آخر 10 مشاركات
تسألينني عن المذاق ! (4) *مميزة و مكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          و أمسى الحب خالدا *مكتملة* (الكاتـب : ملك علي - )           »          نوفيــ صغار أسياد الغرام ـلا -قلوب زائرة- للكاتبة الآخاذة: عبير محمد قائد *كاملة* (الكاتـب : Just Faith - )           »          شيوخ لا تعترف بالغزل -ج3 من سلسلة أسياد الغرام- لفاتنة الرومانسية: عبير قائد *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          بقايـ همس ـا -ج1 من سلسلة أسياد الغرام- للكاتبة المبدعة: عبير قائد (بيرو) *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          صمت الجياد (ج2 سلسلة عشق الجياد) للكاتبة الرائعة: مروة جمال *كاملة & روابط* (الكاتـب : Gege86 - )           »          همس الجياد-قلوب زائرة(ج1 سلسلة عشق الجياد) للكاتبةالرائعة: مروة جمال *كاملة&الروابط* (الكاتـب : Gege86 - )           »          العشيقة البريئة(82)للكاتبة كارول موتيمور(الجزء الثالث من سلسلة لعنة جامبرلي) كاملـــه (الكاتـب : *ايمي* - )           »          وشمتِ اسمكِ بين أنفاسي (1) سلسلة قلوب موشومة (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree81Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-10-22, 07:42 PM   #1

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي نون عربية بحلة جديدة (2022) بقلم نخبة من كاتبات وكتاب القسم *مميزة ومكتملة*





أعزّتنا رواد قصص من وحى الأعضاء
بكل حب..نُقدّم لكم رواية نون عربية
مع صُحبة أقلامٍ كتبت فأبدعت على صفحات روايتي

هذه الرواية المشتركة هو نتاج عمل اشرف عليه وأعدّه فريق اشراف وحي الاعضاء عان 2012
وخاصة مشرفتنا السابقة ومن مؤسسي القسم؛ سارة Sarah صاحبة فكرة الرواية بجمع اقلام مميزة لكتابتها وأشرفت بنفسها على كل التفاصيل،فألف حب وامتنان وتقدير لها


نقدم لكم الرواية اليوم بحلّة جديدة ونسخة أكثر وضوحاً
ف
كثير من القراء اشتكوا من عدم وضوح النسخة الاصلية وصعب عليهم قراءتها، ولهذا عملنا بجد لإعادة تجميعها
فنرجو ان تنال رضاكم وتستمتعوا بقراءتها


إليكم ...







رواية بقلم نخبة من كاتبات وكُتّاب قسم وحي الأعضاء، باللغة العربية الفصحى، مع استخدام لبعض الحوار المتفرقة القليلة باللهجات المحلية لبلداننا العربية لإضفاء بصمتنا وروحنا.
أسماء الكاتبات والكُتاب المشاركين بكتابة الرواية (حسب الظهور)؛
(حسب الظهور)؛
سارة جوزيف.. بقلم الكاتبة السعودية سارة Sarah
ريتشيل زينب.. بقلم الكاتبة العراقية كاردينيا الغوازي
خولة سعود.. بقلم الكاتبة السعودية واعدة
مينة أحمد.. بقلم الكاتبة العراقية نسيم الغروب
مونيا العلوي.. بقلم الكاتبة المغربية ماروسكا
علياء عبد الحميد.. بقلم الكاتبة المصرية فاطمة كرم
ديمة مصطفى.. بقلم الكاتبة السورية بلومي
لين الطاهر.. بقلم الكاتبة الأردنية مهاتي
الحرباء والزئبق.. بقلم الكاتب المصري كونان










******************

رابط الموضوع الاصلي

https://www.rewity.com/forum/t192043.html

فريق العمل الاصلي علم 2012


ساهم في انجاز العمل عام 2012؛ مجموعة من المشرفات والمدقّقات
الاشراف العام على الرواية وسير احداثها وقيادة الكاتبات والكتاب فيها؛ سارة (Sarah)
تدقيق فصول الرواية؛ مجهود مشترك لفريق إشراف وحي الأعضاء ومساعديه؛ كاردينيا الغوازي، نسيم الغروب، هبة، هادية، سارة (Sarah)، gege gemy، small baby

**************


فريق العمل لتعديل النسخة الجديدة وتجهيزها للعرض



تجميع الفصول فيالنسخة الحديثة (2022)؛ كاردينيا الغوازي، مريم تميم
تصميم الغلاف والصفحات الداخلية (2022)؛ كاردينيا الغوازي
تجهيز كتاب الكتروني جديد بحلّة جديدة (2022)؛ كاردينيا الغوازي
تدقيق لغوي (إضافي)؛ منى لطيفي نصر الدين


*********************

روابط الحلقات

اهداء.. في المشاركة التالية
المقدمة
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة والأخيرة
الحفل
الخاتمة خاتمة نون عربية

*************



التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 24-10-22 الساعة 09:57 PM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 15-10-22, 09:22 PM   #2

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي نون عربية بحلة جديدة (2022) بقلم نخبة من كاتبات وكتاب القسم



اهداء
لأهل النون العربية

من خلف حاجزٍ زجاجي حجمه يتراوح بين 19 - 8 بوصات ابتسم بفخر لغلاف الرواية (نون عربية) لا أعرف عندمَا اخترتُ لهذه القصص الظهور على هذه الصفحات، هل دخلت قلوب القراء؟!
نافذة روايتي على الشاشة الحاسوب لا أغلقها أبدا، متصفح الفايرفوكس يسميها "ألسنه".. سأفتح لساناً أخر لأتابع التغريدات على تويتر والرسائل في الفيس بوك.. والهوت ميل.. والياهو..
أظن النون العربية ثورة جديدة في العالم الافتراضي توازي ما يحدث في العالم من ثورات، ولكنها ثورة من نوع خاص ثورة في عالم الكتابة بخط جديد لم يكتب به من قبل.
فقد أوجدت النون العربية خطا جديدا.. والكتابة فن.. نستطيع من خلاله أن نرسم بالحروف لوحاتٍ ونعزف بالكلمات لحناً.. قصص جمعتها لكم لتكون في روايتي..
2012


***


نقيم في نفس المدينة
نتنفس الهواء ونفرح ببكاء السماء
نمشي في شوارعها ونشم رائحة أحلامنا.. ونسعى لتحقيقها
نتشارك في الصباح الجرائد؛ نتناولها حرفاً.. حرفاً،
وفي المساء نتجرع ما يعرضه التلفاز من مرارة،
وبين الفينة وأختها؛ نتأمل ملامح أطفالنا حنيناً للوطن!
أنه.. واقعنا..
عندما امتزج وأضاءت معالمه وزواياه - الظاهرة المخفية -
خطوط وأحرف من خيال
بين وريقات نكهتها ملامحنا،
عندما تلخّصت في نظرة.. في فكرة تشدّ الأزر
في ملمس، ذكرى، إحساس ورائحة
في قلم أرخ لنا وبنا
فقلّب تاريخ الأوراق
ماضٍ، أمل، ألم، حنين و.. أحلام
كلمات تجمعنا، محبرة نسقيها، مداد يروينا
وحرف يُسمينا (ن عربية)




التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 16-10-22 الساعة 09:48 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 15-10-22, 09:25 PM   #3

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي نون عربية بحلة جديدة (2022) بقلم نخبة من كاتبات وكتاب القسم

