آخر 10 مشاركات
إلى مغتصبي...بعد التحية! *مميزة ومكتملة *(2) .. سلسلة بتائل مدنسة (الكاتـب : مروة العزاوي - )           »          على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          [تحميل]رواية قل متى ستحبني؟!!/ للكاتبة شيماءمحمد ShiMoOo، مصرية (الكاتـب : Just Faith - )           »          16- انت وحدك - ناتالى فوكس . حصريا" (الكاتـب : فرح - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          إمرأتي و البحر (1) "مميزة و مكتملة " .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          عروس راميريز(34)للكاتبة:Emma Darcy(الجزء الأول من سلسلة عرائس راميريز)*كاملة+روابط* (الكاتـب : Gege86 - )           »          سلاسل الروايات لكاردينيا73 (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          اللوحة الغامضة (48) للكاتبة: كارول مورتيمور .. كاملة .. (الكاتـب : cutebabi - )           »          نقطة، و سطر قديم!! (1) *مميزه و مكتملة*.. سلسلة حكايات في سطور (الكاتـب : eman nassar - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > مكتبات روايتي > منتدى الـروايــات الـعـربـيـة > حصرياتنا الروائية العربية الجديدة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-11-16, 12:37 AM   #1

Abo abdalla
 
الصورة الرمزية Abo abdalla

? العضوٌ??? » 386740
?  التسِجيلٌ » Nov 2016
? مشَارَ?اتْي » 3
?  نُقآطِيْ » Abo abdalla is on a distinguished road
افتراضي ثلاثية صانع الفخار.. أحمد ضحية


