آخر 10 مشاركات
على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          حالات .... رواية بقلم الكاتبة ضي الشمس (فعاليات رمضان 1434)"مكتملة" (الكاتـب : قصص من وحي الاعضاء - )           »          مواسم العشق والشوق (الكاتـب : samar hemdan - )           »          دجى الهوى (61) -ج1 من سلسلة دجى الهوى- للرائعة: Marah samį [مميزة] *كاملة* (الكاتـب : Märäĥ sämį - )           »          قلبُكَ وطني (1) سلسلة قلوب مغتربة * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Shammosah - )           »          مع كل فجر جديد"(58) للكاتبة الآخاذة :blue me كـــــاملة*مميزة (الكاتـب : حنان - )           »          255- ثقي بي يا حبيبتي- آن هولمان -عبير الجديدة (الكاتـب : Just Faith - )           »          493 - وعد - جيسيكا هارت ... (عدد جديد) (الكاتـب : Dalyia - )           »          506 - والتقينا من جديد - كارول مورتيمر - ق.ع.د.ن (الكاتـب : * فوفو * - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-03-17, 11:29 AM   #1

صديقه القلم الكاتب

? العضوٌ??? » 348649
?  التسِجيلٌ » Jul 2015
? مشَارَ?اتْي » 254
?  نُقآطِيْ » صديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond repute
افتراضي رواية رحلة أوناس بقلم .. نجلاء مجدي


الفصل الأول
غادر الرضا النفس الطيبة ، وماتت الحياة الباسمة المكرسة لخدمه الآلهة ، فما عاد سبب يستحق الحياة ، فالضمير يتألم وتسمع الأعماق صرخاته وعويله ....هو يجتدي النجاة فقد ضل اللقم وضاع منه قنديله بين ضباب الطريق .......
هو لا يتكلم مثلما يتألم ، فهو يستقبل العتاب عن اقتناع ويستعد للعقاب بعدماضاع منه الحب الذي تسكبه الطبيعة في كأس الحياة تلطيفا ً لمذاقها المرير .
أين الذي كان يناضل في سبيل الحق ؟!......... أين الذي يحمل ميثاق الفضيلة ؟..... أين ذهب من كان يتجول في رحاب الضمير لينال رضا الآلهة ؟ ..
ها هو هنالك الذي لا يبرش ولا يبرى ذو النفس المنكسرة والقلب المحطم والوجه الشاحب بين زوايا المعبد المقدس يجثو على ركبتيه فى خشوع
قائلا ً : سيدي الكاهن تاوسرت أتقبلني خادما ً للآلهة في معبدك المقدس ؟؟؟ ..
فنظر إليه الكاهن بدقة : أنت تسكن الأرض ولا تستحق ما تهبه لك من عطاء وسخاء
رد الفتى بخشوع : أعلم سيدي الكاهن أن الآلهة ليست راضية عنى ولكنى إنسان ضعيف استجديها وأرجو ثناؤها علىّ
- كيف وصلت بك الشجاعة لتدخل المعبد المقدس وتقف أمام الآلهة بعد ما أهملت بحقها وذهبت وراء نزواتك وهوايتك
- لقد ازدادت خطايا نفسي وقصرت بحق الآلهة و أتوسل إليك لتمنحني الرضا ، فلأبواب حولي مغلقة وليس لدي مفتاحا ً لغير معبدك المقدس ، فاقبلني خادما ً سيدي أقدم القرابين للآلهة وأضئ الشموع والبخور وأسقي الزهور ، أجعلني عبدا ً وخادما ً للمعبد أخدمه ليلا ً ونهارا ً لأخفف عن خطاياي وترضي عني الآلهة
وانحدرت الدموع من عينيه حزنا ً على حياته القانطة فدنا إليه الكاهن " تاوسرت " بثناء
_ الآلهة تعشق الدموع فهى وسيلة للرجاء والقربان منها ، وتشعر بمدي رغبتك للتنصل من ذنوبك
- الآلهة ليست راضية عني .. ماتت " مكتريا " وأصبحت حياتي بلا طعم ولا معني ، فاجعلني سيدي أغرق في خدمة المعبد ربما أنسي همومي وأخفف سيئاتي حتى ترضي الآلهة وترفع الغضب عني
رد بحدة : الآلهة لا تقبل بخدمتها العبد الذليل الضعيف فالآلهة لا يخدمها إلا أقوياء أشداء مرفوعي الهامة
رد بصوت منشرخ : زعمت أن الآلهة سترق قلبها وتعطف عليّ بسماحتها وتستأصلني
من كهف العذاب المظلم .وتحتويني برحابها .
- لن تنتقم الآلهة من إنسان صالح ، وكانت مكتريا ذات نفس طيية وقلب صالح والآلهة تعزها وأغلى عندها من قيمه الذهب والفضة لذلك خطفتها من مرير الحياة وأسكنتها بجنتها الأبدية لتنعم بحياة كريمة لم تنالها على الأرض .
فأحني رأسه قليلا ً وإبتدت تتدفق دموعه على الأرض لتنشله الآله من أحزانه التي تصرخ بأعماقه
- مكتريا ..... حبيبتي .... الغادة الحسناء ... ذات الخلق المجدولة والنفس البريئة عندها حق الآلهة أن تخطفها مني فلا يستحقها إلا ملاك مثلها .
وانفجر بالنحيب حتى كادت تتلاشى عيونه من ملوحة الدموع
وصاح الكاهن
- نعم أخذتها الآلهة فليس لها مكانا ً بين البشر ، فهي من الجميلات اللاتي وهبتهن السماء للأرض ، ثم قررت استرداد هبتها مرة أخري فما عليك سوي الاستسلام لقرار السماء والرضا بقدرك الذي وضعت فيه
- سبعة أيام ، لم أري فيها الحبيبة ، السقام ألم بى ، قلبي ثقيل ، لقد نسيت ذاتي سيدي الكاهن ، فساعدني ماذا أصنع ؟ ....
_ الحب منبع الحياة ، والمنهل العذب الذي نحتسي منه السعادة ويخرجنا من مرير الحياة وان جف مع الزمن أو راح مننا نتألم ونشعر بالانكسار و لن تتوقف الحياة فينبغي أن نجتهد للنهوض على أقدامنا مره أخرى
- كيف أستطيع نسيانها كانت الماضي والحاضر بل والمستقبل أيضا ً ... القنديل الذي يهديني للسبيل .... أجمل من خميلتي الملونة بالأزهار والفراشات .
- ليس هناك ما تغير به الماضي ، فأصنع شيئا ً يغير المستقبل فرتب دفاترك من جديد ، ابحث عن الرضا والسعادة في سبيل آخر فربما قد تجدها بداخلك ولا تدرك و مع الوقت ستعثر على مفتاح الطريق الذي ستعبره ، فابدأ باكتشاف ذاتك كي تصل للحلول وتعود لنفسك السعادة مرة أخرى
فأصابه القنوط وشرد قليلا
- لقد وقعت في براثين الحزن ولا أيد تسعي لنجاتي ، ولا عين تبكى على حالي، أنا لا أمتلك جناحين لأهرب من الأرض للسماء ، ولا أمتلك طوقا ُ للنجاة من طوفان الحياة وعاد للبكاء بشده مره أخرى
وتاه صوته فى صدره المختنق
- مكتريا .... ماتت مكتريا ... ضاعت منى نور عيني ونبض قلبي وقمر ليلى .. الآلهة لن ترضي عنى حتى لو أقمت الصلاة و قرأت التراتيل ليلا ُ ونهارا ً .
- رفقا ً بحالك أيها الفتي التائب ، فلا تعذب نفسك فالآلهة تعرف العقاب ولا تعرف الكراهية وتفتح أبوابها للرحمة والعفو والمغفرة
_ أنا إنسان ضعيفا ً سيدي الكاهن عاجزا ً عن ممارسة حياتي كباقي البشر لا ترى عيناي أمامها الضباب لذلك تضل نفسي الطريق .
_ ليست القوة ألا نسقط ولكن في النهوض كلما سقطنا ... هذه هى مدرسة الحياة تبقى تعلمنا حتى نغادرها
-.سيدي الكاهن ..... لم يكن حبي لمكتريا يوما طبيعيا ً ، أريد الوصل إلي روحها الطاهرة رجائي إليك بحق الآلهة العزيزة أرسلني لعالمها أتطلع إليها مره واحدة ، أتشبع من النظر إليها ويرتوي قلبي من حبها بعد جفاء الليالي ........... ساعدني سيدي أن أرى النور.
ومال على قدميه ليقبلها فأقصاه الكاهن عنه وتوجه خاشعاً راكعا ً للآلهة يستجديها لتلبية طلبه وصاح
- أيتها الآلهة المقدسة ، يا من تعفو عن عبيدك المذنبين لجراء الحياة الأبدية، فأنت صاحبة المكان والزمان يا من تتحكمي بعمر الإنسان ، أتى إليك عبدك ذليلا ً يطلب السماح بعدما ندم على خطاياه كل مساء وصباح ....... لقد عاد إليك تزرف عيناه دماء الندم ، هو داخل المندمة تسعى نفسه إلى الرضا وراحة الضمير فارحمي نفسه الواهية وكوني شفيعه له ورحيمة به , حتى تجفل عيناه علي راحة البال .
ونهض رافعا ً رأسه المنحنية ولازمه الصمت دقائق قليلة أمام الآلهة ، وإلتزم النظر إليه كأنه يحاكيها بعينه أو يتلقي منها أوامر ، ثم هز رأسه ولوح للفتى بيدية يطلب التريث قليلا ً ومكث يخلط بعض التركيبات السائلة حتى صار سائلا ً يصعب تحديد معالمه وأحضر المشروب إلى الفتي الحزين وأمره بتناوله علي الفور
فنهله كالنبيذ وسافر إلى متاهات الأقاصي

الفصل الثانى

لا ينفض من مدينة الغردقة الجو المفعم بالمرح والسعادة الغامرة في قلوب الوافدين إليها صيفاً والشمسالتي تعكس بأشعتها الذهبية على مياه البحر الأحمر ليبدو مرآة للسماء الزرقاء المزينة بناطحات السحاب البيضاء ، ويكتمل جمال المنظر بالأمواج التي تنبثق بحيوية لتغطى أسطح الرمال الصفراء ، وإذا بالشاطئ يكسو ضفافه بالمظلات التي تستلقي تحتها الأبدان شبه العارية من مختلف أجناس وأعمار البشر من عرب وأجانب حيث يرمى الهواء نسماته عليهم ليسكرهم بعطورها الطائرة .
بيد ذلك السعادة العارمة تبدو على وجوه الأطفال وهم يرمحون ويتسابقون ويشيدون أهراماً من الرمال الساخنة التي تمضى عليها أجساد المغتربين من طوائف شعوب مختلفة ، وفى مكان هادئ يخلو قليلا من الناس يجلس تحت مظلته التي في صوره قبة هائلة متكئاً على أريكة تدنى للشاطئ يرمق بنظرات صارمة على السائحين ليراقب أطوارهم ومدى سعادتهم وبهجتهم تارة ، ويتطلع لاندفاع الموجة وهى تختطف حبات الرمال في أحضانها القاسية تارة أخرى ، كما تتفحص عيناه أيضاً للأطفال الصغار الذين يتشابكون بالأيدي ويشكلون دائرةً يتسابقون على مَن يقطن بداخلها ويعلو صوتهم بالضحك البرئ والغناء الجميل ، فقد شدت انتباهه براءتهم وطهارة قلوبهم ونقاء نفوسهم ، ودعا في دخيلة نفسه أن يرزقه الله بولدٍ مثلهم يخطفه من حياته الجادة التي يكرسها بأكملها لعمله الشغوف به .
وفجأة يرن هاتفه النقال الذي قد حمل رسالة له تنطق سطورها " حبيبي أنطونيو لقد اشتقت لرؤيتك ألم تشتاق لي؟ .... " .
لم يسخر من الرسالة بقدر سروره بها وتمني لو يعجل بالرحيل ويغادر الغردقة ويودع طقسها المعتدل ونسماتها المتناثرة وسحيبات سمائها الفضية ويقود بكيلوباترا للأقصر وأسوان ليلتقيا حبهما بين المعابد تحت أشعة الشمس الحرقة ، فلا تعجب لقراره النادر الغريب فهو يرى طقس الجنوب منضبطاً صيفاً وشتاءً فهو بين أحضان الحضارة الفرعونية يستنشق هواءً رياناً بطراوة النيل الذي تتناثر نسماته على كل مدائن الجنوب .
وسرعان ما هرول الحلم وإرتد اليه وعيه واستسلم لحقيقة حاله فهو لا يستطيع مغادرة المكان قبل أسبوعين على الأقل حتى تنقضي رحلته بسلام فهذا طبيعة عمله كمرشد سياحي
استرجع ذهنه الحياة الجادة التي يعتاد عليها منذ سنوات فقد حققت رقماً قياسياً في تغير مسارها وبات التباين ظاهراً للجميع فلا يوجد هنالك المستحيل ، فإن بقى كل شي على حاله لتمسكت الأرض منذ ميلاد آدم وحواء على طبيعتها وحالها ولم تستسلم للظروف المناخية البيولوجية ، فالزمن له xxxxب ويمضى تلقائياً أما المكان فدائماً يسعى للتغيير ولم يتشبث بشكل أو بمبدأ فهو ُيجدد ثيابه من زمن لآخر ويغير جميع الأنام فيه حتى البشر يتخلص منهم سواء كانوا صالحين وطالحين ، فنحن لسنا أصحاب مكان بل نحن جزءً بسيطا من ممتلكات المكان ويغدر بنا ويهلكنا وقتما يشاء ، وإن كان المكان يجدد نفسه من زمن لآخر فلا يدهشك إذا تغيرت أطوار الإنسان إلي حال أفضل أو أسوأ ، ولكن صاحبنا لم يكن علي حال أسوأ فكانان يحتاج وقتاً ليعتاد على تنظيم وترتيب أمور حياته الخاصة والعامة وربما هو حالياً أفضل قليلاً فالطبع يتغلب عليه أحياناً ولاسيما أنه راضياً عن نفسه ويشعر أن سلوكه وطباعه وعلاقته بالآخرين تطورت إلي حد كبير عما بالماضي القريب ، أصبحتحياته تدفعه لحب كل شئ يستحق
يرافقه في رحلته صديق له يدعى ماركل ..... رجل أعمال ثري يعشق السياحة ويداوم على الرحلات في معظم بلدان العالم ....محباً لاكتشاف الطبيعة التي حوله، ولو هناك رحلات للقمر والكواكب لكان أول المتقدمين ... هو رجل يعشق الحياة تقطن حياته المرح ولا يسنح الفرصة للترح يقرع بابه ، و من هواه السباحة يداوم التردد على الغردقة في رحلات الصيف
كان قريبا إلىمرشدنا السياحي إلي حد كبير يكي له كثيراً عن مغامراته النسائية في جميع أنحاء العالم ويسخر من صاحبنا الذي لم يقبل على مغامرة نسائية واحدة في حياته .
انتهى ماركل من جولة سباحته الأولي وأقبل علي صاحبنا قائلاً في انتعاش
وبهجة : ها أنا انتهيت من جولة سباحتي الأولى أترغب بصحبتي فى الجولة القادمة ؟......
فهز المرشد رأسه نافياً عرضه
_ يبدو أنك كنت تفكر بشئ
_لا شئ ..... فكنت أتأمل جمال المنظر
فجلس بجانبهوقال مبتسماً : اعرف انك لا ترغب السباحة فأنت تود أن تسبح بالتاريخ وليس بالماء
_ التاريخ علم للدراسة وليس للممارسة
_ انهماكك الشديد فى التاريخ يجعلك كأنك تسبح في فأنت تغوص في بحر المعلومات
_ أنت لديك تصورات رهيبة
فقطع ماركل حديث مجالسه بنظراته الصائبة على حسناء عربية مرت أمام المجس فشعر برغبة شديدة نحوها ، حتى بدا على مرشدنا التبرم فيزعجه كثيراً مثل هذه التصرفات فهو يمقت الأعين التي تنهش أجساد النساء فماركل من كثرة رحلاته حول بلدان العالم يقول بين الحين والحين " أود أن أتزوج من كل دولة امرأة حسناء حتى تكتمل مهمتي وأكون قمت أيضاً برحلات في الزواج .
وأحس ماركل بالامتعاض العارم علي وجه صديقه المرشد فانتحى إليه قائلاً
_ لا تغضب مني يا عزيزي فأنا أعشق النساء الحسناوات ، فربما قد يأتي يوم وأخطف قلب حسناء مصرية .
_أنت راغب فيهن لست عاشق لهن ، لا ترى روح المرأة فالجسد هو الركن الأساسي لجمال المرأة في نظرك
فاندهش ماركل وابتدى يرواغة ليتم استفزازه
_ وما العيب في رغبتي الشديدة لسيده شرقية حسناء
_ رغبة حمقاء رخيصة بمجرد الوصول إلي غايتها تكون انتهت صلاحيتها وتصبح كالطعام الذي ينقصه الرائحة الشهية والمذاق الطيب .
_ لماذا تزعم ذلك ؟........
_ أنت لا تعرف الحب ولا المشاعر الصادقة لا ترى في المرأة غير جسدها
فضحك ماركل ثم قال : دائماً تسئ الظن بى يا صاحبي
واستمرت مناوشته ليقول
_ إذا رغبتك احدي النساء الحسناوات الغربيات وعرضت عليك الزواج ولديها المال والجمال أتقبله منها ؟ .........
_ وهل من نخوة وأدب رجل شرقي أن يقبل الزواج من امرأة تشترى جسده بالمال والجمال فمبادئي وقيمي يرفضان ذلك فأنا رجل ذو كبرياء لا أقبل الاستغلال .
_دعنا من التقاليد والديانة والكبرياء وأجبني أنت كرجل لو سنحت لك الفرصة ستكون مستمتع بهذا ؟ .......
_ لا ...... بل سأستمتع بصفعة على وجهي من زوجتي المصونة ان رغبت هذا
فبصق ماركل ضحكة خشنة واستمر يرواغه
_ لو فكرت جيداً يا صديقي لعلمت أن زوجتك تغار عليك من عملك الذي يشغلك عنها ويأخذ الكثير والكثير من وقتك وفكرك ليس من مرافقة السائحات الحسناوات على وجه الخصوص ....زوجتك تطمئن من ناحية الجانب النسائي فلا دعي للخوف والقلق
_ هذه حياتي الماضية وانفضت دون رجعه .... أنا اليوم أصبحت إنساناً آخر ، وأعرف حقوقي ووجباتي نحو حياتي الخاصة والعامة
_ربما كلامك حقاً .... فزيارتي للقاهرة هذه المرة لم أر من خلالها الشخص الذي اعتدت علي رويته في كل مرة
واستطرد المرشد وهو يتطلع للطبيعة التي حوله
_ أتمنى ألا يمضى ذلك اليوم فالجو جميلاً والحرارة معتدلة
_ يا راجل الجو لم يكن جميلاً إلا إنكانت برفقتك فتاة حسناء
_ دعني واذهب لحسناواتك فأنا راضياً بحالي على هذا الوضع
_ ربما تكون دنجوان في الخفاء ولا تبدي لأحد تصرفاتك فكثيراً من الرجال لا يعرفون الناس عن علاقتهم العاطفية شيئاً
_ كدت أجن منك لقد سئمت من حديثك عن النساء ، يبدو أنك نسيت جولة سباحتك الثانية ، فاذهب حتى لا تضيع وقتك معي
فابتسم ابتسامة عريضة وأعلن أنه سيقرأ تتح عقد كتاباً
تناول كتاباً وابتدي في القراءة حينفشلت مفاتيحه في فتح السراديب المغلقة لأعماق صاحبنا المرشد السياحي الذي ظل صامتاً ثابتاً على مقعده وتوقفت نظراته عن متابعة السائحين وبدأ يحن عقله إلي ذكريات انفضت عليها تقريباً سنه .......
كان مرشدنا السياحي وليكن اسمه " أسامة " يكرس وقته لدراسة التاريخ والآثار فهو يشغف بالدراسة دائماً في علم الآثار ويتسم بأوج الكفاءة في علمه ليحقق مآربه ويكون مرشداً مشهوراً يسجل اسمه التاريخ في سجل عظماء الوطن ، فمنذ تخرجه في كلية الآثار فهو فصاعداً في نجاحه لم يسأم من مثابرته على الإطلاع والمعرفة فى تخصصه بصورة شاملة ، أيضاً لم ينشز الجموح رأأيه هو القاطع لا يقسر علي غيره فشغفه بالآثار والحضارة الإنسانية حكمت علي شريط ذكرياته أن يكون خالياً من مثل نزوات الفتية مع الفتيات فخطيبته في خلده يزعم أنه يحبها و لا ريب في أن فتاته الوحيدة التي تقطن جسده وأعماقه هي : الحضارة " هو يأبى النشوز عن هذا النص دون ادراك ذلك ربما ماركل كلامه حقا فأحيانا في بعض الأمور يتغلب الطبع على الإنسان ، فنحن نحاول التعديل من أنفسنا إلي أقصى المستحيل وربما نتخلى عن مبادئ تسيطر عليها الأنانية وأحيانا نفشل وتظل متشبثة بعقولنا إلي الأبد .
انتفض حين خطف ماركل نظارته من فوق عينيه وتساءل عما يريدة بنظراته
_ أين غاب عقلك يا صديقي ؟ ..
فأجاب أسامة بابتسامة خفيفة : لا شئ .....
_ يلوح لي أنك تفكر بشيء هام
_ أفكر قليلاً في بعض شئون حياتي
فاستطرد : أود قراءة رواية مما عندك
ناوله ماركل رواية تدعي " الأقفال السبعة "ل "أدجار والاس " فتصفحها وأقسرته المغامرات التي بها على قراءة جزء كبير منها حتى انحدرت الشمس وحل تكاثف الظلام وتلألأت المصابيح علي جوانب المصيف ، فنهض من مجلسه ليقود السائحين للفندق وهناك تمتع معهم بوجبة عشاء طيبة وتوجه إلي حجرته ليستلقي مباشرةً علي فراشه بضعة من الوقت
تبين فجأة الرواية التي قرأها دفعته لأول وهلة إلي كتابة جزءْ كبير من مذكراته الماضية الممتزجة بالجدية والكوميدية فسحب باقة من الورق ثم انتقل بها للجلوس في شرفة الحجرة ، وراح يغرس فيها بقلمه بين أحضان الليل ذكرياته الجميلة ومغامراته العجيبة وفتح السراديب المغلقة ليكتبلنا حياته التي وراء سحب ملبده " .
الفصل الثالث
كانت الأسرة منهمكة بتنظيف الطابق العلوي لاستقبال عمى وابنته من الفيوم بعد انتقال عمله إلي القاهرة ..عمي رجلاً بشوش الوجه ، تهز ضحكته المكان الذي يشغله ، يأنس بوجوده الأهل والأقارب ، فهو أباً وأخا ً ورفيقا ً لي بعد والدي ، تولى كثيرا ً من مهام أسرتنا الصغيرة التي تتكون من أمي وأختي فاتن ٌ، شاركنا ما لا يحصىمن مشاكلنا وتكبد العبء لأجلنا ، لذلك حين فكرت ف الزواج لم أجد أفضل من ابنته مريم التي غرس في نفسها الأخلاق الحميدة والقدرة علي تحمل المسئولية واتخاذ القرار
لم أفكر في حبها وتحرك مشاعري نحوها بقدر ما فكرت في الأعمدة الأساسية السابق ذكرها التي سيبنى عليها الزواج الناجح ، ربما شعرت وقتها أنني من أنصار المؤيدين لزواج الصالونات الذين يرفعون شعارا ً " إذا صنعنا الحب لحققنا الاستقرار "
دخلت فاتن تدعوني للغداء فوقع نظرها فجأة علي الكتب والمجلدات المبعثرة علي الأرض وأنا في حيرة أتصفح كتاب وأتركه حين أتشبع منه وأمسك بالآخر ريثما أظفر بالمطلوب ، كان يبدو عليّ الاضطراب والملل وعدم الاكتراث بشئ غير ذلك حتى تعمدت تجاهل شقيقتي حين دخلت الغرفة وربما تنصت مخارج أنفاسي بدقة وغمغمتي وأنا أقول " هذا ليس ما أريده وهذا المكتوب لا يكفي " وصاحت :
_ أسامة ..... ماذا تفعل ؟! ......
_ كما ترين
_ما الذي فعلته بحجرتك ؟ ....
_دعيني بما يشغلني يا فاتن
_ لقد عبث بالغرفة التي رتبتها وتقول دعيني بما يشغلني ، أنت لا تقدر كيف تجهد المرأة في عملها المنزلي
_, أرجو منك أن تتركيني ، فأنا أبحث عن موضوع هام وذهني غير ملق لحديث أي شخص
_ لم أري شخصا ً في حياتي مثلك تأخذ أمورك بجدية وتعطيها أكثر من حقها المطلوب ، فارحم نفسك فسيخطف العمل أجمل أيام عمرك دون التمتع بحياتك ولن ينفع الندم على زمن قد فات .
_ أنا أعيش حياتي بطبيعتي ومستمتع بها وراضيا عنها ولا أعتقد الندم يوماً
حاولت أن تسيطر على غيظها حينما شعرت أن لا مراء من الحديث معي وقالت في هدوء : حسنا ًيا أخي فاصنع ما تريد وهيا الآن للمائدة فقد أعددت الطعام .
_ لست جائعا ً
_كيف لم تكن جائعا ً ولم تتناول أي شئ منذ الصباح غير كوب من القهوة ؟ ...
_ دعيني مؤقتا ً لمشاغلي ..... سيأتي غدا ً وفد من السائحين المهمين وأنا المسئول عن مرافقتهم وينبغي أكون علي علم كبير بموضوع الرحلة ومخزن بذهني كم هائل من المعلومات التي ألقيها عليهم وأمتعهم بها .
_ معلومات ! ..... عن أي معلومات تتحدث ؟ ... ألم تكفيك المعلومات التي تخزنها بعقلك فكل بكره ً وعشيا ً تحدثنا عن الحضارة والثقافة والآثار وتقاليد الشعوب حتى زعمنا أنك قاموس حضاري رائع ، ورغم ذلك تشعر أن ذهنك فارغ من المعلومات .
_ عزيزتي .... أنا أسعي للبلوغ إلي المجد
_ هيا الآن للغداء معنا وعد ثانية للبحث عنمجدك
_ أخبرتك اني لست بجائع
_ والدتك ستغضب منك وربما ستأتي لترمى جميع كتبك ومجلداتك من النافذة حتى ترتاح من تصرفك
_ لا اعتقد أنها ستصنع ذلك ، فأخبريها أني لست جائعا ً ، فالوفد الأجنبي سيأتي غدا ً ويحتم عليّ استقباله بوجه كامل التشريف
_ غدا ًً! ..... أفهم من ذلك أنك لم تذهب لمحطة القطار لتستقبل عمك أيها المرشد العظيم أم أنك تفضل الذهاب نحن لاستقباله فقد أصبحت لا أتعجب لقراراتك ؟!
_ أخ ...... فلقد نسيت تماما ً أنهما سيأتيان غدا ً ، ولكن لا تبحثي عن مناوشات هما ليسا غرباء سيأتيا وحدهما
_ كيف أنت تفكر ؟ ..... أليس من الذوق أن تستقبل عمك إكراما ً وحبا ً لخطيبتك ؟
_ سأحاول يا فاتن ..... سأبذل قصارى جهدي للذهاب إليهما
_ لا جدوى من مناقشتك مهمت حاولت فأنت تركب هواك ولا يستطيع أحد تغيير مسار حياتك
_ وأنا مهما قلت أو فعلت لا أحلو في عينيك ، فهيا الآن كفى عن حديثك .. اتركيني لشأني قالت وهى تهز رأسها : حسنا ً ...... سأدعك وشأنك لتغرق في كتبك ومبعثراتك . وبعد أن خطت بقدميها خطوتين للأمام ، استدارات لتقول
_ بالمناسبة ... لقد حرصت علي إحضار هدية بسيطة لمريم بدلا من رأس نفرتيتي التي قدمتها إليها في المرة السابقة وجعلتها تجن من أفعالك الحمقاء ، وحبذا لو تحرص هذه المرة تتجنب مثل هذه الأفعال التي تساهم في التنكيد والتكدير وتضعف أواصر علاقتكما .
_ أشكرك لعنايتك الشخصية
قالت : ليت أسلوبك يتغير هذه المرة
لم ألج في المحادثة حتي قلت بصوت عال : انصرفي الآن من أمامي قبل أن نتلاحى ، فذهني غير ملق للتمادي في حديثك هذا
فاشتد إعجابها بثورتي وقالت بتهكم عندما أدنت للباب
_ يا أخي نصيحة لك .... ارحم هؤلاء السائحين من حديثك الثرثار كي يرحمك الله ، فأنا حقا ً أدعو بالعون لهم .
اختنقت وقتها أنفاسي منها فسحبت وسادة الفراس وقذفتها بوجهها فجأة للمحص من استفزازها المستمر ، فأسرعت من أمامي في لمحة البصر
فاتن علي حق ، ما تقوله عني صدق ، تحليها لشخصيتي ورد فعلي بلغ الي حد المهارة ، فأذكر يوما ذهبت بمريم الي المتحف المصري لأعرفها علي مقتنيات المتحف لتعلم قيمة وتاريخ القطع الأثرية ، ظننت أن تغتبط حين تري خطيبها يقودها داخل أجواء عمله لتتفهم جزءً من مهامه ، لكنها صدتني برد فعلها وابتدي يشحب وجهها رويدا رويدا حتى ارتسم بأقلام الغضب وتوارت ابتسامتها الرقيقة وراء أفق الانفعال ، قررت تخريجها من حالتها المزاجية فعرضت عليها الذهاب الي السينما فاستعادت ابتسامتها الرقيقة مرة أخري
كانت تأمل برؤيتي شخصا ً يقرأ أفكارها ، يمضي معها في نفس الطريق التي تحلم العبور به ، هي لا تحلم غير أحلام البنت الرومانسية التي يضمنها الدفء والثناء والعطاء ، وفي معظم الأوقات أكون جافا ً معها ، عاجزا ً عن التعبير لا أستطيع وصف مشاعري المكنونة ، نعم كنت عاجزا ، أخرقا ، فاشلا ، أنا كل المفاهيم والمصطلحات التي تبين برود شخصيتي المكبلة
لمشاعرها المجهولة.
الحظ السيئ حليفنا الثالث في معظم أوقاتنا ، فمن أضاحيك الموقف ارتطمت سيارتي بسيارة شخص أثناء الذهاب للسينما ، واشتدت بيننا المنازعات الي أن بلغت قسم الشرطة ، ثم مضينا إلى البيت متكدرين الصفو حينما شعرنا بخيبة الأمل
هذا جزءً من المفاجآت أو تحديدا الكوارث التي تحل بنا عند اللقاء وتغرقنا في بحر مكدر المياه ، نسعى فيه طويلا للبحث عن قوارب نجاه لتعود النفوس الطيبة الي مجاريها......