المقدمة



سَأقلب مَعكم الصَّفَحَات، كَمَا تَفَعَلُ هي بورقةٍ كُتِبَ أعَلاَها (مُقَدِّمة)، تَعِبَت مِن قراءتها لأنهَا ستكون مدخلها للعِمَارَة، ثُمَّ قَلَّبَت بَينَ يَديهَا عَدد من القصاصات المُلْوَنة واتجهت إلى الحائِط الكَبِير خَلَفَ مكتَبِهَا، إلى اللوح الخَشَبِيّ المُثَبّت عَليه تَحْدِيداً، أخذَت الدبابيس بلون البِطَاقَاتِ وهِيَ تُحَدِّث نَفسهَا؛
(انقضى شَهَر من المراقبة وَجَمَع المَعْلُومات واليَوْم أنجَزَّت أول الصَّفَحَاتِ، أوه جاراتي الغالِيّات استعددن للظهور على لَوَّحَتي)
وبَدأت بالتثبيت أولاً ريتشيل وأخَر القِصَّاصَاتِ لليّن الجَارَة السَابِعة، أسَنَدت كَفَّيهَا عَلَّى مكَتَبِهَا بَعد أن انتهت مِنّ تَرْتِيب البطاقات وتأملت ما تَحْتويه مِنّ مَعْلُومَات عَنْ شُخُوصِها، أخَرَجَت الورق الملون مِنّ داخِل المُغْلَف.. مَعَ صَوت العَصَافِير.. وصَوت معدات البناء، ومظَاهِر الحَيَاة الَّتِي تُزعِجهَا لا تستَطِيع العَمَلَ عَلى ما بدأت بِه، تُحِبّ أن تَخلِقَ لَهَا دائِما ًجَواً خَاصاً هادئاً ليحتوي صخبها وجنونها الَّذِي تُنثِرُه هُنَا وهُنَاك، تَمَدَّدَت عَلى سريرها وعينيها مُغلقتان، وصَوت فَيْرُوز تُغَنِيّ؛
خذني يا حبيبي.. على بيت ما له أبواب، خدني يا حبيبي على قمر الغياب نساني بالغفى بأيام الصفا تترجع الليالي ويرجعوا الأحباب.. يا حبيبي يا حبيبي يا حبيبي.. خدني ولا تخدني الفرحة على الطريق.. حبك بيحصدني وما عندك رفيق.. يا أمير الصيف وين أخذت الصيف بشوفك وما بشوفك وضايع بالضباب
والخيوط التي وجدتها تَنّتظم فِي رأسِهَا، نَفَضت عَنْها فِرَاشها وهِيَ تسمع خطوات سَرِيعة عَلى دَرَجَ البنَاية لدَقائِق طَويلَة تساءلت (هَلْ المصْعَد مُعَطَّل)
وعِنْدَمَا فَتحْت بابَ شقّتهَا الأرَضَّية ظَهَرَت لها ريتشيل بِقَوامها الطَوِيل.
(ما يزال الوقت مُبَكِّرا يا خَفِيفة الظَل، ألا تَعرف رَشِيقة القَدّ بأنهَا توقظ سُكَّان العمارة بنِزُولهَا السَرِيع عَلَّى الدَرَجَ وتُنغّص عَليهِم يَوْم عُطلَتِهم؟!)
نَفَخَت بَغَضَب وأغَلَقت البَاب واتجهت إلى مكتَبِها تُفَكر، يَجب أن أصل إلى نَتِيجة، وعِنْدما رَفَعَت رأسَها للقِصَّاصاتِ المُلوَنة ابتَسَمَت للجَارات السَبُع بِحبُورٍ..


**********


ريتشيل زينب

في الثالثة والثلاثين، طويلة رشيقة، لم تكن جميلة لكنها جذابة بشعرها الذي يتموج بين اللونين الأشقر والكستنائي، عينان خضراوان وبشرة بيضاء رقيقة قد تظنها ستتمزق من أي خدش بسيط!
حيويتها أكثر ما يميزها، لا ليست الحيوية فقط، بل الهدوء الذي تتحرك فيه لتنجز مهامها اليومية.
خفيفة الظل.. حنونة.. متفهمة لأي شخص أو على الأقل تحاول أن تتفهم، شديدة الذكاء رغم أن ذلك لا يبدو عليها! وأخيرا.. عاطفية، عاطفية جدا، قد يبدو هذا غريبا لأفكار العرب عن الانجليز عموما، وقد يفسرها البعض لأصولها التركية و.. العربية أيضا ً.
تقول عن حياتها؛
(اسمي مركب؛ كما يفعل الانجليز عادة، لكن والديّ اقتسماه بينهما كما حاولا اقتسام توجهاتي، بالإضافة للغتي الأم الانجليزية تعلمت لغتين، التركية والعربية، أصر والدي أن أتعلمهما فأصبحت أتقن القراءة والكتابة أما التكلم فظلت تلك اللكنة الخاصة كلعنة تلاحقني لأنها كانت تثير امتعاض أبي، لكنه كان مرتاحا أني على الأقل أستطيع أن أقرأ وأكتب وبالأخص؛ أن أقرأ،
ربما شعرت ببعض الضياع في فترة المراهقة بين ثقافتين مختلفتين تماماً لم يجمعهما إلا بوجود الخالق والإيمان بحرية الإنسان وفكره،في الطفولة اعتدت أن أذهب مع والدي للمسجد بينما أمي تلتزم الصمت، وكنت أرى هذا غريبا نظرا لأنها كانت دوما تتناقش مع أبي في كل شيء بمرح طبيعي إلا مسألة ذهابي للمسجد! الأطفال يتقبلون الأمور ببساطة، أبي مسلم وأمي مسيحية، إذا أنا مسلمة لأني أتبع أبي، هذا ما قاله لي، لكن ما لم أفهمه هو لماذا أحمل جنسيتين بدلاً من جنسية واحدة؟! فأنا انجليزية وتركية، أمي انجليزية أما أبي فأمره أكثر تعقيدا! فهو تركي من أصل عربي وحامل للجنسية الإنجليزية.
كانت معضلة أرهقت عقلي عندما كنت في التاسعة ولا أكف عن التفكير بكل صغيرة وكبيرة تحدث حولي، معضلة حلّها لي والدي أخيراً عندما أخبرني أن الإنسان يمكنه حمل جنسيات متعددة لأنه تنظيم دنيوي، لكن الدين تنظيم إلهي ويجب أن نكون محددين فيه، وببساطة.. اقتنعت.
هذا الاقتناع تزلزل في المراهقة عندما شعرت بالاختلاف عن أقراني، فالمسلمات اللواتي كُنّ معي ملامحهن تنبئ بوضوح عن الريح القادمة من الشرق الأوسط، أما أنا فلم آخذ من أبي شيئاً، فحملت جينات أمي الشكلية لأكون انجليزية الهيئة حتى الصميم، كنتُ مثارا لسخرية الطلبة الانجليز وريبة الطلبة المسلمين! فلم يعترف بي لا هؤلاء ولا هؤلاء، كم كانت فترة عصيبة في حياتي، ولكن والديّ أحسنا التعامل معي وكانا خير معين لأتجاوزها مع بعض الجروح في روحي التي لم تندمل حتى الان.
كم افتقد والديّ، وفاتهما وأنا في السنة الأخيرة من الجامعة كانت ضربة قاصمة لي، ولكني فتاة قوية كما كانا يقولان لي دائما واجتزت الامر كما اجتزت الكثير، بنيت نفسي ولي عملي الذي أحبه كمديرة لقسم الحسابات في شركة محترمة ولي شقتي الخاصة التي أعشقها لأني أثّثتها بنفسي قطعة.. قطعة، مع بعض التذكارات النفيسة من والديّ.
لا يعكر عليّ صفو حياتي إلا احساسا مضنيا بالوحدة يداهمني بين فترة وأخرى، أريد أن أتزوج، أريد أن أنجب أطفالا، أنا في الثالثة والثلاثين ولم تكن لي علاقات عاطفية حقيقية، على الأقل لم تكم جسدية، لأني آمنت من أعماقي أنها طهارة للروح وعفّة للنفس أن أكون لرجل بمباركة من الله، فمتى سأجد رفيق الدرب؟!)