ثلاثية صانع الفخار
رواية
أحمد ضحية

الجزء الأول: آلام ذاكرة الطين

دار مدارات للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، ٢٠١٦
يحكى أن تاجرا زوج إبنتيه. واحدة إلى فلاح، والأخرى إلى صانع فخار..
و بعد عام سافر الرجل ليزور إبنتيه، فقصد أولا زوجة الفلاح. التي إستقبلته بفرح. وحينما سألها عن أحوالها، قالت:
- زوجي إستدان ثمن البذور، واستأجر أرضا وزرعها. فإذا أمطرت السماء، فنحن بألف خير. وإن لم تمطر فإننا سنتعرض إلى مصيبة!!
فتركها وذهب لزيارة إبنته الأخرى.. زوجة صانع الفخار. التي استقبلته بفرح ومحبة. وفي جوابها على سؤاله عن الحال والأحوال أجابت:
- زوجي إشترى ترابا بالدين، وحوله إلى فخار. ووضعه تحت الشمس ليجف، فإن لم تمطر فنحن بألف خير وإن أمطرت فإن الفخار سيذوب وسنتعرض إلى مصيبة.
عاد الرجل إلى زوجته التي سألته عن أحوال إبنيتها فقال لها:
إن أمطرت ألطمي خدك ونوحي وإن لم تمطر ألطمي خدك ونوحي!
هذا هو حال صانع الفخار مع البلاد الكبيرة. فلدى إستيلاءالحاكم العام على السلطة ذات فجر بعيد. أعلن الحاكم العام في بيانه الأول, أنه سيحول البلدة إلى جنة أرضية. ينعم فيها أهالي البلاد الكبيرة بالرخاء والرفاهية والسلام. حتى أن بإمكان الذئب أن يتآخى فيها مع الحمل. فينام الجميع قريري العين هانئيها. ولم يمض سوى وقت قليل، حتى ذهبت كل وعود الحاكم العام أدراج الرياح! فقد تتالت كوارث الطبيعة، وأجتاحت الأوبئة البلاد الكبيرة تحصد الأرواح دون رحمة، وأشتعلت الحروب في دار الريح والصعيد ودار صباح. فأصيب الناس بالفزع وفقدوا صوابهم. إذ ما عادوا يجدون ما يأكلون أو قطرة ماء يشربونها، بعد أن تقلصت وجباتهم اليومية إلى وجبة واحدة!!!
وكان العالم.. كل العالم يعرف بأن شعب البلاد الكبيرة، أصبح في عهد هذا الحاكم.. شعبا من المشردين والمطاريد واللاجئين والجياع! فأخذوا يرسلون لهم كل أنواع الإغاثات، من طعام وعصائر وخيام وأدوية وأموال.
لكن ظلت الأخبار كما هي لم تتغير!.. فحار أهل الخير الطيبون في الجوار والعالم الواسع! وأرسلوا عيونهم إلى البلاد الكبيرة. ففوجئوا بأن كل شيء متوفر: الأكل والشرب والعلاج والنقود.. لكنهم لم يجدوا شعب البلاد الكبيرة.. كان شعب البلاد الكبيرة قد إختفى؟!
I
"لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة العتيقة!"
قتل صانع الفخار بذات الطريقة التي أعدم بها أسلافه، من حاخامات وقساوسة كنيسة البلدة القديمة, في الأزمنة الغابرة! إذ صلبه عسس الحاكم العام على صليب من خشب "اللعوت" سيء الرائحة وأشعلوا فيه النار.
بعدها بسنوات قليلة.. عندما بدأ بعض الأهالي يفيقون من هول الصدمة، جعلوا من يوم مقتله على ذلك النحو، ذكرى سنوية. كما إتخذت كنيسة المقرن أو البلدة القديمة، من هذه الذكرى بداية لتقويم جديد. أطلقوا عليه "تقويم ود أمجبو"، الذي بمرور الوقت أصبح تقويما لإحياء ذِكرى شهداء الإيمان, المنادين ب"فصل الدين عن الدولة". وما يزال هذا التقويم يستعمله المُزارعون في برية البلاد الكبيرة الواسعة، لتتبع تغيرات الفصول الزراعية. وكذلك في التأريخ للأحداث العظيمة ك"سنة نجع الناس لديار سافل.. أوعندما ضرب تمساح "أب كبلو اللية" أوعندما ضلت القرنتية طريقها من النهر إلى زندية، فسقتها فداديات (البريزية) المريسة"وهكذا تغلغل التقويم الجديد في كل المناشط الإجتماعية للبلدة القديمة.
"لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة العتيقة!"
في اللحظة ذاتها التي كانت روح صانع الفخار تصعد إلى السماوات العلي، كان الخزين يجلس على "بنبره" المعتاد ذاته, الذي ظل يجلس عليه منذ عشرات السنوات، كلما غشى أنداية "مستورة كحل الليل". بينما جميع من في الأنداية سكارى يتداعون ويحكون كلاما غير منتظما، عن أمجادهم الضائعة في هذه البلدة الضائعة.. إذ يتنهد التوم ود أب قرن وهو يغني وقد هاجت به الأشجان:
"حليل موسى يا حليل موسى.. حليل موسى الأمو جاموسة
حليل موسى اللي الرجال خوسة
ما بيأكل الملاح أخضر.. ولا بيشرب الخمر يسكر..."
فيقاطعه ود الزين:
"أقيف يا أخينا.. حليلو في شنو؟ زول لا بياكل الملاح الأخضر، ولا بيشرب المريسة يسكر، تقولوا حليلوا؟! حليلو في شنو؟! والله عجايب!
ثم يتنهد وهو يقول:
"والله أيام زمان يا عم.. يا عم منو؟.."
"الخزين"
"والله أيام زمان يا عم الخزين الواحد كان يشرب أربعين عبار في اليوم، وما يسووا ليهو أي حاجة.. إنت عارف جبارة الهنباتي ده أبوه لما مات خلا ليهو شي وشويات.. قروش زي الهم في القلب.. علي الطلاق ضيعهم كلهم على الأخوان.."...
فيقاطعه صوت سابل الستر من بعيد:
"على الأخوان ولا على الفداديات ستات المرايس.. قلة عقل وقلة رأي.."
فيرد الهنباتي:
"كلو ما مهم.. المهم الرجالة.. علي الطلاق تاني كان ورثت.. تاني أضيعهم.. أفرتقها وأعدم الملين.. المهم الرجالة.."..
فيقاطعه سابل الستر:
"زمن خاين. الصرفت عليهم دم قلبك، علي اليمين هسه لما يشوفوك في الشارع، يفوتو ليك الدرب.. سلام الله ما يدوك ليهو.."
فتثور مواجد الهنباتي فيتنحنح:
"تف يا دنيا تف.. وحياة الحرام أنا كنت أحرق في اليوم جنيه وجنيهين مريسة ومزّة بس!"..
فيأتي صوت ود الزين غاضبا:
"يا زول أوزن كلامك.. أنا الأجعص مني منو؟!"..
ثم ينشد:
"يا مهدية حكمك ما بقالي.. سويت العبد في راسي دلالي
يطير أب رقعة يسكن في الضهاري.. ويجي التمباك محمل بالرحالي
ونشق السوق نعلب في السجاري.. ويقج شرموطنا بينات الجراري.."
وكأن سابل الستر ينتبه للتو فيحتد غاضبا:
"أوزن كلامك إنت يا ود الكلب"
فيرد عليه ود الزين ورزاز المريسة يتطاير من فمه:
"كلب أبوك أنا يا بلاع الذمم.. علي الحرام نسيبتك كان ما لحقتني كنت.. أنا أخوك يا أم زمام"
ويحاول أحدهم أن يدوبي فيوقفه آخر:
"قلنا ليك ألف مرة ما عايزين دوباي.. عايزين دلوكة.. أضربن يا بنات.."
فيقول آخر:
"آي والله.. خصوصا كان ضربتها الخادم ديك"
"ها يا زول ها.. الخادم دي المرة الفاتت كسرت الدلوكة"..
كل هذه الثرثرات كانت تدور حول الخزين، الذي كان كأنه غير موجود. فقد كان محلقا في سماوات بعيدة، ليس بإمكان أحدهم ممن حوله التحليق معه فيها.
كانت أصوات السكارى ترتفع وتنخفض.. ونذر معركة بين ود الزين والهنباتي تلوح في أفق الأنداية، التي بدأت من خلال فتحات سقوف رواكيبها الشمس، وهي تلوح في الأفق البعيد، تجرجر أزيالها نحو المغيب.. هتفت عشمانة السقاية بوجه ود الزين والهنباتي، وهي تغمز لسابل الستر أن يسكت:
"الروقة يا جماعة..قلنا الروقة..
فيتدخل حمد الأعرج:
"أيوة الروقة.. علي الطلاق هسه ألبع واحد أشق راسو.. ولا شنو يا الخزين؟
ويلتفت للخزين الذي لم يكن يسمعه.. بينما يزمجر ود الزين في وجه الهنباتي:
"يا زول أبعد دمك مني..أنا كعب.. أنا بطال.."
فيتدخل سابل الستر:
"أقيف يا زول. حرّم تقعد. الحكاية شنو؟"
"الزول ده حرّم أنا شايفو عشرة عشرة من أمبارح.."
"عملت ليك شنو يا نصاب يا سلباط؟"
"علي الطلاق يا جماعة الزول ده نحنا أولاد كاس من ما قمنا.. وأكلنا العيش والملح مع بعض. أمبارح إنتهز عدم جيتي الإنداية، فقام غمز للرسالة صاحبتي"
"لا حول الله! الزول إتلوم لوم كبير.. عيب عليهو والله"..
"علي الحرام أنا ما غمزت ليها هي. أنا غمزت لحسنة, وكان مكضبيني أسألوها"
"في ذمتك الكلام ده صحي يا حسنة"
""هي الذمة حارة. النصيحة كدي.. غمز لينا نحنا الإتنين"
"كذابة. حرّم كذابة. يا خادم يا سكرانة يا ما عندك ذمة"
"يا زول إنت غلطان.. أطلب السماح من الراجل.. والعفو لله والرسول.. إنتو ناس أخوان وأولاد كاس"
إتكأت منصورة على "الصريف" حول القطية التي تتوسط الدار، وهي تجيب أمها في حزن ولوعة:
"لقد قتلوا صانع الفخار"
لحظتها كانت كل ما مرت به في حياتها مع صانع الفخار، يتراءى أمام ناظريها وكأنها وقائع حدثت للتو. حينها كانت روح صانع الفخار تحلق، عابرة سماء الدار. تلوح بإبتسامة آسية في وداعة الحزن!
في تلك اللحظة المجيدة، الغارقة في حجب التاريخ البعيد. والتي أيقن فيها (صانع الفخار الحفيد) أن منصورة هي المرأة التي ظل يحلم بها. بعد أن فرغ وقتها على يدي معلمه "الخزين ود طبلة" من تلقي كل ما يحتاجه المرء من معارف ضرورية بالحب والنساء، عندما تتفتق مراهقته للتو، عن غرائزها وتباغته بنهمها. قرر خطبتها. فأبتسم الخزين إبتسامة شاحبة ولم يفه ببنت شفه.
إحداهن قالت:
"إذا حلمت كرجل بصانع الفخار، فهذا لا يشكك في رجولتك، بل ينبئ عن سيرتك ومسيرتك في العمل المتواصل الدؤوب، الذي سيعود بأفضل الثمار. أما إذا كان الحالم أنثى، فهذا يعني أنها ستنشغل بإمور تسعدها".
فالفخار هو مهنة الأحلام، في صراعها التليد مع الصبر على ألم لا حدود له!
لذا كان ألم منصورة في تلك الأمسية البعيدة، الغارقة في ظلمات التاريخ. والتي سبقت بليلة واحدة، تلك الظهيرة المكفهرة بمقتل صانع الفخار.. ألما خارقا للعظام والشرايين والأوردة.. تخلل روحها وتغلغل في مشاعرها، التي لم تهدأ صبواتها يوما! فقد طبع حزنها في تلك اللحظة، بالطابع الخاص نفسه لحزن صانع الفخار!
فصارت نهبا لهموم مبهمة، لا تدري مصدرها، حرمتها النوم. فنهضت من عنقريبها و أشعلت لمبة الجاز، التي أحاط "قيطانها" سياج من الزجاج الدائري الشفاف. وأخذت تتجول جيئة وذهابا.. هنا وهناك، في فضاء "راكوبة" القطية الصغيرة التي تتوسط الدار، المزروبة "بالطرور والشوك والقنا والعيدان والشراقن". بينما أمها الغارقة في نوم عميق، كانت هي الأخرى متناهشة بالكوابيس التي تخترق أحلامها من آن لآخر!
لحظتها كان يتولَّد تدريجيا داخلها إحساس غامض.. متوتر.. من فرط هيمنته على كيانها.. كانت تشعر بجلدها يتنمل.. وكل شعرة فيه تنبت على نحو مباغت منتصبة لوحدها!
خرجت منصورة من قطيتها إلى فناء الدار. تستنشق شيئا من هواء الليل المنعش، الذي لم يبعث فيها ما ألفته من النشوة، التي إعتادتها عندما يداهمها الأرق ويتآكلها السهاد، في مثل هذه الأوقات من السنة. عندما تكون الشمس حامية طوال اليوم. فنسائم الليل كانت عادة ما تنبيء منصورة، أن فجر الغد ستشرق فيه الشمس بنفس حنانها وشجنها وحنينها الأزلي المفقود!
كانت تلك الليلة إذن، ودونا عن كل الليالي التي مرّت على حياتها. ذات سموم وهواء راكد، بطريقة غير مألوفة في البلدة القديمة. حتى أنها لاحظت ظهيرة ذلك اليوم، عندما ذهبت إلى سوق ود أمجبو، المجاور لمقابر البلدة القديمة. أن شيئا ما في وجوه الناس وأشكالهم مختلف عن المعتاد! لكنها لم تستطع تحديده!
وبدت لها أوراق الشجر متساقطة بكثافة، وعندما تحملها ريح "السموم" تنشر في الجو روائح عطنة. هي مزيج من رائحة البول والغائط والدخان والحريق.. كما لاحظت أن طيور السمبر المهاجرة، التي حطت على سماء البلدة، أنها قد جاءت في غير موسمها! وقدأشاعت في نفوس الأهالي الطيبين، شعورا غامضا بالقلق.. بدى لها كل ذلك ينذر بشيء كارثي غريب وشيك الوقوع!
في طريق عودتها إلى دارها، أنستها أفكارها المبلبلة، إلقاء التحية على الخزين ود طبلة، عندما مرت به وهو في مجلسه المعتاد. يتحلق حوله الناس، ليستمعوا إلى حكاياته بنهم، بدى لها هو الآخر، نهما غير مألوفا!.. سارت منصورة ببطء حتى دخلت مسكنها.
ما بالنا نقفز قفزا ونتعجل الحكي؟!.. سنأتي لاحقا لنحكي عن أحلامها وأحلامه، التي شطرها من شطرها شطرين. تاركا الفخار وصانعه، وذاكرة الطين المشتركة بينهما في حيرة تامة. إزاء اللامبالاة العامة، التي إحتلت فضاء البلدة القديمة على نحو مباغت!
في مراجعة جادين جانو الحفيد، لما حفلت به منحوتات صانع الفخار الجد. إكتشف أن الطين هو القاسم المشترك، بين كل حضارات البلاد الكبيرة. فأهم السمات الثقافية المميزة لهذه الحضارات، كانت أواني الفخار. التي على درجة رفيعة من الصقل. بالإضافة إلى الأواني الفخارية الأخرى، التي على هيئة حيوانات وأشكال مختلفة. كذلك صناعات الحديد و الخناجر النحاسية. والمصنوعات الخشبية المزخرفة في أشكال بديعة. و الملابس المخيطة على قلانس جلدية، و المصنوعات الخشبية المطعمة بالعاج والمايكا وعناقريب الخشب و"القَّد" التي تتميز بمساند من الصوف للرأس.
تقول النبؤة.. التي أكتشفت مبثوثة في إحدى مخطوطات صانع الفخار الأكبر. أن روحه وعقله سيولدان مرة أخرى بعد مئات السنوات، في صبي يافع يدعى جادين، وهو ليس من سلالة صانعي الفخار، لكنه مغرم مثلهم بتشكيل الطين! كما أن روح وجمال حبيبته (الكيرا) هي الأخرى ستتقمص روح (ست البنات) حبيبة المختار، الذي كشفت عنه النبؤة..
وتضيف النبؤة.. أن مقتل صانع الفخار الحفيد سيكون علامة فارقة، في تاريخ وحياة البلاد الكبيرة. التي ستجد نفسها على حافة الهاوية، عند مفترق الطرق من كل أجزائها! عندما يصاب سكانها فجأة، بداء اللامبالاة. إذ يصبحون فجأة متبلدي الأحاسيس ومداهنين.. باردي المشاعر وثقلاء مملين!..
جميعهم: زعماء العشائر والقبائل.. أصحاب العمل والعمال.. أهل الثقافة والفن والأدب والسياسيين.. رجال الدين وشيوخ ومريدي الجماعات والطرق والطوائف.. أرباب المعاشات.. الشباب والأطفال والنساء.. المزارعون..
حتى أن المواليد الجدد، كانوا يولدون بلا ضمير.. يخلون من تلك البراءة التي عرفوا بها. هكذا جميعهم في لحظة من اللحظات الغارقة في الأسى. المتلفعة بالعتمة. إستيقظوا من نومهم، فوجدوا أنفسهم يفتقرون لصفاتهم التي توارثوها من أسلافهم عبر آلاف السنوات.. لا مبالين بما يجري حولهم دون أن يجدوا تفسير لما حل بهم؟
بإستثناء الطبقة الحاكمة والحاكم العام وحزبه وجيشه وشرطته وعسسه وقادة مليشياته الخاصة! لم ينجو من هذا الداء حتى الزوار العابرون لسهل البلاد الكبيرة، في طريقهم إلى مكان ما، في عالم يستشرى فيه داء الإحباط والقنوط!
لكن كان هؤلاء العابرون، ما أن يتمكنون من عبور البلاد الكبيرة، حتى يغرقون في الأسئلة، حول حقيقة نجاة الطبقة الحاكمة، فتقودهم الأسئلة إلى شكوك لا أول لها ولا آخر!
في تلك اللحظة بالذات ولد جادين جانو (الصغير).. الذي عند مقتل صانع الفخار، كان لتوه قد فرغ من تعلم المشي والكلام! إذن في تلك اللحظة التي كان شعب البلاد الكبيرة كله، قد أصيب بهذا الداء الكريه. لم يكن ثمة ناجين، ليشيدون حضارة الجنس البشري في هذا الحزء من العالم المنبوذ من جديد. فقط شخص واحد (وفقا للنبؤة) هو شخصيا جادين جانو!
كان حاكم البلاد الكبيرة سعيدا جدا، بحالة اللامبالاة والتبلد العام، الذي أصاب شعبه. لكن مع ذلك لم تفارق مزاجه تلك العصبية، التي عرفت عنه. بل رغم سعادته المتوهمة. كان في حالة أشبه بالجنون والخبال، وهو يحادث حراسه حينا وزوجاته أو وزرائه حينا آخر:
"هل أنا عصبي؟ عصبي! ربما.. لكنني لست ضعيفا!"
فيجيبه العسس ذات الإجابة المعتادة:
"كلا يا سيدي. والحق يقال أن حواسك في كل يوم يمر تصبح أكثر حدة"
وتهمس زوجاته العديدات بحنو مفتعل:
"أنت لست ضعيفا.. بل تزداد قوة أكبر في كل يوم يمر يا حبيبي"..
في الحقيقة كان وجه الحاكم العام, لم يعد قادرا على التعبير عن مشاعره الخاصة، بتلك التيارات المحتدمة في مكان ما داخله. إذ كان في كل يوم يمر يذوي أكثر فأكثر وتتكلس ملامحه.. ومع ذلك كان يقاوم قدره بشدة.. متشبثا بالحياة. رغم أنف كل قوانين الطبيعة، والزمن وواقع البلاد الكبيرة الرث البائس. وكان لتكريس نزعة الحياة التي تشبث بها دون فكاك، كان يتزوج في كل عام. ليخفي سرا شائعا في أرجاء البلاد الكبيرة! إذ كان الحاكم العام في الحقيقة مثل كثيرون من أعضاء نظامه وحزبه ينتمي لقوم لوط! فكان يرسل الخطاب، إلى كل أنحاء البلاد الكبيرة. ليأتونه بعروس بكر صغيرة! ظانا أن شعبه لا يعرف السر، الذي يحاول إخفاءه!
وكان في أرجاء البلاد الكبيرة.. خصوصا إنداياته، من حين لآخر، يتجدد الجدل حول معنى الدعارة في دولة نظام الحاكم العام، وبينما يركز رواد الإندايات, على الدعارة كتجارة سلعتها المرأة وزبائنها الرجالكان الأفندية يركزون على دعارة الرجال، أي عرض الذكر لجهازه التناسلي وجسده للاستخدام من طرف الغير مقابل مبلغ مالي. وللمفارقة أن كلا النوعين كانا قد تفشيا في نظام الحاكم العام! بل وتعداه بسبب انسداد الأفق واستشراء الفقر والبطالة.
لذا بات مألوفا في الإندايات أن يحكي احدهم:
"إن علاقتي بجملة من النساء اللواتي تكبرنني سنا مكنتني من حل جملة من المشاكل، وهي علاقة لا ينتج عنها أي مشكل، وممارستها غير محفوفة بأي خطر فتلكن النسوة غالبا ما يكن زوجات لمسؤولين كبار في الدولة وكل شيء يتم في السر، كما أستفيد، إضافة إلى المال، من إشباع رغبتي الجنسية في أجواء هادئة ونظيفة، فالنساء اللواتي أضاجعهن مقابل مبلغ مالي، هن من النساء الراقيات ورغم الفارق الكبير في السن بيننا، فهن لازلن يحتفظن برشاقتهن ومعالم الجمال لازالت بادية، وغالبا ما أصل معهن إلى لحظة الذروة الجنسية، علاوة على الاستفادة المادية والعينية إكراميات وهدايا قيمة.
وينبري آخر:
"إن دعارة الذكور أكثر سخاء ماديا"
فيعلق حمد الأعرج:
"أيا يكن الأمر، فإن دعارة الذكور، مثل دعارة النساء، تظل سلوكا وضيعا وأشد وطأة من دعارة النساء"
"لم تعد البلاد الكبيرة كما كانت، أضحت هناك شبكات تقوم بتسهيل لقاء الذكور والإناث والذكور والذكور والغناث الإناث وقد ساهم في ذلك بعض زوجات المسؤولين الكبار في نظام الحاكم العام والحزب الحاكم حتى أنهم لم يعودوا يأبهون كما في السابق أن تتم في سرية تامة وفي فضاءات مغلقة وحيز ضيق، بعد أن أصبحت مع سياسات الخصخصة والتحرير "قطاعا" قطاعا كبيرا متمددا كالاخطبوط"
"حكى لي زميلي في المطبعة كان ينتمي للحزب الحاكم،أن البلدة القديمة، وحواضر البلاد الكبيرة عرفت مؤخرا، جماعة من كبار المسؤولين في الحزب الحاكم، دأبوا على تنظيم جلسات حميمية وسهرات بحضور زوجاتهم. فكانوا من حين لآخر ينظمون ليالي حمراء من نوع خاص، وممارسة مجون نادر جدا..
كانوا يعقدون لقاءات بالتناوب في مقر إقامة أحدهم. وتعد الولائم وتدور كؤوس الخمر المستورد ولفافات البنقو وأنواع المخدرات الأخرى، في جو تسوده الموسيقى الغربية والشعبية، فترقص الزوجات مع أزواجهن ومع غير أزواجهن،وكلما نالت الخمور من العقول تزيد التصرفات مجونا، يحضن مسؤول زوجة الآخر وزوجة هذا الأخير تختلي بزوج أخرى، هكذا دواليك، وأكد لي أن هذه الجماعة دأبت على تنظيم مثل هذه السهرات الفريدة من نوعها، وهي جماعة تضم بعض المتنفذين في المليشيات الأمنية والجهادية ومندوبين ورؤساء بعض المصالح"..
وهكذا – لصرف الشعب عن هذا السر الخطير- مضى الحاكم العام ناشرا الرزيلة في الشعب، ممعنا في إدارة البلاد الكبيرة على هواه، ومفتعلا الحروب والمجاعات والأوبئة، ليشغل الناس عن قضايا البلاد الكبيرة الحقيقية. ثم أخذ يقولب الشعب، بعد أن دمر قيمه المتوارثة. فحول جزء كبيرا منه إلى مجموعات تراقب بعضها البعض. وتراقب في الوقت نفسه ما تبقى من الشعب. الذي أخذ يجمعه في مؤتمرات بين آن وآخر، يختمها بإعتقال البعض وتعذيبهم ثم حرقهم في أفران ضخمة، صنعها خصيصا لهذا الأمر!
وكان يزجي وقت فراغه بلعب لعبة الحرب، في الصعيد ودار الريح. فيغتصب جنده النساء، بعد أن يتم قتل الرجال وحرق قطاطيهم وزروعهم! ونهب مواشيهم وتشريدهم في قبل الأرض الأربعة!
وما أن يبلغه جنده بهذه الأخبار، حتى يبدأ في شرب البنقو، الذي يغليه له طباخه الخصوصي، في براد صنع في الشرق الأقصى البعيد، خصيصا لهذا الغرض. وبعد أن "يسطل" تماما يضجع وينام، تطارده كوابيس وخيالات الأرواح المعذبة لضحاياه.. وضحايا الحكام السابقين من أسلافه، عبر عصور وتاريخ البلاد الكبيرة. فتنتابه الحمى ويئن.. يتأوه.. ويعرق جسمه حتى يبتل فراشه بعرقه، الذي كانت له رائحة البول.
مع ذلك كان الحاكم العام حساسا جدا! فعادة عندما يتعب من فعل كل هذه الأمور، يختلي بنفسه حتى يظن الناس أنه قد فارق الحياة. فتسكن أرواح ضحاياه في مراقدها وتهدأ. ويشعر الشعب بالتحرر لبرهة، لا يلبث أن يقطعها الحاكم العام، بإقتحام وحدتهم وعزلتهم، إثر الإعلان عن أحد المؤتمرات الفاشلة!
كان القادمون من تخوم دار الريح ودار صباح العابرون للبلاد الكبيرة. قد ترسخ في إعتقادهم، أنهم كالعادة سيرون شعب سهل البلاد المشرد، نائما في الدروب الوعرة، والطرق الضيقة غير الممهدة. التي تحيطها البرك والمستنقعات من كل جانب.. وهم يحلمون ببلاد سعيدة، تخلو من الحاكم العام وعسسه وجنده وحزبه ومليشياته الجهادية!
العابرون ترسخ في ذاكرتهم أيضا مشهدا مكررا: حزب الحاكم يطارد الأهالي والمشردين، بالهراوات والعصى والأسلحة ويثخنهم ضربا و قتلا.
كان الحاكم العام بوجهه القبيح وصوته الأجش وعيونه المركبة، التي تتحرك في كل إتجاه. كعيون الذباب الأخضر.. هو المطلوب رقم واحد لعدالة العالم, بين حكاما قلائل. فالعالم نادرا ما عرف حكاما متهمين بجريمة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في حق شعوبهم!
الزعيم الطائفي الذي آلت إليه مقاليد حكم سهل البلاد الكبيرة، قبل أن ينقلب عليه الحاكم العام، ذات فجر مكفهر.. في البدء رحب به الأهالي كثيرا، وأستبشروا بعهده خيرا. وكانوا يستمعون إلى خطاباته المملة، لساعات طوال في محبة. وقتها كان الخزين المستلق طوال الوقت على "برشه" في "الراكوبة" أمام "كرنكه"، لا يفتأ يحذرهم من وعوده الزائفة. إلى أن إنقلب عراب الإسلامويين عليه وعلى بطانته لفسادهم. ونصب الحاكم العام بدلا عنه. الذي ما أن مكن لنفسه، حتى نسى كل الوعود والتعهدات، وفعل بشعب سهل البلاد الكبيرة ما لم يفعل الحداد. فأخذ الناس يتذكرون من وقت لآخر تحذيرات الخزين القديمة، بعد أن تبين لهم أن لا خير في هذا أو ذاك!
وبعد أن عاد المطاريد والنازحين واللاجئين، من المنافي البعيدة بعد عشرات السنوات. وكونوا في البلاد الكبيرة مستعمرة جديدة، لإحياء ذكرى الأسلاف.. عادت البلاد الكبيرة مرة أخرى سيرتها الأولى! اللامبالاة!
"البلاد الكبيرة حالة ميئوس منها!"
يقول أحدهم فيغرق الجميع في الصمت.
كانت اللامبالاة في سهل البلاد الكبيرة، تتفشى فتشمل الشجر والحجر والطير والحشرات والزواحف، وعموم الحيوانات. بل وطالت حتى رموز التاريخ الوطني الوفيات منذ عهود سحيقة! فقد تراكمت وقائع أخطائهم، وأنفجرت بوجه الجميع، لتمزق أراضي السهل. دون أن تنتاب أحدهم حيرة أو ذهول أو أسى أو ندم، أو أي نوع من أنواع المشاعر الإنسانية أو الوطنية فقط: اللامبالاة والتبلد! كأن سهل البلاد الكبيرة ليس سهلهم, وكأن البلاد الكبيرة ليست بلادهم؟! كانت أحاسيسهم قد تعفنت، وأرواحهم قد نخرها السوس بعد أن قولبهم الحكام العامين والزعماء الطائفيين المتعاقبين، فلم يعودوا يشعرون بشيء!
كانت المهمة الأولى لصانع الفخار فيما بعد هي: أن يبرهن لنفسه ولهؤلاء، أنهم لا زالوا يملكون إحساسهم بما يجري حولهم. وأن بإمكانهم أن يهتموا بهذا الذي يجري، فيتمكنون من إصلاح حالهم وحال السهل!
لطالما خطر على بال صانع الفخار، منذ بدأ يعي حالة اللامبالاة والتبلد العام، في طفولته الباكرة، سؤالا ملتبسا. أيهما اللامبالي: هو أم سكان سهل البلاد الكبيرة؟ وهل اللامبالاة وباء أم حالة عارضة أو متأصلة كالصفات الثابتة؟ أم رغبة للتعويض النفسي، عند الفشل في الإجابة على أسئلة البلاد الكبيرة الوجودية المحيرة التي يطرحها واقعها كل يوم؟
الفضاء العام الذي كان يحيط بأحد صانعي الفخار المتعاقبين في كل عصر، حتى لحظة وقوعهم في قبضة عسس الزعيم الطائفي أوالحاكم العام، أقل ما يوصف به أنه معقد ومتشابك الوقائع والأحداث. بدء به هو نفسه: جادين جانو.. بهويته المصاغة في مجتمعه المحلي، في إطار الهوية العامة للبلاد الكبيرة. والتي كانت أشبه بمجموع هويات متباينة نشطة، داخل حقل الهوية العامة، غير محددة الملامح! ثم نظام التعليم العام، والمعارف التي إستقاها من الخزين ود طبلة.. وهكذا كانت تفاعلات كل هذه العناصر داخله، لا محالة تفضي للأسئلة، التي شغلت باله وبال كثيرون غيره في البلاد الكبيرة والجوار عبر العصور!
كان عندما لا يجد إجابة، يشعر بالإحباط. ويبدأ مرة أخرى جادا في البحث عن إجابات، تهديء صبواته!
بعد أن آل أمر البلاد الكبيرة للطوائف والجماعات.. سطع نجم صانع الفخار، كخطيب أريب بين مفترقات الطرق والأسواق الصغيرة ومنعرجات الدروب. فأصبح له مريدون في كل مكان يحل به. ولم تكن حكومات الطوائف والجماعات، بقادرة على فعل شيء ضده يوى إعتقاله، حتى تلك اللحظة التي قضى فيها عراب إسلامويي البلاد الكبيرة عليها. ذات فجر معتم! معلنا عن بدء عهد الحاكم العام!
وقتها كان صانع الفخار في ذروة كفاحه، ولم يعد بحاجة لإرتياد خلوة الخزين ود طبلة، التي فارقها منذ وقت بعيد بعد أن نهل من معارفه ما نهل.. وهو الوقت نفسه الذي فجرت فيه الجماعات والطوائف المخلوعة من قبل العراب و الحاكم العام، حروبا أهلية طالت كل أطراف سهل البلاد الكبيرة، ووضعت صانع الفخار بمواجهة أكبر أسئلة حياته.. سؤال البقاء والإستمرارية على قيد الحياة.
فما أن تم إطلاق سراحه حتى هرب إلى غابات دار الريح ووديانها،. يحرض الأهالي على الثورة ضد الحاكم العام، الذي كان بدوره قد أعلن عن مكافأة كبيرة، لمن يرشد عنه. وقتها كان التعب والإرهاق قد نالا منه، بسبب هروبه المتواصل. وعدم تناول ما يكفي من طعام وشراب، فسقط مغمى عليه في دغل من أعشاب النال، تحت إحدى أشجار القمبيل. على أطراف إحدى بلدات دار الريح. وعندما أفاق، وجد نفسه مغلولا بالسلاسل وحوله الجند، وجموع الأهالي محتشدين!
وفي الليلة نفسها بعد أن صلب وأحرق، وطافت روحه بأركان وفضاء البلدة القديمة. خسف القمر فخرج الأهالي يقرعون على الطبول يطلبون الرحمة! وثارت ضوضاء داخل أنداية مستورة كحل الليل والإندايات المجاورة، فهرع حمد الأعرج يسأل عن الخبر:
"الحكاية شنو يا مستورة يا خيتي"
"ماك سامع؟ القمر "خنق" والله الزمن ده الناس عمايلن بقت كعبة. خلو زيارة الفقرا وخلو ضبح الكرامة"
فقاطعها حمد الأعرج:
"أبدا والله السبب منكن إنتن ديل ستات المريسة"
"سجمي! كيف مننا نحنا يا حمد؟"
إنتن الزمن ده قاعدات تزيدن المريسة موية، عشان كدي القمر خنق، والله يستر بعد ده على الشمس"
في النهار التالي لخسوف القمر، لم يكن للإندايات سيرة سوى ما دار بين السرة كحل اللسل ومحمد الأعرج.
ووفقا لما ذكره زميله عامل المطبعة للخزين، أن خسوف القمر كان بسبب الفساد الذي إستشرى في البلاد الكبيرة، وأخذ يتآكلها كما تأكل النار الهشيم!
وهكذا أخذ يحكي له ما يدعم رأيه على خلفية تاريخه السابق في الحزب الحاكم، أن زوجة أحد الضباط الكبار تعرفت على أحد زملائه من الجند الذين يستدعون لحراسة مناسبات الضباط، وتطورت علاقتها به، فأصبح في غياب زوجها في مناطق العمليات، يعاشرها معاشرة الأزواج، تارة في بيتها خلسة، وأحيانا كثيرة خارجه.
وكان من الواضح أنه يتقاضى مبلغا ماليا عن "مجهوداته" فظن أن من حقه طلب المزيد بعد أن عانى الكثير من مهمته كحارس مناسبات ومكلف بمهام أخرى ترهقه كثيرا!
الأمر الذي أدى إلى حدوث مشاجرة بين العشيقين، تأثرت زوجة الضابط بالحادث وغضبت غضبا مستطيرا على خليلها فانقطع حبل الود بينهما، إذ شعرت بأنه خدش "كبريائها" ولم تنس له ذلك، فتم العثور على جثنه التي إخترفتها عدة رصاصات, في السوق الصغير الورا، خلف مقابر ود أمجبو! وكالعادة في مثل هذه الحالات قيدت القضية ضد مجهول!
Ii
بعد أن يفك حمد الأعرج ريقه بعبار مريسة، من إنداية السرة كل صباح. يتوجه إلى سوق ود أمجبو. حيث يلتقي برفاقه "السكارى" وتدور بينهم الحوارات المعتادة، إذ يقول عبد الله أب فاطر:
"وين يا زول علي الطلاق، الليلة حليمة الفدادية، عندها مريسة تسكر الحجر. مريسة حمرّة زي عين الديك.. ها ها ها..."
"أقيف يا زول علي الطلاق، أنا بشرب لي أربعين سنة، ما شفت زي مريسة مستورة كحل الليل. حرّم فكيت الرِّيق بفرد قرعه، وهسه شايف الناس رِّهاب رِّهاب، وأضاني طِرشت تب"
"ها زول. حرّم تندم. وتقول ضرّاني. أرح معاي"
"عليك يمهل وعلينا يسهل – كل زول بيعجبو الصّارو"
ويقضي حمد الأعرج حاجياته في السوق سريعا وهو يسعى لإرسال إبنه بها إلى البيت:
"الأمين أخوي وصل معاك الولد ده البيت"
"خبارك إنت متأخر ليه؟"
عايز أمشي أجز الحمار. وبعدين أغشى الفقرا داير لي حجاب"
"أوعك يا عم حمد من "الهناية" ديك.. فيمرر يده على لحيته وهو يقول مستنكرا:
"أبوك يا محمد بعد العمر ده كلو"
"خير، في وداعة الله. أركب يا ولد في الكارو"
وبينما يمضون بإتجاه الحلة يتخذ هوطريقه متسللا، إلى إنداية السرة كحل الليل، في أطراف البلدة القديمة بعيدا عن سوق ود أمجبو.
كلمة "ود أمجبو" التي إقترنت بإسم الكنيسة العتيقة عند مقرن النيلين، هي في الأصل كلمة "الجب" ذات نفسها، بمعنى البئر! فود أمجبو فضلا عن كونها محل مورد ماء أهالي البلدة في العصور القديمة. فهي في العصور الحديثة مقابر أولئك الأسلاف، الذين كانوا يردون إلى بئرها للتزود بالماء! وهكذا بعد أن غادر المستعمرون الإنجليز سهل البلاد الكبيرة، أصبحت ود أمجبو وصفا دقيقا لهذه البلاد الفاشلة!
على أنقاض المعابد النوبية القديمة أنشأ يهود البلدة القديمة، على أرض ود أمجبو معبدا كبيرا. حلت محله المبان الجديدة التي توسعت فيها،كنيسة المقرن العتيقة، بعد أن هجر اليهود البلاد على عهد الحاكم العام الثاني، بعيد الإستقلال، إثر تآمر الطوائف و الحكام العامين حتى على مقابرهم! التي قاموا بمسحها عن ظهر الوجود، وأنشأوا محلها الحوانيت والمطاعم ومحال المرطبات!
إذن كنيسة ود أمجبو التي أنشأها الخزين الجد، والتي إنطوت ذاكرتها على ماضيها النوبي واليهودي، في ماضيها العريق، نهضت على مساحة واسعة من أراضي ود أمجبو، وتوسعت أكثر، على عهد الحاكم الروماني نيرون في القرن الأول، بعد صعود المخلص يسوع بإسبوع واحد، إلى السماوات العلي.
مخطوطات صانع الفخار تقول أن ود أمجبو هو إسم الخزين الجد نفسه! قبل أن يعرف بإسم الخزين ود طبلة. في ذلك الزمان السحيق. والذي كان قد كتب أول مخطوطة، ظلت مرجعا مهما في العصور اللاحقة، عن تاريخ البلاد الكبيرة. ما يفسر كثير من العادات والتقاليد، التي لازمت أهل البلاد الكبيرة حتى الآن. كتعميد المختونين والعرسان والنساء في أربعين النفاس،في النيل. والإحتفاء بسعف النخيل، ورسم الصليب بالكحل على جبين المواليد الجدد.
فقد كان لكنيسة ود أمجبو، تأثيرا كبيرا على لاهوت البلدة القديمة، وفي تكوين شخصية سكانها. بتكريس قيم التواضع والمحبة والتسامح والعمل الجماعي. إذ كانت مدرسة قائمة بذاتها، كما أشارت مخطوطات صانع الفخار. حتى أن قديسين كثر من كل أرجاء المعمورة، كانوا يحرصون على زيارتها، لتبادل الأفكار مع قسستها. حتى أن بابا الفاتيكان، الذي يتم إختياره بعد موت أو عجز كل بابا، كان لا ينصب ما لم تتم مراجعة كنيسة ود أمجبو.
برع قسسة كنيسة البلدة القديمة، في إنشاء الترانيم وصناعة الأياقين وتأليف الموسيقى وصناعة الأنسجة، والمشغولات اليدوية. الأمر الذي قاد مدرسة الكنيسة، إلى تطوير اللغة "المرّوية" من لغة شفاهية إلى لغة مكتوبة، تزامن مع ذلك إتباع أسلوب في الحفر على الخشب، ليستخدمه المكفوفين في القراءة والكتابة، قبل ميلاد السيد برايل بأكثر من خمسة عشر قرنا! وهكذا مع تحويل اللغة "المروية" إلى لغة مكتوبة، ظهرت العلوم والآداب، التي تلغفها العالم بشغف، قبل أن يقف طويلا، ليتأمل الطابع المأساوي لحياة البلاد الكبيرة، عبر التاريخ! كما عبرت عنه فنون مدرسة كنيسة مقرن النيلين! وهكذا كانت كنيسة البلدة القديمة، تشعر دائمًا بتفويض إلهي، كي تُصلِح الخلاف المعقد بين كل الكنائس والأديان.
وقد قيل عن أساقِفة البلدة القديمة، أن التحولات التي طالت البلاد الكبيرة، بدأت مع إهمال القسسة للإعتكاف والتعبد والتأمل. وإنشغالهم بالإجتماعات واللقاءات بالسياسيين أسلاف الثلاثة الكبار! إذ بدأ دورالبلدة القديمة الريادي عندئذ يتقلص. كانت بداية هذا الأمر عندما إبتدأ الحاكم العام الجد التدخُّل في شئون الإيمان بالكنيسة. وقد كان رد أساقفتها في البدء:
"أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"
منذها بدأ الحكام العامون يخوضون حربهم المقدسة، لثني الكنيسة عن عزمها. فأعتقلوا وعذبوا ونفوا الكثيرون من القساوسة. الذين لم يقابلوا ذلك بمقاومة عنيفة! إذ كانوا يحرصون على التكرار في مخاطبة رعاياهم:
" رُدّ سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون"
وهكذا -منذها- مضى الحكام العامون في حربهم الشرسة، التي بلغت ذروتها في إتهام كنيسة البلدة القديمة، بإتباع تعاليم الديانات السابقة للمسيحية بالتالي الهرطقة!
ومضوا يخططون لإحتكار الدين لأنفسهم، بدلا عن القساوسة. ليتمكنوا من تكريس حكمهم في البلاد الكبيرة إلى الأبد!
فقادتهم أفكارهم الشريرة إلى أن هذا لن يتحقق، إلا بأن يُبطلوا القوانين المستقلة للكنيسة، التي كان قساوستها يصرون على أن تكون منفصلة عن الدولة. وبالرغم من كل هذا، فقد ظلّ قساوسة كثيرون مخلصون وثابتون على إيمانهم بفصل الكنيسة عن السياسة.
وإذا كان ما حدث مجرّد مؤامرة من الحكام العامين، الذين تعاقبوا على البلاد الكبيرة،كعقاب للكنيسة لرفضها الخضوع السياسي. فمن الجانب الآخر أحنى قساوسة كثر رؤوسهم لعاصفة الحكام العامين! وأصبحوا علماء لهم. يبررون لهم الجور والإستبداد ويمدونهم بالزرائع! بل وحولو الكنيسة إلى أضخم مركز إستخباري شهده التاريخ من خلال "الإعتراف"!
فخر كنيسة البلدة القديمة كان دائما هو الإضطهاد، الذي بدأ قبل قرون طويلة. عندما إسْتُشْهِد القديس المُبَشِّر الخزين الجد، بعد جَرّه من قدميه عن طريق جنود الحاكم العام، الذين جابوا به كل شوارع البلدة القديمة وزِقاقاتها. مفتتحا عصور إضطهاد القسسة وأهالي البلاد الكبيرة المؤمنين! على يد كل الحُكّام العامين المتعاقبين. لدرجة أن قساوسة كثر، كان يتم تعذيبهم ونفيهم حتى على يد أخوتهم المسيحيين.
عندما بدأ العرب يتوافدون للمرة الأولى، وبعد أن إحتلتت جيوش الأتراك والمصريين سهل البلاد الكبيرة، في المرة الثانية، على عهد خلافة الأتراك. ومن ثم تلى ذلك إحتلال المصريون والإنجليز للبلاد الكبيرة في المرة الثالثة.. أعلنت هذه الأحداث أن ثمة تغييرات كبيرة وحاسمة، على وشك الحدوث في البلاد الكبيرة!
بهدوء, ولكن بإنتظام, تغيَّر وجه البلاد الكبيرة الغالِب، وأصبحت غالبيتها إسلامية في مطلع القرن التاسع عشر. وهكذا وجد المسيحيون وأصحاب الديانات الأخرى، أنفسهم مواطنون من الدرجة الثانية! في سياق التهميش العام، الذي تم عبر سلسلة معقدة من التحالفات وعلاقات المصاهرة والإجراءات والقوانين، عبر تاريخ البلاد الكبيرة.
في الأيام التي تلت مقتل صانع الفخار، والإختفاء الغامض للخزين، كانت البلدة القديمة لا تزال متلفعة بكل أنواع المشاعر الغريبة! فقد بات هواءها مختنقا وتربتها قاحلة، وأشجارها جافة متساقطة الأوراق.. سماءها قاتمة. وكل شيء فيها يفوح بروائح التحلل والعطن.. حتى الناس في دروبها الضيقة، كانوا بدلا عن التحايا، يتبادلون السباب والشتايم البذيئة المقذعة.
كما أن أسراب الطيور المهاجرة، التي جاءت على غير موعدها- فقد كان الوقت نهاية الصيف "القيطوني"- الذي إتسم به هذا الجزء من كون مهدد بالزوال.. غيرت رأيها و هاجرت مرة أخرى، عائدة إلى موطنها!
كان ذلك الصيف الصاهد، الذي شهدت إحدى ظهيراته المنصرمة, مقتل صانع الفخار، عطنا.. متسخا.. مخيفا وغريبا إلى أقصى حد، دونا عن كل فصول الصيف، التي تعاقبت على البلدة القديمة، عبر تاريخها العريق. حتى أن مقابر "ود أمجبو" المجاورة للسوق "الورا"، في الصبيحة التي تلت مقتل صانع الفخار، فوجيء بها الأهالي كلها منبوشة! وأرماث أسلافهم من الموتى الأماجد، قد إختفت في غموض تام! دون أن يجدوا لذلك تفسيرا!
واللافت للنظر أن ثمة تغييرا لم يطرأ على حياة الإندايات. بل إزداد عدد روادها الذين كانو يجيئون من كل فجاج البلدة القديمة، لفض إكتئابهم مؤقتا، بالغزل في نساء وبنات بعضهم البعض، عندما يبدأ أحدهم بمدح المريسة والمزّة، فيعقبه الآخر:
"ينصر دينك يا مريسيلا.. أهو كده ولا بلاش"
فيرد عليه آخر:
"هو في حد يقدر يعمل البن زي مريسيلا"
فيقاطعه آخر:
"الكلام موش البن.. الكلام مريسيلا ذاتها.. أحب الله ديني أنا يا الأعرج..
فيبتسم جبارة الهنباتي ويقول:
"أموت أنا في مريسيلا، وخدود مريسيلا، وعيون مريسيلا"
وسابل الستر زوج مريسيلا جالس لا يتفوه بشيء، كأن شيئا لم يكن! فتقطع عليهم عشمانة الساقية حديث الغزل والضحك العالي والخفيض، الذي تشوبه خشخشة الصدور، بتأثير تدخين التبغ القمشة، الذي كانوا يلفونه أثناء جلستهم، بأيادي راعشة،لا تعرف أصابعها الناحلة الثبات، إلا عندما يمسك أحدهم ورقة لف التبغ، ويبرمها وأعضاء شلته من حوله يتصايحون:
"أهو كدي إنعل أبو البحاري ذاتو"
"وحياة سيدى الحسن تلف واحدة تاني"
"الله يحرق ميتينكن. أنا مكنة. أما كلام فارغ"
ينصر دينك، إنت مكنة ونص"
"بطل الكلام الفارغ يا شيخ، وأدينا كاس"
ويبدأ التوم ود أب قرن في سرد حكاية جديدة من حكايات البلدة القديمة، فبعد أن يتنحنح يقول للأذون المشرعة الظمأى لهذا النوع من المسامرات:
" حرّم الناس الليلة في سوق ود أمجبو, ما عندهم كلام غير الخفير وحرمه"
"ياتو خفير؟"
"خفيرنا السابق للجوار، قبال تعديلات الحاكم العام الآخيرة"
فيضحك حمد الأعرج:
"حرّم كلامك صاح، سفاراتنا برا كلها مع نظام السجم ده أصبحت خفارات.. المهاجرين من البلاد الكبيرة في الغربة، يموتو من الجوع والبرد وما في خفير واحد يجيب خبرهم"
"البرّا براهم الكاتلهم الجوع والبرد.. الناس الجوه ذاتهم كل يوم يومين جثتين وتلاتة من الجوع"
"الملعونة مالها؟"
زوجة الخفير المعني عرفت بين ملأ البلدة القديمة، أنها لا ترتدي عندما تزور البلاد الكبيرة في الإجازات،سوى اللباس المحتشم، الذي يليق بزوجة مسئول يمثل البلاد الكبيرة في الخارج، لكن بمجرد أن تضع قدمها خارج البلاد لكبيرة، تنسلخ عن جلدها وتعود امرأة أخرى غير تلك التي تعرفها البلدة القديمة!
فعند مصب النهر في الجوار، تتفنن في ارتداء الثياب القصيرة الضيقة الشفافة، التي تكشف كل شيء دون أن تخفي أي شيء! وحسب أحد العاملين في الخفارة الذي بأمر من زوجها كان يرافقها لحراستها وخدمتها وتسهيل كل شيء لها، يقول التوم ود أب قرن:
"كانت تتصرف وتبدوا أكثر "تحررا" و "انفتاحا" العاهرات، بل تقوم أحيانا كثيرة بممارسات لا تقبلها العاهرات!
إذ تقضي سهراتها في العوامات التي في النيل والكباريهات والملاهي المشهورة باستقبال المثليات، كما أنها تفضل النزهة في بعض الشوارع التاريخية في وسط البلد، التي تعتبر مكانا مفضلا للمثليات، وفي جعبتها سلسلة من المغامرات في أكثر من مكان"
ومع ذلك كانت دموع نساء البلدة القديمة الشريفات، عندما تطرق مثل هذه الحكايا أذونهن، تفيض مرارة، وتصبح نهرا هادرا، لم تكن دموعهن مجرد دموع فحسب.. إذ كانت تخدد في الأرض, طرقا جديدة لشعب البلاد الكبيرة, الذي هيمن عليه الحزن العام!
Iii
في تلك الظهيرة التي أحرق فيها صانع الفخار في فناء الكنيسة. كانت زوجات الحاكم العام العديدات، بإستثناء صغراهن، تفقن للتو من نوم عميق. كن لحظتها يشعرن، كما لو أن سعادة الدنيا كلها تجمعت في أحلام ليلة البارحة. التي هي ذكريات سرية مع عشاقهن العديدون. وهكذا مضت صغراهن، تدغدغ صدرها وفخذيها بحنو، ليندفع الدم حارا في شرايينها، فترتخي أعصابها المشدودة، مع الفرقعة المكتومة لغصن النيمة، التي ناءت بأسراب الطيور المهاجرة، التي كانت قد قررت الرحيل!
لحظتها إمتد شعاع الشمس، مخترقا غشاوة السماء الغائمة، عابرا خلال نافذة غرفتها، فأحدث في نفسها، تأثيرا غامضا. أشعل فيها المخاوف والهواجس والظنون. إذ بعد ذلك خيّم على فضاء البلدة دخان أسود! نبع من مكان مجهول في الفضاء الرحيب. فشدت صغرى زوجات الحاكم العام صدرها بتكاسل، تحاول أن تقاوم في تثاؤبها المتكرر، بقايا نعاسها، دون أن تكترث!.
كان كل شيء حولها لا يزال عبقا بأحلامها الليلية الجريئة: الضوء الخامل، وحفيف أوراق شجيرات الجهنمية الحمراء، في باحة القصر الرئاسي.. خرير الجدول الذي تتكيء على شفته، غرفة أحد الحراس من عشاقها السريين، وآثار البلل التي جفت على أوراكها الممتلئة!
الطريقة التي أعدم بها صانع الفخار، رسمت في أذهان الأهالي، إستفهامات لا أول لها ولا آخر، كان في مقدمتها طبيعة علاقتهم بهذه البلاد.. البلاد الكبيرة. وهكذا قادت هذه الأسئلة دار الريح، لتصبح مستودعا ضخما للسلاح.
وفيما شهده ذلك العصر أيضا، الإنتعاش الرهيب والرواج الكبير لهذه التجارة. كما شهد شيوع القتل والحروبات والدمار والخراب، الذي طال كل شيء. بعد أن إمتلأت دار الريح بالسلاح، حتى فاضت بكل أشكال وألوان المليشيات والغزاة من دول الجوار!
كان واضحا أن دار الريح تتعرض لمؤامرة محلية – إقليمية ودولية مربكة! فقد أصبح الأهالي الذين فتنهم الحاكم العام, ليقتلو بعضهم البعض منقسمين.. يميزون أنفسهم وفقا لهوياتهم وسحناتهم وعقائدهم الضيقة! لم يعودوا يشعرون بإنتمائهم جميعا لسهل البلاد الكبيرة, بذات القدر!
في مثل هذا المناخ اللعين، إكتشف الخزين الحفيد، أن الأشكال المتعددة للجماعات والطوائف، قد أستغلت لتحقيق مصالح إثنية وطائفية، تتعلق بمجموعة الحاكم العام والثلاثة الكبار وأقرباءهم في الجماعات والطوائف. وهكذا كانت تلك نقطة البداية للخزين الحفيد، ليبحث في الإجابة عن سؤال الذات.
وهكذا إعتزل الخزين الناس، وأختفى في وديان دارالريح، ولم يظهر إلاو جند رئيس الوزراء المخلوع يعتقلونه على خلفية تظاهرات عارمة، قادها صانع الفخار! لكن ما أن طلق سراحه بعيد الإنقلاب على رئيس الوزراء، حتى مضى يحرض الأهالي إلى أن نال منه التعب, وأعتقله الإنقلابيون!
عندما بلغ صانع الفخار الحفيد سن المراهقة، حاول أن يجيب عن الأسئلة التي كانت تقض مضجع الخزين، ولمعرفته بأن شعب البلاد الكبيرة لا زال يؤمن بالدجل والشعوذة، قام بكتابة رقي وتعاويذ ب"العمار" على لوح خشبي، ثم غسله في النيل بالمريسة. ليشرب منه أهل السهل.. ثم فعل الشيء نفسه في وديان دار الريح، حتى يتأكد أن ما من كائن حي في البلاد الكبيرة، إلاو قد شرب من هذه الرقي والتعاويذ المذابة في المريسة و الماء!
وهكذا فوجيء ذات صبيحة باكرة، ريانة بدعاش طمي النيل و"همبريب" الوديان، المشبع برائحة "السعدة والسناسنا وصندل الردوم" بأرض سهل البلاد الكبيرة من أقصاها إلى أدناها، ترتج وتتزلزل بإيقاعات هي مزيج من "الكمبلا والمردوم والتم تم والجراري والشاشاي" و.. إيقاع واحد ومتوحد يتخلله غناء عذب بكل لغات البلاد الكبيرة! كان السكان كأنهم يفيقون للمرة الأولى منذ آلاف السنوات!
منذ أن سمع جادين جانو بتلك النبوءات البعيدة، التي هي في الحقيقة جزء من تاريخ البلاد الكبيرة، وسيرتها ومسيرتها. ظلت تداهمه ذات الخواطر، التي كانت تداهم صانعي الفخار. كما كان هو يتخيل خواطر صانعي الفخار!..
فصانع الفخار الحفيد منذ طفولته الباكرة، هيمنت على حياته تلك الرؤى الغامضة، عن الحياة والموت والكون وأسئلته المعقدة!. الرى ذاتها التي راح في غيبوبتها لثلاث أيام عندما أنجبته أمه للتو وقتها! فانهمك تحت وطأتها-عندما كبر- مشكلا الطين، أشكالا لا تخلو من نبؤات محتملة. أسهمت في تشكيل حياته وحياة من حوله. بل وحياة "جادين جانو- الحفيد"، الذي كان يتراءى له خلال الوجوه الملتفة حول الخزين!
من عاداته التي لم يخالفها يوما واحدا منذ طفولته الباكرة وتسفاره. حتى اللحظة التي سبقت مقتله حرقا في ساحة كنيسة "توتي" العتيقة المطلة على مقرن النيلين.. هي وقوفه عند كل صباح.. عند شروق الشمس. متأملا سهل البلاد الكبيرة الرسوبي المنبسط، على مد الأفق المترامي، بإنحداره الطفيف.
كان يرى بعين خياله كل المرتفعات التي تتخلله: الغابات، الجبال، التلال، القيزان والجروف الصخرية.. كان يرى النيل الذي يشق السهل قسمين، كفلقتي نواة واحدة. فيقول في نفسه كمهووس بالفخار:
"ترى كيف تكونت هذه التربة، التي سقتها دماء الأسلاف عبر آلاف السنوات؟!..
التربة الرملية في إقليم الصحراء وشبه الصحراء، في السافل ودار الريح؟.. بهشاشتها وإفتقارها للخصوبة.. ترى كيف تكونت هذه التربة الطينية في الوسط ودار صباح، الغنية بالخصوبة والجمال الأسمر.. ترى كيف تكونت هذه التربات الحديدية الحمراء، منخفضة الخصوبة والقابلة للتدهور في الصعيد..
وهذه التربات الرسوبية السلتية على ضفاف النيل.. وأشقاءه من أنهار دائمة وموسمية.. ووديان تتخلل سهل البلاد الكبيرة الواسع.. الممتد.. بخصوبتها العالية بسبب الطمي، الذي يجددها كل عام.. وهذه التربة البركانية الخصبة في دار الريح، وما تمثله من لغز محير في عالم الطين والخصوبة؟!!.. يتنهد الخزين وهو يتجرع من برمة الأرباب كاسا مترعا بالمريسة مربوطة الزبدة:
" كان صانع الفخار إذن مغرما بالطين وكل ما يتصل به!"
فيتردد في فضاء ذاكرته صوت منصورة:
"لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة"
ما أن تناهى إلى مسامع الخزين، خبر مقتل صانع الفخار. حتى شعر كأن نفحة قوية من اللهب، تشوي جلده و تحرق عظامه. لحظتها فقط.. فقط لحظتها.. شعر بكم هو طاعنا في السن.. ووحيدا وبائسا إلى أقصى حد.
في الحقيقة الخزين الذي ما أن بلغ سن الأربعين، منذ عشرات السنوات. حتى توقف تيار الزمن، ولم يعد العمر يتقدم به ولا يوما واحدا. يشعر الآن بنفسه، كقلعة قديمة قاومت كل آثار السنون لتنهد وتتهدم الآن.. الآن فحسب!
عاد بذاكرته إلى الوراء.. أيام صباه.. عندما أرتحل إلى دار الريح، لينهل من معارفها، وعاد بعد سنوات طويلة، لينبهه أهالي البلدة، الذين وجدهم قد طعنوا في السن، أنه كما هو لحظة فارقهم!.. كانه لم يلبث بعيدا عنهم سوى يوما أو بعض يوم.. كأنه خرج بالأمس فقط وعاد! ومنذها أخذ يلاحظ، الخطى البطيئة لسنوات عمره، إلى أن توقفت بإتئاد عندما بلغ سن الأربعين! الآن يشعر بأن كل السنوات، التي أغفلها الزمن تتجمع لحظة واحدة، فتخترق عظامه ووحدته وأساه! فيتقوس ظهره ويحدودب!
لم يتزوج الخزين ودطبلة مطلقا كما كان شائعا عنه، لكن في الحقيقة لم يكن ذلك صحيحا!. ربما شاع ذلك بسبب نذره حياته لمريديه، الذين يتحلقون حوله كل يوم, لينهلوا من معارفه الواسعة. لا تتغشاه الوحدة، حتى بعد أن ينفضوا من حوله. إذ يخلفون وراءهم أطياف حكاياته وأسئلتهم، التي يظل يسامرها، إلى أن يطل يوم جديد، فيجيء المريدون مرة أخرى ليلتفوا حوله.. كان مجلسه عامرا دوما بالأصدقاء و البصاصين والعسس والمجاهدين المزعومين وأشباههم!.
في اللحظة التي جاءه فيها خبر مقتل صانع الفخار، كان للتو قد أنهى ترتيبات زواج صانع الفخار مع أم منصورة. صرف المريدين الذين تحلقوا حوله بإشارة من يده، وأختلى بنفسه لحين من الوقت. قبل أن يمضي إلى إنداية السرة كحل الليل لا يلوي على شيء!
في اللحظة ذاتها كانت منصورة تستعيد قلق و أرق ليلة البارحة! وتلك المشاعر الغامضة التي إنتابتها.. الآن.. وعلى حافة الموت، تكشفت كل المشاعر الغامضة عن مكنوناتها، وفارقها ذلك القلق الذي إستبد بها لوقت طويل، بعد أن تسلل إلى أعماقها، و أحكم حصاره على مشاعرها.
كان وجه منصورة يستحيل الآن، إلى كيان جامد. ليس له شبيه.. ليس بالإمكان عبره قراءة حقيقة ما يجول في خواطرها الملتهبة. إذ كان وجهها لا يفصح عن شيء محدد البتة، مع أن كل من رآها لحظتها، كان يعلم أنها تخبيء خلف جموده، آلام وعذابات من المستحيل كبحها! كما لو أنها قد حلت محل قلبها، وراحت تضخ في شرايينها الأسى والعذاب، اللذان لا حدود لهما.
كانت منصورة تعلم أن من هو مثل صانع الفخار لا يخشى الموت، وكذلك كانت تعرف منذ وقت بعيد، أن هذا اليوم آت لا محالة، وأن لا مفر منه.
"لقد فعل كل ما ينبغي عليه فعله"
همست لنفسها.. وهي تعزي نفسها، في أنه لم يمض إلى حتفه, دون أن يخلف للقادمين آثاره.. فالمنحوتات التي خط عليها صانع الفخار رموزا معقدة، هي الشفرة لهوية البلاد الكبيرة، والتي تم التواطوء عليها من قبل الحكومات المتعاقبة المسماة وطنية، وغالبية أحزاب البلاد الكبيرة، وعدد كبير من المثقفين والساسة وقادة الرأي العام. إلى جانب منظمات طوعية، وأحزاب دينية إحتيالية، وطوائف إشتهرت بإستغلال الدين في السياسة؟!
جادين جانو المهووس بجمع أعمال صانع الفخار، وكشف أسرارها على الملأ. بدأ رحلة بحثه عن منحوتات صانع الفخار الأكبر.. المتفرقة في كل أنحاء البلاد الكبيرة، بالبحث عن ذاته والتعرف عليها، بحيث أصبحت ذاته هي نقطة البداية، لسبر أغوار سؤال الهوية المشفر في منحوتات صانع الفخار، التي في الوقت الذي خلى المتحف الوطني ودار الوثائق المركزية منها تماما، تفرقت ما بين الخزائن الخاصة للسياسيين الفاسدين، ومتاحف العالم الواسع، لكون مهدد بالزوال في أية لحظة! نتيجة الحروب والأوبئة وكوارث الطبيعة، وفسادالحكومات وإستبدادها!
أكثر ما لفت نظره.. تلك المخطوطات القديمة، التي تعود بتاريخها، إلى الوقت الذي كانت فيه اللغة "المروية" هي اللغة الرسمية للبلاد الكبيرة. إذ لم تظهر الكِتابات بكلتا اللغتين المروية والعربية، قبل منتصف القرن السادس عشر، وفقا لمدونات صانع الفخار- الحفيد. الذي أشار إلى كِتابات ترصد التاريخ الإجتماعي والصوفي والطائفي على عهد السلطنة الزرقاء، ككتاب طبقات الخزين عتام, أو مخطوطة كاتب الطلبة، أو طبقات المرفعين راجل الليل أب كراعا برّا، وغيرها من الكتب القيمة و الهامة، التي ترصد أوجه الحياة المختلفة.
خبأ صانع الفخار أسرارا كثيرة في منحوتاته العديدة، عبر كل سنوات عمره التي عاشها منذ الطفولة. حتى مات مختبئا ومطاردا ومحترقا في ساحة الكنيسة الكبيرة؟! هذه الأسرار ستعبرعن نفسها عبر السنوات، التي تلت مقتله مصلوبا و محترقا!
كان صانع الفخار يستقي بعض موضوعاته في النحت، بإلهام خفي من أنبياء غامضين! يتراءون له في الحلم.. في الليالي التي يغيب فيها القمر، وتصبح أضواء النجوم شحيحة؟!.. فكانت هذه الأعمال بالذات تجيء مشفرة برموز،هي مرجع مباشر لإماطة اللثام، عن ما يريد أن يقول بالضبط في كل أعماله.
ومن نبؤاته التي راجت في العصر "المروي"، أن مملكة ستولد في سهول البطانة، مرتحلة من موقعها الأصلي. وبالفعل بعد عشرات السنوات، وبسبب البحث المتواصل عن المزيد من الطين الخصب، نقلت "كرمة" عاصمتها من "نبتة" إلى "البجراوية" جوار "كبوشية"، بعد أن وضح أن منطقة "البركل" الصحراوية، لا تفي باحتياجات السكان والحيوان، زيادة على ضيق الشريط الزراعي على النيل.
فالبجراوية مطلة على سهل البطانة، وهو سهل واسع. وأرضه خصبة. وأمطاره نسبياً غزيرة. كما أن مكنونات طين البجراوية تحتوي على خام الحديد، خصوصا في الصخور. بالإضافة إلى وجود أشجار كثيرة، يمكن إستخدامها، في إيقاد "كماين" صهر الحديد وصناعة الفخار..
"ليس في الأمر عجب!"
هكذا كان جادين جانو- الحفيد, يهمس في سره. عندما تنتابه الدهشة، إثر فك شفرة أي رمز من الرموز، التي حفلت بها مشغولات صانع الفخار. لكونه كان كفؤاً في علم الحركة، الرياضيات، التشفير، علم الخرائط والرسم والجمال.
كان صانع الفخار ولدى تأمله للنيل، يفكر في حياة الناس ومعاشهم، في هذا الجزء من سهل البلاد الكبيرة. كيف بإمكانهم أن يحيوا دون النيل.. فهم ليسوا كأهل دار الريح، الذين تمتليء وديانهم بمياه الأمطار والسيول المنحدرة عبر الصحراء من أعالي تبستي.. فهذا الجزء من البلاد الكبيرة.. النيل بمثابة شريان حياته. ودونه لا حياة لهم! وهكذا أفضت به تأملاته لوضع خريطة متكاملة، لأماكن الإحتياطيات الجوفية. التي تذخر بها البلاد الكبيرة. كما خط مشاريع سدود على وديان دار الريح، لإحياء نهر هور القديم، الذي يربط دار الريح بالبلدة القديمة, بمحاذة درب الأربعين، ليتخطاها حتى يصل دار الريح بدنقلا العجوز أيضا!