الفصل الرابع
في صبيحة اليوم التالي خرجت للعمل مهندما في ثيابي أكثر من هندمة شخص يستعد للقاء فتاة ، وعند وصولي للشركة تلقاني زميلي طارق ليخبرني بيأس
_ قلبي عندك يا صديقي
_ أحدث شيئا ؟.....
_ قد وصل إلينا فاكس قبيل فترة يخطرنا أن الوفد الوافد للقاهرة تم تأجيل رحلته بضعة أيام لأسباب طارئة
_ هذا ليس وقت مزح يا طارق ، فلقد ضاق صدري من مراوغة الآخرين
_ لست أمزح فحقا تم تأجيل رحلة الوفد ، و أخاطرك علي ذلك
_بدون مخاطرة فليس معي نقود ... سأتحقق بنفسي
_ اطمئن لن أستغلك يا صاحبي .. لم تهدم النقود روابط صداقاتنا
فقلت بمزج :
_ وعلي ما أطمئن ، فقد خلق الاستغلال لأجلك يا صاحبي
فضرب علي كفي التي يمسكها وقال مازحا : حسناً سأتعلم كيف أكون إنسان من جديد
لم أبق في سياق مناوشاته كثيرا ، لأسرع الي قسم الاستعلامات أتسلل الأخبار ، وارتطمت بالصدمة القسوي حين تحققت من نبأ طارق ، فغطي الحزن ملامح وجهي بثياب أسود ، حدادا علي ترتيبات مهنية ضاعت هباء ً ، لم ألبث قليلا حتى مزقت غطاء الحزن حين تلاشي شيئاً فشيا ، لما قررت خلع ثوب إمبراطور العشق التاريخي وارتداء ثوب الدنجوان كما يقولون ، وقبل انتهاء موعد العمل أسرعت بسيارتي الصغيرة الي محطة القطار لألتحق بالموعد ، وتعاهدت مع نفسي ألا أكون بارد المشاعر بليد الإحساس مع مريم ، وعند قدوم القطار الي رصيف المحطة مكثت أبحث بين رؤوس الركاب إثر نزولهم عن مريم وعمي ...... وبعد دقائق معدودة فشلت في العثور عليهما ، فركبت سيارتي متجها الي البيت مهيض النفس
حينما ولجت باب المنزل ، تسرب الضيق من نفسي لرؤية بشاشة الفرح تملأ وجه والدتي
_جئت مبكرا يا أسامة ولكن فعلت خيرا
_ لماذا يا أمي ؟
_ لقد جاء بفضل الله عمك ومريم من الفيوم منذ ساعتين تقريبا
_ حقا يا أمي ؟ ..
_ نعم ....وحاليا أتهيأ لتحضير مائدة طعام فخمة ، ترحيبا بقدومهما
قبلت والدتي حينما أبلغتني بتباشير الفرح ، واندفعت في الحال الي المسكن العلوي بعدما أخبرتني أن عمي ذهب لقضاء حاجة ضرورية تخص عمله ، فرأيت الفرصة متاحة للانفراد بالحديث مع مريم ربما أصلح بعض الأمور التي ماتت في طيها الأمل
طرقت الباب بيد مرتعشة كطفل يمهد لتلقي اختبار وفُتح الباب ليندفع منه جمال يخجل منه القمر إن رآه ، ولما أبصرت عينيها الغائبتين عني منذ شهور ، شعرت بإفتقادي لدفء الشمس فاجترأ قلبي ، ليعلن لها بكل بسالة الحنين والاشتياق الي عبق أنفاسها الهادئة
وأقبلت نحوها وقلت بشغف : وحشتني يا مريم .......
فتجهم وجهها من التعجب : أسامة ! ..... كيف أنت ؟! ....
_ حالي بخير ....وأنت؟
_ الحمد لله علي كل حال ......... أسعدني رؤيتك
_ اشتقت إليك كثيرا
فتسرب إلى وجهها ذهول من كلامي
_ أسامة ! ..... أراك هذه المرة مختلف عن المرات السابقة
_ في الحق أنا بداخلي مخزون من المشاعر التواقة إلي? ويصعب التعبير عنها بالكلام ، فربما الأيام تعرب عما أعجز في وصفه
_ أتريد إقناعي بأنك تغيرت ، وتركت الحديث عن المؤرخين والتاريخ ومشيت في الحب والأشواق .
_لما لا ؟ ........... أنا رجل له مشاعر وأحاسيس
_ التغير مستحيل معك ، فعملك قد حاصر كل زوايا قلبك ، حتى أصبحت لا أجد بؤرة كي أدخل لك منها
_ ساعديني يا مريم ..... اليوم أطلب منك نطوى صفحة الماضي لنفتح صفحة جديدة نرسمها كيفما نبتغي ، ونبذر في الحياة القاحلة فيحات الحب والمشاعر
ثم استطردت
_ما رأيك اليوم في فسحة صغيرة بعد العصر ؟
فابتسم ثغرها وهزت رأسها بالقبول
_علمت أن عمي ليس بالمنزل
_ نعم ، فلقد ذهب لقضاء بعض احتياجات في العمل وربما علي وشك العودة
فتفضل بالداخل إن أردت انتظاره
_ ليس الآن ولكن بلغيه أننا بانتظاره علي موعد العشاء عند عودته
فردت مازحة : بانتظاره فقط ، أم بمرافقته أحد ؟! .....
فضحكت وقلت : بمرافقته حبيبتي
فأدارت وجهها عني مبتسمة ابتسامة متوهجة كأنها تروم إشراق الحب من جديد ، فتره قليلة قضيتها معها لكن أخبرتها عيوني بأشياء يعجز اللسان التعبير عنها ، وفارقتها علي أمل لقائنا عند الغداء
وعند نزولي للتو تصادفت بعمي مختار يصعد السلم وهو يصدر من أنفاسه كحة خشنة
فقلت صائحا : عمي مختار
قال مندهشا : أسامة بن أخي الغالي
فأقبلت عليه فاتحا ذراعي مرحبا بقدومه وتحدثنا حديثا قليلا ثم انصرف كلُ منا لشأنه ، وعند الغداء اجتمع شملنا للمائدة
وقال عمي : كنت مشتاقا لطهي أم أسامة اللذيذ
مريم : وطهي يا بابا .........ألا يعجبك ؟
فرد عليها مازحا : يعجبني طبعا ......... لست مغفلا لأقول الحقيقة ويتراجعأسامة في قرار زواجه منك
فغرقنا جميعا بالضحك وردت والدتي على الفور
_ إن لم يتزوج بمريم فبمن يتزوج؟!
فرد عمي متهكما : سيتزوج بفتاة تسمي التاريخ
فانفجرنا ضحكا وقضينا وقتا قصيرا ممتعا ذهبنا بعده للقيلولة

الفصل الخامس
توجهت في العصيرة مع مريم للتنزه بين رحيق الأزهار الملونة بألوان السماء ، كنت أري الحياة بين متناول يدي كدمية يتحكم بها الصغير ، ورغبت وقتها جمع يرقات البساتين كي بها أشيد بيتا ، متعبقا بعطور الحياة ، محصونا بالوفاء وأعلق على جدرانه ومض الفرائد ، أشعر أنني الإنسان الذي يتوجب عليه أخذ نصيبه من الحياة ، فقررت احتواء مشاعرها منذ تلك اللحظة
أناظر السعادة تسبح بعينيها رقصا ، لأول وهلة أرى جمالها يشبه جمال الطبيعة ،فنسمات الهواء تدفع برقة إلي وجنتيها خصيلات شعرها الفاحم السواد المترامي علي كتفيها ،وبالرغم من امتعاضها سريعا فقلبها أبيض من الثلج .. تفطن إلي الفكاهة والضحك ، أما عينيها السوداوين فهي لي شروقا للمستقبل الباسم
وافتعم جو الحديث بالرومانسية التي انقطعت بغتة مع انتفاض جسدي من لمسة فتاة حسناء شقراء ، بيضاء كالثلج ذات عينينخضراوتين
أمسكت بكتفي وقالت بدهشة تحمل الفرح : أسامة ؟! ....
قلت بغمغمة : آنسة أوليڤيا ! ....
وهمت دون إذن بسحب كرسيا وجلست بجانبي ،ولصدفة حظي كانت مريم تجيد الانجليزية فقدمت كلاً منهن للأخرى ، وابتسمت لها مريم ابتسامة صفراء لا تمهد بمؤشرات التفاؤل وقالت لها أوليڤيا بغير اكتراث : تشرفت بمعرفتك
ثم توجهت لي بالحديث قائلة برقة : لقد وحشتني كثيرا يا أسامة ، فلم أراك منذ مدة
فقلت دون عناية : أشكرك بشدة أوليڤيا
_ يبدو أنك نسيت أصحابك واقترفت شواغل أخري
_ في الحق إن العمل يستغل كل وقتي
واستطردت
_ما أخبار دراستك بعلم المصريات ؟ .....
_جيدة بالطبع .... إن الكتب التي استعرتها منك أفدتني كثيرا بأبحاثي خصوصا في تاريخ الفن المصري
_ رائع .... لكن ينبغي المواظبة علي الرحلات والزيارات الميدانية فالآثار هي المصدر الأكثر صدقاً لكتابة تاريخ وحضارة أي دولة
قالت في تنهد : أنت رجل فاذ يا أسامة لا يوجد نظير لك في العالم كله ، فعندما أجلس إليك أشعر أن جميع كتب الحضارة المصرية مسجلة بعقلك
_ أشكرك كثيرا ً أوليڤيا
_ تعلم أني أشتاق لرحلة معك
فقلت مترددا : إن شاء الله
فابتسمت وقالت بصوت ناعم : هل لي أخذ رقم هاتفك النقال
قلت : بكل سرور
وأعطيتها الرقم واستغرقنا في حديثنا العلمي وتعاميت عن مريم التي ابتدت تداعبها الغيرة فتلقيت عبر أنفاسها العذل والوعيد بأشياء لا تغبطني وانسقت وراء انفعالاتها التي بدت بآثار من الحدة فيبدو من شرارة عينيها أنها تود ضرب أوليڤيا وطرحها أرضا أو ربما أنا المقصود بذلك مباشرة فبلغتني إشارة بداخلي تبشرني بالدخول علي مرحلة زوبعة عاطفية ...... وفارقتني أوليڤيا علي موعد اللقاء بإحدى الرحلات بعدما قدرت صفوي مع مريم
فقلت لها مبتسما : أعتذر يا حبيبتي لتمادي الحديث ،فأوليڤيا طالبة تدرس علم المصريات بالقاهرة وتعشق المصريين كثيرا ً
فردت ببرود : يبدو عليها ذلك
وأضافت قائلاً : هي مواطنة أمريكية تعرفت عليها بإحدى الرحلات بمدينة الإسكندرية وكانت ......... .. .
فقاطعتني ولوحت بيديها نحو فمي
_ خذ حذرك ....لم أحضر هنا لتقص لي عن صديقتك الأجنبية فلن أتحمل طويلا ذلك الحال تلك المواقف الجسيمة
وأحسست إني دخلت بمأزق يحتاج تبرير موقفي
_ لقد فهمتي خطأ ....... فأوليڤيا بمثابة زميلة تخصص ، فهي باحثة وغالبا نتبادل الآراء ولا يمتد نطاق الحديث الي صفصفة شخصية
_ هذه أمور لا تعنيني ..... فلا فحوي ولا معني لكلامك
ثم نهضت من مجلسها راغبة العودة للمنزل ، ولم تلين لاجترار كلامي ومبرراتي ، وأحجمت عن الحديث عن الموقف ولم تنبس بكلمة واحدة أثناء تواجدنا بالسيارة رغم سماعي صرخات العتاب تصيح من أعماقها ومناظرة وجهها الشاحب الذي يهددني باندثار أمالي

حينما بلغنا المنزل ارتجلت من السيارة وصعدت السلم في لمحة البصر دون
نظرة منها تشير بخلق أمل جديد ، انسحبت الي حجرتي ،مستشاط غضبا ، مغبون بخيبة أملي ، واستلقيت علي فراشي مأخوذا بما حدث ، فقد كانت تقبع لأخطاء لتروي عطشها من منهل الغضب ، وتنساق وراء أمور لا وجود لها كي تتقمص دائما دور البطلة المظلومة في فصول الرواية القائمة

لما أسجف الليل حشمت عن طعام العشاء ، استمعت كثيرا من الرفاق أن النوم هو الحل المؤقت للهروب من الصدمات والأحزان ، فقررت النوم مبكرا ، تقلبت يمينا ويسارا علي فراشي ولم أنال الراحة
حين يسعف النوم الي عيني يهم بالفرار من شحذ ذهني ومحاصرته بالتفكير ،ولم توصد العين علي هدوء البال ، فقاومت الأرق وأغمضت جفني وتلاشي فكري رويدا رويدا لما قمت برحلة الي الأقصر ، وفي يوم توجهت وحدي في حلول الليل لزيارة معبد فرعوني كان وقتها خاليا من الناس ، وأبصرت فزعا من بعد عشرة أمتار طيف لإنسان طويل القامة فوجب قلبي وانتابني الخوف وكدت أهرول ماحصا ، لكني رسخت بموضعي حين بدت هيئته المبهمة فرأيته آدميا يرتدي ثيابا لن تؤائم عصرنا ،فازدادت ضربات قلبي قلقا منه وكدت أدمث بالفرار من أمامه حتي صاح :
- انتظر يا سيدي ..... لا تغرب عني ، فأنا لست بشبح
قلت بدهشة : من أنت أيها الرجل الغريب ؟! ....
_فأستنج أنت ...... مَن أنا ؟ ....
كان الرجل يرتدي ثيابا من عصور فرعونية فقلت مندهشا : ما هذه الثياب التي ترتديها ؟! ...
رد بابتسامة خفيفة : ملابسي ! ..... أعندك شك بها ؟
_ بالطبع الشك وارد ، فأنت ترتدي ثيابا انقضت منذ زمن طويل
_ لا يهم الرداء بقدر معناه الذي يعبر عن ملامح الإنسان المصري الذي تبدو في فحواه، ومبادئه الكريمة المتوهجة علي أهدابه
_ من أنت ..... من أين جئت ؟! ......
فأهمل سؤالي وأضاف علي جملته وهو يلوح بيده حول المكان : اشتقت الي الناس بخيرهم وشرهم .....إلى الحياة بفرحها وشجنها ..... الى الدنيا بليلها ونهارها .... الطبيعة بقيظها وبردها
قلت مهتز الرأس : تلبط عقلي في أمرك ....... من أنت ! ...... أسمعت ؟! .... من أنت أيها الرجل ؟! .......
فأجاب الرجل بابتسامة هادئة : أنا فرعون
فقهقهت قائلا : أضحكتني حقا أيها الرجل ، فلك في الردود عجائب وغرائب ضاحكة
_لماذا ؟! ........
فاستأنفت الضحك وقلت : وهل يعقل ظهور فرعون في العصر الحاضر بعد كل هذه الآلاف من السنيين
_لا تندهش فلقد ظهر بالفعل
فرديت عليه بصوت عال :
- أجننت يا رجل ، أم تمزح معي ، فحقا من أنت ؟! ...
قال بحزم : أجبت عليك
فنطقت بلهجة تنذر :
ومن أين جئت ، من المعبد الذي هنالك ؟! ....
_ نعم ..... فإن روحي تسكن باطنه
_مازلت تمزح حتي كاد عقلي يجن منك
_ لست مسئولا عن شكوكك أيها المريض
رديت ممتعضا :
_ أنا أعقل منك يا رجل ، فيلوح لي أنك من معارف أصدقائي ودعوك لمقلب سخيف خططوه لي
فأجاب بالنفي وقال بعد حيرة
_ سأغتال الشك الذي يحاصر ذهنك كي يطمئن قلبك
تبخر الرجل كالماء أمامي في لمحة البصر وبقي صدي صوته الغليظ مجلجلا في الهواء ، أما أنا ما أصبحت أنا فدائرة انذهالى تدور حولي ، ...الحيرة تلدغ نوايا عقلي وازداد القلق حين خفق قلبي . رحت أقول في ظني أنه منجما فقرأت آياتا من القرآن فلم تنتج شيئا طيبا ، فتحول الموقف الي صورة مسألة صعبة معقدة الحل تحتاج الي معادلة شاذة تقضي بالجواب قلت في نفسي : ماذا أصنع أكثر من ذلك فلو كان منجما لبطل سحره وإن كان شيطانا لحرق جسده ، فكدت أفقد الوعي حتى كنت لا أعي حقيقة وجودي ووجوده ، لا أري فرق بين الحلم والحقيقة ولكن أنا ألمسه إذن هو موجود إذن هو الإنسان العاقل........... ولكن لا أعلم كيف أتصرف في تلك الموقف .....
ولم يستطال خفاؤه عني حتى بدا مرة ثانية كالمارد
فقلت غير مدركا : ضاع عقلي مني ..... من أنت ؟ !.......
_ أنا الفرعون " أوناس "
فانزعجت من تهكمه ليعلو صوتى
_ تقول فرعون مرة ثانية يا رجل ، أنت كاذب
_ أقسم برب أدم أنني فرعون م العصر القديم
_ أنت لست بفرعون
فراقت له مداعبتي وقال
_ إذن فاعتبرني تاريخ سبعة آلاف سنة
_ أنت آدمي ..... جسدك مادي ، أما التاريخ شيئا غير ملموس ، نطالعه بالكتب فقط يا عزيزي
_ أقيد رأيك ..... لكن ما رأيك في العرض الذي شاهدته منذ قليل
_ أرتاب في أمرك ..... ولا أعرف كيف أصدقك ، يجوز أنك سيطرت علي عيني لتجعلني أري ما تريده أيها الرجل الغامض
_ يبدو أنني فشلت في إقناعك ، فلك كامل الحرية فانصرف لشأنك ودعني لشأني
شعرت ربما أفقد شيئا ثمينا سيفتق بي الي أوج هرم العلم في التاريخ وأعد تحصيلي للمعلومات من جديد دون احتمالات وهواجس ، فقد تثمر مرافقة ذلك الرجل الغامض طائل حافل لا يقدر بثمن ، فما يحمله بين نوايا عقله هو الوصل الوحيد الذي يكشف هويته ، لذلك قررت أن أرافقه رغم أنني في الحق كان يحاصرني الهياب
_ امنحني فرصة لأتحقق من هويتك
_كيف ؟
_ سنترافق ...... ستكون باستضافتي لفترة ، نتحدث عن الماضي والحاضر ، وتعيش معي كإنسان عادي
فأومأ برأسه مبتسما وقال : ليس عندي مانع
فقررت اصطحابه للفندق الذي أسكنه ، لكني لمحت ثيابه التي يرتديها لا تناسب الحياة السائدة ولا المجتمع المعاصر وستجذب الأنظار إليه فتركته في زاوية مكان ساكن بعيدا عن عيون البشر ، وذهبت للفندق سريعا لأعود ببعضثيابي الذي عاونته علي ارتدائه بعد إلحاح شديد

الفصل السادس
انطلقنا بسيارة أجرة ذعر منها حين رآها وكاد يمحص حتى أمسكت به وبعد إلحاح آخر أقنعته علي مشاركتي الركوب ، أخذت السيارة تخترق الشوارع والميادين المزدحمة ، و الفرعون ينحني من النافذة بعين جاحظة ليتأمل ما يشاهده من تغيراتتكنولوجية ، ومن الأشياء التي أضحكتني بالسيارة فزعه من عربات النقل الكبيرة التي تقترب من سيارتنا أو تواجهنا بالطريق المعاكس فيمسك بملابسي وينتابه الخوف الطريف الذي يدفع للضحك ،
في الحق إلتمست له العذر فأيدلوجية المجتمع تتغير تقريبا كل مائة عام ، فما شعور شخص رأي وطنه بعد مضي آلاف السنيين ، وسرعان ما بلغنا الفندق وارتجلنا من السيارة وهو يتلفت يمينا ويسارا وأماما وخلفا حتى كاد يلفت أنظار المارة ، وعندما تجاوزنا الحجرة راح ينظرها كجنة صغيرة لم يلق ضريبا لها فإتجه يعبث بأشيائها كطفل في الخامسة من عمره
فقلت بابتسامة طيبة وأنا أسحب الأشياء من يده : ستصبح لديك أشياء أفضل منها
فاستطرد قائلا : بسطت يداي يوما للسماء أدعو بمعاصرة المستقبل بما يضمنه من إنجازات وإبداعات ، واليوم قل تقبل الله لدعوتي
فسألته سؤالا وجيها جاء بذهني :
_ كيف تحدثت العربية ؟ ....
_ لا تتعجب يا سيدي فهذه براعة المصري القديم الذي لن تستوقفه عقبة ، حتى إن كانت لغة بسيطة كلغتكم الجميلة
فتظرت إليه بتمعن :
_ المصري القديم لو توصل للغتنا فلن يستطيع التغلب علي الفناء
فنهض علي الفور من مجلسه وقال بلهجة تبرم : معذرة أيها الرجل ... أرغب في الرحيل الآن
فقمت تِلوه : لماذا ؟! ........
_ أنا لا أود الجلوس مع شخص تخامره الشكوك نحوي
فأمسكت بكتفيه وقلت بنبرة تصرع : لا تغضب يا صاحبي فلن تبلغ الأمور لتلك الحد ، فأنا أمزح معك
_من الصعب تعرض الإنسان لعدم الثقة من قبل الآخرين ، فيشعر بنقص ذاته التي هي ملك جسده الوحيد
_ قولك علي صواب ، فإلتمس لي العذر مرة أخري أيها الفرعون ، فالشك ما زال يعبث بعقلي
_ عدني بأن تتقاعس عن أفكارك هذه ، وتسترد ثقتك ولا تدع الشك يداعبك
_ أعدك بهذا
فاستطرد
_ حقا ..... نسيت أن أسألك عن اسمك
_ أسامة ........ اسمي أسامة
فأومأ برأسه وبغير اكتراث تموضع على الشرير ، وتنهد طويلا ليأتي بالاسترخاء الذى حرم منه ردحا من الزمان ، فيبدو عليه المعاناة من عذاب طويل ورغم ذلك تصرفت معه بإسلوب أناني حينما إليه بالسؤال : ماذا ستصنع أيها الفرعون الزائر ؟
_ هاجر النوم لسنوات طويلة وأريد النوم ولو قسطا ضئيلا منه حتى أشبع حاجاتى وأسترد نشاطي
_ لا سبيل لنوم ولا راحة حتى تقص لي عما أريده من تاريخ الحضارات الفرعونية القديمة
_ سأخبرك بكل شئ في صبيحة اليوم ، ودعني الآن للنوم فلا أستطيع فتح جفوني أكثر من ذلك
_ تحمل قليلا وأضف سهرة هذه الليلة الي رصيد سهرك ألاف الليالي ، فقدرك لن يقف خصيصا عند هذه الليلة ، ثم أننا سنغادر غدا تلك المدينة ، وسأعدك أنك ستجد في بيتي كافة الراحة .. تنام وتصحو كيفما تشاء
سأل بدهشة:
_ ماذا تقول ..... أنسافر غدا ونترك تلك المدينة الأثرية الجميلة
_ ولما أنت غاضبا هكذا ؟ .....
_ واحظاه ....... قد خططت للتبسط في أرض الجنوب ، والتنزه في ربوعها المختلفة
_ لا بأس ...... سأعدك برحلة رائعة الي الشمال لن تغيب عن ذاكرتك أبدا
فطلعت من بين شفتيه ابتسامة كطفل صغير ليقول تِلوها
_ ولا تنس زيارتي لأهرامات أجدادي
_ ستكون أول الزيارات ، وسأمتعك بأجمل الرحلات
سحبته من يده الي شرفة وطلبت له عشاء سريعا ، بعد تناولنا انتقلنا الي الأحاديث النادرة حول هرم التاريخ القديم تحت ضوء القمر الساطع والشهب المنكدرة في ساحة الفضاء ، وبعد فترة قليلة تبدي بمقاومته للنوم ، فلسانه كان يسرب لونا من الكلام المجمجم الذي يحمل تثاؤب من وقت لآخر ، ورغم كسله وخموده لم أعفو عنه من أسئلتي المطردة المختلفة حول سياق الشرق الأدنى القديم وحضاراته المختلفة وأثاره الخالدة وفنونه وآدابه الراقية ، لم يضف إلا قليلا من المعلومات، ولكنها في الحق نظيفة مقنعة غير متكدرة بالشكوك والاحتمالات وهذه مزيته الأولى التي تبينتها فيه .
بينما كنا علي ذلك دقت الساعة الرابعة فجرا ، فنهضنا الي فراش واحد لنستغرقا في نوم عميق امتد معي خصيصا العاشرة ، لما صحوت أعددت متاعي للسفر وأستبطئ يقظة الفرعون بفارغ الصبر ، فكنت حريصا علي صحبته للقاهرة ، لعلني أتعلم منه مزيدا ومزيدا من العلم النادر والمعرفة الطازجة ، طفق نائما حتى الظهيرة ولم يصحو من نومه إلا بعد صعوبة عارمة ، وتناولنا الإفطار سويا ونهضنا للسفر .
لما تجاوزنا القطار جلسنا علي مقعدين متجاورين وابتدى القطار يتحرك رويدا رويدا حتي انطلق بسرعته المعتادة ونهض أوناس علي الفور مفزوعا وصاح : ما هذا الذي يمضي بهذي السرعة الفائقة ... انزلونى ... انزلونى
بحق آتون .... لا تقتلونى
_ اهدأ يا صاحبي
_ اجعله يقف فأنا أخشي أن أموت
واستأنف:
_ أوقفوا تلك العربة ، وأنزلوني من تلك الموكب اللعين
تحولت نظرات الركاب إليه بعيون متسائلة وابتدي معظمهم يسألني عن حاله الغريب حتى زعموا أنه مجنونا أو مصابا بفوبيا ركوب الوسائل السريعة فتعلثم لساني خجلا وما استطعت إلا قول إنه يمزح ، وأمسك ثيابي بعنف وصاخ :
_ أتريد تؤدي بحياتي أيها الرجل أأستحق منك كل هذا ؟! ..... أهذا ثمن المعروف الذي سأقدمه لك ؟! ......
لم أستطع السيطرة عليه إلا بعدما أنهكني بعقله البدائي ففكيت أكبال صبري حين فشلت في مقاومة عويله وأجلسته رغما عنه وقلت بحدة : كف عن ثورتك أيها الرجل ، فهذا المركب إحدى وسائل النقل السريعة ، فكل ما يملأ ذهنك وساوس وأوهام فكيف يهدد القطار بالموت وكل الركاب تجلس بهدوء ؟ ....
رد بتبرم :
_ قلت قبيل صعود المركب انه وسيلة نقل فزعمت أنها ستمضي مثل الخيل والسفن
_ هذا خطئي . كان ينبغي أآخذ الحيطة والحذر من ذلك الموقف ، وتوضيح لك الأمر كي تنتبه
فسأل بلهجة ترغب الاطمئنان :
_ أفهم من كلامك أن ذلك الموكب ليس خطرا ؟
قلت : نعم ......
وتابع كأنه يسعي لإرضائي :
_ أتود اعتذاري للركاب ؟!
فالتفت إليه سريعا
_ لا ........ لن يهم الأمر ولا يستحق
_ أشعر أني أزعجتهم بصياحي ، ولا أرغب أن بغصب٩أحد مني
قلت : لم يغضب منك أحد ، ولم تعلق الناس أذهانها بالموضوع
واستجاب لرأيي وطفق يرمي نظراته من النافذة علي كل شئ حوله
_ لم أزعم في الماضي أنه سيأتي يوم يخترع فيه مركبا بهذا الحجم وبهذه السرعة الفائقة
_ لا تندهش بتلك الصورة ، فهناك وسائل مواصلات أسرع من ذلك بكثير ، فقد أصبحنا اليوم نجوب كل بلاد العالم بوسائل نقل جوية تطير عبر الهواء وتحلق فوق البحار والبراري
فنظر بوجهٍ فاغر
_ يا إلهي ...... يا له من إبداع رائع لم نتوصل إليه في العصور القديمة
_ لن يبق شئ علي حاله يا عزيزي ،فلقد أصبحنا نركب البر والبحر والجو والبلاد التي كنتم تختلفون لها في أيام وأسابيع ، اليوم نبلغها في ساعات قليلة
_ يبد أن هذه الأجيال ابتدعت كثيرا وحققت المنزلة الأولي في التقدم والرقي
_ العالم كله يساهم في الإبداع الفكري والتكنولوجي وليست الأجيال المصرية فقط
_ لا تنس أن الحضارة الفرعونية هي أول حضارات العالم ومن المحتمل أن تكون أي بلد متقدمة استمدت تقدمها من حضارتنا
_ لا تعتقد ، بل هو يقينا ، فمعظم دول الغرب استفادت من علوم وفنون الحضارة الفرعونية التي لعبت دورا في تقدمها حتي يومنا هذا
وسكتنا قليلا وابتدي يصوب بنظراته نحو أركان ومقاعد القطار ثم قال : تعلم يا عزيزي أنني حزين
_ لماذا ؟! ....
_ لأن جيبي خاليا من النقود
_ وماذا ستصنع بالنقود ؟!........
_ كنت أود شراء مثل ذلك المركب الصغير لحاجتي الشخصية
قلت برثاء :
_ سأمنحك قطارا مثله هدية في وقت لاحق
رد بفطرة بدائية
_ أشكرك يا عزيزي أسامة فما زالت " كيما " بلد طيبة كريمة الأصل
_ اسم " كيما " كان يطلق عليها قديما ولكنها اليوم تسمي مصر
_ أعلم ذلك ...... لكن مصطلح " كيما " يعن لي أشياء كثيرة فقد لقبت بكيما أي بمعني السوداء أو السمراء نظرا لتربتها الطينية كما عبرنا عنها باسم " تاوي" أي الأرضين الدلتا والصعيد كما عرفت بإترتي " أي ذات المحرابين
_ إنها حقا لمصطلحات جميلة ، ولكن أطول الأسماء عمرا هي مصر الذي أطلق علي هذه البلد نسبتا لاسم مصر بن بصير بن حام بن نوح صلوات الله عليه ، ذلك النبي الذي كان يدعو الي عبادة التوحيد فقد دعا لحفيده مصر بفتح هذه الأرض المباركة فكان أول مَن سكنها هو وأهله وعمروا معظم جدائلها ، ومنذ ذلك الوقت ابتدى يطلق عليها اسم مصر حتى يومنا هذا
رد مقطبا:
_ كل شئ يتغير بالمكان حتى اسمه
_ لم يختلف جدالنا علي كل حال ....إننا نتحدث عن أرض واحدة تدور حولها أجيال تمنحها علما وتاريخا وتسلم الراية أجيال لأجيال ، أما هي تبقى راسخة تشاهد من بعيد نعم ونقم أبنائها عليها
_ أجدت الرأي يا صديقي الفرعون الحديث ......
جاء بائع الجرائد ليعرض علي شراء بعض صحف جذابة الأحداث ولفت انتباهي صحيفة دولية تتناول بإسهاب بعض الأزمات التي يعاني منها العالم حاليا فأعطاني البائع إياها وهو يقول والسيجارة المشتعلة تشق شفتيه : عشرة جنيه ياباشا
تناولت المبلغ من حافظتي وأعطيته للبائع للشاب ، لم تثير النقود انتباه أوناس ولم يسأل عما تعني هذه الورقة بالنسبة لي رغم أنها لم تظهر في العصور الفرعونية التي لا تتبع سوى نظام المقايضة في حركة البيع والشراء ، فكل ما استرعى انتباهه الصحيفة التي كانت بين يدي ، فقال وهو ينظر إليها بدهشة : عما يحوي هذا الورق العجيب الشكل ؟! ...
_ إنها صحيفة تتناول الأحداث حول العالم وأخر أخباره السياسية والاقتصادية والاجتماعية
خطفها مني ومكث ينظر إليها بعين بذهول : حتى هذا الشئ لم يتوافر عندنا بمصر القديمة
_ العالم يتغير بنسبة مائه في مائه فلا تنتظر رؤية الماضي فيكفيك استدعاء الذكريات حينما تشاهد المعالم الأثرية القديمة
تنهد قليلاً وسأل :
_أين العادات والتقاليد والطقوس والمراسم والأعياد؟
_ المكان يتغير مع الزمان حتى العقائد والأديان تجد منها ما يدفن بالتراب ، ومنها ما لا يتأثر بتغير الأمكنة والأزمنة
هز رأسه بحزن وظل عابث الجبينكأنه يستدعي الذكريات :
_راح كل شئ يسعد أرضنا الحبيبة (كيما ) كنت أشعر بها ترقص عند ضرب الدفوف بالأعياد والمراسم ، واليوم لم يبق شئ من الذكرى لإتحاف قلبها الصبي
فوضعت يدى علي كتفه :
_ لا تأخذ الأمور بهذا التشاؤم فمصر لن تحزن طالما يرتوي قلبها بالسكينة والسلام
واستطردت كي أرسم علي وجهه البهجة وأدفع عنه اليأس اللادعي لوجوده :
_إن مصر ما زالت تحتفظ ببعض الأعياد المصرية القديمة وتقيم مراسمها كعيد الربيع أو الحصاد او كما تسمونه " شمو " وأيضا عيد وفاء النيل الذي نحتفي به علي ضفاف النهر ولكن دون إلقاء عرائس بالمياة
فاستعاد وجهه البشاشة ورد بتفاؤل :
الحمد والشكر للرب حتى علي ذلك القليل
تبسمت له بلطف ثم انصرفت عن هذا الحديث القصير وطفقت أطالع المجلة وقتا طويلا حتي سئمت من تصفحها ، فسعيت للنوم المنفصل الذي أستأنفه من وقت لأخر ، أما هو كل هذا الوقت يشعر أنه في عالم آخر كعالم الموت أو عالم استرداد الحياة من جديد ، عالم مقدم علي مائدة الروح وما عليه إلا زرد ما يرغبه ومالا يرغبه ، عالم بمرآته منعزل عن أفكاره وطباعه غير العالم الذي اعتاد عليه ليستمد حياته من فطرة الطبيعة علي نقيض العالم المعاصر الذي يكون رؤيته ويطور نفسه بالاعتماد علي العناصر الصناعية التي يكونها الإنسان الحالي
اليوم عاد الفرعون ليري الحضارة الجديدة التي تضئ جدائل العالم بكل أبعاده وتفتح منافذ التواصل بين البلدان
اليوم عاد الفرعون ليشاهد التنبؤات بالمستقبل القريب والبعيد ، ويلتمس الظواهر الإيجابية والسلبية بالمجتمع المصري ربما بعد ذلك يصنع عملية إحلال لعقله القديم بعقل أخر حديث ي قادرا علي استيعاب كل الظواهر والتطورات الجديدة ومستفهم لكل الأعباء والنكبات التي تحل في ظرف معين
كان القطار ينطلق بشدة متخذا سبيله للقاهرة ولمحت ركوبه القطار كركوبة طفل للأراجيح ، كأنه يبدي فرحته بلعبة جديدة أدرك إمكانيتها حين استخدمها
بعد مدة قصيرة توارت فرحته بالقطار بعدما اعتاد عليه وابتدى يتطلع بنظراته الساذجة من النافذة علي جميع أنام الأرض أو ينظر تحديدا إلي الطبيعة الخضراء بكل مناظرها الخلابة التي تجذب العين إليها وهذا ما أكد صحة قولي لبعض الناس حينما قلت لهم " أن ريف الصعيد يأخذ علامة مميزة من الجمال عن الأماكن الريفية الأخرى بمصر " فأري أمامي رجلا ينظر إلي كل ما هو جديد ولا يتحدث ....... يلتزم الصمت وتتحرر نظراته علي الطبيعة ، ينظر ولا يسأل رغم كل الأسئلة التي تتواري خلف لسانه كأنه يريد أن يستنتج فقط