**************



خولة سعود



ذات الثلاثين عاما، متوسطة الطول والجسم، سوداء الشعر، بنية العينين، سمراء البشرة، ناعمة الملامح، تعيش في لندن منذ زواجها بخالد قبل خمس سنوات، لديهما توأمين في سنتهما الأولى واللذان لا يتوقفان عن الصراخ والصياح للحظة.. لديها قناعه غريبة عن المؤامرة وتقول (بأن إجابات محرك البحث قوقل يقولون إن نظرية المؤامرة هي وسوسة وشك وهي شماعة الجبناء، وتنفي هذه التهمه عن نفسها.)
وتقول عن حياتها؛
(حياتي ما هي إلا مؤامرة بعد أربع بنات، أرادت أمي التوقف عن الإنجاب، فقرر أبي أن يتزوج ثانية لتنجب له صبي، حينها قررت أمي أن تحمل بي وهكذا حضرت إلى هذا العالم... إذن ولادتي كانت مؤامرة من أمي لمنع أبي من الزواج والذي تزوج للأسف.
قبل خمس سنوات، وعندما تقدم (خالد سعد) لخطبتي، نجحت خالتي - زوجة أبي - في إقناعنا جميعاً بالموافقة على خالد، وتم الأمر وتزوجت لأكتشف في النهاية أن خالتي خطابة وأنها هي من دلته علينا.. إذن زواجي كان مؤامرة من خالتي حتى تحصل على المال من زوجي.
في الحقيقة أنا شاكرة لهذه المؤامرتين، لأن الأولى وهبتني بعد الله تعالي الحياة، حياتي التي نمت بين أسرة سعودية محافظة تقليدية بحته، والتي قامت - سامحها الله- بمحاربتي بسبب سفري للخارج، مع الأخذ بالعلم بأنهم وافقوا عندما أخبرهم خالد وقت الخطبة بأنه يريدني أن أستقر معه في بريطانيا. أعود وأقول إني شاكرة للمؤامرة الثانية أيضا لأنها وهبتني بفضلٍ من الله زوج غير موجود إلا في قصص الخيال، فزوجي الرائع خالد يعيش في لندن منذ أكثر من خمسة عشر سنة، ذلك أنه حصل على بعثة بعد الثانوية، فدرس البكالوريوس والماجستير و من ثم تم تعينه في إحدى شركات البناء المرموقة كمهندس تنفيذي، عيشه في لندن - باعتبارها بلد أجنبي غير مسلم - لم يقم بإفساده، بل على العكس، أولاً زاد تمسكه و فهمه للدين، ثانياً أصبح عقله متفتح و واعي و متفهم، ثالثاً اكتسب الكثير من العادات و المبادئ الجيدة المنتشرة في أوروبا)
ترى أن أهم مرحلتين في حياتها تمت عن طريق المؤامرة، فقد أصبحت الخبيرة في اكتشاف المؤامرات.
ومازالت تساؤلاتها عن المؤامرة مستمرة
(هل انتقالي إلى لندن مؤامرة؟ هل سكن الأسر العربية في عمارتنا هي مؤامرة؟ بل والأهم من ذلك هل بكاء وصياح طفليّ هو مؤامرة؟)


**********



مينة أحمد



ثمان وعشرون عاماً، عراقية الجنسية، عربية الملامح بعينين بنيتين، أكثر الناس يصفونهما بالقاسيتين، متوسطة الطول، رشيقة، بسبب الحرق المستمر للسعرات الحرارية من المزاج الفوضوي المشتت الذي تعيش فيه.
تقول عن حياتها
(حياتي أقرب إلى الرتابة والملل عدا من نوبات الغضب التي أشعر معها إني مازلت على وجه البسيطة وتشعرني بعدها بالراحة.
ثلاثة أرباعي أعيش في الماضي الذي نسجته حولي كأسلاك شائكة من لحظة هروبي من أرض وطني أو الأصح مُهربة من قبل خالي و أخي تحت جُنح الليل و أنا في حالة انهيار لم أعي ما حصل منذ لحظة طلاق أمي و هي نفسها لحظة نجاحي بالثانوية و أيضا حتى لا أكون زوجة ثانية لابن عمي و في نفس الوقت أم لأولاد لم تنجبهم زوجته الأولى.. لأنفي تلك اللحظة اكتشفت أشياء كثيرة كنت أهرب منها وزواج والديّ كان عن قصة حب.. مرت عشر سنوات وأنا أعيش مع شقيقي مازن في تلك البلاد الباردة كمشاعري الباهتة التي أصبحت تحت التهديد بلون الربيع الذي بدأ يكتسيها من حب قررت أن أنهيه حتى يبقى ذكرى جميلة و لا يتحول إلى كابوس كما حصل مع والدتي، و هو ما يعيشه الربع الرابع من نفسي في صراع دائم من التلذذ بتلك المشاعر الجميلة أو التفكير بخطة وكذبة جديدة لأبعد عني صديق شقيقي و هو في نفس الوقت خطيبي الذي وافقتُ عليه مجبرة راضية.
مع العلم كل من يرانا يظننا متناسبين، ففارق العمر جميل يكبرني بأربع سنوات عمره (32) عاماً، ناجحان في عملنا و الأكثر تميزا هي علاقة الصداقة و الأخوة التي تربطه بأخي منذ (14) عشر سنة، ظنا أن علاقتهما تتوطد أكبر بوجودي عامل مشترك بينهم، يحب عمله كثيراً في هندسة الطاقة النووية و ينوي إكمال الدكتوراه في هذا المجال و يثني على اختياري لدراسة الاقتصاد و للقسم المالي بالذات و لا يعرف لِمَ اخترت هذا المجال و مقدار الصعوبة التي أواجهها و ما أزال أواجهها لأثبت لنفسي أولاً و لمن أعمل معهم إني قادرة على تحمل المسؤولية و إحراز النجاح أكثر وأكثر)
مرتبطة بعلي صديق شقيقها وتصف علاقتهما؛
(لا أعرف كيف يستطيع أن يتحملني ويصبر طوال تلك السنة والنصف وأنا في جفاء مستمر معه وصد لأي محاولة تواصل عادية بين فتاة وخطيبها الشاب الوسيم مع العلم بأنه تم عقد القران دون علم أبي، فقط أمي وأخي وخالي هم من يعرفون، سأطالب بجائزة الأوسكار لإجادتي اختراع الكذب والحجج حتى أتهرب من ذلك الارتباط ولقاء علي ليس كرهاً بل خوفا و هروبا من المستقبل.)