"لايبدو أن هناك حدوداً لعبقرية صانع الفخار!"
أول مرة تعرف فيها "جادين جانو- الحفيد على صانع الفخار الجد" عندما حدثه معلمه - الخزين ود طبلة- الذي عندما يتذكره الآن.. في قيده بأغلال العسس, يرى نفسه عابرا الفناء الكائن في قلب البلدة القديمة، يمشي بخطى متئدة في الزقاقات الضيقة، بعد أن يعبر السوق "الورا" ومقابر "ود أمجبو".. كان وقتها كأي طفل صغير متسخ ومعفر بالتراب، يعبر بلدة معزولة في الجغرافيا والتاريخ.. الله وحده يعرف كيف تكونت في هذه العزلة الغامضة! فالسياسيون ليس لديهم وقت لمعرفة ذلك! هو وحده -كما يعتقد في قرارة نفسه- يشارك الله هذا الإهتمام بالكيفية التي جاء بها هؤلاء ليصبحوا عشوائيين، لا مبالين!
عندما تفضي به أفنية البلدة الضيقة، إلى زواياها المفاجئة و"كوشها" يفارقه الإحساس بالإتساخ! كان يشعر بنفسه نظيفا جدا مقارنة بما حوله من أوساخ! وفي نهارات الصيف قد يستظل في طريقه بظل نيمة يتيمة. قبل أن يواصل المضي قدما، إلى حيث يسكن "الخزين ود طبلة"، الذي عندما يصله –غالبا- يجده يصارع إنهيار "الكرنك" الذي يعيش فيه. غير آبها لمواء القطط المرتعبة والكلاب المزعورة حوله.. والفئران التي لم تعد تبالي بأي إنهيارات حولها، بعد أن سارعت للإختباء عميقا في جحورها!
كان الخزين بوجهه المعروق والعرق المتقاطر على جبينه، كسيل تتخدده سدود التغضنات، ويحاول البحث عن ركن لم تطاله ركامات الإنهيار أو الحريق، ف"كرنكه" دائما في حالة إنهيار أو حريق.. ومع ذلك دائما هو هادئا ووقورا كأن شيئا لم يكن!.. كل شيء فيه يتبدى نحيلا. حتى شفتيه المبتسمتين في لا مبالاة كعادتهما..
يتحرك الخزين غير متعجلا.. إذ سرعان ما سيبني ما تهدم من جديد! فقد كان تجسيدا للحكمة الأزلية، التي وردت في نبؤة صانع الفخار الجد: "أنت من طين لتبني"!..
عندما يتجمع الناس في "النفير" لمساعدته في إعادة بناء "كرنكه" من جديد.. يسرد لهم، كيف تواجد في العالم الآخر.. فيروي لهم عن الأرضة والسوس، اللذان تخصصا في هدم "كرنكه" كأنه يحكي عن أمر معتاد لا غرابة فيه!
كانو يحبون طريقته في الحكي.. يأتونه من كل فج عميق.. من الدروب الوعرة و الشوارع الضيقة في البلدة القديمة، ومن الأحياء وراء السوق "الورا" وتخوم مقابر "ود أمجبو". بعضهم يجلب له طعاما وبعضهم يجلب ثيابا.. ويكتفي "الغتيتون كيتا فيه" بالسؤال:
"(لطالما حكيت لنا عن أن "السوس والأرضة" هما ما يتسببان في إنهيار "كرنكك".. فماذا عن حريق "كرنكك" هذه المرة؟)"
فيرد بهدؤ:
"أنه السوس أيضا"
كان الخزين عادة يجلس ليحكي للناس وهو عاري الصدر، لكن مع ذلك لم يكن ثمة من ينتبه لعريه أو كثافة شعر صدره! وكان دائما أمامه صحن لا يخلو من شرائح "شرموط الضان أو الكجيك الجاف"، الذي يقضمه بين آن وآخر في تلذذ وإستعذاب!
أحيانا يستلقي على جانبه في "البرش"، الذي يحرص أن يكون محاذيا ل"بنبره" العتيق، الذي لا يحركه من أمام مدخل "الكرنك" تحت ضل "اللألوبة" المعمرة، التي بمثابة شاهدا على عصور متعاقبة للحياة والناس، في هذا الجزء من العالم المهموم والحزين!
أصدقاءه وجلساءه الدائمون غير الوجوه الأخرى المتغيرة، ثلاثة: أعمى يحرص على إرتداء بدلة أعضاء الحزب الحاكم، رغم أنه لا ينتمي للحزب الحاكم. و مقعد أبكم يعطي جلساءه الإحساس المزمن بالقرف، ومدى إكفهرار هذه الحياة البائسة. وجادين جانو الحفيد بعقله الوقاد ونظراته الثاقبة. التي تشي بقدرتها على إختراق كل شيء تقع عليه!
يجلسون بالقرب منه مثل سلسلة. غير آبهين بمضايقة السابلة لهم.. أولئك العابرون من كل فجاج الأرض، وأيضا إلى فجاج الأرض.. عندما يتوقفون عن المسير، لنيل قسط من الراحة وشرب شيء من "المريسة أو العسلية أو الكانجي مورو!"..
كان جادين أحيانا، يدون بعض الحكايات أو الملاحظات كيفما إتفق.. في أي شيء يجده أمامه يصلح للكتابة عليه. لكن في الوقت نفسه كان لا ينشغل عن مراقبة كوة "القطية" المجاورة.. حيث تسكن منصورة.. الصبية ذات القوام الفارع النحيف الأسمر، التي كانت ترمي بأذنيها في مثل هذه اللحظات وتمددهما، لتحتويان كل حكايات الخزين ونبؤاته.
المرة الأولى التي رأى فيها جادين جانو منصورة، تكاد تكون مطابقة لأول مرة يرى فيها صانع الفخار الحفيد منصورة..إذ كانت الشمس في كبد السماء. والبلدة غارقة في قيلولة غائظة، لا حدود لها. سموم هجير الصيف، جعل البلدة ساعتها، كأنها قوز رملي نائي وبعيد عن كل شيء.. يغلي كأتون يحرق كل شيء، إلى درجة أن أحداً ليس بإمكانه أن يتوقع، أن يكون بوسع أي كائن حي، أن يغيّر مصيره في هذه اللحظة بالذات!
كانت منصورة دائما ما ترتدي على كنفوسها ثيابا بسيطة. تبدو غريبة للوهلة الأولى، إلى أن يعتاد عليها البصر! وكانت دائما ناعسة العينين كأنها لم تنام لقرون طويلة. وأكثر ما كان يميزها: إكليل "الريحان" الذي تضعه على رأسها، لامة به شعرها الذي تتركه حرا على سجيته دون مشاط!
يستدير جادين بوجهه الدائري الصغير، وملامحه الدقيقة، ولوهلة يحاول طرد الأفكار، التي تتحدر من رأسه. فتثقل على بصره. يتراجع!.. فيما يهمس إليها صانع الفخار بكيانه كله، دون أن تنبس شفتيه ببنت شفة! فتهرع منصورة بكل تألقها.. تقطع المسافة بين قطيتها ومجلس الخزين بسرعة الجن، وتجلس في الوسط بين جادين وصانع الفخار، الذي لا يشعر لحظتها بأي غرور ذكوري! إذ يكون وقتها محتلا بالألق وبالغبطة والرضا التامين!.
نساء القطاطي المجاورة.. العابسات السمينات العانسات اللعينات، يغرن من جمال منصورة! واللائي كن "كيتا" فيها، عندما يعاشرن أزواجهن أو عشاقهن، يتخيلن أن من يعاشرهن في هذه اللحظة، هو صانع الفخار بشحمه ولحمه!.. كن يضمرن لمنصورة كرها عميقا، إذ كن يشعرن بإختلافها عنهن. لكنهن لم يكن بقادرات على تحديد هذا الإختلاف! وعندما يعييهن التفكير، كن يتوهمن عشاقا على صهوات جياد بيض، يتراكضون لإنقاذهن من أبراج خيالاتهن المرتفعة! وكن يرين ظلالا لحدائق يتوهمن أنها جنات الخلد، ويرين أنفسهن حوريات، تجري في دوراتهن الشهرية رائحة المسك وليس الدم!
لو لم تكن للخزين مثل تلك الحكايات العجيبة، التي غذى بها عقول الناس، لما كانت لهن مثل هذه الخيالات الخارقة! و لما عشقن الخوض في الحكايات المزعومة عن منصورة وصانع الفخار، في الأماسي الطويلة للأيام، التي تلي مؤتمرات الحاكم العام!. فماعدا حكايات الخزين، لم يكن لهؤلاء النسوة البائرات، أي متنفس لقسوة البلدة وقوانينها وتمييزها ضدهن!
سكان البلدة القديمة، كان موضوعهم الأساسي، الذي يتداولونه في ملتقيات أفراحهم وأتراحهم، هو علاقة صانع الفخار بمنصورة. وغالبا ماشرعت بهذه الأحاديث، تلك المرأة التي يتنادم زوجها الآن مع إحدى البايرات، في السوق الورا، أمام جزارة السمك..
وربما أن زوج أخرى في هذه اللحظة بالذات، بينما هو في كنتينه، خلف مقابر ود أمجبو، يهجم عليه أحد الزبائن،الذين يلفظون في هذه اللحظة أنفاسهم الأخيرة، لأنه تحرش بزوجته. وفي الحقيقة الزوجة هي التي تحرشت به! فأهالي البلدة من صيادي السمك "المراكبية"، الذين بالكاد يكسبون قوت يومهم.. والعمال المتعبون، والرعاة والمزارعون الحائرون. بعد أن قضى الحاكم العام على أحلامهم في الحرث والنسل.. لم يعد أحدهم يقوى -كما في الأيام الخوالي- على العودة إلى عشه مع إحدى النسوة العابرات! فقد كانت كل الأجهزة في أجسامهم قد تعطلت، ولم تعد أعصابهم تعمل كما ينبغي، إلا عند إرتياد الإندايات. خصوصا بعد أن قتل الحاكم العام، معظم رجال البلاد الكبيرة في الحروبات المفتعلة. وشرد البعض الآخر. بينما أختار العدد الأكبر من تعداد السكان المتبقين، مغادرة البلاد الكبيرة واللجؤ. ولسان حالهم يقول:
"أرض الله واسعة!"
هذا غير المساجين والمعتقلين دون ذنب جنوه!..
وهكذا أصبحت البلاد الكبيرة، بحاجة لمعجزة كي لا يكون فيها نساء بايرات! ولهذا السبب بالذات، نسوة البلدة القديمة كن يغرن من منصورة وحكايتها مع صانع الفخار!
كانت منصورة عندما تختلي بصانع الفخار و تستلقى في حضنه. تيمم وجهها شطر السماء، وتغط في نوم عميق. فلا يعود يشغلها وقتئذ شيء عن مراقبة سحب خيالها، وهي تشهق في السماوات البعيدة، تشارك الخالق مرئياته السرية! لا يوقظها سوى تنحنح صانع الفخار، الذي يطفق يحدثها بما تكره: أحلامه وأفكاره عن اللامبالاة والتبلد! فقد كان عندئذ تفكيرها ينصرف إلى خشيتها فقده. لكن يوما بعد يوم، كانت حدة كراهيتها لهذه الهموم العامة، تتضائل شيئا فشيئا. إلى أن تلاشت وأختفت تماما، فأصبحت تشاركه هذه الأحلام، التي أصبحت بمرور الوقت ليست أحلاما! بل صوتا واحدا متوحدا عاليا ومرتفعا.. يقض مضجع كل سكان البلاد الكبيرة!
كان صانع الفخار كمعلمه الخزين يحب "شرائح الشرموط المجفف" في نهارات صيف البلاد الكبيرة الغائظ.. يأكله بتمهل، كأنه يستعذب السباحة في أنهار الخمر، التي حكى له عنها الخزين!.. كان يستعذب طعمها، بعد أن يشمها على مهل. كأنه يشم "شربوتا معتقا" ليتأكد من مدى جودته!
إذن بعد عشرات السنوات، كان الخزين ود طبلة، لا يحكي عن صانع الفخار أو ينقل خبراته، للأجيال الملتفة والمتحلقة حوله عبر تاريخ البلاد الكبيرة، إلا بعد تناول شرموطه الجاف ومريسته المفضلة:
"أقول لكم.. والحق ما أقول..أن عالم الحياة الأخرى عالم فاتن وبديع، فكل ما هناك يختلف عن ما لدينا في هذه البلدة القاحلة.. أول مرة سافرت إلى هناك، تملكني الرعب! فبكيت مثل طفل صغير وجسمي كله ينتفض. كنت مرتبكا. لا أدري ماذا أفعل.. فطفقت أمشي على غير هدى، إلى أن مررت بحفرة عميقة مشتعلة بنيران عظيمة. كانت صرخات وبكاء أصوات معذبة، تأتي من أعماقها السحيقة، فسألتهم:
"من أنتم؟"
فردوا جميعا بصوت واحد:
"نحن حكام البلاد الكبيرة".
وعند هذه اللحظة من الحكاية.. نسوة البلدة البائرات، اللائي تحيط قطاطيهن بمجلس الخزين، يتأوهن ويندبن وهن يرددن:
"سجمي يا يمه!!"
فينتعش الخزين ويعمق من صوته، ونكاية فيهن يقول:
"إذا وقع أحد بحب إمرأة فهو هالك لا محالة، فهناك حفرة أخرى لهذا الغرض"
وبغتة تغمر عيون منصورة كآبة وحشية، فتطفق تقضم بشراهة "شرموط الكجيك" الذي علمها صانع الفخار أن تحبه.
وينظر إلى أحد الذين يرتدون بدلة حزب الحاكم العام:
"وهناك حفر خاصة بالعسس والبصاصين والجند والمليشيات الجهادية"
"ماذا عن أهالينا؟"
"لقد بحثت عن أمي وعن أبي وجدي"
"وهل وجدتهم؟"
"كنت قد عدت من رحلتي قبل أن أجدهم، لكنني في طريق عودتي إلتقيت صانع الفخار الأكبر، مستلقيا تحت شجرة سدر. متوسدا ثعبانا ضخما.. كان مبتسما في دعة وحبور"..
"صانع الفخار؟!"
"لا. الثعبان.. حكى لي أنه لقي حتفه قبل ثمانية آلاف سنة.. على أيدي جند السلطان"
"الثعبان؟!"
"لا. صانع الفخار الأكبر"
عند هذه الجملة يغرق الصمت المباغت مجلس الخزين. ولا يعود الأهالي إلى طبيعتهم، إلا بعد مرور وقت ليس بالقصير. حين يتعالى صراخ عجوزا، لم يسبق لها أن عاشرت رجلا حتى طعنت في السن، صبيا وقحا لأنه ناداها بجدتي. الأمر الذي هدد ذكريات أحلامها في الزمان البعيد.
كان الخزين عادة يختتم في نهاية المطاف حكاياته (أدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح) وكان في ذلك إشارة إلى الحاكم العام لا بإعتباره عاقرا فحسب، بل بإعتباره مخنثا كما تقول الشائعات!
وبعد كل حكاية، كان الدمع ينهمر مدرارا من عينى منصورة الناعستين. بعد أن تغرورقا بالكحل، فتنداح من عرقها رائحة الريحان والسعدة البرية!. وفي نشيجها تعدل منصورة من الإكليل على رأساها، وتترك يدها طيعة في حضن كف صانع الفخار.
كان الخزين هو الرجل الوحيد من الأهالي، الذي إستطاع إختراق قصر الحاكم العام. ومنحته إحدى زوجاته العديدات نفسها في كرم و رضا. وهي تندب حظها على هذه اللقاءات السرية المختلسة! كانت في لحظة الوداع الوشيك، إثر كل لقاء تفيض الدموع من عيونها مدرارة.
وكان هو عندما يتسلل من قصر الحاكم العام، لا يقصد كرنكه بل يمضي لينام في إنداية السرة كحل الليل، حيث -وكما يتوقع تماما- في طريقه إلى الإنداية.. وعندما يمر ببيت حمد الأعرج في ذات التوقيت، من كل مرة. يجده عند مدخل زريبته، التي أمام بيته وهو يهتف بحماره وولده، ليدور الحوار ذاته الذي يسمعه كل مرة:
"حاو حاو.. يا ولد أمسك الحمار.. كتف داك أمسك داك.. أربط التور غادي لا ينطح رفيقو"
فيسأله إبنه:
"يابا هناك في شنو؟ الخدم الكتار ديلك، متلمات هناك في شنو؟ يا شناتن؟"
"يا ولد البّو. خلي الفصاحة واحبس البهايم وإنت ساكت"
ويترك أمر البهايم لإبنه ويمضي في أثر الخزين.
"هوي يا خدم سلام عليكن"
"حباب حمد الأعرج.. كيفك يا أبو محمد"
"القرعة أسرعي يا بت"
فتناوله عشمانة الساقية قرعة المريسة، التي يأخذها بلهفة ويبدأ في الشرب، وهو يقول متلمظا شفاهه الرقيقة، الناحلة واليابسة:
"يا زولة دي مريسة علي الطلاق تكتف عديل كده"
فترد عليه السرّة كحل الليل:
"هنيالك. يا بت أطبقي لخالك"
"لا لا حرّم. طلاق تلاتة. فكيت الرِّيق خلاص"
يتجشأ وهو يلتفت لعشمانة:
"يا بت أمرقي أربعة جرار غادي.. الليلة براي ما معاي زول"
فتسأله:
"الكلام السمعتو ده صحي؟"
"سمعتي شنو؟"
"البارح بعد إنت مشيت عبد الله أب فاطر حكالنا حكاية عجيبة"
"الممسوخ قال شنو؟"
"قال سوق ود أمجبو ما فيهو سيرة غير سيرة مرة الحاكم العام الصغيرة. الناس شافوها في الشاطيء جهة المقرن تمشي وتجي ليها مدة"
"وعرفوها كيف؟"
"عرفوها بعد ما إتشاكلت مع حارسها، فقامت القيامة وحضروا مسئولين أمنيين كبار في المنطقة"
وفي الحقيقة كان حمد الأعرج يعلم أن زوجة الحاكم العام تمضي إلى شاطيء النهر لتروح عن نفسها في الأمسيات الرائقة، وكثيرا ما رآها جادين جانو نروح وتجيء وحيدة، وهي تخط بقدميها على الرمل أشكالا غامضة! وحارسها يقف على مبعدة منها. وفي الأوقات النادرة التي كان يغيب فيها، كانت ترافق شابا مراهقا ثارت كثير من الأقاويل حول علاقتها به. وكان الأهالي المتبطلين الذين ليس لديهم شغلة أو مشغلة كثيرا ما يمضون إى الشاطيء في الأمسيات يترقبونها من خلف دغل الهشاب الذي على ضفة المقرن، وهم يمنون أنفسهم بالقرب منها، يتآكلهم الحرمان!
Iv
الآن, وروحه تغادر جسده المصلوب المحترق في فناء الكنيسة، تطوف في أرجاء البلدة القديمة. وتستعيد ذكريات حياته فيها. يرى نفسه: يدور حول السوق الصغير ومقابر ودمجبو، عابرا إلى السوق الورا. فتعود به الذكريات إلى الخلف، حيث يقف وود الخزين أحيانا ليعابثان التوم ود أب قرن الإسكافي. أو يجلسان عند قهوة ود أبدوم، يتداولان مع روادها الأحاديث التي لا تثمر.. يبحث عن الأب جميل، ويشاهد عناق الكنيسة و الجامع القريب، الذي إحتل جزء كبيرا من أرض ود أمجبو.. شاهد ذكريات.. لكنه لم يشاهد أحدا يمر في منتصف السوق القديم. ربما لأن الأهالي جميعا لحظتها متحلقين حول جسده المصلوب المحترق، هناك.. في فناء الكنيسة العتيقة.
حاول فتح أبواب الحوانيت القديمة، لربما هناك روح سكير قديم كحمد الأعرج في انتظار أصدقاءه. أو أحد السابلة المتعبين، لطول ما قطعوا من فيافي وغفار. غلبه النوم على قارعة الطريق في هذا السوق.. فنام متكئا على جدار الحانوت. سوق قديم ورجل قديم.. وحكايا الخزين الضاربة بجذورها، في ذاكرة المكان الذي هدته السنين!
كان السوق إذن خاو لا من الناس فحسب، بل حتى من الحياة نفسها. فحتى القطط تهرب من وجهه.. قطة سوداء تقفز نحو الحائط القريب. كان يشعر بالحسرة والشوق لتلك الأيام. عندما كانت فوانيس الجاز تضيء السوق القديم، إلى أن يعلن صياح الديكة ميلاد صباح جديد دون أن تنطفيء! وقتها كان يصحو باكرا.. قبل شروق الشمس، ككل أهالي البلدة القديمة، الذين لا يوجد بينهم عاطلا أو متعطلا.
تسآلت روحه:
"ماذا جرى لأهل هذه البلدة؟"
في هذه الحوانيت والزوايا و النحوت، التي تزين الأسوار العالية والجدر، التي نمت عليها الطحالب الخضراء والفطريات. كأنها تؤرخ لماضي البلدة القديمة، بسوقها الذي هوعصب حياتها وأنشطتها الدؤوبة، التي لا تهدأ في حركة العمال والصُّناع كالحائكين والإسكافيين والدباغين والدهّانين و الخشابين والحدادين.. في هذه الحوانيت كان الناس، يجدون كل إحتياجاتهم بأبخس الأثمان. فما الذي جرى؟
كان سوق البلدة القديمة يجتذب السياح الوافدين، والزوار القادمين من القرى القريبة المجاورة، التي كانت تفتقد لمثل هذه الأسواق، لتتسوق وتقضي حاجاتها منه.. وقد كان السوق عند أهالي البلدة القديمة يسمى "البندر" لكن أهالي البلدة القديمة، كانوا يفضلون إطلاق إسم "ود أمجبو" على سوقهم، دونا عن كل الأسماء!
يتأمل جادين جانو إحدى الهوامش، التي خطها الخزين بقلمه البوص، على إحدى تدوينات صانع الفخار، وهو يقول في نفسه: "ولعل سوق ود أمجبو في البلدة القديمة، كان مثالا حيا لما يفضلون من خيارات حياتهم. والذي كان إلى ما قبل سنوات قليلة، قبيل مقتل صانع الفخار، سوقا يعج بالحيوية والحياة. أما اليوم"..
وروحه تحلق في فضاءات البلدة القديمة،كان السوق قد أقفر من تجاره وعماله وباعته وصناعييه وعشابيه، الذين يداوون الأهالي بالأعشاب. كما خلى من تجارته الرائجة في تلك الأيام البعيدة، إذ لم يعد هناك مشترون أو باعة، فأضحى بلقعا يبابا.. يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء!
إن الذي عاش تلك الفترة الذهبية، يوم كان هذا السوق "في عزّه" لا يسعه إلا أن يتحسر على تلك الأيام الخوالي، وعلى ما آلت إليه هذه الحوانيت "المغلقة" الواقعة على جانبيه، وقد بدت حزينة كئيبة.. بعد أن كانت في يوم من الأيام عامرة.. لا يسعه إلا أن يتحسر على ما أصابها من خراب وهجران، بعد أن هجرها الأهالي!!
وإن الذي تسوقه قدماه اليوم ليمر في وسطه، لا يسعه إلا أن يحزن ويتألم على هذا الوضع المزري، وهذا الإهمال الفاضح لكل أجزاءه..
وعلى بعد مسافة قصيرة من هذا المقهى، الذي يعج مدخله بالدلالين، الذين يبيعون ويشترون ويقايضون كل شيء وأي شيء. كان سوق الخضار بمثابة خط فاصل بين السوق الصغير والسوق الورا أو سوق ود أمجبو، الذي يشمل سوق العناقريب، الذي أكثر ما تميز به صناعة البروش، والنطوع والسحارات التي تحتاجها النساء لحفظ أغراضهن. فسوق العناقريب ربما لهذا السبب بالذات، كان لا يفرغ من زبائنه.. كخلية النحل. وكان يطيب للشيوخ وكبار السن والسكارى المتقاعدين، الذين كانت لهم في شبابهم صولات وجولات والنساء بالذات، الجلوس في هذا الجزء من سوق ودأمجبو. لأسباب خفية غامضة، لا يدرون حتى هم أنفسهم كنهها! وأكثر ما يميز سوق ود أمجبو، أنه ملتصق بالكنيسة العتيقة، الملتصقة بالجامع الكبير. الذي لا يبعد كثيرا عن مقر الحاكم العام.
ستمر عشرات بل مئات السنوات، لكن سيظل سوق ود أمجبو يحمل آثار عزّه القديم ومجده البائد، الذي تكشف أحفورات صانع الفخار عن معالمه المقفرة، في ذلك العصر الكارثي.
وفقا لمخطوطات صانع الفخار، أن من قام بتشييد هذا السوق هو الخزين الأكبر. أثناء حكم نيرون لروما في القرن الأول الميلادي. وقد كان في البدء مفتوحا.. والأضلاع التي تشكله الآن مستحدثة. فأحد أضلاعه تم إنشاءه في أواخر العهود النوبية، قبيل سيطرة العرب بقليل. أما الضلع الآخر فقد شيد على عهد حكام الفونج، وسلاطين دار الريح الأقوياء. وبهذا المدخل توجد عدة مداخل: مدخل للسوق الصغير.. ومدخل لسوق مقابر ود أمجبو.. ومدخل لسوق السمك وجزارات الكمونية والدواجن. ومدخل للكنيسة القديمة والجامع الملاصق لها.
كان سوق ود أمجبو إذن يبدأ طريقه من حيث الجامع والكنيسة، وجزارة السمك والكمونية. ثم يتجه شرقا حيث ينهض في بداية صفوف دكاكينه دكان الخردوات، الذي يطيب لدراويش البلدة القديمة، الجلوس تحت كشاشته.
كانوا بثيابهم الملونة يجلسون في هدوء وهم يتبادلون أسرارهم!
وبدء من الصف الذي يلي دكان الخردوات، يمكن للمار أن يمر بشخصيات هذه السوق الثابتة والمميزة واحدا واحدا كلما أوغل في المسير. فالمرحوم رزق كان يحترف من المهن والحرف كل شيء، بدء بصناعة الطواقي والمناديل والقفاف، مرورا بقلع الأسنان المسوسة ووضع حدوات الجياد وقص أظلاف المواشي، بالإضافة إلى كونه حلاقا وطبيبا وحجاما. والذي كان يسبغ على السوق جوا من المرح والسرور بنكاته و"مقالبه" البريئة، التي لا ينافسه فيها سوى حمد الأعرج، والتي لم يكن ينجو منها أحد!!..
وطمبل صاحب الشخصية القوية، الذي قلما كنت تراه مبتسما.. والذي كانت مطرقته تترك وقعا داويا يرن في أرجاء السوق كله.. وجبارة الهنباتي وسابل الستر و..وغيرهم كثيرون.. خطروا على روح جادين فردا فردا في هذه اللحظة الفاصلة التي تفارق فيها روحه جسده المحترق.
تخيلهم وهم يخرجون متعثرين الخطى تجاه بيوتهم، بعد أن أفسد عليهم فتوات البلدة القديمة جلستهم في الإنداية، يتوهمون أشياء لم تحدث، ويضيف خيالهم لأشياء حدثت تفاصيل جديدة، ويحذف عن وقائع ما حدث تفاصيل أخرى إذ يقول أحدهم:
"والله يا جماعة أنا من الصباح عيني ترِّف ويدي ترجف. عارف الليلة اليوم ده ما بيعدي على خير"
"يا زول علي الطلاق أنا خلاص نفسي مرقت من إنداية السرّة وتاني ما حأشرب عندها"
"علي الطلاق.. علي الطلاق.."
وينسى ما يود أن يقول.. فيشد آخر مقود حماره وهو يقول:
"هع هع أقيف. يعني هسه الأولاد الخربو لينا قعدتنا ديل هم أرجل مننا.. علي الطلاق مافيهم راجل واحد.. عر عر شوف الحمار ده عليك النبي التقول سكران"
"إنت يازول. سوق الحمير علي الطلاق أصبح زي النار، الحمار الكان بخمسين جنيه هسه بقى بمية"
"نار وين.. علي الطلاق إنتو سكرانين هسه هنا في نار؟"
"يازول علي الطلاق سكران إنت براك. أقول ليك الحمير شافن النار، تقول لي عكازي وقع. يعني ما يقع.. أصلو عكاز همباتي. عليك النبي عصا ملسا ويقول عليها عكاز.. ده كلام ده"
فيقاطعهم أحدهم متوهما إيقاع دلوكة ونخلات:
"هي هي كدي أسكتو سامعين؟.. صوت دلوكة جاي من ورا النخلات ديك.. عرعر عليك الله شوف الحمار ده عاقد قفاه كيفن تقول خايف"
"أبوك يا فاطمة أنا خايف؟ يعني عاقد قفاي خوف؟ علي الطلاق.. يعني.. هنا.. هنا الكلام"
ويسقط من على ظهر حماره، بينما يهرب الحمار راكضا، تجاه قلب البلدة القديمة:
"حاو. حاو. هش .. يا سيدي الحسن"
"حسن منو؟ يا زول القايم في الطريق ده عشر مافي عثمان هنا"
"يا أخوانا نحن رحنا.. الحمير دي شكلها كده رجعتنا لإنداية السرّة تاني، وهربت لغادي.. الحمير دي الظاهر سكرت"
"لا لا شوف ديك ما ياها ميضنة كنيسة ود أم جبو؟"
"وينو؟ما شايف جامع الكنيسة هنا!"
"علي الطلاق نسكر من زمن حفروا البحر. جنس ده ما حصل علينا.. الملعونة الظاهر أدتنا من مريسة كبس التور"
"يا جماعة إنتو ناس واعيين، عيب تقولو ضهبنا.. لازم تجهزوا ليكم عذر من هسه"
"أنحنا كلامنا هين. قاعدين نكوس الليل كلو للحمير الضايعة. لكن الحمير ذاتا عذرها شنو؟"
وبوصولهم إلى بيوتهم.. يهتف إبن أحدهم:
"أبوي إنت سكران"
"يا ولد كفى – كفنك برش- دحين دي دقن مريسة؟!"
وعندما يسمع الجيران بوصولهم تتهامس النسوة:
"كافي البلا وحايد المحن من الشياب العياب. السكر وقلة الفكر"
كانت روحه تطوف بهم فردا فردا، وتستمع إلى ما يقول كل واحد منهم لرفاقه، فيبتسم. وهو يرى فيما يرى الناس, يلتفون حول أصحاب حوانيت سوق ود أمجبو. الذين كانوا في معظمهم متحدثين بارعين، يستأنس الأهالي بقصصهم الممتعة، وأحاديثهم السلسة ونكاتهم المرحة. التي تغذيها حكايات الخزين. التي تفيض بالحكمة والطرافة.
كل حركات المقاومة والمعارضة والهبات الثورية، كانت تخرج من قلب هذا السوق. ولهذا السبب بالذات أصبح الحكام المتعاقبون يستهدفونه. إلى أن وصلوا به إلى هذا الحال البئيس!
كان شاغلي السوق كرواد الإندايات، دائما ينقسمون إلى معسكرين: قسم مع الحاكم العام وآخر ضده. وكثيرا ما كانت تدور بينهم معارك حامية الوطيس، قد يحتدم فيها النقاش، لدرجة الشتائم والسباب البذيء المقذع والعراك بالأيدي. لفرض آرائهم. إلى أن يتمكن العقلاء من فض هذه الإشتباكات.. ليعودوا في اليوم التالي، وكأن شيئا لم يحدث البارحة!!
هكذا كان أهالي البلدة القديمة، في تلك الأيام الخوالي!.. وهكذا ودعت روح صانع الفخار سوق ود أمجبو وهي تتحسر على أمجاده الغابرة!
وروح صانع الفخار، تحلق في فضاء سوق ود أمجبو والبلدة القديمة، وجسده يحترق هناك في فناء تلك الكنيسة العتيقة، كانت كل أسرار الخزين تنفتح كالإلهام على فضاء ذاكرته.. فمن الأسرار الخفية للخزين، والتي أبدا لم يطلع عليها أحد سواه حتى الأطراف المباشرين لهذه الأسرار، أنه في لحظة ما بعيدة توسطت سنوات غابرة في إنصرام الزمان. وبينما كان الخزين يسكن وحده في هذه البلدة، التي لم تكن وقتها مأهولة، بسبب ما حل بها وبسكانها القدماء من أسلافه من دمار على مر العصور. فقد بد السكان يتوافدون إليها، يحيون ذكرى أسلافهم الغابرين! بعد أن شيد فيها الخزين أول كرنك عرفته في تاريخها القريب. بعدها غادر البلدة إلى دار الريح لحين من الوقت. وعندما عاد كانت برفقته إمرأة فارعة، أنجب منها جدة منصورة. ماتت تلك المرأة بعد فترة قصيرة، بعد أن أنجبت له فتاة جميلة، ستكون في مقبل الأيام هي الجدة المباشرة لمنصورة. ورثت منصورة لون جدتها وقوامها الجميل،وشعرها الأسود الطويل. فضلاً عن عينيّ الخزين اللتين كعيني صقر عجوز.
لم يطلع أحد أبدا على هذا السر. بل حتى أن منصورة ووالدتها لم تكونا تعرفان, أن الخزين في الحقيقة هو جدهما! لذلك كان الخزين سعيدا جدا, وهو يراقب تلك المشاعر البطيئة المتنامية، التي تدنو حثيثا. لتصل قلب منصورة بجادين!
كان جادين يرى روحه تخرج من أعماقه.. تحلق فوق رؤوس العسس، وجموع الأهالي المتحلقين يشهدون لحظة إعدامه.. ثمة تصفيق متقطع وزغاريد شاحبة، تمتزج في لهب النيران المشتعلة حوله.. ثمة رصاصات تتلاشى في الألسنة المتطايرة. ومن بين مشاهد كل هذه المهزلة، رأى طيف الخزين يبصق في جموع الناس بإزدراء ومقت شديدين!
في اللحظة نفسها كان الحاكم العام يلقي على الناس بيانه، حول الخونة والخوارج العملاء والمرتزقة شذاذ الأفاق.. المخربين الذين سيجعل منهم أمثولة لآخر الزمان!.. كان الحاكم العام يلقي بخطابه في هستيريا وهو يجوب شوارع البلدة ودروبها. وسط الهتافات العالية لحزبه.. في هذه اللحظة ذاتها.. الفارقة بين عالمين يعلنان إنتقال روح صانع الفخار إلى مثواها المؤقت، وميلاد روحه مرة أخرى في صانع فخار جديد..
في هذه اللحظة المحاصرة برائحة القلق والحرائق والرماد، رأى الحاكم العام منصورة بين جموع الأهالي: عينان لامعتان، شفاه رقيقة، أنف دقيق, وشعر ممشط في جدائل كبيرة يتخللها الودع الملون!
بدت له منصورة في فستانها البسيط، ووجهها الذي لوحته شمس البلاد الكبيرة، أجمل أنثى في الكون تقع عليها عيناه!. فتوقف عن إلقاء خطبته لاهث الأنفاس، وأشار إلى حرسه الخاص تجاهها.
في تلك الظهيرة، كانت منصورة التي تستعد للإقتران بصانع الفخار، قد إرتدت أجمل ثيابها، بعد أن مشطت لها أمها شعرها، على ذلك النحو الذي يقلق ذكورة الرجال ويقض مضاجعهم.
ثم جلست على بنبرها الحميم لتستمع لنبؤات أمها، التي تفرغت لحظتها لتخط الودع وتقرأ مستقبل إبنتها الوحيدة.. كانت ترى في الودع فراشة تطير في هجير الظهيرة، وتسقط محترقة.. ثم تنبعث من جديد وتحلق بعيدا بعيدا في الهواء!.
فيما عدا الخزين ومنصورة، لم يكن أحد يعرف أن أمام صانع الفخار أياما معدودات، ليفارق بعدها هذا العالم الكارثي الشائه!
في اللحظة نفسها، بينما كانت روح صانع الفخار تحلق عاليا إلى طمأنينتها، كانت تلك الفراشة تلحق بها. فترتعش روحه دون وجل وتهدأ.. تعانق الفراشة.. تتوحد معها، يستحيلان معا إلى بريق في اللانهاية.
V
في الصبيحة التي سلقت مقتل صانع الفخار بثلاثة صبيحات، قالت السرّة كحل الليل لمستورة رمش العين:
"قصة غريبة لا يصدقها عقل!"
"قصة شنو؟"
"عشمانة قالت كانت شغالة حدامة في بيت الوزير الفلاني"
"والزمن ده كلو ساكتة ما قالت بغم"
يبدو أن عشمانة التي كانت تسمع فضايح قصر الحاكم العام ورجاله، التي يتبادلها رواد الإنداية كل يوم، قد شعرت بنوع من الإستفزاز حفزها للإدلاء بدلوها، فحسب حكايتها، أن زوجة ذلك الوزير تربطها علاقة مشبوهة بأحد الشبان المعارضين المثقفين العاطلين، والذي كان في الواقع حبيبها هي عشمانة نفسها، قبل أن تتعرف عليه زوجة الوزير تدريجيا، خلال زياراتها لبعض أقاربها في البلدة القديمة.
وتضيف عشمانة أنه عندما توطدت العلاقة بين الشاب وزوجة الوزير، بدأت هذه الأخيرة، من حين لآخر، ترسلها لإحضار دواء خاص من الصيدلية، ودفعها حب استطلاع للسؤال عن فائدة ذلك الدواء الذي بدا لها أن ثمنه غاليا، إذ كانت ثمن الحبة الواحدة يفوق المائة جنيه، وبعد البحث والسؤال علمت بفوائده وبالأغراض المخصصة له وأن اسمه "الفياغرا" أو الحبة الزرقاء، كما لاحظت عشمانة أنه كلما طالبتها زوجة الوزير بإحضار الحبة الزرقاء، كانت تعلم أنها تكلم حبيبها في الهاتف، وبعد ذلك تغادر البيت وتقضي الليلة خارجه، وهكذا علمت عشمانة بأن مشغلتها على علاقة مع حبيبها، وأضحت تعرف بأن اقتناء الحبة الزرقاء من الصيدلية يعني غياب سيدة البيت وأنها ستنعم بالراحة وتتخلص من طلباتها التي لا تنتهي وبذلك تنعم المرأتين معا بليلتيهما، إلى أن إكتشفت زوجة الوزير علاقة عشمانة بذلك الشاب، فحز في نفسها، فطردتها من خدمتها وقطعت علاقتها بالشاب!
"عليك الله ده كلام بيدخل العقل"
"مالو ما بيدخل العقل، ياما تحت السواهي دواهي يا يمه"
جاء صوت أحد الفتوات قاطعا ليهما مسامرتيهما:
"الليلة مافي مريسة ولا شو"
"إتفضل أدخل لجوه"
الفتوات الذين كانوا يفسدون على سكارى البلدة القديمة جلساتهم، كانوا بمثابة الوقاية والدرع الذي تتحطم عليه إستفزازات السكارى التي يطلقونها بسبب وبدون سبب. حينما يقدمون على الإندايات، يدخلونها واحدة تلو الأخرى. يسخرون من هذا ويتحدثون لذاك. يذرعون الإنداية جيئة وذهابا، علهم يجدون سببا للشجار. وعندما يعييهم البحث عن سبب، يهتف أحدهم وهو ينظر بعين واحدة، بعد أن يكفى طاقيته على عينه الأخرى:
"أي واحد يفتح خشموا نحن هنا.. جاي يا بت.. عندكن شنو الليلة"
"كلو في.. مريسة.. عرقي.. بقنية..عسلية.. طلباتكم"
"خمسة قزايز عرقي وخمسة برمة مريسة وعشرة عبار كانجي مورو"
فيهتف أحدهم دهشا:
"أبو الزفت.. أهو الطلب كدي ولا بلاش"
فيتسآل آخر:
"ياخي ديل بيجيبو القروش دي من وين؟"
"ياخي إتكلم براحة.. الناس ديل صعبين خالص لو سمعوك"
"صعبين على مين؟ أنا على الطلاق جدي المك بارم ديلو.. وما سائل في أي واحد هنا.. عارف ولا ماك عارف.. أما مسخرة وقلة أدب.. قال صعبين.. صعبين على منو.. صحي الما بيعرفك بيجهلك, والما من بلدك ما بيعرف رطانتك"
"ياخي بالله أسكت خلينا نتكيف.. ياخي مالك ومال المصايب"
"مصايب بتاعة مين، أقوم أنيك ليك أبو حلتهم ذاتو هسه دي.. هع هع أنا الصعب المتكل بالشعب"
فينهض أحد الفتوة غاضبا:
"يلا.. كلو برا.. ما عايز ولا زول هنا"
فتركض نحوه عشمانة:
"العكر عليك مزاجك منو.. سجم خشم أمو يا يابا"
"الزول الوهم داك"
فتقبل عليه عشمانة:
"مالك عايز تخرب علينا.. قوم يا زول أمرق برا"
"أمرق أنا يا بنت الكلب والله كان جا الحاكم العام ذاتو ما يمرقني"
ويحرك عصاه ويتحسس سكينه:
"أما عجايب شوف بالله ديل.. خسرانين دم قلبنا.. برمتين مريسة وقزازة عرقي.. الراجل البيطلعني لسه أمو ما ولدتو"
"يا زول أخير ليك قوم أمرق بالحسنى"
فيمد يده ليضرب عشمانة التي تصيح:
"ووب علي أنا.. تضربني أنا يا المايل المتهايل.. يا يابا يضربك الضريب شقاق العناقريب"
وهنا يقترب الفتوة:
"يا خادم أبعدي غادي خليني النجيهو ليك"
"يعني عاجباك نفسك وقايل بتطلعني من هنا يا ود الغلفاء"
ولا يتركه الفتوة يكمل كلامه، إذ ينهال عليه ضرباويحمله بين زراعيه ويقذف به خارج سور الإنداية.. وقتها يتضاير الجميع، ويبدأ البعض من السكارى المخضرمين في التسلل خارج الإنداية، بينما يبقى المستجدين مكانهم.. بينما يعلو الصخب:
"كتلو.. جدعو.. ووب علي.. سجمي.. سجم خشم أمو.."
وهنا تتدخل السرة رمش العين:
"أما خمج.. الدوشة ليكم شنو.. كلو زول في محلو.."
فيقاطعها الفتوة:
"خلاص يا حاجة السرّة نزلي البيرق وفضي لينا الإنداية من الناس الوهم ديل.. أنحنا إشترينا الشراب كلو"
فتزغرد عشمانة وهي تقول:
"أها سامعين حديث الجنيات الفناجر.. كل زول يشرب كاسو ويبقى مارق"
وهنا يتحدث كبير الفتوات:
"كمان علي الطلاق ما تاخدي ولا مليم من أي زول.. حتى العيفة الجدعناه بره ده حسابو علينا"
فيطنطن البعض:
"إنعل أبو اليجي الإنداية دي تاني"
المرة الأولى التي إلتقى فيها الخزين بتلك المرأة البدوية، الجدة الكبرى لمنصورة، أدرك أن القدر سطر له مصيرا غامضا لا مفر منه!.. أخذ يحكي لها عن البلدة التي يحلم بتشييدها بين مقرن النيلين، على أنقاض البلدات التي طالها الخراب والدمار عبر العصور السحيقة لتاريخ البلاد الكبيرة، فأومأت برأسها موافقة، فأبتسم وهو ينتحي بها في جوف دغل من أشجار النّال.. إستسلما لرعبهما الذي يحفزعريه ملمس النال و رائحة قوية قوامها العرق الزنخ تقتحم رائحة النّال فتمتزج بها! وتجعل لخياشيمهما ملمس أعصابهما المتحفزة. عندما أفاقا من غيبوبتهما لم يكونان يعلمان كم من الوقت قد مضى عليهما. في تلك اللحظة بالذات، كانت جدة منصورة تنمو في أعماق تلك المرأة البدوية. تذكر الخزين ود طبلة كل ذلك عندما تناهى إلى مسامعه، خبر مقتل صانع الفخار محترقا، في فناء الكنيسة العتيقة! و..
وبعد أن تهدأ المواجد والتوجدات والمحن والإحن والعداوات والغبائن.. بعد عشرات السنوات ستغني الحكامات بوحي منصورة أخرى، أغاني مشحونة بكل بذاءات العالم، ضد الحاكم العام وحزبه.. أغنية واحدة ضد الثلاثة الكبار، وأحزاب البلاد الكبيرة المخنثة!
وبالتالي يسدل الظلام استاره، وأول من ينسحب سيكون هو صانع الفخار الحفيد ومنصورة الحفيدة ذات نفسيهما! سيسيران متعانقين: صانع الفخار طاعن في السن، يتهادى نحيلا متعب النظرات، ومنصورة لا تزال كفتاة رشيقة القوام لم تهدها السنون، لكن فارقتها رائحة السعدة والريحان، ولم تعد ترتدي إكليلها البري!
وتشيعهما نظرات العجائز، اللائي لم يعدن بائرات، بل جدات لأحفاد كثر يعمرون البلاد الكبيرة.. لكنهن لا زلن يرين إكليل منصورة.. كأنه الأمس القريب! وعندما يخطر على بالهن موت صانع الفخار محترقا، يشهقن كأن شهيقهن زفرات الموت! ثم يقلن خلال زفراتهن الحارة:
"كانت منصورة قديسة.. كما كان صانع الفخار.. واحسرتي!"
ذات لحظة غارقة في تهاويم الزمن، سرقت منصورة صانع الفخار!. سرقت قلمه العتيق، الذي أهداه إليه الخزين، و الذي كان قد ورثه عن أسلافه، الذين إشتروه من أحد حراس منزل صانع الفخار الأكبر قبل آلاف السنوات!
كان قلما من شجر قنا وديان دار الريح، الذي تستوطن تحته وفي لبابه حبيبات الذهب.. كل ما يميزه أنه عتيق وعزيز على قلب صانع الفخار، فهو القلم نفسه، الذي خط به كل صانع فخار من أسلافه، أحلامهم وتهاويمهم عن البلاد الكبيرة وفيها!
فعلت منصورة ما فعلت، لأنها كانت ترغب في الإحتفاظ بروح صانع الفخار، مقيمة معها طوال الوقت.. فمنصوة كانت كتومة تظن أنها تعلم كل شيء.. وفي الحقيقة لم تكن تعلم أن البشر جميعا، وصانع الفخار نفسه، إنما هم أقبية معتمة.. العبور من ثقوبها بقدر ما هو محفوف بالمخاطر، بقدر ما هو مليء بالأسرار والمخاوف والهواجس والظنون!
Vi
في تلك الظهيرة الغائظة كانت إنداية السرّة كحل الليل، لا حديث لروادها سوى الشائعة التي تسربت في فضاء البلدة القديمة عن :
الجنرال الذي ضبط زوجته في فراشهما، مع أحد جنوده.. كان الجنرال قد خرج من مقر إقامته بعد أن أخبر زوجته أنه سيغيب أياما قليلة للقيام بمهمة خارج المدينة، إلا أن الحاكم العام أعفاه من تلك المهمة وعاد إلى البيت. فتح الباب فصادف ابنته الصغيرة وسألها عن أمها فأجابته أنها داخل غرفة النوم مع الجندي،ليضع لها مرهما على ظهرها.
فهم الجنرال الوضع وأمر طفلته بالتزام الصمت، ومضى من الباب الخلفي ليختبيء بعد أن أمر ابنته بالمكوث بمكانها وخرج من الباب الخلفي ليوهم زوجته وعشيقها، أنه لم يحضر بعد. وبعد أن فرغت الزوجة وعشيقها من مغامرتهما سألت الجندي:
"هل أجد لديك بعض النقود فالجنرال ترك لي شيكا ولا وقت لي للتوجه إلى البنك لصرفه"
ولم يكن الجندي يملك سوى ورقة نقدية من فئة المائة جنيه مدها إليها، مسكتها ووضعتها على منضدة بجانب سرير النوم. سمع الجنرال من مخبئه كل ما دار بينهما وغادر المكان خلسة ودون إحداث ضجيج. والجندي في طريقه إلى خارج الدار حيا رئيسه الجنرال التحية العسكرية المعتادة ثم سبقه نحو الباب لفتحه كما كان يفعل دائما. وبعد أن حيا الجنرال زوجته، ولج غرفة النوم فاستحوذ على ورقة المائة جنيه دون علم زوجته. بعد ذلك أخذ زوجته وابنته إلى محل إقامة أصهاره دون أن يكشف الأمر لزوجته أوللجندي.
اجتمعت الأسرة في الصالون، فأخرج الجنرال ورقة المائة جنيه وبدأ يعبث بها بين أصابعه متعمدا إظهارها لزوجته. لمحت الطفلة الورقة النقدية وطلبت من والدها منحها إياها، فقال لها بصوت متزن واثق:
"لا أستطيع منحك هذه الورقة، إنها غالية عندي غلاء عمري، يمكن أن أعطيك حياتي إلا هذه الورقة، اسألي أمك لماذا؟"
فهمت الأم البرقية ومغزاها..
ولم تمض سوى أيام قلائل حتى تم العثور عليها في غرفة نومها وحولها بركة من الدماء التي سالت من شرايين معصميها بغزارة!
كانت أم منصورة الأربعينية الناحلة. نادرا ما تضحك. ولم تكن تبكي أبدا. يبدو أن كل ما هو ضروري للبعث على الضحك والدموع، قد إنتهى بالنسبة لها. وعندما كانت تضحك. تأتي البسمة غامضة مبهمة، وكأن قواها لم تعد كافية لذلك.
كانت ومنصورة تعيشان بمفردهن. دون رجال في حياتهن.. في قطية صغيرة، مسيجة بالطرور على مبعدة من "كرنك" الخزين في طرف فناء البلدة القديمة. ماتت أمها العجوز منذ زمن بعيد، دون أن تخبرها بأصلها وفصلها، بعد أن زوجتها لأول طارق على بابها، الذي لحق هو الآخر بأمها بعد أيام قلائل من زواجه منها، تاركا منصورة تنمو في أحشائها.. وهكذا وجدت منصورة وأمها أنفسهن، تعشن بمفردهن كأنهن إمتدادا لبعضيهما. لا تأبهان لحسب أو نسب، فقد عودتهما الحياة الحرمان من كل عزيز لديهما!
لكن مع ذلك كانت أم منصورة أشد ما تخشاه، أن تفارق الحياة دون أن تترك لإبنتها سندا، لذا وفي تلك الصبيحة البعيدة، عندما همس الخزين في أذنها، بأن صانع الفخار، أفصح عن رغبته في الإقتران بإبنتها، لم تتمكن من إخفاء فرحتها، فملأت فضاءات البلدة القديمة بالزغاريد!
كان صانع الفخار، قد تقدم لخطبتها وهو يعرف خاتمته جيدا، ورغم أنه لم يخبرهما إلا أنهما كانتا تعرفان.كما كان الخزين يعرف.. لم يكن جزعا ولا منصورة كذلك, لكن كان الخزين بين آن وآخر تتغشاه غيمات من أسى شفيف، تمطر على الراكوبة أمام كرنكه فيبتل ترابه بالدموع!
فيشعر بأنه ليس كما ظل يظن في نفسه: يمتلك زمام الأمور والمبادرة.. كان مجرد ترقب إنتقال صانع الفخار إلى عالم آخر غير هذا العالم، يفجر في نفسه كل مكامن ضعفه. لذا كان عندما يخرج إلى مريديه أثناء هذا الترقب المميت، كان يتعمد أن يحكي لهم حكايا طويلة لا أول لها ولا آخر، عن الموت والحياة والعالم الآخر، الخالي من الهواجس والظنون!
بل أخذ يتعمد لدى الجلوس إلى حواريه، أن يكون عراقيه وسرواله الطويل نظيفاعلى غير عادته، فكانوا يشعرون بأن ثمة شيء فيه متغير على غير العادة، لكن لم يجرؤ أحدهم على النبث ببنت شفة، إلى أن دهموه بالخبر الذي ظل يترقبه لوقت طويل:
."أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة"
حاول إضفاء شيء من السكينة على روحه. حاول وقف التآكل الذي كان خبر الموت يشعله ليستشرى في جسمه المهدود،كالطوابي العتيقة على ضفتي النهر! لحظتها بدى لهم وجهه خاليا من تلك التعابير التي ألفوها فيه. كانت عيناه مثبتتين كجمرتين منطفئتين في رمادهما، بدى لهم كمن يحمل أثقالا يئن تحت وطأتها. وكانت كل حكاياته عن الموت لحظتها، تطوف فوق رؤوسهم، التي بلبلتها الصدمة. لكن دون ذلك الصوت العميق الريان بالحنين والذكريات.
"كان صانع الفخار الأكبر يسبق عصره بمئات السنوات، وقد ورث عنه صانع الفخار الحفيد هذه الموهبة!"..
فهو من اخترع لغة التشفير ورموز تقنيات فك الشفرة، ورسم تصاميم أولية للأجهزة الداخلية للجسم البشري، أظهرت الخواص التي يتحدث عنها علماء هذا الزمان؟!.
حكاية صانع الفخار الأكبر إذن، سيطرت على فضاءات وعوالم "صانع الفخار الحفيد" وشكلت حياته على النحو الذي قاد لأن يموت مصلوبا في فناء الكنيسة، كما مات صانع الفخار الجد، محترقا في قطية نائية عند أطراف إحدى قرى دار الريح!
ولد صانع الفخار الحفيد في السنة ذاتها، التي فاض فيها نيل دار صباح وهطلت الأمطار الغزيرة. فتقطعت بالناس السبل، وتهدمت بيوتهم. وأنتشرت كل أنواع الأوبئة والأمراض المجهولة، التي لم تكن تلبث أن تصيب أحدهم حتى يفارق الحياة!
مثل كل أقرانه من أبناء البلاد الكبيرة، مضى صانع الفخار الحفيد، في طفولته إلى خلوة الخزين، ينهل على يديه علوم الأولين والآخرين.. وهكذا تحددت هويته في مجتمع البلدة القديمة، حيث تعلم من والده صانع الفخار الأب لغته المحلية السائدة في دار الريح. إلى جانب اللغة العامة السائدة في البلاد الكبيرة! تعليمه في الخلوة على يد الخزين، فتح عقله على عوالم واسعة خارج حدود هذا المجتمع المحلي المحدود الذي نشأ فيه.
كان عقله وقادا، فيوما بعد يوم مع تلقي التعليم المدني، والدراسة في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تنامت معارفه، وأشتعل داخله صراع خفي. لا يمكن تفاديه، بين عالمه المحلي والعوالم الأخرى، الامر الذي فتحه على آفاق لا حدود لها. فكان يسرح بخياله بعيدا.. بعيدا عن حدود دار الريح ودار صباح والصعيد والسافل.
الفترة التي تلت مقتل صانع الفخار الحفيد، شهدت الكثير من المآسي، مثل تنامي الإحتراب القبلي وكوارث الطبيعة، والفقر المدقع الذي شمل كل أنحاء البلاد الكبيرة، بعد أن هرّب الحاكم العام وبطانته كل ثروات البلاد الكبيرة، وعاثوا خرابا ودمارا!
كان ظل السلطة قد إختفى عن بنادر وحواضر وأطراف البلاد الكبيرة، و تصاعدت أعمال حرق القرى والسلب والنهب، وأصبح الأهالي البسطاء يقتلون بعضهم بعضا دون أسباب وجيهة. وكان الجميع يعلمون أن سبب هذه الفوضى العارمة، التي تضرب بأطنابها في كل شيء، هو الحاكم العام نفسه، الذي كان لا يزال يصر على رفض تسليم رأسه، للمحكمة الجنائية الدولية!وبطانته وعسسه وجنده، الضالعين معه من قمة رؤوسهم إلى أخامص أقدامهم، في كل ما حل ويحل بالبلاد الكبيرة، بعد أن أشعلوا فيها الفتن، وزرعوها بالعداوات والغباين والإحن!
وهكذا تأجج الصراع بموالاة الحاكم العام، لأطراف ضد أخرى. حتى بلغ إنفراط عقد السلام مبلغا لم تشهده البلاد الكبيرة، طوال عصورها وتاريخها الغابر. وهكذا شهدت البلاد الكبيرة الإيذان بميلاد عهد جديد من الدم والمآسي والدموع، تمخض عن الإنفصال التام للصعيد، الذي آثر الإبتعاد عن جغرافيا البلاد الكبيرة الموحدة، بعد أن أعياه إيجاد مسوغات للبقاء مع هؤلاء القوم، المغضوب عليهم والضالين!
وهكذا بدأت تنتشر الحركات المسلحة، الهادفة للقضاء على الإستعمار المحلي الذي يمثله الثلاثة الكبار والحاكم العام وحزبه.
كانت قوات الحاكم العام منذ وقت مبكر قد تحركت بعدتها وعتادها، بعد أن سلحت أطرافا ضد أخرى، واطلقت العنان لمليشياتها بالعيث فسادا في دار الريح ونهبها، وقتل وترويع الآمنين من أهلها الأبرياء، الذين دفعت بهم للسير أياما وليال طويلة، عبر الحدود في رحلة تيه، هي الأبشع عبر تاريخ البلاد الكبيرة!
في تاريخ البلاد الكبيرة القديم والحديث، هناك الكثير من حالات الجنجويد، استخدمتهم السلطات الحاكمة في جيوشها النظامية، وكقوات صديقة. للحرب عنها بالوكالة.. مجندة إياهم من شتى البقاع. فالجنجويد نجدهم في جيش إسماعيل باشا الغازي عام 1821 وفي صفوف الجيش الإنجليزي المصري في حربه ضد القوات المهدوية، وفي مقتل الخليفة ود تورشين في أم دبيكرات في نوفمبر 1899، حيث أظهرت الصور جنودا "سود البشرة"، ليس من الممكن أن يكونوا إنجليز أو مصريين أو أرمن!.
ونجد الجنجويد أيضا ضمن القوات الإنجليزية الغازية لدار الريح عام 1916 وفي صور مقتل سلطانها علي دينار بعد عام. وذات القوات كانت يوم مقتل السحيني عام 1921 وبعد الإستقلال من الإستعمار الخارجي في يناير 1956، وأيلولة البلاد الكبيرة لحكومات الإستعمار المحلي،نجد الجنجويد ضمن مليشيات الحكومات الطائفية وميليشيات الحكام العامين التي تعاقبت غلى حكم البلاد، والتي خاضت بهم حروبها المقدسة ضد المهمشين في أطراف البلاد الكبيرة.
وجنجويد دار الريح الآن بهذا المعنى، هم إمتداد لذلك الإرث غير الناصع، للنظم التي تعاقبت على حكم البلاد الكبيرة، حينما تلجأ السلطة في لحظات ضعفها لخلق كيانات موازية، لجيشها النظامي. للحرب عنها بالوكالة. إذن إستخدام الحاكم العام في حربه المقدسة الجنجويد، ضد أهالي دار الريح البسطاء، لم يكن أمرا جديدا!
حتى تلك اللحظة الغادرة، إثر غارة مشتركة للجنجويد وجيش الحاكم العام. وإعتقال صانع الفخار، ذات ليلة غاب فيها القمر وأشتد عواء الريح ذارا رمال الوديان، في عيون البلاد الكبيرة. وتكبيله بالأغلال تمهيدا لترحيله إلى البلدة القديمة لحرقه في فناء الكنيسة العتيقة!
وهكذا بقتل صانع الفخار حرقا على الصليب، إختبأت الأسرار داخل شفرات رموزها، كخلفية مأساوية لأسئلة الذات والهوّية في البلاد الكبيرة!..
لكن مع ذلك.. هنا وهناك، كان شبح صانع الفخار، يظهر للأطفال الرضع، وهم يمصون حلمات أثداء أمهاتهم، فيبتسمون في دعة وحبور، والحليب يتسايل من بين شفاههم الرقيقة.
ظل جادين جانو طيلة حياة معلمه الخزين ود طبلة- ينصت بإهتمام لكل حكاياته عن "صانع الفخارالأكبر" الذي ولد في اللحظة ذاتها، التي بدأت فيها الممالك المسيحية، تتكون على أنقاض العالم القديم للبلاد الكبيرة، بوصول أول بعثة أُرسلت من القسطنطينية إلي بلاد النوبة، برئاسة قس يُدعي "جوليان" عام 543م، بمساندة الإمبراطورة "ثيودورا" فمكث " جوليان " ونجح في نشر المسيحية بين النوبيين، والتي كانت أساسا قد أوجدت لنفسها قاعدة في البلدة القديمة، قبل عدة قرون. ثم خلف "جوليان" "لونجينس" في عام 569م، والذي قضى فترة سبعة سنوات، وهو يعمل بين النوباطيين، ثم سافر إلي الصعيد عام 580م.
وقتها كانت مملكتي "النوباطيين" و"علوة" تؤمنان بمذهب اليعاقبة، بينما كان أهل "المغرة" يدينون بالمذهب الملكانيّ. وعندما إتحدت مملكتا النوباطيين والمغرّة فيما بين عامي 650- 710م وصارتا مملكة واحدة، مكًن إتحادهما من قيام مقاومة قوية ضد غارات العرب من ناحية، وإنهاء الصراع السياسي الديني والطائفي من ناحية أُخري، مما ساعد علي التطور الثقافي.
إذن كان ميلاد من سيعرف ب"صانع الفخار" في كل مرة يولد فيها، تكون هذه المرة بمثابة لحظة فارقة من منعطفات تاريخ سهل البلاد الكبيرة، بما تحمله روحه من روح ذلك العصر، بلحظاته المتحفزة بالعبقرية والجنون..
لحظات تمثل عالما بكامله، بقدر ما أنطوى على الأسرار الباطنية والسحر والدجل والشعوذة وجرائم وإحتيالات الساسة الطائفيين الأفاقين وأرباب السوابق في تجارة الرق. حفل بفنون المعمار وهندسة الزراعة، ونمو الثروة الحيوانية والغابية، و الصناعة والتجارة.. و.. ويقال أن صانع الفخار الأكبر، هو من أعطى طريق الملح ودرب الأربعين إسميهما؟!
فدرب الأربعين الذي يبدأ من الفاشر، على تخوم الصحراء الكبرى في دار الريح، وينتهي عند إمبابة في صحراء الجيزة، في الجوار أسفل النهر.. توضح خرائط صانع الفخار العديد من المواقع على إمتداده. خصوصا أن للطريق نفسه إمتداد آخرا، يبدأ من الفاشر ويتوغل غربا ليصل دار الريح، بممالك الجوار القديمة. حيث منبع الرِّيح عند تخوم الأطلسي الرهيب.
إذن كان الطريق "درب الأربعين" يتكيء على صحرائه، بين عالمين يقفان عند شفاه الشمس وهي تبتسم، من وراء البحر الملون. ووهي تنهي إبتسامتها عند الأطلسي وتغيب.
في تسفاره عبر هذا الطريق من الفاشر إلى أمبابة، حسب الأيام والليالي فوجدها أربعين يوما وليلة. فأطلق عليه إسم "درب الأربعين" ومنذها سار بصيت الطريق الركبان والحداة، حتى تناهى عبر التاريخ إلى جادين جانو، الآن.. وهو يكابد ما يكابد، من أحلام صانع الفخار والخزين المنسية، متأملا أفق البلاد الكبيرة الرحيب، من خلف نافذة غرفته المطلة على مقرن النيلين.
كان تاريخ "درب الأربعين" إذن - على حسب خرائط ومخطوطات صانع الفخار، التي حصل جادين جانو على بعضها -بطرق غاية في السرية والتكتم- منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد. فرضته ضرورات فك العزلة، والتواصل بين شعوب سهل البلاد الكبيرة والجوار.
أشار صانع الفخار في مخطوطاته إلى طرق أخرى، ظلت تربط شعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع بالعالم. وهي الطريق الذي يربط بين دار الريح والممالك المنتشرة، في حوض تشاد ويمر بكبكابية، ومنها الى كردفان وسنار وشندي والبحر الملون.
بعد مئات السنوات سيصبح هذا الطريق، هو الشريان الحيوي الذي يربط دار الريح كلها، بمنبع الرِّيح على تخوم الأطلسي، كما يربطها بالأراضي المقدسة، خلف البحر الملون في دار صباح.
فعبر هذا الطريق يمضي الحجيج من "كانم وبرنو" من ممالك دار الرِّيح العريقة، في طريقهم إلى الحجاز. حجيج كثيرون تتقطع ببعضهم السبل بين الأهل والأوطان، وبعضهم يطيب له المقام إختيارا، وآخرون يتم ترغيبهم من سلاطين دار الريح الأقوياء، لتعليم الناس فيقيمون ويصبحون فيما بعد أحد المكونات الأساسية، لشعوب سهل البلاد الكبيرة الواسع.
ثمة طريق آخر يربط دار الريح بطرابلس وتونس، يوليه صانع الفخار أهمية خاصة، لا تقل عن أهمية درب الأربعين. إذ تعود أهميته للإهتمام المتزايد لدى سلاطين دار الريح الأقوياء، بالحصول على الأسلحة من شمال أفريقيا لتأمين مملكتهم، التي برزت على نحو مباغت من أعماق "جبل مرّة"، لتمثل منارة تلقي بضؤها على دار صباح ودار الريح الكبيرة حتى تخوم الأطلسي.
وهو أيضا لا يقل أهمية في مخطوطات صانع الفخار، عن الطريق الذي يربط فاشر السلطان بأسيوط، في منحدر النهر الموازي ل"درب الأربعين".
كانت كل هذه الطرق، تحمل في داخلها عوالما صغيرة متحركة، تتمثل في مجتمع القوافل، المنظم تنظيما دقيقا، لا يخلو في إدارته من تراتبية تعني بكل شيء. حتى جوانب الأمن تجاه هجمات قطاع الطرق، ولصوص الصحراء والجنجويد.
وهكذا كانت حركة مجتمعات القوافل وأنشطتها، لا تهدأ منذ نقطة البداية حتى نقطة النهاية.
بعد مئات السنوات في محطات هذا الدرب، عثر الكشاف "جاك رينولد" على مخطوطات مهمة لصانع الفخار. أدى فك شفرات رموزها، لإكتشاف أن "وادي هور" في دار الريح هو نهر قديم بطول ألف كلم، حيث ينبع من هضبة جبل مرّة ويلاقي النيل بالقرب من "دنقلا العجوز". وأنه كان يستخدم أيضا -نهر هوّر- لربط دار الريح بالبلدة القديمة، حاضرة البلاد الكبيرة.
إهتمام سلاطين دار الريح الأقوياء المتعاظم، بكل هذه الطرق، وخاصة درب الأربعين وطريق الملح، ترتب عليه التجهيزات الكبيرة التي تجري على طول هذه الطرق، من حفر الآبار وصيانتها، وإقامة الحبوس لتأديب قطاع الطرق، وإقامة الربط لعابري السبيل والحجاج فيما بعد.