الفصل السابع

بعد ساعات قليلةبلغنا القاهرة ، شعرت بوطء قدماي إثر نزولي من القطار ، فسعيت أفكر أين أذهب بذلك الرجل الغامض ، فكرت قليلا أن أصطحبه إلي رفيقي طارق الذي يقطن مع جدته العجوز ، لكن تراجعت بعدها مباشرة فطارق من الأشخاص المصابين بحب التطلع والفضول وكثير الكلام يفتح مجالا لأحاديث مختلفة ، يشمئز منها البعض أحيانا ، ولم أجد حلا غير صحبته لمنزلي ، لكن القرار يحمل هاجس الخوف ، فحبذا لو الوحدة الأنيس الفريد لذاتي لخلت نفسي من الهموم والمسئوليات ودون احتمال ولا حسبان سلكت برفقته سبيلا للبيت وفي مسيرتنا لم يرتدع عن للنظر والتأمل لكل ما حوله ، وسرعان ما بلغنا الجادة الواسعة القائم بها منزلي فصعدنا سلم البيت بمعاناة من تعب السفر الطويل ، ابتدى ذهني يرتب ما أقوله لوالدتي وفاتن عن هذا الرجل الغامض ، الزائر من العالم الآخر فكم كنت أخشي من كثرة تساؤلاتهما عن هذا الرجل ، كمن هو ؟! .... لماذا أتي إلي هنا ؟! .... كم المدة التي سيمكثها عندنا ؟! ... فأمضي في غياهب أسئلة الظنون التي لا محور لإجابتها ، لما بلغت الباب قرعته بيدي المرتجفة قرعتين ... ما من عدة ثواني انتظرتها إلي أن تحرك الباب لتندفع منه فاتن فعانقتني ووجها يحمل ابتسامة شوق وعندما لمحت طيف أوناس سألتني بدهشة : هل برفقتك أحد ؟! .....
_ نعم .... صديقا لي التقيت به بالأقصر
شديت أوناس من ذراعه
_ تفضل يا صديقي
فدخل أوناس واندلف إلي فاتن وحدق بملامحها ليقول شاردا :
_ كأني أرى مكتريا
ردت مندهشة : ماذا تقول ؟!
رد على الفور : لا شئ
_ أهلا ومرحبا بك
_ انها اختي
_أهلا بك عزيزتي
وتصافحا مصافحة رقيقة وتبادلا النظرات لبضع ثواني حتى انتبهت فاتن للأمر وسألته : هل تعمل بالسياحة كأسامة ؟
قلت سريعا قبيل أن يتفوه : نعم
.. إنه مرشد سياحي ، لكنه مكث طويلا فترة بالخارج
_ أنا ....!!!!! ما مرشد سياحي هذا ؟!!!
ضغطت علي قدميه وسحبته لغرفة الضيافة واستدار إلي فاتن ليقول : بالمناسبة أنا أدعي " أوناس " يا عزيزتي
تساءلت مندهشة : ون ما ! ..... أهذا اسم تدليلك ؟! ....
_ لا ..... إنه يراوغك يا فاتن ، فاسمه الحقيقي " ونيس"
_: أ اسمك فاتن؟!
_ نعم ...:
_ اسمك رائع حقا ... يليق علي صورتك الحسنة
انحنت خجلا وتسرب من شفتيها صوت ناعم
_ أشكرك يا أستاذ ونيس فهذا لطف منك
اجتازني شعور قلقني حين تغيرت أطوار هفجأة ، أهاب من مفاجأته المقبلة ، ربما أنزلق في بئر حيرة لا ارتقاء منه ، كلامه المتملق مع فاتن يجعلني آخذ تحت إبطي دائما الحيطة والحذر لتجنب ما لا يجب ، هو يحط بأقدامه هنا لسبب معين وغير مسموح بين هذه الزوايا حديث المداعبات والمهاترات ،فمرافقته لا تعني أنه قد نال ثقة كاملة ، والصمت يوضح والمناظرة مستمرة والحكم عليه مؤجلا ليكون عادلا
لكن يتوجب توقفه عند حد معين وأعلمه احترام التقاليد الخاصة .. سحبته لزاوية مكان متظاهر بالضجر وقلت :
_ يا عزيزي أنت رجل تحمل صفات الاحترام لكن مراوغتك لأختي لا تروق لي
_أنا لم أداعبها .... لساني لم يمدح إلا حسنها وأنا رجل أتحدث عن كل ما هو جميل ، وما رأيت فيها إلا جمال النيل العظيم
_ علي كل حال أنت تعلم أن لكل بيت عادات يلتزم بها وقواعد لا يتجاوز الخروج عن إطارها ، .....أرجو أن تستفهم وتقدر ذلك
رد متنهدا :
_ اطمئن يا صديقي ...ثق في خُلقي .....لم أسابق خطاه الزمن ، لأهتك العرض وأسرق القلوب ، فلست متحملا بطش الزمان ولعنة المكان
رديت باقتناع : أحسنت الكلام يا أوناس
_ أوناس " !!!! لأول مرة تذكر اسمي !!!!
_ ربما لا أذكر
سكت لبضع دقائق ثم أستطرد بسؤال : لماذا قلت لشقيقتك أن اسمي " ونيس"
فأجابت : ونيس هو نفسه اسم " أوناس "
_ كيف ذلك ؟! .......
_ ونيس باللغة العربية هو " أوناس " باللغة الهيروغليفية
_ حقا هذا الكلام ؟! .... أنا اسمي ونيس باللغة العربية ...... ما أحلي اسمي الحديث
_ أسماء الفراعنة كلها أسماء جميلة تعبر عن معني قوي وعظيم
_ أ أنت تعلم معني اسمي ؟؛....
_ في الحق لم أبالي بمعرفة معناه حتى أني لم أصادف قراءته في الكتب إلا قليلا ولم أستوقف علي معناه ، لكن ما أعرفه انه من ملوك الأسرة الخامسة
_ اسم " أوناس " يعني الشئ الموجود حقا
فرددت وراءه بصوت هامس
_ الشئ الموجود حقا ، إذن فالأمر واضح ، أنت موجود
رد بسخرية : ستبق حائرا بين الشك واليقين ، لن يهدا بالك أبدا ، حتي ان شهدت الجموع بحقي
_ الشك مؤكد وجوده في هذه المواقف النادرة فمعك أحس بالحياة بين عالمي الوجود واللاوجود ، ربما ينطبق علي حالي عبارة فلسفية شهيرة تقول " إن الإنسان مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة ، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة " أعتقد المقولة صائبة مائة بالمائة
_ اطمئن .... حواسك الخاصة تدركني جيدا ، كما يدركني حواس الآخرين
_ أرجو ألا تغضب .... الشك عندي وسيلة في السعي لإدراك الحقائق
فهز رأسه قليلا موافقا على رأيي
سكت مليا واستطردت : لكني لي رجاء عندك ، هل لي قوله ؟!
_ ما هو ؟! ...
_ لا ينبغي علم أحد بحقيقة أمرك ، ستكون أمام الناس صديقا لي يدعي ونيس .... فهويتك الحقيقة فأنساها مؤقتا
لماذا ؟!.... هل أنا عار عليك ... أتخجل من رجل له دور في بناء الحضارة القديمة وكان ..........
فقاطعته :
_ لست عارا ولا عبئا علي قلبي ، بالعكس فالمصري القديم مهما كانت بساطته فهو رجل يرفع شأن مصر في كل أنحاء العالم ، بالنسبة لنا هو النور اللامع في الحضارة المصرية القديمة ، ولا يتوجب أبدا أن يطرأ بذهنك مثل هذه التوقعات الفارغة
_أنا لا أستفهم شيئا من اقتراحك هذا
_ الناس يصعب عليهم استبعاد حقيقتك ، إن صارحتهم بها لزعموا أنك لمجنون وألقوا بك بمستشفي المجانيين
_ ما مستشفي المجاذيب هذه ؟!!!
فقلت بضيق من أسئلته المتفلحسة :
- إنها مكان يتجمع فيهم المجانيين لعلاجهم ، وإذا صممت علي رأيك ، سنكون معهم فى القريب
_ أعوذ بالله ..... أ أنا مثل هؤلاء ؟
_ يصعب علي الناس الاقتناع ببقاء شخص علي قيد الحياة كل هذه الآلاف من السنيين
_ أيعقل ألا يصدقوا ذلك ؟! ....
_ يستحيل ..... لذلك أرجو قبول نصيحتي ، حتى لا نتعرض لتهكمات الآخرين
رد وهو يعض شفتيه
_ هل تري الكذب حلا للخروج من هذا المأزق ؟!
_ لا سبيل لدينا غير ذلك
قال بعد تفكير : رغم اعتباري الكذب من نقاط الضعف عند الإنسان ، لكنى أوافق علي اقتراحك
_ وهو كذلك
استطرد أوناس وهو يلمس بطنه
_ لقد شعرت بالجوع ألا ترغب بدعوتي للطعام ؟!
فقلت : سيتم تجهيزه فى الحال
_ أتمنى ذلك ....... الجوع كاد يمزق معدتي
شعرت بقليل من الخجل فهو لم يتناول طيلة اليوم دون قطع بسيطة من سندوتشات الجبن والبيتزا حين غلبته شهوة التطلع إلي مناظر الريف والجبال ، كان علي خلافي تماما ، حين سئمت من كثرة تطلع الصحف وتصفح الفيسبوك وسحبت كتابا "لأرسطو طاليس " في الفلسفة لاستكمال قراءته...... مما جعلتني أتناول كثيرا من السندوتشات لأستمد الطاقة وأواصل القراءة ، فعالم الفلسفة دائما أشغف بالغوص به ، فهو يختلف في عن باقي العلوم الأخرى لأنه يتطلب العقل الناضج الذي يساهم في التأمل والتحليل والتعقيب للظواهر الطبيعية في كل الوجود كي يظفر برأي يدعم أواصره بالحياة ودوما أشعر بالتهالك على الطعام لأستمد طاقتي للتفكير ..... اهتمامي بالفلسفة المكانة الثانية بعد التاريخ وليس بغرض المعرفة مثلما بقدر رغبتي في صنع عملية مزج جديدة بين التاريخ والفلسفة ، فهي لها تاريخ فكري فقط لجميع العصور حول العالم ، أما التاريخ فهو يضمن الفكر والسياسة والعلم والاقتصاد لذلك أري الفلسفة جزء من التاريخ ...
افي صباح اليوم التالي قررنا زيارة الأهرامات، وسريعا كان قد ارتدي أوناس ثيابه ، وتهيئ للخروج دون تناول الفطور ، لكني أبيت ولم أتنازل عن وجبة الإفطار المقدسة في كل صباح مع فنجان شاي دافئ ، وجلس للمائدة رغما عنه وليس كدأبه حينما كنت أراه يتهالك علي الطعام ،فغفل عن كل ما تشتهيه نفسه مجرد أنني وافقته علي زيارة الأهرامات فبلغت الغبطة قلبه وجعلته يتطاير من السرور ، وكان يقول دوما عن الأهرامات إنها النجوم المتوهجة الباسقة في حضارة مصر القديمة بل والحديثة أيضا
وجلسنا حول دائرة المائدة الصغيرة بالمطبخ لنتناول قليل من الكعك مع فنجانين شاي مغلي ، وابتدي يأكل دون شهوه ، وكأن عقله شاردا بأمر خفي ، وكاد أن يرشف من الفنجان حتى ولجت فاتن ولسانها يحمل تحية الصباح، وسرعان ما وضع الفنجان وقال ببهجة : أجمل صباح أطل علينا من ابنة النيل ، تفضلي شاركينا الفطور
ووقتئذ نسي أوناس لهفته علي الخروج وانطفأت رغبته المكنونة إلي النور ، وتوجه كل من عقله ووجدانه إلي فاتن ، التي تحاول إخفاء سعادتها حين تراه ، وأنا أتريث وأتشبث بصبري كي لا يفلت مني
وقالت فاتت وهي تجلس : يبدو عليكما التأهل للخروج
وكاد لساني أن يتفوه حتى سبقني قائلا : إننا ذاهبان لزيارة الأهرامات ، فما رأيك أن تأتي معنا ، فأعتقد أنها ستكون رحلة ممتعة
فتطلعت لي فاتن بنظرة رجاء راغبة دعوتي ، فتحولت نظراتي الرافضة إليها بضيق وحدة
فنكست رأسها بالأرض ثوان قليلة ثم رفعتها قائلة : كم كنت أتمني مشاركتي رحلتكما الشيقة ، ولكن ينبغي الذهاب إلي عملي فهو لا يتحمل العذر ولا التأخير
فقال أوناس: واأسفاه
قالت بيأس : الفرص القادمة أكثر بمشيئة الله
وابتدي يسرف معها بالحديث حتى كاد الملل يخترق أنفاسي من كلامه اللاذع الي لا يبرش ولا يبري
فنهضت من مجلسي قائلا :هيا يا صديقي حتى لا نضيع اليوم في أشياء تافهة
فظل راسخا في مقعده بل ووضع ساقا علي ساق وقال بكيد : لا تتعجل يا صاحبي فلم ننتهي من تناول الفطور
قلت بنبرة غيظ : اليوم لا يتحمل أي تلكأ وينبغي أن ننفقه في أشياء هامة
فرد بحزم : نحن في فصل الصيف والنهار طويل ، فلا تتعجل الرحيل
قلت بحدة : لا يوجد وقت لعنادك هذا ، وانهض هيا لنخرج
فضحك ثم قال : بل هذا وقت العقاب
ثم التفت إلي فاتن وهو يقول : أيرضيكِ يا فاتن أن يعدني برحلة إلي الأهرامات التي لم أشاهدها منذ ألاف السنيين ، ويتقدم بالتلكؤ كي يشعرني بأنه يمتلك زمام أمري
فتساءلت مندهشة : كيف لم تز الأهرامات منذ ألاف السنيين ؟!
فوجف قلبي وقلت علي الفور : إنه يمزح هكذا دوما ، فهو لم يز الأهرامات منذ خمس سنوات ولكنه يشعر أن عمر الغيبة ألاف السنيين
قالت ضاحكة : لقد صدق عمي حين قال أنك تشبه أخي أسامة في صفات كثيرة ومثيرة ، فحقا الطيور علي أديمها تقع
ثم نظرت في ساعة هاتفها الجوال وقالت : لقد تأخرت علي العمل وينبغي أن أقول أراكم علي خير في المساء
وأومأ لها أوناس تحية وداع وهو يقول : إلي اللقاء يا سمراء النيل
وما زالت مداعبته لفاتن متتابعة ، كأن ما أخبرته به لم يؤثر في عقله ولا قلبه ، فيبدو الأمل يطرق بابه من جديد ، وربما علي هذا الوضع سأفكر في المرات القادمة بحيل أخري تبعده عنها حتى أستفيق من هذا القلق الذي يشاب يوما بعد يوم، فأنا أهاب كل الاحتمالات التي قد تجعلني أندم علي مروره في حياتي، وعندما كنا بطريقنا للأهرامات ، شحذ فكري من الأفكار التي تنازعني فإلي أين ستنتهي الأمور معه حينما تنقضي أجازتي ، فوجوده في بيتي بين عائلتي أمر غير واجب وليس مشروع
وفجأة اندفع صوته ، حينما لمح الأهرامات من بعيد ، واعترته فرحة تهلل وجهه الأسمر يصعب وصفها ، ، وما أن بلغنا نحو الأجسام العملاقة ، ابتدي يمر بين الغرف ويعبر الممرات الضيقة كي يتحف ناظره بجماليات أجدادنا السالفين، وكان نفسه طويلا تحمل ما لا تتحمله أنفاسي عند بلوغ المقابر حتى ضاق صدري ولكني تحملت رغم أنفي كل العواقب والضغوط ، لأجل ما أريده
وحينما خرجنا لمواجهة الهواء في الساحة الواسعة ، كانت المفاجأة تنتظرنا عند الهرم الثاني ، المفاجأة التي تسببت في نشوب الخلاف مع مريم ، كانت تنغرس وسط مجموعة من رفاقها الأجانب وعندما لمحني طرف عينيها بادرت نحوي قائلة بحجأ : أسامة ، أخيرا عثرت عليك بمحض الصدفة
قلت : أهلا أوليڨيا كيف أنتِ ؟!
قالت : أنا علي ما يبدو أمامك ، ولكني غاضبة منك
قلت : لماذا ؟!
قالت : اتصلت بك مرات عديدة ولم تجب ، وترددت علي الشركة أكثر من مرة للسؤال عنك
قلت بعد ثوان من التفكير : لقد كنت مريضا ولم أتمكن من الرد علي الهاتف
قالت برقه : حمدا علي سلامتك ، فتبدو الآن علي ما يرام
قلت : الحمد لله ، شكرا لثنائك يا أولي
قالت ضاحكة بتعجب : أولي !! .... جميلة منك هذه الكلمة ، لا أذكر أنك تفوهت بها في المرة السابقة ، ربما كنت تهاب من مشاعر حبيبتك ، ولكني أعذرك ، فغالبا ترغب المرأة الشرقية في امتلاك الرجل
فقلت : لا أعلم ، ولكن الفكر يختلف من امرأة
واستطردت قائلة : ولكني أتمني ألا أعثر عليك بعناء بعد ذلك وأن تجيب دائما علي اتصالي ، ولا تجعل الظروف نجدتك من العتاب
قلت كي أريح بالي من عذلها : أعدك بألا يتكرر هذا مرة أخري
وقالت وهي تلتفت أوناس : ألا تريد معرفتي بصديقك ؟!
فقلت لها : إنه لا يتحدث الإنجليزية
فضحكت وقالت : يبدو أنك لا تذكر أنني تعلمت كثيرا من العربية
فقلت : أخ ..... فلقد نسيت تماما ذلك ، لأنك دائما تتحدثي معي بالإنجليزية
فقالت : أنا دوما أعتز بلغتي القومية
فقدمت كلا منهما للآخر وقال أوناس بلطف : مرحبا يا عزيزتي الشقراء الجميلة
ثم انتحي إلي قائلا : لم أر طيلة عمري فتاة شقراء حسناء كهذه
فقلت له : إنها سائحة لبلدنا ، وأرجو ألا تضايقها بمداعبتك حتى لا تأخذ فكرة قبيحة عنك
وسألت أوليڤيا أوناس فجأة : هل أنت زميل أسامة أم صديقا له ؟
فبادرت بالإجابة وقلت :إن ونيس صديق وزميل من الرتبة الأولي ، كما يعمل مفتش بالآثار ، وعلي درجة عالية من الكفاءة
فضحكت كعادتها وقالت : تشرفت بمعرفتك يا سيد ونيس
فرد أوناس ببسمة رقيقة : زادني أنا شرف معرفتك عزيزتي الحسناء
ثم استطرد قائلا : ما رأيك في أهرام مصرنا الحبيبة ؟!
فقال أوليڤيا : أبنية من الفنون الأثرية العملاقة ، يحدق ناظري إليها ، ليتأمل ويسأل عقلي كيف صنعه المصريون القدماء
وجلسنا في جانب بعيدا عن رمض النهار ، وتوجه أوناس نحوها بالكلام كأنه لا يحدث غيرها ويقول :

فقلت قبل أن يتفوه ويقع في الخطأ: من كثرة القراءة بالمراجع والمجلدات ، فهو كثير القراءة في التاريخ القديم
فقالت مقطبة : آه ..... يبدو أنني مقصرة في دراساتي وأبحاثي ، وهذا ما سيجعلني أحصل علي الماجستير عند سن الخمسين
ولم اكترث بقول أوليڤيا وطلبت من الفرعون أن يستكمل حديثه
فتابع قائلا : يعتبر هرم خوفو جزء من مجموعة معمارية واسعة ، خدمت صحابها ، وخدمت فن العمارة وعقائد الدين وبالتأكيد قد تناسق كل عنصر فيها مع بقية العناصر ويكمل كل جزء منها بقية الأجزاء
فقالت أوليڤيا بإعجاب : إنك تحمل معلومات رائعة ومغمورة حول التاريخ المصري القديم ، ونادرا ما أجد شخصا مثلك
قال الفرعون بلطف : شكرا فتاتي الحسناء ، فأنتِ الأروع والأجمل
وطلبت من أوناس أن يحكي لنا بإسهاب عن عصور الأهرام وتطور بناؤها وشواهد الفن والعمارة فيها ، فتناول الموضوع من البداية ، حيث ابتدي يتحدث عن كل صغيرة وكبيرة في هذه العصور ، وكنا ننصت إليه بتمعن ، وكنت حريصا ألا أسأل أسئلة متفلحسة كعادتي حتى لا تزعم أوليڤيا أنه أكثر مني علما ، ولا أحصل بجانبه علي أى قيمة علمية ، وادعيت المعرفة وتحملت السكوت
ومنحته أوليڤيا إعجابا من كل قلبها علي فكره وثقافته ووسامته كفتي أسمر طويل القامة ، يحمل الملامح التي تجعله فتي لأحلام كل فتاة ، ولم تكترث أوليڤيا بالحديث معي مثلما كانت تهتم بالمرات السابقة ، وربما كان هذا ذكاء من عقلها الباطن الذي قد رأي أوناسصورة أصلية لملامح المصري القديم وانا قد أكون ربما ظلال له ليس له قيمة ، وكان الفرعون أوناس شخصية تمتلك زمام القيادة والصولة الفكرية ، فحينما يجلس إلي الآخرين يكون لديه قدرة علي إدارة الحوار الجذاب الذي يحمل الهدوء النفسي والمعاني الفطرية ، فهذا الرجل الغامض ذو قوة مغناطيسية تجذب أي رجل أو فتاة دون سبب يعرف
وتحدث أوناس حديثا مفصلا عن كل عصر من عصور الأهرام وخصيصا أبو الهول وعند لكلام قد حدث موقف أدي عقبه مباشرة إلي حدث غريب ، حيث كان يجلس بالدنو منا في منطقة متوارية قليلا عشيقان يبدو إنهما في سن المراهقة ، وكانا في وضع يتعارض مع الآداب العامة، فيتداعبا بالهمسات واللمسات الملتهبة التي تجاوزت حدود الأخلاق دون مرعاه لحقوق المكان الذي يجلسا فيه، وكانا علي وشك أن يتلاثما قبلة حارة إلي أن انتبها للمارة والجالسين
فقالت أوليڤيا وهي تنظر لهما بإعجاب : ما أحلي هذا الحب
فرد أوناس بحده : عن أي حب تتحدثين ، هذا يسمي انحلال يتعارض مع الآداب
فقالت : أنت متشدد للغاية يا مستر ونيس
قال أوناس: هذا يتنافي تماما مع قيمنا ومبادئنا
فقالت : وهما يرفضا تلك المبادئ ، ومن حقهما أن يفعلا ما يريدا
وحينذاك اندلف ناحية العاشقين رجل كهولا شحاذا يطلب العون المادي لضيق حاله ، ولا أدري ماذا دار بينهما من حديث قد جعل الشاب الأهوج فز علي الرجل العجوز لينهال عليه ضربا إلي أن سقط أرضا وهو يسبه بأقذع الشتائم ، وكان حدث مخجلا قد أخل بالذوق العام أمام الأجانب الذين مع الأسف قدر لهم رؤية الحادث الفاصح ، وسرعان ما جاءت شرطة السياحة وقضت علي الموقف واصطحبوا الفتي القائم علي النزاع
وقالت أوليڤيا : ما أبشع العنف عند المصريين
فنظرت إليها ممتعضا ثم قلت : نحن عنفاء .... لماذا ؟!
قالت : تعشقون النزاع دائما في أقل المواقف
قال أوناس : نحن الشعب المسالم ، الذي نشهر شعار السلام في أرض الروح دائما
قلت : علي الأقل لم نغتصب أرضا أو نأكل طيرا ليس لنا حق تناوله
قال أوناس : صدقت يا صديقي ، نحن لم نغتصب بلدا أو نهلك أرضا ، رغم أن هذه الأرض احتلت علي مختلف العصور سواء من البطالمة والهكسوس والفري والأشوريين
قلت : هذا غير الحروب التي شهدتها بلدنا في العصر الحديث ، ولم تؤثر في شعبها الطيب ، أو يتطبع بالقسوة والطمع كما تزعمين أوليڤيا
قالت أوليڤيا بخجل من الرد الذي بلغها منا : أنا لا أنتحي الحب الذي يؤدي للحرب ، فحديثي عن العنف الطبيعي الذي لا يحدث في أمور لا تستحق ، وأنا لا أروم العنف ولا الحرب ، وأنا كمواطنة غربية دائمة الرفض لبعض القرارات التي تصدر من الغرب، وأستنكر كثيرا من الحروب التي كتبت بتاريخها منذ مولدها حتى وقتنا هذا ، وأكره من ينهلون الدماء لإشباع غرائزهم
قلت : أنا أتمني أن يأتي يوم تشتبك أيادي العالم بروح واحدة ، وينسي النزاع والحرب والخلافات التي تضرم النيران فى أعشاش الشعوب
قال أوناس : أنا أكره الحرب وأتمنى بزيارة السلام لكل دول العالم
فردت أوليفيا : لا أحد يحب الحرب يا صديقي الأسمر ، لكن البشر يقدسوا الطمع ، ولا يرضوا بالقناعة
فالتفت أوناس حوله وهو يشاور حول صخرة كبيرة ويقول : تعرفان .... إنني أود الصعود لهذه الصخرة وأعلن دعوتي للحب والسلام أمام الناس
فقلت سريعا : أمجنون أنت .... إياك أن تصنع ذلك
قال : لماذا فأنا سأدعو بإطالة عمر الأرض بالسلام
قالت أوليڤيا : صدقت حقا ، فالسلام هو مَن يمد عمر الأرض ويجعلها أطول عمرا وعمارا
قلت : ابتعد عن فكرتك هذه كي لا تتعرض للضحك والكلام
قالت أوليفيا: لا تدثر أمنيته يا أسامة ، واجعله يصنع ما يريده ما دام لا يضر
وشدته من يده واندلفت به ليصعدا الصخرة الموعودة ليعلن حلمه أمام البشر ثم صاح :
أيها الناس..... أنا أحب ..... أنا أعشق
ladies and gentle men ...... I love ..... I adore : وترجمت أوليڤيا
وصاح أوناس : أعشق الأمان ...... أقدس السلام
Adore safety ……… Holy peace : ورددت أوليڨيا
وصاح أوناس مرة أخري : أحلم بالتعاون والتسامح ..... وأدعو للخير والحب
Dream of cooperation and tolerance ورددت أوليفيا :
…. I pray for good and love
وأتم أوناس دعوته بقوله : ولا أحب الحرب ولا المعارك
فقالت أوليڤيا وهي تطرح قبعتها بحماس في الهواء :
I do not like war and battles
وكان يضحك عليهما المارة أثناء صياحهما المجنون ، وكنت خجولا من فعلهما الطائش ، وحاولت السيطرة علي الموقف لكني فشلت ، ولكن سرعان ما شاطر موقفهم الجرئ بعض من الناس التي تجمهرت حولهما وهما يرددان الكلام الذي قد طفح من أعماقهما إلي أفئدة الناس الذين بدأوا يرددون معهما الكلام بكل حماس واقتناع:
نحن نحب. نحن نعشق
نعشق الأمان. نقدس السلام
نحلم بالتعاون والتسامح
وندعو للخير والحب
ونستنكر الحرب والمعارك
وكنت أضحك أثناء الصياح الجماعي ، ولم يكن ضحكي بهدف التهكم عليهم ، وإنما من كثرة بسالتهم الواضحة أمام الصورة ، وابتدت كاميرات المحمول تصور هذا الموقف النادر الحدوث حتى زعمت أن هذا الفيديو سيذاع في وسائل الإعلام أو سيتداول عبر صفحات الفيس بوك ، فهذه هي الأرض تستسلم ، والألسنة تدعو ، والقلوب تحام
ولمحت أن من صفات أوليفيا ما تحمله الفتاة الشرقية ، فالسنوات التي قضيتها بمصر جعلتها تتشرب بعض القيم والعادات الشرقية ، فما كانت ترويه دائما عن نفسها وحياتها الخاصة يجعلاني لا أظن أنها كمثل الغربيات اللاتي يرغبن مضاجعات الفراش ، حيث كانت صداقتها للرجال لا تتجاوز الجسد ، ودوما كانت تقول جسدي لمن أعشقه الحب الأبدي، ولكن قد ابتدي القلق يدور بقلبي حينما. رأيت اهتمامها بأوناس يزداد بطريقة مباشرة كأنها تمهد إلي علاقة خاصة لا أدري وصفها