***********



مونيا العلوي

ست وعشرون سنة، متزوجة ولديها طفل في سنته الرابعة، مغربية الجنسية والأصول والملامح، في خليط ممتزج من السمات العربية والأندلسية مع البهارات الفرنسية، ذات قوام رشيق.
تقول عن حياتها؛
(أنا إعصار بحد ذاته في البيت وحتى في العمل، إعصار يدور ولا يهدأ أبداً، 'مجنونة' هكذا سموني أخواتي العاقلات (عاقلات كما يرونهم والدي والمقربين) في المغرب، لأنني ببساطة خلقت عالماً خاصاً بي، مسموح لأي أحد الدخول إليه ولكن غير مسموح تماماً هدمه أو تهديد وجوده، أهم ما يميز عالمي أنني أستطيع فعل كل شيء و كل شيء ممكن.. أعيش من أجل كل شيء، أدافع عن أفكاري و أصرخ بها حتى لو كانت ستتسبب في الحرب العالمية الثالثة، و بسبب أفكاري و معتقداتي، طُردت من المغرب بطريقة لطيفة، عندما جلبت مشاكل عديدة لوالدي، على أثر جنوني و احتجاجاتي و المظاهرات السياسية التي كنت أترأس تنظيمها، فضل والدي أن يرسلني خارج البلاد بحجة إكمال دراستي، أكملتها في فرنسا، لكي أجوب بعدها كل البلدان، مهنتي و هوايتي في نفس الوقت كانت و ماتزال هي التصوير و التقاط اللقطات النادرة و الغريبة، قد لا يرى البعض شيئاً مميزاً في تلك الصور التي ألتقط بينما أنا أراها رائعة و مميزة للغاية.. التقيت بعدها في إنجلترا بـ ياسر زوجي في رحلة لي للقبور الملكية البريطانية، كان لقائنا غريباً، طبعاً بسببي بعد أن أحدثت مشكلة عويصة له عندما استخف بي.. لكي نتزوج بعدها عن حب مجنون، بعد أن أثرنا جنون بعضنا البعض.. شخصيته العملية والصارمة في عمله ومع زملائه كانت تتغير كلياً معي أنا.. يرى في جنوني نفسه عندما كان مراهقاً بينما أنا أهم ما أحببته فيه أنه تقبل جنوني بسعة صدر، بل هو السبب الأول لزواجنا معاً.. تقبل عالمي الذي بنيته بنفسي ووضعت أساساته وجعلتها قوية متينة لي.. دخل إليه.. لم يعتبره عالمه الخاص لكنه أحب التشارك به معي.. دفعت ثمن حبي له غالياً وهو أنني لم أعد أستطيع التنقل أينما أردت.. لأنني استقريت معه في إنجلترا منذ أن تزوجنا.. أحب التجوال واكتشاف العالم بأسراره وخباياه لكنني أختنق لو بقيت في مكان واحد لمدة طويلة إلا بلدي، فهي قاعدة استثنائية.. شيئان جعلاني أصبر على مكوثي هنا في لندن.. أولهما زياد والشيء الثاني هو إقامتي في هذه العمارة التي تجعلني أشعر بأنني في الجامعة العربية وليس في لندن حيث ضباب أوروبا وصقيعها يتربع على عرش سمات المدينة.. هناك شيء ثالث جعلني أصبر على اضطراري للاستقرار هنا.. وهو بأنني سأوصل أفكاري وآرائي لبلدي ولكل البلدان العربية عبر الكتابة التي أصبحت شغوفة بها.. كتب جريئة سياسياً.. كان فيها ناقدي ومناقشي وقارئي الأول هو زوجي.. زوجي الذي أعرف بأنه يشعر بالذنب لتركه لي وحيدة معظم الوقت بسبب انشغاله بأعماله لذلك يدع لي حرية إخراج نفسي من ضباب لندن إلى النور بأفكاري الجريئة.. مع أنني لم أتذمر يوماً من انشغاله، حتى لو أنني افتقدته كثيراً.. ألم أقل لكم مجنونة.. ليس عليّ التذمر لأن القاعدة الأولى في عالمي هي أخذ الأمور بروية وتفهم طبعاً بعيداً عن الأمور السياسية.. هناك تختلف القواعد.. زياد يدعني أجن كما أريد وأصرخ وأعبر بطرقي الخاصة المجنونة.. لكنني أعرف جيداً بأنه كمن يربطني بحبل يرخيه عندما يرى بأن جنوني مازال في حدود المعقول بالنسبة له.. لكن يشده عندما يراني قد بدأت فى تجاوز تلك الحدود التي وضعها بنفسه والتي مازلت غير مهتمة بمعرفتها.)


*************


علياء عبد الحميد

تبلغ من العمر 28 عاماً ملامحها مصرية خمرية البشرة وعيونها سوداء والكحل رباني أما رشاقة قوامها الطويل فهذا لا يعود لأي حمية فقط معدل الحرق عندها أعلى قليلاً من الطبيعي!
هي الابنة الوحيدة لوالديها حصلت على ماجستير رياض أطفال الشهادة تزين بها حائط غرفة معيشتها في إطار جميل.
تقول عن نفسها
(أنا زوجة لعمرو عبد السلام ابن خالتي الكبرى يكبرني بعامين، تزوجنا منذ كنت في العشرين من عمري أي في عامي الجامعي الثاني، هو هادئ الطباع تقريباً لا يبالي بأي شيء أنا من تبالي بكل الأشياء!
له غمازة في خده الأيسر تضيء وجهه عندما يبتسم، في الصغر كانت تثير فضولي حد لمسها، وعندما كبرنا كانت السبب الرئيسي في قبولي لزواجي من ابنٍ لخالةٍ تدعى رئيسة وهي رئيسة اسمٌ على مسمى! أما ما درسته في تخصصي أطبقه على ابنتي الوحيدة آية عمرو عبد السلام، عمرها الآن سبع سنوات، انتقلنا حديثاً لإنجلترا كي يكمل عمرو دراساته العليا في إدارة الأعمال.
الحياة مريحة هنا فكل ما حولي نظيف لا أضطر لمسح الشقة ثلاث مرات يومياً فقط أكتفي باثنتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء، أشتاق كثيراً لأمي وأبي نتيجة لهذا الاغتراب، ولكن رغم كل شيء هكذا أفضل!)




************



ديمة مصطفى



تبلغ من العمر 27 عاماً، ذات جمال هادئ.. شعر كستنائي طويل بلا نهاية.. وعينين بلون الشهد.. وملامح شامية مميزة.. تكللها غمازة شقت ذقنها، وأفصحت عن تمردها.. وطباعها النارية..
تقول؛
(لم أُخلق على الإطلاق لأكون زوجة عادية وربة منزل تقليدية.. تركيبتي صُممت لأكون أحد معالم الإبداع في هذه الدنيا.. وإن كنت ربيبة إحدى الحارات الشعبية لمدينة حلب.. هذا لا يعني أن أقضي حياتي في صنع المحاشي والكبب.. عندما تقدم لي (إياد الأمين)، الذي ارتحل قبل سنوات طويلة إلى لندن للتقدم لامتحان الإم بي إيه في دراسة الجدوى والتسويق، واستقر فيها بعد نجاحه، وجدت في زواجي منه فرصة لمغادرة عالمٍ لا يعترف بإبداع النساء.. هناك.. في بلد يقر بالمساواة بين الرجل والمرأة.. مع زوج يبدو في غاية التحضر.. بعويناته الأنيقة.. وملابسه المهندمة.
سافرت معه دون أن أدرك بأنني أسافر من حلب كبيرة مساحتها (..)، إلى حلب صغيرة حدودها شقة الزوجية!
أنا أكره الطهي وأكره التنظيف ولم أُخلق بتاتاً كي أقوم بأي مهام منزلية.. وها أنا.. غارقة منذ ساعات في لف ورق العنب.. وكأنني لم أغادر قط مطبخ أمي.. أصرخ بين لحظة وأخرى في ولديَّ طالبة منهما التزام الهدوء.. أسترق النظر عبر نافذة المطبخ.. أتأمل لندن التي لم أعرفها إلا من خلال زوجي.. برفقته ومن خلال عينيه.. أسرح في عوالم صنعها خيالي.. لا أملك إلا أن أختلق قصصاً وحكايا.. أتأمل في حياة من حولي في العمارة التي أختار القدر أن تكون سجني منذ زواجي وانتقالي إليها قبل 8سنوات.
ينام أطفالي في الثامنة ويعود زوجي في التاسعة.. ساعة واحدة هي ما أناله يومياً من الحرية.. قد أتصل فيها بعلياء لأثرثر معها قليلا عل زوجها قد تأخر.. أو أمر بريتشيل لأستعير منها كتاباً جديداً.. وقد أشاهد حلقة قديمة معادة من مسلسل أمريكي ممل أو ربما أقضي الوقت في فعل لا شيء على الإطلاق.. أحلم بالحياة التي كان عليّ أن أحظى بها.. لولا تكاتف سوء حظي مع القدر في حرماني منها!)