وربما السبب الأساسي لهذا الإهتمام، هو أن السلاطين وجيوشهم، كانوا هم الممولين الأساسيين للقوافل، وكما أن الطريق "درب الأربعين" إرتبط في وجداناتهم، بأحداث دينية هامة عبر السنوات.. آخرها تلك الكساوِّي، التي كان يبعثها أولئك السلاطين إلى خدام الحرمين الشريفين، وأهل الحجاز الفقراء والمعدمين!.
وبإستثناء المعلومات التي أوردها صانع الفخار، لم يهتم أحد عبر العصور بإعطاء أي نوع من المعلومات، التي تميط اللثام عن هذه الطرق، سوى ما تم تناقله شفاهيا وغذاه الخيال الشعبي.
Vii
يسأل أحدهم حمد الأعرج:
"يعني يا عم حمد العرب ديل هم عرب بطاحين ودناقلة وفور وشكرية وهدندوة ودينكا وأنقسنا ولا عرب تانيين؟"
"عرب وبس.. عرفت عرب يعني شنو؟يعني العرب، العرب، العرب"
"لكن بقوا عرب كيف؟"
"يا إبني ديل من يومهم عرب"
"طيب الجعليين ما جدهم الفضل بن العباس"
"يا إبني ده كلام جرايد ساكت.. الفضل ده وحياتك كان عاقر.. القصة تاريخ ولا كوار.."
"طيب جو من وين؟"
"سؤال زي ده إلا يرد عليهو المهدي"
"واشمعنا المهدي؟"
"لأنو دنقلاوي من جزيرة لبب، وكمان بعد ده كلو جده الرسول.. موش حاجة غريبة؟!"
خدم صانع الفخار كمهندس للقصر الملكي في علوة، وكمهندس زراعي في المغرّة، وكمهندس طرق في سوبا، وتنقل في أرجاء البلاد الكبيرة، متتبعا صوّى الساري وعلامات الطريق، التي تفضي بطريق الملح إلى تخوم ممالك الساحل. أو تقود درب الأربعين عبر منعرجات اللوّى إلى منحدر النهر.
وبحسب "الخزين طبلة" أن صانع الفخار الأكبر ولد في "جبال كتري" في قلب البلاد الكبيرة، وتعلم على يد "الفقرا الرحل"، وعمل في طفولته مزارعا بالأجرة في "حلالات وقرى دار الريح"، وعندما إشتد عوده إرتحل إلى دار صباح. فكان له ما كان في قصور الممالك النوبية.
كتاباته ومخطوطاته كتبت بلغة الفور والنوبية القديمة، الممزوجتين في لغات الصعيد ودار صباح، ما جعل هذا المزيج اللغوي المحير من الرموز، عصيا على البوح بكل مكنونات ما يريد صانع الفخار أن يقول؟!
بإنتقاله من دار الريح, التي تعتمد في حياتها, على مياه جوف الأرض و المطر، إلى دار صباح التي يشكل النيل شريانها.. وأمام رهبة هذا النيل، إبتدع صانع الفخار طرق الرّي الفيضي والحوضي.
"كان صانع الفخار يمتاز بخيال واسع وأصابع ماهرة".
عندما شعر من حوله في القصور، بتنامي نفوذه. أخذوا يدبرون المكائد للقضاء عليه!
فوقتها كانت بطانة الحاكم العام، قد فرغت لتوها من التخطيط، لفرض سلطتها وتكريسها لأطول وقت ممكن. بإستخدام الأفكار والأهداف السياسية النابعة من عقائد الناس، وتوظيفها لخدمة الحاكم العام. فقد كانت هذه البطانة تعتقد أن عقائد الأهالي ليست مجرد عقائد فحسب، إذ هي أيضا نظام سياسي واجتماعي وقانوني وإقتصادي، يصلح لصياغة البلاد الكبيرة كدولة إلهية! تستمد حياتها وسلطانها على الناس، مباشرة من الإله الذي يحكم العالم!
وكان أن حدث أن قام بعض العسس المتطرفين، بمحاولة قتل أحد زعماء الجوار، وحرق مركزا تجاريا ضخما عند تخوم الأطلسي الرهيب، منذها وقد توجهت الأنظار والإهتمامات، إلى ميليشيات الحاكم العام وحزبه الحاكم. لدراسة أفكاره وتحديد مدى خطورتها، على أمن وإستقرار البلاد الكبيرة والجنس البشري بعامة.
وهكذا أخذ العالم يعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات، للوصول إلى نتائج بهذا الشأن.
كان صانع الفخار الحفيد يرى: أنه لايوجد فرق بين أفكار هذا الحزب وعقائد الأهالي، فعقائدهم هي نفسها ما عبرت عنه بطانة الحاكم العام في حزبها، وهكذا لم تعد المشكلة في الأفكار التي يحملها حزب الحاكم العام بحد ذاتها، بل في مصدرها وطبيعتها وكيفية عملها في الناس، لدرجة تقبلهم تهديدها لحياتهم!
إذ لم يكن صانع الفخار يرى فرقا بين هذه العقائد وتجلياتها ومظاهرها وممارساتها العملية، في خطابات الحاكم العام. لذا لم يكن يرى أن من الخطل الفصل بين أفكار هذا الحزب، والعقائد التي يؤمن بها الناس! كطريقة وأسلوب للحياة محتشد بالنواهي والأوامر والفساد والإفساد.
كان صانع الفخار يدرك أن هذه العقائد تخرج عن حدود خصوصيتها، لدى تأويل حزب الحاكم العام لها، بما يخدم أغراض السلطة وأهدافها. ويؤمن لها وجودا شرعيا هي بحاجة إليه. ولذلك كان يرى الأمور بطريقة مختلفة. إذ يعتقد أن إيمان البعض أو إلحادهم، هو شيء يخصهم وحدهم، وفقا لقناعاتهم الفردية. وذلك أن القناعات لا يمكن حسمها بقرارات السلطة. وهكذا طوّر مفهوما للحرية والإختيار، شاع كثيرا في أنحاء البلاد الكبيرة، وعجل بتآمر بطانة الحاكم العام عليه!
وكان صانع الفخار عندما ينظر لكل هذه الطوائف، التي أنشأتها بطانة الحاكم العام. يدرك أن البلاد الكبيرة كوطن تمضي إلى حتفها، بحلول الطائفة محل هذا الوطن، الذي هي نقيضه! إذن كانت الطائفية بمرور الوقت قد سادت، وتوارى سهل البلاد الكبيرة – الوطن.. وتفشى القمع والفقر في كل تفاصيل الحياة، لكن منذ تلاشت الفروقات بين عقيدة الناس وممارسات الحاكم العام.. لم تعد البلاد الكبيرة "كوطن" تحتمل هيمنة الطوائف، التي تنذر بتهديد وتبديد كل ما هو جميل.
في قيلولاته المتباعدة، كان صانع الفخار يتكيء على جذع النيمة العجوز، على مشارف البلدة المترعة بالأسى والأحزان.. يلقي برأسه إلى الخلف، ويغمض عينيه. فيتداعى إلى فضاء ذاكرته صوت الخزين، يحدثه عن الطائفية وخداعها للناس وإستعبادهم. وإنتزاعها لأحلامهم من بين تلافيف أشواقهم وتطلعاتهم. لتشيد إمتيازاتها الخاصة. وسلطتها وسلطانها عليهم! فالطائفية كحزب الحاكم العام. لا تأبه لخير المجتمع ورخاءه. بل تتعيش من تخلف الناس وجهلهم. ولتكريس ذلك تتحالف مع كل ما من شأنه القضاء على معارضيها. الذين لا تتورع عن قتلهم معنويا، وإهدار دمهم بتكفيرهم وتنفيذ الحدود فيهم.. إرهابهم ومحاربة كل ما يمكن أن يجود به العقل البشري لتنمية حياتهم! إذ ترى أن ما تطرحه مقدسا، يستمد نفوذه من قدسية العقائد، وأي إختلاف معه هو إختلاف مع المقدس نفسه! وهو ما سيهدد البلاد الكبيرة بالزوال، إذ يعصف بالمجتمع، لأنه خارج وجدان الأمة!
كان الخزين يرى أن التشريع لحياة الناس، يجب أن يكون متعدد المصادر. فحياة الناس وميولهم أوسع من أن يتم تحديدها بمصدر وحيد، يتقاصر عن شمول ما بلغه العقل البشري وحياة الأهالي من تطور!
إذن تمكنت الطائفية وحزب الحاكم العام آخيرا من تحويل إنسان البلاد الكبيرة، إلى حطام إنسان فقير معدم، وضعيف تتناهشه المجاعات وينهش بعضه البعض، فكان صانع الفخار يفكر في السبيل لتحرير الناس والبلاد الكبيرة، بإسترداد روحها السليبة بسبب الإستخدام السلبي لوظيفة الدولة ومؤسساتها، من قبل الذين يدعون إمتلاك الحقيقة المطلقة، وإحتكار المعرفة بعقائد الناس. وهم في الواقع حراسا للنوايا وفقهاء للظلام! الذي يسيطرون به على العقول والحياة. فيحققون اغراضهم الدنيوية، التي تتناقض مع القيم المعلنة للعقائد. وهكذا يتم تعميم أنماط الإستغلال والإستعباد والقهر الإجتماعي كواقع لايمكن تغييره.
لذا كان صانع الفخار منشغل البال دائما، بإيجاد السبيل للإرتقاء بمفهوم للقانون، ينظم حياة الناس دون أن يهيمن عليهم.. قانون يغذي التسامح المفقود، ويعيد البلاد الكبيرة إلى مسارها في التاريخ.. كان يحلم ببلاد تخلو من الدّم والتطرف والإنتقام.. بلاد تتقلص فيها الأنشطة الهدامة للطوائف والجماعات، و يحمي القانون شعوبها بشكل متساو.. حيث لا توتر أوإقتتال.
إذن بما تنطوي عليه منحوتاته ومخطوتاته من روح ثورية، ألهمت الحركات المسلحة في أطراف البلاد الكبيرة، كانت أفكار صانع الفخار، تخيف كل الذين ارتبطوا بحزب الحاكم العام وطوائفه. فخشيوا من النتائج التي تختبيء خلفها، وهي النتائج نفسها التي حفلت بها معتقداته، حول أسئلة ذات وهوية البلاد الكبيرة. فصانع الفخار كان يؤمن، بأن العقل هو الذي سيؤهلنا يوماً ما، لمعرفة الإله المهيمن على كنائس الممالك النوبية، وأي إله آخرتقترحه الديانات السابقة أو اللاحقة.
هذا الإعتداد بالعقل، دفع رجال الدين إلى مطاردته، وتدمير ما طالته أيديهم من أعماله، بغرض أن يذكر التاريخ أنهم فعلوا كذا وكذا فيشتهرون! لكن التاريخ خيب ظنهم, ولم يذكر إسم أي واحد منهم! فظلت هذه الحقبة بحد ذاتها لغزا محيرا؟!.
الملكة النوبية (الكنداكة) التي رغم إعتناقها ونشرها المسيحية في قومها، حافظت على إرثها السابق، لكن ما توفيت حتى أصدر كبير وزراءها أمراً بمسح إسم صانع الفخار، من كل نقوش الكنائس النوبية، وتدمير معمل صانع الفخار في "سوبا" تدميرا كاملا. كما حرمت الكنيسة النوبية صانع الفخار نفسه "حرمانا كنسيا" بتهمة الهرطقة!
وهكذا عاش صانع الفخار أيامه الآخيرة مطاردا، إلى أن تم إحراقه ذات صيف غائظ، في ساحة الكنيسة الكبيرة التي يلتقي فيها نهر هوّر بالنيل في دنقلا العجوز؟
قتل صانع الفخار الأكبر بالطريقة ذاتها، التي قتل بها صانع الفخار الحفيد، فمات وحيدا حزينا أسيانا وآسيا تشيعه آلاف الحسرات!
Viii
في تلك الظهيرة البعيدة، وعلى الطرف الآخر من البلدة العتيقة، في اللحظة نفسها، التي صعدت فيها روح صانع الفخار، تطوف في سماء البلدة لمكفهرة، كانت إنداية كلتوم الفدادية، تشهد فصلا مشابها لما يدور في إنداية السرة كحل الليل. فقد بلغ السكر مبلغه بالجميع، فأخذوا يتفاخرون ببطولات وقصص من وحي القمع العنيف الذي كانت تشهده البلدة القديمة هذه الأيام بعد أن تولى إدارة جهاز الأمن فيها. جزارا مروعا. استأسد على الاهالي البسطاء بجبروته فكانوا في الحقيقة يحسبون له ألف حساب في العلن، بينما يمضون سرا في الإندايات يلوكون سيرته، ويشيعون أسراره، خصوصا التي تتعلق بخوفه من زوجته وتضاءله امامها. حتى ليصبح كالحمل الوديع!
كانت الزوجة من طينة النساء اللواتي، يسرن على حل شعرهن.. تحيا حياتها كما تريد، دون اكتراث لأي شيء، فقد دأبت على معاشرة الشبان والمراهقين بدون حسيب أو رقيب، الذين لم يكن زوجها عندما تتناهى إليه تقارير البصاصين عن أحدهم لا يجرؤ على التعرض له خشية أن يتسرب الأمر إلى زوجته، فلا يتعرض للعشيق المعني إلا بعد أن يأتيه البصاصين بتقارير أخرى تؤكد أن زوجته ما عادت تربطها صلة بالعشيق المعني, الذي لن يلبث أن يختفي في في ظروف غامضة دون ان يخلف وراءه أثرا.. كانت زوجته قد بلغت حدا من الجرأة باتت معه تستضيف عشاقها علنا، تارة في وضح النهار وأخرى خلسة، بمحل إقامتها المحروسة ليل نهار، بالبصاصين والعسس.
وذات يوم حضر الزوج، على حين غرة وضبط زوجته في أحضان شاب بغرفة النوم ولم يحرك ساكنا كأن الأمر عادي جدا، إذ ظل متسامحا فوق العادة اتجاه زوجته، في الآن نفسه كان يمضي ليبث رعبه في البلدة القديمة!
إنداية كلتوم الفدادية كغيرها من إندايات البلدة القديمة، لا تتوقف عن تناول فضايح البلدة القديمة، ولا يكف روادها عن المعارك الصغيرة التافهة, والتفاخر والمبالغات، إذ ما ان تلعب المريسة برؤوس روادها حتى تسمع أبكر يقول اعبد الله الجلابي:
"ياخي كان درت الرجالة تلقى في دارنا. وفي دارنا في بيتنا، وفي بيتنا أنا واسحاق أخوي.. وكان قربت إسحاق داك نار وولعت. وكان جيت علي أنا أبكر ده، أخير تقبل علي نارك"
"أنا والله حجابي ده الرصاص ما ياكلو"
"هاي رصاص وين.. أنا والله الرصاص ينزل فوق، وكان مكضبني أسأل حليمة.. شافت بي عينا"
وينعطفون بالحديث إلى منحى آخر:
"البارح إسماعين دق مرتا"
"سوى شنو يا ربي؟"
"إنت ما عارف؟! المرا قالت ما بتسوي المريسة!"
"الله ينعل مرا تاركة الصفاية!"
"تاركة الصفاية منو بيقعد في جوديتها؟"
وينعطف سمرهم مرة أخرى إلى نقطة بدايته، إذ يتذكرون فجأة غلاطهم حول الحجاب:
"والله الليلة إلا نجربي العكاز ده فوقك.. نشوف كان حجابك نافع"
وتدور العصي، وتخرج السكاكين من أغمادها وتصيح النساء:
"سجمي طعنو.. كتلو.."
بينما هم يتصايحون:
"رميتا ولد البقس.. ولد الكافرة.."
فيتدخل العقلاء ويفضون الإشتباك بالقوة..
"والله كان ما إسحاق اخوي خجزني منك، كنت أسل حلقومك.. قال حجابي يسوي ويسوي.."
ويعقد لهم مجلس الإنداية كيفما إتفق محاكمة عاجلة.. يقول رئيس المحكمة بعد إستعراض الحيثيات:
"تسووا دواس ساكت.. ده كلام شبع.. الليلة إلا تشوفو كلامنا نحن ترا.. كلامنا حار ما زي كلام الحكومة"
"انا والله قاعد ساكت نشرب في مريستي، الجلابي ده براهو جا قعد معانا"
"المشكلة وين هنا؟"
"وكت مريسة طلعت في راسو، قال حجابو أحسن من حجابي.. ونبذ حجابي.. طقاني بالعكاز فقمت طقيتا"
"وانت يا الجلابي طويرة البقر، الدواس كلو جبتو إنت.. قولك شنو في كلام أبكر؟"
وكان الجلابي يدرك أنهم سينحازون لأبكر:
"ما عندي قول غير كلمة واحدة بس، كلام أبكر ده كلو غلط.. هو بدا الدواس.. و"
وهكذا تستمر محكمة الإنداية المنعقدة تستمع إلي مغالطات الجلابي وأبكر.. بينما تبدأ الساقيات المتعاطفات مع أبكر، بما يحملنه من بغض مكتوم للجلابة، على خلفية تاريخهم في جلب الرقيق، تتغامزن:
"هي يا يمة هي.. شوف عيني الجلابي بال في لباسو"
فيشعر الجلابي أن أفضل شيء بإمكانه فعله الآن، هو الخروج بهدوء. وأن لا يعود إلى هذه الإنداية مرة أخرى أبدا.. فأرض الله واسعة والإندايات كثيرة..
في هذه اللحظة نفسها، التي تسلل فيها الجلابي خارجا متعذرا بقضاء الحاجة، في تلك الظهيرة البعيدة. وفي هذه البلدة المتكئة على مقرن النيلين. و بينما كان الأب جميل قسيس الكنيسة العتيقة، الذي بدى معتلا.. لا بسبب الإعتكاف وقلة النوم والطعام، بقدر ما كان بسبب مشاعر غامضة لا يدري كنهها، ظلت تتناهبه لأيام. أخذ القس يعد التحضيرات، مجهزا نفسه للقداس، بعد إعتكاف دام لشهور طويلة.. فيما لامست أنفه رائحة غريبة! هي مزيج من رائحة أوراق الشجر المعطونة في مستنقعات البلدة الصغيرة، ورائحة رّوث الحيوانات!
فبدى له ذلك غريبا! فالمستنقعات كانت جافة، بسبب عدم هطول المطر، أو فيضان النيل ذلك العام.. فأراضي البلاد الكبيرة كانت قاحلة.. وكل النباتات قد ذبلت. وكل الأعشاب قد جفت منذ أمد طويل، وأصبحت هشيما كالهبود. لذا كان من الغريب أن تتحسس خياشيمه، مثل هذه الرائحة التي عبق بها الهواء، الذي يحيط بالكنيسة. وكأنما البلاد الكبيرة تعيش إحدى خرائفها المنصرمة، منذ زمان بعيد!.. لم يجد القس تفسيرا لهذه الرائحة.
ترك القس كل شيء ومضى لا يلوي على شيء.
في طريقه مرّ بجمهرة من الناس، حول سجن البلدة. الذي كان في مساحته، أكبر من مساحة البلدة نفسها! ففكر في السجناء الذين تعاقبت عليهم الفصول، دون أن يروا أهلهم!.. ثم عبر إلى الفناء الذي يتوسط البلدة، حيث سوق ود أمجبو الورا السوق الصغير.. الذي كان خاليا من المارة ودكاكينه مغلقة. لم يكن هناك سوى دكانا واحدا غير مغلق.. إقترب منه.. كان مهجورا، رفوفه خالية.. ويبدو أن صاحبه هجره منذ وقت طويل، وقد عبقت فيه تلك الرائحة.. الرائحة نفسها التي حاصرت الفضاء حول الكنيسة، وأنتشرت في فضاء البلدة!
كان شعورا غامضا هو ما يسيطر على القس لحظتها، فأنحنى يصلي ليحفظ الرب البلدة، التي كانت تمضي بخطى حثيثة، نحو نهاياتها الوشيكة! كان حدسا خفيا يجعله يوقن أن ثمة هلاكا وشيكا!
وهو منقطع في صلاته عن الدنيا، سائلا الرب الغفران والرفق بشعب البلاد الكبيرة، كان متعبا.. حتى أنه أثناء صلاته، كان يغفو بين الآونة والأخرى بعينين مفتوحتين. إلى أن رأى ضوء ساطعا، وضجيجا عاليا يتخلل الضوء، الذي تشبعت به الرائحة، التي إستشرت في فضاء البلدة. فأخذ كل شيء يدور أمام عينيه: الدكاكين المهجورة، بقايا الشجر الجاف، الدروب الضيقة..
لم يكن يدري كم من الزمن إستمر على هذا الحال، إلى أن إنتبه أنه لا يزال في فناء الكنيسة، التي لا يدري كيف عاد إليها؟ بل إنتابته الظنون، أن كل ما حدث ربما هو أضغاث أوهام!
كان الهواء المشبع بتلك الرائحة يجرح رئتيه، فيشعر بالألم والضيق. عند دخوله إلى حيث يقام القداس، كان يعرف.. كما ظل دائما يعرف أنه بين يدي الرّب. فإذا خطرت بباله فكرة ما، كالخواطر التي تشعلها هذه الرائحة، التي هيمنت على كل شيء، تحول الخاطرة دون تركيزه في الصّلاة. و لهذا السبب لم يقدر على إكمال طقوس القداس. فمضى يخلع ملابسه و يغلق عينيه، عسى أن ينام فتهدأ خواطره!
تناهت إلى مسامعه أصوات مختلطة.. متزاحمة في بعضها البعض، فأرتدى ثيابه على عجل. وخرج. كان أهالي البلدة كأنهم ينشقون من جوف الأرض. يتزاحمون حول الكنيسة. أخذ يستعرض وجوههم، إلى أن توقف عند صانع الفخار، الذي كان مقيدا يرسف في الأغلال.. يحاصره رجال الحاكم العام من كل جانب.. توقف يتأمله طويلا..
بدى له صانع الفخار أنيقا في إبتسامته، التي لا يتغشاها الخوف أو الوجل.. كانا يعرفان بعضهما، فصانع الفخار الذي كان ينتظر المصلين لدى خروجهم من الجامع ظهيرة كل جمعة، ليخطب فيهم. كان يفعل الشيء نفسه بالخطبةأيام الآحاد، في المصلين الخارجين لتوهم من الكنيسة، بعد فراغهم من صلاتهم. كان القس يستمع إلى خطبه بإهتمام، ثم يهز رأسه وينفلت إلى داخل الكنيسة، إذ كانت خطب صانع الفخار، التي تخلو من الغيبيات، تذكر القس بفخار المعابد القديمة!
مع ذلك كان يحب مبالغتها في رصد حياة الناس. ويبتسم حين يتذكر أنهم أنفسهم، لا يدركون حجم ما يعانونه! لذا كان يعتقد أن من الخطل تبصيرهم بذلك وجعلهم يتذوقونه! ولهذا السبب بالذات حرص في صلواته، أن يستخدم كلماتا ورموزا إيمانية عاطفية، تطمئنهم أن كل شيء على ما يرام، وأن الله إذا أحب العبد إبتلاه! وأن الفقراء يدخلون الجنة! وأن المغرضين وحدهم من يريدون تصوير الحياة لهم، بعيدا عن ملكوت ورحمة الرب، الذي تقدست أسماؤه في الأعالي.. فالأرض ملأى بثمار الحب والسلام وما عليهم سوى قطفها؟!
كان كلاهما –صانع الفخار والقس- يعلمان أن الأب جميل كاذب أفاق، مثله مثل إمام جامع سوق ود أمجبو.. إذ يستغلان عقائد الأهالي البسطاء، التي تجذرت بأسرارها في القرون البعيدة، لإفهامهم أن السلام في متناول أياديهم، التي ما عليهم سوى مدها!
لذا في تلك اللحظة الفارقة، التي أدرك فيها القس أنها اللحظة الأخيرة، لصانع الفخار قبل أن يغادر الحياة، إلى حيث الأعالي، ليسبح في النيران السرمدية المفزعة، جزاء أفكاره الشريرة التي تريد تغيير حياة الناس!
في الحقيقة لحظتها كان صانع الفخار، يفكر على نحو مختلف. فمن قلب وحدته البديعة في التاريخ.. وهو يحاول تحريك يديه المغلولتين، كان يرى كل شيء مختلفا، وهو يشعر بدنو الأجل للقاء أجداده من صانعي الفخار العظام، حيث الأنهار الفريدة للخمر واللبن..
كان مظهره ملفتا للنظر في هذه اللحظة بالذات، أكثر من أي وقت مضى. بشعره المجعد الغامق، ووجهه الدائري، الذي إختفت منه التغضنات والأخاديد، التي لطالما برع الدهر في رسمها. شفتاه النديتين غم يباسهما، حتى عيناه.. كانتا ثاقبتين رغم الشحوب، الذي لاح عليهما بشكل غير مألوف!
"كان شكله حقا ملفتا للنظر"
هكذا ظل القس لسنوات عديدة يتنهد، أثناء خطبه المكرورة، التي لم يعد أحد يأبه للصلاة في الكنيسة لسماعها.. هكذا كان يتنهد.. كلما خطرت سيرة صانع الفخار، التي لا تخطر على باله، إلا أثناء إلقاءه الخطب. إذ كان شبح صانع الفخار يطارده أثناء خطبه المكرورة، بتلك الهيئة غير المألوفة، في تلك اللحظة الفارقة بين عالمين.
الأهالي الذين كانو متحلقين حوله في تلك اللحظة، كانوا يجزمون فيما بعد، بأن العسس عندما أشعلوا فيه النار، بدى غارقا في مطر العينة الغزير..
"كان مشرقا يرفل في سعادة خفية، كما لو كانت النار تغسله من كل خطايا البلاد الكبيرة".
في اليوم الذي أعدم فيه صانع الفخار صلبا وحرقا، إختفى الخزين ود طبلة، كأنه لم يكن جزء من نسيج هذه البلدة المعذبة يوما، ثم لم تلبث أن تواترت عنه الأخبار، فالبعض يقول أنه رآه أثناء نومه:
"لكن وجهه كان يشبه شيئا لا شبيه له!"
البعض الآخر ممن زعموا رؤيته في سرهم، تكتموا على الأمر ولم يفصحوا عنه، إذ كانوا يحاولون جهد طاقتهم تجنب تحقيقات عسس الحاكم العام وحزبه، فكانو يتدربون على أنفسهم في القيام بدور المتحري.
وفي الحقيقة لو أنهم ذهبوا الى العسس، لما تغير شيء في المسألة، إذ ليس بإمكانهم تقديم أي حقائق عن رؤيته، أو المكان الذي يختبيء فيه الآن، أو آخر مكان رؤه فيه، قبل أن يبلغوا العسس! إذ ليس لديهم أي براهين أو دوافع محددة، فهم ليسوا على يقين.. حتى.. من أنهم متعاطفين معه، ومع صانع الفخار أم حانقين عليهما؟! كما أنه كان قد تولد فيهم إنطباع عام –مثل كل الأهالي- باللامبالاة، وبلا جدوى أي شيء.
فعندما يفكرون في الأسباب، التي تجعل العسس يجدون في البحث عنه، لا يتمكنون من إيجاد إجابات شافية، فيرمون برؤسهم إلى الوراء وهم يتنهدون:
"على أية حال الخزين هو الوحيد الذي يملك أدلة براءته"
كانوا في حالة من البلبلة جعلتهم لا يميزون، أو يخطر على بالهم سؤال:
"البراءة من أي شيء؟ وماذ فعل ليدان؟ أي تهمة؟"..
إذ كان يبدو أن سكان البلدة قد أصيبو بالخبال، وهم يرون صانع الفخار يرحل مصلوبا ومحترقا في كنيسة توتي، ورماد عظامه يغطي سطح النهر، فيسد القناة التي تقرن النّهرين.
بعيد إحراق العسس لصانع الفخار، والإختفاء الغامض للخزين. شدد العسس من مراقبتهم أكثر من ذي قبل.. كان الجميع يراقب الجميع كل لحظة. في البدء حاول الأهالي التعبير عن إستياءهم وسخطهم من هذه الدوامة، التي كانت تشدهم للقاع. لكن مع إشتداد القمع كانت همتهم قد فترت، وشعروا بأنهم تقدموا في العمر كثيرا! بل أخذوا بمرور الوقت يعتادون الأمر، ولم يعد أحد يأبه لما يجري في البلدة القديمة، التي توشحت البؤس والحزن المقيم. فالعسس كمخلوقات فظة ووضيعة، تمكنت من زرع كل أنواع المخاوف والظنون، في الوجدان الهش لأهالي البلدة البسطاء! بعد أن تربصوا بهم في كل مكان، بكل ما كانوا يضمرونه من أحقاد وضغائن ضد المعارضين.
مع ذلك ثمة شيء واحد كان يهيمن على فضاء ذاكرة الأهالي الطيبين، من آن لآخر:
شبح صانع الفخار، الذي ظل يطاردهم طوال الوقت.
Ix
وفيما البلدة القديمة تعاني أحزانها، إنفجرت في الإندايات حكاية جديدة طغت على ما خلفه مقتل صانع الفخار من مناخ كئيب، إذ على نحو مفاجي فتح نظام الحاكم العام كل نوافذ إعلامه لبعض نساء كبار الموظفين للحديث عن حقوق النساء السحاقيات، وهكذا بات الجميع مشغول بالجندر، وكالادة إنقسم رواد الإندايات لفريقين، فريق يدافع بإستماتة عن المستميت عن حركة السحاقيات ويعلن مساندته لها، وفريق يقف ضد المثليين عموما في مشارق الأرض ومغاربها لا البلاد الكبيرة فحسب. ومضت الصحف التاربعة للنظام تحلل الظاهرة، وتؤكد أنها ليست ظاهرة دخيلة على المجتمع، فجل المدن العتيقة عرفت السحاق، عبر التاريخ العريق للبلاد الكبيرة.
وفي الحقيقة كان نظام الحاكم العام قد أراد شغل الناس، وصرف إنتباههم وتفريغ غبائنهم، على مقتل صانع الفخار. كإجراء وقائي، لقطع الطريق أمام أي حركة إحتجاجات محتملة.
عندما تناهى إلي مسامع صغرى زوجات الحاكم العام، خبرمقتل صانع الفخار، وإختفاء الخزين على نحو غامض، كانت لحظتها عائدة للتو، من إحدى رحلاتها السياحية خارج البلاد الكبيرة. برفقة عدد من حرسها الخاص. وكان أول شئ فعلته بمجرد وصولها قصر الحاكم، أن دخلت إلى جناحها وأخذتتتفقد كل شيء حولها لوقت ليس قصير، ثم أطلت برأسها من إحدى نوافذ الجناح. تتحسس الهواء الذي كان مشبعا برائحة الحريق والعطن.
كانت الشمس تحط فوق أسطح، المنازل فى أزقة البلدة القديمة.. وعلى نوافذ أجنحة القصر حطت طيور السمبر العرجاء، التي جاءت في غير مواعيد هجرتها. تنهدت زوجة الحاكم بشجن. وتراجعت إلـى داخل جناحها. وقد خيم على فضاء القصرصمت يشعل فيها الإحساس الغامر بالإنقباض. صبت لنفسها كأسا من البنقو المغلي، وجلست تحدث نفسها حينا، وتسرح في خيالها حينا آخر. في إنتظار الحاكم العام، الذي لم تشعر بالوقت الطويل الذي مر،عندما دخل عليها بادي الإنهاك والأعياء.
سرعان ما خلع ثيابه وأستلقى إلى جوارها، وغط في نوم متقطع. محاصرا بكوابيس أرواح ضحاياه. وهو يتمتم بإسمي سانع الفخار والخزين.. فأخذت تحاول أن تتذكر وجهي الرجلين، لكن كانت محاولاتها تبؤ بالفشل. إذ كان الوجه الوحيد الذي يهيمن على فضاء ذاكرتها لحظتها، هو وجه الحاكم العام. الذي إرتسم عليه كل رعب الدنيا ومخاوفها.
في هذه اللحظة التي كان الحاكم العام يعاني فيها كوابيسه المدمرة، بدى وجهه كوجه حرباء طاعنة في السن، تعاني نزعها الأخير، على أهداب موت وشيك لا يمكن تجنبه! فأنطبعت هذه الصورة التي لا تنسى في ذاكرتها وإلى الأبد!
إذ لسنوات طويلة بعد مقتل الحاكم العام، الذي وجد مختبئا في أحدى حفر البلدة القديمة، إثر هبة شعبية مباغتة. لم تعد تذكر تلك الأحاسيس، التى كانت تنتابها، عندما تتواثب رغباتها في حذر وجنون. فتلتف حول شعلة النار المتأججة داخلها. بعد مرور سنوات.. كل أشواقها السرية ستخمد وتنطفيء، كأنها كانت تستمد جذوتها، من شعور الحاكم العام بالحياة والطمأنينة التي تمنحها السلطة والنفوذ!
قبل أن يحدث لها ما حدث بوقت طويل، كانت عندما تنهض من فراشها في الصبيحات المتأخرة، لتستحم وتتجمل. بينما كان الحاكم العام يقف طوال الوقت، يراقب جسدها وعينيها بعذاب لذيذ. فى أيامها الأولى بالقصر، كان يطيب لها وهي بقميص النوم، أن تتأمل نفسها في جناحها الذي يعج بالمرايا. وفى الواقع لم يكن هناك ثمة داع للنظر فى المرآة، إذ كانت تتمتع بقوام جيد، ونِسَب ممتازة للجسد و الوجه والساقين الممتلئين. اللذان دائما يبدوان كسولين، عندما تقع النظرة العابرة على جفنيها اللذان يبدوان مرتخيين، يكادان يقعان على العينين فتبدوان ناعستين، لكن خاليتين من حشمة الزوجات.
وما ن تفرغ من تأمل جسمها، حتى تأخذ حمامها المعتاد. تجفف نفسها. ثم تجلس لتضع مساحيق التجميل بعد أن تسرح شعرها. تفعل ذلك بنفسها، إذ كانت تكره الإستعانة بالوصيفات، وتفضل خصي القصر في التدليك. وأحيانا كانت تطلب من الحاكم العام أن يؤدي هذه المهمة بنفسه.
وبعد أن تفرغ من زينتها، التي كانت تستغرق وقتا طويلا، تحتسي فنجانها الأول من البنقو المغلي، الذي كانت تفضله دونا عن جميع المشروبات. وهكذا بعد كل هذه المجهودات الجبارة، التي تبذلها عندما تصحو من النوم، إلى أن تحتسي فنجان البنقو المغلي، تشعر بأن الإجهاد والتعب العظيمين نالا منها. فتغفو قليلا في مقعدها الممتد الطويل. لكن لا تلبث عند الظهيرة، أن تدهم خياشيمها في تحد جسور، رائحة البنقو المغلي التي تضوع في كل زوايا وأركان أجنحة القصر، إذ تكن لحظتها زوجات الحاكم العام الآخريات، قد جلسن لشرب بنقو الظهيرة المغلي. بعد أن قضت مضجعهن ببنقو الصبيحة المتأخرة.
تنضم إليهن. تصب لها إحدى الوصيفات فنجانا.. فتتداول معهن بعد ذلك ما تناقله الحرس والوصيفات والعسس، من أخبار البلدة القديمة. الغارقة في مؤامرات إقتلاع الحكم وصراعات مراكز القوى. كانت أسوأ أوقات يومها كله، هي تلك اللحظة التي يستلقى فيها الحاكم العام إلى جوارها. وهو يعوي ككلبة ينتابها مخاض ولادة متعسرة.
كانت ترى نفسها بطريقة فيها نوع من العزاء، إذ تعتقد في دخيلتها أنها وبعد كل ما شهدته حياتها من مآسي، ونكبات. لا تزال صامدة وتقاوم ظلم الحاكم العام على طريقتها.
تحدق في جسمه اليابس الممدد إلى جوارها. أثناء عوائه. ثم تنقل بصرها عبر النافذة إلى فناء القصر، الذي شهد ملايين المؤامرات الفظيعة، التي لن يبقى منها شيء بعد وقت طويل. فقد كانت.. ببساطة.. تشعر في قرارة نفسها، ومنذ أن وطأت أقدامها قصر الحاكم العام للمرة الأولى، أنه رجل يتأهب للرحيل! لذا كل ما فعلته خلف ظهره، بدا لها قدرا لابد منه! خاصة عندما يبدأ شبح زوجها السابق المرحوم، الذي غدر به الحاكم العام، في سرية تامة. تطاردها..
في الليلة الأولى التي تلت مقتل صانع الفخار، كانت صغرى زوجات الحاكم العام تحتفل على طريقتها، وهي تنظر فى هدوء تتأمل جدران جناحها.. تمر بنظراتها على جسمه الفارع ثم تخطف، بصرها لترمي به عبر النافذة. ترتبك.. ترد بصرها. ثم ترفع عينيها. بينما كان هو يملي عينيه في كل تقاطيعها.
كان سبب إرتباكها ليس الإحساس بالخيانة، بل شعورا غامضا لا تدري كنهه. ربما تشعر للمرة الأولى، أن كل ما تنعم به من حياة، في طريقه إلى زوال وشيك. فتنهض من بين أحضان الحارس.. ترتدي ثيابها، وتدخل إلى الحمام.
كانت لا تألو جهدا في مقاومة مشاعرها.. رغباتها.. أفكارها.. دون جدوى.. عندما يخطر على بالها مدى إهتمام الحاكم العام بها ومحبته ولطفه، وشعوره المزمن بالتفاني في تعويضها زوجها المغدور!
لذلك تفننت في معاقبة الحاكم العام على طريقتها، مستهلة عقابها له بإقامتها علاقة مع سائقه، الذي أصبح بمرور الوقت كفرد من أفراد العائلة اعتبارا لطول مدة خدمته لها، كان يرافقها في رحلاتها داخل البلاد الكبيرة وخارجها، وغالبا ما كان يقضي معها جزءا من العطلة الصيفية. كان محبوبا لدى الحاكم العام! لأمانته في حفظ أسرار زوجاته. وفي الحقيقة بعد أن ملت منه، عمدت لعقد علاقة خاصة بينه وبين شقيقة الحاكم العام! ثم عمدت لتسريب شائعة مفادها أنه عشيق الفتاة التي كانت قد حبلت منه، والتي كان شقيقها الحاكم العام قد أعدم زوجها قبل عامين لإشتراكه في أحد الإنقلابات الفاشلة ضده! فتناسلت شائعة أخرى تفيد أن حملها إستمر لعامين دون أن يحين ميعاد ولادتها، وهكذا ظهر في الإعلام عدد كبير من الأطباء يؤكدون علميا أن ذلك ممكن الحدوث في حالات نادرة، وضربوا مثلا ببقاء يونس في بطن الحوت! فأطلق رواد الإندايات على شقيقة الحاكم العام لقب "المرأة الحوت" من الجانب الآخر كان السائق الذي أنفق حياته في مرافقة زوجات وشقيقات الحاكم العام، أكثر مما رافق أفراد عائلته، فاض الكيل بزوجته، فاتصلت بأصدقائه المحدودين،واستحلفتهم إقناعه بالتقليل من غياباته المتكررة عن بيته وعن أولاده، وفي الحقيقة كان الحاكم العام وقتها قد وقع على قرارسري بإعدامه غسلا لشرف العائلة!
X
لم يمض وقت طويل على مقتل صانع الفخار الأكبر، حتى تم إكتشاف معمل ثان في "الكوة"، لكنه أيضا دمر على يد كبير الوزراء.
مخطوطاته ورسوماته بيعت مقايضة بالملح للتجار القادمين من مالحة.. العابرون إلى أقصى دار صباح عند البحر الملون.. هذه المخطوطات تمت عملية تحديد أماكنها، على عهد الإحتلال التركي المصري في كل من سوبا، الكوة، دنقلا، جوبا، أبيي، القلابات، الفشقة، حلايب وشلاتين، بني شنقول، قيسان، الروصيرص، الفاشر ومليط وكامل أراض فوربرنقا.
وخلال عهد حكومة "السودنة - الإستقلال" تمت محاولة البحث المكثف، عن وثائق تظهر تصاميمه ومخططاته من قبل بعثات فرنسية. فظهر وقتها إسم "صانع الفخار" للمرة الأولى، كأحد عباقرة البلاد الكبيرة، الذين عبرت أعمالهم عن روح عصر متحفز، ظل يتكون في التشظي لآلاف السنوات؟!
تصاميم أغلب هذه الرسومات، ما تزال غير واضحة. كما أن لغة المخطوطات المزيج من لغات عدة، جعلت من الصعب فك شفرات الرموز. على الرغم من ذلك ألهمت المهمشين بعد مئات السنوات، الإجابة عن سؤال الذات الذي ظل يؤرق صانع الفخار؟!
من الوثائق التي فشلت الحكومات المتعاقبة وحلفائها وخلفائها، في إخفائها وتسربت للعلن. تلك الوثيقة التي ترصد أوجه الحياة الإجتماعية والثقافية والفنية والسياسية.. وكل الأنشطة، التي حفلت بها الممالك القديمة، في دار صباح والسافل ودار الريح والصعيد، عندما ثبتت المسيحية أقدامها في دار صباح القصوى و السافل والوسط؟!
بينما ظلت كل الوثائق، التي إكتشفتها البعثات المتعاقبة، منذ العصر التركي المصري.. وحتى عهد أول حاكم عام بعد الإستقلال، تختفي في ظروف غامضة، وتظهر هنا وهناك على نحو متباعد، في متاحف العالم ودور وثائقه، والمجالس السرية والمعلنة لأهل الحكم والثقافة والسياسة والأدب، في البلاد الكبيرة.
بل أن الوثيقة الوحيدة، والتي هي "حجة في شكل حكم البلاد الكبيرة وكيفيته"، والتي كانت موجودة في دار الوثائق المركزية، تمت سرقتها (من قبل أحد سياسي البيوتات في البلاد الكبيرة) وأختفت في ظروف غامضة، دون أن يبين لها أثر؟!
وهكذا ظلت أعمال صانع الفخار، غير منشورة بشكل رسمي، تبعاً لمنع آيديولوجي من نشر إسمه وتاريخه. وإرثه القومي، وخصوصاً خفايا أعماله. ما يؤكد أن هناك مؤامرة دائمة ومستمرة لاحتواءها آيديولوجيا، لإخفاء أفكار أصيلة، و إختراعات كثيرة سابقة لعصرها، وكل الدلائل تشير إلى أن كل ما يتعلق بصانع الفخار، من سيرة ومسيرة، محفوظ بسرية تامة من قبل الأمن والمخابرات، و مفوضية أحزاب البلاد الكبيرة، التي تتكون من الثلاثة الكبار، الذين يحلون ويربطون ويتحكمون في تاريخ وحياة البلاد الكبيرة على كيفهم؟!
صانع الفخار منذ طفولته الباكرة، إستهواه تشكيل الطين. فهو لم يخلق من النور أو النار.. بل من الطين! لذا ظل دائم الحنين لمصدره الأول؟!. كما ظل دائم الخوف على هذا المصدر، الذي يتأثر دائما بمناخ البلاد
الكبيرة المداري. والذي يتميز بارتفاع درجات الحرارة معظم أيام السنة.. وتدرجه من جاف جدا في أقصى السافل، إلى شبه الرطب في أقصى الصعيد. حيث تصل درجات الحرارة أقصى معدلاتها في فصل الصيف، و حيث يصل المعدل اليومي في بعض الفترات، إلى جحيم لا يطاق في الصعيد.
الأمر الذي يجعل الطين حزينا متشققا عن أساه!.. ظامئا ومتوجعا.. لا تهدأ آلامه إلا بهطول الأمطار التصاعدية، التي تتحكم في حركة الفاصل المداري. والتي يتصف بها سهل البلاد الكبيرة. باستثناء ساحل البحر الملون، حيث المطر الشتوي يداعب التربة المالحة، فيمنحها شيئا من البوح المبتل بالدموع!
أكثر ما كان يؤرق صانع الفخار من هموم، هو سيادة سمات الصحراء في السافل، والهطول المتقطع للأمطار في دار الريح. وتكرار موجات الجفاف، التي تتفاوت في طولها وحدتها، ما يجعل الطين حزينا وبائسا ويابسا ومكتئبا وكئيبا! لولا إشفاق البحيرات الداخلية والأودية الموسمية عليه، لذرته الرياح في فضاء الكون الواسع، وأصبحت البلاد الكبيرة محض فراغ!
كانت نقطة البداية في الطفولة البعيدة الغابرة، هي وقوفه لساعات طوال أمام هيبة الطين.. غموضه.. مرونته.. سيولته و قدرته على التشكل الفائق.. وكثيرا ما توقف أمام نفسه كمخلوق من طين، وسرحت أفكاره في العالم اللانهائي للطين، إلى أن أصبح الطين منهجا يتحكم في أعماله، يصنف عبر نوعيته وهشاشته وصلادته: أنواع الناس وأحوالهم.. والأشياء ومعناها.. والأماكن وقيمتها، وكذا العلاقات المقيمة والأخرى العابرة! بل وأحيانا "أصدقاء العلاقة"، الذين "يقفزون" على العلاقة ذات نفسها، فتروح الصداقة هدرا!..
هكذا إذن فتحه الفخار على عالم لانهائي.. لا محدود.. عالم مسكون بالحقائق وأنصافها وأرباعها، كما هو مسكون بالقدر ذاته بالهواجس والظنون والجنون!
"أنه صانع الفخار".. أو كما بدأ أقرانه يطلقون عليه، وهم يلحظون إهتمامه المتزايد بتشكيل الطين..
خلال سنوات طفولته وصباه, تجمعت لديه مقتنيات ذات أشكال عديدة من صنع يديه.. أشكال لبشر وحيوانات.. أزيار وقداح صغيرة.. و..و أشكال حلمية هو نفسه لا يدري لماذا صنعها، ولا إلى ماذا تشير أو ترمز بالضبط؟!
كانت غبطته لا توصف، عندما يأتيه أقرانه الأطفال والصبيان بطينهم، ليصنع لهم منه شيئا ما..
في مراهقته أخذت أفكاره عن الطين، تتخذ منحى يليق بقلق المحاولة الأولى لإكتساب المعرفة، وإكتشاف العالم. فنالت إهتمامه أنواع محددة من الطين: طين الغابات على ساحل البحر الملون.. غابات القرم (المانقروف)، التي تنمو في الخلجان والشعب المرجانية، التي تأوي أصنافا متعددة من الحياة البحرية النادرة. وطين الجزر الرملية ذات الطبيعة الساحرة، وطين أم درمان الصلد، وتلك الأنواع العديدة من الطين، الذي تزخر به البيئات المائية العذبة والمالحة.
والطين الرسوبي في السافل، وطين حوض تكوينات أم روابة، وهكذا وجد نفسه ينزلق في الطين إلى دهاليز الجغرافيا و التاريخ وأقبيتهما. فامتداد سهل البلاد الكبيرة عبر ثمانية عشرة درجة من خطوط العرض، وتباين أحوال المناخ والطبوغرافيا. أدت جميعها إلى تباين النباتات الطبيعية وتنوعها. وأسهمت في تعدد وتباين أنواع الطين؟ فكان يستخدم كل نوع من الطين للغرض الذي يلائمه!
فالأقاليم النباتية المتدرجة من الصحراء في السافل، إلى الغابات المطيرة في أقصى الصعيد و دار الريح، أدت لكل هذا التنوع الطيني وأثرت فيه كما أثر فيها.
لم يكن ما لفت نظره حقا أن إستخدام الطين، في أعمال الفخار والخزف مجرد محاولة أولى، لإشباع غرور الجنس البشري، في مشاركة الخالق أعماله ومهامه الجسيمة وإهتماماته الإبداعية؟!..
إصداقا للقول.. بل هي الجرأة على منافسته، على طريقة الضالين المغضوب عليهم، وغير المغضوب عليهم.. أيضا! في الحقيقة والواقع الأعم!.. كيف؟!
عن طريق حرق الطين وصقله في "الكمائن والهوانيب"، تماما كما كان حال أبو البشر آدم –حسب الروايات الدينية- لحين من الدهر، تهطل عليه أمطار الفرح حينا وحينا أمطار الحزن..
إذن هكذا إكتشف –صاحبنا- النيل والخصوبة والحياة.. إكتشف عالما كاملا متكاملا، جزيئاته تترابط في حبيبات الطين بسيولة النهر، لتعبر عن نفسها في الخلود الهش؟! تبدأ بالزير وتمر بالمبخر، وتنتهي عند كل ميلاد بشري جديد، بكل ما يحمل هذا الميلاد من خصوبة ونماء في حفرة الدخان!
للطين ذاكرة ووجدان يحتفظان بآثار العصور الغابرة: فلكلورها.. سير أهاليها وأسلافهم الصالحين.. مسارات صعودها وهبوطها.. أحاجيها وحكاياتها الشعبية.. ذاكرة ووجدان يحتفظان برائحة وعرق وملمس أصابع صانع الفخار، وهي تتنقل مخلخلة هذه الحبيبات الناعمة، لتصوغ منها شكلا ما، ربما هو فكرة في خاطر غامض, قد تفصح عنه العصور اللاحقة، ليكشف المزيد من أسرار ما قبر!. وربما..
Xi
البلدة القديمة منذ بدأت تتشكل كبلدة عبر التاريخ، دائما كانت إنداياتها تختار موقعها على أطراف البلدة وضواحيها،عند إمتداد السوق الورا. من هذا الموقع المطل على طرق القوافل، كانت الإندايات تشرف على تقديم خدمات البلدة في الشرب والإنسطال، والمتعة للعابرين من القبل الأربعة للبلاد الكبيرة.
وكانت ثمة حوارات معتادة تدور بين الرواد الدائمين والغرباء، الذين يتوقفون عند الأندايات لوقت قصير، ريثما ترتاح جمالهم ويرتاحون من عناء التسفار.. إذ غالبا ما تسمع حمد الأعرج، وهو يرد على تحية أحد هؤلاء الغرباء المسافرون، بعد أن يستوثق من هيئته أنه ليس جاسوسا:
"سلامات يا أرباب.. أهلا أهلا إتفضل.."
ويمد له قرعة المريسة:
"شكرا كتر خيرك ويزيد فضلك.. الحكيم مانعني من الشراب.."
"حكيم بتاع الساعة كم. الحكيم الله"
ويسأله الغريب الذي ينخدع بهيئة الأفندية التي أغرم حمد الأعرج بتقمصها:
"صحيح الخواجات طلعوا القمر؟"
"إنت بتصدق كلام الجرايد ده. علي اليمين نوح ذاتو ما يصل القمر، خلي الخواجات. سيبك من كلام الجرايد الفاضي ده.. هسه لو مشوا هناك صحي وجا رمضان حيعرفوه كيف"
"لكن الخزاجات كفار.. ما بيصوموا؟"
"كان المابيصوم كافر.. البلد كلها كفار.. سيبك بالله من الكلام ده.. تعرف مريسة السرّة دي تخلي مخ الواحد شغال زي الساعة، يفهم الحاجة وهي طايرة"
على مبعدة كان مدمني القمار يقامرون بالكوتشينة، على ما أحضروه معهم من ديوك وعتان ونقود.. ما يثير حفيظة السرّة فتطردهم وهي تصيح بعشمانة الساقية:
"إنتو ماتجو هنا تاني.. أمشو ألعبوا غادي غادي.. ده بيت مريسة محترم ولا فوضى.."
"عشمانة .. يا بت.. أمسكي القرعة من الشايب الأعرج ده.. تاني ما يشرب كفاهو.. عشان يقدر يمشي بيتو"
فيلعن حمد الأعرج أبو الدنيا وهو يقول:
"والله حكم لكن. والله كويس لكن. ما أشرب كان شربت. موش قروشي وأنا حر فيها.. أنا بشرب من زمن التركية ومافيش حد سمعني كلام زي ده"
"كان شربت أكتر من كده ما بتقدر تمشي، وتنوم لينا زي البارح هنا.. ونحنا ما بنقدر على كلامك بالليل"
"أنوم أنا؟ طيب أسمعي علي الطلاق.. أنا أنا تحرجيني كده.. وحيات تربة أبوي شهر كامل ما أنوم. فاهمة ولا ما فاهمة"
فيقول له الغريب:
"لا يا عم حمد. ما تحلف ساي. شهر كتير خالص.. السقد ما بيقدر عليهو"
"لا لا أنا ما ولد صغير.. أنا كلامي واحد. شهر يعني شهر"
أحيانا، يصاب المرء بالذهول من جراء اكتشافه لظاهرة أو قضية يستعصي على العقل قبولها، بل والإقرار بها. ومن ضمن هذه الظواهر ما أصبحت تعرفه إنداية السرة كحل العين، ربما لأنها الأقرب إلى قلب البلدة القديمة وسوق ود أمجبو والسوق الصغير الورا.
فإلى جانب عملها كفدادية، كانت إندايتها أيضا أحد الأماكن الأساسية التي تضرب منها المواعيد بين فتيات وسيدات محترمات من علية القوم بالبلدة القديمة، للتوجه إلى أماكن معلومة لممارسة السحاق، بعد أن فجر إعلام نظام الحاكم العام قضية الجندر، على الرغم من رفضه التوقيع على إتفاقية سيداو.
حسب جادين جانو في الفترة التي تلت مقتل صانع الفخار وأثناء بحثه المستميت لتجميع أعماله، أن حمد الأعرج أفاده أن ظاهرة تفشي المثليين بدأت تتفشى وسط الطالبات والطلاب وفقا للحكايات التي كان يسمعها من زملاؤه في المطبعة القديمة.
فيؤكد جادين إستنادا على مصادر أخرى:
"أن إختيار إنداية السرة أو أي إنداية أخرى لضرب المواعيد، ذلك لأن الإندايات باتت أكثر الأماكن أمانا ولا تثير الشكوك باعتبار حركة الرواد من مختلف طبقات المحتمع، فضلا عن كونها المكان المعروف لطلب المتعة، ما يرفع الحرج عن المثليين"
وهكذا كانت أيام الإندايات تمضي حكاياتها ما بين طرفي حافتين: الغرباء، الذين يجيء بهم الطريق، والرواد الدائمين، الذين يتسللون من السوق الورا بعد أن يقضوا إحتياجاتهم فيه.
موقع السوق الورا، موقع غريب وفريد.. فهو كيان مذهل! يتصل بالبحر والأنهار، حيث دلتات الطين الصلصال.. بإختصار: السوق الورا ظل عبر تاريخه، ملتقي لطرق العالم القديم والجديد.. هذا الموقع المميز جعله مركزا حيا لتجارة الفخار، بالتالي إنتقال مركبات الثقافة والأديان والسحر والدجل والشعوذة والعادات والتقاليد و.. والأعراف و الطرق الصوفية، والطوائف الدينية، فيما بعد.
تجد في السوق الورا كل شيء بدء بالمشغولات الذهبية، وصناعات الحديد والألمونيوم والكوانين، مرورا بصناعات السعف وكناتين الكول، والتوابل والمأكولات الشعبية، وجزارات الكمونية واللحوم والأسماك والدواجن..
هكذا إذن نشأت علاقات تجارية وثقافية وسياسية معقدة، مركزها السوق الورا منذ الأزل. حيث كان القدماء يطلقون على السوق الورا تسمية "أرض الأرواح أو مقابر ود أم جبو أو أرض الله"، لشدة إنبهارهم بهذه الكيمياء العجيبة، التي تربط الآخرين.. كل الآخرين به- خصوصا علاقة الأحياء بالموتى والبعاعيت- وتجعلهم يتفاعلون مع الحياة التي تتصل به.
شعوب البلاد الكبيرة إعتادت السكنى حول السوق الورا، منذ العصور الحجرية. حيث أتخذوا أولى خطواتهم نحو الحضارة. فقاموا بصناعة الفخار وإستعمال المواقد والنار للطبخ. وقتها كانت البلاد الكبيرة التي يعتبر السوق الورا حاضرتها، مركزا لحسد الجوار وأطماعهم. التي ترتبت عليها غزوات وإحتلالات وإقتطاعات في الجغرافيا، خصوصا في العهد الذي سبق الحضارة الكوشية، حيث حاول الغزاة القادمين من مصب النهر، فرض لغتهم وثقافتهم؟!
وكان الحال هكذا أيضا على عهد الهكسوس. والعهد المروي. أي إستمر الإستهداف العنيف والمباشر في المرات الأولى، حتى القرن الرابع الميلادي. عندما ازدهرت تجارة الصمغ والعاج والبخور والذهب، بين الغزاة المحتملين وبين السوق الورا.
السوق الورا كان غريبا بين الأسواق، في كل العصور. خصوصا عصري الذهب الأبيض والأسود، فهو منذ القدم ظل متصلا بدول الصحراء الكبرى غربا وشمالا، وبلاد النجاشي شرقا، وجنوبا حيث الماو ماو والبانتو والألور والكاراموجا.. بل كان متصلا حتى بهند بوذا؟! كما أن هوميروس أكد بشدة، أن الآلهة يجتمعون كل عام في هذا السوق في عيد التنصيب السنوي، يتبادلون الأنخاب والأفكار؟!
لكل هذه الأسباب التاريخية، كان العشاق لا يصبحون عشاقا تاريخيين، إلا خلال علاقاتهم الناشئة في الكيمياء العجيبة لهذا السوق!.. وهكذا تكرست علاقة منصورة بصانع الفخار- الحفيد، خلال حياة هذا السوق!
Xii
صانع الفخار الأكبر، كان هو أول من تنبأ بوجود الزيت الأسود، تحت الطبقات القصوى للطين، خلف السوق الورا عند مقابر ود أمجبو.. وفي مواقع أخرى مختلفة، من سهل البلاد الكبيرة الواسع. لكن هذه النبؤة تم التواطوء عليها عبر الحقب المتعاقبة، ولم يماط عنها اللثام إلا في وقت متأخر..
وفي الحقيقة لم يتنبأ صانع الفخار بوجود الذهب الأسود فحسب، فقد سبقت نبؤته هذه نبوءات عديدة، ترتبط جميعها بمكنونات الطين. وما ينطوي عليه من معادن عديدة، في الأنحاء المتفرقة لسهل البلاد الكبيرة الواسع.
وأجمعت كل هذه النبؤات، أن جشع الحكام وإستبدادهم وطمعهم وفسادهم، سيؤدي للإقتتال على مكنونات الطين، ما يضع السهل كله في مهب الريح السموم، فيتحول الطين إلى ما هو أسوأ من الحصرم.
الآن بعد كل هذه العصور،عندما ينظر "جادين جانو" إلى ما توفر بين يديه، من نبؤات يشعر بغصة في حلقه، فالتواطؤ على نبؤات مكنونات الطين، أدى إلى إنفجار هذه المكنونات، وتبع ذلك الحروب و الفقر والجوع، والتدهور البيئي وتمزق السهل الواحد إلى سهول عديدة!
Xiii
كان الطين إذن هو نافذته، التي يطل منها علي تاريخ البلاد الكبيرة، في عصورها الغابرة وعصرها الحالي ومستقبلها.. بعد مئات السنوات.. عندما يولد صانع الفخار الحفيد، ذات صبيحة مشبعة بدعاش النيل النديان.
لذا وهو يرى الماضي والمستقبل متزامنان في حاضره، إهتم بالبحث في مفردات هذا الماضي، فعلم من الأدوات الحجرية، التي عثر عليها أثناء تسفاره وتجواله وتنقلاته، في سهل البلاد الكبيرة الواسع. أن الإنسان سكن هذا السهل في البلدة القديمة في عصر الحجر. وأن هذا الإنسان كان جنسـاً زنجيـاً، يختلف عن أي جنس زنجي آخر، يعيش اليوم. وقد إتخذ أول خطوة معروفة نحو حضارة السهل. وكان ذلك بصناعة الفخار وإستعماله.
وأن أحفاد هذا الإنسان، كانوا مغرمين بالبحث في الطين.. فقادهم البحث لإكتشاف النحاس، الذي قاموا بتعدينه، وصناعة العديد من الأدوات و المشغولات منه.
وظل هذا الإنسان على الدوام مستهدفا من الجوار، على حدود السافل. ما قاد للإحتلال الفعلي لجزء من أراضي السهل أسفل النهر. إذ تمت السيطرة على منطقة "سمنة" التى بنى فيها الغزاة ستة عشرة حصنا منيعا.
أحفاد هذا الإنسان نفسه شيدوا حضارة كرمة، التي تدل تنقلات جادين جانو في أرجاء السهل، وما عثر عليه من جداريات ومنحوتات في الكهوف والجبال المحيطة، أن أحفاد الغزاة الأوائل، حرصوا على تشييد مركزا تجاريا كبيرا فيها، كان لوجوده أثر كبير في المصاهرة وإنتقال مركبات الثقافة..
وما لاحظه في بحثه عن "كرمة" الفخار الممتاز، الذي سيعرف بعد مئات السنوات ب"خزف كرمة"، والذي يُعتبر أجود خزف عُرف في وادى النيل، منذ فجر التاريخ.
الأحفاد المتعاقبين للغزاة الأوائل -على عهد الهكسوس- وجهوا همهم إلى بلاد النوبة. وشرعوا في تنفيذ سياسة توسعية تجاه البلاد الكبيرة. إلى أن تمكنوا بعد سنوات طويلة، من إحتلال أجزاء واسعة من السهل أسفل النهر، وحتى الشلال الرابع لمدة ستة قرون. إستنزف الغزاة خلالها الكثير من موارد البلاد الكبيرة المتعددة، مثل الذهب.. خشب الأبنوس.. سن الفيل.. العطور.. البخور.. ريش النعام.. الفهود وجلودها.. الزراف.. كلاب الصيد والماشية.
وفي هذا العصر بلغت البلادالكبيرة، أقصى درجات رُقيها. إذ إزداد الرخاء وإتسعت التجارة بين البلدين، وطُبعًـت حضارة سهل البلاد الكبيرة، بطابع الجوار أسفل النهر.
قرون الإحتلال الستة أثارت الوعي القومي، لأهالي سهل البلاد الكبيرة. ونبهت السكان الأصليين، إلى أهمية بلادهم وكثرة خيراتها. فاستغلوا أول سانحة لاحت لهم، وهي تدهور إمبراطورية الجوار أسفل النهر. فأعلنوا إستقلالهم. و وأقاموا عاصمة لمملكتهم المستقلة في "نبتـه" الواقعة أسفل الشلال الرابع.
بل وتمكنوا فيما بعد من إحتلال الجوار أسفل النهر، وإخضاعه. وتأسيس دولة قوية إمتدت من البحر المتوسط، حتي مشارف الحبشة لمدة تزيد عن الثمانين عاما.
وهكذا صارت كوش قوة لا يجهلها أحد. ولكن عندما غزا الجوار أسفل النهر الأشوريين، وإستخدموا الحديد كسلاح فاعل في ذلك الوقت، أجبروا "كوش" علي التراجع إلى الوراء، داخل حدودها الأصلية، ضمن سهل البلاد الكبيرة الواسع المتسع.
وبإنتقال العاصمة من نبتة إلى مروي، إزدهرت صناعة الفخار والحديد، حيث كان العابرون يرون في مروي أكوامـاً عالية هي أثار فضلات الحمم، التي كانت تخرج من أفران صهر الحديد. ولهذا السبب ستوصف بعد مئات السنوات ب "برمنجهام أفريقيـا القديمة"، لتستمر كحضارة أفريقية لما يزيد عن الثمانية قرون. تنشر النور حولهـا من عقائد وأفكار وقدرات فنية.
عندما إعتلي عرش النوبة ملك يُدعي "داود" عام 1272م قام النوبيون بالهجومٍ علي المدينة العربية "عيذاب"علي ساحل البحر الأحمر. محاولة منهم لدحر الغزاة العرب، من أراضي السهل الواسع جهة دار صباح.
بعد ذلك دخلت مملكة النوبة في عهد المؤامرات، وإستمر الحال هكذا إلي أن إنهزم "كودنيس" أخر ملك علي مملكة "دنقلا" عام 1323م، وإنتهت الدولة المسيحية، وصارت البلاد مفتوحة أمام الغزاة العرب، وإنتشر الإسلام.
أمـا مملكة علوة، فلم تحمل جداريات ومنحوتات صانع الفخار، معلومات تذكر بشأنها، عدى الشذرات التي أفادت أنها، ستسقط عام 1504م علي يد تحالف العرب العبدلاب القواسمة والأفارقة الفونج.
بينت حضارة كوش، أنها غربلة أفريقية للآراء والأساليب والمعتقدات، تأخذ منها مـا ينفعها وتضيف إليها مـا إبتدعته. إلى أن دهمها الخطر من جنوب الجزيرة العربية، عندمـا هاجر قوم من هناك إلي داخل الحبشة، وأنشأوا دولة أكسوم، التي قويت وإستطاعت أن تحول بين كوش وشرق القارة الأفريقية والمحيط.
وبالتدريج تمكنت هذه الدولة من قـهر كوش عندمـا قام "عيزانا" أول ملك مسيحي لها بـغزو كوش وتحطيم عاصمتها مروى عام 350م.
إذن في الأصوات المتلاشية لحطام مروي، كانت دار الريح ترجع الصدى، وتتململ لتفصح عن ممالكها الصغيرة، المتناثرة في جغرافيا الوديان، كجزر في أرخبيل واسع.. والتي فيما بعد وعلى أنقاض هذه الممالك. ومنذ 1445 أخذت تشكل سلطة الإقليم الموحد، بنظامه الإداري الواحد، الذي لا يستتثنى شبرا من أرض دار الريح، التي هي خمس مساحة البلاد الكبيرة، قبل إنفصال الصعيد.
وبعد عشرات العشرات من السنوات، لدى إستيلاء كل حاكم عام –سواء كان محليا أو أجنبيا- على السلطة في البلاد الكبيرة. كان لايؤرقه شيء سوى دار الريح. التي تناقضت على الدوام مع "مركزية سنار" بالتالي "أمدرمان". فدار الريح بسلطتها الواحدة وإقليمها الواحد الموحد، ليست مجرد جغرافيا يتشكل داخلها سؤال السلطة–ففكرة الجغرافيا الواحدة الموحدة- صارت بمرور الوقت كالعقيدة في وجدان السكان الأصليين، بالتالي حجر عثرة أمام مخططات الطوائف والحكام العامين التقسيمية، التي تهدف لإضعافها بالتفتيت. ليؤول هشيمها إلى سيطرتهم الكاملة. ولذلك عمدوا لإزاحة أهل الدار، وإحلال وافدين محلهم من عرب غرب أفريقيا وشمالها الرُّحل، بإسم نقاء العرق. كعامل تفتيت فاعل، بعد فشل عامل الدين والمصاهرة في تدمير اللغات والثقافات المحلية. وهكذا معادلات السياسة أفضت في النهاية إلى أثننة كافة أنشطة الحياة.
ما أصاب الناس بالفزع.. ففي كل يوم يمر، يتكشف لهم الحجم الكبير للمؤامرة، التي تتعرض لها البلاد الكبيرة، وخصوصا دار الريح! وهكذا بدأ الأهالي يتسللون إلى الفيافي والغفار والغاابات، يحملون السلاح. مفتتحين فصولا دامية من حرائق الأرض والتاريخ واللغة، على أنقاض الإدعاءات الدينية والعرقية البائسة.
(إنتهى الجزء الأول- آلام ذاكرة الطين)
ويليه:
الجزء الثاني: (مقاطع من سيرة المقدس سره)
الجزء الثالث: (خريطة الطريق)
ميريلاند، برينسس آن- أيوا سيتي، سيدار رابيدس
2012-2014