الفصل الثامن

كانت فاتن علي وشك الانتهاء من اعداد العشاء ، فسحبت الفرعون إلي حجرتي ليستريح هنيهة حتى ينتهي الطعام ، ولمحت أن البيت خالي من صوت والدتي فبادرت إلي فاتن وسألتها عن سبب غيابها
فقالت برثاء : أخيرا تذكرت والدتك
قلت وأنا أمسح رأسي : لقد أخذني الحديث مع صاحبي حتى نسيت نفسي
قالت بمراوغة : لاحظت أنك تحبه كثيرا ، فلم أر بحياتي اهتماما منك لصديق مثل هذا
فأخذت نفسا طويلا وقلت : أما تخبريني أين أمي ؟! ....
فتنهدت قائلة : إنها عند خالتك منذ يومين
فتساءلت مندهشا : لماذا .... أخالتي مريضة ؟!
قالت : نعم .... لقد أجرى الأطباء لها عملية بالقلب
آنذاك تسلل قليل من البشائر إلي قلبي رغم سقم خالتي واكتراثي لعلتها ،فغياب والدتي عن البيت هذه الفترة سيرحمني من اضطهادها وأوامرها وأسئلتها المستريبة حول تواجد الفرعون بمنزلنا
وقلت وأنا أدعي الحزن علي خالتي : لا حول ولا قوة إلا بالله ، أدعو الله أن يتم شفاها وتسترد صحتها ، ولكن .... متى ستعود للمنزل ؟!
فقالت فاتن : ربما أسبوع أو أكثر
فهمست في صدري قائلا : فعلت خير لتركها المنزل
وكأن فاتن سمعت همسي فاستطردت قائلة : ماذا تقول يا أسامة ؟! ..... أيفرحك غياب والدتك عن البيت ؟!
قلت مبررا كلامي : أقصد أن واجب عليها ترك البيت في مثل هذه الظروف ، فلا ينبغي أن ترك خالتي وهى في شدتها هذه ، وربما قد تسنح لها الفرصة بتغيير جو بعيد عنا
فزجرتنى قائلة : لم يفهمك أحد غيري يا أسامة ، فلا يهمك إلا راحتك ، ولكنى أراها فرصة كي تستريح منك خصيصا
قلت بمراوغة : وربما قد تستريح منك أنتِ
فقالت بسخرية : ربما أنت علي حق
واستطردت قائلا: وهل أنتِ تنامين الليل وحدك ؟!
قالت : نعم
قلت : كيف ذلك ؟ .... فلماذا لا تنامين ليلا في بيت عمك مع مريم ؟
فضحكت قائلة : لم أصادف عفريتا ولا لصا كي أهجر المنزل
قلت : ولكني أقترح أن تبقي هذه الأيام عند عمك
فتساءلت مندهشة : لماذا ؟!
قلت : صديقي ونيس سيلبث عندنا بضع أيام
فتساءلت مندهشة : وكم تحديدا المدة التي سيقضيها هنا ؟! ...
قلت : لا أعلم
قالت مندهشة : كيف ذلك ؟
قلت : قد تطول المدة....
قالت : حسنا ..... سأترك البيت ليأخذ راحته رغم أنني لا أستريح إلا بفراشي ولكن اكرام الضيف واجب
قلت : أشكرك يا أختي الجميلة
فقالت مبتسمة : لكن لا تنس الذهاب لخالتك المريضة
قلت : اطمئني ... سأقوم بزيارتها بأدنى وقت ممكن
وأثناء الحديث كانت قد انتهت من طهي الطعام وبدأت أساعدها في إعداده علي طاولة العشاء ، ووقتئذ كانت الساعة قد دنت للتاسعة مساء ، فدعوت الفرعون للعشاء ، وجلسنا إلي المائدة لنتناول ألوان من الطعام التي لا أذكرها ، وكان الفرعون فاتح الشهية يتهالك علي الطعام مثلما أتهالك علي المعلومات ، ولم يتطلع الفرعون علي أسلوب تناولنا للطعام ، ولا طريقة نبذنا للشوك والسكين حتى فاتن كانت تحدق باندهاش مستريب نحو تصرفاته الفطرية البدائية ، فكانت أصابعه تنغرس في الأطباق بإسلوب جنوني فضولي يثير العجب ولن ينبس بأي جملة إثر تناوله للطعام سوى " ما أحلي طعامك يا فاتن وما أشهاه "
وفجأة دق جرس الباب فاختلج قلبي خشية من كون والدتي الطارقة فوضعت مضطربا يدي علي قلبي حتي فتحت فاتن الباب
وسمعت صوت عمي يقول : شممت رائحة طعام ذكية فقلت لا بد أن أحظى بنصيب منه
فتوجهت سريعا للخارج ربما لا أمنحه فرصة الدخول إلي الفرعون والاختلاط معه بحديث ليس له معني قد يجعل عمى تطوف به هواجس تؤدي ليرتاب بشخصه ، وتزداد أسئلته ونفسي لا تحتمل ذلك.
فرحبت بعمى ترحيبا هادئا يخلو من رغبتي لمجالسته لذلك كان علي وشك الذهاب إلا أن فاتن صاحت قائلة : تفضل يا عمى للعشاء معنا فلقد اشتهيت طعاما تشتهيه كثيرا
فقال : معدتي لا تحتمل الطعام هذه الليلة
قالت : يستحيل يا عمى أن تذهب والمائدة جاهزة
فضحك قائلا : مرة أخرى يا حبيبتي سأجئ خصيصا لأجل طعامك المميز اللذيذ
لكن فاتن أصرت علي مشاركته في العشاء ورغم رفضه لكثرة مبرراته وأعذاره ، كانت فاتن تمتلك أسلوب رائع في إقناع الآخرين وانحناؤهم لرغباتها ، حيث كان عقلها يستخدم كلاما قد يجعل الكلب حليفا للقط دون مناوشته وشن الحرب عليه ، وانغرس الضيق بصدري حينما استجاب عمي لدعوته لوجبة العشاء
كما أخذتني جنبا وقالت : اذهب إلي مريم وادعوها للعشاء ربما هي تنتظر عمي
فقلت بحدة : أنتي من جعلتيها تنتظر ، فاذهبي إليها أنت
قالت فاتن : أما زلت غاضبا معها ؟! ....
فتساءلت عابسا : أقالت لك عما حدث؟! ...
فأومأت برأسها قائلة : نعم
قلت : وطبعا كعادتك وستقولين أنا المخطئ
فقالت : هذه المرة لست مخطئا يا أسامة ، فالغيرة هي من أخطأت
فقلت مندهشا : الغيرة !!! ..... أ مريم تغر عليَّ ؟! ...
قالت : أجل .... الإنسان عندما يحب حبا جما يرغب في امتلاك مَن يحبه ، وتضجر نفسه حينما يري محبوبه يمنح اهتمامه لطرف أخر ، هذا هو الإنسان يا أسامة حينما يحب قد يتألم
قلت : ولكنها أعلنت غضبها ولم تتغلب عليه حتى قدرت صفونا وفسدت جلستنا
قالت فاتن : هذا شئ يسعدك فيتوجب عليك مراعاة شعورها وتقدير رد فعلها ، هي لم تتحمل الصمود أمام فتاة أخري ترواغك وتناقشك ، وأنت تعلم أنها شخصية عنيدة ولكنها رقيقة المشاعر ومتسامحة إلي مدى بعيد وتلتمس العذر لكل الناس
واندفع عمى من باب الحديث فجأة قائلا : هيا يا شباب فلقد استطال انتظارنا علي الطعام
وفي هذه الثانية تذكرت أوناس فتوجهت مسرعا للمائدة فوجدته مستوقفا عن تناول الطعام الذي من قبيل فترة كان متهالكا عليه
وصاح عمى مرة ثانية : هيا يا أسامة لنأكل فلا يصح أن تترك السيد ونيس جائعا كل هذا الوقت وتهمهم مع فاتن عند الباب
فقلت لعمي : أتعارفتما بهذه السرعة ؟! ...
قال عمي : نعم.... فهو يبدو لطيفا جدا
فقلت : حسنا .... فاستكملا طعامكما حتى أعود بمريم للعشاء معنا
وانصرفت الي مريم وأنا مصطك القلب كأنني أهاب بانفجارها بغتة في وجهي ، كنت أشعر بانحناء أطرافي عند دق جرس الباب ، حتى خدعتني دقه علي غيلة ، واصطدمت برؤيتي حين فتحت ، وكانت معالم البرود تسبق خطاها عند عتبة الباب فقلت لها
_ يسعد مساك يا مريم
فقالت عابسة : أهلا ...... إن كنت تريد عمك فليس هنا
قلت : لا يا مريم .. .. إن عمى عندنا ، لكني هنا لأجلك
قالت : لماذا ؟! ....
قلت : جئت لأدعوك للعشاء معنا
فابتسمت بمكر قائلة : لم أبق جائعة كي أنتظر عشاءك
قلت : يا مريم حاولي أن تنسي ما حدث بيننا ، ولا دعي لصنع مشاكل علي أمور تافهة لا تستحق الاهتمام
فقالت بغضب: أنا لا أرغب الحديث في هذا الموضوع مرة ثانية ، فلك شأنك ولي شأني ..... وانتهى الكلام بيننا ، فلا شئ من اليوم يجمعنا
وأوصدت الباب بحدة ، فهبطت الدرج وأنفاسي تتمزق من أسلوب حوارها الناضب ، فقررت بدخيلتي أن أرجأ أمرها إلي وقت ملائم ، حتى تهدأ روحها الثائرة
وحينما بلغت عقب بابي ، سمعت صوت الضحك مرتفعا ، وما أن دنوت حتى تفاجأت بعمى مختار وفاتن يعلمان أوناس كيف ينبذ الشوك والسكين
فقلت مندهشا : ماذا تصنع يا عمي؟!
فقال عمي ضاحكا : صديقك يا أسامة ، يدعي أنه يجهل أكل الطعام بالشوك والسكين
فقلت علي الفور مبررا الموقف : إن صاحبي لا يستطيع تناول الطعام إلا بيديه
وتساءلت فاتن فجأة : أين سماح ...... لماذا لم تأتي معك ؟!......
قلت بعد تفكير قليل : قالت أنها مرهقة وتريد النوم
فرد عمي بحيرة : لماذا ؟! ......... فهي دائما تعشق السهر
قلت : ربما هذه رغبتها اليوم يا عمي
واستأنفنا سريعا الطعام في هدوء بعيدا عن المراوغة التي حدثت منذ بداية وضع المائدة ، لكن الحديث الجاد لم ينقطع حينما طفق أوناس يتكلم عن الطعام المصري القديم وكيفية طهيه خصيصا في المراسم والأعياد حتى قال لي عمى مختار
- أعتقد يا أسامة إن صديقك نسخة طبق الأصل منك
وقالت فاتن علي الفور : فعلا يا عمي ، فكنت أيضا علي وشك قول ذلك ؟! ....
فقال أوناس بلطف : أسامة صديقي ، ويشرفني أن يكون مثلا اقتدى به
فضحك عمي وقال : لا تنغر بنفسك يا أسامة فهو يجاملك
فقلت : أنا أعتبر مجاملته ذوقا رفيعا يا عمي ، أشكره عليه
وانتهى الكلام عقب انتهاء الطعام وفارقنا عمي بعد تناول قهوته المفصلة ، ومكثت فاتن فترة وجيزة لتنظف أواني الطعام ، ثم صعدت للنوم مع مريم ، وقبيل النوم اصطحبت الفرعون للحمام ليستحم وينجلي عنه قشفه الذي لصق علي جسده آلاف السنيين ثم أقبلنا علي النوم مثقلين بالتعب والإرهاق

الفصل التاسع

استيقظت في صباح اليوم التالي ، وتركت أوناس نائما حتى يصحو في تراخ ، وكان أول ما صنعته هو أني أبلغت تليفونيا عن أجازة عارضة من الشركة حتى يخلو عقلي إلي حديث أوناس، ثم توجهت إلي المطبخ لأعد الإفطار وكانت هذه المرة الأولي والوحيدة التي أدخلت فيها مطبخا ومع ذلك نجحت في إعداد الطعام .
ولما صحا أوناس تناولنا الفطور ، واعتكفنا بالبيت نتصابح بالحديث حول كل ما هو قديم ، وكان أوناس متلكئ وغير مسرف في حديثه ، ولما تبين عجلتي علي استماعه أكثر من اللازم ، قال في حرص شديد : اطمئن ، ولا تتعجل هكذا ..... فسوف أقص لك بإفراط عن كل ما تريد
فقلت بطمع : رغبتي ليست لها حدوداً ، فأنا أريد المعرفة إلي ما لا نهاية
فقال بضحكة عريضة : القناعة كنز ، والقليل يطرح البركة
ثم تلفت إلي كل ركن حوله واستطرد : ألا يوجد أحد غيرنا بالمنزل
فقلت بغير اكتراث : لا
فقال : ومن أعد لنا الإفطار ؟! .....
قلت : أنا ...... ألم يعجبك ؟! ....
قال : بالعكس ..... كان طعام لذيذا ، ولكن شقيقتك طعامها أشهى
قلت بضجر : سوف أجعلها تطهو بنفسها في المرة القادمة
فاستطرد قائلا : وأين هي الآن ؟! ....
قلت : في العمل
قال : وأين تعمل ؟! ....
قلت : في مجال الكيمياء
وتابع أسئلته : متي ستعود من العمل ؟! ....
فكتمت غضبي وسلته : لماذا تسال عنها ؟! ....
فقال مبررا تساؤلاته : خشيت أن تكون مريضة .... كما أيضا أود شكرها علي طعامها الشهي ليلة البارحة
قلت وأنا أتمالك صبري : لا تعتني بأمرها واهتم بشأنك فقط
فقال أوناس متعلثما : ماذا تعني بردك هذا ؟! ....
قلت : أي لا تهتم بأي شخص أخر ... فلقد أتيت بك هنا لأجلي ، وليس لأجل الأخرين
فقال أوناس: أنت تتصرف بطريقة أنانية لا أحتملها ...... فأنا بطبيعتي كائن اجتماعي لا أستطيع عيش حياة منبوذة عن الأخرين
قلت : قبل ذلك كنت كائن انفرادي
قال : لأني عشت بعالم أخر لا أدرك له زمان ولا مكان ...... كنت كطفل في بطن أمه لا يعي وجوده
ثم استطرد قائلا : لا تزعم أنك قد ملكتني ، فأنا شخص حر يمتلك كل سمات الحرية ، وإن كنت أنساق وراء أفعالك ، فهذا ليس معناه فرض شخصيتك عليَّ
ووقتئذ شعرت بنبرته الحادة تحمل شيئا من الغضب فقلت له : أنت رجل تحترم ، ولا تقدر بثمن ، فشخصك الفريد يرغب بامتلاكه أي شخص في العالم ، فأي شخص يتمني امتلاك قيمة أثرية نادرة ولحسن حظي ، قد أحظيت بذلك فأنت تحفة أثرية ثمينة ونادرة ، لا أرغب أحد مشاركتي فيها ، لذلك فكل ما صنعته كان من فرحة تشبثي بك ، وإن جعلك هذا تضجر مني ، فأنا سأتقاعس عنه وأعتذر عن كل ما صدر نحوك
فقال أوناس: لم أعتاد علي الغضب من البشر ، وقلبي دائما يبرر أفعالهم حتي لا يثوى بقلبي الكره نحوهم
وساعتئذ اتضح لي من كلامه أن عقله ناضج وقلبه أبيض وروحه واسعة تحتضن الجميع بالحب والسلام ، وبفكره الواعي دائما يستخدم الظنون الإيجابية حيث لا يبطش بأحد ، وتباينت من كلامه أنه يحاول إقامة جدار صلد بينه وبين تصرفات الناس حتى لا تتوتر أواصر العلاقات وتبقى وطيدة
ولم يطول الحديث عن نفسه حيث استطرد في موضوع أخر قائلا : أحس اليوم أنني في حياة
l الإنسان الآن صورة مختلفة ونائية عن صورة الماضي

ولم يستكمل كلامه حينما رأي فتاة دميمة الصورة تقف في شرفة البيت الذي قبالنا وحينما انتبهت بأننا نطل عليها بأنظارنا ابتسمت واختفت من أمامنا
فساءلت أوناس متعجبا لنظرة لتلك الفتاة : أعجبتك ؟! ...
قال متهكما : أحلي قليلا من البومة
فتساءلت متعجبا مرة أخري : ولماذا أطالت النظر عليها ؟! ....
فرد أوناس: تشبه كثيرا زوجة والدي . .... كأنها هي
قلت : كلامك يدل علي أن هذه الفتاة ربما ستتزوج يوما
فقال وهو يومأ بإصبعه : ستتزوج في حالة واحدة فقط
فتساءلت بدهشة : وما هي هذه الحالة ؟!
قال : إن جاءها رجل ضعيف البصر كمثل والدي
فضحكت طويلا وتذكرت ما كانت تصنعه هذه الفتاة معي في السنوات الماضية، حيث كانت تقف قبالي في نفس الشرفة بالساعات وهي ترتدي أفخر الثياب ، وتداعب شعرها المموج حتى تلفت انتباهي ، كما كانت تقتفيني بأماكن كثيرة حتى لم تعرض عن مطاردتي في بيتي بحجة رؤيتها لفاتن
وأنا لم أدعي يوما حبها لي ، لأن الزواج هو رغبتها الوحيدة في الحياة حتى إن كان من أي رجل كي تتخلص من عنزتها التي تعوق سبيلها ، ولسوء حظي كنت أنا من أتصدر قائمة مَن ترغبهم ، لذا طفقت طويلا محاولة إيقاعي في جوفها ، ولما كنت أراها أستعيذ بالله في سري وليس علي وجهها الدميم المنفر بقدر ماهو علي عقلها الأخرق الذي لا يحمل شيئا من ثقافات الحياة وكان ما يثير التعجب أن اسمها " جميلة " وربما صدق المثل الذي قال " القرد في عين أمه غزال " ولكني حمدت الله حين اقتلعت عن مطاردتي حينما ارتبطت بمريم ......
وزعمت أنها ستنبط مرة ثانية في الشرفة بالشكل المألوف التي كانت تبدو به أمامي ، خصوصا أنها رأت رجلا وسيما يجذب أنظار الفتيات يجالسني ، قد يزرع بداخلها أملا جديدا ينشلها من بئر الحرمان التي تعاني فيه من الجفاء ، ولم يخيب ظني ، فلم يمضي ربع من الساعة حتى بدت في الشرفة مرة ثانية بثياب أبهي من السابقة ، وابتدت تصوب نحو أوناس بنظرات إعجاب وهي تبتسم وتداعب خصلات شعرها وتحرك أهدابها
فقلت لأوناس بسخرية : بشري يا صديقي ربما تكون زوجا في القريب
فقال : أمين ....... لكن من هذه العروس التي سأحظى بها
فأومأت إليها بعيني وقلت : هذه الفتاه التي تحدق فيك
فقال في هلع : أعوذ بالله فهذه من بلاء الزمان وليست عروسا ، فبرب أدم لو وهبوني المال والجاه نظير زواجها ما قبلت
فقلت : إن كان شكلها قبيحا ، فيمكن أن تكون خفيفة الظل والروح معا ، وهذا يكفي لتكون زوجة
فقال أوناس : لا أظن ، فيبدو أنها فتاة تتجسد في صورة الكوارث والزلازل والبراكين ، ولا أزعم أنها رقيقة الحس ومرهفة المشاعر
فنظرت إليها مرة أخري لأقتفي تعبيرات وجهها وقلت : انظر إليها يبدو أنها تلوح إليك
فلم يحتمل النظر إليها ونهض من مكانه متجها للجلوس في جانب أخر وطفقنا نراوغ بعض علي عذراء الحب البائسة
بعد قليل جاء عمي حاملا بين يديه علبه الشطرنج ، فعلمت أن اليوم سينصرم دون جدوى أو فائدة ، فعمي عندما يلعب الشطرنج ينسي نفسه ، ولا يهتم بسأم الآخرين ، فممكن أن يظل طوال اليوم أمام لعبته المفضلة دون أن يمل.......
ولما رأي أوناس اللعبة قال : إنها لعبة السنت كثيرا ما كنت ألعبها مع رفاقي في الماضي
فقال عمي مختار : السنت! ..... تقصد لعبة الشطرنج
فقال الفرعون : أنا لا أعرف الشطرنج هذا فهذه لعبة تسمي لعبة السنت
فقال عمي : ماذا تقول يا بني ..... فمن أين أتيت بهذه الكلمة ؟! ....
فقلت سريعا حتى لا ينصاع الأمر : إن كلمة السنت يا عمي كانت تطلق علي لعبة الشطرنج في العصور الفرعونية
فقال عمي ضاحكا : يبدو أنك وصديقك شخص واحد
فقلت له : أجل يا عمي ، فإنه كثيرا يستخدم مثلي ، يستخدم المصطلحات الفرعونية أثناء حديثه
فقال عمي : لا يعنيني أن اللعبة اسمها " الشطرنج " أم السنت " المهم أن نلعبها
ثم دعا الفرعون للعب معه فتقبل دعوته وابتدي الاثنان يتبادلان اللعب ، وبعد قليل صارت المنافسة قوية بينهما واستمر الحوار العقلي الصامت لكل منهما يمضي في سبيله حتى يبلغ إلي غايته
وكنت جالسا معها رغم أنفي ، فأنا لا أحب لعبة الشطرنج ولا مشاهدة لعبها ، فقد كانت جلستي خوفا من أن تنشب صداقة بين الفرعون وعمي ، ويكون للفرعون " أوناس " رفيقان بدلا من رفيق واحد .
وطال الوقت ولم يسأم أحدهما من كثرة اللعب كما لم يسترعي أحد وجودي ،حتى الفرعون قد حشد كل اهتمامه تجاه الشطرنج أو كما يقول " السنت " ونساني تقريبا ونسي ما يريد معرفته وما أريده معرفته عن الماضي والحاضر
وادعيت التبرم حتى يحفل عمي بحالي فينصرف إلي شأنه ولكنه لم يرتدع عن لعبه ، ووقتئذ أحسست من الصعب إنهاء الأمر بسهولة ، فاستعوضت الله علي هذا اليوم ، وانصرم بطريقة روتينية كأي يوم عادي
في اليوم التالي أجلست أوناس رغم أنفه ليقص لي عن الموضوعات التي أريد ضرب آباطها ، فلقد كفاني منه ما حدث في البارحة ، ورأي أنني محقا في لومي وقدر شعوري ،فجلس أمامي كالمعلم المساند لتلميذه الذي يتحكم فيه ، وكان كل ما ينال عنايتي هو معرفة الكثير عن عقائد الدين والآخرة فطلبت منه أن يحدثني فقال عن الديانة المصرية القديمة
-
رتبطون بألوهية الشمس بسبب صريح أو ضمني وإن تغيرت أسماءهم من عصر لعصر
وفجأة دق جرس التليفون فنهضت للرد عليه وعندما رفعت السماعة ولما سألت عن المتصل كان صوت زميلي طارق يقول :
- نعم يا أسامة ..... كيف أنت ؟! ....
قلت : الحمد لله ، أنا بخير
فقال : كيف حال صحتك فقلد أدركت بالعمل اليوم أنك مريضا وقد أخذت أجازة
فقلت كاذبا : نعم .... فأنا مريض ، قد نال البرد مني ليلة أمس ، وصدري يتمزق قليلا
فقال طارق : سلامتك يا صاحبي ، سوف أجئ أنا وبعض الزملاء لزيارتك لنطمئن عليك
فقلت سريعا بلهجة اضطراب : شكرا يا صديقي ، لا أرغب تعطياكم عن العمل ، فالأمر لا يستحق ، فعلتي ليست كبيرة
قال طارق : لا يصح يا صاحبي ، فهذا واجب علينا
قلت له : إنها أزمة برد بسيطة لا تستحق القلق والاهتمام
فقال طارق : أنا أعلم أنك مريت بأزمات برد كثيرة ، ولم تؤثر في إقدامك علي العمل
وعند محادثتي معه عادت فاتن إلي المنزل وابتدت نظراتي تتسلل نحوها ، حين تلقاها أوناس بلسان يسرب لحونا عذبة ، وانصرفت عما كان يتحدث به طارق عندما سمعت الفرعون يقول لها : لو كانت لي قرينة علي قدر كبير من الجمال مثلك لما طرحتها للعمل ، ونظرات الرجال إلي جمالها
فحانت منها نظرة إعجاب وقالت : إذن ... فأنت غير متزوج
فقال: أجل ..... فقد كنت مضربا عن الزواج ، ولكن ابتديت التفكير فيه حينما رأيتك
فنصل وجهها ووضعت عينيها في الأرض من الخجل وفي ثغرها ابتسامة رضا عن أقواله
وفي الحق كنت في الهاتف أتحدث ولا أتحدث لا أدري ما أسمع ولا أدرك ما أقول لانزعاجي من هذا الموقف المستفز الذي أتعقبه لأناظر حديث عينهما الباطن وأنصت إلي حديثهما المسموع الظاهر ، ثم استعادت وعي عندما سمعت صوتا مزعجا كاد أن يثقب أذني يقول : ألو ....... ألا تسمعني يا أسامة .... أين ذهبت؟ ...
قلت علي الفور : نعم يا طارق ماذا تقول ؟!
قال حائرا : كدت أجن منك يا أسامة ، أشعر بأني أحدث نفسي ، ولكني كنت أقول لماذا أخذت أجازة إن كان مرضك بسيطا
قلت بعد تفكير : أنا أحتاج فترة أريح فيها جسدي وأعصابي من أعباء العمل
فضحك وقال متهكما : أسامة الذي كان يعمل بإقدام يطلب أجازة ليستريح ، لا فلا أعتقد أن هذا سببا ، يلوح لي أنك تخفي سرا
فقلت مخفقا القلب : ليس هنالك سر ولا غيرة ، فما في الأمر دون أنني مرهق من أعباء العمل وأريد فترة راحة لأسترد فيها نشاطي
فراوغني كعادته وقال: شئ بداخلي يقول أنك أخذت أجازة لتنفقها بمتعة مع خطيبتك
فضاق صدري الذي لا يحتمل مراوغته ، حيث كنت مثابر النظر إلي فاتن وأوناسوالإنصات إلي حديثهما المتواصل وقررت بأي وسيلة إنهاء المحادثة مع طارق
فقلت لطارق حانقا : لابد أنني شغلتك عن العمل يا صاحبي وأوقفتك بسبب السؤال عن صحتي
فقال طارق : لا تقل هذا يا صديقي ، فاقد وحشتني كثيرا
واستطردت قائلا بعد تفكير : أزعم أن اتصالك من الشركة .... أليس كذلك ؟!
قال طارق : كيف علمت ؟!
قلت : لأن ببساطة مكالمتك علي الهاتف النقال لا تستغرق أكثر من خمس دقائق ، وهذه المكالمة قد استطالت لأنك تتكلم من هواتف الشركة دون نظير ، إذن فهيا يا صاحبي إغلق التليفون وودع الاستغلالية حتي ولو لفترة مؤقتة
فضحك قائلا : حسنا يا صديقي سأنهي المكالمة ، حتى لا أسمع درسا في الإنتهازية والمبادئ ، لكني أذكرك بزيارتي كما قلت لك ..... إلي اللقاء
وأنهي المكالمة دون أن ينتظر ردي
واتخذت في قراره نفسي التريث علي تصرفات أوناس مع فاتن وأن أقتفي أمره من بعيد إلي أن ينغرس الهدوء في نفسي وينقشع الشك عن قلبي وتتصدر الثقة قوائم روحي ، فكنت خاشيا أن يصبح الحب همزة وصل بينهما ووقتها تتهرب من يدي زمام الأمور وأفشل في سد الفجوة العميقة التي سيحفرها قلبهما ، لأن سلطان الحب يتحكم بمملكة القلوب ، ولذلك قررت ألا أمنحه الفرصة ليغتصب عرش قلبها
فتوجهت إلي فاتن قائلا لها : ما سبب زيارتك المفاجئة ؟!
فقالت بازدراء : بشرى يا أخي ، فسوف تأكل مجانا هذه الليلة
قلت : لا أفهم شيئا
قالت : عمي يدعوكما لوجبة العشاء
قلت علي الفور : لا دعي لعزومته هذه ، فنحن سنتناول هنا ، فأعدي لنا الطعام كعادتك
فقالت وهي تنظر للفرعون : هذه الدعوة موجهة لصديقك ونيس وهو الذي له الحق في الرفض أو القبول
فقال في الحال : أنا موافق بالطبع ، فلا يجوز رفض دعوة عمك
وابتدي ينظر في عينيها وهو يقول : فلقد أحببت عمك كثيرا ، ولقد عشقت جلسته
فقالت له وهي تبتسم : وهو كذلك يبدو أنه أحبك وارتاح إليك كثيرا
فاستفزتني بميلها للحديث معه فقلت بصوت عال : أعتقد يا فاتن أن عمي ليس فقط الذي يحبه ، أليس كذلك ؟!
فتباينت ما أقصده من كلامي ، فشحب وجهها ، ونهضت بحجة انشغالها بشئ ، وتركتنا وهي ينتابها قليل من الخجل
ونهض أوناس وراءها وهو يقول : هيا للعشاء
فحلقت عليه وقلت : انتظر ، فباقي علي العشاء خمس ساعات ، فهيا لنستكمل حديثنا حول الديانة المصرية القديمة
فجلس رغم أنفه وهو يقول : إلي أين توقفنا ؟!
قدسة ورسل سماوية أبلغتكم رسالة التوحيد
وقطعنا الحديث حيث كانت درجة الحرارة عالية فانتقل إلي الشرفة وذهبت للمطبخ لأحضر كوبين من العصير ولم ألبث دقيقتين بالمطبخ حتى تفاجأت بأوناس قد بادر إليّ وهو يقول : ألحقني يا أسامة
فقلت مروعا : ماذا حدث ؟!
قال ا: الفتاه ...... الفتاه الدميمة .... المجنونة التي نراها دائما في الشرفة
فقلت : ماذا حدث لها ..... أماتت ؟!
قال الفرعون : لا
قلت : أتتنازع مع أحد بالشارع ؟!
قال الفرعون : لا
قلت حائرا : لقد تلبطت في أمرها وأمرك ، فماذا حدث ؟!
فقال وهو يناولني ورقة بيضاء متقوقعة : أنها قذفت لي هذي الورقة وهي تغمز بعينيها
فأخذت نفسا طويلا من الهلع الذي انتابني ، وفتحت الورقة فرأيتها تضمن حروفا غرامية رسمت بمللمح الشجن والحب العذري نحو الفرعون كأنها هائمة في غرامه من سنين ، وفي أخر السطور لم تكتفي بالتعبير عن مشاعرها فقط ، فلقد قادتها شجاعتها أن تعطيه ميعادا بإحدى النوادي ، فانفجرت ضحكا من رد فعلها ، فسألني أوناس مستغربا : عما تضحك ، وماذا تحوي هذه الورقة الغريبة الشكل؟!
فقلت : إنها تعترف بحبها لك وتطلب مقابلتك بإحدى الأماكن
فقال: واحظاه ..... فلقد حرمت من الحب سنوات طويلة ، وعندما تأتي فرصتي تكون دميمة بهذا الشكل
فضحكت قائلا : هذا هو نصيبك يا صاحبي
فقرر أن نستكمل حديثنا هنا بالداخل وقال : جلوسي بهذه الحجرة شديدة الرطوبة أرحم من جلوسي بهذه الشرفة قبال فتاة قبيحة كهذه
وجلسنا مرة ثانية لنتناول العصير ونستأنف حديثنا الشيق مرة أخري
وقل

