًا فكرة الابتعاد.

نظر إليها يريد أن يقول ما يحتاجه منذ لحظة وصوله، أمسك كفها بحنان، أصابعه تلامس بشرتها الناعمة، كأنه يحاول أن يهدئ تلك النيران التي أشعلها قربها، سحبها معه إلى الكنبة الجانبية، جلس أولًا ثم جعلها تجلس قريبة منه، كأنه يريدها في مدى لمسته دائمًا.

يحدق في كفها بين يديه، يمرر إبهامه برفق على راحتها، يستشعر دفء وجودها، زفر ببطء كأن الحديث الذي سيقوله ليس سهلًا عليه. رفع نظره إليها أخيرًا وقال بصوت هادئ لكنه ممتلئ بالعاطفة: جاني القبول لمصر.





-



رائحة الصابون تملأ المطبخ، أم سلمان تمسح الطاولة بحركات بطيئة، وكأنها تسمح لعقلها بأن يسرح قليلًا، بينما هند عند المغسلة تجفف يديها بتكاسل، تراقب أمها بنظرة جانبية.

"الله يسعدك يا هيا"

تخرج الكلمات من فم أم سلمان كأنها تنهيدة أكثر منها دعاء، فتلتقطها هند سريعًا، عيناها تضيئان بالمزاح وهي تلتفت نحو أمها وترد بسخرية لطيفة: إي والله، الله يسعدها ويسعد سيف بعد.. شوفي القاطعة صار لها أسبوع وشوي ما شفناها.. كأن التليفون يكفي.

أمها تبتسم تعرف أن هند لن تفوت الفرصة للمزاح، ترفع رأسها وتنظر إليها باستغراب مصطنع: وش تبينها تسوي؟ تترك رجلها وتجي تقعد معنا؟

تتراجع هند قليلا، تعقد ذراعيها أمام صدرها، ترفع ذقنها بتحدِّ وهي تقول بجدية مبالغ فيها: أنا أقول ناخذها يومين عندنا.. ونشوف من أغلى؟ أنا ولا سيف؟ اشوف تكتفي بمكالماته وتقعد معي مثل ما تسوي الحين ولا ما تصبر عنه.

تضحك أمها بصوت خافت، تعود لمسح الطاولة، وترد بنبرة تحمل سخرية هي الأخرى: سيف بياخذها بعيونه لو تحاولين تاخذينها منه.

هند تضع يدها على خاصرتها وتصطنع الغيرة: الله يهني سعيد بسعيدة.

ضحكة أمها تزداد، لكنها لم ترفع رأسها، وكأنها لا تريد أن تتعمق بالحديث أكثر، هند تتظاهر بأنها لا تهتم لكنها تشعر بشيء ثقيل في قلبها، شيء لم تعترف به حتى الآن، شيء يشبه الغصة، لكنه لا يعلق في حلقها بل في زاوية ما من صدرها، تلك الزاوية التي كانت دافئة بوجود هيا، وصارت باردة بعد رحيلها.

تشدّ المنشفة بين أصابعها، تحاول أن تقنع نفسها أنها تبالغ، هيا لم تبتعد سوى بضعة شوارع، لا تزال تسمع صوتها عبر الهاتف، وتراها كل نهاية أسبوع.. هل يكفي هذا؟

هل يكفي أن تكون الأخت مجرد اسم في الهاتف؟ مجرد صوتٌ عابر؟ لا يأخذ من الوقت إلا دقائق معدودة.. هل هذا يكفي؟

كم مرة أمسكت بالهاتف لتطلبها لكنها تراجعت، كم مرة دخلت غرفتهن المشتركة، نظرت إلى سريرها الفارغ، إلى ملابسها المعلقة في الخزانة، حتى رائحة عطرها التي تتلاشى ببطء.. كل ذلك كان يذكرها بأن أختها التي تشاركها كل لحظة.. لم تعد هنا.

كانت تعتقد أن الزواج مجرد تغيير في المكان، مجرد تفاصيل جديدة في الحياة، لكنها الآن بدأت تفهم.. الزواج ليس مجرد انتقال، إنه اختفاءٌ تدريجي. تبدأ الأخت بالابتعاد دون أن تلاحظ، تصبح زياراتها أقل، مشاغلها أكثر، حتى يأتي يوم يصبح السؤال عنها أشبه بالعبث، لأن الإجابة معروفة "مشغولة ببيتها وزوجها"



انتهى..
أتشرف بكل آرائكم وانتقاداتكم.

كونوا بالقرب.


أُفق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-03-25, 08:14 PM   #26

ارجوان

? العضوٌ??? » 422432
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 591
?  نُقآطِيْ » ارجوان is on a distinguished road
افتراضي

مساء الخير
كل عام والجميع بخير ومسره

ابو سيف وكانه نصب كمين لسيف بتزويجه اول شي طلب منه يتزوج والحين يبيه يقعد مع زوجته لحد ماتولد وبعد ماتولد بيقول مولود وامه ويبون لهم مداراه وعنايه وردد ياليل مطولك
الموافقه وصلت سيف لكن هل فعلا راح يضحي بدراسته وحلمه علشان هياء او على الاقل بيأجلها او يقرر يتحمل مسؤلية زوجته وحملها لوحده وياخذهم معه

سارا لونا likes this.

ارجوان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:06 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.