Abo abdalla غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-11-16, 02:54 AM   #2

Abo abdalla
 
الصورة الرمزية Abo abdalla

? العضوٌ??? » 386740
?  التسِجيلٌ » Nov 2016
? مشَارَ?اتْي » 3
?  نُقآطِيْ » Abo abdalla is on a distinguished road
افتراضي الجزء الثاني من ثلاثية صانع الفخار: المقدس سره..

ثلاثية صانع الفخار
الجزء الثاني
مقاطع من سيرة المقدس سره
رواية
أحمد ضحية

إهداء
إلى زوجتي،
شذى،
معا على الدرب الطويل..
أحمد
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛
إذا كان هناك ثمة من هو مقدس سره، فهو صانع الفخار نفسه - الكنداكة
***
الإنسان مدين بالاعتراف بالفضل لنفسه، ولهذا السبب بالذات فهو بحاجة إلى إله - نيتشة
***
ترى ما الذي كان بإمكان البلاد الكبيرة انتظاره، من أفق تفكير كافق تفكير المقدس سره، بمتناقضاته ومفارقاته، سوى الرؤية المتشظية عن الإنسان والجغرافيا.. هذه الرؤية التي لا يوحدها سوى الاختلاف و التشوه والتمزق! - جادين جانو
***
أيها الناس: إذا استولى الحق على قلب، أخلاه من غيره، واذا لازم احد أفناه! - حسين الحلاج
***
وسوف يذيقون الشعب الأمرين. وسوف يدخلون البلاد في فتنة تحيل نهارها إلى ليل. وسوف تنتهي فيما بينهم. وسوف يقتلعون من أرض (البلاد الكبيرة) اقتلاعاً - محمود محمد طه
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ ؛؛؛

1
صلب صانع الفخار على "عيدان شجرة اللعوت سيئة الرائحة" في فناء كنيسة البلدة القديمة!
عندما أشعل الجلاد النار، في كومة جثة صانع الفخار المتناثرة أشلاء، وارتفعت سحب الدخان، لم يشم الناس رائحة اللعوت الكريهة!
كانت سحب الدخان، التي انعقدت في سماء البلدة، تفوح برائحة مزيج، من الصندل والعنبر والكافور! فأخذ الأهالي مذهولين، يبحلقون في وجوه بعضهم البعض، وقد انعقدت ألسنتهم!
رفع جادين جانو رأسه عن المخطوطة، وأخذ يدعك على عينيه الجافتين.
طريق طويل عبر أنفاق المخطوطة ودهاليزها، خباياها ومسكوتاتها.. اسقاطات ذاكرتها السرية والمعلنة..
طريق وعر عبره جادين جانو، خبير اللغات القديمة، بمعهد جار النبي جارو، لدراسات التاريخ والآثار؛ وهو يتقصى في أحزان صانع الفخار والخزين طبلة ام جبو، شجن البلاد الكبيرة كلها!
فيتأمل تلك اللحظة، التي تسللت فيها الراهبة (أم عيون) من الكنيسة خلسة، تتبع أحلامها وظنونها..
أحلامها نقطة الضعف، التي أدخلت المقدس سره، إلى حياتها، فاخترق قلبها كنصل، مخلفا ورائه جرحا ليس باستطاعة الزمن مداواته!
أم عيون التي تعاني من كثرة الأحلام، رأت نفسها تتجول في البلاد البعيدة، ما وراء البحر المالح، وتخوم الصحراء القاحلة.
مثلما رأت قوى خفية تشدها، لتجد نفسها تتجول في غابات الصعيد الاستوائية، تنتظر تسلل أشعة الشمس، من بين أغصان شجر الغابات الكثيفة، في منبع النهر!
في غضون هذه الأحلام.. رأت المقدس سره..
رأت وجهه الغريب!..
رأته هو ذاته الرجل الغريب، القلق ذو النظرات الثاقبة، كنظرات نسر مراهق تملؤه فتوة الشباب، فيحلق بعيدا بعيدا..
النظرات التي تكشف عن أدواء الطموح والقلق المزمن!
تأثرت بمظهره كثيرا في غدوه ورواحه، وشعرت بحضوره الطاغ.. داخلها يغويها، فأحست بدافع لا يقاوم للقائه، وتساءلت:
ترى هل يتجاوب معها أم سيصدها؟
ثم لم تأبه! فقد قررت أخيرا أن تتبعه بحذر.
كانت كلما تقدمت منه خطوات، تبخرت مخاوفها مثل سحابة صيف يتيمة..
السحابة ذاتها، تلك التي في كل مرة تغشى سماء البلدة، ولا تلبث أن تنطفئ كفقاعة!
هذا الصباح كانت قد تجاهلت عمدا ارتداء ثيابها الداخلية، تحت ثياب الراهبات القطنية الطويلة الخشنة، التي تغطي كل شيء، فلا تكشف سوى استدارة الوجه!
ورغم أن حكة الثياب الخشنة ببشرتها كانت تؤلمها، إلا أنها كانت قد قررت أخيرا، أن تترك جسدها عاريا تحتها.
لفت ذلك انتباه صديقتها الكنداكة، فحاولت زجرها، لكنها لم تأبه! فخرجت تقصد الجروف، خلف الكنيسة تجني بعض احتياجاتها من خضار للطبخ!
كلما خطت خطوة، كانت تكوراتها السمراء الوافرة، التي بدت متماسكة وصلب، تهتز بقلق تحت ثياب الرهبنة الفضفاضة.
رأت هذه التكورات السخية بخيالها الجامح غزير الاحلام، تبدو في العرى الكلي، لجسدها الاسمر، تحت ثياب القطن البيضاء الطويلة، كأنها تطفو في نهر من الضوء!
شبكت أصابع يديها في بعضهما البعض، وسال عرق غزير من كل مسامها، بدت كمراهقة صغيرة امامه بوجهه الأبيض، وشعره الناعم الاسود، الذي عفره التسفار.
وقسماته الصارمة، ويده المتحفزة على مقبض السيف المحزوم، والمتدلي من خصره وثيابه الغريبة، التي لا تشبه ثياب أهل البلاد الكبيرة!
حقا كان هو "المقدس سره"، ذاته الذي لطالما رأته في احلامها!
كان فمه مفتوحا قليلا، وقد ارتسم على عينيه استفهام كبير:
لماذا تتبعينني؟
تمالكت نفسها جاهدة:
لا ادري، وجدت نفسي اتبعك!
اذن انت تلك العيون، التي كنت أشعر بمراقبتها كل يوم، كلما مررت أمام الكنيسة؟
نعم، انا..
ماذا تريدين مني؟
بدا لها صوته الحذر بدائيا، لا يخلو من نبرة من إعتاد المخاطر، وإعطاء الأوامر..
انت ماذا تريد مني، تلاحقني في احلامي كلما غفوت او نمت..
طريق طويل، ذلك الذي عبره جادين مع الراهبة أم عيون، و صانعي الفخار، وآل الخزين لعشرات الأجيال و..
ومع أهالي البلدة القديمة والمدينة الزاهية، وهم يأوون إلى مراقدهم، أو يهجعون متوسدين احلامهم، وهم لا يزالون منشغلين بسباق الحمير السنوي، فخر مباريات البلاد الكبيرة، الذي ينعقد كل عام في البلدة القديمة، لما لها من مكان رمزية عميقة، في وجدان شعوب البلاد الكبيرة!
عبره معهم وهم يغادرون إلى الصعيد، بعد أن أجلاهم الحاكم العام.. يبحثون في داخلهم عن الوطن في ظلمة الغابات وعتماتها، واحراجها الموحشة!
هذه الغابات الكثيفة، التي اختارها أسلافهم وطنا بديلا، في تراجعهم المستمر من أقصى السافل، إثر ضغط الهجرات والغزو والإزاحة والإحلال..
كانوا يتراجعون صعودا في النهر، يشيدون اوطانا جديدة، داخل هذه الغابات العذراء المظلمة، يفتقرون لكل شيء، سوى أساطير الهزائم والمرارات والانتصارات الشحيحة، في حكايا الأسلاف!
ومع ذلك تشتد رغبتهم في الحياة، فيغنون أغنيات الصيد والحب وصانع الفخار، على وقع موسيقى المطر الاستوائي الغزير، تشاركهم القرود عزف الطبول والرقص تحت ضوء القمر، الذي يتخلل الأشجار الكثيفة!
طريق مليء بالشجن والدم والدموع، عبره أهالي البلدة القديمة، الى أن حط بهم "الفلك" رحاله، وتبدى لهم صانع الفخار الأكبر، يحيط به كل أحفاده وآل الخزين عبر التاريخ!
جميعهم خروا ساجدين، لا يرفعون أعينهم إليه، يشرعون فقط مسامعهم، لينساب صوته العميق الآسر، الريان بالحنين يهديء لوعتهم! ويحدثهم عن وطنهم الجديد، أرض ميعادهم.. ويوصيهم خيرا بالحق، فالحق احق بان يحق!
بدت لهم أرض الصعيد.. هذا الوطن الذي تم نفيهم إليه، كغابة تملؤها الهواجس والاشباح والظلال و المخاوف.. تمد فيها كل أنواع الأشجار التي يعرفونها، والتي لا يعرفونها.. أعناقها إلى السماء البعيدة، موطن صانعي الفخار الاماجد!
كانت الأزهار والريحان البري، في كل شبر من هذه الغابة العملاقة، وكان عليهم أن يبدأوا من الصفر.. أن يعمروا هذا الوطن الجديد، ويشيدون فيه حياة بديلة. كانوا بعد أن هدأ صانع الفخار سرهم، قد بدأوا يتصالحون مع فكرة البدء من جديد، ولم يكن هذا خيارا ضمن خيارات، فهو الخيار الوحيد!
فكان أول شيء فعلوه أن بنوا ضريحا و قبة لصانع الفخار، شعروا بعد اكمال بنائهما بالسكينة، واخذت خياشيمهم و رئاتهم، للمرة الأولى تتنفس رائحة الفواكه و الريحان البري ممزوجة في "(عشبة معونة النهر) و(أم بانقيقة) و(السعدة)".

2
هتف هاتف:
لقد أحرق الجلاد و الأهالي و العسس صانع الفخار، بعد ان صلبوه وعذبوه ورجموه، وقطعوا ايديه ورجليه! بدى كطفل وديع! حتى بعد ان تحول الى كومة من الرماد!
قتل صانع الفخار بذات الطريقة، التي أعدم بها أسلافه، من كجور وحاخامات و قساوسة كنيسة البلدة القديمة، في الأزمنة الغابرة!
صلبه عسس الحاكم العام على صليب من خشب "اللعوت" سيء الرائحة وأشعلوا فيه النار!
صانع الفخار الملقب ب"صانع الفخار الأكبر" حملت به أمه على كبر. ظلت عاقرا لوقت طويل، فنذرت أن جاءها طفل ذكر، لن تعطيه اسم و ستهبه للخزين لخدمة الفقراء والمهدرين والمقهورين، وعندما حملت وجاء مولودها إلى الدنيا وكبر قليلا، شق عليها أن تنفذ نذرها!
دفعت به إلى سوق البلدة ليتعلم التجارة، وصبرت عليه، فلم يفلح. فاخذته الى اهل الحرف والمهن والصناعة، وصبرت عليه فلم يفلح ايضا.. فعلت كل شيء، لكن لم يفلح! فاستيأست منه، فقال لها:
يا أمي أنت نذرتني لخدمة الفقراء والمهدرين والمقهورين، فاوهبيني للخزين، توفي بنذرك.
فدفنت راسه في حضنها، ثم مسكت راسه بين راحتي كفيها، وابتسمت دون أن تقول شيء، فقط نهضت واخذته من يده، متجهة به إلى حلقة الخزين.
بعدها لم يرها أحد، فقد ظلت دارها مهجورة خالية لا تسكنها سوى العناكب وحمام الوادي وطائر البلدة الاسطوري!
أخذ الصبي الصغير، يخدم رواد الحلقة في "تكية" الخزين، الذين كان سوادهم فقراء ومقهورين ومهدرين، ويقضي حوائجهم، ويعتني بنظافة المكان، فيكنسه وينفض الغبار عن المخطوطات والمنحوتات، ويهيئه للانعقاد بالناس؛ الذين يجيئون طلبا لعلم الخزين! فيبسط "الفراوي" ويملأ "الركاوي" بالماء. كان ذكيا يحب الاعتناء بالتفاصيل!
وذات يوم كعادته، بدأ في تنظيف المكان، فعثر أثناء كنسه على رقعة من الجلد كتب عليها (صانع الفخار)، فأخذها دون أن يشعر وابتلعها، مدفوعا بقوة خفية لفعل ما فعل! وأخذ يتمتم:
انه اسمي انا، صانع الفخار.. هو اسمي..
كانت تلك القطعة الجلدية؛ هي مرسوم الولاية للخزين كحامل للقب (صانع الفخار) المقدس الالهي المهيب، الذي حمله قلة منذ انشيء الكون وبسطت أرضه، ونصبت سمائه، ونثرت فيها النجوم!
بحث الخزين عن رقعة الجلد في كل مكان، فلم يعثر عليها، فغضب غضبا شديدا، ونادى في الجميع يسألهم عنها ويهددهم ويخيفهم بدعواته عليهم، حتى يعيدها من أخذها، فلاذوا جميعا بالصمت، فقال مغتاظا:
من عثر عليها ولم يردها، قطعت يمينه.
فلم يتكلم أحد. فقال:
من سمعني أسأل عنها ولم يجبني، قطعت شماله.
فلم يتكلم أحد. فقال:
من سمعني ألح في طلبها ولم يردها، عذب ورجم وقطعت ارجله وصلب على شجرة لعوت سيئة الرائحة، وحرق، وذري رماده في هواء البلدة.
فلم يتكلم أحد.
3
سأل الجنجويدي راكب الفرس السوداء، الأهالي المتجمعين على مبعدة من الأنقاض المحترقة لكنيسة البلدة القديمة:
من رأى منكم صانع الفخار الحفيد؟
فرد أحدهم:
لقد مات مقتولا منذ اليوم الأول للغزو..
تعالى صوت متوتر من خلفهم:
يقال أن بعض الأهالي عثروا على جثته، على مبعدة من "الجاسر" فدفنوها محل شجرة اللعوت، التي حلت محلها النخلة!
ارتفع صوت احدهم:
لا بل يقولون إنه غادر إلى دار الريح، قبل الغزو بأيام!
بل غادر إلى الصعيد يا رجل، جميعهم يقولون ذلك!
ومن ذاك الذي دفن تحت النخلة، أليس هو؟
كيف يكون هو؟.. هو لايموت؟!
كانت رأس الجنجويدي تستدير تجاه كل متحدث، وعيناه تتسعان دهشة. لا يصدق ما يتحدث به الجمع!.. جز أسنانه.. نفرت عروق جبينه وعنقه.. ترجل عن فرسه، وانتصب وسطهم كمارد ممشوق.
ولشدة خوفهم، خيل لهم أن عنقه تستطيل وتستطيل، حتى يختفي رأسه خلف السحاب! ارتعدت فرائصهم من الخوف وهو يصرخ في وجوههم كالمجنون:
هل جننتم؟ لا يموت؟ اي رجل هذا الذي لا يموت؟
فقال أحدهم في خوف:
انه مربوع القامة.
فقاطعه اخر:
لا بل طويل جدا، حتى يقال انه يمد يده يشوي السمك، الذي تهبه له صديقاته حوريات النهر، في الشمس!
تحسس الجنجويدي سيفه، وهو يستشيط غضبا:
جميعكم كفرة كاذبون، ويبدو أن أحدكم لم يراه، أو يعرفه!
فاكد احدهم:
كل من رآه للمرة الأولى، كانت تلك هي المرة الأخيرة!
فقاطعه أحدهم قبل أن يسترسل:
بل لم يره أحد لا اولا ولا اخيرا، فهو لا يلتقي البشر! فكيف يتحدث معهم؟!
كان واضحا أن الجنجويدي، قد أصابه اليأس والقنوط، فاستسلم.
شد لجام فرسه، وقفز على صهوتها، وانطلق مبتعدا يتمتم بكلمات مبهمة، تاركا الأهالي خلفه يصطخبون، حول أمر صانع الفخار!
وفيما هم يتغالطون، كان الخزين الحفيد، يلتقي لحظتها صانع الفخار، ويخبره عن قتل الجنجويد لحبيبته "الكنداكة"!
اتكأ صانع الفخار على ذاته، وهو يشعر بنصل حاد يخترق قلبه.. تماسك قليلا قليلا قبل أن يسأل الخزين:
وأين كنت أنت وقتها؟ ألست حارسها؟
لم يجد الخزين جوابا، ود لو قال له (وهل استطعت انا حراسة نينا لاحرس الكنداكة) لكن لم يجرؤ، فاشاح بوجهه الشاحب، حتى لا تقع عينيه على عيني صانع الفخار.
كانت أعماقه مرتبكة، مهزوزة. نكس رأسه ثم عاد فرفعه، وجاهد بشفتين مرتعشتين كي يقول كلمة واحدة، لكن جهاده لم يثمر، فخر متهالكا على ركبتيه، وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة!
حدق فيه صانع الفخار مليا، وهو يتراجع الى الخلف، دون أن ينبس ببنت شفة. و كفقاعة في ذلك المساء الحزين انطفأ!..
كان قد اختفى تاركا الخزين وحده، الذي انفجر في عاصفة من البكاء المر، تتناهشه المخاوف والهواجس والظنون!
فيما كان "الفلك" الذي يقل حبيبته "نينا"، قد توغل عميقا في النهر، حيث بدأ مطر خفيف مصحوب بدرجة من الرطوبة، لطالما ألفها أهل البلدة القديمة، يتساقط..
كانت الرطوبة تمتزج بالانفاس الساخنة للمغادرين، وتحيل الجو داخل الفلك دافئا ولكن خانقا، بينما ريح هادئة تتلاعب بالفلك، حتى ليبدو كالمحمول على محفة!
شعرت نينا بألم شديد في رأسها، يكاد يقسمه نصفين. كان الشعور بالإعياء الذي هيمن عليها، منذ تلك اللحظة وهي تودع الخزين، قد جعلها تحس انها تودع روحها!
لحظتها تملكها شعور قوي؛ انها لن تراه مرة اخرى، وان حياتها باتت قصيرة جدا، وأنها لا تستحق أن تعاش!
حاولت أن تتمالك نفسها، فاتكأت على أحد المجذفين في الجانب الأيمن من الفلك، عند نهايته وهي تنظر الى النهر، الذي بدا لها أن لا نهاية له!
تملكها احساس مميت بالإعياء والتعب، فاتكأت على جدار الفلك تخفف ثقل جسمها المتهالك.
وكان الليل يدنو حثيثا حثيثا.
تلفتت حولها في في زحام الفلك، تتفحص الأهالي الجالسين والواقفين و المتكئين.. حاولت أن تتبين هذه الوجوه، التي عاشت بينها..
هؤلاء الذين ولدت في كنفهم، ونمت وترعرعت وسطهم، تشعر بهم الآن غرباء عنها!..
لا تعرفهم!!
كان الألم في رأسها يشتد، كأن الف مطرقة تطرق عليه بعنف وشدة!
بدأت حرارة جسمها ترتفع، والعرق يتصبب غزيرا؛ يمتزج ببلل المطر في ثيابها.
لم تستطع الاستمرار في الوقوف، فانهار جسمها وسقطت مغمى عليها!