الفصل العاشر

في المساء التقينا حول المائدة ، وابتدى عمى يروى عن أعماله في شركة الري ، وعن ذكرياته الماضية مع والدي أثناء طفولتهما بالفيوم ، وعما كان يصنع فيه من مواقف ومقالب طريفة فكانت الأصوات تعلو ضحكا ، والأذان تصغي لسماعه ، أما مريم فكانت في عالم غير عالمها المألوف ، حيث لا تسرج شفاها بالبسمة المشرقة التي نعتاد صدورها منها ، ولأجل ذاك ترددت كثيرا في الحضور ولكن ما باليد حيلة فقرار أوناس كان الأول والأخير وأنا صاحب الانقياد، وفي لحظتي شعرت بأفكاري تتبعثر وفكري يعجز عن حل أرضيها به حينذاك ، لأني علي يقين أن عقول النساء لا تختلف كثيرا عن عقول الأطفال . ونفسي لا تحتمل ذلك الوجه المشمئز ولا تلك النظرات العابسة خلف الجفون ، فغرست فكري كله في طبق المحشي حتى ألتزم بثباتي النفسي
بعد العشاء توجهنا إلي غرفة الضيافة لنتناول الشاي ونستكمل حديثنا الممتع وما أن جلست فاتن ، حتى هم الفرعون للجلوس بجانبها، وابتدت النظرات تتبادل والهمسات تزداد والحوارات تدور بينهما ، فصرت متبرما وحاولت أن أبتلع ضيقي حتى لا يبدو شي أمام الجالسين
وفجأة قال عمي : لا اذكر يا أسامة طيلة عمري انك أخذت أجازة من عملك ، وأنت يزداد إقدامك علي العمل يوم بعد يوم
قلت : أحيانا تستدعي الظروف ذلك يا عمي ، فالسأم من العمل بات يحاصرني وأصبحت نفسي لا تحتمل كل ذلك ،
فقال عمي وهو يقترب نحوي قليلا : لأظن ذلك ، فالحقيقة يبدو أن صديقك عزيز عليك للغاية ويهمك الاهتمام بشأنه ، وربما تتدعي الملل كي لا تخدش شعوره
فادعيت الهدوء وقلت : أجل يا عمي فهو صديقي الأقرب والأغلى ، بل عزيزا علي كل الناس
وتدخلت أخيرا مريم بالحوار وقالت وهي تنظر بتعجرف : ولكن الأستاذ ونيس أراه من الشخصيات المهذبة التي تحترم مشاعر الآخرين
قال أوناسعلي الفور : أشكرك يا عزيزتي مريم
فقلت لها بغيظ : انه مهذب لأنه صديقي ، فأسامة لا يصادق غير المهذبين
فقالت ساخرة : أعلم ..... لكني لا أزعم انه يرافق دوما السائحات الجميلات ذوات العيون الزرقاوات كما يصنع شخص حتى لا يمل من عمله
فرديت علي كلامها الجارح التي تنقحني به : أنا عن نفسي أعشق عملي لدرجة العبادة ، كما أعشق السائحين لأجل ذلك ودوما أتلطف معهم بالحديث كي أكون مرشدا سياحيا ناجحا
وتدخل أوناس قائلا : هذا حقا... ينبغي علي الإنسان دائما حسن التصرف مع الآخرين ، كما أن علاقة الإنسان بالبشر تقوي أواصره الاجتماعية وتكسبه فلسفة جديدة
وسألت مريم : ما رأيك يا أستاذ في إنسان لا يهتم بزوجته أو خطيبته مثلا ، مثلما يهتم بالآخرين
وقال عمي فجأة كأن الحوار يدهشه : ما دعي هذه الأسئلة يا ابنتي ؟!
فقالت : انتظر يا أبي ، فأريد أن أستفهم شيئا من أوناس
قال أوناس : انه لإنسان أحمق فاقد التركيز ، لا يعرف كيف يرتب مهامه ، ويدرك شئون زوجته ، فأن إنسان يقتضي عليه منح شريكة حياته كل ما لديه من حب واهتمام حتى إن بلغت مسئولياته ذروة الشواغل ، فلا ينس أن يمنحها حتى ولو قدر صغير من المشاعر كي تكون سعيدة وواثقة من حبه لها
فسألت أوناس وأنا ناظر إليها بغيظ : وما رأيك في فتاه سريعة الغضب وتثور علي أتفه المواقف مع حبيبها
فقال أوناس : تكون فتاة حمقاء أيضا عقلها كعقل طفل ولا يحتمله أي رجل ، فالرجل منا يحتاج دائما إلي الرعاية والتدليل ولا يعشق النكد ، فهذا السلوك السلبي لم يكن أبدا لصالح المرأة
فقال عمي فجأة : كفوا عن هذا الكلام ، فلقد مللت من هذا الحوار الجاف
فقال أوناس: أنا أراه حديثا شيقا يستحق الاهتمام ، فأنا اعتبر العناد والحماقة والأنانية وقلة التقدير للحب أسباب كافية لفشل أي علاقة بين اثنين
فقالت فاتن وهي تمرر نظراتها بيني وبين مريم : أعتقد أنك أتيت بالخلاصة يا أستاذ ونيس
فسأل عمي : هل أنت متزوج يا ونيس ؟
فقال أوناس: لا
فتساءل عمي مرة ثانية : هل من سبب مادي يمنعك ؟!
قال أوناس: لكني أبحث عن الحب ، الذي ضاع مني سنوات طويلة ، فكنت أبحث في الأرض عن الروح التي صعدت السماء
فقلت : نحن لا نفهم شيئا عما تتحدث ؟!
قال الفرعون : مكتريا حبيبتي ، التي هجرتني وصعدت للسماء اشتياقا لها
فقال مريم بأسف : رحمها الله واسكنها جنته
فاستطرد أوناس: من بعدها وأنا ابحث عن روحها في جسد النساء
قالت فاتن حائرة : وهل تعتقد أنك ستجدها ؟!
فرد عمي : أعتقد لا .... هذا مستحيلا ، فربما يفني عمره كله في البحث عنها ..... فبنسبة ضئيلة أو ربما شبه منعدمة حين يجد الإنسان ملامح كاملة لشخصية في وجه أخر ، كما ليس دوما يتطابق الخيال مع الواقع
فرد أوناس وهو ينظر إلي فاتن : لكن الأمور قد اختلفت معي ، فالحمد للرب ، فتقريبا قد وجدتها بعد سنوات لا تعد ولا تحصي ، وأستجير الرب بأن يجمعني بها للأبد ، فهي الشمس التي تضئ النهار ، والقمر الذي يدلني حين أضل الطريق
فقالت فاتن بعناية : أعتقد أن هذا بداية حب
قال أوناس : ربما قد أكون في مسيرتي للحب أو أكون قد وصلت ولا أعلم ، لكني أتمني ان يأتي يوم يجمعني بها وأقول لها بين الحين والحين " أنتِ بقرتي الجميلة " كما كان يقول المصريون لزوجاتهن الحسناوات
وضحكوا جميعا بغتة عدا أنا وقالت مريم وهي تنظر ناحيتي بنظرة عشوائية : يا ليت الرجال جميعا مثلك يا أستاذ ونيس
واستطرد عمى قائلا : لم يخدعني عقلي يا ونيس حين زعمت أنك نسخة طبق الأصل من أسامة بن أخي فقد صدق المثل حين قال " الطيور علي أشكالها تقع "
فردت مريم وهى تنظر إلي قدميها : لا أظن يا أبي أنه يشبهه بكل الصفات
فقال عمي : صدقتِ يا مريم ، إن الأستاذ ونيس شخصيةجذابة ، تضئ ملامحه السوداء بصمته الرومانسية التي تلفت نظر انتباه أي فتاة له علي نقيض أسامة الذي لا يتطلع لوجهه مثلما يتطلع إلي الكتب
فرد أوناس بتملق : أشكرك يا سيد مختار علي رأيك في شخصي البسيط ولكني أعتب علي كلامك الأخير عن أسامة فهو ربما يملك ما لا أملكه أنا من صفات طيبة وطباع خلوقة
فرد عمي : وإن كان غير كذلك ما وفقت أن يكون زوجا لإبنتي
وابتسمت مريم بسخرية دون أن تعلق علي قول أبيها ، وانتهى هذا الحديث البارد الحديث الثقيل وتوجهنا نحو موضوع أخر ،وكان هذا أنسب وقت لحسم أموري مع مريم ربما ينحني عقلها وتفتح أبواب السماح علي مصراعيها ، فدعوتها لجلسة انفرادية ، ربما ترددت في بداية طلبي ثم خضعت لأمري ، فجلسنا في ركن بعيد عنهم وقلت لها : إلي متى ستظلين هكذا ؟!
فردت علي سؤالي بسؤال : ومنذ متى كنت اختلف عن هذا الحال ؟
قات : عن أي حال تتحدثي ، وأنتي تعشقين الحوارات وتؤمنين بالافتراضات وتروجين الخزعبلات بذاكرتك ... إلى متى النفس ستتحمل كل ذلك
فردت مقطبة : قف أمام مرآتك قبل أن تحاسبني ، وواجه نفسك بأخطائك ، واعترف بإهمالك لنفسي
قلت : أترين لي شغف بفعل الخطيئة ؟!
قالت: ليس كذلك ، ولكن تصرفك زائد عن الحد
قلت : حب العمل ليس له حدود
قالت صائحة : وأنا ..... أين أنا من كل هذا ؟!
قلت : أنتِ ابنه عمي ، وحبيبتي وخطيبتي وزوجتي المستقبلية ، وعشقي لعملي لا يتعارض مع حبك أو يقلل من شأنه
فأخذت نفسا طويلا وقالت بعد تفكير : ولكنه أولا ، قبلي أنا ، العمل والقراءة بالتاريخ هما كل حياتك ، فلا تسهو أن تقرأ كتابا كل صباح ومساء وإن جالستني تحدثني عن عملك وعن دراستك العليا في الآثار ، لن تنسي كل هذه الأشياء ، لكن تسهو أن تفتح هاتفك مرة واحدة علي رقمي وتطلبني لتسمع صوتي أو تطمئن علي حالي
قلت : كنت زاعما أن اهتمامي بمستقبلي العلمي والعلمي شئ يسرك ، حتى إن غفلت عنكِ فترة من الوقت
قالت عابسة : ينبغي أن أري نفسي عندك ، وألمس شعورك بإحساسي ، كنت لا أرغب سوى عيش الحب الذي تبادلني إياه
فقلت : أنت دائما في قلبي يا مريم
فابتسمت قائلة : لست مراهقة كي تعبث بفكري بكلامك المنمق يا أسامة
قلت : لست كاذب
قالت : لكنك تقدس النفاق كي يهدأ بالك وتريح نفسك ، لقد أحببتك بداخلي طيلة عمري ، فجذبتني إليك أخلاقك وطموحك واهتماماتك حول مستقبلك والنظر إلي القادم بتفاؤل ، وكان أسعد يوما في حياتي حين تقدمت لخطبتي ، وزعمت أنك تبادلني شعوري ، فكنت دوما أتمني ولو للحظة تجمعني بك أن يعتزل لسانك السكوت ويرغب الكلام ويبوح بالمشاعر المكنونة ، التي زعمت أخيرا أنها ربما لم تكن موجودة ، وشئ ما أجهله أرغمك علي الارتباط بي.... فقل لي لماذا ارتبطت بي ؟!
فعجزت عن إجابتها ثم استرسلت في التفكير برهة وقلت : رأيت فيك أجمل زوجة وأفضل أما لأولادي
فابتسمت بوجد وقالت : ولم تري في الحبيبة ....... أليس كذلك ؟!
وكاد صوتي أن يعلو عليها حتى انتبهت وقلت : من أين تأتي بهذه الخواطر يا مريم ، فإن لم أحبك ما قررت الارتباط بك
فضحكت قائلة : تحبني ......!!فلأول وهلة أسمع هذه الكلمة بعشوائية ، لكنها لن تسعدني لأنها لم تبلغ إحساسي
قلت غاضبا : أنت كمثل كل النساء اللاتي دوما يبحثن عن النكد ....... أهذا كله بسبب الفتاة الأجنبية التي جلست معنا في الكافيه ؟
فبدا عليها الغصپب المفاجئ وقالت : صديقتك الأجنبية لا تعني لي شيئا ، ولكن لا تنس رقة حديثك وكلامك المعسول لها ، فلا تنكر أن طريقة تعاملك معها كانت مبالغة، وماذا بعد كل ذلك أوكنت تنتظر مني دعوتها لحفلة موسيقي شرقية بدار الأوبرا ؟
قلت : لا دعي للتهكم يا مريم فالأمر لا يستدعي كل ذلك ، لكنك تعلمين أني مرشد سياحي وهذا من بعض مهامي ، فأنا وجه لبلدي ومندوب لشركتي وتلطيف الكلام وحسن الحديث واجب مع كل زائر للوطن
قالت : ما زلت لا تفهم ، وما زلت لا تعي ما أقصده
قلت : أفهم جيدا ولكن الغيرة تعمي قلبك ولا تقدر شأني
قالت : عن أي غيرة تتحدث ، أنا لا يهمني سوي كرامتي، أنت لا تراني كباقي البشر الذين يعيشون لأجل الحب ..... الحب الذي لم تمنحني منه حتى ولو كلمة أو فعل يعبر عن إحساسك
قلت : ينبغي أولا أن تتخلصي من الأوهام والهواجس التي تدور برأسك ، وأن تقضي علي الشوك التي دوما تحاصرك
فقالت : أتراني طائشة لهذه الدرجة ؟!
قلت : لستِ طائشة ، فربما أن الأهوج المجنون في كل مجلس أشاركه ، في كل فكرة أو نصيحة أتقدم بها ، فأنا دائما المخطئ حتى في حق نفسي
فأجهشت فجأة بالبكاء ، فدنوت منها قليلا ووضعت يدي علي كتفيها وقلت : ما رأيك أن ننسي الماضي ونبدأ من جديد صفحة بيضاء نلونها بما نعشق من ألوان ونرسم بها المكان الذي سيجمعنا بالصورة التي نريدها
قالت بقنوط : طوينا صفحات عديدة ، وفتحنا صفحات شتي وكل مرة يزداد الأمر سوء ، ونحطم الأقلام ونقطع الصفحات
قلت : لقد احترت في أمرك يا مريم ...... أفهم من هذا اليأس انك تريدين البعد عني
فرفعت رأسها في عيني قائلة : انظر لحالي يا أسامة ، وتطلع إلي قلبي .... لتعلم إجابة سؤالك
قلت بحيرة : ما عدت فاهما شيئا يا مريم ، ولكني أقرأ بعينك أشياء ترضيني وتطمئن حالي، فعيناك لا ترغب الفراق كما أرنو نبضات قلبك تصرخ وتستجير قلبي ليحتضنها ويمحو عذابها
قالت : لا يا أسامة ..... كفاني من عناء ، فلن أحارب في ساحة العذاب مرة أخري ، سأبتعد عنك لأعيد حساباتي وأرتب أفكاري
فقلت مندهشا : أنا أمد لكِ يدي ، وأنتِ تطعنيها بحد السكين
قالت ، لست أنا مَن تطعنك أو ترغب بجرحك يوما ، ولكني أريد البعد فترة بسيطة كي أهدأ وأفكر في حياتنا ستمضي أم ستتوقف عند ذلك
قلت وأنا ماسكا يدها : أرجو ألا تتخذي قرار يحطم قلبينا ... فأنا بحاجة إليك ، حتى إن أخطأت يا مريم فلا تنسي أنكِ الفتاة الوحيدة التي اقتربت منها بقدر إمكاني
قالت بيأس : دع القدر يرتب لنا حياتنا كيفما يشاء
قلت بأمل : لا تنسي يا مريم أن أخطاءنا قابلة للتصحيح والتعديل ، نحن بشر ، والبشر خطاءون
قالت : لكن أحيانا الفراق يكون احد القرارات الصائبة للطرفين
قلت بتذمر : إن عقلك كعقل طفلة ، لا تعي ما تقول ، وتحطم معنوياتها علي لا شئ ، وأنا قد سئمت من محايلتي فيكِ
قالت بغضب : كف عن الحديث يا أسامة ، ودعني وشأني ، فاذهب لصاحبك ربما ينتظرك
ثم طرحتها وأنا أقول لها حبلك علي غاربك ، وتوجهت نحو أوناس الذي كان جالسا يسرد حكايات من الأدب القديم ، وحاولت إخفاء ما يبدو علي وجهي من ضيق كي لا يكتشف عمي ما في الأمر ويعلم ما بيني وبين مريم ويزداد الأمر تعقيدا ، ولكني لم أحتمل مشاركتهم الجلوس ، فشدته من يده قائلا : هيا بنا لنذهب، فأنا أحتاجك بأمر هام
فقال أوناس :ماذا تريد ؟!
قلت : سأخبرك فيما بعد
قال أوناس : أتركتي قليلا فأنا أروي لهما قصة العاشقين والتمساح
فقال عمي : ماذا حدث لكل ذلك ... أجننت يا أسامة ؟
وصاحت فاتن : دعه يا أسامة يستكمل لنا القصة
قلت : مرة أخرى ..... إلي اللقاء يا عمي
وخرجنا في وقتها ، حتى شعرت بأنفاسي تتحرر من الكتمان الذي كان يحاصرها ، وعندما بلغنا المسكن قال.أوناس : ما الأمر الذي تريده ؟!
قلت : لا شئ
قال : أفسدت جلستنا علي لا شئ ؟!
قلت : لم أتحمل الجلوس أكثر من ذلك ، كما أن عمي ينام مبكرا ، ليصحو في بداية الصباح للعمل
وعندما وجدني شاردا ولست كعادتي سأل : هل يضايقك شيئا ؟!
فقلت : لا ... ولكني مرهقا بعض الشئ
قال وكأنه يظهر ذكاءه : أغضبتك إلي هذه الدرجة ؟!
قلت مندهشا : مَن ؟!
قال وهو يغمز بعينه : التي كنت تجالسها
قلت : خطيبتي
فضحك وقال : وهل أتحدث عن أحد غيرها ؟
قلت : لقد كدت أجن منها ، لقد مللت من غيرتها وكثرة عتابها من وقت لأخر
فانفجر ضحكا ثم قال : النساء هن النساء لن يتغيرن علي مدي التاريخ
قلت : صدقت ، فهن ناقصات العقل والدين
قال : انظر لنفسك ، حاسبها... فربما أنت المذنب
قلت : لن أستطيع القول بأني الفتي الخير المعصوم من الخطأ ، ولكنها دائما تنتقد اهتمامي بعملي وتسخر منه ولا تشجعني علي اكتمال مكانتي العملية ، وتتهمني كثيرا بالتقصير نحوها
قال : تكفي يا صاحبي كل هذه الأسباب لخلق المشاكل
قلت : أعلم هذا ، ولكني لم يصدر منها أي حافز يشجعني علي تحقيق ذاتي وإثبات نفسي حتى أظفر بالمراكز الرفيعة فلا تنس أن وراء كل عظيم امرأة ، لكن يؤسفني بأنها ليست تلك المرأة ، لذلك أسعي دوما لأكون كفئا بدونها
قال : ولكن لا حائل في أن تمنحها الاهتمام والحب والرعاية ، فهكذا المرأة قليل من الحب يكفيها ، وذلك يجعلك كفئا معها وتجد منها الدعم والتحفيز نحو عملك كما ستقطف من بسمتها الأمل والتفاؤل
قلت له : لست بحاجه لها ، فأنا كفء بدونها
فقال : بما أنك كفء فافعل بنصائح الفرعون " بتاح حتب" حين قال : إذا أصبحت كفئا كأوناسرتك وأحبب زوجتك في حدود العرف أو عاملها بما تستحق
قلت : وقال بتاح حتب أيضا " احذر من مخالطة النساء فما طاب مكان حللن فيه
فقال : لا تقدم مبررا لمشكلتك وهربك من الزواج ، هذه المقولة قالها بتاح حتب حيننا أوصي بالحياء وعصمة الجسد .... وأن لقلب المرء عليه حقا كمان أنه مدح في المرأة وقال " المرأة حقل نافع لولي أمرها ، لا تتهمها عن سوء ظن وامتدحها تخبت شرها ، فإذا نفرت راقبها واستمل قلبها بعطاياك تستقر في دارك ، وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرة في دارها
فقلت بضجر : أنا لا أفكر بالزواج الآن
فقال مبتسما : لا يا صديقي ، فأنا أنصحك أن تفكر بتأني بالزواج ، فإن من نصائح الأديب " آني " تخير زوجتك حين الصبا وأرشدها كيف تصبح إنسانة وعساها تنجب لك ولدا ، فإنها إذا أنجبته لك وأنت شاب ، استطعت أن تربيه وتجعله رجلا ، وطوبي للرجل إذا أصبح كثير الأهل وأصبح يرتجي من أجل أبنائه
فقلت له : وقال الأديب آني أيضا " احذر أن تمشي في طاعة أنثي أو تسمح لها بأن تسيطر علي رأيك
فرد بتبرم : لا تقدر حجج فارغة تعتقد أنها تقنعني بأنك علي منهج الصواب ، فينبغي أن تغير مسار حياتك وتهتم بحبيبتك مثلما تهتم بعملك حتى تستقر أحوالك دائما
فقلت له : حسنا ..... سأفكر في الأمر
وسكتنا قليلا ، فوجدته تدريجيا يفتح مجال الحديث عن فاتن حيث قال : قد يبدو وجودي يسبب القلق الآخرين
فقلت مستفهما : لماذا ؟!
قال : هناك بعض الناس لن تبلغهم الراحة إلا في مضاجعهم ، وأخشى أن تكون الآنسة فاتن كذلك
فقلت له بهدوء كأني أظهر حسن نيتي : اطمئن..... فمنزل عمنا بمثابة منزلنا
قال : شعور رائع ..... ولكنها فعلا طباخة ماهرة ، طعامها لذيذ ليس له ضريبا
ووجدت الحديث عن فاتن فرصة لاستخدام حيلة أو وسيلة تجعله يبتعد عنها ويحفل بشأنه ، خصوصا أني تباينت اليوم أن الحديث كان مسرفا بينهما وهذا ما دعاني للشك نحوهما ، وكان الكذب من الوسائل التي أحسست أنها ستريح قلبي وتقلل شكوكي وتطفأ غيرتي
فقلت له بمكر : رأيك في محلة فهي فعلا طباخة ماهرة ، فسوف أشتاق لطعامها حين تتزوج ، بل وسأشتاق إليها أيضا لأنها ستتزوج قريبا
فتجهم وجهه وسكت مليا ثم قال : أهي مرتبطة ؟!
قلت وأنا أدعي الفرح : نعم .... فسوف تتزوج بعد شهرين
فتنهد طويلا وقال بوجه ناصل : وهل تحب خطيبها ؟!
فقلت ببشك : كلمة الحب قلية عليها فهي مولعة به ، تجن إن لم تراه يوما ، فإن قصة حبهما أسطورة لا تصدق
فقال بصوت هادئ يحمل نبرات الشجن : أدعو الرب بالتوفيق لها وأن يثني عليها بالنعيم معه
وإثر الكلام بدا لي ميله نحوها وربما قد أحبها ، لأن أطواره قد ارتطمت بالأرض بغتة كأنه سمع عن نكبة أو صاعقة ، وخامره الجثم فجأة وأعرض عن الكلام والضحك الذي لم يحتبسه أثناء تواجدنا في بيت عمي ، ثم توجه للفراش وتضجع عليه مقررا النوم ، وزعمت حينما يسفر الصباح سيكون قد محاهامن عقله

لقد أتي الرحيل مبكرا ، والعقل ما زال مظلما لأنه مفتقر حامل السراج الذي يدله للطريق ، الذي كان كشجرة تطرح ثمار المعرفة .... تحفة ثمينة لها قيمتها النافعة ........ شمس تلقي علينا خطوط علمها الذهبي ..... هكذا كان شعوري حينما صحوت متأخرا ولم أجد أوناسحين بحثت عنه في كل ركن من أركان المنزل ، فازدادت حيرتي وسألت نفسي إلي أين ذهب ؟! ...وماذا لو كان طيفا وتبخر ، أو حلما وصحوت منه
فتوجهت إلي بيت عمي عسي أجده هنالك ولكن خاب أملي وفشلت في العثور عليه ، فمنذ متى كان ينوي الرحيل ليتركني في جفر حيرتي دون نجدة الروح من معاناة العقل من فكره الشارد ، وأسأل لماذا هجرني وأنا مَن منحت له حلاوة الحياة الجديدة ، أم الغدر دوما كان لافتة تحملها قلبه العجوز ، أم أنه اعتزل الحياة من جديد عندما سأم من أسئلتي المتفلحسة وضغطي علي أنفاسه التي لم تحتمل تلك الضغوط بعد عناؤها في دروب الظلام ، لا فقد يكون العناد قاده لأسوأ القرارات بسبب ما أخبرته بالأمس عن فاتن حيث لم يتحمل العواقب الناتجة عن حبه الفردي فقرر البعد حينوجد احساسه موؤدا في رغام الحب ، فكارثة إن كان هذا السبب الأوحد أو الافتراضات التي أظنها من منبع الحقيقة فسأندم طيلة حياتي علي هذه الفرصة الثمينة التي ضيعتها من بين راحتي وسأظل دوما أبحث وأحلم بمثله ولن أجد حتى إن عشت عمرا فوق عمري
أنا قد خسرت رجلا فريدا يحمل ما لا يحمله رجل في الكون كله ، فكمدا علي خسارتي لهذه الفرصة التي يصعب تعويضها في ظروف أخري ، فقد كبلته بقيود الأسئلة التي لم ارتدع عنها حتى فر للاستمتاع بالحرية التي حرمت عليه ألاف السنيين
وحاصرتني الشكوك نحو فاتن، فربما قد حاول الذهاب إلي عملها ، لينفرد بها ويستعلم عن خفايا الحقائق التي سمعها مني ليلة أمس ويكتشف الأكاذيب التي تفوهت بها ، ولكن هذا الكائن البدائي تعجز قدماه عن قيادة أموره في ذلك العصر، ومع ذلك فكل الاحتمالات وارد حدوثها
وطفقت أبحث عن تخمينات بديلة وافتراضات جائزة ، ووقفت في الشرفة متمنيا أن أراه يمر من الشارع الرئيسي متجها للبيت ولكن الآمال دائما خائبة والصبر قد ابتدي ينفذ ، والحلم في طريق الفقد، وحينما لمح ناظري الشرفة التي كانت تطل دوما منها جميلة ، جاءني تخمين قد يكون الأكثر توقعا واقتراضا ، وذكرت الموعد الذي حددته جميلة في الخطاب الذي ألقته من الشرفة في ظهر البارحة ، فهرعت إلي الدرج الذي رميت به الورقة فوجدت الميعاد المحدد بها متزامنا مع غيابه ، وربما وقتها هدأت الأفكار التي تنازعني ، لكن القلق ما زال يحاصرني ، فماذا لو ولو ولو ........
وماذا لو التوقعات الذي تخطر بظني حقيقة ثابتة ، أن يكون الحب قد ملأ قلبه نحو فاتن ، وحاول نسيانها بعد الصدمات التي ارتطم بها بالأمس بمقابلته لجميلة الدميمة ، فهل هذا الحل هو الأمثل والنهائي لمعالجة قلبه من الجرح الغائر
لا دعي لكل هذا التفكير الأتي من افتراضات خيالية ، فكان الأهم أن أجد أولا جسده ، ثم أبحث عن العلاج الذي يطمئن قلبه ويهدأ باله، وسرعان ما نزلت من البيت وانطلقت بسيارتي سريعا إلي المكان المذكور في الجواب ربما أعثر عليه هناك
وحين بلغت المكان وجدت جميلة تجلس في مكان نائي هادئ وتضع احدي كفيها علي وجنتيها كأنها تواسي نفسها علي بختها ، وخطيت نحوها بخطوات مترددة لرغبتي في بعض الاستفسارات منها ،، وما أن لمحتني حتى بادرت إليّ قائلة : أسامة ، أين صديقك الوسيم؟!
قلت : ألم يأتي ؟!
قالت بحسرة : لا ، فقد خلف موعده معي ، حتى لم يعتذر
فكتمت ضحكتي وقلت : عن أي اعتذار تتحدثين ، فهو لم يعرض عليك أي موعد ليقابلك
قالت : ولكنه الليلة الماضية قد ابتسم لي من داخل الشرفة ، وزعمت أنه قد وافق علي الموعد ، أنا أشعر انه يبادلني نفس شعور الإعجاب
قلت مندهشا : وهل متأكدة من ذلك؟!
قالت بتردد : نعم
فضحت قائلا : ربما
وتركتها وانصرفت أستأنف البحث عنه من نافذة السيارة ، وأنا اخترق الشوارع والميادين ، فلم أجده، ولم أر حتى وجه يشبه يعبر الطرقات حتى فقدت الأمل وانتزعت الصبر من جسدي كأنه كان حلما احتل عقلي لوهلة وانصرف ليتركني احتسي من بئر حيرتي ، وعدت إلي البيت وأنا مطاطئ الرأس ، مكسور الحظ ، ولبثت في البيت ساعات قليلة بين الاشمئزاز والحلم بالروح التي كانت تقطنني وتشاطرني في كل ما أملك من مسكن ومأكل وملبس ، وكنت أستبطئ قرعة علي الباب الموصد ، وكنت أنظر للوقت بين الحين والحين ولا تمر دقيقة إلا وقد حصيتها ، وفجأة قرع الأمل بابي ، فهرعت نوه وأنا متفائل ببشري أنتظرها عند عتبته ، وما أن فتحت حتى وجف قلبي وهزل أملي ، عندما وجت ما لا يخطر في حدسي ، فقد كان صاحب القرعات صاحبي طارق الذي لم يكن في حسبان برنامجي اليومي ، و ابتدت الكوارث تتحالف لتقع علي رأسي
وأقبل بخطواته يعانقني وهو يقول : وحشتني كثيرا يا صديقي
وانسل إلي الداخل دون دعوة ثم قال حين جلس : تعلم أن المرض يبدو علي وجهك
قلت وأنا أمسح في عيني : حقا ، أتري كذلك !!
قال : نعم ، فملامحك متمعرة بعض الشئ
فقلت : ربما ، فلم أتمعن النظر في وجهي منذ بداية الصباح
ثم قلت في نفسي : لماذا أتي في ذلك الوقت فبداخلي ما يكفي فالشئوم الكامن يغتال مهجتي والأسارير ودعت وصيده بابي
وانتبهت إليه يقول : تعرف ان أثناء أجازتك هذه سأل عليك كثير من العملاء وخصوصا الأجنبيات الحسناوات
ولم أستطيع الرد عليه بالطريقة اللائقة الدائب عليها فقلت بإيجاز : يسرني كل من يذكرني بالخير ويهتم بالسؤال عني
فأومأ بإصبعه كأنه قد نسي قول أمرا : كدت أسهو واحده منهن تدعي أوليڤيا
فتساءلت عابسا : ماذا عنها !!
قال : كانت دائمة التردد علي الشركة للسؤال عنك خلال اليومين الماضيين
قلت حائرا : وماذا تريد مني ؟!
فرد بمكر : الإجابة عندك يا صاحبي
قلت : أنا لا يربطني بها شئ
فقال بمراوغة : إذن فلماذا تسأل عنك
قلت بضجر : إذ كنت تهتم بمعرفة الأمر ، فلماذا لم تسألها ، وتعثر علي إجابة السؤال الذي يعبث بفضولك
فانفجر ضحكا ثم قال : يبدو أنها من الشخصيات التي لا تتيح لأحد الإفراط بالحديث معها ،
وربما أن طرحت عليها سؤالا مثل هذا لكان ردها عنيفا
فقلت : فعلا يا طارق فلا أعتقد أن طاقتها ستتحملك
قال : ولكن يا صاحبي يلوح لي أن الأمر يتعلق بأمور شخصية
قلت بجدية : أنت تعلم أنني مرتبط بابنة عمي ، ولا تربطني أي علاقة أو نزوة بفتاة أخري
ولم يعرض عن جعجعته وقهقهته الدائبة وأستأنف قائلا :
فما يغيظني غير الفتيات الكثيرات اللاتي يعجبن بك ويقفون علي إشارة من بين يديك ، كأن لا أحد غيرك ، ولكني لا أزعم أن جذبهن نحوك هو شكلك الوسيم فحسب ، فالتفوق العلمي والعملي لأي شخص يدفعان أي فتاة للإعجاب به، وأنت ما شاء الله كنت في كلية الآثار تظفر بالمركز الأول علي التوالي خلال الأربع سنوات ، وأصبحت اليوم من أكفأ المرشدين السياحيين في الشركة وهذا ما يدفع الفتيات للإعجاب بك ، أما أنا قليل البخت والرزق حتى الفتيات لا أستطيع إيقاع أي وادة منهن في غرامي إلا بعد معاناة
فقطعت أحاديثه التافهة بقولي: من الأفضل أن تسعي لمستقبلك بدل من سعيك وراء النساء التي لا تجدي بشئ ، فلا تضيع عمرك هباء علي أوقات لا تستفيد منها
فضحك قائلا : إيمانك بهذا المبدأ هو الذي جعلك متقنا لعملك ، وفي نفس للوقت يجعلك تخجل إذا راوغتك احدي النساء وتعجز عن التفاعل معها
وضاق صدري من هذا الحديث الجاف ، وراح ذهني يشحن بالأفكار والظنون حول أوناس، وابتدت الأسئلة تدور في رأسي ، ثري أين ذهب ..... ثري ماذا حل به ...... ثري لماذا لم يخبرني برحيله ، ولماذا كان وكان وكان ؟.... كادت الأسئلة تطيح بعقلي أو قد ينفجر كالبركان ، والوقت غير مناسب وطارق ما زال يتكلم عن النساء ، وعن المداعبات والمغامرات ، وأزمة الوقت لا تجعلني أتحمل ، فأريد استئناف البحث عن الصديق المجهول الغائب
وكي لا تطول جلسته قلت : أشعر ببعض الخمول كأن البرد اخترق عظامي
وعند ذاك دق جرس الباب للمرة الثانية ، فبادرت نحوه وقلبي حامل أمل رؤيته ، وفتحت الباب بأيد مرتعشة خوفا من هدم أملي ، ولكن كما قلت فالظروف دائما تتحالف في رمي الحصى علي رأسي في آن واحد، فكان صاحب القرعة للثانية عمي مختار ، الذي عبر عند سعادة حين لمح طارق جالس في الوجهة ، وكان أول سؤالاً سأله عمي حين جلس كان عن الفرعون أوناس ، فتعلثم لساني قليلا وتحير في الرد
وقال طارق عل الفور :أنا لم أعلم أن أسامة له صديق يدعي ونيس
فقلت : وهل من الضروري أن أخبرك عن كل صديق أعرفه
فرد عمي : إنه صديق له من الأقصر ، وباستضافتنا هذه الأيام ، فأين هو يا أسامة ، فأنا لا أراه يشارك جلستكما ؟ ....
قلت وأنا أمسح رأسي : لم أجده حينما صحوت من النوم ، فربما قد ذهب لقضاء حاجة
قال طارق مندهشا : يبدو أنه صديقا من الدرجة الأولي يا أسامة ، فليس من السهل عندك استضافة ضيف أيام بأكملها
واستطرد عمي : لقد ذهبت مبكرا لتوصيل مريم للمحطة
فتساءلت مندهشا : إلي أين ذاهبة ؟ ...
فرد مقطبا : ألم تعلم أنها قد نوت السفر بضعة أيام للفيوم ؟
فقلت متعلثما : نعم يا عمي تذكرت ، لقد أخبرتني البارحة ، أشعر أنها اعتادت علي جو الفيوم وتأقلمت عليه
قال عمي : أنا أيضا أري كذلك
ثم قطع كلامه حينما رن هاتفه النقال ، وليكن المتحدث جهة عمله الذي طالبته بالحضور عاجلا لاستكمال بعض الشواغل فتركنا علي الفور ، وتنفست قليلا منذ وصد الباب ورائه ، واستعاد طارق ثرثرته الدائب عليها حول مواضيع لا تنفع ولا تضر، وأنا علي حالي منذ الصباح المشئوم ، ولم يمضي ربع ساعة إلا ان دق الباب للمرة الثالثة ، فخشيت أن يكون عمي عاد مرة ثانية ، فلقد سئمت من هذا الباب الملعون الذي لم تأتي قرعته بخبر يسرني ، فمضيت نحوه بخطوات وئيد ة ، وضربات قلبي يعبث بها الأمل تارة واليأس تارة أخري وما أن فتخت الباب حتى نظرت بعين فاغرة إلي أقدام ترفع ساقين طويلتين تجعلاني أنظر بأمل نحو صاحبهما ، وفرحتاه فأخيرا قد قرعت البشائر بابي ورقصت عتبته علي دفوف قلبي ، لقد أتي أخيرا صاحب الانتظار الملعون وتشبثت به قائل : أوناس .... أين كنت ، فلقد شغلت عليك بالي
فرد بصوت من الجليد : تقصد أنك خشيت من خسارة الجوهرة الفريدة التي بين يديك
قلت : لا تظن ذلك ، وهذا ليس وقت للعتاب ، فأنا عندي صديق وأتمنى أن تمر الأمور بهدوء
إلي أن يمضي ونتجادل عن سبب غيابك المفاجئ
وعندما أقبلنا علي طارق قال بصوت مسموع : أهذا خطيب فاتن ؟!
قلت : لا ، فهذا صديقي طارق
وعرفت كلا منهما للآخر وقال طارق مستفسرا : أنا لم أعلم أن فاتن قد تمت خطوبتها ، ولم تدعوني ولم تخبرني عن خطوبتها علي الأقل
قلت متجهما : كانت خطوبة عائلية تقتصر علي الأهل فقط ، ولا تغضب فسأدعوك للفرح قريبا بمشيئة الله
قال : سنري يا أسامة
ثم نظر في ساعته وقال : لقد يرقني الوقت ، فسوف أستأذن الآن ، فإن تأخرت أكثر من ذلك ، سوف تفتح زوجتي معي تحقيق ولا تحقيقات شرلوك هولمز
فحمدت الله بداخلي ، علي أنني أخيرا سأودع حديث طارق الثرثار لكن تساءل أوناس: مَن شرلوك هولمز هذا !
فضحك طارق وقال : ألا تعرف شرلوك هولمز ، فيبدو أنك من العصر الحجري
فقلت له علي الفور : إنه يمزح يا طارق ، فلا تعلق ذهنك وهيا الآن گي لا تتأخر عن زوجتك أكثر من ذلك
فقال طارق : ماذا بك يا أسامة ، أتطردني من بيتك ؟!
قلت : لا يا صاحبي ولكني أهاب أن تتنازع معك زوجتك
فدنا طارق هامسا : هذا الرجل شخصية غريبة
فقت مقطبا : لماذا ؟!
قال : أشعر أنه يشبه الرحالة ، فآثار التعب تبدو علي جسده
فاختلج قلبي وقلت : لا يا صاحبي ، فربما هذا الشعور لأنك تراه لأول مرة ، فالناس تختلف في المعادن والطباع
قال : صدقت يا صاحبي
ثم نهض أخيرا من مجلسه الذي مكث فيه أكثر من ساعة ووعدته بزيارتي له في وقت لاحق ، ثم جلست مع أوناسالذي تسبب غيابه في تكدير صفوي منذ بداية الصباح وقلت له بهدوء : أين كنت يا أوناس ؟! ....
قال : كنت أتبسط في أرض كيما الطيبة
قلت : ولماذا لم تخبرني؟! ....
قال : لقد وجدت أثناء نومك العميق فرصة كي أحرر أنفاسي من قفصك
قلت بصوت عال : كان يتوجب عليك إخباري ، فلقد قلقت وخرجت أبحث عنك في الشوارع كالمجنون حتى اعتقدت أنك رحلت
قال : يا ليتني ما جئت ، فقد أصبحت كالمكلوم الزنيم في أرضه
فقلت : لا أستفهم من قولك شيئا
قال : لقد ندمت علي زيارتي لهذا العالم الجديد
فتساءلت : لماذا ؟!
قال : لقد شعرت بالاغتراب حين تجولت الطرقات ، وظل قلبي يخفق تدريجيا كأني أهاب كل الأمكنة وبحثت عن مكان أجد فيه نفسي المهيضة لكني فشلت ، وأنا الذي في الماضي كنت أمتلك الحب والأرض ، واليوم العزلة تحاصرني والحب قد هرب مني
قلت : هذا الشعور سيختفي تدريجيا عندما تتأقلم علي الحياة الجديدة
فاستطرد : لقد خرجت وأنا أنتوي الذهاب للأهرامات ولكني خشيت استخدام وسائل المواصلات العصرية التي رأيتها بالشارع
فقلت ضاحكا : لقد اعتقدت أنك قد ذهبت لمقابلة جميلة جارتنا
فقال أوناس جاحظا عينيه : أخ ... فاقد نسيت موعدها
قلت : ماذا بك ... أكنت تود مقابلتها ؟!
قال : ربما قد سأفكر في الذهاب إن تذكرت رغم أنني لا أتحمل النظر إلي وجهها المنفر
قلت : وما الذي يقسرك علي هذا ؟!
فرد الفرعون بقنوط : كي أنسي الأمل
ووصلني حينذاك إحساسه الذي يواريه خلف جدران قلبه ، وما أقول وما للقلب أي عذل عن حب يلهج به ، ولكن الحب الفاشل لن يطول عمره ويتوجب اختصاره قبل أن يشاب وتبات القلوب مكلومة والنفوس مكدودة ..... أقرأ بعينيه الذابلتين الكثير عن هذا الحب الصامت الهزيل ، لكن ما بيدي شئ أقدمه وحكم الإعدام هو النهاية الحتمية لهذا الحب ، وما صنعته بالأمس كان حلا مشروعا للتحكم في زمام الموقف