*************



لين الطاهر

في الثالثة والعشرون، متزوجة منذ خمسة أشهر من الدكتور راشد عاهد الحسيني.. فخر والديه وعائلته الكريمة، ابن عمتها، اثنا عشر سنة هي الفارق العمري بينهما..
تقول؛ (وبالرغم من أنه ابن عمتي إلا أنني أكاد لا أعرفه! كنت أراه بمنظار خاص ليتجسد عالمه كله في صور متلاحقة لعمل وكتب ودراسة.. أعترف بأني كنت معجبة بنجاحه و أبحاثه التي كان يحدث بها والدي حين كان يأتي من الولايات المتحدة خلال سنواته الدراسية.. لكنه لم يتخط بتفكيري أكثر من ذلك... فلم يكن يمثل لي إلا القدوة الحسنة خصوصاً وإني أحب مهنة الطب كثيرا وكان حلمي أن أصبح يوماً ما طبيبة لكن أمي حبيبتي رفضت ذلك لأسباب لم تقنعني وقتها! هذا لا يمنع إني راضية تماما الآن لأني اخترت دراسة الكيمياء الحيوية التي أحببتها كثيرا وما أزال، حين تقدم راشد لخطبتي شعرتُ بأن الأمر اتفاق مسبق بين أمي و عمتي......فأمي بحكمتها و معرفتها بي أدركت أن راشد كرجل مستقل وشخصية قيادية سيكون خير زوج لي... و عمتي التي تحب بكرها بجنون أمومي مُحبّب كانت دائما تحتضنني بطريقتها الخاصة كلما رأتني و لا تناديني إلّا ب(العروس)...كنت فتاة هادئة أمام الناس محبوبة من الجميع لكن في بيتنا كنت الدينامو والمحرك الأساسي لكل المشاكسات و الضحكات التي كانت تنتهي غالباً بكلمات حازمة تطلقها أمي نحوي وتحذرني بوجوب الكف عن هذا اللهو الطفولي...لم يكن لي صديقات بالمعنى الفعلي...أسرتي الدافئة هيكل حياتي.. وانحصر اهتمامي في مدرستي و كتبي ثم جامعتي ومحاضراتي فتميزت أكاديمياً في كل المراحل...في مكتبة الجامعة قضيت معظم أوقات فراغي و وجدت في القراءة كل ميولي و هواياتي... ربما القراءة هي من جعلتني رومانسية بأفكاري و مشاعري و أحاسيسي و آمنت و صدقت بأن الجميع سيكونون بخير و سيعيشون بحب وسعادة... إلى الأبد! كم كنت حالمة.. وما أزال!
هنا الآن في بيتي الذي أحبه في بريطانيا مع راشد دكتوري الخشن.. والذي اكتشفت أن حصونه العديدة لا بد لي من اقتحامها واحداً تلو الآخر لأصل لقلبه العتيد كما أحب وأتمنى.)


*********



سارة جوزيف



تَمَعَّنَت النَظَر في المَعْلُومات.. لَفَحَت أنفهَا رائِحَة البَيض المَقلِيّ.. فَتذَكَّرَت أنهَا لَمْ تأكُل شيئاً منذ البارحة، تَوَجَّهت لَمطْبخها الصَّغِير وأعَدَّت إفطاراً شهَيَّاً مُكَوَّناً مِنّ البَيض والتوست الَمُحَمَّص وكُوب مِنّ القَهْوَة.
ولَمْ تَنَسَ عادَتها الصَّبَاحِيّة في قِرَاءَة الصُحُفِ، فَخَرجت لِصنْدُوقٍ في مَدْخَل العِمَارَة وأخذت الصُحُفَ، انتبهت لِمونيا تُجلِس ابنها في مَقْعَده في السَيَّارَة (هَلْ ستأخُذُه إلى الحَضَانَة في يَوْم العُطْلَة؟)، دَخَلَت شَقّتها تُحَدِّث نَفسَها عَنْ النِظام في لَنْدَن والحُرية التِي لمُؤَسّسَاتها التَعْلِيمية وغيرها مَن القِطَاعات الحُكُومِيّة والأهلية فَالبعض لا عُطْلَة له إلّا يَوْم الأحَد فَقَطْ.. وَسَخَرَت مِنّ المُوَظَف العَرَبيّ في الَوَطنِ العَرَبيّ يعَمَل بِنصفِ دَوَام.. أما في خارج بَلَده يَكُون مُلْتَزِماً وَدقِيقَاً فِي وَقتِه ومُخلِّصَاً فِي عَمَلِه!
اتجهت لِفُطُورِها الشَهِيّ وشَرَعَت في أكلِّه، ثُمَّ غَسلت الأطباق وغَيَّرَت مَلاَبِسَها.. ستأخذُ كَلبها المُدَلَّل في نُزْهَة صَبَاحِيّة فِي حَدِيقَة الحَيّ، حَتَّى تَعَود لتأخذ قَيْلُولَة طَوِيلَة وبَعدها سَتَقتحِم اجتماع النْون العَرَبِيَّة الَّذِي عَلِمَت عَنْه بالصُدْفَة مِن آية عَمرو عَبد السلام ذات العيونِ الشَقِيّة..
وقَبل خُروجهَا رَتَّبَت الأورَاق المُلوَنة بألوْانِ الطيفِ على دُرجِ مكَتَبها حَتَّى تَعود بَعدها وتُفَرِّغ كُلَ ما فِي جُعبتها فِيهَا.. ابتدأت باللّونِ الأزَرَقِ المَلَكِيّ وانتهت بالورْدي الحالم الرُومانسِيّ.. وما تزال فَيْرُوز تُعَطِّر صَبَاحَهَا بألحانِ أُغنِيَّة (يا شادي الألحَانِ آه أسمِعنَا رَنّة العِيدَانِ)


قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 15-10-22, 09:34 PM   #4

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي نون عربية بحلة جديدة (2022) بقلم نخبة من كاتبات وكتاب القسم