4
وبعد أن ابتلع الصبي اليتيم، رقعة الجلد. وتعايش الخزين مع حسرته عليها، أخذ يوليه عناية خاصة، مدفوعا بقوى خفية، أن يمنحه كل معارفه وعلومه، حتى لم يبق لديه شيء يمنحه له.
وكان ذكاء الصبي حادا يلتهم المعارف والعلوم، بيسر لم يره الخزين في احد من قبل. بل كان أحيانا يطرح على الخزين مسائلا تتشكل عليه، فيساعده الصبي، فتحل في يسر!
وهكذا مضت علاقتهما تنمو؛ وتتعمق بمرور السنوات. وعندما تعدى سن الرجولة، بدأت تطرأ عليه تحولات، وكان الخزين عندما يعطيه الفضة ليشتري طعاما للفقراء، كعادته خلال السنوات الطويلة؛ التي قضاها في رعايته، كان الناس يشكون منه؛ فعندما يمضي إلى السوق ويسأله البياع:
ماذا تريد؟
يرد مهمهما بكلام لا يفهم منه سوى كلمة واحدة:
الحق، الحق…
ثم يأخذ لنفسه ما يريد ويمضي، وتكرر الأمر مع كل البياعين. الذين بدى لهم دائما كالسابح في ملكوت وحده، لا يعيش مع هؤلاء الناس، في نفس المكان والزمان والحياة!
فضاق به أهل السوق زرع،ا وجاءوا الى الخزين يقولون:
يا سيدنا لا ترسل لنا هذا الموله، لقد أعيانا دون أن نعرف ما يريد!!
فينقل الخزين هو الآخر بصره بينه وبينهم، ويلوذ بصمت عميق، الى أن يعييهم الانتظار فينصرفوا، وينصرف بعدهم صانع الفخار، تأخذه قدماه إلى قيف النهر، فيجلس ويحدق بعينيه في القلعة، التي تبعد على مسافة ازرع من مجلسه!
كانت القلعة التي أحيطت بأشجار الهشاب والسنط، بأشواكها الحادة التي تتألق على ضوء القمر، ليس ثمة من يعرف تاريخ تشييدها بالتأكيد، إذ تضاربت روايات عدة، حولها.
بعد عشرات السنوات من هذه اللحظة، ستصبح هذه القلعة نسيا منسيا، الى أن يعاد بناؤها مرة أخرى، عندما تخضع البلاد الكبيرة، لسلطان المقدس سره!
يعود تاريخ هذه القلعة، في بعض الروايات الشعبية، إلى عهد النبي سليمان، لتكون حجراتها الضيقة (سواجنا) للجن العصاة.
لكن روايات شعبية أخرى، تنسبها إلى تلك الفترة السحيقة، قبيل حريق روما بقليل، عندما أرسل الحاكم نيرون سنة ٦٤م جيوشه لغزو البلاد الكبيرة، لكن بعد أن نشب الحريق، غير رأيه! وطلب من جيشه العودة، للمساعدة في إعادة بناء المدينة المحترقة!
وبينما يتفق كثيرون، أن أول تجديد لها، تم من قبل المماليك الناجين من مذبحة محمد علي باشا في ١٨١١، يؤكد آخرون أنها حملت اسم الخواجة "كوبر" الذي كان قد سجن فيها، من تبقوا على قيد الحياة، من اتباع صانع الفخار، الذين ثاروا على الحاكم العام، في ١٩٢٤.
شيدت القلعة على مبعدة من النهر، وظلت سجنا رهيبا تحيطه الحكايا والقصص. عن أجيال من اتباع صانعي الفخار، ظلت تقضي نحبها، بين جدرانها الصماء!
وهؤلاء، حتى عندما كان يتم دفنهم، في المقابر الجماعية المجهولة، كانوا لا يزالون مكبلين بالقيود.. يرسفون في السلاسل!
ومع ذلك ظلت أشباح مشاعرهم ومعتقداتهم القوية، متقدة و حية لا تموت! إذ لم تتوقف فيهم رغبة الحياة، ولم تكف أرواحهم الهائمة، عن طلب الحق ومقاومة الغزاة.
كانت واجهة القلعة، مبنية من حجارة تلك الجبال، التي سيطلق عليها الأهالي بعد عشرات السنوات، اسم جبال الأولياء.
وذلك لأن أولياء البلاد الكبيرة، اجتمعوا عندها ليلة صلب واحرق صانع الفخار الأكبر، و قرروا خراب البلاد الكبيرة!
كانت معتقلات القلعة، خالية من النوافذ.. فقط كوات صغيرة ذات حواف مدببة، تطل على النهر، حيث يفيض هبوب النسيم، متسلقا جدر القلعة من آن لآخر، ليذكر السجناء، الذين لا زالوا على قيد الحياة، بان هناك ثمة عالم آخر، خارج الحجرات الضيقة، التي حبسوا فيها!
ظلت القلعة منذ عهد بنائها الأول، تمثل تهديدا سافرا للأهالي، إذ كأنها تراقبهم، بإطلالتها الرهيبة، على بيوتهم البعيدة المتفرقة، التي تبدو منها، ككومات تراب أو قش، صغيرة ومتناثرة.
على بقايا الجدر الخارجية لهذه القلعة، التي لطالما تكسرت عليها أمواج النهر، تسلقت نباتات الجروف الزاحفة الصخر وتسللت بين الشقوق، حتى استحالت هذه الجدر الى طحلبية خضراء!
وعلى الجدر الداخلية، نحت السجناء شكلا متكررا لشجرة لعوت وحيدة، قوية، معزولة، و اشكالا اخرى عديدة لكائنات غريبة، ورسموا نهر البلدة القديمة، وانهار البلاد الكبيرة، التي لم يعد لها وجود.. بعد أن ردمتها الرمال عبر العصور!
شجرة اللعوت Acacia Nubica سيئة الرائحة تلك، والتي قبل عشرات السنوات، كان قد جلبها "الخزين طبلة ام جبو الملقب بالخزين الاكبر" في طريق عودته من دار الريح، وزرعها هنا في هذا المكان بالتحديد:
على بعد ازرع قليلة من "الجاسر" المتفرع من النهر، الذي يخاصر البلدة القديمة، جهة دار صباح، قبالة ميل زاوية الشروق، في قبة السماء. عند الأفق الرحيب! بالضبط هناك!
حيث بإمكانها من هذا الموقع، أن تستقبل الشمس على نحو معين، وترسل اشعتها خلال مظلة أغصانها، لتطل على البلدة القديمة، كأشعة فاترة، تجسد الطاقة اللامتناهية للحياة، دون أن تحرق الأهالي، المنغمسين في سباق الحمير السنوي!
في الأمسيات التي تنشط فيها الريح العاصفة، لم تكن شجرة اللعوت تهتز أو تميل، فتكتفي الريح بأن تتخللها، لتعبر جهة كنيسة البلدة القديمة بالذات! تصفع كواتها وأبوابها ونوافذها الخشبية العتيقة.
كأنها تزجر الراهبات، اللواتي كن يقفن خلف ابواب ونوافذ عنبرهن الصغير، يتزاحمن ليحتلن ببصرهن الفتحات والشقوق والثقوب، يتفقدن ما يجري في الخارج!
لطالما رمن بنظرهن الى الشارع الفسيح، الذي يفصل البلدة القديمة قسمين، ودواخلهن تضطرم بنار غامضة المصدر! يشتد اوارها في الكنداكة وأم عيون اكثر من الاخريات!
تسلية وحدتهن المقدسة القاسية، إلقاء البصر عبر هذه الفتحات، و الذي كان يرتد في كل مرة وهو حسير، فيعدن لروتينهن اليومي: يغسلن ويطبخن ويكنسن، وقد يمضين إلى چروف الكنيسة ينظفن الخضروات والبطيخ والشمام من الحشائش.ً
ثم يتفرغن لتعاليم ابن الرب يسوع، وهن يسألنه تخليصهن من هذه المشاعر الغامضة، التي تنتابهن كلما تسسلل بصرهن، فرأى شباب البلدة اليانع ورجالها المفعمين بالحياة!
لكن الراهبة "ام عيون" يبدو انها ملت انتظار المخلص يسوع، ليخلصها من تلك المشاعر الغامضة، إذ من ثقبها لفت نظرها وجه رجل فتي، غريب، ليس من الوجوه المألوفة في البلدة..
كان يمر كل يوم عابرا أمام نظراتها المسترقة، فتحينت الفرص وتبعته، مدفوعة بنداء خفي غلبها مقاومته!
كان الرجل الغريب هو 'المقدس سره" الذي جاء وقتها متنكرا، على رأس فرقة استطلاع سرية انتشرت في البلاد الكبيرة، تمهيدا لغزوها!
ظلت تتبعه بحذر، الى أن بلغ شجرة اللعوت، قرب الجاسر، وتجاوزها إلى النهر، كان يشعر بها تتبعه!
وعندما التفت يواجهها، التفت معه تيار مزيج من رائحة السعدة وام بانقيقة، وعشبة معونة النيل!
لفح وجهها محمولا على سواعد نسيم لطيف، يبعث في النفس خدرا لذيذ التردد! يهديء من قيظ أبخرة النهار، الذي لا زالت تتميز به الأرض المعطونة في الظمأ و الغموض!
كانت مدفوعة بهاجس روحها، التي لطالما حدثتها بلقاء شخص غريب ما! شخص يخبئه لها غدر غريب لا محالة واقع، فقد سطر بقلم القدرة أن يكون!
اندفعت نحوه واندفع نحوها..
كان هو الآخر يريد هذا الجسد ذو العينين الواسعتين، والشفتين المنقوعتين في دم المسيح! وكانت تراه الجسد الغامض ذاته، الذي اقلق في الحلم كيانها، واستنزف جسدها المصلوب تحته قطرة فقطرة.
كان ذاك لقائهما الأول، الذي لم تراه بعده، إلا عندما اقتادها جنده بعد وقت ليس قصير، مع الكنداكة وزميلاتها الراهبات!..
لم يقتلها.. لم يسعد بلقائها فيبقيها معه! رغم حبه لها. فقد أدرك بفراسته أن هذا الحب سيقتله، أعتق والديها و فضل الخلاص منها، بإهدائها لواليه على دار الريح!!
انطفأت الراهبة ام عيون، كفقاعة استنشق المقدس سره شذى بوحها الشجي، لمرة واحدة، و قذف ما تبقى منها إلى دار الريح، تتجول في ذاكرتها، بين تلافيف ذكرياتها اليتيمة، تبحث عن مصدر بري، متوحش لنداء خفي يسكنها، يشملها بالغفران، دون جدوى، فينهكها المسير الطويل، في سباسب دار الريح ووهادها ووديانها، تحمل بداخلها نصف الكنداكة، التي شقها المقدس سره بسيفه نصفين!
يخطر ببالها صانع الفخار الحفيد، فيجيئها طيف صانع الفخار الأكبر، مقتحما حزنها وشجنها، فتسأله:
من انت؟
فينظر إليها بعينين حزينتين دون أن يرد، ثم سرعان ما يتبدد الطيف.. يختفي وتتلفت حولها دون جدوى ورأسها تدور!
كان صانع الفخار الأكبر قد زاد به الوجد، فساح في الجبال ستة أشهر، وعندما عاد وجد حلقة الخزين مزدحمة بالناس، والخزين يخطب فيهم، لم يكن على عادته، فرغم فصاحته التي اشتهر بها، و جعلت كلامه مفهوما لكل الناس مهما علا أو دنى شأنهم، إلا أنه كان يقول كلاما كثيرا، لم يفهم منه أحد شيئا!
وبعد أن مل الناس محتارين في أمره، قاطعوه:
يا سيدنا لم نفهم شيئا مما قلت.
فرد عليهم:
انا ايضا لم افهم ما كنت أقول.. كان الكلام يجري على لساني دون أن أعيه، كأن أحدا يمليه علي.. تلفتوا حولكم إذا وجدتم باكيا اطلبوه، فقد فهم..
فتلفت الناس حولهم، فلم يروا سوى صانع الفخار الأكبر، يبكي بكاء حارا فسألوه:
هل فهمت شيئا؟
فرد باكيا:
نعم
إذن تقدم فسيدنا الخزين يريدك، لتشرح له ولنا.
وافسحوا له حتى وصل السرادق، الذي يعتليه الخزين، الذي بادره قائلا:
والحق، لقد وصلت منزلة لم يبلغها أحد قبلك، ولن يبلغها أحد بعدك!! الزم نفسك واكتم السر!
فرد عليه صانع الفخار الأكبر، وهو لا يزال منخرطا في البكاء:
لا أقوى على الكتمان، اخذ عقلي مني، وقد سلبني عني، ثم نظرت منه إليه، فلم ارى الكون إلا هو!
ثم انفلت خارجا وهو يركض وبكاءه يشتد! والناس حول الخزين يرددون:
اصيب الرجل في عقله.. اصيب الرجل في عقله!

5
قيل أن الصليب الذي صلب عليه صانع الفخار، صنع من عيدان شجرة اللعوت الجافة تلك! ما دفع بأهالي كثر.. بل أتباع مخضرمين لطائفة صانع الفخار، الاعتقاد بأنها شجرة ملعونة، معضدين قناعاتهم الراسخة برائحتها الكريهة النفاذة، إذ كانوا يرددون حكمة أسلافهم الخالدة:
لا يخرج من الكريه الا كل كريه!
وكونها شجرة غريبة، لا تنتمي لهذا الجزء من البلاد الكبيرة، فموطنها هو الاطراف الصحراوية البعيدة لدار الريح، والسافل الأشد جفافا من الصحراء القاحلة، ما وراء البحر المالح!
كان ذلك وحده كافيا للعنها!
إثر اختفائها المفاجئ في احدى الصبيحات، خالج البعض شعور انها ربما حنت الى موطنها الاصلي، فغادرت في جنح ظلام البلدة!
كان أطفال البلدة القديمة، المغرمين بصيد الطيور، يستخدمون أشواكها الطويلة الحادة، كاسنة لسهام البوص، التي يصطادون بها الطيور الصغيرة المهاجرة!
من جهة النهر.. حين تلفح البلدة الرائحة الرطبة الدافئة، المشبعة برائحة (ام بانقيقة والموليتا وعشبة معونة النيل)، عندما تهب النسائم المترددة، كانت الرائحة النفاذة الكريهة لشجرة اللعوت، تهدد خياشيم البلدة بالغثيان، فتعتري الأهالي رعشة خفية، ويشعرون بانقباض في نواة القلب!
ورغم أن أهالي البلدة، لشد ما كرهوا هذا الهواء الراكد، إلا أنهم، بمرور الوقت تصالحوا معه، لكونه يحصر رائحة اللعوت، في الحدود مابين الجاسر والنهر.
شجرة اللعوت هذه.. كانت في موطنها الأصلي، تنمو عادة دون ساق، إلا أنها هنا ومنذ الأيام الأولى لزراعتها على يد الخزين، كان لها ساق واضح بين الفروع!
في الصبيحة التي سبقت غزو الجنجويد للبلدة القديمة بصبيحتين، فوجئ الأهالي، باختفاء شجرة اللعوت، وكانت قد نمت في محلها، بطريقة غير مفهومة! نخلة طويلة سميكة الساق!!
ورغم أنهم لم يكنو لشجرة اللعوت، أي شعور بالود يوما، الا أن اكتشافهم لاختفائها المفاجئ، بعث فيهم شعورا مزعجا بالانقباض والقلق!
ولولا أنهم انشغلوا بقية اليوم، بسباق الحمير الذي كانوا يقيمونه صيف كل عام، يتبارون مع قرى وبلدات ومدن، البلاد الكبيرة الأخرى، لما خفت حدة الانقباض، تلك التي بعثها اختفاء الشجرة!
وهكذا مضى ذلك اليوم والذي يليه والأهالي منتشين، تحت تأثير النتائج التي حققوها في السباق، وتحت وطأة مريسة العيش وعرق البلح، اللذان هيمنا على وعيهم، لم يأبهوا لجحافل الجنجويد، التي كانت تتأهب للهجوم، بعد أن اقتربوا كثيرا، من أبواب البلاد الكبيرة!
الأمسية التي سبقت غزو الجنجويد للبلدة القديمة، اشتدت فيها الظلمة، وامتدت لتغمر دروب البلدة وزقاقاتها، واختفى الأهالي المنهكين من سباق الحمير من الطرقات، وتسللت أضواء الفوانيس الخافتة من شقوق النوافذ الخشبية العتيقة، وبدأت ظلال صانعي الفخار تنتشر، تجوب الشوارع كأنها تتبع مواكب جنائزية!
جاءت أطيافهم من مختلف العصور، يبدو على ملامحهم قلق عميق، يخفق في ظلمة مغبرة وهم يعبرون!
طائفة صانع الفخار الحفيد والخزين، التي كرست نفسها للتعاليم والدعوة، لم تكن معدة لمواجهة جيش المقدس سره، أو خوض أي نوع من القتال.
فلم يكن أمام أفرادها، وأمام صانع الفخار والخزين سوى الاختفاء، بعد أن جد المقدس سره في البحث عنهما، وعن كل من يشتبه في انتمائهم للطائفة!
إذ كان أول شيء فعله المقدس سره، أن أمر عيونه بالبحث عنهم وملاحقتهم في كل مكان!
شخصيتي صانع الفخار والخزين، اللتان لم تكونا شائعتان في وعي الناس في هذا العصر، سوى كاسمين مألوفين، اربكتا جنجويد المقدس سره، فأصبحوا يمسكون كل من يرون في سمته الوقار والجلال، ظنا منهم أنه صانع الفخار أو الخزين، فقد كان واضحا أن لا أحد يعرفهما!!
وقتها كانت طائفة صانع الفخار تعد عدتها، وتنتقل من مكان إلى مكان.
ومتجهين نحو صعيد النهر، حيث تتهدد " الدهاريب" "نقارة الورل" التي لم يكفوا عن عزفها، منذ وطأت جيوش الجنجويد أرض البلاد الكبيرة، اخذ اتباع صانع الفخار، يلملمون حاجاتهم على عجل، تتآكلهم الحسرات!..
يغذون المسير، ريثما تهدأ خواطرهم، فيفكرون في الإجابة عن سؤال:
ماذا يتحتم عليهم أن يفعلوا، لمواجهة هذا الغزو الجنجويدي المخيف!
وما أن تطأ أقدامهم مكان جديد تجاه الصعيد، حتى يبدأون في ترتيب أشيائهم الفقيرة:
الخيام، عناقريب القد، سروج الخيل، أكباس الجلد، الأجربة والسعون.
وفيما تنشغل خيولهم برعي (الجزو والشوقارة)، كانوا يفكرون في طائفتهم كقلة قليلة، لا تشكل خطرا حقيقيا على جيش المقدس سره، إذ لم يعدها صانع الفخار أو الخزين يوما للقتال!
لذا بدأت فكرة تنظيم أنفسهم كنواة فرقة مقاتلة، تحتل حيزا كبيرا من تفكيرهم..
الصعيد هو المكان الآمن الوحيد الآن، هناك حيث الغابات تحجبنا عن العيون، يمكننا البدء من جديد..
يقول أحدهم فيرد آخر:
نعم.. سقطت كل حاميات البلاد الكبيرة، لا مكان آمن لنا ولدعوتنا سوى الصعيد..
وهكذا يغذون في المسير، مستنشقين رائحة عشب النيل المبتل بالدعاش.
اشتهر المقدس سره منذ طفولته بين أقرانه، هناك.. ما وراء البحر المالح وخلف تخوم الصحراء، التي تليه، بالدهاء وسعة الحيلة! منذ كان تلميذا نجيبا لأحد الشيوخ، الكبار، ممن توفر لهم العلم والمعرفة.
وقبيل تكوينه لطائفته التي أطلق عليها اسم (الجنجويد)، عمد إلى عقد تحالفات عديدة مع ملوك الطوائف الأقوياء، الذين كانوا يحكمون تلك البلاد، تحت سلطان أمير واحد، يشرف عليهم من قصره المنيف!
استجاب أمراء الطوائف الاقوياء، لرغبة المقدس سره، بتجييشه لغزو البلاد الكبيرة، بعد أن وعدهم بالأموال والجواري والعبيد!
ورغم الهواجس التي انتابتهم، من قوة ونشاط طائفته المتنامي، الا انهم زودوه بالعدة والعتاد. فمن جهة ارادوا ابعاده من بلادهم ماوراء البحر المالح وتخوم الصحراء، حتى لا يكون مصدرا للقلق!
ومن جهة أخرى، رأوا أنه لو نجح في مسعاه، ووفى بوعده. ستكون البلاد التي يحتلها، مصدرا مهما للمال والرجال، اللذان تحتاجهما دولتهم الطموحة، ويتوسع حكمهم في أراض جديدة، لنشر الدين الجديد!
وهكذا بدأ المقدس سره زحفه المقدس، لإحتلال البلاد الكبيرة.
عرف المقدس سره بين جنده بحبه للنساء، لكن أمر معاقرة الخمر، وتدخين ذلك النوع الغريب من الأعشاب الجافة المخدرة، كان سرا ضرب حوله الف سياج، فلم تعرفه سوى نسائه وسراريه الكثيرات، منذ سنوات مراهقته في مضارب قومه، الى أن فاضت روحه في البلدة القديمة، عند منحدر النهر بعد عدة عقود!
مخلفا وراءه أربعة عشر زوجة، و مائة من السراري والإماء، فضلا عن نسائه الأربعة، اللاتي حصل عليهن جميعا بطريقة غير معتادة:
فزوجته الكبرى أم عياله السبعة الذكور، إبنة ملك دار الريح، كان قد تزوج بها، أثناء حملاته الاستطلاعية الأولى، قبل الغزو والاحتلال!
إذ وجده جند ملك دار الريح، بعد أن هجم عليه ورجاله اللصوص وقطاع الطرق، مضرجا بدمائه، حتى ظنوا انه لا محالة معقور! لكثرة الدماء التي كانت تسيل من ساقه المكسور، الذي كانت تتلاعب به الريح!
عندما حملوه على ظهر انثى الحمار العجوز! وبعد أن طببوه، ومكث معهم ردحا من الزمان، وأصبح من جلساء الملك، رأى فيه الملك صفات أحبها، كان المقدس سره بدهائه، قد قصد أن يبرزها ويلهمه بها، ويوحي إليه بالقرار، الذي ظل ينتظره، منذ أخذ الملك يحدثه، عن مبلغ قلقه على إبنته العزباء، التي قتل زوجها في احدى حروبه مع قبائل الجوار!
اما زوجته الثانية من دار صباح ابنة أحد البدو الفقراء، أهداها إياه عندما كان في ضيافته كغريب، مخفيا أمر إستطلاع الأخبار بنفسه، قبيل الغزو بوقت ليس قصير. أنجبت له هذه المرأة ستة بنات وستة أولاد.
زوجته الثالثة سرقتها طائفة الاستطلاع من إحدى القرى الصغيرة، في أواسط البلاد الكبيرة أسفل النهر، بينما كانت ترعى غنما تها على مقربة من أشجار النخيل.
وقد أنجبت له ما يزيد عن العشرة بنين وبنات!
اما زوجته الرابعة فقد كانت من صعيد النهر، ابنة أحد ملوك القبائل الأشداء، عرف عنه أنه كان في شبابه مقاتلا شرسا، اشتهر بمصارعة النمور والأفيال والاسود! ولم يكن ثمة من يجرؤ على اقتحام دياره. وفي إحدى الليالي المقمرة بينما هي وصويحباتها يستحمن في النهر، على مبعدة من القرنتيات و اصدقائهن التماسيح المشاغبين، هجمت فصيلة الاستطلاع عليهن واختطتفهن، فانتقى المقدس سره من بينهن ابنة الملك المصارع وهجم على عريها البكر!
والتي كانت في ذهول تام، لم تدرك ما حدث لها وصويحباتها الا بعد مرور وقت طويل، كان يكفي لانجاب بناتها الثلاث و أولادها الذكور الأربعة!
ابنة الملك مصارع الأفيال، هي في الحقيقة الغائبة جدة (نينا) التي عشقها الخزين الحفيد بعد عشرات السنوات!
من هؤلاء النسوة الأربعة، اللاتي مثلن غالبية دماء البلاد الكبيرة واعراقها، من أقصى دار صباح الى اقصى دار الريح، ومن أقصى السافل الى اقصى الصعيد، تعضدت النوية الأساسية لشعب البلاد الكبيرة!
هذا الشعب المزيج، الذي تجري في عروقه عشرات الدماء، وهو التصور الذي للمفارقة، لطالما حلم به صانع الفخار والخزين معا، مذ كانا يعلمان الأتباع، معنى التلاحم القومي في رسالات الرسل!
لكن ظل دائما ثمة نداء خفي، في مركز هذه النوية، يلقي احيانا بطيوف حنين بعيد للصعيد وغاباته وتماسيح الأنهار والقرنتيات والأفيال والنمور، وكل الاصدقاء وصويحبات ابنة الملك المصارع من قرنتيات وأفراس نهر!
رغم القطيعة والانبتات عن أصولهم، الا أن وعيهم الموروث، كان لا يزال يحتفظ باسروداته الخاصة، التي تنتمي إلى عالمهم القديم. في وطنهم الذي أنبتوا منه!
لذلك كان كثيرون في مختلف العصور التالية لغزو الجنجويد للبلاد الكبيرة،عندما يضيق بهم الحال يحفرون أنفاقا تحت الجدار العازل، الذي شيده المقدس سره من أقصى دار صباح الى اقصى الصعيد، يستجيبون لذلك النداء الخفي!
نساء المقدس سره الأساسيات الأربعة في الحقيقة، انجبن ما يزيد عن الأربعين بنتا وولدا، كما انجبت نساءه المائة واربعتاشر الاخريات مايزيد عن الخمسمائة بنت وولد، وهكذا من صلبه هو وحده ولد شعب صغير، يبرز منه قادة جنجويد جدد وحكام عامين من آن لآخر، عبر العصور يشيعون التوتر والقلق في البلاد الكبيرة!
قبل أن يولد المقدس سره بعشرات السنوات، كان صانع الفخار الأكبر، قد طوى الزمن وراءه، فيما رأى من مبكياته، التي أقضت مضاجع الأهالي وقتها، فقاموا إلى الخزين يجتمعون به، وقالوا:
يا سيدنا، اعلم أن صانع الفخار قد اتعبنا، إذ يقول ما لا يدخل العقل، فشغل بالنا واوقف حالنا، ولهانا عن بيعنا وشراءنا، فنسألك بالحق أن ترده عنا.
فقال لهم الخزين:
انصرفوا، لاتحملوا هما، إذا حضر نؤدبه.
فلم يمض سوى وقت قليل، حتى حضر صانع الفخار، بين يدي الخزين وهو يقول:
سمعا وطاعة.
انعقد حاجبا الخزين:
إذن علمت بطلبي لك؟
سمعت صوتك يهتف بي ان احضر.
أطرق الخزين براسه:
ماهذا الحال؟ الناس لا يكفون من شكوك لي.. لقد اتعبتني واتعبت نفسك واتعبت الناس، فارجع عما انت فيه والا هلكت.
فقال باكيا:
كل هذا لانني اطلب منهم توزيع الذهب والفضة، التي يكنزونها على الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون، ورب صانع الفخار لا أكف عنهم، إلا يحقون الحق.
وبينما هما في أخذ ورد، هجم جند الحاكم يريدون اعتقاله، فانتزع منديل أحدهم يجفف به دموعه، ثم قذف به في الهواء وطار معه وغاب، تاركا الناس في ذهول تام!

6
بعد أن اكتملت ترتيبات المقدس سره لغزو البلدة القديمة والمدينة الزاهية، هجم جنجويده بغتة، و ارتكبوا من الفظائع، ما أصاب الكثيرين بالجنون..
رأى الأهالي البسطاء، أطفالهم يذبحون ونسائهم وبناتهم يغتصبن امام اعينهم.
لذا أصبح من المشاهد المألوفة، في البلدة القديمة والمدينة الزاهية، أن ترى كل يوم إحداهن، تحثو تراب الشارع على رأسها، وهي تنوح وتغيب عن الوعي، أو أخرى بعد أن قتل الجنجويد افراد اسرتها، ترتمي تحت اقدامهم ترجوهم قتلها، وعندما تستياس منهم تحاول سحب سيف أحدهم، فيركلها بغضب، ويبتر رأسها دون رحمة!
لم يوفر الجنجويد في اليوم الأول للغزو احدا.. قتلوا رجال الدين، ومثلوا باجسادهم، قتلوا رجال الدولة، الكبار والصغار، قتلوا كل من اشتبهوا فيه لأي سبب من الأسباب، وهكذا بدأت البلاد الكبيرة تنحدر، إلى قاع سحيق. لا يتغشاه التاريخ نفسه الا لماما! لمفارقته لكل ما ألفه التاريخ في مسيرته كتاريخ، لأي وقائع شبيهة أو ممكنة أو محتملة!!
كانت البلاد الكبيرة اذن، قد دخلت في نفق معتم ليس له مثيل!
وهكذا شكل عهد الجنجويد الأوائل، منعطفا حادا في حياة الناس، إحساسهم ومشاعرهم. بل تغيرت حتى سحنتهم، وطال التغيير لغتهم اليومية، لم تعد تلك اللغة الدافئة الحميمة! التي توارثوها عن أسلافهم لآلاف السنوات!
وبسقوط البلدة القديمة والمدينة الزاهية، بلغ الإحباط بصانع الفخار مبلغه، فقد نال منه التعب والإجهاد جراء محاولاته المستمرة، في منح الناس القدرة على تقدير البلاء قبل وقوعه!
فلطالما حذر الخزين من الخطر المحدق بالبلاد الكبيرة، وجيوش الجنجويد التي نمى إليه خبرها، قبل أن تتحرك من مواطنها وراء البحر المالح، وتخوم الصحراء.
الى أن دقت سنابك خيلها أبواب البلدة القديمة، ودكت (طوابيها) و(قياقرها) واحدا تلو الآخر! ورغم حرص الخزين، أن تصل رسالة صانع الفخار للناس، الا ان احدا لم يعره اهتماما، فقد كان القوم منشغلين بسباق الحمير الدوري، وهم يتباهون بحميرهم العصافير الملونة! مع ان البلدة طوال تاريخها، لم تعرف من الحمير سوى النوع (المكادي)!
هؤلاء القوم الذين يعطون سباق الحمير، أولوية على غزو بلادهم، هم ذاتهم أحفاد أولئك الناس، الذين اغتبطوا، عندما طار صانع الفخار الأكبر، قبل عشرات السنوات واختفى، ليريحهم من حديثه لبضعة سنوات.
وقتها اغتبطوا وأخذوا يكررون، بعد أن طال غيابه امنياتهم:
استرحنا منه، لا شك اكلته وحوش براري البلاد الكبيرة.
وذات يوم، بينما هم في هذا الكلام، إذ به يطل عليهم قادما.. اقترب نحو الخزين و(قالده) معانقا، وقد انخرط في بكاء مر.
وبعد أن هدأت خواطرهما، قال الخزين:
ما منا الا من له من حبيب نصيب، وما منا إلا من هو باكي مشتاق الى وجه الحبيب، ولكن يا ولدي صدور الاحرار قبور الاسرار، فإذا وقدة في قلب المحب شغلت من اشتياق الحبيب، اشغلتها الانوار.
ثم خلع الخزين جلبابه، فإذا بطنه محزوما، بقماش قطن كثيف، حله فإذا به مشبع بالدم، ثم بكى وكانت دموعه مخلوطة بالدم، ثم التفت إليه وقال:
يا ولدي لا يعرف أقدار، الرجال سوى الرجال، ورحم الله امريء عرف قدر نفسه، وكتم سره وحفظ أمره!
فعانقه صانع الفخار الأكبر باكيا وقال:
هذا صبر لا اطيقه.
وخرج لا يلوي على شيء!

7
صانع الفخار الأول، أشبه بنبي قديم، في ثيابه الرثة والعصاة الأبنوس، التي يتوكأ عليها جسده شبه العاري، ومثل كل أنبياء الجنس البشري، كان أتباعه من المهمشين، والفقراء والمحرومين والمقهورين والجوعى، وربما بقايا اللصوص والمجرمين! الذين يتطلعون للتوبة، والتحرر من ذنوبهم، التي ليس بمقدور مياه النهر نفسها غسلها!
وكنبي قديم، عندما ينظر في وجوه هؤلاء الاتباع، يحاول حث ذاكرته، لاستفراغ آثار الغرائز الطبيعية، الضاربة القدم، عن طريق الخلاص الذي تعترضه الآلام والمحن والعذابات، ومع ذلك لم يعرف عنه أنه نسب شيئا من هذه الغرائز، التي تتسبب في المحن و العذابات للشيطان! كان يعتقد أن البشر اخترعوه، لتفادي وضع اللوم على انفسهم!
وفي الحقيقة كانت شخصية صانع الفخار، أقرب لقادة الثورات منها للأنبياء!
جادين جانو، الذي حلت به روح صانع الفخار الأكبر، وفقا لنبوءة قديمة، استوقفه الإكتشاف الباهر، لعالم اثار من زملائه بالمعهد، الذي يعمل فيه!
والذي كان قد اكتشف ثلاثة جماجم، وأربع هياكل عظمية، تعود إلى عصور مختلفة، وبعد دراستها وتحليلها، خرج على الملأ أنها جميعا للشخص نفسه، الذي لا يستبعد أن يكون هو صانع الفخار!
اثاري آخر من المعهد نفسه، وجد درعا محلى بالياقوت الأحمر، ونوع غريب من رقائق الفضة، وسيفا من الذهب الخالص، مقبضه مطعم بنوع نادر من الماس، أكد بحزم صارم، أنهما السيف والدرع اللذان، خاض بهما صانع الفخار الأول، معاركه التاريخية! التي وردت في أكثر من ملحمة، من الملاحم الشعبية للبلاد الكبيرة، و التي كانت قد مجدته ب(دود الوعر! الاسد النتر، تمساح القبائل و ساري الليل)!
لكن كل هذه المزاعم، كانت تصطدم بحقيقة أن صانع الفخار كان فقيرا معدما، مستهلكا كشاعر مغمور، لا يملك سوى عصا ابنوس معقوفة، كما أنه كان مسالما و وديعا ولا يصلح تشبيهه بـ دود الوعر! او اي تشبيه وحشي اخر! وهو ما أكدت عليه كل رمزيات النخبة، التي ترتاد الاندايات عبر العصور!
ما ميز صانع الفخار الأول والخزين طبلة الأول، أنهما لم يتشرنقا في العزلة كصانع الفخار و الخزين الآن.
كانا دائما وسط زحام الناس.. المهمشين الذين تخددت وجوههم العكرة، بمزيج العرق والغبار، الذي رسم خرائط بديعة على ثيابهم الرثة!..
يخطبان حول كراكير الكجور، وأفنية المعابد القديمة، و كنائس اليهود وابناء يسوع، يحلمان للناس بعالم أفضل من هذا العالم الجنحويدي!
لطالما خشى صانع الفخار، أن تتحول الطائفة المنسوبة إليه، على يد الخزين، الى منظومة متهافتة متعطشة للسلطة، مشحونة بالضغائن والأحقاد، والنزوع للإنتقام.
كان يخشى أن تتحول تعاليمه، من طاقة ملتهبة بالاسئلة والمغامرة، إلى نظام واثق متيقن من كل شيء، لا يخامره الشك ابدا!
لم يكن يريد لأتباعه أن يلهثوا، خلف هذا الواقع المرير، الذي تعيشه البلاد الكبيرة، بالحكم عليه من زاوية نظرهم المحدودة، التي ينسبونها إلى تعاليمه زورا وبهتانا!

8
المخطوط الذي حاول (معهد جار النبي جارو) فك طلاسمه؛ كان مكتوبا بلغة غامضة، هي في الحقيقة مزيج من كل لغات البلاد الكبيرة، من اقصى دار صباح، حتى اقصى دار الريح، ومن اقصى الصعيد الى اقصى السافل!
هذه اللغة ازدهرت على نحو خاص، ولوقت طويل في الوسط، بل كانت الأداة الوحيدة للتواصل، بين شعوب البلاد الكبيرة!
لدى ترجمة ذلك المخطوط، وفض مغاليقه. اكتشف فيه باحثون المعهد، أفكارا غاية في الأهمية، تتعلق بطائفة سرية عاصرت وناصرت صانع الفخار الأكبر، تم تأسيسها قبل ذلك الاجتماع الحاشد، للأولياء بالجبل، بوقت طويل، أثناء تواجد صانع الفخار في سجن القلعة!
اتبعت هذه الطائفة السرية تعاليمه بدقة، بل وانقذت أحد أحفاده من صانعي الفخار، عندما سقطت البلاد الكبيرة، على يد الغزاة الجنجويد الأوائل.
لأسباب تتعلق بالأمن القومي -كما قالوا- لم يفصح المعهد عن كل الأفكارالمهمة، التي حواها المخطوط، إذ ضرب ستارا كثيفا من الكتمان.
ومع ذلك تسربت فكرة أن صانع الفخار الأول، كان يعمد إلى تعليم اتباعه، صناعة الأواني الفخارية. وبيعها للحصول بثمنها على الطعام، وقد أخذت فكرة الحصول على الطعام جل اهتمامه، لذا كان أتباعه بارعون، في صناعة أواني الطعام أكثر من غيرها!
وذات التسريبات، أكدت أن علوم الكون، وصناعة نوع محدد من ألواح الكتابة الفخارية، نالت اهتماما خاصا لديه!
لكن أهم ما في هذه التسريبات، أنها حددت بدقة، الموقع الجغرافي، الذي ولد فيه صانع الفخار الأول، هنا في (البلدة القديمة)التي ظلت بلدة صغيرة، عبر التاريخ، عند منحدر النهر، الذي يتفرع منه جاسر صغير، يتاخم المدينة الكبيرة الزاهية، حاضرة البلاد الكبيرة من اقصاها الى ادناها!
جادين جانو كخبير لغات، كان يعتقد أن فكرة التشفير، التي ابتدعها صانع الفخار، وطورها الخزين، ماهي الا محاولة للتعبير، عن تفوق الخزين نفسه على صانع الفخار!
هذا الإحساس بالتفوق، الذي كان مسكونا به ولم يجد وسيلة للتعبير عنه، سوى بلورة الشفرة، ووضع هوامش زائفة، ظن أن لا أحد سيكتشف زيفها، رغم علمه بتلك النبوءة القديمة، عن روح صانع الفخار، التي ستحل على وليد، ليس من سلالة صانعي الفخار، والذي لا محالة، سيكتشف هذا السعي الحثيث للخزين، لبناء مجده الخاص، بتوظيف طائفة صانع الفخار، وفقا لأهدافه هو!
وفي الحقيقة اهتمام كلاهما: صانع الفخار والخزين، بتوحيد لغات البلاد الكبيرة، بمزجها في لغة واحدة، لم يكن سوى محاولة يائسة، لإعادة تشكيل (اديان) البلاد الكبيرة في (دين واحد) يعود فيه الفضل في الحقيقة للخزين؟!
لكن الشيء المهم، الذي لاحظه (جادين جانو) هو طيف من إدراك عميق لصانع الفخار، أن الإمبراطوريات العظيمة عبر التاريخ، لم تدمرها سوى الانفجارات القومية والدينية، على عكس ما صوره الخزين للناس، لكن يظل من الصعب، استعادة فكرة الطائفة وإعادة تشكيلها من جديد!
فالخزين سعى بقوة، لدمج (ثقافة الجنجويد الغزاة) في (ثقافات البلاد الكبيرة)، استنادا إلى تأويله الخاص، لتعاليم صانع الفخار!
وبينما تنهض تعاليم صانع الفخار، في الفصل بين عقائد الناس الثابتة، التي لا تتغير. وحياتهم اليومية، وما يمرون به في كل لحظة من اليوم، تختلف عن اللحظة التي سبقتها!.. لكن كلاهما: عقائدهم وحياتهم اليومية، يفضيان للهدف نفسه: (الحياة)!
هذا التناقض بين سعي الخزين، وتعاليم صانع الفخار يطرح على أعضاء الطائفة، تحدي: كيف بإمكانهم تمثل تعاليم صانع الفخار، دون تخطي أنفسهم كطائفة ضيقة!

9
نما صانع الفخار الحفيد وترعرع، في هذه البلدة القديمة، وهو يراقب شمسها، التي تطل على الدوام في استحياء، ملقية بأشعتها على الدروب الضيقة، الملتوية قبل أن تفيض بتردد، كأنها تتراجع خطوتين قبل أن تتقدم خطوة، على القوز الرملي الذي تتكئ، على سفحه البلدة، المتاخمة للمدينة الزاهية!
قبل ميلاد صانع الفخار، كانت هذه البلدة موحشة و كئيبة وشاحبة، رائحة الروث والعطن تزكم خياشيم سكانها البؤساء، الذين تفوح من جلودهم رائحة، هي مزيج من رائحة الفخار النيء، وجلود الماعز المدبوغة، في منقوع القرض والملح!
ولولا ألق المدينة الزاهية، التي تتاخم هذه البلدة، لانقرض سكانها من البؤس!
كانت التسريبات عما حوته المخطوطة لاتتوقف، وبطبيعة الحال يشتغل فيها خيال الذين يتناقلونها، بالاضافة والحذف كما يعن لهم! فتصبح الحقائق ارباع حقائق أو حقائق مشوهة!
وهكذا يتنامى إلى علم سواد الناس، ما يحذفون منه أو يضيفون إليه على هواهم، كزعمهم أن صانع الفخار الحفيد لا يبتسم! ليس ثمة من رآه مبتسما أو ضاحكا! كان عالقا في اكتئاب مزمن منذ ولادته، الى أن اختفى على نحو غامض، قبيل غزو الجنجويد للبلدة القديمة والمدينة الزاهية، بقليل!
وذات التسريبات تؤكد أن هذه البلدة، قبيل ميلاد صانع الفخار، لم تكن تعرف التقويم بشكله الحالي، أو كثير من الأعياد التي تعرفها الآن، رغم أن فكرة التقويم والأعياد ولدت مع صانع الفخار الأكبر، وتعاليمه المناهضة لكل الأديان منفردة، و متوافقة معها مجتمعة!
الا أن الحفيد شرع في افكار جذرية كبيرة!
ولذلك كان موقفه من الدين الجديد، ما وراء بحر مالح وتخوم الصحراء القاحلة، بمثابة جزء من دعوته، التي توحد الأديان جميعها في دين واحد، كامتداد، لذات نظام تفكير صانع الفخار الأكبر!
كان ميلاد صانع الفخار الأكبر، بحد ذاته عيد.. بل أول عيد ميلاد يعرفه أهالي البلاد الكبيرة قاطبة!.. تلته أعياد كثيرة، كعيد التعاليم، وعيد الطوفان الاول، الى اخر الأعياد، التي كان أهالي البلاد الكبيرة، يولونها اهتماما كبيرا!
إذن بميلاد صانع الفخار الأكبر، تعرف الأهالي للمرة الأولى، على مفردة (عيد مولد) كما تعرفوا على كلمة (حب) وغيرها من المرادفات، فانفتحت قلوبهم يغادرها البؤس، ويحل التفاؤل والأمل!
وهكذا ظهر شعر الغزل والغناء العاطفي، إذ فتحهم صانع الفخار الأكبر على عالم من المعاني، والتعابير الجديدة على حياتهم البائسة، فأضحت النساء يتزين بالعاج والأبنوس والخرز الملون، و يتعطرن بخلاصة الاعشاب البرية ذكية الرائحة، ويستخلصن زيوت لطيفة، من نباتات استزرعت خصيصا لهذا الغرض، بل أصبحن يحرصن على شد صدورهن، بسيور الجلد ويضعن (لبادات) على مؤخراتهن، ليزدن بروزها!
إذن وبمعنى آخر، أن البلاد الكبيرة التي انشطرت إلى شطرين مؤخرا، يرجع الفضل الأول لإعطائها معنى الحياة، بكل مفرداتها، لصانع الفخار الأكبر، الذي صلب في فناء الكنيسة القديمة، على صليب من خشب اللعوت سيء الرائحة!
فبعد أن ضاق الخزين بالجند صرخ فيهم:
ألا تستطيعون حبسه؟
فردوا:
لم نستطع مسكه!
لم؟
لحظة يمشي على الأرض، ولحظة يطير في الهواء!!
قولوا له الخزين يطلب منك أن تدخل في هذا المكان فيدخل، باذن الحق!..
فجاء الجند إلى صانع الفخار، واخذوه فانقاد لهم، فأتوا به إلى باب القلعة، وقالوا:
يقول لك الخزين أن تدخل.
فدخل، وقفلوا عليه الأبواب، بعد أن وضعوه في حجرة ضيقة.. وفي الليل جاء السجان، ووضع في عنقه سلسلة، وادخله حجرة أكثر ضيقا، لا تتسع لأكثر من شخص، فسأله:
لماذا تفعل بي هذا؟
إنها أوامر الحاكم
اتظن هكذا قيدتني وحبستني؟
نعم
فتحرك صانع الفخار الأكبر، فتناثر الحديد عنه كالعجين، وأشار بيده إلى الحائط فانفتح فيه باب، فرأى السجان فضاء واسعا، فتعجب من ذلك. ثم مد صانع الفخار إليه يده، وقال:
افعل ما أمرت بفعله.
لكن السجان أبي، ونقله إلى فناء واسع، وجد فيه صانع الفخار مساجين لا عد ولا حصر لهم، فلما رآهم قال لهم:
اسمعوا مني ما اقول أن كان لكم معقول، والا بقاءكم هنا يطول.
فالتفوا حوله.. فرسم على الأرض مستطيلا كبيرا وقال:
هذا (فلك) من أراد النجاة فليركب..
فركبوا ووجدوا انفسهم في عرض البحر، فنزل في الماء وأخذ يجر المركب جاريا على سطحه، والمركب خلفه حتى وصل البر، فأنزلهم وقال:
سيروا إلى حال سبيلكم.
ثم أشار إلى احدهم:
انت..
فتوقف الرجل وقال بتردد وخوف وهو يتلفت:
انا؟
نعم انت، سيأتي من صلبك من يغزو البلاد الكبيرة، فيسفك فيها الدماء ويسبي النساء ويحرق بجنده الجنجويد الزرع والضرع..
ولم ينتظر ردا من الرجل، إذ تبدد في الهواء!
كان قد عاد إلى سجنه!

10
سحب الخزين الحفيد يده من يد (نينا) التي كانت تمسكها بقوة.. لا تريد إفلاتها!.. كان مدمى القلب، وكانت جريحة أقصى حدود الجرح!
كلاهما كانا اسيران لوضع شاذ وغريب، ليس لهما فيه يد.. وضع فرضته القوة الغاشمة للجنجويد..
كان هو عوليس وكانت هي حبيبته كاليبسو الجميلة، اللذان فرقهما قدر رهيب!
فعندما أمر الجنجويد أهالي البلدة بالمغادرة، في اللحظة نفسها كانت روح صانع الفخار الأكبر، ترتجف في مستقرها السري، فترتج ارض البلدة القديمة، ويرتاع كل شيء يتنفس فيها!..
صانع الفخار الحفيد، أدرك منذ وقت بعيد أن هذا سيحدث ذات يوم..
مدت روح الجد قامته المديدة خارج البلدة، تودع ضوء الشمس الشحيح الى الابد! ود لو يقول لهم قبل أن يغادر:
الجنجويد ليسو خالدين، فلا تفقدوا أمل العودة.
فيما كانت نينا منذ مغادرتها البلدة، يتجه بها الفلك إلى جذرها البعيد، في صعيد النهر، ترى كوابيس غريبة، تتعلق بمكان لم تولد فيه، ولا تعرف عنه شيئا!
مكان لم ترتبط به، وليس لديها فيه ذكريات..
مكان لم تألفه: مجهول وغامض، ليس ثمة لغة مشتركة بينها وبينه، بعد أن عزل الجنجويد اللغة، وشيدوا جدارا عازلا، من صخر جبال الأولياء، على عرض النهر، من جهة دار صباح، الى جهة دار الريح!
((هنا يستعيد جادين جانو، من ذاكرته مجتزأ من المخطوطة:
(يقال أن الموقع الذي شيدوا عليه (جدارهم العازل)، هو الموقع نفسه الذي ظل الغزاة، يشيدون فيه جدارا لعزل المنفيين من الأهالي، الذين يقاومون الغزاة أو يشتبه فيهم أنهم ينتمون لطوائف، تنشط في مقاومة الغزاة، وقد تجذرت هذه العادة، حتى صارت سنة ظل يتبعها الملوك الوطنيين والحكام العامين، بإبعاد معارضيهم والى الابد!
والابد كان يعني دائما سقوط الجدارالعازل، اما بعوامل التعرية وطول الامد، او بسبب دك الطوائف المقاومة له، وهدم كل جزء فيه! لتبدأ مثل كل مرة مرحلة جديدة من حياة البلاد الكبيرة، التي أدى تقلب مزاجها إلى تقلب تاريخها!))
وكانت لعاشقها الخزين، المشاعر والأحاسيس والأفكار ذاتها، فاللغة المشتركة بينه وهؤلاء القوم أسفل النهر، غادرت بمغادرتها، وهكذا تعبأت أحلامهما بكوابيس لا يدركان هويتها! تضيع ملامحها في الهاتف القديم:
نمهلكم ريثما تشيدون الفلك لترحلوا!
الهاتف الذي دوى فجأة دون سابق إنذار، فقسم البلاد الكبيرة إلى قسمين:
صعيد وسافل!
كان المتاخمون لصعيد النهر، داكني البشرة نوعا ما، و المتاخمين لأسفل النهر أقل دكنة، بسبب اختلاطهم بالجنجويد الأوائل قبل عشرات السنوات، لكن كليهما كانا ينتميان للجدة الأم نفسها، و يعبدون الإله نفسه، الإله الذي جاء الجنجويد يحملونه على صهوات جيادهم ونياقهم، من ما وراء البحر المالح، و تخوم صحراء دار الريح!
تبنى اهل البلدة القديمة هذا الإله، ودون أن يتخلوا عن الهتهم، كانوا يؤدون الشعائر معا، كان الاه كلاهما متصالح مع الاخر! لذا كانا يشتركان في اشياء كثيرة! لكن على عكسهم، كان الجنجويد لا يشعرون بالامتنان لصانع الفخار مثلهم!
لن تحملوا معكم أي شيء، فقط غادروا
قال الهاتف بحزم قاس!
احتضن الأهالي بعضهم البعض، وانخرطوا في بكاء حزين بلل تراب البلدة لوقت طويل.
كانت عيونهم زائغة، ومشاعرهم متضاربة. تمرغوا في تراب الخط الفاصل بين الصعيد والسافل، وهم يودعون قبور موتاهم بنظرة أخيرة، ويودعون أهلهم وجيرانهم باسى!
كان الجنجويد يريدون الغاء ذكرياتهم، دون أن يدركوا انه لا يمكن الغاء الذكريات..
الجنجويد الذين جمعوا في تاريخهم، كل قوى الشر في التاريخ، لم يكتفوا بشطرهم شطرين! إذ شرعوا في تدعيم الجدار العازل، الذي بنوه بجماجم قتلاهم!
في اللحظة التي أكملوا فيها تدعيم الجدار العازل، كانت روح صانع الفخار الجد، قد شارفت على الوصول إلى مستقرها الأخير!
لم تعد تأبه لهؤلاء الأبناء الضالين! المضلين! الذين لطالما جاهد صانع الفخار الأكبر لانقاذهم! تغرب لأجلهم.. وحبس لاجلهم، وصلب واحرق لأجلهم!
وهو في سجن القلعة، بعد أن استسلم أمير السجن للاختفاء الغامض للمساجين، وكذب على الحاكم، أنهم تمردوا فقتلهم، و أخذ وعدا من صانع الفخار، بان لا يختفي أحد آخر!
إذ كانت قد ترسخت في أعماقه قناعة، أن صانع الفخار، هو من قام بتهريبهم، إلى مكان لا يمكن أن يصلهم فيه جند البلدة القديمة، إذ اختفى كل أثر لهم فيها!
وقتها زاره الخزين، فلما دخل عليه رأى الحجرة، التي حبس فيها مرتبة، غاية الترتيب، وقد توفرت له فيها كل سبل الراحة.
كان مجلسه حسن وفرشه حسن ولديه من يقوم على خدمته، فسأله:
اين صانع الفخار؟
فرد عليه وهو يشير بيده:
خلف هذه الأبواب، يعظ المساجين الخطرين، القتلة واللصوص والمجرمين، يدخل على بعضهم كل يوم، ويخرج منهم وقد تابوا، وصاروا من اتباعه!!
ومن أين له بهذا الطعام الغريب، الذي ليس في البلاد الكبيرة مثله؟
تحضره كل يوم مائدة، فينظر إليها لحظة ثم ينقرها بأصابعه، فترفع دون أن يأكل منها شيئا!
وفيما الخزين يسأل والسجان يرد، دخل عليهما صانع الفخار. رأى الخزين وجهه يعود طفوليا كأنها تلك المرة الأولى، عندما جاءت به أمه تسحبه خلفها، قبل سنوات طويلة خلت.
كان حسن الوجه، لطيفه.عليه هيبة ووقار لم يرى الخزين مثلهما من قبل. وفيما الخزين يتأمله، جاء السجان يرتعد، وقبل الأرض بين قدميه، فسأله:
ما بك؟
سيعدمونني.. كبش فداء.. نارهرب المساجين لم تنطفيء، رغم أننا قلنا انهم تمردوا فقتلناهم.. قالوا يريدون رؤية الجثث.
هدا صانع الفخار روعه وقال:
امض، لن يضرب عنقكم أحد..
واخبره عن موضع ليخبرهم به، أن الجثث دفنت فيه..
ولم يمض بقية اليوم، حتى جاء السجان مرة أخرى والفرح والدهشة معا، يمتزجان و يقفزان من عينيه، وقبل أن يفتح فمه بكلمة، بادره صانع الفخار بالقول:
إذن عثروا على جثثهم جميعا لا ينقصون جثة..
فأغمي على الرجل من الدهشة!