الفصل الثاني عشر
لمن أتحدث اليوم ...... والأشقاء أشرار ....... والأصدقاء اليوم لا يرغبون
لمن أتحدث اليوم ...... وقد قر الناي علي سوء وأهملت الحسني في كل مكان
لمن أتحدث اليوم ...... وما عاد أحد يذكر الماضي ..... ولا معونة لأحد يعمل في هذا الزمان
لمن أتحدث اليوم ...... وما من رضي الفؤاد ..... ومن كان يرافق لم يعد له وجود
لمن أتحدث اليوم ....... وبأساء ألمت بالبلاد ما لها من حدود
نص فرعوني وجدت أوناسقد كتبه بالهيروغليفية علي حائط حجرتي بقلم ألوان قديم فقرأت ما كتبت وقلت في تيه وإعجاب : هذه عبارات تعبر عن قسوة الحياة ، تذكرني بضغط الزمن علي البشر بما لا يتحملون
فرد أوناس : أجل .... إنها تعبر عنه قسوة الحياة حين تأسي علي زوال المستجيب والصديق والقريب ، وانتفاء الخير
قلت وأنا ناظر للمكتوب بتمعن : يبدو إنك تفضل اللغة الهيروغليفية
فابتسم بهدوء وقال : أنا أعشق كل اللغات ، أكتبها وأتكلم بها جميعا، ولا أميز لغة عن غيرها
فسألت : هل تعرف الوقت الذي ظهرت فيه الكتابة في مصر القديمة ؟!
فق
اب كعادته المألوفة للقيام بقطع صفو الحديث ، وكانت الطارقة جميلة بنت الجيران ، فدخلت دون مقدمات وتبتسم ابتسامة طويلة بشفتيها العريضتين ثم سألت : أين فاتن يا أسامة ، فلم أراها منذ فترة ؟!
قلت مقطبا : إنها في بيت عمى
قالت : لا أعلم لماذا تهمل في السؤال عني ، رغم أنني لم أقصر في ودها
قلت : ربما ظروف عملها ما ترغمها علي ذلك
قالت وهى تلتفت إلي كل ركن ظاهر حولها : يبدو أنك بمفردك بالمنزل ، أليس كذلك ؟!
فابتلعت غيظي المتدفق من فضولها وقلت : لماذا تسألين؟
فقالت مبتسمة وهى تداعب خصلاتها المموجة : مجرد سؤال قد خطر علي ذهني
وعند ذاك خرج أوناس، وهو يناديني وما أن لمحها حتى قال بذعر في الحال : أعوذ بالله ما هذا الكائن يا أسامة ؟
فقالت جميلة برقة : لماذا تستعيذ يا أستاذ ؟!
فرد أوناس : أستعيذ من شبح قد رأيته
فقالت بحماقة : لا يوجد أشباح في هذا العصر
واستطرد أوناس : أعتقد أنك الفتاة التي قذفت لي رسالة من خلف النافذة ، أليس كذلك ؟!
قالت بمكر : لا أعتقد إنني رميت لك جوابا
قال أوناس: لكن الرسالة اندفعت من نافذتك
قالت : ربما احدي صديقاتي من فعلت ذلك
قال أوناس : لم يكن غيرك يقف أمامي
قالت ضاجرة : لقد قلت مسبقا إنني لم أرسل إليك خطابا أبدا ، فلماذا لا تصدقني ؟
وكادت الضحكة أن تنفجر من فمي حتى تحكمت بنفسي حين تذكرت انتظارها القلق كأنها تجلس علي الجمر لمقابلته بإحدى النوادي
وقلت حتى لا يلج الحديث : لا تغضبي يا جميلة ، فربما حدث سوء تفاهم بالأمر
قالت : لم أزعم إنه سيخجلني بأسئلته هذه
فرد أوناس : كيف ذلك وأنا قد رأيتك بعيني تقذفين الرسالة من خلف نافذتك ؟!
قالت بحدة : أنت كاذب ، فلم أرسل خطابا إليك ، فلقد رأيتك أكثر من مرة في الشرفة ، لكنى لم ألتفت إليك أبدا بأي حديث
وكاد أوناس أن يرد عليها بانفعال ولكني سبقته وقلت نيابة عنه حتى لا تضرم المناوشات : إنه لا يقصد يا جميلة خجلك أبدا ، فربما خدعته عيناه ، وفتاة أخرى من فعلت هذا ، واعتقد إنها أنت
وكاد أوناس أن يرد عليها مرة ثانية حتى ضغطت بقدمي علي احدي قدميه وقلت له الآنسة جميلة شخصية مهذبة ولا أزعم أنها صنعت ذلك ، فأرجو يا صديقي أن تعتذر لها عما صدر منك
فأخذ أوناس يعبث بأنامله المتوترة ، كأنه لا يقتنع برأيي وتوسلت له بعيني ، فقدم لها اعتذارا بسيطا عن قوله وتصرفاته الكاسرة لذاتها ، ثم ظلت ثابتة بمكانها وقالت وهي تبتسم كأن شئ لم يحدث :تعلم يا أسامة لقد جئت إلي هنا كي أفاجئ فاتن بخطوبتي
فتساءلت متعجبا : حقا أتتزوجين ؟!
قالت : نعم ... لما تتعجب ألست فتاة كبقية الفتيات من حقي أن أتزوج وأنجب أطفالا
فقلت لها دون اقتناع : أكيد ، من حقك الحب والزواج وإنجاب الأطفال ، ومبارك لكِ حياتك الجديدة بمشيئة الله
وقالت وهي تنظر أوناس : آه لو رأيته يا أسامة لتأملت جماله ، إنه شاب وسيم يشبه نجوم السينما ، وأخلاقه في ذروة الكمال ، ولديه سيارة أخر موديل وڤيلا فارهة
فقلت لها دون اقتناع مرة أخري : ألف مبروك يا جميلة ، تستحقي كل خير
فأضافت وهى تتابع النظر للفرعون الذي لم ينبس بكلمة واحدة : لقد أضربت عن الزواج فترة طويلة ، حتى يأتي مَن يستحقني ، وها هو قد أتي أخيرا ، وسأجعله أسعد الرجال
فقال أوناسبسخرية بعدما وصل لعقله كيد النساء : أنتِ فعلا زهرة جميلة ، لا يحق لأي رجل قطفها إلا لمن يستحقها
فقالت بغرور : أشكرك يا عزيزي علي رأيك المؤكد
ثم انصرفت وأنا أحدب عليها ،فكان تأخرها في الزواج كاد أن يغرقها في بحر من الردى لرغبتها في دعوة الرجال لإقامة علاقات عاطفية معهم كي تشبع رغباتها من المشاعر المطمورة، ولكنها لم تفاح في أي دور تحاول القيام به ، وفشلت كل محاولاتها في إيقاع الشباب والرجال في بقاع أرضها الخصبة ، وكانت الحكايات الخيالية الوسيلة الوحيدة لنجدتها من خجلها علي حظها السيئ أمام الناس ، وابتدت تروي القصص الغرامية عن نفسها ، فتارة تقول فلان يحبني ، وفلان أخر تقدم إلي وتارة تقول فلان قرر أن يهجر بيته وأولاده لأجلي ، لذا كان حديثها الوهمي لم يثير انتباهي لأنه كله وشاية تبغي معرفتها للناس ، لتفتخر برغبة الرجال إليها ، والاه أعلم فربما صوب السهم نحوها هذه المرة وستزوج فعلا
كانت فاتن ذات يوم تقوم بمتطلبات المنزل ، وأصداء حركات الأثاث تغزو غرفتي الضيقة ، حتى إيقاع أقدامها كان أن يثقب أذني واستيقظت من نشوة نومي علي تزحزح أوناسمن جانبي علي ليمضي بخطوات وئيدة علي أطرافه حتى تجاوز الباب وخرج في هدوء ، فبرحت فراشي مسرعا نحو الباب الذي واربته لأستنتج أمره ، ووجدته مع فاتن يشدجها بنظرات ظامئة للحب وقال لها : بمثابتك إنسانة رقيقة كالغادة ورومانسية كزهور الحب ، فما هي معلوماتك عن أعراض الحب ؟
فردت بخجل : لا أعلم .. فهذا السؤال بإمكانك طرحه علي قلب يعشق أو أخصائي في مشاعر العشاق ، لكنى لا أفتي بأمر أجهله ، فأنا مهندسة كيمائية لا أفهم إلا بعلوم الكيمياء
فقال أوناس : أنا أسألك بصفتك إنسانة جميلة طيبة الروح وخفيفة الظلة، لا أطلب إلا رأيك الشخصي بالأمر ، وهذا يكفيني
فقالت فاتن : الحب ظاهرة فطرية تقطن القلوب الخيرة والشريرة ، كحب العبادة والوطن والمادة
قال : أنا لا أقصد هذا اللون من الحب
فقالت شاحبة الوجه : وأنا لا أفهم عن أي حب تسأل ؟
قال : أنا أقصد الحب المتبادل بين الرجل والمرأة
قالت باستحياء : لم أصادف هذا الحب بحياتي ، وليس عندي ما أخبرك به ، فتجربة الحب لم تخطو إليها قدماي
قال : ألم تحبين قط ؟!
قالت حائرة : أنت تحرجني بسؤالك هذا
فقال بحزم : أرجو أن تجيبي علي هذا السؤال ، يهمني أن أعلم ما بخفيه قلبك
ردت مندهشة: لماذا ؟!
قال وهو يقترب قيلا منها : لأني أحبك ، وأتمنى حبك لي ، ومبادلتي المشاعر فتكلمي ولا تصمتي أمام إحساسي
وسكتت قليلا ثم قالت : وَمن منا استطاع التحكم في قلبه وانتصر علي الحب ، وأشهر سيفه ليطعن المشاعر
قال مبتسما : أمغلوبة علي أمرك في الحب ؟!
قالت وهى تضع عينيها في الأرض خجلا : إحساس غريب ينتابني ، لا أعلم إن كان صادقا أو كاذبا ، فالأمر يتطلب التفكير العميق
سأل بفضول : هل لي معرفة اسم سارق قلبك أيتها العذراء الحسناء ؟!
قالت : لا أستطيع ، فمشاعري في سر قلبي
وعند ذاك زاد إلحاحه ليأتي من فمها بإجابة تطمئن بالة وتغرس السكينة في قلبه، وكان حديثهما طعنة حادة نخرت بقلبي الشوك، وما عدت احتمل إطالة الحوار عن ذلك ، فالشوق قد ابتدي يتبادل بينهما، والحب يدمث ليؤدي مهامه ، وكي لا يطيل الكلام الجاف الغير محتمل ، قاطعت حديثها بخروجي عليهم وأنا أقول بغضب : سأجيبك عن هذا السؤال يا صديقي المخلص
فنصل وجههما في آن واحد وهرعت فاتن من أمامنا في الحال
وقال أوناس متجهما : أسامة .. متى صحوت؟
قلت : صحوت عندما كنت تتزحزح من على الفراش ، وتمضي علي أطرافك بخوف ، وحضرت حديثكما دون أن تعيا
فقال واجما : أنا أحب شقيقتك ولا أستطيع التخلي عنها
فقلت : تحبها بعد كل ما أخبرتك عنها
قال : ماذا اذا أخبرتني .. أتقصد خطوبتها الكاذبة التي صنعتها من وحي خيالك
قلت بتردد وأنا أعبث بذقني : أنا لم أكذب ولكنى أحميها منك بكل الطرق ، ومن مطاردك لها ووقوعها في حبك الفاشل وتقبع في حداد العذاب
فقال : لا تنسي إنك كاذبا
قلت بعلو صوتي :لأجل شقيقتي سأصنع أي شئ
وتابع : شعرت بكذبك منذ بداية كلامك ، فكاد الكذب أن يشق عينيك ، ورائحته تفوح من بين شفتيك ، واليوم تأكدت أن فاتن تعشق ، تعشقني أنا الرجل البسيط التي لا تشعر إلا بروحه
فقلت : وماذا أصنع الآن ، أ أبارك علي حبكما العذري ، وأقول لأختي. مبارك لك ستتزوجين رجلا عصاميا قام ببناء الحضارة المصرية وعمره آلاف السنيين ، هل تستطيع زواجها وتنجب منها أبناء وتعيش معها طيلة حياتها كأى رجل طبيعي، يعمل ويتكيف مع ظروف الواقع
فقال : لقد شاب حبها بفؤادي ولكن لا مفر من الحقيقة فأنا من أجدادها السابقين ،
نعم يبدو وعمري يشارف الخامسة والثلاثين ولكن في الحق يبلغ لآلاف السنيين ، فحبي لها خارج إطار إرادتي ولا أدري كيف أصنع يا عزيزي
فقلت برفق : أعلم أنه أمر يفوق إرادتك ، ولكن الحب بلا أمل ، كالشجرة التي بلا ثما :
فقال : لا يا عزيزي ، فالبرغم أنني أتذوق حبا مريرا ، إلا أنني أراه متوجا بأمل ، وأشعر أنه سيأتي يوم بجمعنا نحن الأحبة ، وأقول لها كما كان يقول المصريون القدامى " أنتِ بقرتي الجميلة "
فقلت له : لقد هويتها بقلبك وستنساها بعقلك ، فهذا الحب ليس منه طائل ، ولن تنهل من كأسه إلا كربا ، فكر يا صديقي وأنا أعلم إنك ستتخذ القرار الأمثل لصالحك
فأومأ برأسه في قنوط عارم، كأنه يحاول الخضوع لشئ لا يقتنع به ، وكما قلت إن الحب سلطان يتحكم في مملكة القلوب ، وهو الذي سيتخذ قرار الهجر والنسيان ، كان يتوجب أن يسل نفسه ماذا سيحدث في النهاية وهو يعلم إنه لم يتم طريقه معها، ومن البداية ينبغي أن يتجنب فواجع اليأس والشجن ، إن كانت القلوب ملتحمة فالطريق مختلف والأقدام لن تتقابل ، والفراق هو الأصعب ولكنه أسلم لتجنب المخاطر
كنت أشعر أن فاتن ابتلعها الخجل حين وجدتني قد سمعت تصريحها الغير مباشرة للحب ، ولكن حين انقشع القناع عن القلب ينبغي الحديث معها بهدوء لتنصل من هذا العشق الممنوع أرضا ودينا ، فمن الغباء عذلها أو محاربتها في ذلك الموقف ، وقررت احتواءها حتى تنقضي أزمتها بسلام ، وينبغي أن تتفهم الاختيار الخاطئ الذي اتخذه قلبها ، لتعلم أن الحياة قائمة على مقادير النسبة والتناسب ، وركب الجموح قد يكبل قلوبنا داخل سراديب الندم ، وذهبت إليها وأنا أحاول حشد كلام بذهني ينجح في إقناعها ، وتفاجأت بردها حين قالت : تدهشني يا أسامة بطلبك شئ لا يملك عقلي القرار به
قلت : لا بد من نسيانه يا فاتن
قالت مندهشة : وماذا يعيبه كي أنساه ؟
قلت : لا يناسبك يا فاتن ، فلن ترتاحي معه وستندمين على هذا الحب يوما
قالت : بل سأندم إن فارقته يا أسامة ، فهذا ما يقوله لي قلبي
قلت : أنتِ تعشقي السراب
قالت : عن أي سراب تحدث ، ولماذا لا ينتهي هذا الحب بالزواج ؟!
قلت : لا يحل لكِ هذا الزواج
قالت مندهشة : لماذا ؟
قلت متعلثما: أنا أراه هكذا، بدام زواجا محكوما عليه بالفشل في أخر مطافه
فصاحت: وما الأسباب التي ستجعل إنهاء علاقة طبيعية كهذه ؟
قلت : لا تسألي يا فاتن ، فكل الحقائق والتساؤلات ستعلمين إجابتها بالوقت المناسب ، وكوني علي يقين أن أخيك لن يجد السعادة تطرق بابك ولا يدعك تفتحين لها
قالت حائرة : ولكن من حقي أن أعرف الأسباب التي تمنعني عن حبه ؟!
قلت متعلثما : أرجوك يا فاتن نفذي طلبي دون سؤال
قالت : إن كانت إمكانياته المادية لا تؤهل للزواج ، فأنا لا أتعجل في الأمر
قلت :لم يطرأ في زهني مثل هذه الأسباب أبدا
قالت عابسة : كدت أن أجن من الحيرة التي رميتني بها ، فلم تجبني بأى أسباب أو عواقب تقصيني عن طريقة
فسكت مليا وقلت : الأسباب التي فى حدسي بعيدة تماما عن ذاكرتك ، فلا تجهدي تفكيرك ،فلن تصلي لعواقب بعيدة عن ظنك ، وللمرة الأخيرة التي أحذرك فيها ، بأني تنسي ذلك الرجل وأن تغلقي هذا الموضوع للأبد
فانحدرت من عينيها الحزينة دمعتان ثم قالت : لقد أحببته يا أسامة ، لا أدري لماذا ومتى ، ولكن ما يهم أنني أحببته دون أسباب ، فهو الرجل الذي طرق قلبي ثم دخل دون إذن ، واليوم تحكم علي بعقوبة النسيان لأتذوق العذاب المرير
قلت وأنا أحتضنها قليلا إلي صدري : أصبري يا فاتن وتحملي لأجلك وليس لأجل أحد آخر ، وأعلمي أن البعد سلوان لشفاء القلوب ، ويوما ما ستعلمين أن كل ما صنعته لأجلك
وتركتها لدموعها وحيرتها ، وقبعت أنا تحت شجرة الندم التي كادت أن تسقط علي رأسي لتقضي على أنفاسي الأخيرة بهلاكها فبسبب أنانيتي تسببت في هذه الجروح التي قد لا تندمل ، وسيظل شبح الذنب يطاردني واستجرت الله أن يعفو عني ويخفف من حدة عذابهما ، وأن تثوب فاتن إلي رشدها ، وتكون هذه المرحلة بالنسبة لها محطة خاطئة قد مرت عليها ، أما الفرعون عاجلا أم آجلا فهو زائر سيغادر الجسد ويودع الأرض ، وستبات تهوى رجلا ليس كائن بالطبيعة ، وفضلا عن ذلك إن كان باقيا فهو قد نشأ في سياق مختلف عن السياق التي نشأت به ، ومن الطبيعي أن ينشب عدم التكافؤ اختلاف في الأفكار ووجهات النظر ، لذا كان من الأفضل أن تبتدر علاقتهما في ذلك الوقت قبل أن تشاب وتأخذ مساحة كبيرة من الحب والاهتمام ويصلا إلي الغير مرغوب ، ولا ريب أن الإنسانية المعاصرة والإنجازات العلمية أخذت من اهتمام أوناسكثيرا ، فكان مبهورا بثروة الاتصالات واختراع الأجهزة الفنية واليدوية والعملية وأزعم ذلك سيساهم في تحسين حالته النفسية على نقيض فاتن التي أرى حالتها تضاعف عنه بالسوء لأنها ستحاول تحقيق المستحيل دون معرفة الأسباب التي تدفعها لذلك

الفصل الرابع عشر
لم يبلغ من مريم اى اتصال ولا خبر عنها حتى فاتن حاولت محادثتها أكثر من مرة على هاتفها النقال ولكنه كان دائما مغلقا ، فابتدي القلق يحاصرني ، ولأول وهلة ألمح أن غيابها شغل تفكيري وأخذ قلبي إليها ، ابتديت أشعر ببعض العواطف تعبر على روحي ، وروائح من الرومانسية تخترق إحساسي ، شعور غريب لأول مرة يجتازنى ، قد خمنت ببداية أنه ربما تقليدا لمشاعر أوناس ، وربما استحضر لنفسي أعراض الحب التي تنتابه ، ولكن لا يعقل فرض هذا الإحساس على ذاتي ولا استطيع التخلص منه
وأقول في نفسي بحيرة فماذا صنعتي يا مريم كي تأخذي كل اهتماماتي نحوك ،ولماذا الاشتياق زلزل روحي ، ولماذا غيابك أطفأ الشمس في كل أركاني ؟!!
فكانت دائما تغيب بالشهور ولا أهتم ولا أشتاق فما سر هذا الشعور الغامض الذي اجتازني وقادني إلي الشوق الهائم في بحرها وأغوص في أعماق سحرها، فشعرت بمشاعر وليدة تتحرك في صدري وتجعل نبضات قلبي تزداد ، وكان هو الحب بعينه الذي تحاصرني أسلحته التي لا مفر منها ، وأخيرا أضحي شئ يسرق تفكيري بعيدا عن مجالي المألوف
وابتدي قلبي النابض ينشغل عليها ، وكان السفر حلا لهدوء البال وراحة العقل من التفكير والظنون القاتلة للروح بل ووجدته حلا لبعد أوناس عن فاتن بهذه الفترة الحرجة حتي يستعيد توازنه ويستأنف حياته الماضية، وعزمت على السفر في الحال بصحبة الفرعون، الذي قد بدت علي ملامحه بوادر الهدوء والسكينة إثر عبور الطرق الريفية ، ولم يمض نصف ساعة حتى تجاوزنا المزرعة الصغيرة التي يتوسطها بيت جدتها العجوز الذي يقطن معها صبيتان صغيران لم يتجاوزا العشرين يتولانا خدمتها ، ولمحتها من خلف زجاج السيارة تجمع بعض الزهور البيضاء من حديقة البيت ، حتى انتبهت لصوت السيارة التي استقرت بالوقف قريبا منها فقابلتى بنظرة شوق تحمل انتظاري، وارتجلت من السيارة متجها نحوها قائلا : إن كنت ِ تحملتي البعد فقلبي لم ولن يحتمله أبدا ، وجئت إليك أدعوك لقلبي حبيبه ولبيتي زوجه
فابتسمت واستطردت وهى تنظر لأوناس : تفضلا بالداخل
وسبقني أوناس بالدخول ، لتقابلنا جدتها لوالدتها بكرم الترحاب ،حتى جلسنا وتحدثنا طويلا حول أمور الحياة ولم تتيح الفرصة التفرد بمريم لانشغالها مع الصبايا في ٱعداد فطائر السمن للغداء مع الجبن والعسل الأسود ، ونجحت بخلوتي معا بعد الغداء مباشرة لنحسم أمورنا ونحدد قراراتنا الأخيرة وكررت كلامي الأخير لها الذي تفوهت به عند هبوطي المباشر من السيارة فقالت بهدوء وقليل من الابتسامة : عقلي ينذهل حتى الآن فأنا لا أصدق أنك أتيت من أجلي وتركت كل مسئولياتك
قلت بعطف : سامحيني يا مريم ، فلقد أجلبت لك المتاعب وتحملتي كثيرا من تصرفاتي
قالت بلهجة متوترة تحمل بعض آثار الفرح : أنا ما زلت مندهشة حتى الآن ، فكدت أن أكذب عيني التي تراك ، حتى أذني التي تسمعك أكاد أشك أنها تخدعني
فمسكت يديها المرتجفة وقلت : أنا أمامك يا مريم عيني في عينك ويدي في يديك والطريق أمامنا ينتظر أقدامنا ترسم ملامحه
قالت بأمل : يبدو أنك تغيرت كثيرا يا أسامة
قات : غيابك هذه المرة علمني كثيرا يا مريم ، فلإنسان لا يشعر بقيمة ما بين يديه إلا إذا افتقده
قالت بقلق : ولكني أخشي أن تعود لحالتك الأولي ولا تعبأ بمشاعري وتهمل إحساسي
قلت : لا تخافي يا مريم الماضي مات ولن يعود الحياة
قالت : عدني يا أسامة أن تبق معي دوما وألا تقسو علي قلبي أبدا
قلت لها : أعدك بلا شك ، بأن أعيش لأجلك قبل أي شئ آخر ، وتأكدي أن قلبي ليس به أحد قبلك ولن يوجد بعدك ، فساعديني بتغير الكثير من منهج حياتي حتى أصبح كما تريدين
قالت بوجه شاحب : لا أطمع في شئ دون أن أراك هكذا ، يكفيني ذلك يا أسامة
قلت : وأنا سأبقي دوما تحت حسن ظنك
فاستطردت قائلة : لقد حلمت بيقظتي أن تأتي إليّ وتطلب أن أعود إليك وننسي الماضي ونودع الحياة المريرة ونفتح صفحة الحب الجديدة ، ولم تمض ساعات حتى تحقق حلمي مثلما أتمني ومثلما أنتظر
قلت : أثناء الطريق كنت أفكر وأسأل كيف سيكون رد فعلك حينما تريني ، فكنت أهاب أن أتلقي ردودا قاسية
قالت : الأيام التي قضيتها هنا ، جعلتني أن أنا للحياة بعين مختلفة ، وأن أسرق منها السعادة وأحاول ضمد الجروح كي أعيش ، كما الاعتراف بالحق فضيلة ، فلست وحدك من أخطأت ، فأنا أيضا قد تعاملت بأنانية عميقة كي أعيش لنفسي فقط ، فشعرت بالذنب في حق نفسي وبحقك
فوضعت أصبعي علي فمها كي تعرض عن الكلام وقلت : لا دعي لذكر عواصف الماضي ، فالماضي قد مضي واليوم لنا سنعيش معا وسنتقبل الحياة بحلوها ومرها ولن يهزل قلبانا أمام صغائر الأمور
وانتهى حوارنا علي بداية حياة جديدة مفعمة بالأحاسيس الراقية والمشاعر الصادقة ، وأحسست حينذاك أن الحب غريزة فطرية يصعب تخلي الإنسان عنها ، وتذكرت فاتن وأوناساللذان سيحاولان التخلي عن أسمي وأغلي شئ في الحياة ، فقد رأيت أوناسأمامي في هذه المرحلة شخصا آخر لا يشتهي الطعام ولا يهوي الكلام ولا يرغب الرحلات وهجرت ملامحه الابتسامة البريئة الصادقة ، وكان يتعمد الجلوس لمفرده في حديقة البيت ويداوم النظر للسماء كأنه يستجير الله بالصبر علي المحنة التي تغتاله ببطء ، فحاولت أن أستغل وجوده بالفيوم في شئ يهون عليه بعض الصعاب ، فالفيوم مدينة تاريخية تضم العديد من المواقع الأثرية التي تعود إلي عصور ما قبل التاريخ والعصر الفرعوني واليوناني والروماني
.
فاصطحبت مريم وأوناس إلى قرية اللاهون التي تقع علب بعد 25 كم من مدينة الفيوم والتي عرفت في النصوص المصرية القديمة " را-هنت" أي فم البحيرة التي كان يجري فيها تخزين مياه الفيضان من الأسرة الثانية عشر وهي ما تسمي بقناطر اللاهون الآن ، وهنالك قمنا بزيارتها إلي جانب هرم سنوسرت الثالث الذي تحدثنا عن إنشائه بإسهاب ، ثم تروضنا طويلا بين مناظر الطبيعة الجميلة
وقررت أن أضيف يوما آخر للتنزه ربما يستعيد بسمته وتفاؤله للحياة ، فبتنا هذه الليلة بيت جدتها ، وفي صباح اليوم التالي ذهبتا إلي مدينة " هوارة " التي تعرف في النصوص الفرعونية كما قال الفرعون بإسم " حت - وعرت" أي قصر الساق وهنالك زرنا هرم أمنمحات الثالث وما يعرف بقصر اللابيرانت
وابتدي عند ذاك علي ملامحه بعض السرور القليل الوقتي الذي يأتي تارة وينصرف تارة ، كأنه يحاول إخفاء يأسه وجروحه ، فالاستياء كاد أن يصرخ في وجهي ليقول أنت الجاني علي قلبه ، وبعض من الخمول يسيطر علي جسده ويجعل فكره شاردا في ساحة السماء الفسيحة ، أما مريم قد. اختلفت تماما في أفكارها وميولها فقد أضحت المرأة التي أتمناها تقاسمني شعوري وتشاركني أفراحي وتشاطرني الحب ، فكانت سعيدة بهذين اليومين ولم تستاء قط من مصاحبة الفرعون معنا ، والأغرب أنها كانت تطلب مني الحديث عن الآثار التي تجهل العلم بتاريخها وتنصب إليّ بتمعن دون عبس أو اشمئزاز

الفصل الخامس عشر

سافرنا ثلاثتنا مساء نفس اليوم ، وبعد ساعات قليلة بلغنا البيت بسلام ، وودعت مريم عند باب شقتي هى تصعد الدرج متوجهه لطابق العلوي ، وعندما ولجت من الباب كانت المفاجآة الصادمة في انتظاري لأتلقي العقاب ، فقد وجدت أمي تجلس بالصالة ونار الغيظ كادت أن تندفع من عينيها حينما رأت أوناس معي ، فأقدمت عليها متجهم الوجه وحرصت قدر امكانى بإخفاء التوتر الذي يبدو على ملامحي القلقة ثم قلت بنبرة متهدجة : متي جئت يا أمى ؟
فقالت بسخرية : غريب عقلك هذا ، تسأل عن موعد عودتي قبيل أن تسأل عن حالي
قلت : بعتذر يا أمي
قالت بحده : لا تعتذر فقد اعتادت على حماقتك
قلت بعطف : أنا أرغب دوما أن اراكِ بخير يا أمي
ثم ملت على رأسها لأقبلها فدفعت صدري ولم تستجيب للقبلة وإلتفتت لأوناس الذي يقف خجولا وقالت : مَن هذا الشخص ؟!...
قلت : إنه صديقي ونيس يا أمي
وأقدم الفرعون نحوها قائلا : مرحبا بك ِ ياخالة ، فلقد سرني لقاؤك
فردت عليه بتحية باردة غير مرغوبة ثم قالت : هل هذا صديقك الذي يقضي ببيتنا تلك الفترة
فقلت بقلب خافق : أعلمتي يا أمي ؟
قالت : لقد أخبرتني فاتن بكل شئ
وانسحب أوناسمن هذا الحديث بهدوء وانسل إلي غرفة النوم ، وازداد غضبها أكثر وأكثر وقالت وهى تعض علي أضراسها : كيف بلغت بصاحبك الجرائة أن يقتحم بيتي ويكتشف خصوصياته ، ولكنه لا يستحق اللوم ولا خطأ ، فلا يستحق اللوم والعقاب دونك ، لأنك مَن سنحت الفرصة للغرباء يمرحوا بمنزلنا
قلت متعلثما : إنه ليس غريبا يا أمي ، فهو صديقي ويمر بظروف عصيبة ، ويتعثر هذه الفترة بالعصور علي سكن
قالت بسخط : لا تعنيني أعذارك بشئ ، فلا تصح أفعالك هذه لقد احتملت فوق طاقتي ، وقد تجاوزت كل الحدود والتقاليد
قلت : أعدك أمي بأن أغير كل حياتي وأن أكون تحت حسن ظنك ، ولكن الرجل غريبا وليس لديه سكن ولا نقود يتعثر به الحال في كل شئ
فقالت : وأختك التي طردتها من البيت لأجل صاحبك ، فأنا لا أفهم تركيبة عقلك هذا الذي يقودك ٱلي مثل هذه التصرفات الحمقاء
قلت : أنا لم أطردها ولكني استأذنتها أن تمكث هذه الفترة في بيت عمي ، فلا يصح أن تجلس هنا فى وجود رجل غريب
فضحكت على الفور ثم قالت: ولماذا سمحت له باعتكاف بيتنا وأنت تعلم أنه غريب؟
قلت : غريب بالنسبه لها يا أمي ولكنه صديقي وأثق به ثقة كاملة ، فهو رجل محترم فأرجو أن تتحمليه تلك الفترة وسيغادر المنزل عن قريب
فقالت بعند : لا أهتم بشأنه مهما كانت المبررات الرجل الغريب لا أرغب مكثه بيتي
ودخلت فاتن فجأة أثناء صوت أمي الذي بدأت نبراته تعلو وحاولت أن تهدئ من غضبها الحاد وقالت : إهدئ يا أمي الأمر لا يستحق كل هذه النزاعات ، فأعطي أسامة الفرصة وهو سيصرف هذا الرجل في أدني وقت
واستمرت بعنادها قائلة : لن أستسلم لهذا الرأي أبدا ، ولا بد أن يرحل تلك اللياة
قلت : هو ليس رجلا طبيعي يا أمي ، فلا يستحق تلك المعاملة
فسألت مندهشة : وماذا تقصد برجل غير طبيعي ؟!
قلت : أقصد أن هذا الرجل مفتش بالآثار وعلي معرفة واسعه في علوم التاريخ واستفاد منه كثيرا تلك الفترة ونتناقش حول الأشياء التي تجدي في عملي ، ولايصح أن أتعامل معه بالطريقة التي توصفيها هذه
فقالت بازدراء : لا أزعم ياولدي أن هنالك مَن هو أعمق منك علما في مجالك ، فكفاك من حجج تافهة تخترعها لإقناعي
قلت : يوجد بالفعل مَن هو أكثر مني خبرة ، وها أنت قد قابلتيه الآن
فقالت بطش : مهما إن كانت الأسباب ، فهذا الرجل سيغادر البيت سواء شئت أم كرهت ، فأنا لن أرضي بتلك المهازل في بيتي
قالت فاتن : يا أمي ، الموقف بسيط ، لا يستحق كل هذه الثرثرة والخلافات ، فلا تعطي الأمر أكثر من حجمه ، وصديقه عاجلا أم آجلا سيترك البيبت ، كما أن اكرام الضيف واجب ، ولا يصح أن نثور أثناء ظرف استثنائي كهذا
فسكتت قليلا ثم قالت بعد تفكير : سأسمح له بيومين فقط كي يرتب حاله ويبحث عن منزل آخر
فقلت كاظم الغيظ : حسنا ، أعطني الفرصه كي أدبر له سكن ، وأعدك بألا يطول وجوده هنا
فقالت عابسة : أتمني ألا يطول البحث عن هذا السكن ، إلا وستجد نفسك في الشارع معه
فقلت لنفسي مخاطبا لها : أنا لا أفهم لماذا عادت اليوم .. .. أجاءت لتنغيص حيتتي بلسانها هذا ؟
فقالت فاتن مندهشة : أتخاطب نفسك ؟
قلت علي الفور : لا ، فلا أقول شيئا
قالت أمي لها : دعيه يقول بداخله ما يشاء هو دائما هكذا لا يروق له حديثي
فدنوت نحوها لأقبل يدها ثم قلت : أنت ِ الخير والبركة يا أمي
فضحكت فاتن وقالت بمكر : ما كل هذا العطف يا أسامة ؟
فردت أمي : أخاك وتعرفيه ، هكذا يكون حاله حينما يكون لديه مصلحة شخصية
فقلت : وأنتُ فوق كل المصالح يا أمي ، ولا يصح الشك في حبي لك
فقالت فاتن بمداعبة : فى قوله الأخير هذا ، فقد هزمك ِ يا أمي
وأستطردت قائلا : كيف أصبحت صحة خالتي الآن ؟
قالت : أخيرا ذكرت السؤال عن خالتك المريضة ، فمنذ عودتك من رحلة الأقصر وأنت لم تكلف نفسك مكالمة تليفونية للإطمئنان عنها أو حتي السؤال عني ، فيبدو أن كل ما يشغل تفكيرك هو ذلك الرجل الغريب
فقلت متمتما : لقد فتحت على نفسي بابا لا يسد ، هل كان يتوجب أن أبدي لها شهامتي والسؤال عن صحة خالتي العليلة
فقالت أمي : عدت تحرك شفتيك ، فأخبرني بماذا تقول كي أستطيع الرد عليك
فضحكت فاتن وقالت : كفاك همهمات وتمتمات يأسامة كي لا تعصبها
قات بضجر : أنا لا أفهم، ماذا تبغين يا أمي ؟
فقالت متهكمة بعدما خمدت نيران غضبها : لا أريد شيئا منك ، هيا إنهض من أمامي لتلحق بصديقك الودود قبيل أن ينام ليخبرك بمعلوماته الثمينة المكنونة فى طي عقله
فنهضت علي الفور وقبلت رأسها في هدوء وتوجهت للنوم مباشرة ، بعد التعب من اللوم والعتاب وكثرة الكلام .