الحلقة الاولى



ريتشيل زينب

صوت المنبّه علا بخُفوتٍ ليتصاعد تدريجيًا، مددت يدي بمللٍ لأطفئه، لم أكن نائمة أصلا فأنا مستيقظة منذ أكثر من ساعة وصوت المنبه الآن ما هو إلا إنذار لي أن الوقت قد حان، إنها السادسة صباحًا وعلي الاستعداد لطقوسِي اليومية، رميت خلف ظهري الأفكار التي تؤرقني وقفزت من سريرِي برشاقة متوجهةً نحو الحمّام، بعد نصفِ ساعةٍ كنت أُغلق باب شقتي مرتديةً ملابسي الرياضية رابطة شعرِي كذيل حصان، استدرت ناحية الدرج كعادتي مُتجاهلةً استخدام المِصعد رغم أني في الطابق الرابع، غادرت المبنى لأبدأ هرولَتي اليومية والتي تستمر لنصف ساعة عادةً، تنهيدة خرجت من صدري رغما عني، بالي كان مشغولاً بترتيبِ يومي، يفترض أن اليوم عطلة ولكن بسبب الجرد السنوي المتأخر علي الذهاب للعمل، ولكني سأحاول الخروج بأسرع ما أستطع فما يزال أمامي الكثير من المهام، عليّ أن أتسوّق استعدادًا لدعوة جاراتي غريبات الأطوار!
لم أستطع منع ابتسامتي وأنا أفكر بهن، إنهن محبوبات رغم غرابةِ طباع بعضهن، شعور بسعادة ماكرة تسلل اليّ وأنا أُفكر بالمفاجأة التي سأقدّمها لهنّ الليلة، أنا أكاد أعرف كلَ واحدةٍ منهن كيف تفكر بي ولذلك أحب صدمهن دومًا.
" صباح الخير زينب "
صوته الرجولي المألوف جاءني من الخلف وجفلني! عددت حتى ثلاثة قبل أن أرسم ابتسامة لطيفة على وجهي ورددتُ تحية الصباح على خليل؛ الشاب التركي الوسيم الذي يرافقُني أحيانًا في هرولتِي الصباحية، هو الوحيد الذي يُناديني زينب، وهو سبب أرقي!
أطرقتُ برأسِي لأخفي بعض تأثري به واكتفيت بأن أمنحه مسافةً ليهرول بجانبِي، عاد السؤال يلح عليّ، السؤال الذي لم أجرؤ حتىِ الآن على طرحه عليه؛ (كم عمرُك؟).
يبدو شابًا في نهاية العشرينات ورُبما _أو آمل_ أنّه في بداية الثلاثينات، جاء للسكن في المبنى المُجاور قبل ثلاثة أشهر، عيناه البنيتان يلمع فيهما بعضُ الإعجاب كلما نظر اليّ، تعرّفَت عليه لأول مرة عندما ارتطمنا ببعضنا البعض في إحدى زوايا المبنى، كنّا نهرول ولكن في اتجاهاتٍ مُتعاكسة، ومنذ ذلك اليوم اتّفقنا على اتجاهٍ واحد، دومًا يظهر من خلفي رغم أنه لا يُهرول يوميًا؛ فعملُه ليلاً في المقهى يُرهقه، خصوصًا أن لديه جامعة في النهار فهو يُحضر لرسالة الماجستير في علوم الفيزياء.
عاد السؤال يعذب تركيزي وأنا أنظر إليه بطرفِ عيني، كم عمرُك؟ لا أريدُ التورُط مع رجلٍ يصغرني بالكثير، لا أستطيع تجاوز الفكرة السخيفة، لكن هذه أنا!
يمكنني تجاوز فارق سنة أو سنتين، ولكن ليس أكثر، يا إلهي لا تجعله أصغر من الحادية والثلاثين! تلك التنهيدة خرجت من صدري رغما عني مرة أخرى، يا إلهي ما بي؟!هل أصبحَت يائسة هكذا لأبحث عن رجلٍ بنفسِي؟! ولكن ماذا أفعل إذا كان كلُ الرجال الذين يُعجبون بي مسيحيون! أما المسلمون فيتخوّفون من نصفِي الانجليزي المُتمثِل في أمِي، أوشك أحيانا أن أصرُخ عاليًا بما قاله لي والدي عندما كنت في التاسعة "إن الجنسية هي تنظيمٌ دُنيوي، أما الدين فهو تنظيمٌ إلهي" وأنا قد حدّدت خيارَي بالإسلام، هل صعب أن أجِد ما أريد؟! أنا لا أطلب الكثير، أريد فقط شاباً مُسلماً مُتفتّحاً، هادئاً مُتفهِماً، كما كان والدي، مُحبًا حنونًا، أنا أحتاجُه الآن، أُريد أن أتزوج، أريد أطفالاً..
" زينب؟ " أجفلتُ ثانيةً لألتفت نحو رفيقِي ثم ابتسمت خجلا من صمتي وقلت " نعم " ردّ خليل " لقد وصلنا للمبنى الذي تقطنينه " تلفّتُّ حولي فاكتشفت أني وصلَت فعلاً، شعرت بالحرارة تشع من وجهي وأنا أرُد عليه " آسفة كنت سارحة قليلاً " ابتسم لي تلك الابتسامة التي تُسرع خفقات قلبي وهو يقول " لاحظتُ ذلك، أرجو أن تحصُلي على ما يشغلك " عضضت شفتَي السُفلى من الداخل وأنا أنظُر إليه، لم أستطع منع نفسي من التفكير " أرجو أن لا يقِلّ عمرُك عن الحادية والثلاثين " ثم أضفت وأنا أراقبه يُلوّح لي وهو يبتعد مُهرولاً " وأرجو أن تكون مُعجبًا بي فعلا!"
حياتي كلُها هرولة وأنا أحبُ هذا النمط، أحب أن أشعر بالحيوية والنشاط لأواجه يومي المُرهِق بابتسامة، أُحب عملي _هذا مؤكد_ ولكن هذا لا ينفي أني بدأتُ أُصاب بالملل من الروتين اليومي، عادت الأفكارُ نفسها تُهاجمني بقوّةٍ وأنا أترجّل من سيارتي، " أريدُ زوجًا، أريدُ أطفالاً " تنهدتُ وأنا أُغلق البابَ وأُعاين صورتي في انعكاسِها على زُجاجِ النافذة،