11
عبر هذا النهر الطويل، الذي يجري من الصعيد منحدرا الى الأسفل، والذي يقسم البلاد الكبيرة طوليا الى قسمين: دار الريح ودار صباح، والذي ينبع من بحيرات عدة تتغذى من الأمطار السماوية، والرؤى الغامض!
كما تتفرع منه عشرات الأنهار، لكن مصدره الحقيقي مركز الوجود، حيث نصب (صانع الفخار الأول) (قطيته) البديعة، تحت شجرة المنتهى، المسكونة بطائر البلدة القديمة الخالد.
قبل مئات السنوات، وعبر هذا النهر، أجلى للمرة الأولى(جنجويد المقدس سره)، أهالي البلدة القديمة، سكان البلاد الكبيرة الأصليين.
وعبر هذا النهر نفسه، بعد الجلاء الأول بآلاف السنوات، أجلى (الحاكم العام) ما تبقى من سلالات السكان الأصليين شبه النقية، والتي لم تتمكن حملات التهجين الجنجويدية، من اعادة انتاجها بالكامل!
هذا النهر إذن، ظل شاهدا لمئات ملايين الوقائع والأحداث الكبيرة والصغيرة، بدء بقصص الحب المجهضة، مرورا بجرائم القتل والغزوات، انتهاء بالحروبات العبثية!
فمن الأعماق السرمدية لهذا النهر العظيم، خرجت "الحورية الكنداكة".. اجمل راهبات البلدة القديمة، بخطى متئدة مضت تجاه صانع الفخار الحفيد، الذي كان مسمرا على القيف!
اجلسته على فروة من نبات (السعدة) الذكي، ودنت منه وهي تكرر:
زوجتك نفسي..
ودون أن ينبس ببنت شفة، أخذ كل شيء فيه يهتف:
زوجتك نفسي..
وكل فج في البلدة القديمة يرجع الصدى:
"زوجتك نفسي ي ي يي ي"..
النهر، الحوريات صويحبات صانع الفخار، عشبة معونة النهر الفتية، التي كان قد استخف بها الطرب، فأخذت تتراقص على أهداب المويجات الوسنانة!
كلاهما كان لا يدري كم لبث على تلك الحال!
أخذت يدها المترددة، تتحسس شعره الأجعد الكثيف، وجسدها يدنو منه حثيثا.. لكن ببطء، وحولهما أفراس النهر والتماسيح قد خرجت إلى القيف، تحدق فيهما بدهشة!
وحيوانات الغابة المجاورة، متراصة في شبه دائرة أو قوس تتفرج! وطائر البلدة القديمة، من عشه في شجرة المنتهى، يفرد جناحيه بطول النهر، ويغرد تغريدة عجيبة!
على نحو مباغت، كمن يفيق فجأة من نوم عميق، امتد لقرون وقرون، انتفض الخزين وهو يرنو ببصره، إلى غابته، فامسكت نينا بيده، وقالت بصوت حزين واهن، كأنها تستجديه:
كيف يطيب لك العيش بعيدا عني؟ تعال، تعال معي الى البلدة القديمة، نحن بحاجة اليك..
لكن..
لكن؟!
يجب أن أخذ الإذن..
ممن؟!
من صاحب الإذن..
لكن كان الأوان قد فات.. لم يعودوا بحاجة إليه، بعد أن أعلن الجنجويد عن نيتهم، في إجلاء أهالي البلدة القديمة.

12
الأهالي الذين اجلوا، ما أن وطأت أقدامهم أرض الوطن الجديد فى قلب الصعيد، حتى تلفتوا حولهم، عسى أن يجدوا صانع الفخار أو الخزين، اللذان لم يبن لهما أثر، منذ وطأت أقدام الجنجويد تراب البلاد الكبيرة.
شعروا بحاجة ماسة لخطبة مطمئنة من أحدهما، في هذه اللحظة بالذات.. اللحظة التي وطأت فيها أقدامهم أرض الوطن الجديد!
وفي الحقيقة لم يكن لصانع الفخار أو الخزين، وجود سوى في دواخلهم، مخيلاتهم، ملامحهم، قسماتهم، لونهم الأبنوسي، تقاطيعهم، وربما في ذكرى بعيدة، تنقح كجرح متجدد في اعماق الوجدان!
في هذه اللحظة الحبلى بالمخاوف الغامضة، التي تمور في دواخلهم، ممزوجة بشعور خفي، لايخلو من رغبة الإقبال على الحياة والحب، وفتح طاقات الأمل على مصاريعها..
في هذه اللحظة بالذات، فج الماء صانع الفخار الأكبر، فشملتهم حالة من السكينة والهدوء!
وفيما هم على تلك الحال، كان (المقدس سره) يحتفل بتنصيبه ملكا، على عرش البلاد الكبيرة الجديدة، التي فقدت ثلثها للتو، وبنت جدارا عازلا يفصل بين صعيد النهر وأسفله!
و كان أتباعه الجنجويد يضجون ويصخبون، وقد نال منهم الشراب كل مبلغ، عندما وصلهم خبر لقاء راهبة البلدة القديمة وصانع الفخار!
ورغم ثمالتهم سرت في أوصالهم رعدة، لم يجدوا لها تفسيرا عندما أفاقوا من سكرتهم، عصر اليوم التالي!
من الجانب الآخر كان أهالي البلدة، الذين تسرب إليهم الخبر، قد خالجهم نوع غامض من المشاعر والأحاسيس، التي تدور كلها، حول ما تخبئه لهم الأقدار!
وعندما يتأمل (جادين جانو) بعد عشرات السنوات، هذا المجتزأ من المخطوطة، الذي يكشف عن وقائع وأحداث، تكاد تتطابق منذ عرف (انسان سنجة) البلاد الكبيرة واستصلح أرضها، الى أن دهمها الجنجويد!
بقدر ما يتوقف عند شخصية صانع الفخار، التي يشعر أنها من صنع خيال الخزين، أو هي شخصية الخزين كما يتصور نفسه، وان ليس ثمة وجود حقيقي لها، خارج مدونات صانع الفخار، أو الهوامش عليها، المنسوبة للخزين، الذي هو المصدر الوحيد، الذي دون عن هذه الشخصية، في هوامشه على مخطوطها! الذي ربما كتبه شخص مجهول، باسم صانع الفخار!
إلا أنه، مع ذلك يجد أن الوقائع نفسها التي جرت وتجري، في البلدة القديمة والمدينة الزاهية، منذ آلاف السنين هي هي، حتى الجدار العازل، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يبنى فيها، فقد شيد أكثر من مرة خلال آلاف السنين، وكلما تآكله الزمن، وانمحت آثاره، جاء حاكم عام فشيده من جديد!
والحال هكذا، يجد جادين جانو، أن شيئا لم يتغير بشكل جوهري، فذات القضايا المطلوبة، التي ناضلت لأجلها أجيال آل صانع الفخار، وكافحت في سبيلها، أجيال آل الخزين هي هي نفسها!
حتى ليبدو الزمن النفسي للبلاد الكبيرة يراوح مكانه، كما أن الزمن الفيزيائي، يدور ليصل للنقطة ذاتها، التي انطلق منها، كأن البلاد الكبيرة من دون مخلوقات الله من بلدان، تتحرك في إطار قوانين مستقلة، تخصها وحدها، مفصولة عن القوانين التي يتحرك في إطارها الكون كله، وهذا العالم الذي تنتمي الى كرته الأرضية، البلاد الكبيرة، التي تقع أسفل محيطاته وارخبيلاته، منفتحة على صحارى الجنجويد التاريخيين الرهيبة!
وهكذا مضت المخطوطة، التي فك (معهد جار النبي جارو) طلاسمها، تكشف عن سر رهيب، الإعلان عنه قد يفضي بلاهوت البلدة القديمة إلى العدم، إذ أكدت على نحو غامض، أن الطائفة السرية، التي كان يقودها الخزين، والتي عاصرت وناصرت صانع الفخار، كانت (هذه الطائفة) قد استبدلت صانع الفخار بشخص آخر يشبهه تماما الخالق الناطق! شخص لا يمكن التمييز بينه وبين صانع الفخار!
شخص هو الذي تم صلبه، على صليب خشب شجرة اللعوت سيئة الرائحة، ونسبت المخطوطة هذا التدبير المحكم، لمعلمه الخزين طبلة ام جبو، دون علم أولياء الجبل، وهكذا تضع المخطوطة في حاشيتها سؤالين:
من هو ذلك الشخص الذي صلب مكان صانع الفخار، وما حكايته؟
أين ذهب صانع الفخار الحقيقي، وكيف ولماذا وافق أن يصلب شخصا بريئا بدلا عنه؟
هل الخزين هو معلم صانع الفخار، أم أنه ابتدع لأتباعه شخصية صانع الفخار الغامضة؟
الأسئلة حول حاشية المخطوطة، ولدت في عقل جادين، الكثير من الأسئلة الفرعية، خاصة ما يتعلق بتلك (الشفرة) العجيبة، التي ابتدعها الخزين لكتابة مخطوطاته، التي أعيا حلها علماء اللغات لمئات السنوات!
ولشد ما تساءل: لماذا صوره في هوامشه التي وضعها على هذا النحو الخارق!! الذي يتخطى حدود البشر وإمكانياتهم الطبيعي.. اشبه باله اسطوري؟
هل حقا عندما دخل السجان والعسس على صانع الفخار، رأوه يكبر ويتضخم فلا يسعه المكان!!!.. فخافوا أن يتقدموا إليه؟!
(قال): ثم أخرجه أمير السجن وجمعه بعلماء البلاد الكبيرة، يناظرونه فيرتدع.
فطلب طستا من النحاس يزن أربعين رطلا، وألقاه في وسط النار، وانتظره حتى أصبح كالجمر، ثم قام وجلس عليه وقال:
يا علماء يا فقهاء يا أهل البلاد الكبيرة، من أراد منكم مجادلتي فلياتي ويجلس قربي على هذه النار!
ففر الناس مرتعبين. انتهى.

13
الخزين بذكائه الوقاد، كان أول من ابتكر فكرة الأسماء الحركية له ولاتباعه.. اسمه الحقيقي (الخزين) مجهول تماما! لا أحد يعرفه بين من عاش معهم في ذلك المجتمع القديم، وإذا كان صانع الفخار، هو أول من إبتدع فكرة الكتابة المشفرة عبر التاريخ. فللخزين يعود الفضل، في تطوير هذه الشفرة، إلى لغة كتابة مستقرة!
الأسماء الحركية، وبلورة الشفرة كانا اختراعه، الذي كرسه لحماية أسرار الطائفة واتباعها. وتسببت كتابته المشفرة هذه، في أن تظل الكثير من أسرار طائفة صانع الفخار غامضة أو مجهولة، رغم المجهودات الدؤوبة و المتضافرة، لعلماء اللغات والآثار والتاريخ، الذين لم يألوا جهدا في تجريب مختلف الاحتمالات الممكنة، لحلها دون جدوى الى أن توصلوا أخيرا،الى نوع خلاق من التخمين، في فك رموز المخطوط.
مشكلة هذه الشفرة كانت تكمن، في كونها هجين مزيج، من كل لغات البلاد الكبيرة، تم فيه إبدال المعاني إلى نقيضها، بالتالي تنطوي الوقائع والأحداث، على عكسها تماما!
بمعنى أن الحديث عن الحرب في المخطوطة، كان يعني الحديث عن السلام في الواقع.. والحديث عن الانفصال، إنما يعني الوحدة!
الأجزاء التي فشل هؤلاء العلماء في فك طلاسمها، خمنوا أن قوامها لغات انقرضت منذ آلاف السنين، ولم يعد أهل البلاد الكبيرة يتحدثونها.
وعلى أية حال، القليل الذي فكوا طلاسمه، كان بمثابة نصوص موازية أو متقاطعة مع الوقائع والأحداث، التي جرت فعلا.
ومن المؤكد أن الخزين، لجأ إلى كل هذه التعقيدات، ليس لخداع الأجيال القادمة، بتقديم تاريخ زائف للبلدة القديمة والمدينة الزاهية في ظاهره، بينما ينطوي فعلا على التاريخ الحقيقي!
وإنما كانت الفكرة المهيمنة عليه، هي حماية أسرار طائفته، والمكان الذي يختبيء فيه صانع الفخار، ويدير منه هذه الطائفة المنتشرة، في كل مفاصل البلاد الكبيرة ودولها.. في كل العصور!
ومع ذلك ما جادت به المخطوطة من أسرار، كشف عن رواية أخرى، عن أصل وفصل الخزين ام جبو، إذ نسبت المخطوطة أبويه ل(الرحل) الذين لا وطن لهم، وتشير أن المخاض داهم والدته، في اطراف البلدة القديمة، أثناء رحلة قومها القساة، الذين تركوها وطفلها الوليد هنا في الفلاة، ومضوا. فوجده رعاة البلدة القديمة يبكي في حضن أمه، التي كان قد مضى على موتها، وقت ليس بقصير!
وهي رواية تدحض الرواية الشائعة، التي تنسبه للمنبتين، الذين لا يعرفون لأنفسهم أصل أو فصل، بسبب حملات الاسترقاق المتبادلة، التي كانت تمارسها شعوب البلاد الكبيرة القديمة، ضد بعضها البعض!
هذه الرواية المتداولة، تشير الى انه كان قد جيء بأم جدته جدة امه، في احدى حملات الاسترقاق، التي خاضها الجنجويد في الصعيد!
وفيما (جادين جانو) يغرق في تأملاته، كانت (نينا) حبيبة آخر أحفاد الخزين، تعبر على الضفة الأخرى من المخطوطة، وتعبر على خاطرها ذكرى لقاءها الأول بالخزين الحفيد، عندما كانت تستحم في النهر، تبلل لهيب عريها المستثار!
ضمها الخزين إلى صدره، وأخذت أصابعه النحيلة تتسلل إلى ظهرها، فيتسربها شعور زلق دافيء، يشعل فيها بوحا لا حدود له!
تنقلت أصابعه تجوس في العش بين فخذيها، فأخذت تمور كتنور يغلي!
الحرق المشتعلة داخلها تبتل بصهد لزج، واصابعه تمضي بعيدا، تتخلل إنكفاءات طياتها بشغف، لتفتح كل شيء فيها على لهفة وشوق عارم!
مدفوعان باحساس همجي، متوحش.. لحظتها، في الجاسر المتفرع من النهر، مضى نبض انتصابه يغرقها، في أكثر احاسيس الوجود كثافة وخدرا ولذة! في هذا المكان بالذات، وفي لحظة مماثلة لهذه اللحظة بالذات، التقى صانع الفخار بالراهبة الكنداكة، والتقى المقدس سره بأم عيون، فكان بينهم جميعا ما كان!
لحظة واحدة تنطوي على شقيقاتها اللحظات!
الآن و(نينا) تمضي لتلحق بالفلك، لتغادر غروب هذا الجزء من وطنها، لا يخطر ببالها شيء سوى تلك اللحظة الاولى، التي جسدت حياة بكاملها، من المبتدأ إلى المنتهى!
فيما هذا الخاطر يلح عليها، وهي تزمع الإبحار وقومها جهة الصعيد، كان جنود الحاكم العام لحظتها يذبحون الذبائح، احتفالا بإجلاء أهل البلاد الكبيرة الأصليين، والعثور على خرائط الجدار العازل القديمة، بين مخطوطات الكنيسة، والتي كانت قد اختفت منذ مئات السنوات، وفي الوقت ذاته انشغلوا بإعادة بناء الاندايات القديمة، لتصبح نسخة مماثلة، لاندايات أسلافهم ذات الرايات الحمر، في موطنهم التاريخي البعيد، ما وراء بحر مالح، وتخوم الصحراء القاحلة!
وكاندايات أسلافهم في موطنهم البعيد، جعلوا على خدمتها ارقاء وجواري هذا العصر، من كل جنس ولون..
هؤلاء الذين كانوا هم السواد الأعظم من الشعب، الذي تم نهب موارده وافقاره، فاسترق غالبيته بسبب وضعهم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي المتدني، فلم يجدوا سبيلا للحياة، سوى اندايات الحاكم العام، التي مزج فيها خبرات كل اندايات الشعوب، التي غزاها أسلافه الجنجويد، مع الخبرة المحلية المتوارثة، ل(فداديات) البلدة القديمة والمدينة الزاهية..
وعلى أية حال كان هؤلاء المعذبون، من شعب البلاد الكبيرة، بمختلف درجات عبوديتهم، يجدون في هذه الاندايات، أرواحهم الضائعة، بين أقبية تاريخ غامض، شفره الخزين الجد بمهارة أعيت جهابذة (معهد جارالنبي جارو) لزمان طويل!
فيما هذا الخاطر يلح على جادين جانو، كانت نينا قد صعدت إلى الفلك، وقلبها يتلفت بحثا عن ثمرة فؤادها الخزين الحفيد، في دروب البلدة القديمة والجاسر المتفرع من النهر العجوز!
فيما مضى، كان أهم ما يميز البلدة القديمة، معبد صانع الفخار، الذي كانت روحه تتجلى، وطيفه يتجسد للأهالي الاتقياء الانقياء، في المساءات الحالمة.
إذ يخرج طيفه من بين الاشجار، التي تحيط بالمعبد، كالسوار. تتخللها شجيرات الريحان البري، التي تمتزج رائحتها مع رائحة السعدة، وعشبة مياه النهر، عندما تلفح الرائحتين تيارات الهواء البارد، فتدهم خياشيم العابرين إلى المعبد، باعثة فيهم نوع غريب من الشعور باليقين!
لم تعد البلدة القديمة والمدينة الزاهية ذاتهما، لا مكان لك هنا!!
هل ستأتي معي؟
لا استطيع. علي القيام بأمور مهمة..
أهم مني؟!.. هل ستتركني كما ترك صانع الفخار الكنداكة؟!
لم يتركها. كان يحميها مثلما أحاول حمايتك الآن.
كيف تحميني وها انت تتركني ليحملني الفلك إلى أرض غريبة؟!
ود لو قال لها الحقيقة.. حقيقة بحث الحاكم العام عن هويته الحقيقية، لحظره.. حقيقة كلابه التي تجد في البحث عنه لتعتقله، حقيقة أنهم اقتربوا كثيرا من إماطة اللثام عن شخصيته المجهولة!
توقفت كلمات متزاحمة، ملؤها العبرات في حلقه، الذي كان جافا، تجرحه تنهداته الآسية.
استجمع في داخله كل قسوة آل الخزين، التي وخزته في هذه اللحظة، عبر ثقوب التاريخ، لتفتح مجاري رفيعة لاترى، تنحدر من تلك الينابيع السرية، تتدفق عبرها.. قطرات صغيرة من العزيمة، لها أثر ندى الفجر الجارح..
استجمع قواه ومضى، دون أن يلتفت وراءه! فيما نواتية الفلك ينادون على المتأخرين، ليعجلوا بالمغادرة!
في المرة الأولى وهي تستحم في النهر، كانت تعطيه ظهرها..
كان ردفها يتغنج تحت الماء، فتطفو فقاقيع صغيرة. كان يحدق فيها مسلوبا، تسمرت عيناه على ردفها الهمجي، الذي منحته عناية رب صانع الفخار، طاقة جذب مثيرة وآسرة، تلفه بكل هذا الجنون والدوار!
فيتخيل نفسه يمتطيه، كما كان جده الخزين الأكبر، يمتطي الظباء الحرونة في طفولته!
في وقفته تلك، أخذ يتخيله صلبا متماسكا وممانعا، ينطوي على زغب بري لطيف الرائحة، فتخطر على ذهنه، كل المآثر التاريخية للأرداف الشبيهة، فيما تواتر عن الخزين الجد.
تلك الارداف البديعة، التي كما ورثتها الكنداكة عن أصلها الملوكي البدائي الكريم، لجداتها الغابرات، اللائي ملأن خيال الشعراء المجاذيب بالجنون، لهول ذلك الفخر والإعزاز المهيب، الذي يشعل فحولات الأبطال، حتى الرمق الأخير، من حياتهم البائدة!
هذا الردف المدهش، هو أيضا أثمن ما ورثته نينا، بعد مئات السنوات.
وعندما ودع الخزين الحفيد الفلك، كان يدرك أن ذكرى هذا الردف، ستظل تطارده إلى الأبد!

14
عندما جاءوا به مكتوفا لصلبه، أومأ بعينيه إلى الحائط، فانفلق.. وبانت فلاة واسعة تضيء بنور، أقوى من الشمس والقمر والنهار مجتمعين، فسأله السجان:
ما هذا؟
فرد عليه:
اذهب وتفرج..
فذهب ونظر فإذا باللؤلؤ والمرجان والماس حصى، وكل الشجر وردا وفاكهة، ونهر البلدة القديمة مزيج من اللبن والخمر والعسل!
هتف السجان:
والحق، تقدس سر الحق!
المقدس سره بقناعاته الراسخة، في انتمائه لعظماء التاريخ.. أولئك الأنبياء منذ آدم، إلى آخر نبي مغمور أو منسي أو غير معترف به. لم يكتفي أن ينسب نفسه إلى ذلك النبي الجديد، الذي ظهر ما وراء البحر المالح وتخوم الصحراء القاحلة.
بل مضى نيافته بإشاعة الحديث، عن قداسة دمه النقي، الذي يتجاوز دماء الأنبياء طهارة و نبلا وعفة!
ولذلك كان قداسته يولي أهمية كبيرة، لمسألة (النسب الشريف) لأصوله المزعومة، لمجابهة الدماء الفاسدة، التي في نظره تجري في عروق أهالي البلاد الكبيرة الأصليين..
هؤلاء السود، الذين داهمتهم جيوشه ذات فجر شاحب، فأحرقت القصر الملكي.
في اللحظة نفسها، التي كان ملك البلاد الكبيرة، يتحرش فيها بجارية صغيرة سلبته وقاره، في منتصف السلم المفضي لبهو العرش..
تناولتهما ألسنة اللهب مع أخشاب السلم المتداعية، وهكذا ذابا دون أسف، متوحدان في النار العظيمة، التي انطلقت تلتهم كل شيء!
وفيما النار تلتهم قصر آخر الملوك الوطنيين للبلاد الكبيرة، كان جند المقدس سره الجنجويد، يغمدون نصالهم في (كجوريين) و حاخامات وكهنة ورهبان وراهبات البلدة القديمة والمدينة الزاهية، مشرعين الطريق للدين الجديد!
ثم لم يلبث المقدس سره إلا قليلا، حتى نصب محاكم العدالة الناجزة، في كل ربوع البلدة القديمة والمدينة الزاهية، ليلقى حتفه كل من يشكك في قداسة دمه، أو مشروعية سلطته وسلطانه على البلاد الكبيرة!
كان مجرد التشكيك، وليس المقاومة الفعلية، جرما لا يغتفر!
وقداسته كان يرى أن هؤلاء السود، لا يستحقون حتى أن يكونوا مجرد خدم، في بلاط نيافته ذات المقام العالي والدرجة الرفيعة، التي لم ولن يبلغها رسول أو نبي، من قبل أو من بعد!
وان حدث وأصبح أحد أهالي البلاد الكبيرة خادما في قصر سموه، كان ذلك يعد فخرا وشرفا لا يضاهى، حظي به هذا الخادم الفريد!
ولهذا فكرة أن يكون صانع الفخار أو الخزين، اللذان بدوا له كشبحين، لا أحد يدري عنهما شيئا.. فكرة أن يكونا معارضين له، كانت تعذبه كثيرا.
إذ يحزنه أن يكون مثل هؤلاء السود البؤساء، أندادا له! فضلا عن كونه يبحث عن شبحين لم يرهما أحد، أو يعرف هويتهما أحد، ومع ذلك يردد الناس أخبارهما وتعاليمهما!
وما كان يؤرقه أكثر، أن لا أحد يعرف هوية اتباعهما، أو عددهم أو إلى أي مدى هم منتشرون، ومدى تأثيرهم على أهالي البلاد الكبيرة!
لا أحد بالضبط يعلم الاسم الحقيقي للمقدس سره، فقد سارت عليه الكنية، فقتلت اسمه منذ كان جنديا صغيرا في وطنه البعيد، ما وراء بحر مالح وتخوم الصحراء القاحلة!
وكون سعادته ككل الغزاة، كان طارئا على البلدة القديمة والمدينة الزاهية، رسخ في ذاكرة الناس باسم المقدس سره!
كان قومه ما وراء البحر المالح وتخوم الصحراء القاحلة، قبل وقت طويل يعبدون الحجارة، التي كانوا يشكلونها على هيئة الحيوان أو البشر، بل انهم مضوا بعيدا، حتى صنعوا آلهة من العجوة، يأكلونها عندما يجوعون!!
الى أن بعث فيهم نبي بتعاليم لم يألفوها!
في البدء حاربوه، ولكن بعد أن التف حوله الفقراء والأرقاء، الذين كانوا يشكلون سواد الناس الأعظم، ثم لحق به القلة من علية القوم المستنكفين! مضت رسالته تشق دروبا جديدة، في تلك الصحراء القاحلة!
كان قوم المقدس سره، الذين بدأوا يعانون الاضطرابات والقلاقل، التي ما فتئت تنخر في كيان دعوتهم التي استبيحت، فتحولت إلى ملك عضوض، فأخذوا يسعون جاهدين -وقتها- لإعادة تماسك أطرافهم، والتوسع في أراض جديدة، فرموا أبصارهم خلف أفق البحر المالح الملون، و أرسلوا قبائل بكاملها، لتختلط بشعب البلاد الكبيرة، وتنشر الدعوة للدين الجديد.
بل حتى الهاربون من نزاع الحكم أفواجا أفواجا، جاءوا إلى البلاد الكبيرة.
وهكذا انفتح الطريق، فجاء الدعاة، قطاع الطرق، قادة الثورات المجهضة، وزعماء الملل والنحل، والفرق الدينية السرية، وقبائلهم وأشياعهم، البدو الباحثون عن الكلأ والماء هربا من الصحراء القاحلة، التجار الذين لم يعد لبضائعهم طلب، الصعاليك والفاشلون الباحثون عن مجد سهل، والشعراء الفاشلين والمجانين الذين تاهوا في دروب الصحراء ومسالكها، والعشاق المحطمين بهجران حبيباتهم الخائنات!..
جاءوا جميعا من كل فج عميق. من ثغور االبحر المالح، من صحراء دار الريح، من أسفل النهر، زرافاتا ووحدانا، جوعى منهكين من طول التسفار ووعثاء الطريق، وجوههم معروقة، أجسادهم نحيلة يابسة، تكاد لا تبين داخل اسمالهم المتسخة..
.. ورحب بهم أهل البلاد الكبيرة المسالمين، في أسافل وأواسط النهر.. رحبوا بكل هؤلاء وأولئك، استضافوهم، وداووا جروحهم وزوجوهم بناتهم واخواتهم، وهكذا بدأت تتشكل نواة لشعب جديد، ملامحه تختلف قليلا عن بقية أهل البلاد الكبيرة، في الصعيد ودار الريح، الذين لم يختلطوا عميقا كغيرهم من الأهالي أواسط النهر و سافله، إذ كانوا منذ البدء ينظرون إلى هؤلاء الغزاة في ريبة وحذر!
ولد المقدس سره، بعد انتشار الدين الجديد، بعدة قرون، ومنذ طفولته الباكرة.
كان باد الذكاء، لماحا.. وميالا للقيادة.
لذا عندما اشتد ساعده وقوي عوده، سأل قومه تزويده بجيش قوي لغزو البلاد الكبيرة، فأجابوه وأطلق على هذا الجيش اسم (الجنجويد)، أي راكبي الجياد!
وبسقوط (البلدة القديمة والمدينة الزاهية) اللتان كانتا تشكلان عصب البلاد الكبيرة وسرتها، بدأ عهد جديد، افتتحه الجنجويد باستعباد واقسار الناس، على تبني الدين الجديد! أو القتل!
فلم تنج من الاغتصاب سوى نسوة قلائل، كن قد اخترن الموت! وبعض الرجال، الذين فضلوا الهروب إلى فيافي دار الريح أو غابات صعيد النهر، للبدء في وطن جديد، بعيدا عن قبضة الجنجويد!
وقتها كان الخزين الجد قد أحكم تسوير طائفته، الحافظة لتاريخ الأسلاف وعقائدهم، والمبشرة بتعاليم صانع الفخار الأكبر!
وما أن دانت للمقدس سره البلاد الكبيرة، حتى أخذ رجاله ينشرون الكثير من القصص الغريبة، والأساطير التي تجعل منه كائنا خارقا، أكثر من كونه بشري محدود القدرات، كغيره من البشر: يأكل ويشرب وينام، ويفشل في مضاجعة النساء أحيانا، ويتغوط ويتبول ويخاف، ويحزن وربما يموت بسبب مرض لم يجد له الحكماء علاجا، بسبب عاداته الغذائية الرديئة، أوتناوله طعاما فاسدا!
هذه الوقائع المأساوية المتتالية والسريعة في حياة أهالي البلاد الكبيرة، أوضحت مدى الخلل الذي يعانيه عقل المقدس سره،الذي بالمقابل كان يرى حياة أهالي البلاد الكبيرة، ككتان نسجه نساج رديء على منوال شابته الكثير من العيوب، ما يجعلهم أقل مقاما من قومه خلف البحر المالح، وتخوم الصحراء القاحلة!
وفي الحقيقة أن معتقدات المقدس سره وجنجويده، كما رآها صانع الفخار، ليست سوى ظاهرة سوء فهم عميق للتاريخ ولمعنى الوطن! والحياة والطبيعة البشرية، بسبب الصحراء القاحلة التي ولد ونشأ فيها المقدس سره وجنجويده!
إذ كان المقدس سره برأي صانع الفخار، وهو يرى سيوف الجنجويد تقطع وتبتر أيدي الأهالي وأرجلهم ورؤوسهم، ولا تكف عن جلد ورجم النساء والرجال، تجسيدا لمبلغ و منتهى الفظاعة وسوء الظن والقبح، الذي لا حدود له!
وبقدر ما أحب الجنجويد المتوحشين (الشعر)، بسبب وحشيتهم وقسوتهم، نتيجة الانفعال بسبب غياب الحكمة، كان أهالي البلاد الكبيرة الطيبون، يحبون (الحكايا) و (القصص) التي يتداولونها في العشيات، وهم متحلقين حول (تقابة) نار، يغلي فيها ورق الشاي القوي، المخلوط بلحاء شجر طيب الرائحة.
وبينما يصب الصبية الشاي، كان أكبر الرجال سنا يحكي، عن جور الزمان وعن الاسلاف وعن سواهم!
كانوا حول هذه النار، كثيرا ما يتداولون سيرة البعض من الأهالي، الذين بدأوا يتسللون من البلدة القديمة والمدينة الزاهية، يلحقون بمن سبقهم هربا من الجنجويد!
كانوا يغادرون طوعا، مفضلين الحياة في أرض جديدة، بدلا عن العيش هنا كرعايا، مغمورين ومذلولين ومفقرين!
وفيما يتداول الشيوخ حول نارهم في العشيات أحزانهم، كان الجنجويد، الذين لم يأتوا بنساء من قومهم، قد طاب لهم المقام..
وبمرور الوقت كانوا قد أنجبوا الكثير من الذكور والإناث، من الجواري الذين ملكوهم باليمين. وأصبح هؤلاء الذكور قوة ضاربة في طليعة جيش الجنجويد المتنامي، الذي أعيد تشكيله في أربعة فرق: الفرسان، الجنجويد، الهجانة، وحرس المقدس سره، الذين هم أولئك الذكور، أبناء النساء السبايا من آباء جنجويد!
وبينما كانت نواة الشعب الهجين، الذي أنشأه الجنجويد تتنامى، كان الجزء الأكبر من شعب البلاد الكبيرة الأصل، يتعمق فيه الخوف على الأرض والتاريخ والثقافة!
بعد عشرات السنوات من سلالة المقدس سره، سيأتي حاكم عام، يقرر أخيرا طرد ما تبقى من سكان أصليين، لم يطالهم التهجين، ليلحقوا بـ الذين فروا إلى الصعيد ودار الريح باكرا، مفضلين الحياة مع وحوش الغابات والوديان الضارية، على مساكنة الجنجويد الغزاة!
عندما يتأمل صانع الفخار الجد حياته وقتها، يتساءل عن قيمة سنوات عمره، التي دفنها عاما بعد عام، ماذا تعني لقاء لحظة واحدة مع الكنداكة، التي ماتت تحت تعذيب الجنجويد؟!
الكنداكة اللطيفة، الرقيقة، المنذورة منذ ولادتها للموت! حملت كل مقومات الفناء، لكنها بقيت كذكرى ليست عابرة، بل مقيمة، عكس حياتها التي عبرت كطيف، عندما أبلغه الخزين في آخر لقاء لهما، بموتها على يد المقدس سره، الذي شطرها بسيفه شطرين!
شعر لحظتها بحياته تنحدر وتتدهور. كان قد بدأ يفقد الرؤية الواضحة، وهكذا تخلى عن الكثير من الخطط واختفى!
وصيفا تلو آخر، وشتاء تلو آخر، كان احساسه بالضعف والقنوط يتضاعف، ولم يتمكن من استعادة توهجه الا بعد سنوات، عبر عذاب شهد فيه أقصى درجات الألم، ومحنة ظلت تتغذى من مصدر التفكك الغامض، الذي لم يستطع الوصول إلى حدوده..
ومن نهايات هذا التمزق، بدأت ذاته تلتئم مرة أخرى وتتجدد.
كانت غريزة الحياة في داخل الخزين تتجدد، و شيئا فشيئا يشفى من الجرح الغائر، الذي خلفه رحيل نينا، فيسبح في أحضان أم عيون، الجارية الحسناء التي أهديت له، وكانت تلك هي اللحظة، التي تعرف فيها على نفسه وقدراته، فأدرك أن كل ما مر به، بمثابة ثروة ومصدر إلهام، وزاد لمجابهة الجنجويد!
الآن يقف الخزين الحفيد موقف كان قد وقفه صانع الفخار نفسه، في عزلته ووحدته والصمت الكلي، الذي تشرنق داخله، ظلت تتناهى الى مسامعه لسنوات طوال، صرخات استغاثة كل الذين أجلاهم الحاكم العام من ديارهم، فيما كانوا ينظرون لحقهم في هذه الأرض وتاريخها، كنوع من الخطيئة القاتلة.
موقفه مما حدث ويحدث، كان هو الشيء الوحيد الذي سيكون الرهان، على كونه حقيقة وليس وهما!
من بين هذه الاستغاثات، تظل استغاثة نينا جرحا متقيحا..
نينا التي لن يتمكن من نسيانها ليتذكرها!
كان الخزين يدرك أن ليس بإمكانه، تفادي حرب الحاكم العام بالمغادرة معها. وفي الوقت ذاته لم يكن يريد لها البقاء هنا، حيث يكاد ينعدم الأمل.
كان بقاءها يعني أن تكون نقطة ضعفه، وربما ضحية لهذه الحرب اللعينة، وهو ما حدث بالفعل! لكن لم يكن يعلم بسرعة حدوثه، وعلى هذا النحو بالذات!
قتلتها حمى النهر، فرموها فيه..
أخبره أحد أتباعه بعد رحيل الفلك بأيام، في البدء بدى كمن أصابته صاعقة، ثم أخذ يبكي وهو يردد:
بل قتلها الجنجويد!
كان لا يريدها أن تتورط، دون أن يعي انها اصلا متورطة حتى النخاع، وأنه ليس الهدف الوحيد للحاكم العام!
فكل هؤلاء واولئك، الذين فاضت دموعهم طلبا لحقهم في الارض او التاريخ او الاختيار الحر، لما يريدون، أو طلبا لادنى احتياج: القوت. كل هؤلاء هم نينا..
يدرك الآن وبوضوح أكثر من أي وقت مضى، أن من دموعهم جميعا، يتشكل نبع أزلي، سيظل يحرك جذور النهر، ليفيض ويغسل هذه البلاد الوسخة!
الأمسية التي سبقت انقضاء آخر يوم، من المهلة التي منحها جند الحاكم العام للأهالي، للمغادرة. كانت أمسية غير معتادة!
فرغم أن الوقت كان بدايات الشتاء، الا أن الجو كان حارا حرارة غريبة.
بدأ كل شيء في البلدة جنائزيا، فاندفع الأهالي إلى النهر، كأنهم يهيئون أنفسهم للدفن في القبر! مدفوعين برغبة الاغتسال من الدنيا بحلوها ومرها! غاصوا حتى أعناقهم!
ما ظلوا واثقون منه، بعد انقضاء سنوات طويلة، أن تلك الأمسية، كانت هي بداية لنهاية أحلامهم الكبيرة، التي لطالما حلموا بها!
وما أشبه الليلة بالبارحة، فهذه الأمسية لاتختلف كثيرا، عن أمسية قديمة، ضاربة في غور التاريخ، عندما دهم الجنجويد الغزاة الأوائل، أسلاف جند الحاكم العام المدينة الزاهية، التي تتاخمها البلدة عند منحدر النهر.
في تلك الأمسية الخانقة، سقط آلاف القتلى تحت سنابك خيل الجنجويد، الذين لم تكف سيوفهم عن القطع والبتر، الا فجر اليوم التالي، الذي انجلى عن غموضه دفعة واحدة، كاشفا عن نهر من الدم والدموع!
وقف حارسا على باب (القيقر، الخندق) أشد الجنجويد بأسا وقسوة! لتفتيش الأهالي المذعورين، اثناء هروبهم من المدينة، فامروا بالبقاء في مكان يتوسط المسافة، بين باب القيقر و البلدة عند منحدر النهر! حيث عسكرت فرقة من الجنجويد.
وترك الأهالي المرهوبين يواجهون قدر بائس، يحاصرهم الجوع والبرد ليلا، وحر غريبة كتلك الحر، التي أصبح معها مناخ البلدة القديمة، جنائزيا بعد مئات السنوات التالية.
استولى الجنجويد الغزاة، على بيوت الأهالي واستهلوا محاكماتهم لهم بالقول:
حيث أنكم كفرتم برسول المقدس سره، حل لنا دمكم، ولا سلامة لكم في الدنيا والآخرة، إلا بتسليمنا أموالكم التي خبئتموها.
وسواء اذعن الاهالي او لم يذعنوا، لم يكونوا يسلمون من الضرب بالسياط، ألف سوط للرجل ونصفها للمرأة، مع توثيق اليدين والرجلين والإلقاء على الارض، وصب الماء البارد على أجسامهم في الليل!
مما رشح من مخطوطة معهد جار النبي جارو، أيضا.. بعض المعلومات، التي تشير الى أن الجنجويد، عندما داهموا ذلك البيت، الذي اشتبهوا في أنه البيت الذي يختبيء فيه صانع الفخار أو الخزين، الذي كان كل ما يعرف عنه وقتها، انه شابا أربعينيا فارعا، وفي واقع الأمر، أن الغالبية العظمى من أهالي البلدة القديمة، هم اربعينيون فارعون!
كان الجنجويد قد قتلوا كل أفراد أسرة ذلك البيت، الذي فتشوه فلم يجدوا فيه مالا، لكنهم عثروا أثناء بحثهم،على صبي صغير كانت أمه قد خبأته، فأخذوه وهددوا بقتله، ان لم تدلهم على المكان، الذي توجه اليه صانع الفخار والخزين، فقد كانوا واثقين، أن الإثنان كانا يختبئان هنا!
فتوسلت امه وشقيقاته، وهن يلقين بأنفسهن على الارض، تحت اقدام الجنجويد يستعطفون لكي يتركوه دون جدوى، إذ احتد احدهم:
كيف نتركه ونحن لم نجد لديكن لا ذهبا ولا فضة؟
ثم التفت إلى رفاقه صائحا يأمرهم:
اقطعوه ثمانية قطع وأعطوا كل واحدة قطعة منه، أن لم يعترفن بمكان الخزين وصانع الفخار.
القى أوامره ومضى غير آبه، ككل جنجويد التاريخ..
وبعد أن يئسوا من العثور على صانع الفخار والخزين، قاموا بأخذ تلكن الفتيات وامهن سبايا، وفي الحقيقة لم تكن المرأة أما لهؤلاء الفتيات، إذ كن ضيفات غامضات حلن عليها، قبيل مداهمة الجنجويد بقليل!
كانت الضيفات هن الكنداكة وأم عيون، وسبعة من راهبات الكنيسة القديمة، هربن أثناء مداهمة الجنجويد للكنيسة وإحراقها، بعد أن علمن قبل وقت ليس بقصير، أن الجنجويد بدأوا في إحراق كل معابد اديان البلدة القديمة، وشرعوا في البناء محلها معبدا لإله المقدس سره، الذي أحضروه معهم على صهوات خيولهم و نياقهم..
انه اله حرب! اله قتل!
بكى صانع الفخار، عندما أخبره الخزين، ولم يكن كلاهما يعلم منذ وقت كاف، أن الكنداكة كانت بين الفتيات اللائي سباهن الجنجويد، وبالنتيجة، عندما علم الخزين أن المقدس سره شطرها بسيفه شطرين، بعد أن رفضت أن تسلمه نفسها، اجتهد في إيجاد طريقة لايصال الخبر لصانع الفخار!
في الوقت نفسه كان الجنجويد، قد القوا القبض على رجل دلته عليهم عيونهم، بأنه الخزين، لم يمهلوه طويلا، قتلوه! وفي الحقيقة ذلك الرجل الأعرج مهلهل الثياب، الذي علت الثياب التي يرتديها و (الشقيانة) التي ينتعلها عشرات الثقوب والرتوق، مستحيل ان يعتقد احد، انه الخزين! ما لم يكن مختلا ك الجنجويد!!
كل نساء وفتيات البلاد الكبيرة، اللائي رفضن الدين الجديد، قتلن أو أخذن سبايا، لم تنجو سوى اللائي اعلن صراحة إيمانهن بدين المقدس سره! الأمر نفسه حدث مع الذكور، حتى الأطفال الصغار الذين أنشئ لهم ملجأ كبير، تمت رعايتهم فيه رعاية عسكرية خاصة، وفقا للخطط العسكرية الطموحة للمقدس سره، ببناء جيش قوي لا يهزمه شيء!
بنات الأعيان العذراوات، وزعن على قادة الجنجويد للوطء، فكانوا يتبادلونهن فيما بينهم، حتى لا يعرف نسب الجنين المحتمل لأي منهم!
أي نوع من الأديان هذا!
بكى الخزين، بكى صانع الفخار!
الفتيات اللائي انهكتهن المضاجعة، ولم يمرضن كبعضهن فتمردن، كن يضربن ضربا شديدا وتحلق شعورهن، بعضهن فضلن الموت على الاغتصاب المتكرر فانتحرن!
كان اصغر الجنجويد شأنا، تجد في ملكه أكثر من عشرين فتاة، يحل له وطئها والتصرف فيها كما يشاء، فكل جنجويدي كان يظن عن قناعة تامة، انه ينفذ إرادة دين المقدس سره!
وكان المقدس سره ذات نفسه، يفعل هذه الأشياء نفسها، ويدبج المنشورات لشرعنتها، بل مضت منشوراته تحرم وتحلل وتضع القوانين لكل شيء، بدءا بتحريم (التنباك) الذي أدمن الأهالي كيفه، انتهاء بتحليل الرق.
بل استهل عهده بمنشور، ألغى فيه أي زواج أو عتق، قبل احتلاله البلاد الكبيرة!
فكل شيء قبل الاحتلال باطل، بل أن أهالي البلدة القديمة، الذين تزوجوا بشرائعهم الموروثة، ما هم الا ابناء زنا، علي آبائهم أن كانوا أحياء، عقد قرانهم مرة أخرى بشريعة المقدس سره!
الاحتلال الجنجويدي لم يكن فاصلا بين عهدين فحسب، بل بين عالمين مختلفين تماما في كل شيء!
وهكذا مضى المقدس سره، يزوج الاسرى والاسيرات، الذين دخلوا في دينه زيجاتا جماعية، كما نتج عن وطء جيشه نساء البلدة، مواليد بعدد الرمل! وبمرور الوقت أصبحت دماء الجنجويد، جزء من نسيج الدماء المتنوعة لأهالي البلاد الكبيرة، وهكذا بدأت شعوب جديدة في التشكل، قاسمها المشترك الجنجويد!..
شعوب هي ثمرة الاحتلال، وتتكون تحت جنح ظلامه الدامس!
قبل ذلك بوقت طويل، كان الجنجويد قد تمكنوا من اعتقال رجل شكوا انه صانع الفخار أو الخزين، وأوثقوه بحبال القد وساقوه إلى أمير الجند، يحيط به نحو مائتي من الجنجويد الغزاة، شاهرين سيوفهم وهم يتصايحون!
يا عدو رب المقدس سره، يا كافر..
لما وقف صانع الفخار بين يدي أمير الجند، الذي كان وقتها قد فرغ من فرز السبايا، وانشغل بتحسس فتاة فاتنة عارية، تحاول ستر سوءتها براحة يدها الراجفة، والدموع تتساقط من عينيها، بينما هو يمعن النظر في مفاتنها، و يقلبها يمنة ويسرى، وهي تقول بصوت واهن كتمه النشيج و النهنهة:
رضينا بقضاءك ياربي.. رضينا بقضاءك يا ربي..
وكانت تتساءل في دخيلتها:
هل رب الجنجويد الغزاة هو الرب نفسه الذي لطالما دعته؟!
لماذا ربهم قاس كل هذه القسوة؟ لماذا هو جبارا هكذا على عباده المساكين المغلوبين، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا؟
كانت اسئلتها عفوية، وهي تستعيد كل تعاليم صانع الفخار، عن الحب والرحمة والتكافل والحرية والحق في الحياة والأمان والسلام!
كانت تقارن هذه التعاليم، بمنشورات المقدس سره، وهي تبيح للجند حرق القرى في دار الريح البعيدة، التي وطأتها سنابك خيله، فتواترت أخبار الفظائع بما يفوق ما حدث في البلدة القديمة والمدينة الزاهية، آلاف المرات. من قتل الرجال واغتصاب النساء، وتهجير الأهالي البسطاء، وإحلال فلول قبائل الجنجويد التائهة في الصحارى الواسعة محلهم، بعد أن هربت ناجية بحياتها، من ديارها ماوراء بحر مالح وتخوم الصحراء، بسبب صراع ملوكها على الحكم!
لم يعد لأهل البلاد الكبيرة وطن.
تنهد صانع الفخار، وهو يرسف في قيد حبال القد..
ما عاد لهم وطن!
بعد أن فرغ أمير الجند من شأن الفتاة، التفت يسأل الحراس وهو يشير إلى الرجل المقيد بحبال القد:
من هذا الكافر؟
الجنجويد الذين نظروا الى بعضهم البعض مرهوبين، تطوع أحدهم يرد في تلعثم:
نشتبه انه صانع الفخار أو الخزين.
قال في غضب والشر يقفز من عينيه:
أو؟؟!!
اطرقوا عيونهم إلى الأرض، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة. فيما كانت أصابع يده تحك لحيته في توتر. مرت لحظات قليلة كأنها الدهر كله، قبل أن يرفع سبابته تجاههم:
خذوه عذبوه ، ولا تدعوه حتى يعترف من هو، أو يدلكم على مكانهما!
ضربوه ضربا مبرحا، حتى فصدت السياط جسمه، وسال الدم يغطيه، ثم تركوه مسجيا على تراب محبسه، غائبا عن الوعي!
ولأيام طويلة ظلوا يخرجونه كل ليلة، يستجوبونه ويعذبونه، وهو يصرخ:
لست الخزين، لست صانع الفخار ولا أعرفهما أو أعرف مكانهما. ما أنا إلا عبد فقير على باب الله!
اي اله تعني؟
وهل هناك أكثر من اله؟ أعني الهنا كلنا، الذي لا اله غيره. اله المقدس سره!
فيبتسمون في غبطة، لكن لا يتوقفون عن تعذيب الرجل:
اعترف من انت يا عبد السوء.
فيغيب الرجل في إغماء عميق.. فلما استيأسوا أشار أحدهم بأخذه، إلى أمير حرس المقدس سره:
انه داهية من دواهي الزمان، ولابد أن يجد حيلة لمعرفة ما تريد معرفته من الرجل.
فكروا قليلا، ثم أذعنوا لمشورته..
وبعد أن أفاق الرجل جروه إلى فناء واسع مزدحم بجمع غفير، ما أن اقتربوا حتى سمع قعقعة السيوف، وهي تجرد من أغمدتها.
أدخلوه فرأى نحو أربعين جنجويديا، واقفين بمحاذاة الاتجاهات الأربعة للفناء الواسع، الذي كان زنخا مشبعا برائحة الرطوبة والعرق.
الجمته الدهشة، وهو يرى تابعه الخزين ذاته!
كانت يده على مقبض سيفه، و يقف على منبر خشبي متآكل، يبدو أنهم جلبوه من الكنيسة المنهوبة، قبل أن يحرقوها!!! فابتلع ريقه الجاف، وشعر بجرح في حلقه!
كان الجمع الغفير ملتف حول رئيس جند المدينة الزاهية، الذي كان مشنوقا ومثبتا إلى شجرة السنط اليتيمة في المكان، في وضع غريب إلى حد بدا معه أشبه بفزاعة، كتلك التي يضعها الأهالي، في حقولهم لإخافة العصافير، أكثر من كونه جثة جندي من جنود البلاد الكبيرة!
كان حافيا عاريا ليس عليه سوى بقايا (عراقي) ممزق أشلاء، عينيه بارزتان تكادان تقفزان من محجريهما، وانفه وفمه مشقوقين، وعلى جسده خثارات دم جاف وكدمات وشقوق وحروق، وكما لو أن كل ذلك لم يكن كافيا، إذ كان واضحا من خصيتيه المتدليتين بين ساقيه، أنهم خصوه أثناء التعذيب!!
وكان الذباب يغطي جسمه، في هيئته المشنوقة تلك!
كان كاحليه رغم كل شيء لا يزالان يرسفان في الأغلال، والجنجويد الجند لا يفتأون يخزون جثته بأسنة سيوفهم ورماحهم، حتى لم يعد في جسمه موضع يخلو من طعنة رمح أو ضربة سيف، والدم يسيل من جسده، وهم يتبادلون الضحك والسخرية! إنتفض جسد صانع الفخار بشدة، وهم يرمونه تحت قدمي الخزين!
مات أمير جند المدينة الزاهية كما يموت البعير!
تنهد صانع الفخار وهو يهمس لنفسه في أسى، و يتطلع الى وجه الخزين، الذي قال موجها حديثه للجنود الجنجويد الذين جاءوا به:
من يكون هذا الرجل؟
نشك في أمره، أن يكون هو الخزين أو صانع الفخار!
همهم الخزين وهو يتأمل ويفكر:
الخزين أو صانع الفخار.. خذوه إلى تلك الغرفة واعطوه شربة ماء وانصرفوا
تطلعوا في وجهه بدهشة لا يصدقون ما يسمعون، فكرر بحزم:
نفذوا ما أمرت به، لي اساليبي التي اجلي بها الأمور..
التفتوا بحركة لا ارادية الى جسد أمير جند المدينة الزاهية المسجى على تراب الفناء، كأنهم يقولون:
وهل تختلف اساليبك عن أساليبنا!
وكانه قرأ ما يدور في أذهانهم، فقال بصوت أشد صرامة مما سبق:
جربتم معه التعذيب أما أنا سأجرب كل شيء!
نفذوا أوامره وهم يهزون رؤوسهم وانصرفوا!
رمى صانع الفخار الحفيد بذاكرته بعيدا، يستعيد ذكرى صانع الفخار الأكبر، في موقف مماثل عندما جاءوا به ليصلبوه، فأوصى الخزين برمادة:
إذا رأيتهم قد احرقوني، فخذ من رمادي شيئا واحتفظ به بعد ثلاثة أيام يفيض نهر البلدة فتكاد تغرق، فيأتون اليك متضرعين بين يديك، فخذ الرماد الذي عندك وارمه في الماء وقل له:
ارجع من حيث جئت بحق رب صانع الفخار
ثم عانقه وبكى معه بكاء شديدا، الى أن أغمي عليهما وسقطا على الأرض، حتى ظن الناس أنهما ماتا، وعندما افاق قال:
احببت الموت، ولو اردت لصحت بهم صيحة لا تبقي لهم أثر!