لفصل السادس عشر

وكانت المفاجآة الأخري عقب مرآتي لوالدتي ، حينما صحوت تقريبا في العاشرة صباحا علي قرعات خفيفة على باب غرفة النوم ، وحين فتحت الباب وجدت فاتن تقول بضيق : هناك فتاة أجنبية ترغب برؤية صديقك ونيس
وارتعدت فرائصي في الحال حين خطر بحدسي أن هذه الفتاة قد تكون أوليڨيا التي أخبرها أوناس أنه يقطن بسكني ، وابتدى الخوف يحاصرني والقلق يطعن خنجره بقلبي المنتفض ، فكم كنت أخشي صحو أمي على هذا الموقف المحرج
فقلت لفاتن وأنا ألوح بيدى : أخبريها أنكِ لم تجديه
قالت بتهكم : ولماذا أكذب ؟
قلت بحيرة : على الأقل إنكري وجودنا
قالت بحدة : وأنا لا أحب الكذب ، فلا أعتقد إنها انسانة تستحق الكذب من أجلها ، ثم مَن هي هذه الفتاة وماذا تريد منه ؟
فقلت : لا يهم أن تعرفي الآن فسأخبرك فيما بعد
قالت بقطب : أشعر أن كل كلامك ألغاز لا أستفهم منه شيئا
قلت : هذا ليس وقت العتاب يا فاتن
وارتديت ثيابي سريعا ، وخرجت مشمئزا من وجودها، ثم ألحقت بي فاتن وهى تقول بغيرة واضحة : أخبرني لماذا جاءت هذه الفتاة إلي هنا ، وما سبب علاقتها بونيس
قلت : علمي علمك ، فلا أعرف
فقالت : ولماذا هو لم يخرج لمقابلتها ؟!
قلت : دعيني الآن يا فاتن أقابلها قبل أن تصحو والدتك، وتبتدي منازعة أخري معها، وأنا ما عدت أحتمل
وتركتها بحيرتها وذهبت لأوليڨيا التي حين لمحتني سألتني مباشرة : لقد جئت لرؤية ونيس أين هو ؟
قلت : فى الحقيقه هو نائما ، ولا يستطيع أن يصحو الآن ، فقد كان يعاني طيلة الليل من الآرق فتناول بعض المهدأت حتي أستغرق في النوم ، واعتقد من الإستحالة أن يستيقظ الآن
فقالت أوليڨيا بلهف : أكان مريضا ؟
قلت فى الحال : أجل ، فقد ظل طيلة الليل يعاني من ألام الصداع المزمن حتي نام
فقالت بحزن : وأسفاه ... عسي أن يهون عليه الرب ، سوف أمر عليه في وقت لاحق
قلت فى الحال : لا دعي لقلقك وتعبك ، فهو مجرد صداع لا يستحق كل هذا الإهتمام ، وحين يستيقظ سأبلغه بسؤالك عنه

فابتسمت قليلا ثم أدنت نحوي وهي تحرك أهدابها وقالت : يلوح لي أن هذا الأرق والصداع بسبب التفكير في الحب ، أليس كذلك ؟
فنظرت إليها مندهشا وتساءلت : ولماذا خطر في ذهنك هذا السبب بالتحديد ؟
فابتسمت بمكر ثم قاات : في أغلب الأمور ، إحساسي لم يخدعني ، وصاحبك قلد بلغ قلبي وعقلي
قلت : إذن ..... من الأفضل أن تسأليه هو وليس أنا
فنهصت واقفة في الحال ثم قالت بجنون : خذني لغرفته وأسأله بنفسي
فقمت وراءها قائلا : لا يصح أن تزعجيه وهو نائم
فقالت برقه : لقد وحشني كثيرا ولا أحتمل عدم رؤيته
قات : ليس الآن ، لا الوقت ملائم ولا المكان مناسب
فاستطردت قائلة : أشعر أنه لا يود رؤيتى لأنني تركته يوم لقاءنا معك ، وذهبت إلي أصداقي حينما ارسلوا لي ، ثم غضب من ذلك لأنه كان يرغب تواجدي معه ، حتي منذ فراقنا لم يحاول الإتصال بي ولو مره واحدة رغم أني أعطيته رقمي
قلت : اعذرية يا أوليڨيا ، فهو مضغوط من المشاغل ، ولا يجد وقتا ليفكر في شئ
قالت : وهي تنهد تعرف يا أسامة أنه الرجل الوحيد دون الرجال الذي شد انتباهي واستهواني بعقلة
فقلت : هو أيضا أعتقد أنه يبادلك نفس الإعجاب
فقالت : لقد أتاني هذا الإحساس أيضا من كلامه معه ، بل وشعرت أيضا أننا نتوافق في أمورة كثيرة
فأومأت برأسي قائلا دون اقتناع : ربما تتشابهان كثيرا
ثم تنهدت طويلا وقالت بهدوء : أبلغه حينما يصحو أن يتصل بي أو سأجئ إليه مرة أخري
فقلت بفزع في الحال : لا تكلفي نفسك مشقة الذهاب والإياب فهو سيغادر البيت حينما يصحو ليرحل إلي سكنه الجديد الذي اشتراه بالأمس ، ولكن أعدك حين يصحو سأجعله يتصل بك
قالت بضيق : سأنتظر مكالمته بأقرب وقت ، لأني سأسافر غدا إلي واشنطن وسأمكث حوالي شهرين وأتمني ألا يحرمني من رؤيته
فقلت لها : لا تقلقي سوف أخبره بما قلتِ
وانصرفت أوليڤيا علي حال اشتياقها ، وأسرعت نحوي فاتن وهي مرتجفة الشفتان وعيناها يندفع منهما القلق وقالت حائرة كأنها تنتظر إجابة تهدأ من روعها : أخبرني يا أسامة ، بأي صفة تسأل بها هذه البنت الأجنبية عن ونيس ؟
قلت حاسما : لم يعد يعنيك هذا الأمر ؟
فاستطردت : إلتجت لتصرفات لا أرغبها كي تهدأ نفسي وتصل لحلول وحقائق ، فلقد سمعت حديثكما من خلف الباب
فضحكت قائلا : أصبحت أذنك تسبق خطواتك يا فاتن
قالت بضيق : بل قلبي هو مّن يقودنى لمعرفة الأسباب بأى السبل سأعلم ولا أهتم للعيب أو للمخالفات ، وأجبني فى الحال أ هل ونيس معجب بهذه الفتاه ؟
قلت لها بمكر : نعم ... وحينما أراد أن ينساها ، لم يجد دونك ليحاول معك صناعة حب يستطيع به نسيانها ، فإنسيه يا فاتن فقد كنتى مجرد وسيلة لنسيان فتاته الأجنبية ولا يستحق حبك البرئ ، ولولا المصالح القوية التي تجمعني به لكان رد فعلى معه عنيفا وحادا
فرغرغت عيناها قليلا وهى تقول : سأنساه لأني وجدت سببا ييكرهني فيه ، وسأعيش لأجل نفسي ولأجل مّن يحبني فقط
قلت لها : تأكدي أن حبه الأول والأخير لهذه الفتاة الأجنبية ، وأي مشاعر يقدمها لأي فتاة أخري ما هي إلا هواجس وعواطف كاذبة ، وأتمني أن يكون قرارك هذا قرارا أخيرا
فرفعت رأسها وقالت بثقة : سأبدأ حياتي من جديد ولن أنظر للخلف أبدا
وابتدت الطمأنية تتسلل إلي قلبي ، حين تأكدت أن فاتن ستغلق باب هذا الحب وتودع الشجن ، وتعلن عن استئناف الحياة العادية وتستكمل مسيرتها المعتادة، ولم أندم علي كذبي هذا ، فقد كان الموقف فرصة ووسيلة لتحقيق المآرب ، وكان يتوجب استغلاله لإنقضاء هذا الأمر ، ومن ملامح وجهها تحققت أنها ستنساة فلا يوجد قبل كرامتها وعزة نفسها شئ ، ومن يعبث لمشاعرها فهو تحت قدميها ولا يستحق العذل ولا العتاب ، ونويت ألا أخبر أوناس بزيارة أوليڤيا خشية أن يعبأ لحالها وينساق وراءها في ظل ظروفه هذه ، ونحن في وقت ضيق لا يقبل أن يحتوي تلك التفاهات .

الفصل السابع عشر
وأخيرا قررت زيارة خالتى المريضة التي اكتشفت أن زيارتها فرصة كي اكتسب رضاء والدتي وثقتها بعدما خاب أملها بي ، و عسي أن تتريث على وجود أوناسطيلة الفترة المقبلة ، حيث أنني لم أمتلك فى هذا الوقت المبلغ المناسب للإتيان بسكن له
وأخذت أوناس وتوجهت إلي بيت خالتي ، وتفاجأت هنالك بسارة ابنتها التي كانت تقطن بلندن منذ سنوات طويلة للدراسة والعمل وقابلتنى بالترحاب الزائد عن الحد وأخبرتنى أن خالتي نائمة وربما تستيقظ بعد فترة قصيرة لتناول العلاج والطعام ، وجلسنا معها بعدما عرفتها على صديقي الفرعون أوناس الذي آراه لم يستوقف نظره إليها كأنثي مثلما كان يفعل مع الأخريات حين كان يحد النظر إليهن
وقالت بلهفة عند مجلسنا : وحشتنى يا اسامة .، أنت وفاتن وخالتي وجميع أحبابي وأقاربي بمصر
فقلت لها : ونحن أيضا اشتقنا إليك كثيرا ، ودوما نسأل عنك ، ولكن يبدو إنك اعتدتي على الغربة وصار لايفرق معك شيئا
فوضعت ساقيها فوق الآخرى وكانت ترتدي ثوبا قصيرا كاد أن يكشف نصف فخذيها وقالت بثقه دون خجل من ساقيها العاريتين : وماذا فعلت طيلة عمرى هنا ؟! ..... فلقد علمتنى الحياة شيئا هاما وهو " ان أردت أن تحقق أحلامك فتوجه نحو بلدان الغرب
فرد أوناس عليها على الفور باستياء : إن أخذ كل إنسان بهذا المبدأ الهزيل ، فسوف تُكتب نهاية هذ البلد فى يومٍ
فضحكت ثم قالت متسائلة : أما زالت حية هذه البلد ، فلقد زعمت أنها ماتت منذ سنيين
فرد أوناس : الأوطان لم تمت ولكننا مَن نبقى تحت الطمي مئات السنيين ولم تشب رؤوسنا فوق الأرض

كان يُعرف عن سارة بالعائلة أنها تمتلك شخصية مستقلة ... منفردة .. لا تقبل السيطرة عليها ، وكثيرا ما كانت تركب جموحها لتنفيذ مآربها ، فعمرها يسابق عمري بسنوات قليلة وتعمل إذاعية بإحدى المحطات الأجنبية بلندن ، كما تميل إلي العادات الغربية والحياة فى بلدان الثلج ، وكثيرا ما سئمت خالتي من تصرفاتها وسفورها الزائد الذي لا يوائم مجتمعنا الشرقي كما ازداد عناؤها من كثرة زيجاتها المتعددة الأجناس
وابتسمت حينذاك وقلت بهدوء : فما زالت آراؤك ناشزة يا سارة ........
فقالت وهى تشعل سيجارة : ليس الأمر هكذا ، أنا فقط اسعي للحياة بنظام أكون راضيه عنه ، أبغي فرض كيانى فلا أرغب ممارسة حياة بقواعد وقوانيين ومعتقدات دون جدال ولا إضافة ولا حذف للمفاهيم الغير راضية عنها ، فالإنسان يا إبن خالتي گالعصفور يحب الحرية والتجرد من أى شئ يُكبله ...
فقلت لها : أرآؤك غريبة يا سارة أتريدين الجدال فى العقائد والتقاليد ، ألم تعِ أن القواعد الثابتة من الأمور البحتة التي لا تقبل التعديل ولا النقاش
فقالت مقاطعة: لا تفهمنى كذلك ...... فكل ما أتمناه أن تساير الأديان العصر وتوكب التقدم وألا تبق ثابتة فى مقعدها
فقلت لها : الدين هو دين كل زمان ومكان فعقائده لا تتغير كما أن القيم فى منهجه ثابتة ولا تتجزأ ، فإن الله وضع منهجا تسير عليه عقولنا وهو يعلم تماما أن هذا العصر سيأتي ويتسمى بعصر العولمة ، وإن كنا نصنع أخطاء فلا دعي أن نستنكرها أو نعلقها على شماعة الرأي الثابت للعقائد الدينية ، وإن كان الدين ليس دينا يواكب كل زمان ومكان لأرسل الله إلينا كتابا ورسولا في كل عصر لنتعلم قيم وعقائد تتماشى مع العصر الذي يعاش فيه.
وقال أوناس لها عقب كلامى مباشرة : يتوجب ان تعلمى أن السلوك الصحيح والعمل على تنمية مكام الأخلاق والولاء للدين أسباب تؤدي إلي المسيرة فى طريق فى طريق الرقي والتقدم وليس التغاضي عن بعض المحرمات هو الذي سيؤدي بنا لذلك
فضحكت قائلة : لادعى لثورتكم هذه
فقلت متبرما من أرائها : اطمئني يا سارة فكل انسان يمارس الحياة كما تهوى نفسه ، ونادرا ما يوجد انسان يلتزم بعقيدته ، لذلك الأوضاع تسوء والفكر يتراجع ولم يتحمل الدين محاربة الفساد بل ويُهاجم احيانا إذ حاربه
فاستطردت قائلة : انت تعلم تماما ان معدلات التحرش والاغتصاب فى الدول الاسلامية تفوق معدلاتها فى دول الغرب رغم أنه ينبغي العكس بما إننت دول العقائد والإلتزام
فقلت : لو نظرت للأمر بعمق لعرفت أن العلاقات الجنسية مباحة فى دول الغرب دون زواج ، كما أن أمور الزواج ميسرة بعيدا عن أعباء ومشقات الحياة ، والمتطرف فى مجتمعنا قد يحمل دينا فى بطاقته لكنه لا يحمله فى قلبه ، ولم تكن العقائد يوما تسعى لتفشي ظواهر الفساد والانحراف
فسحبت نفسا طويلا من السيجارة المشتعلة وقالت : التناقض فى كل شئ فإن خرجت من مأزق فستنصدم بمآزق أخرى ، حتى العنصرية رباط ملفوف حول عنق المرأة فقط ، ولم يجحد المجتمع بكيانها الكامل فى مداها الشاسع ، كما يغفر الجريرة للرجل ولم تغتفر لها ، المرأة دوما هى الساقطه .. الخائنة .. الحمقاء ، هكذا هو مجتمعنا الشرقي يتقبل الرجل بصورته الجميلة والدميمة
قلت : التسامح والحب والعدل خلقوا لأجل البشر أجمعين ، فالطبيعة لم تظلم أحد و مبادئ البشر فقط هي مَن طغت على قوانينها
فقال أوناس شاردا : الحب هو أهم الأشياء التي طغت عليها العنصرية
فقالت سارة : الحب لم يستطع أحد تقليل كثافته ، لكن الظروف دوما تضع الحائل بين الطرفين
فتساءل أوناس : هل صادفتِ هذا العشق يوما ؟!
فقالت سارة: لقد قابلت الحب يوما وعشت معه أجمل اللحظات وبنيت الأحللم على الرمال، فقد كان رجلا لا يتضاهى مع أى رجل عرفته ، كان فريدا فى الطباع والصفات، كان گقطعة من جسدى وكنت جزءً من روحه ، لكن ما منعنى عنه أنه كان يعتنق المسيحية و لأن العند صفة اجتمعنا فيها لم يستطيع أحدنا التخلى عن عقيدته لأخل الأخر
فقلت ثائرا : قد جننتِ حقا حينما فكرت ببداية قصة فى الأصل منتهية ، فكنت ستتخذين قرارا تخسرين لأجله كل الناس
فابتسم أوناس بازدراء وقال : هكذا عقول البشر لا تهتم إلا بمظهرها فقط أمام الأخرين ، فنحن نخاف أنفسنا ولا نخاف الرب ، فإن اقترفنا اثما نخشي حديث الناس وسخطهم ولا نكترث بغضب الإلاه
فقالت سارة : أنا فقط أردت أن أعيش ولكنى لا أنافق
لم يتم الحديث حتى استيقظت خالتي التي نشلتنى من هذا الحيث الناضب إلي حديث نسائي أشد نضابة ولا أود كتابته لأنه لا يجدي ولا يفيد ، ولم يستطالجلوسي بين حديثها الثرثار الممل وانصرفت بعدما أعدْتُها بزياره أخرى ..
الفصل " الثامن عشر "
كان من ديدنى تدوين كل المعلومات التي أقبضها من لسان أوناس مباشرة فى اجندة خاصة وذات يوم طفقت أبحث عن الأجندة فى أدراج المكتب ولم أعثر عليها إلا بالصدفة تحت وسادتى ولم أذكر أننى وضعتها فى هذا المكان ولكنى لم أبالى بالأمر وفتحتها لأستكمل كتابتى بها ، وحينما كنت أتصفحها وجدت بعض الصفحات الفارغة الأخيرة مكتوبة بالهيروغليفية ، فاندهشت للأمر فلا أذكر أننى كتبت هذه الكتابة من قبل فبرغم شغفى بالتاريخ والآثار لكن لم يكن من دأبي الكتابة بالهيروغليفية بحياتى العادية وسرعان ما زعمت أن أوناسهو صاحب المكتوب فدفعنى فضولى لقراءة ما كتب حينما كان نائماً في ذلك الوقت
فجلست أقرأ بتأنى كتابته الآتية :
" گمداً علي?ِ أيها البلد الطيبة ... الغادة الرقيقة ... التي كانت زهرة فى خميلة تحمل أريجا فريدا ذكيا ... ورغام? ذهبا نفيسا ... وثورت? ما لانهاية .. وأفئدة أناس? ناصعة كنقاء الثلج وطاقتهم تعمل لأجل? ، وأرض? رأس التقدم ومنبع الفكر .... كنت أود زيارت? فى ظروف أفضل من ذلك ولكنى أتيت اليوم گي أحزن عليك لأنك تفتفرين مَن يذكرك ويرثى لك
اليوم قد منيت بسوء الأوضاع وبتِ تتجشمى أعباء گثيرة وتقدمين الحفاوة للطامعين وتحرزين مآرب? بالوسائل السفهة ، وتدعين الديمقراطية وما ديمقراطية فى بلد يشمئز فيها الحاكم من أراء مواطنيها وتكبلهم بقوتها وتسحقهم ببطشها ، فقد أصبحت ظروف جمة لا تواتي? على التقدم ولا تقودك إلى بر الأمان ، فحاضر? يستمد التقدم من الخارج كما يستورد الفكر الطاغى الذي يقودك إلى نفق مظلم لا نعلم ما يقدر لنا فى نهايته حتى ابتدت قيمك الموروثة تتلاشى بين ضباب تضارم الثقافات .
أيها البلد الطيب لما صنعتِ فى نفسك هذا وتزحزحت إلى الخلف بعدما كنت في صفوف الأمام وعمود راسخ للعلم والتقدم ؟! ..... لماذا تريثتِ ليقيض لك بأن تكونى آخر بلدان العالم تسبق?ِ دول كانت فى أوج? لا شئ ؟!
يؤسينى أننى غير راضيا عن أطوار? يابلد الطمى ،فقد فُتر الولاء إليك وأُنكرت نعمك واختلطت لغتك بألوان عديدة من اللغات كأن استخدامها كاملة عارا عليهم ، أر سلوك البشر لا يليق بالإنسانية فاليوم يثوي نفوسهم البغض والعداوة ويضني الطمع إيمانهم ويسرق الإغتراب حياتهم ،، بيد ذلك أر فى هذا الحاضر معظم النساء أكثر سفورا فلقد تجردن من كل شئ يكبل فكرهن وأجسادهن ....... لقد تفشي فى عتمك الخائنون والطامعون وقد طاب لبعض أبنائك خسارة النفس والوطن
لقد أضحيت يابلادى زهرة مهمشة تنهل من ينابيع كدرة لا تساهم فى إشراقها ، والجوع يعشش فى بطون الفقراء والكدح يهدم مستقبلهم .
يسأل كثيرون ماذا قدم لنا الوطن إلينا كى نفديه بروحنا ونرفع من شأنه على حساب وكدنا ووقتنا ؟! .... الا يكفى أن يكون هذا الوطن مدنا بالعلم وغرس فى أنفسنا القيم ومنحنا أمنا يحتوينا ؟! ... ألا يكفى أن يكون الوطن هو الأسرة الكبيرة التى ننعم بدفئها وان يكون بيتا يتوجب الدفاع عنه وحمايته كى لا ينتزعه الأعداء ؟ ألا نخجل من أنفسنا إذا أساءنا له بالسلوك الخاطئ وشهرنا بسمعته وكدرنا صفو قيمه النبيلة ؟! ....
لا أحدَ يستطيعُ أن يُطيلَ
حياتَه على الأرضِ
ولا أحدَ إلاّ عليه الذّهابُ
إلى العالمِ الآخرِ .
زمنُ وجودِنا الأرضيِّ
ليسَ بأطولِ من حُلُمٍ .
اجعلْ بيتَكَ في مدينةِ الأمواتِ رائعاً
من خلال الجُهدِ الصّادقِ والعمل الصّادقِ
الذي يستطيع قلبُ الإنسان الاعتمادَ عليه .
فضائلُ العمل الصّالحِ
يتقـبّلُها الإلهُ بمحبةٍ
أكثرَ من أُضحِيةِ البقرةِ من الخاطئ
) هكذا تعلمنا فى عهدنا )
كل شئ متباين فى هذه الحياة عن الماضي حتى الشعور الانسانى قد اختلف تماما عما كان فى السالف ، كان الناس يشاطروا بعضهم في أكمادهم ويخففون عنهم عندما يروا نحيبهم ويسمعون طلقات ألامهم ويبيدوا عنهم المتاعب الثقيلة ...... أما فى الحاضر لا مبالاة بآهات ولا تتمزق القلوب لوجع غريب ٍ ولا احد يسألك عما بك ، وإن بكيت لا أحد يكفكف عبرتك فقد أصبحت القلوب كجلمود أسود لا تحس ولا تحن .
وأود أن يسأل كل حاكم نفسه عن رعيته هل صنع لها مثلما صنع لنفسه ، وكم من مسكين بات جائعا وذاده فى بيت آخر ، وكم من سقيم أخذته المنية لإفتقاره المال وغيره يبذر أموالا على أشياء فارغة لا عبث منها .... وهل سَل نفسه كم من مظلوم بات ودمعته تنام على وجنتيه لأنه لم يظفر بحقه فى الحياة ..؟! ... هل سَل نفسه كل هذه الأسئلة أم تعامى عنها كى يعيش مرتاح النفس متمتعا بنفوذه بعدما انتحى عن رعيته .
بيد ذلك أر الحرب شبحا يقصف العالم من كل جهة فيتذبذب أمن الشعوب ، فقد خلق الرب ذئابا بشرية تقاتل النفس كالباعوض ولا يخمل بالها إلا بإغتصاب الحقوق وسف? الدماء وهتك الأعراض كأنهم انتهجوا سفوح الدماء من شريعة آدم ، ولا أعرف إن سألت هؤلاء المغتصبين عن ماهية السلام فبما سيصفوه ؟! ...
وإن سألتهم عن الحق والخير فماذا يقولون ؟!......
يؤسينى قول " أن السلام اليوم أصبح سلعة نفيسة نادرة لا نحصل عليها إلا بثمن غال وهو سفك الدماء وفقدان كثيرا من الأرواح ، فإن كان يحدث كل هذه الكواراث الآن ، فماذا سيكون بعد مئات الأعوام ، حقا أهاب أن يأتي زمن تكون فيه الفضيلة رذيلة ويحكم على الصالح ويتر? الطالح .
رأيت في رحلتى انجازات وابتكارات فانتابنى السرور فى بداية الأمر حتى اكتشفت الحياة المريرة الخالية من التعاون والحب والوفاء والثناء والقناعة وياحبذا لو توافر عامل الحب فهو العامل الأوحد لتحقيق السلام والتقدم ودوام الخير .
وأنت يابلادى كيما ... يا ذات الكحل الأسود والمناخ المعتدل والمعمورة بالآثار والمشرقة بالتاريخ ..... يأيتها الشمعة المسرجة فى ظلمات الأرض ،، كونى أما لأبنائك واحتويهم بدعمك وحثيهم على العمل ولا تمنحى فرصة للتشاؤم يدس بعقولهم سم زعاف يقضي بحياتهم ، واصنعي ما بوسعك كى لا يغتربون عنك فحزنا على أم ثكلى تفقد أولادها وهى فى أشد احتياجهم .
كما أن كل مواطن عليه تبعيات نحو هذا البلد ، فهو الذي يدفعها إلى التقدم أو يغرقها فى بئر التخلف ويتوجب على كل شاب وضع هدفا نصب عينيه يسعى لتحقيقهولا يقيض قرصة لهواجس تخذله والإتيان بأفكار تكبله بالعمل، وينبغى عليكم كشباب أن تناضلوا بفكركم وعملكم حتى تبلغوا أقصى مراتب العلم والتقدم .
وأخيرا أود يابلادى " كيما " زيارتك مرة أخرى وأراك فى ذروة التقدم ونهرا للفكر والعلم .
وفى الختام أهديك قُبلاتى
.......... ابنك المخلص " أوناس "
انتهيت من القراءة ووضعت الأجندة بمكانها وطفقت أفكر فى رسالة هذا الرجل الغامض فقد علمته كثيرا عن نظام حياتنا الحالى وعرفته على شبكات الإتصال ووسائل التكولوجيا المتعددة وشرحت له كثيرا عن أوضاع الدولة وما يتعلق بفكرها واقتصادها وسياستها لكن كلامه المكتوب يدل على أنه إبن ذلك الزمان فهل يمكن أن تصل براعته إلى ذلك الحد ويكشف عيوب الإنسانية وكوارث العالم فقد كانت درجة احساسة فى الكتابة عالية كأنه شخص عاش فى الحاضر وعان من الفقر والظلم والمرض والجوع ..... يتحدث على الورق كأنه ضحية من ضحايا الحياة بكل أوضاعها الخاطئة في ذلك العصر .... وزعمت فجأة أن يكون السر الذي دفعه للكتابة عن المكبوت بداخله هو مقابلته لسارة ابنة خالتى وسماع آرائها الشاذة التي أدت بعدم الراحة إليها ولكن ليس هذا المهم ، فالأهم رغم كثرة شكوته بالرسالة أنه يحلم بانتشار الحب والآمان كي ينتشر السلام بالعالم ، ولكنه سازج فيستحيل أن يقطن الحب فى كل قلوب الناس فمثلما خلق الله البشر خلق معهم صفات خيرة وشريرة قد خلق قابيل وهابيل ليكون هناك الجنة والنار .
وقررت فى النهاية ألا أناظر أوناس فيما قرأته احتراما وتقديرا لرأيه وخصوصيته فهذا الرجل قد حشد كل تركيزينحوه وأخذنى من عملى وسلب وقتى كله حتى عندما انتهت أجازتي من العمل طلبت غيرها كي أبق بجانبه وأتعلم منه ما لا أعرفه
عندما صحا أوناس كانت والدتي قد ذهبت إلى السوق ووجدت خروجها فرصة للرحمة من أسئلتها المتكرره له ، وبعد الفطار طلب أوناس مني الذهاب إلي نهر النيل حيث قال : كان فى الماضي البعيد يجلس إليها بالساعات ويشتكى له همومه.
واختلفنا إلى نهر النيل وانعزلنا بمكان يدخله قليل من الظل ، وابتدى النيل يقذف علينا هواء عبيرة كنسيم الربيع ، وشعرت أن أوناس استأنف حياة جديدة مفعمة بالمرح والتنفس عن الذات وسألته قاصدا فتح باب الحديث : ما رأيك فى نيل مصر الآن ؟
فاعتدل فى جلسته وقال : انه ما زال فى صباه يعج بالخيرات والثروات
قلت : لذلك اعتبرناه نعمة من نعم الوطن واتخذناه تاجا على رأس مصرنا الحبيبة
فقال : ونحن فى عصورنا القديمة لقبناه بالإه " حابي "
ولاذ قليلا ثم قال : تعلم ياعزيزي أن هذا النيل شهد بناء الحضارة القديمة منذ بدائيتها .
قلت : وكيف كانت صورة الحياة البدائية على ضفاف النيل ؟
فأجاب أوناس : لم أعاصر هذه الحياة ولكنى علمت أن النيل قد شهد حياة الإنسان البدائي وهيئته المتغيرة التي تختلف عن صورة الإنسان الحالى
فقلت بدهشة مختلطه بإزدراء : هل كانت للسلالات البشرية البدائية صورة تختلف عن الإنسان الحالى ؟!
نا طويلا أكثر من هذا وغيرنا دفات أحاديث مختلفة ولما شلمنا الغروب بسحره شعرنا بمرور حقبة طويلة من الوقت وانتابنا الجوع فتوجهناإلى إحدى المطاعم وتناولنا ألوانا من الطعام اللذيد مع كوبين من القهوة البرازيلية ثم مضينا بالسيارة على كورنيش النيل لنخترق الشوارع الواسعة والكباري ونستأنف حديثنا المتنوع فى هدوء الليل تحت مصابيح الكهرباء والبدر الساطع والشهب العالقة بالسماء ولما أسعفنا على منتصف الليل عزمنا على الذهاب للمنزل .
الفصل التاسع عشر