***
حدقتُ بتسريحةِ شعري اللطيفة وبدلتي الرمادية التي تُناسبني تمامًا، حدقتُ بتمعُنٍ مُختلف في تقاطيعِ وجهي، وهمست " لستُ مُبهِرة، ولكن لديّ عينان جميلتان وشعرٌ بلونٍ مُميّز، خليل أخبرني أنه لَم يرَ شعرًا بهذا التدرُج اللوني سابقًا! "
تأوهت وأنا أبتعد وشعرت بالحنق فأنّبت نفسي بصوت مسموع " لابد أنّي اصبحت مَجنونة أو مهووسة على أقل تقدير، تماسكي زينب وإلا فقدتِ عقلكِ نهائيًا " أسرعت في خطواتي ناحية مبني الشركة حيث أعمل ووجدت نفسي اردد بعبوس وحنق أكبر " هل أصبحتِ تُفضلين اسمَ زينب وحده الآن؟!"
***
ساعات مرّت حتى غادرت المبنى مرةً أخرى، أفكاري تحوم حول مارك، ذلك الشاب المُتحذلق الذي يظنّ نفسه ظريفًا وهو يُحاول استمالتَي بنكاتٍ سمجة! لقد ظنّ أني سأستجيب له أو على الأقل يستغلّ لُطفَي الطبيعي مع الناس فلا أردعُه بحزم، إنه جديدٌ ولا يعرفُني جيدًا، قد أكون لطيفةً فعلاً، ولكني لا أعتبر الأمر ضُعفًا، بل إنسانيًا، وعند اللزوم أعرف جيدًا كيف أوقف التافهين أمثال مارك هذا، لكن الأمر يتعدّى المزاح السمِج، مارك يُثير في نفسِي شعورًا غريبًا بالنفور رغم أن شكله مقبولٌ وقد تجده بعضُ الفتيات وسيمًا، ولكن هناك شيء مُريب فيه يجعلني أنفر منه وأتوجس مما يُمكن أن يُقدم عليه.
ركنتُ سيارتي في مرأب السوق الكبير الذي أقصدُه عادةً وهبطتُ بخطواتٍ مُسرعة وأنا أنظُر لساعتِي وأفكر أني تأخّرَت قليلاً، سرعان ما داعبت الابتسامةً ثغرَي وأنا أدخل السوق لأتوجّه مُباشرةً ناحية قسمِ البُهار.
اشتريت ما أحتاجه وأنا راضية عن نفسِي، خرجتُ بالعربة الحديديّةِ التي تُستخدَم لنقلِ المُشترَيات وتوجّهَت ناحية سيارتِي، فتحَتُ الصندوقَ الخلفي ووضعَت فيه الأكياس، ثم أغلقَته وأعدت العربة للمكان المُخصّص ثم عدت مرّة أخرى لسيارتي.
وصلت لمكان سكني، أسرعتُ لأخرج من سيارتِي وأنا أنظر لساعتي مرّة أخرى،
علّقتُ حقيبتَي الجلدية الضخمة والتي تخُصّ العمل على كتفِي ثم أغلقتُ الباب وتوجّهتُ ناحيةَ الصندوقِ الخلفي لأفتحه، التقطت الأكياس على عجل، كنت أحمل أكياسَ المُشتريات بصعوبة بالإضافة طبعًا لحقيبتِي الجلدية، ظهر أمامي طفلٌ في الثامنة يقود دراجتَه دون مهارةٍ تُذكر، توجّه نحوَي مُباشرةً تحت أنظارِي المَذهولة! لم أشعر إلا بسقوطي أرضًا على ظهرِي ومعي أحمالي الثقيلة والطفلُ أصبح بقدرةِ قادرٍ قابعًا فوقَ صدرِي! حمدَت الله أن رأسي لم يرتطِم بقوّة على أرضِ الرصيف الصلبة، ثم نظرتُ لوجهِ الطفل المُرتبك، أشفقتُ عليه، فابتسمت ابتسامةً عريضة وأنا أغمز له " عليك أن تجِد طريقةً أكثرَ رقّة للتقرُّب من فتاةٍ جميلة " ضحِك الطفل عاليًا لتتحوّل ضحكتَه إلى تعبيرٍ مُتفاجئ وهو يشعُر بذراعين قويتين ترفعانه بعيدًا عني بينما كنت ابتسم باستسلامٍ مرِح لوجه خليل، قال خليل للطفل بعد أن وضعه أرضًا ومدّ يده لي يُساعدني على الوقوف " بل عليكَ أولاً أن تجِد فتاة أخرى غير فتاتي " ضحك الطفل مرةً أخرى بينما توقفتُ تمامًا عن ترتيبِ ملابسِي، كلمة (فتاتي) خرقت أذنيّ! أخذتُ أنظُر لخليل بما يُشبه الصدمة وهو ينحني أرضًا ليُلملم أكياس المُشتريات التي تبعثرَت محتوياتُها على الرصيف، حاول الطفلُ مساعدتَه، ولكن خليل شكرَه بلُطفٍ وأخبرَه أن يهتم بدراجتِه ويقودُها بحذر ليعود إلى بيته، وانطلق الطفل بعد أن اعتذر مني ولوّح لي ولخليل، وقاد دراجتَه بحذَرٍ مُبالَغ فيه! ضحك خليل وهو يراقبه ثم استقام واقفًا حامِلاً معه كلَ الأكياس بيد وحقيبتي الجلدية باليدِ الأخرى، كنت في حالةٍ ارتباكٍ شديد، وأدركت ببساطة أن بشرتي الشفافة خذلتني بالاحمرار الذي يكسوها الآن. أخذتُ الحقيبةَ الجلديّة من يدِه الكبيرة دون أن أنظُر لوجهِه، تفكيري كان مُنحصرًا فقط في الهرَب!
مددت يدَي لآخذ أكياس المُشتريات منه وأنا أُتمتِم بكلماتِ شُكرٍ جَوفاء، لكنه لم يُعطِني شيئًا! رفعتُ وجهي إليه وأنا ألعن سخافتَي فوجدته يبتسم برقّة، ابتلعتُ ريقَي ثم قلت بصوتٍ خرج مَبحوحًا رغمًا عني " أستطيعُ حملَها بمُفردي " اتّسعَت ابتسامتُه وهو يقول " مؤكد تستطيعين، لكني أُحبّ مُساعدتِك " للحَظاتٍ حدّقتُ به وأفكارٌ مجنونة تسجِن خطواتي بينما خليل ينظُر إليّ بطريقةٍ غريبة وابتسامتُه الدافئة تنحسِر، تنحنحتُ وأنا أتوسّل لشجاعتِي أن لا تخُني، قلت بصوتٍ جاهدت لأبثّه بعضَ الثقة " خليل، كَم عمرُك؟"