15
في وقفته تلك، كان ردفها قد أصابه في مقتل، وهي تدنو ناحيته، يتفتت تحت قدميها طين القيف الهش، وجسمها تتناثر عليه حبيبات الماء كندى الفجر، وهي تنحدر من نهديها حبات حبات!
تهادت تجاهه ك طاووسة تغوي طاووس، فاحس لحظتها، بالبلدة كلها تغرق، في أضواء هادئة. تنبعث من القمر الزاوي، تحت سحابة متقطعة، لينعكس على ريشها الملون! فتأوه:
هذا ردف عجيب! لا ضمير له! يصرع العشاق ولا يكترث!
عندما صافحته نينا، ضغط الخزين على يدها بشدة، كان يعتصر كفها اعتصارا، يتغذى من تيار صاعق يبقيها الى الابد، في حضن كفه! يود لو يستبقيها.. رغب في عدم افلاتها.. ولم يكن يدري كم لبثا هكذا!
كل ما يدريه أنه منذ تلك اللحظة، لم يفارقها أبدا، كانا دائما في كل مكان معا، وكانت أنوثتها كل يوم في حالة اكتمال للتو واللحظة، بكرا، متوحشة..
وهما في كل مكان خلفهما قرص الشمس، أو ضوء القمر الشاحب، وهي عارية تستحم في النهر.. تدعك تكوراتها وفجواتها بعناية، ثم تطفو في ظلال من الضوء الخجول، وهو ينعكس على صفحة الماء!
مشهد واحد متجدد في كل يوم، في كل لحظة، بشكل دوري..
يبدأ وهي عارية، تخلع ثيابها قطعة قطعة، وينتهي وهي تدنو منه ببطء، وتراب القيف الهش يتهشم تحت قدميها الصغيرتين! مشهد واحد دوري لا يفتأ يطارده، فلا يصدق انها لم تعد هنا..
في هذا العالم المهدد بالزوال!

16
يستعيد صانع الفخار، كل لحظة أغفلتها الذاكرة مرارا وتكرارا. وهو في حالة من الصدمة، لا يصدق أن الكنداكة اجمل راهبات معابد الكون والبلدة القديمة، قد رحلت عن هذا العالم القاسي، وتركته وحده لمجابهة قدر رهيب!
لا يستوعب حتى الآن أن ذلك الفجر البعيد، كان فجر الوداع الأخير!
لازال مسكونا بذات إحساسه بها، منذ الوهلة الأولى، التي كمن فيها يتأمل جسدها، تحت الضوء الشاحب، وهي عارية تستحم..
لحظتها استقر في أعماقه شك عظيم، في قدرة جسده على الاقتراب من أنثى سواها.. الإحساس ذاته ظلت تؤكده له، وهو ينتظر سيرها نحوه..
كانت تمضي نحو قدرها بخطى حثيثة، وكان كأنه ليس هنا!
ترى هل سيشعر جسد الخزين بأم عيون، التي أهداها إياه أمير الجنجويد؟!
هتفت به:
زوجتك نفسي..
فدنا منها كعوليس وهو يدنو من كاليبسو الجميلة، في مساء قديم، موغل في القدم، كذاك المساء!
دنا الخزين من ام عيون خطوتين، فدنت منه أقرب من حبل الوريد. تماهيا في بعضيهما، كليهما لم يكونا هما، بل شيئا أشبه بروح صانع الفخار الأول، وهي تتأمل عالما لم يولد وخلق لم يخلق بعد، وتفكر في هذا الخلق، الذي ستغير رأيها فيه بعد خلقه، فتقرر استبداله بخلق جديد!
طوق الخزين نينا، فيما كان صانع الفخار في مساء بعيد يحيط خصر الكنداكة، بذراعيه المعروقين ويقبلها بنهم، يلتهم في شفاهها ثمرة الرغبة السرمدية، التي ولدت في الازل! وإحدى يديه تنزلق ببطء.. تتسلل تجوس في عشبها الندي!
ويجيبها:
زوجتك نفسي..
ويطفو جسداهما في هالة من التوتر والانفعال الحميم، وكل الأحاسيس الغامضة، التي تسربت من روح صانع الفخار، لتغطي فضاء البلدة الوادعة عند منحدر النهر، تغطي على صوت الجنجويد!
وفيما هو يشدها إليه يرجع الصدى مرددا:
زوجتك نفسي يييي..ييي..
فيرتج جسداهما كزلزلة اكتمال الخلق، ثم يرتخيان، ويهمدان، تفوح منهما رائحة الثمرة الأزلية، ومزيج القرنفل والقرفة والحبهان والعرق!
اغتسلا في ماء الجاسر المحموم، ثم تهالكا على قيف النهر، كطوابي البلدة القديمة الموعودة بالشجن والجنون!
هذه البلدة التي تواجه في تلك اللحظة، دونا عن كل لحظات التاريخ، نوعا غريبا من الخرائف الغزيرة!
حيث انتشر البعوض والناموس في ارجائها، وتوالدت الضفادع والذباب بسرعة رهيبة، ووحدت سيمفونيات نقيقها وطنينها بصورة مفزعة، تكاد تقود الأهالي إلى الجنون!
هذا النوع من البعوض الذي انتشر في البلدة، كان نوعا غريبا على الأهالي، لم يألفوا ما اتسم به من جرأة وخبث، إذ كانت كل أربعة بعوضات، يرفعن أطراف الناموسية، ليتمكن بقية السرب، من الدخول لنهش اجسام الأهالي النحيلة!
لم يعد أهل البلدة قادرين على النوم، كانوا عندما يلتقون يكشفون عن أجسادهم، الملأى بالانتفاخات الصغيرة الحمراء!
كان حال الأهالي ليلا خوض حرب ضروس مع البعوض، جربوا فيها كل الوسائل والسبل، بدء بتغطية كامل أجسادهم، بزيت الخروع سيء الرائحة، انتهاء بحرق الحطب المزيج من العشر واللعوت!
لم يتركوا شيئا لم يجربوه!
إذا كان ذاك هو حالهم في الليل، في حربهم الخاسرة مع البعوض، فإن حالهم نهارا لا يسر، إذ عكر الغبار الكثيف مزاجهم!..
نوع غريب من الغبار، ظل عالقا في فضاء البلدة، يتنفسونه ثقيلا مع الهواء!!
وكانت ذرات هذا الغبار الذي ظل عالقا في فضاء البلدة لوقت طويل، ترسم أشكالا غريبة، أشبه بكائنات غير معروفة، وحتى السحب كانت تشكل أشكالا غامضة! وكل شيء في البلدة القديمة كان غريبا، كأنه إيذانا بحدث خارق!
حتى عندما طلع فجر البلدة، واشرقت الشمس، فاجة بأشعة خيوطها الذهبيه الشحيحة، السحب السوداء. بدت لهم ليست شمسهم ذاتها!
كانت هزيلة صلعاء، حتى أن ضوءها فشل في ازاحة الظلام والعتمة، التي ظلت تبرز من ابواب البيوت المواربة، والأخرى المتاكية بعود أو (ضقل).
كما أن ديكة البلدة تغير حالها، إذ أخذت تغادر البيوت إلى الغابة المجاورة، ولا تعود الا بعد مغيب الشمس، وتظل على حبال الغسيل، التي علقت عليها نسوة البلدة (شرموط البقر)، تصيح حتى الصباح، دون أن يغمض لها جفن أو ينال منها تعب!
الحمام والعصافير التي بعثر صياح الديكة قش أعشاشها و وكناتها، غادرت البلدة القديمة تحمل فراخها بمناقيرها!
حتى الدجاج أصيب بالذعر، بينما انفتحت كل زرائب المواشي، وأخذ الثغاء يختلط بالنهيق بالخوار، بكل شيء! فيما بدا للجميع اختلاط تام للحابل بالنابل!
كانت تلك هي المرة الأولى، التي شوهد فيها طيفا شبيها بـ صانع الفخار يجري من بيت لآخر؛ وهو يصيح:
ورب صانع الفخار لا تهلعوا، أنها إرادته العلية، فربما من الخير لكم أن تغادروا، نحن مسيرين، وهو الذي ليس سواه، لا يقودنا إلا إلى الخير، ستمضون الى ارض أجمل وأخصب تضربون، فيها جذوركم وتبدأون من جديد!
الاهالي الذين أخذ الذهول بتلابيبهم، ظلوا يحدقون مسمرين في الهواء، الذي انقشع فيه الطيف، كأنه لم يكن!

17
على خلاف الرواية الرسمية عن الخزين طبلة أم جبو الجد الأول، التي فك طلاسم مخطوطها معهد جار النبي جارو، ثمة رواية شائعة لا تفتأ الجدات في الليالي المقمرة، يحكينها لاحفادها، على وقع رشفات الحليب الدافئ.
تقول الحكاية أن الخزين الجد، هو الناجي الثاني من ذلك الطوفان، الذي تواتر الى مسامع أسلافهم خلال مئات السنوات، ولم تفصح هذه الحكاية عن هوية الناجي الأول، التي ظلت مجهولة وغامضة! رغم أن هذه الرواية نفسها تلمح، إلى أنه ليس سوى صانع الفخار! لا أحد غيره!
هذه الحكاية تنفي عن الخزين الجد، كونه معلما لصانع الفخار، وتؤكد أن طائفة صانع الفخار، وجدت قبل ميلاد الخزين، وأنه عندما نما وبلغ الصبا، التحق بطائفة صانع الفخار، ونهل من معارفها وعلومها، و لازمها لسنوات طويلة، الى أن اختفى بطريقة غامضة، مدفوعا بتوتر وقلق عاصفين، لم يبح بسره لأحد!
لكن البعض رجح أنه نوع من الحزن الكلي، بسبب فقده المفاجيء لنينا، وهو الفقد نفسه الذي دفع بصانع الفخار للاختفاء، حزنا على الكنداكة اجمل راهبات البلدة القديمة!
وفي الحقيقة لم يستكن الخزين للحزن طويلا، إذ استغل جهل الجنجويد بهيئته فتمثل هيئتهم، ملتحقا بفرقة حرس المقدس سره، حيث تقلبت به الأيام، الى أن أصبح قائدا لاحدى الحاميات الخاصة بالمقدس سره! على حدود دار الريح!
والتي ترحيبا به كقائد جديد للحامية، أهداه أمير الجنجويد على دار الريح جارية تدعى أم عيون، تضاهي نينا حسنا وجمالا!
كان الجنجويد قد استرقوا والدا ام عيون اللذان كانا قد دفعا بها إلى الرهبنة مبكرا، ولكن أعتقهما المقدس سره، بعد ان اخبرته ام عيون بأمرهما، فلم شملها عليهما، وأصبح والدها من خاصة الأمير الجنجويدي على دار الريح!
ورغم أن الخزين كان يدرك، انما أهداه الأمير إياها، لتكون عينا عليه حتى وهو في مخدعه، إلا أنه لم يأبه لهذا الأمر!
وكان العبد السابق والد الجارية، قد استاء من فعلة مولاه الجنجويدي، فأخذ يقول في المجالس:
اذا طئت بنتا بملك اليمين افلا تكون تحت حر بدلا عن هذا العبد العنين؟
وتناهى إلى الخزين ما كان من خبر ابيها واهلها، فلم يوقع بهم أو ينكل، بل وأجزل لهم العطايا، ودس عليهم من ينقل اليه اخبارهم، فجاءته الردود، ان فعله أسعدهم بل أن أم البنت اشاعت:
الخزين فوق الأحرار درجة..
بل أن والدها لم يفتأ يكرر في المجالس:
فعل الفتى أصله!
الخزين كان يدرك منذ وقت مبكر، كيف ومتى يجب أن يستغل ذكاءه لكسب ود الناس، وتجنب عداءهم. ولم يكن ليعجز عن رعاية الخيط الفاصل الدقيق، بين الطاعة بسبب الخوف او الحب!
فكانت هيبته في نفوس الناس، نوعا من الهيبة الغامضة، بسبب الغموض الذي أحاط شخصيته!
وبقدر ما كان الخزين الحفيد نقيا تجاه ذاته، مثله مثل آل الخزين عبر التاريخ، كان يدرك أن الحقيقة ستظل على الدوام محظورة من قبل الجنجويد الآن، كما كانت محظورة عند أسلافهم، فالجنجويد ظاهرة أزلية في كل عصر، تتخذ شكلا مختلفا..
مباديء الخزين الحفيد المستمدة من أسلافه، هي مباديء صانعي الفخار، الذين تبعوهم عبر آلاف السنين، وهي معارف مستمدة من الينابيع السرية لكنوز الحقيقة..
تلك الينابيع التي لا تنضب، والتي سيظل الحكماء و المناضلين والثوار والمتمردين، يغترفون منها عبر التاريخ والأجيال، فصانع الفخار الذي ألهم بها، لم يكن نبيا كأولئك الأنبياء، الذين اجتمع فيهم مزيج غريب من المرارات، وقسوة الحياة عليهم، منذ طفولاتهم الباكرة، والرغبة في تخطي هذه المرارات، التي تتجدد كجرح متقيح، يضفي على قسوة حياتهم، التي عاشوها ألما وعذابا عظيمين!
فرغبوا في السلطة كتعويض عن كل هذه القسوة والمرارات، التي حاصرت حياتهم لسنوات طويلة، تدفعهم رغبة ممضة لهدم العالم، وإعادة بنائه من جديد، إذ ابدا لم يكونوا اصلاحيين!
كانوا ثوريين حازمين، لا يتورعون عن خوض الحروب لفرض إرادتهم!
لم يكن مثل هؤلاء الأنبياء، الذين في الحقيقة صنعتهم مجتمعاتهم، ولم تصنعهم تلك القوى الغامضة غير المرئية، التي زعموا أنها بعثتهم!
ولهذا السبب بالذات، لم يكن راغبا في هداية أتباعه، الذين لم يسعى لإقناعهم بشيء لكي يتبعوه، إذ فوجئ بهم يتبعونه دون استئذان، بل مضوا يقرأون حياته و يدونونها، ويضيفون إليها ويحذفون منها ما عن لهم، حتى تكونت لديهم تعاليم يكاد لا يتعرف عليها!
فيتساءل:
أحقا هذا أنا أم شبه لي؟ أم شبه لهم؟!
وعلى الرغم من سعيه الدؤوب، في النأي عن غوايتهم، إلا أنهم ظلوا يبحثون عنه، حتى عندما يكون بينهم! فيتساءل:
أين أنا؟
الخزين الحفيد مستلهما كل هذا الارث الروحي، المتوارث عبر أسلافه لآلاف السنين، مضى متأملا حال العباد والبلاد، تحت نير حكم الجنجويد.
فلم يؤاخذ المقدس سره الجنجويدي كفرد بما يعتقده عن نفسه أو أصله الشريف المزعوم، إذ كان يدرك جيدا أنه سواء ما كان يفعله المقدس سره أو جنجويده، ليس أمرا يتعلق بتشوهات لحقت بهم وحدهم، بل نتاج مئات السنوات من الأفكار والعقائد الفاسدة.
ولكن في الوقت نفسه كان يشعر بالرغبة في الانتقام من المقدس سره وجنجويده، عندما تناهى إلى مسامعه استغاثة الناس، منبعثة من كل مكان حوله، ومن داخله.
يسمعهم وهم يستيقظون، على وقع أوامر الجنجويد. تأمرهم بمغادرة البلدة القديمة والمدينة الزاهية..
الأهالي الذين كانوا ينفقون جل أوقاتهم، قبل انقضاء المهلة التي منحهم إياها الحاكم العام، في زيارة قبور موتاهم وقتلاهم وشهدائهم في كل الثورات، التي خاضوها معا.. كتفا بكتف مع احفاد الجنجويد الأوائل!
على تراب هذه البلدة، لطالما مشوا و(تقالدوا)، وعشقوا خطى حبيباتهم، وركضوا مبتعدين عن الكلاب الشرسة، التي تركض خلفهم..
أليست هذه ذكريات؟ وما الوطن سوى الذكريات؟ كيف يطلب منهم أن يتخلوا عن ذكرياتهم؟
الكلام الذي قاله ذلك الطيف البعيد في لحظة مشابهة لاسلافهم، عندما أمرهم الجنجويد بركوب الفلك والمغادرة، الكلام (الني) هاهو يسقط الان.. هاهنا؛ دون أن يتمكن من دخول عقولهم. سقط على تراب البلدة وهو يطرق مسامعهم؛ دون أن يتمكن من الولوج إلى أفكارهم وقلوبهم!
كانوا قد انتابتهم حالة من اليأس والإحساس العميق بالعجز، لذا أخذت اللامبالاة تتسرب إلى نفوسهم، فلم يأبهوا للمناخ الغريب، الذي أحاط البلدة كالسوار، غير مبالين بهذا الخريف الغزير، الذي بدا كأن مزاريب السماء انفتحت على مصاريعها، لتصب غضب ازلي!
اذن اصبحت مشاعرهم واجسادهم، غاية في الانهاك والإحساس بالتعب!
ومع ذلك لا شاغل لهم، سوى زيارة قبور الموتى، حيث يمكثون في المقابر، بقية نهار كل يوم، وعندما يأتي الليل يتقدمهم شيخ مسن من اتباع صانع الفخار بفانوسه، وهو يتوكأ على عصاة معقوفة، زعم أنها من شجرة اللعوت نفسها، التي صلب على عيدانها صانع الفخار الأكبر!
لم يكن في تجمعهم يسمع سوى صوت التنهدات البالية، وربما همس واهن متناهي الأصداء:
يا رحمن يا رحيم..
جميعهم لديهم قتلى أو موتى او شهداء.. جميعهم يعانون عذاب الفقد والذكرى، وجميعهم يلعنون جند الحاكم العام، الذي قسمهم إلى شعبين وبلدين، دون أن أن يأبه لدمهم المتوحد، وذكرياتهم الواحدة!
كانوا يتجولون بين القبور، يتقدمهم الشيخ المسن و جفونهم تفيض بالدموع، واصواتهم الناشجة تتحشرج، كأنها نزعا أخير!
بعضهم كان لا يزال يحدوه الأمل، في رب صانع الفخار، وبعضهم لم يتورع في التعبير عن فقدانه الثقة في هذا الرب، الذي شاءت مشيئته أن ينتزعوا من أرضهم.. أرض أجدادهم التي لا يعرفون لأنفسهم وطنا غيرها!
هكذا إذن على وقع اقتراب خطى الرحيل! كان الخزين يشعر بالبلدة كلها، بكل خفقاتها وسكناتها واهاتها داخله! كأنها تنبش بحثا عن شيء ما أضاعته في غفلة من الزمن! شيء ثمين لا يمكن أن يوصف أو يعوض!
كأن البلدة كلها داخله، يشعر بنبض قلوب الناس بالدماء، وهي تغلي في عروقهم كأنها خرير ماء، على جدول وعر!
يشعر بهم وببكاء اطفالهم الرضع الذين يبحثون لحظتها عن أثداء أمهاتهم اليابسة، كان يسمع حتى الهمس المجروح لعشبة معونة النيل الحزينة، قبل أن تلامس رائحتها خياشيمه.
إذن كان الخزين يرى ليس كما يرى الآخرون، ويسمع ليس كما يسمع الآخرون، ويعلم أشياء كثيرة، أكثر من غيره ويعلم أنه يعلم!
الخزين لم يكن ناسكا، لكنه يشبههم.. كان نحيلا، كثيف الشعر أجعده يبدو من مظهره في أسماله البالية، كأن روحه لن تنتظر لتغادر غروب شمس اليوم التالي!
وفي حقيقة الأمر كان هذا المظهر خادعا -وفقا لما قالته نينا- إذ كان الرجل قويا، استمد البأس من وحوش الغابات التي عاش بينها منذ طفولته، عندما اعتزل الناس وابتعد عنهم، عاش حياته يرعى مع الظباء ويلاعب الفهود وأفراس النهر والتماسيح.
وكانت هذه الحياة نفسها امتدادا لميلاد صانع الفخار الأول وبعثه فيه هو الخزين الحفيد.
مثلما صانع الفخار خلف وحيد مثل كل صانعي الفخار، فكل أسلافه و سلالته ينجبون ابن وحيد لاغير!
فسلالة صانع الفخار ظلت دائما تعتمد على آل الخزين الذي يتمثل دوره في إسناد جهود صانع الفخار! الباحثة عن نقاء مطلق حوله، فكان يتبعه ليرشده إلى مواطن الجرح، ومواضع التقيح في أزمنة البلاد الكبيرة، التي تعود دائما الى ما انتهت إليه من قبل، كحلقة شريرة لا تنتهي!
إذن كان الخزين هو الخادم المخلص و المؤتمن الوحيد على أسرار صانع الفخار..
وهكذا فيما كان الجنجويد يحرقون قصر الحاكم العام، إثر معركة قصيرة مباغتة كان صانع الفخار الحفيد يلوذ بمعتكفه بعد أن أعياه الحمل الذي ينوء به ظهره، وهو يراقب أنانية أهالي البلاد الكبيرة، وانحطاطهم، وهكذا مضى إلى معتكفه المجهول يتأمل ما آل إليه حال القوم ويدبر ويفكر!
في اللحظة نفسها كان الخزين الحفيد يختفي في مكان غير معلوم!! وهكذا غابا عن مشهد البلدة القديمة في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ البلاد الكبيرة، مخلفين وراءهما الاستغراب و الكثير من الأسئلة مثل: هل نال منهما اليأس والقنوط لدرجة إعفاء نفسيهما من مسؤوليتهما تجاه هؤلاء الناس الفقراء الحزانى الذين لم يحتل الجنجويد أرضهم فحسب بل كيانهم وذكرياتهم ايضا!
وفي الحقيقة منذ اللحظة التي احتل فيها الجنجويد البلدة القديمة والمدينة الزاهية، و نشطوا في البحث عن صانع الفخار والخزين، دون أن يعثرا لهما على أثر، كان كليهما صانع الفخار والخزين يعد العدة بطريقته!
فشل الجنجويد في العثور عليهما، ذلك أن قلة مخصوصة فحسب هي التي تعرفهما أو التقت بهما، فاهالي البلدة القديمة رغم علمهما بوجود صانع الفخار والخزين، الا انهم لا يستطيعون الزعم أنهم رأوهما حقا، فعادة تصلهم تعاليم صانع الفخار من اتباع الخزين والذين رأوا الخزين على الأقل لم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة وحتى هؤلاء لم يقتربوا منه كفاية..
احدهم فقط رآه مصادفة يشرب الماء بكفيه في احدى الليالي المقمرة، التي دأب على الخروج فيها الى صديقاته حوريات النهر ليتسامر معهن حول العوالم التي لا يدركها البشر!
فاقترب منه و تعارفا ومنذها حمل ذلك الرجل تعاليم صانع الفخار، الذي لم يره بعدها أبدا، وصار لذلك الرجل أتباع كثر من أهالي البلدة القديمة لا يكادون يعرفون بعضهم البعض إذ كان ذلك الرجل تابع الخزين يلتقي بانتظام كل منهم بمفرده، وكل منهم يلتقي آخرين بانتظام فردا فردا..
كان نظاما محكما ذاك الذي وضعه الخزين، حمى هؤلاء من أسر الجنجويد، فمن يؤسر مهما عذبوه لن يجدوا عنده ما يفيد عن الآخرين فهو حقا لا يعرف سوى اثنين فقط وباسماء ليست اسمائهما الحقيقية:
الذي يلتقيه ليأخذ منه والذي يلتقيه ليبلغه بما أخذه أو وصله من صانع الفخار!
الكنداكة اجمل راهبات معبد البلدة القديمة، كانت هي الوحيدة التي تعرف صانع الفخارأكثر من أي شخص آخر.
فمنذ تناهى إلى سمعها ما أشاعه ذلك الرجل عن علاقة الخزين بحوريات النهر، حتى انتابتها رغبة شديدة في رؤيته، لتصل عبره إلى صانع الفخار، فأخذت تتسلل في الليالي المقمرة خفية من قساوسة وراهبات الكنيسة القديمة، بعد أن يهجعوا إلى مراقدهم، وتقصد النهر تختبيء خلف قيف أو أكمة سعدة أو دغل متنائي صغير كثيف من نباتات الجروف الزاحفة!
وقمر أثر قمر ملت اصطياده فتخلت عن حذرها وباتت تستحم في النهر، عل احدى الحوريات تبين فتسألها عن الخزين..
الى أن كانت تلك الليلة وهي تستحم في النهر دون أن تخلع ثيابها، دون أن تدري أن صانع الفخار كان يراقبها طوال هذا الوقت دون أن يفضح مكانه منذ أقمار عديدة!
لم تكن تدري أنه رآها منذ أول مرة بدأت فيها تأتي للنهر في الليالي المقمرة، لكن أبدا لم يفصح لها عن نفسه من مكمنه الخفي، الى أن كان ذلك اليوم الذي مدت فيه الراهبة الجميلة الكنداكة يدها وشرعت تخلع ثيابها ينتابها شعور قوي بوجوده حولها في مكان ما!
شعرت بوجوده طاغيا، يبعث فيها كل الأحاسيس التي قمعتها تعاليم الرهبنة ونساك المعبد القديم، ومع أول قطعة من ثيابها رمتها على قيف النهر، صحت مشاعر منسية، مشاعر قوية عميقة مدفونة في جب التعاليم.
وقطعة تلو أخرى كان الماء يتقدم يغطي صدرها وكان صانع الفخار على بعد رمشة عين وانتباهتها! على صهوة جواد أبيض ذا عرف ذهبي وعينان خضراوان، والجواد يصهل صهيلا ناعما وهادئا وخافتا، أشبه بآلة موسيقية، عميقة الشجن، تتحسس ضوء القمر، وتهب تموجات عشبة معونة النيل رائحة شجية!
اخترق صانع الفخار ببصره ماء النهر، يحتضن جسمها العاري الذي كان يرتعش فيخفق الماء وينخفض كدقات قلب تحملها دواماته الصغيرة المتموجة التي تهتز لها عشبة معونة النهر الطافية في ترقب متحفز!
كان ظمأ جسدها العاري تحت الماء متوترا ومؤثرا، وكان كل عصب او شريان او وريد في جسم صانع الفخار منتفخا وموتورا.
كلاهما غاب لحظتها في تلك الينابيع السرية الغامضة التي لا حدود للهفتها وشوقها..
تلك الينابيع التي لا تنطفئ نيرانها الأزلية إلا وتشتعل لتحرق كل ما يجابهها في لحظة واحدة وخاطفة، وما أن تنطفيء حتى تتجدد كطائر البلدة القديمة الذي يحترق لينبعث من بين رماد احتراقه أشد عنفوانا وقوة!

18
مع قرب انقضاء المهلة التي منحها المقدس سره للاهالي بدأوا ينشطون في نقل حاجاتهم إلى الفلك الرابض على قيف النهر.
الذين اختاروا البر حملوا أمتعتهم على ظهور الدواب، وكانوا جميعا هؤلاء وأولئك قلوبهم تتلفت وهي تقول في أسى:
وداعا بلدتنا القديمة.. وداعا موطن الأسلاف والتاريخ والماضي المجيد
بعد عشرات السنوات ستبقى من ملحمة الرحيل ذكرى شاحبة لمئات الآلاف من البشر انتزعهم الحاكم العام من أرضهم، كما انتزعها سلفه الأكبر المقدس سره من قبل! قبل مئات السنوات، فبللت قبل مغادرتهم دموعهم الأرض.. اختلطت بطبقاتها العميقة وسطحها، واصبحت جزء من كل نبات ينبت أو مطرا يهطل أو بركانا ينفجر..
أصبحت دموعهم جزء من جذور النيل في مده وجزره، وسيدون الخزين في مخطوطاته المشفرة ما رأي في الجلاء الأول على عهد المقدس سره، كما سيقرأ جادين جانو الآن على عهد الحاكم العام عن دموع النساء اللائي يرضعن أطفالهن حليب الأرض الذي استمد ملوحته من الدموع، وهن يلقمن أطفالهن أثدائهن الشحيحة، مزيج الحليب والدمع في مقابر ود ام جبو التي تردد صدى نشيج الوداع الأخير فيتنهد:
ما أشبه الليلة بالبارحة!
ثم يبدأ هو الآخر يدون حكايا الذين ماتوا على ظهر دوابهم، و النساء والعذارى و الأطفال والصبية والمسنين الذين ماتوا جوعا وحزنا في الطريق إلى الصعيد فتم رميهم إلى أفراس النهر والتماسيح..
سيضع هامشا زائفا عن الخزين الذي اصبح امير حرس المقدس سره، وابقى صانع الفخار في منزله ومضى يستأذن المقدس سره في أمره!
البلدة القديمة عند منحدر النهر، لم تكن امتدادا للمدينة الزاهية فحسب، بل مستودعا محصنا لأسرار البلاد الكبيرة، فرغم كونها بلدة وظلت عبر العصور مجرد بلدة، إلا أنها كانت ثرية بتاريخها وأهلها الحميميين بمشاعرهم الدافئة وقصص حبهم وحكاياهم الاسطورية، عن أجدادهم الذين كأبطال الأساطير، الجميع لديهم جد نبيل و بطل أسطوري ينحدرون منه! الجميع دون استثناء، حتى تخال أن البلاد الكبيرة هي بلاد ابطال الاساطير!
ومع ذلك عندما تناهى إلى مسامع أهالي البلدة القديمة، نية الجنجويد في الاستيلاء على أموالهم.. أموال البلاد الكبيرة، هربوا أموالهم الى الجوار البعيد أسفل النهر، وما وراء صحراء دار الريح خلف تخوم ذلك البحر الذي يقترن بالمحيط الواسع الذي يحتل جزءا كبيرا من يابسة هذا الكوكب البائس!
بينما غيب البعض أموالهم تحت أرض الصعيد حيث الغابات والوحوش وحيث تنشط طائفة صانع الفخار المتمردة، التي كانت قد نظمت صفوفها وتوشك على الدخول في حرب مفتوحة مع الجنجويد!
وهكذا الذين قتلوا على يد الجنجويد، قتلت معهم اسرار أموالهم المفقودة! التي حاول الجنجويد عبثا التوصل إلى مكانها!
وعلى أية حال كان أمراء الجنجويد لا يقدمون للخزينة العامة كل ما نهبوه أو عثروا عليه، إذ يكتفون بتسليم قدر ضئيل ويحتفظون بالباقي!
نعم سيضع جادين جانو هامشا زائفا حتى عن اللائي متن بين ذراعى عشاقهن في بلاد كبيرة أخرى على الضفة الأخرى من مخطوطه هو جادين جانو، الذي سيشفره ويخبئه في مكان لن يعلمه أحد!

19
قدم صانع الفخار وهو صامت، ولسانه يتمتم بكلمات مبهمة، أمره الجلاد:
مد يدك اليمنى..
فمدها، فقطعها والقاها أمامه، فلما وقعت على الارض، اخذ ابهامه يكتب مكررا كلمة واحدة، في مزيج الدم والتراب: الحق!
وأمره مرة اخرى:
مد يدك اليسرى..
فمدها، فقطعها ولما وقعت على الأرض، كتبت وسطاه:
الحق!
ثم أمره:
مد رجلك اليسرى..
فمدها فقطعها، ثم قال اليمنى فقطعها، و سمع الناس صوت الخزين يهتف:
المحبة أولها حرق، وأوسطها غرق واخرها قتل!
ثم حز الجلاد راس صانع الفخار الأكبر، واحرق جسده وأعضائه المقطوعة، في كومة واحدة، والقي برماده في نهر البلدة القديمة.
وتجمع أولياء البلاد الكبيرة،عند جبل بعيد، سيعرف بعد عشرات السنوات، بجبل الأولياء، وبكوا بكاء شديدا، وقرروا خراب البلاد الكبيرة، لكن طيف صانع الفخار، فج العتمة ولاح لهم وهو يقول:
لقد سامحت..
ثم غادر..
كلمات مثل (مغادرة)، (رحيل)، (انفصال)، كانت تكتسب عند الخزين و (نينا) أو أي عاشقين آخرين، قسوة لا حد لها، وتأخذ معنى مختلفا، كالغدر والخيانة والقتل..
كل شيء يتمزق الآن، حتى الذكريات تبدو غامضة، و أمل اللقاء مرة أخرى أو العودة، يبدو كحلم بعيد، هائم في حرارة مشاعر مضطربة.
داخل كليهما، كانت تصطخب ذات الاسئلة، اذا قدر لهما أن يلتقيا مرة أخرى، هل كانا يجدان البلدة القديمة ذاتها، تلك البلدة التي غادرها كليهما، إلى اتجاه مختلف؟
هل هي نفسها تلك البلدة الوادعة، عند منحدر النهر، حيث يتفرع منه الجاسر؟ هل هي هي بابراج حمامها، ورائحة طين جروفها واعصارها الصيفي، الذي يحمل في نواته غضب غبار البلاد الكبيرة كلها! ليلقيه على عتبات البيوت الطين والقش، فيكظمه الأهالي!
أن كل شيء مثلهما يغادر الى الأبد!
المغادرين..
المغادرين الذين بقيوا على قيد الحياة، بعد أن وصلوا راجلين أو على ظهور دوابهم، أو أولئك الذين رست بهم الفلك، في قلب الصعيد، كانوا يعلمون أن داخل هذه الغابات، يعيش احفاد أسلافهم الذين ظلوا عبر التاريخ يتسللون الى هنا قبل كل جلاء.
احتضنت هذه الغابات عبر مراحل التاريخ المهمشين و كل الهاربين من الظلم والقهر والاستعباد، كما احتضنت المنفيين والذين لم يحد عشقهم للحرية حد.
كان غبن كل هؤلاء وأولئك يتراكم عبر العصور، وارواحهم تصبح ككرات لهب مدمرة لو أطلقت من عقالها على البلاد الكبيرة لأحرقتها شبرا شبرا..
في هذه اللحظة بالذات، التي رمى فيها الفلك مراسيه، جسد لهم صانع الفخار نفسه..
خرج من قلب النهر حوله التماسيح، وأفراس النهر وسمك البلطي العملاق والحوريات صويحباته الوفيات، جميعهم خروا ساجدين على الماء وعندما رفعوا كانت السماء قد صفت، وتلاشى الغبار العالق في الفضاء، واختفى البعوض والناموس والذباب الأخضر، وبدى لأول مرة ضوء الشمس هادئا ورديا ولطيفا!
قبل عشرات السنين وعلى الجانب الآخر من الجدار العازل عند منحدر النهر، فاض نهر البلدة القديمة وطوقها وكاد يغرقها فجاء الناس إلى الخزين فمضى معهم وخاطب النهر:
ارجع بحق الحق. إنها وصية صانع الفخار!
فرجع!

أحمد ضحية
مانشستر، ايوا سيتي، فيلادلفيا
٢٠١٤-٢٠١٦


Abo abdalla غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-11-16, 01:49 PM   #3

أمانى*

مشرفة منتدى الفنون الجميلة وعضوة تسالي متألقة وأميرة الخيال ووردة البحوث وعضو مميز في القسم الطبي والنفسي

alkap ~
? العضوٌ??? » 95446
?  التسِجيلٌ » Jul 2009
? مشَارَ?اتْي » 3,734
? الًجنِس »
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond reputeأمانى* has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

شكرا لك على الموضوع المميز

أمانى* غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:00 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.