عندما تجاوزنا البيت قابلتني والدتي بطريقة باردة كعادتها وقال لأوناس كأنها تنقحه بالكلام : يبدو أنك وإبنى تجمعكما صداقة من الدرجة الأولى والدليل على ذلك سماحه أن تقيم بيننا في المنزل كل هذه المدة رغم وجودنا مع إنه لم يفعل ذلك مع صديق آخر
فابتسم أوناس وقالى: يسرنى أنه أعطاني كل هذه الثقة والتقدير
فقالت باستياء : ولكنها ثقة زائدة عن الحد ، فإنه لم يدعك تقيم خارج منزلنا رغم وجود بعض الفنادق الرخيصة
فنظرت لأمى بنظرات عابسة لأرجوها تكف عن حديثها الجارح إليه
لكن أوناس تساءل مستفسرا فى الحال: هل في هذه الفنادق مكان متاح للإقامة ؟!
فردت مندهشة بسؤال آخر : ماذا بك ... أكلمة فندق تحتاج إلى توضيح ؟
فقلت عاى الفور : لا يقصد ما فهمتيه يا أمى ، فهو لا يرتاح فى الفنادق رخيصة الثمن لأنها لا تقدم خدمات تليق بعملائها ، كما أنه لا يرتاح بها ولا يحب العزلة .
قالت بسخرية : لا بد أن صديقك من طبقة أرستقراطية لذلك ليس من مقامه الإقامة فى فنادق البسطاء
فقال أوناس : لن أطيل عليكم سيدتى فأعلم انكم تحملتونى كثيرا
فتريثت قليلا وقالت : عموما خذ راحتك كأننا لسنا بالمنزل
وأحس بتنقيحها له بالكلام فقال وهو يخفي اشمئزازه : اشكرك سيدتى على حسن ضيافتك وقريبا سأغادر كما استأذنك الآن فأنا مرهقا وذاهبا للنوم
وانسحب إلى غرفتى مُنحنى الرأس مهزوما بالكلام
فإنتقلت بالجلوس قرب والدتي وقلت لها بهمس : كان لا ينبغي إهانته فلقد جرحتى شعوره بطريقة ملحوظة
فقالت : لماذا ..أليس رجل يتحمل مسئولية نفسه كباقي الرجال ؟.. ثم انه عديم الذوق والإحساس ولا يقدر مدى تحمل الآخرون له
فتساءلت : هل اعتبرت إكرام الضيف عدم ذوق ؟
فردت عابسة : المثل يقول " يابخت من زار وخفف " وصاحبك قد أصبح ثقيلا ، حتى فاتن أصبحت لا تداوم على الجلوس بالمنزل لتواجده ، حتى عملك ما عدت تذهب إليه ولا أعلم سر هذا القرار
فاستطردت قائلا : كل ما أرجوه منك يأمى أن تصبري وتتحمليه قليلا حتى أدمر له مسكن مناسب له
فردت مندهشة : أنا لا افهم ما سر اهتمامك بهذا الرجل ، فلأول مرة أثناء تاريخ عملك تأخذ أجازة ، وتحيط برجل لا نعلم عنه شيئا ، وتهتم به لدرجة ابتدت تجعلني أخاف عليك منه
قلت: لا تخافي يا أمي فإنه كالطفل الصغير لا يستطيع صنع شيئا
قالت : إذن أجبنى ، لماذا مهتم برجل أنا أحيانا يلوح لي أنه أبله ، فما هدفك من كل هذا يا ولدي ؟!
فقلت بعد تفكير : لي مصلحة كبيرة معه حيث سأستفيد منه بأشياء كثيرة في عملي ، فهذا الرجل سيصنع مني مرشد سياحي ناجح
فقالت : مهما كانت الأسباب لا بد ان يترك البيت فما عدت أحتمل وجوده ولا ارغب إقامته بعد هذه الليلة هنا ، فمنذ أن قابلته لا استريح له
فقلت متعصبا : لماذا تكرهيه يا أمي ، فهذا أفضل إنسان قابلته بحياتى ، ومع ذلك سآخذه فى الصباح ونذهبا للجحيم ، ان كان يرضيك هذا
وفى هذه الليلة نمت غاضبا من حديثها وعندما أتى الصباح كنت فى سريري ما زلت نائما حتي ابتدت جفونى تفتح قليلا لتشق طريقها للنهار كالعادة ، ولكنها هذه المرة فتحت ستارها على رجل يجلس على مقعد قبال الفراش غائب عن عالم الوجود ،وغارق في بحر من التفكير ، يرتدي ثيابا فرعونية مهترئة معفرة بالرغام ... آراه أمامي كجسد مهشم قد عاد من رحلة الموت الطويلة .... هذا الرجل أذكره جيدا قد إلتقيت به بالأقصر وهنالك استبدل ثيابه الفرعونية القديمة بثياب حديثة أنيقة الشكل ، عجبا له فمن أين أتى بهذه الثياب مرة أخرى ولماذا يرتديها الآن
فنهضت قائلا : لماذا ارتديت هذه الثياب مرة ثانية ؟
قال : لقد حان موعد الرحيل يا صديقي
فقلت : ماذا تقول .... هل أخذت موقف من حديث أمي بالأمس ؟
فقال : ليس لهذا السبب
فاستأنفت : كان يبدو عليك الضيق فى الليلة الفائتة ، ولكنها لا تقصد أبدا جرح مشاعرك فهكذا دوما مناقشتها
فقال : والدتك ليس لها دخلا بقرار رحيلى ، أنا الذي لا أود البقاء في هذا العالم
قلت : لماذا ؟!... فأنت يا عزيزى فى رحاب وطنك
فقال : كان عليك فى البداية أن زيارتي لهذا العالم مؤقتة وليست دائمة
فسألته : ولماذا لا تعتكف في ذلك العالم إلى نهاية حياتك ؟!
فضحك قائلا : حياتي منتهية منذ زمن بعيد ، أما وجودي في هذا العالم بات أمرا مستحيلا لأن فكري وطبيعة شخصي لا يتكيفان مع هذه الحياة
فقلت فى لهفة : سوف أعلمك كل صغيرة وكبيرة فى هذه الدنيا حتى تصير كأى انسان عادي فى هذه الطبيعة
فقال أوناس : أنا لا أتحمل البقاء فى عالم يعاني من فقدان الحب والسلام
فقلت متهكما : الذي يسمعك سيزعم أنك كنت تعيش فى الجنة، ألم يكن عالمك يحمل طباع الشر والبغض والعداوة
فقاا : بالطبع كان يوجد ، ولكن ليس بهذه النسبة الكبيرة ، أما في هذه الحياة فقد شممت رائحة الفساد بمجرد الإحساس ودون أن أراه
ثم أضاف : أسامة .... أنت شاب طموح واضعا هدفا نصب عينيك وتحب عملك ووطنك وأهلك وكل ما صنعته معي بسبب فاتن لم يجعلنى أستاء منك ، فيسعدني أن ارى رجلا يغار على أهل بيته ، أنا حقا قد أحببتها فقد كانت تشبه حبيبتى مكتريا تماما فى شكلها وروحها حتى زعمت فى بداية رؤيتها أنها هي
قلت : يسعدني انك قدرت موقفي ولكن لا ترحل فوجودك في هذه الحياة له قيمة ومعنى وأنا قد اعتدت على وجودك معى
قال : إني راحل ياعزيزي وسأترك الحب في قلوب أحبتي ، قد أحببت فاتن حتى وإن لم تكن مكتريا والانسان لم يمت ولكنه يذهب إلى عالم سرمدي ، وإن لم تكن من نصيبي في هذا الوقت فسيأتي يوما عالم يجمعنا نحن الأحبة
فقلت: ماذا تقصد ؟!
قال : ستخبرك الدنيا فيما بعد
قلت : فقد احترت في أمرك وما عدت أفهم شيئا
فنهض قائلا : إني لذاهب الآن
فنهضت خلفه ماسكا به : يستحيل أن تذهب
فقال بعند : قد جئت بحريتي وسأرحل أيضا بمشيئتى
فأسرعت ناحية الباب لأحلق عليه وقلت : سأكون مجنونا إن تركتك تضيع من يدي
فصاح أوناس بصوت عال : أنا لست مكبلا بإراتك ، فبإمكاني أن أنطلق طائرا في هذا الفضاء الرحيب
فقلت بجنون : لا بد أن تخبرني من أنت فلا أزعم أنك فرعون ، أأنت ساحر .... كاهن ..... ..حاوي .... من أنت ؟ ...... أخبرني مَن أنت؟؟!!
قال أوناس : أنا .....أنا تاريخ أكثر من سبعة ألاف سنة
وتبخر أمامي فى لمحة البصر كأنه فص ملح وذاب ودرت فى كل أنحاء الحجرة مذهولا باحثا عنه وأنا أجعجع بصوتى وأقول " أوناس " أين أنت ياصديقي الفرعون .....
... فلا تتركني أيها الرجل الغامض
فأين رحلت ومن أين جئت ؟!....

الفصل العشرون
يؤسينى انتهاء الرحلة فقد كانت شيقة إلى مدى لا معقول فقد تجادلنا فى القديم والحديث عن أرض عمرها ملايين السنين وحضارة عمرها أكثر من سبعة آلاف سنة ، فقد كانت لحظات جميلة وأحاديث رائعة ولكن لا مناص من الواقع فسرعان ما أدركت الحقائق ، فقد ذر الصباح ونسجت الشمس خيوطا دافئة قد نفذت إلى حجرتى وأنا ألزم فراشي وأقول : لا تتركني يا أوناس .... انتظر ....انتظر معي ولا ترحل " حتى أشرقت عيناي على نور الحجرة
ودخلت فاتن وهي تقول : أسامة .... ماذا حدث لك ؟! ... عما كنت تنادي ؟!
فبرحت السرير وفتحت الباب سريعا وأنا أقول : أين أوناس .... أين ذهب ؟
وأسرعت فاتن خلفي قائلة : عما تبحث يا أسامة ؟!
فقلت : عن أوناس أين هو ؟
فتساءلت متعجبة : ماذا تقصد بأوناس هذا ؟
فقلت : ونيس يا فاتن صديقي الذي تحبيه
فتجهم وجهها وقالت : أأنا أحب صديقا لك يدعى ونيس من أين أتيت بهذا الخبر ؟
قلت : صديقي الذي جاء معي من الأقصر وقضى عندنا عدة أيام
فقلت بحيرة : لم يكن هناك شخص قد أقام عندنا
ودخلت أمي على صوتنا العالي قائلة : صوتك قد اخترق أبواب الجيران فلماذا تصيح هكذا ؟!
فقلت لها : أين أوناس يا أمي ؟
فقالت عابسة : أو... نا ..س مَن ؟!!!!
فقلت : صديقى الذي كان يقيم عندنا وقمتي بطرده
فقالت مندهشة : لم يسكن معنا صديق لك ، فلا بد أنك جننت وتتخيل أشياء لا وجود لها ، لقد فاض الكيل بي وما عدت أتحمل
فقلت : أنا لم أتخيل وتذكري جيدا سبب خلافي معك على صديقى الذي سكن عندنا أثناء غيابك عند خالتي حينما كانت مريضة
فقالت ضاحكة : انك حقا لمجنون فخالتك لم تكن مريضة وأنا لم أذهب إليها منذ شهرين ، فأنت لست طبيعيا أبدا
وتدخلت فاتن قائلة : تمهلي يا أمي فربما كان يحلم فقد نام نوما ثقيلا حوالي إثنى عشرة ساعة، فقد كان نائما وهو ينادي على صديقه هذا
قلت حائرا : لا أظن أنه حلما ، فلقد شاطرني كل حياتي فى المأكل والملبس والمسكن ، فقد كان واقعا أدركته بكل حواسي
فقالت أمى بعطف : يا بني إهدأ فنحن لم نرى أي صديقا لك
فقلت : أنا لا أصدق حالى
فضحكت فاتن قائلة : ربما كان حلم عميقا يا أخى ، ولكن لا تجعله يحتل فكرك
قلت شاردا : قد كان رجل من العصور الفرعونية جاء إلى زمننا هذا واكتشف كل حاضرنا ثم رحل في لمح البصر
فابتسمت أمى وقالت برفق : هل يعقل يا ولدي كلامك هذا ؟
وقالت فاتن بتهكم : أهذا الفيلم من انتاج هوليود
فقلت مقطبا : بالله عليك لا تسخري فأنا لست محتملا أى رد فعل ؟
قالت أمى : كل هذا بسبب إفراطك فى قراءة التاريخ الذي سيطر على عقلك
وقالت فاتن : ان تذكرت ليلة البارحة لتأكدت أنه حلما ، حين كنت مع خطيبتك خارج المنزل وعندما جئت نمت مبكرا دون عشاء ... أتذكر ذلك
ورويدا رويدا تذكرت ما قالته فاتن ، تذكرت مشكلتى مع مريم الليلة الفائتة وتذكرت أوليفيا التي كدرت صفو جلستنا دون عمد حين جلست معنا ، وأخذني الوقت للتفكير فى أمور شتى ، حتى انتبهت أنني متأخرا عن العمل
وخرجت على الفور وفى الطريق كنت أستدعي الحلم في ذهني وأستأنف المواقف التي مرت فيه وكنت أضحك في دخيلة نفسي ، وفي الحق كان حلم جميلا خرجت منه كخروج آدم من الجنة ، وبسبب هذا المنام المريب تفاديت أكثر من حادثة أثناء القيادة .، حين ابتديت أغوص فى الحياة التي نعيشها وتذكرت أوناس حين قال أنه لا يود البقاء فى دنيا معتمه لا ترى بعيون الحب والخير والسلام ووقتها قلت في نفسي : ياليتنا دوما ننظر فى مرآة الروح كي نرى حقيقتنا

كان العمل على حال البارحة حتى بلغني موعد نهائي بوصول الوفد الفرنسي المكلف بصحبته إلى مدينة الأقصر وكان موعد الرحلة بعد يومين ، واذكر جيدا أن هذا الوفد هو الذي قمت معه برحله فى هذا المنام العجيب الذي انتهى بلقاء أوناس
وذهبت مع الوفد الفرنسي للأقصر وأسوان وقضينا هناك وقتا ممتعا ، وعندما توجهت مع السائحين للأقصر ، شعرت بأن شئ ينقصنيطفقت أبحث عنه فى كل مكان ، ورجعت أستعيد ذكريات المنام الذي إلتقيت بصاحبه فى نفس المكان الذي أشعر فيه أن روحه تطوف حولى ، كنت على أمل أن أجده ويصبح الحلم حقيقة فقد تاق قلبي إلى جلسته والإستماع إلى أحاديثه وأقاصيصه الفريدة .
وانصرمت رحلتنا ومضي أسبوع وتناسيت فيهم ذلك الحلم الأسطوري، فكرت طويلا الذهاب لمريم كي أصحح وضعي معها لكنى كنت خائفا أن يسوء الأمر أكثر من تصرف غير مقصود وقررت أن انتظر وقتا إضافيا حتى أتأهب نفسيا لمواجهة الموقف ، وفي يوم جاءت والدتي تقول : أن هناك زميل لفاتن يريد التقدم لخطبتها .
وروت بعض التفاصيل عنه حتى تحمست للأمر ، وعند موعد وصوله كنا ننتظره بالإضافة إلى عمي مختار وعندما رن الجرس نهضت لإستقباله وعندما فتحت الباب شحب وجهى حينما وقعت عيناى عليه حتى صرت أحدق فيه باستغراب وأمسكت به فرحا
وقلت : أوناس ... صديقى الرائع أين كنت غائب ؟
فقال الرجل دون اكتراث : لقد جئت حسب الموعد ياأستاذ أسامة
فقلت لوالدتى على الفور : أنا لست فى حلم يأمي ، فهذا هو صديقى أوناس الذى زعمت أننى كنت أحلم به
فقالت فاتن سريعا : ماذا تقول ..؟! ..... إنه أنيس زميلى بالعمل جاء ليخطبنى هذه الليلة
فقلت بصوت عال : أنت كاذبة ، تريدين أن أجن فهذا الرجل أوناس صديقي الفرعون الذي إلتقيت به فى الأقصر
فتساءل الرجل بدهشة : ماذا تقول يا استاذ أسامة ، أنا اسمى أنيس وليس أوناس وأنا لم إلتقي بك أبدا قبل هذا
وازداد انفعالي وقلت : وأنت أيضا كاذب ، هذه خطة اتفقتم عليها جميعا كي أجن وتتزوجا فى هدوء ، ولكن خطتكما مكشوفة ولا تدخل عقلي أيها الفرعون المخادع ، فزواجك منها من رابع المستحيلات
فصاحت والدتى بغضب : كف عن ثرثرتك يا أسامة فلا يصح حديثك هذا
وتساءل عمي : ما الأمر ؟ ... أنا لا أستفهم شيئا من قولكم
فقلت : هذا الرجل يا عمى صاحبي الذي كنت تلاعبه الشطرنج ... أتذكره ؟!
فقال عمي وهو يحد النظر إليه من تحت عدسات نظارته : هذا الشاب آراه أول مرة بحياتى ولا أذكر أنني إلتقيت به
فقلت بحدة : حتى أنت يا عمي متفق معهم ... فهذا الرجل الذي يبدو بعمر الشباب فرعونيا عمره ألاف السنين
فقالت فاتن : هذا هو نهاية قراءتك فى التاريخ ، قد عاد تأثيرها على أهلك
قال الرجل : بلاشك أن هذا الأمر به سوء تفاهم كبير ، وان كنت تشرفت بمعرفتك قبل هذا، فإنه شرف لي لا أخجل منه ، وعموما سوف أستأذن وأعود في وقت مناسب حين تكون قد فهمت الأمر
فأمسكت بكتفيه وقلت بغضب : لن أدعك تتركنى مرة ثانية اعترف بالحقيقة وقل إنك أوناس
فدفع الرجل يدي من فوق كتفيه وقال عابسا : أعترف بما أنا لا أفهم ماعلاقتي بالفراعنة وبحديثك هذا ؟
فأمسكت به مرة أخرى وقلت : أنت تريد أن أجن يا رجل
فقال عمى : دعه يمضي يا أسامة فلا يصح كل هذا منك
واستطاع الرجل أن يتملص من يدي وفر هاربا
وحين أردت اللحاق به أمسكنى عمى وهو يقول : يكفي كل هذه الفضائح فلقد طفخ بنا الكيل منك
وقالت والدتي : تصرفاتك لا تدل أنك طبيعيا فلا بد من ذهابك إلى طبيب نفسي يرد إليك عقلك
وأضافت فاتن أيضا : لقد خجلتنى بتصرفك وسوف تضر حياتى بجنانك ، فهذا الشاب أعرفه منذ سنوات لأنه زميلى بالعمل وأنت تعتقد أنه شخص آخر
وردت والدتي : أيعقل يا إبني أن يكون رجل عمره ألاف السنين يعيش فى ذلك العصر؟!
فقلت : ولم لا ، فربما تكون معجزة فإنه بالضبط نفس الشخص الذي تحدثت معه ، نفس الشكل والحركات واسلوب الكلام ، فكيف أصدق بعد كل ما رأيته أنه حلما
قالت فاتن : هذا زميلي وأعرفه جيدا ، هذه هي الحقيقة ولا كلام آخر
ثم انصرف وعادت أمي تقول : كل ما صار معك حلما وما زلت لا تدرك الحقيقة
رد عمي مختار : ما حدث لك ليس غريبا فلقد قرأت فى صحيفة ذات مرة عن فتاة أجنبية جعلت الأطباء يفعلون لها عمليا تجميل كي تصبح شبيهة للملكة نفرتيتي وحين سئلت عن السبب قالت إن نفرتيتي كانت تزورها بالمنام وأيضا كانت تحلم بممارسة حياتها العادية في قصرها وكان هذا الحلم يراودها منذ أن كانت صغيرة فذهبت إلى طبيب نفسي فقال انها متقمصة دور الملكة لأنها موجودة بداخلها فتمنت أن تكون شبيهة لها ، فينبغي أن تجلس إلى نفسك يا ولدي كي تفكر وتدرك واقعك
وانسجبت إلى حجرتي وخلوت إلى نفسي أفكر فى هذا الموقف المخجل وأنا متقلب الأطوار دون أسباب تستحق ، كنت في حيرة بين الحلم والعلم ولكن أين عقلي الذي يقيم الحقائق وماهى أدلة اليقين فى تواجد فرعون فى هذا العصر فإن كانت المعرفة الحسية تيقن وجوده فإن العقل يستريب فى هذا .
ماذا يحدث لي فهل ذلك حلم وتحول إلى حقيقة أم هو واقع وهذا استكمال لمسيرته ، فكل انسان يحام يعتقد أثناء الحلم أن كل ما يراه حقيقة ثم يصحو ليكتسف أنا كل ما عاشه كان حلما ولكن حالتي استثنائية حيث كنت أدرك بقوة واقع الأحداث ، فالحلم كان طويلا كأنه فى حياة واقعية مستمرة حتى الشخص الذي ظهر بغتة هو نفسه أوناس الذي أحبته فاتن ، كانت الملامح واحدة ونبرة الصوت وأداء الكلام ، ولكن الواقع ينفي حضور مثل هذه الأساطير فلا مجال للخيال فى الألفية الثالثة
كل شئ باق على حالة ، التاريخ الميلادي منضبط ، مشكلتي مع مريم مازالت قائمة وعملى على حالة حتى والدتي لم تبات أبدا عند خالتي التي لم تكن مريضة ولم تأتى ابنتها سارة مطلقا من لندن
والأهم أن المعلومات التي كان يرويها أوناس كنت أعرفها جيدا ومؤرخة بكتب مكتبتى الخاصة فابتديت أدرك الحقيقة المطلقة حين اتصلت بطارق وابتديت استدرج الحديث معه حتى أتيت بسيرة أوناس فاستغرب الاسم وتجاهل الأمر
أنا لم أعيش حلما ربما كان ادراكا مسبقا للحقائق ومغامرة جعلتني أعيش فى أرض الخيال حقبة طويلة حتى بالغت كثيرا في الأمر وعذبت كل مَن حولى دون سبب يستحق ولكني كنت معذورا فكادت الحيرة تبلغ بى إلى حد الجنون

الفصل الواحد والعشرون
قررت أن أعيش حياتى بصورة عادية بعدما عدت لصوابي وكان أول شيئا فكرت فيه هو الذهاب لمريم وصلحها لأبتدي معها حياة جديدة مثلما حدث فى المنام، لكن التشاؤم يهدم قراري ، حينما كنت صغيرا كنت أذكر جدتى لأمى تقول أن الحلم دائما ينقلب عكسا فتقاعست عن الذهاب فخشيت أن تخدش مشاعري وتغلق باب الأمل الأخير فى وجهى فعزمت على كتابة خطاب أعبر فيه عما بداخلي وبالفعل كتبت لها خطابا كنت أقول فيه :
حبييتي مريم
لقد قررت كتابة هذا الخطاب إليك لعله يكون شفيعا لأخطائي ، ، سأبوح لك بأسرار قلبي ونسيج أفكاري لأول وهلة فى حياتي ، لعلك تفهمين من هو أسامة المرشد السياحي ... من هو أسامة حبيبك .. الإنسان العادي ، فقلبي مؤمن بالعقيدة والحب والعمل .... أجل أنا انسان مميز الحالة أسعى لإمتلاك الشمس والقمر لأكون النور فى غياهب الليل والنجم الوحيد فى حضرة النهار وأنا أبغ أن أكون عنصرا هاما يساهم فى ازدهار هذا الوطن .
أنا أعلم يا عزيزتي أنه ليس بمقدوري تغيير المجتمع وتصحيح أوضاعه الخاطئة ولكني أمتلك طاقة محدودة أستطيع بها ولو تعديل جزءً بسيطا منه وهو السياق الذي أكون بداخله ألا يكتفي كل محيط بمواطن صالح يضيف إليه المُثل ويعدل أفكاره السيئة ويجعل أفراده يتشبثون بمبادئ لا حصر لها
فأذكر حين كنت صغيرا كان المرحوم والدي يود أن أكون طبيبا أو ضابطا أو مهندسا لكني خرجت عن جدول مخططاته ووضعت هدف دراسة التاريخ فى المقدمة وتغلبت على كل العقبات من أجل حلمى حتي تفوقت دراسيا وحققت حلمي بالإرشاد السياحي ،، فاليوم شبابنا صاعد الأمل ... متقاعد بلاعمل لماذا ؟!... هل لغياب الهدف الذي إن وجدناه عجزنا عن تحقيقه ؟! .... أم يعود السبب للبطالة السافرة والمقنعة ؟! وإن كانت هذه أسباب فكيف سنكون تاريخ للأجيال القادمة ،، كيف نكون بشر تسعى لتحقيق أهداف منشودة تجاري مجتمع يتقدم عما كان قبله
وماهي قيمة الحياة إن لم نستطيع تحقيق مآربا راسخة قد خلقنا من أجلها ، كالعبادة والعمل والزواج ؟!
بعد كل ذلك ألا يعجبك أن أكون شاب أكثر طموحا ، أترغبين بأن يكون لأولادك أبا محترما له مركز مرموق في ذلك المجتمع
أرجو ألا تستائي من أسلوبي بالعمل وإن وجدينى أجالس نساء قد عرفتهم بحكم ظروف العمل فلا تغاري فمن واجبي حسن معاملة الآخرين حتى إن كان خارج العمل
أنا لم يقسرني أحد على اختيارك زيجة لي فلقد عمك قلبي دون إكراه ، لذا ينبغي أن تعلمي أن الحب والزواج جزء من ضروريات الحياة ولكن يشاطرهما العمل والعبادة وسأعدك بعد اليوم بأنني سأوازن بينك وبين عملي وسأقلل من ممارسته الزائدة ان كان يرضيك كي تشعرين بالعدل بين العقل والعاطفة
حبيبتي مريم لقد حدث شيئا لا يصدقه عقل حتى أحسست بنجوة عن العالم الحقيقي وانقشاع الفجوة بين الواقع والخيال حتى أصبحت لا أثوب حقيقة وجودي ، ربما سيخبرك عمي بالكثير إن سألتيه ، فقدمي لي يديك الدافئة لأستمد الثقة من أنفاسك وساعديني على إدراك العالم من جديد ، ...... سأنتظرك دون أن يتفوه لسانك بالإعتذار أو الملام
سأنتظرك لنفتح صفحة بيضاء نكنت فيها إعلان زواجنا .....
.......... والسلام والشوق إليك
وتمنيت أن تستجيب لرسالتي وتحس بما داخلي وطفقت أستبطئها على جذوة وخشيت أن تجرحني بعدم ردها أو حضور أى رسالة منها توضح أمرها وانقضي اليوم دون أي محاولة منها بشئ
وعندما كنت فى الصباح خارجا للعمل وجدها هابطة على الدرج ووجهها يحمل ابتسامة مشرقة وفي عينيها السماح والقبول
وألقت الصباح وقالت بصوت ناعم : ليس كان هناك دعي لتبذل جهدك فى كتابة خطاب كهذا
قلت مخجلا : لم أجرؤ على مواجهتك ، أعلم أنك تحملت مني كثيرا وكنت لم أجد طريقة أرفع بها عيني أمامك
قالت بهزار : كوني أستهلك من وقتك نصف ساعة تقريبا لكتابة خطاب كهذا ، فيدل أنني احتليت مساحة كبيرة بقلبك
قلت : ابتديت أشعر بغيابك
قالت على الفور : كنت دوما انتظرك تأتي لأشعر بمدى أهميتي بحياتك ، لكنك تجاهلت شعوري ...... لم أكن كما تعتقد ولم أفكر يوما هدم حلمك بل أتمنى أن تكون ناجحا فلم يكن فى حياتي أهم منك ، فأنا لم أطلب منك دون أن تراني بحياتك كما ترى عملك
قلت : قد قدرت موقفك وأعلم أني قصرت بحقك كتيرا
فاستطردت قائلة بحياء : اكتشفت إني أغار عليك حين وجدت فتاة أخرى تحاورك ولم أسيطر على أعصابي فغضبت
قلت : سامحينى .... ستتغير كل حياتي لأجلك
قالت : أنا فى قمة سعادتى لأنى اليوم أشعر أن أسامة قد ولد من جديد ، سيعيش لأجله ولأجل الآخرين
قلت : هذه اللحظة من أجمل لحظات عمري لأني أحسست بمشاعر الحب
فلمعت عيناها من الفرحة وقالت : ستكون كل حياتى لأجلك ، فأنت حلم طفولتي وشبابي ومستقبل الغد
فقلت بإحساس وأنا أمسك يدها : أحبك ..... أحبك حتى آخر العمر
فنظرت في الأرض بوجه شاحب فقلت لها : ما رأيك أن نتزوج في أقرب وقت ؟!
فأومأت برأسها موافقة
وتزوجنا وعشنا حياة هادئة مستقرة واكتشفت بمريم أثناء معاشرتي لها صفات جميلة لم آراها من قبل ، واتنتهى الخلاف مع زائر المنام أوناس أو أنيس كما ينادونه وتمت خطوبته على فاتن بعد قصة حب طويلة رويتها لي بعد ذلك
وسأذكر جميلة التي كانت لها حكاية معي في هذا الحلم العجيب ، فقد تمت أخيرا خطوبتها وما أضحكني فى أمر خطوبتها أن خطيبها كان ضعيف البصر حين تذكرت أوناس حين قال : هذه الفتاة لا يمكن خطبتها إلا على شخص ضعيف البصر
قد تعلمت من هذا الحلم ما لم أتعمله من حياة ، فقد أعطاني معلمي الفرعون المصري " أوناس مفاتيح السعادة ، تعلمت منه كيف أحب وأكيف أسلك طريقي بين ضباب الدخان لأتجاوز مستقبل أفضل مما كان فى رحلة الأمس.........
* * * * *

كان أسامة كل يوم يكتب جزء ً من قصته هذه ،حتى صارت كل شغله الشاغل فى هذه الرحلة ، وفي مرة لمحه ماركل
فسأله : أراك دوما منهمك بكتابة صفحات كثيرة ، ألم تشمئز ؟!
قال بابتسامة باهتة : وهل يمل ُ أحد من كتابة مذكراته الجميلة ؟!
قال ماركل : ولكنك بمفهى عقلك بوادى وجسدك بوادي آخر
قال متفلسفا : هكذا الحياة أحيانا تأخدنا من عالمنا لأشياء أجمل
الكتابة جعلت أسامة يعيش الحلم مرتين فكان فى كل صفحة يكتبها يستدعي الأماكن والمواضيع والأشخاص وتمنى أن يعود لهذه الرحلة مرة أخرى لينفقها فى مغامرة جديدة ولكن لا مناص من واقع قدره لنا القدر .
وبعد انتهاء المصيف سافر إلى القاهرة وفي حقيبته ينام حلمه الرحال ، وكان يجتمع شمل الأهل فى المنزل وحين دخل البيت اندلفت إليه زوجته مريم تعانقه ولتهمس في أذنه قائلة : وحشتني كثيرا يا أنطونيو
فابسم وقال بصوت خافض : اشتقت إليك كثيرا يا كيليوباترا
وسلم على الجميع ودنا إلى أنيس وقال بصوت واضح : كيف أنت ياخطيب أختي ؟!
قال أنيس : جميعا بخير حين رأيناك
ففتح أسامة حقيبته وتناول منها مذكراته المكتوبه وأعطاها لأنيس وهو يقول بإبتسامة خفيفة : هذه مغامرتك يا أوناس
فرد حائرا : تقصد أنيس ..... أنيس يا أسامة ... أعدت إلى حالتك السابقة ؟!
فضحك الجميع من الموقف
وقال أسامة : ستبق دوما أو ... نااااس....
.......




صديقه القلم الكاتب غير متواجد حالياً  
قديم 18-03-17, 12:06 PM   #2

um soso

مشرفة وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومراسلة خاصة بأدب وأدباء في المنتدى الأدبي

alkap ~
 
الصورة الرمزية um soso

? العضوٌ??? » 90020
?  التسِجيلٌ » May 2009
? مشَارَ?اتْي » 33,769
?  مُ?إني » العراق
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
?  نُقآطِيْ » um soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond reputeum soso has a reputation beyond repute
افتراضي

صباح الخيرات
عزيزتي روايتك اصلا مفتوحه ومتروكه بعد ان نزل منها 20 فصل

https://www.rewity.com/forum/t354978.html

وقبلها كنتي قد نزلتها على مااذكر باسم رحلة فرعون
وايضا تركتها
وهذه ثالث مره تفتحين نفس الموضوع وتنزلين كل الفصول دفعة واحده
الان عندك موضوعين مفتوحين بنفس الاسم وهذا مخالف للقوانين
ايهما نحذف ؟


um soso غير متواجد حالياً  
التوقيع
روايتي الاولى وبياض ثوبك يشهدُ

https://www.rewity.com/forum/t406572.html#post13143524

روايتي الثانيه والروح اذا جرحت
https://www.rewity.com/forum/t450008.html





قديم 20-03-17, 12:11 AM   #3

صديقه القلم الكاتب

? العضوٌ??? » 348649
?  التسِجيلٌ » Jul 2015
? مشَارَ?اتْي » 254
?  نُقآطِيْ » صديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond reputeصديقه القلم الكاتب has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة um soso مشاهدة المشاركة
صباح الخيرات
عزيزتي روايتك اصلا مفتوحه ومتروكه بعد ان نزل منها 20 فصل

https://www.rewity.com/forum/t354978.html

وقبلها كنتي قد نزلتها على مااذكر باسم رحلة فرعون
وايضا تركتها
وهذه ثالث مره تفتحين نفس الموضوع وتنزلين كل الفصول دفعة واحده
الان عندك موضوعين مفتوحين بنفس الاسم وهذا مخالف للقوانين
ايهما نحذف ؟
شكرا لتقديرك وذوقك
تقدرى تحذفى اللى فات وتبقىهذه
تحيتى


صديقه القلم الكاتب غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:56 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.