*************




خولة سعود

بينما أمسكُ باليمنى إبريقَ الماءِ الساخِن وأسكبُه في زُجاجَةِ الحليب التي أمسكُ بها بيدي اليُسرى، قلتُ لخالتي - زوجة أبي- عن طريقِ الهاتف النقّال المُثبَّت بواسطةِ رأسي وكتفي "الآن الساعة الواحدة ظهرًا في السعودية، صحيح؟"
أجابت بالإيجاب وسألتني عن الوقتِ عندنا، فتمتَمت "الآن الساعة العاشرة صباحًا" ثم أضَفت "كيف حال أمي و أبي؟"
أخبرتني أنهما بخير، فسألتُ بصوتٍ خَفيض "مازالا لا يريدان التحدث إليّ؟"
أغمضتُ عينيّ وأنا أسمع كلامَها، ثم قاطعتُها بغضَب "لا خالتي، لا تلومي نفسِك، لستِ السبب فيما يحدث بيني وبين والديّ، خالد أخبرَ الجميع بأننا سنُسافر إلى لندن، وقد وافقوا وكانوا سعيدين بذلك، كلُ ما يحدث هو بسببِ جارنا أبي صالح وزوجتِه الذَين لن أسامحهما أبدًا "
استمعت إلى محاولاتِها للتخفيف عني، ثم همستُ مُنهيةً الاتصال "حسنًا خالتي سأحادثُكِ فيما بعد، أوصلي لإخوتي سلامي وحُبي. في حفظ الله"
أغلقتُ الزجاجةَ بعد أن أضفتُ أربعة ملاعِق من حليبِ الأطفال، و قمتُ برجّها بأصابعٍ مُرتجِفة، السببُ الوحيدُ الذي يمنعني من الدعاء على أبي صالح و زوجته هو أبناؤهما فقط، لا أُنكر أني كنتُ ألعنهما في البداية، لكني أقلعتُ بعد أن غضِب خالد عليّ لمدة ثلاثةِ أيام عندما سمعني فى إحدى المرّات، لازلتُ أذكر كلماته الرقيقة بعدما اعتذرتُ إليه في اليومِ الثالث "خولة، لا تعتذري منّي، أنتِ لم تُخطئي في حقّي بَل في حقِ اللهِ تعالى، البشرُ لا يملكون حقَ إدخالِ أحدٍ في رحمةِ الله أو طردِه منها، هذا حقٌ لله فقط، و نحنُ لا نلعن إلا من لعنَه اللهُ و رسولُه صلى الله عليه و سلم"
توقفتُ عن لعنِهما، لكن قلبي لم يتوقّف عن كرهِهما للحظة، و كيف لا أكرههما و بفضلِهما قاطعني والداي؛ فبعد زواجي بستّةِ أشهُر، لاحظتُ تهرُب والديّ من مُحادثتي، والاكتفاء بإيصال سلامِهما عليّ عن طريق إخوتي و خالتي، لكن بعد ستّةِ أشهُرٍ أُخرى تجاهلُهما لي زادَ عن حدِّه، كما أنّي أصبحتُ أشعُر بنبرةِ الخوفِ و الحُزنِ في أصوات إخوتي عند مُحادثتي، فانتهى بي المطافُ إلى الاتصالِ بخالتي و بُكائي و رجائي لها أن تُخبرني بما حدَث، حينها رقّت لحالي و أخبرَتني بالطامّة، لقد أعلن أبي أنّي سافرتُ دونَ علمِه هو و أمي، و أقسَم أنهما بريئان منّي ولن يُسامحانني أبدًا.
بالتأكيد قرارُ أبي لم يكُن صُدفة، بل نتيجة مُؤامرة قام بها جارُنا أبو صالح و زوجتُه، اللذان حقدا عليّ منذ أن رفضتُ الزواجَ بابنهما العاطلِ صالح، و اللذان رأيَا أن في سفَرِي إلى بريطانيا فُرصةً للانتقام منّي؛ فبعد زواجي و سفري، بدأ أبو صالح بالتكلُم عن بريطانيا و فسادِها و انحلالِها، و أنها دولةُ كُفرٍ و شِرك، و أن بريطانيا بطولِها و عرضِها لا تحوي سِوى حاناتٍ للخُمور، و صالاتٍ للقُمار، و بيوتٍ للفاحِشة، ثم تطوّر الأمرُ فأصبح يخترِع إحصائياتٍ عن نِسبةِ السُعوديّين الذين تنصّروا و باعوا دينَهم في بريطانيا، و يُعطي أمثلةً خياليّة عن عائلاتٍ سُعوديّة أصابها الانحلالُ هناك، و أخيرا أصابَ الوترَ الحسّاس، و أخذ يقول - كما أخبرتني خالتي- أنّه في هذا الوقت أصبحَ الأبُ يُهمِل ابنَه، و يُرسِله لبريطانيا حتى يتخلّص مِنه، بل الأدهى و الأمَرّ أن الأبَ أصبح يُرسِل ابنتَه لهذه الدَولةِ الكافرة، و قد يتحجّج الأبُ بأن ابنتَه لَم تذهَب وحدَها، بَل برِفقَةِ زَوجِها، و لكني أقول له ماذا تفعل ابنتُك و زوجُها في دولةٍ فاسدةٍ كافرة، ألَم يجد زوجُ ابنتِك عملاً إلا في هذه الدولةِ الفاسقة!، ثم ما أدراك بماذا تقضي ابنتُك الساعات التي يغيب فيها زوجُها أثناءَ عملِه، و لنقُل أن عملَه (مهندس) مثلاً، إن الأبَ الذي يُرسل ابنتَه هناك يجلِب العارَ و المَذلّة لقريتِنا و يفضحُنا عند القُرى و القبائل الأخرى.
يا للمُصادفة يا أبا صالح! لَم تجِد دولةً تتحدّث عنها سِوى بريطانيا! ولم تجِد مثلاً تضربُه لعملِ الزوج سوى مهنة المهندس!
_باختصار_ لَم تذهب اتهامات جارِنا العزيز أدراجَ الرياح، بل انتشرت انتشارَ النارِ في الهشيم، و كيف لا تنتشر أخبارٌ كهذه في قريتي (شوية) و هي إحدى قُرى الرياض و التي تبعُد عنها حوالي مائتي كيلو متر، قرية إلى الآن لا تحتوي على طرق رئيسية و لا مدارس كافية بل و لا حتى أمارة أو بلدية تهتم بشئونها، و طالما أن التطور لم يحط رحاله فيها بعد، فمن الطبيعي أن يكون الجهل والتخلُف السمة السائدة في أهلها، فالمرأةُ ما تزال عارًا عندهم، و ما يزال المُبشّرُ بأنثى وجهه مسودٌ و هو كظيم، قرية لم تكن تعرف ما هي بريطانيا من الأساس. والنتيجة إعلانُ أبي أنّي سافرتُ دون علمه هو وأمي، وقسمُه بأنهما بريئان مني ولن يسامحانني أبدًا.
حينها آمنتُ أن حياة الإنسان ما هي إلا مؤامرات تُحاك من حوله، قد تكون جيدة كولادتي وزواجي، وقد تكون خبيثة كبراءة والديّ مني، وجعلتُ نظرية المؤامرة هاجسي وأصبحتُ أبحث عنها واكتشف الخبيث منها حتى لا يقع ضحيتها أحد بريء كما وقعتُ...
"ماذا تفعلين هنا؟"
انتفضت مُجفلة من الصوت، الأمر الذي أدّى إلى سقوط زجاجة الحليب من يدي إلى الأرض، لكنها لم تتحطّم لحُسن الحظ، التفت بغضب وصرخت "ماذا لو أصابتني سكتة قلبية ومتّ، ماذا سيحدث لأشرف وأسعد حينها؟"
قال من بين ضحكاتِه "لن يحدُث لهما شيء، لأنني ببساطة سأتزوج بعد موتك، وستعتني زوجتي بهما، ما رأيك في جارتِنا ريتشيل، هل تعتقدين أنها ستكون زوجة مُناسبة لي؟"
تجاهلتُه وانحنيتُ ألتقط الزجاجة، هذا هو المهندس خالد سعد، الطويل الوسيم ذو البشرة البيضاء، والذي يجعلني أتساءل دومًا ما الخير العظيم الذي صنعته في حياتي والذي كان نتيجته أن وهبني الله خالد! استقمتُ ووضعتُ الزجاجة على الطاولة، ثم بدأتُ بتجهيز الزجاجة الثانية وأنا أقولُ ببرود "ما الذي تفعله هنا؟ يُفترَض أنك لا تعود قبل الساعة الخامسة"
رد عليّ "صحيح، الأمرُ أن لديّ الآن زيارة لبضعة مباني للإشراف على العُمّال، وخِفتُ أن يضيع مني هذا أثناء تنقُّلي" و رفع ذاكرةَ تخزينٍ خارجيّة أمامي مُكملاً بابتسامة "تعرفين أنّه حياتي، و لا أستطيعُ تركه في المكتب أو في السيارة؛ لذا قدِمتُ لأضعه في المنزل"
بالتأكيد سيكون خائفًا عليها؛ فذاكرةُ التخزينِ هذه تحوي كلَ ملفات ومُخطّطات مَشروعِه الذي يعمل عليه منذ سنتين، والذي يأمل أن يكون نقلةً عظيمة في مستقبله وعمله، كما أنه يعِد بأننا سنكون فاحشي الثراء من وراءِ هذا المشروع. مددتُ يدي متمتمه "هات"
أعطاني إياه ثم قال بعتب "والآن ما سبب هذه الأخلاق السيئة التي تتحلّين بها اليوم؟"
نظرت إلى عينيه، فأدركتُ أنه يعرف تمامًا سبب تكدُّري، لذا قلت بحنق "أكرهك عندما تدَّعي الغباء"
قال متصنعًا الصدمة "أيُعقل أن ادعائي للغباء مؤامرة!"
خالد يعرف بهوسي بالمؤامرات، فلم أستطع إخفاء أمر كهذا عنه، لكن ولأنه لا يوجد زوج عمومًا _وسعودي خصوصًا_ يُحب أن تكون زوجتُه كثيرةَ الشك والتفكير؛ فإني أكون حذرة في كلامي معه عن المؤامرات، فأكتفي بإخباره بمؤامرة واحدة في اليوم. صحيح أنه يتعمد إغاظتي أحيانًا بذِكر المؤامرات كما يفعل الآن لكنه لم يسخر يومًا من تفكيري ولم يتهمني بالوسوسة أو الجنون، بل إنه يوافقني على بعض ما أقول ويعطيني أدلة لتأكيد فكرتي، ويُنهي كل نقاشٍ لنا عن المؤامرات بقوله بابتسامة صادقة مُحبة "أنتِ مُحللة سياسية من الدرجة الأولى"
لم أرُدّ على سخريته، فاقترب خالد مني وأمسك بيدي وهو يقول بعاطفة "والداكِ سيُدركان يومًا ما خطأَهما يا خولة، سيُدركان مدى روعة ابنتهما، أتعلمين قبل ساعة فقط، قال لي صديقي إدوارد أنه يتمنى لو أن امرأته مُنَقّبة مثلك، ماذا يريد الرجل أكثر من أن تكون امرأتُه مصدرَ فخرٍ له؟" ثم طبع قبلة ناعمة على باطن يدي، وانصرف من المطبخ وهو يقول "سأذهب لأقبل شيطانيّ الصغيرين، لقد اشتقتُ لهما"
نظرت إلى يدي وأنا أفكر بكلامه، بريطانيا دولة ديمقراطية، لذا فإن ارتداء النقاب لم يمثل لي مشكلة كبيرة، بالتأكيد الأمر ليس مريحًا كثيرًا؛ فالأنظار الفضولية تلاحقُني، وما يزال بعضُ الأطفال يبكون عندما يرونني، بل إنّي أتعرض أحيانًا إلى المُضايقات، فقد كنتُ أمشي مع خالد يومًا في شارع يمتلئ بالناس عندما مرّت سيارة بقُربِنا وصرخ شابٌ بأعلى صوته وهو يشير بإصبعه عليّ "أوه، انظروا إلى النينجا". ولكيلا أكون مُتحيزة فلابد أن أعترف أن البعض كانوا يُعجبون بذلك، ففي إحدى المرات عندما كنتُ في الحديقة مع خالد، اقترب منّا رجل وقال لي "أنتِ تُعجبيني هكذا، أنا سعيدٌ برؤيتِك" لقد توقّعتُ من خالد أن يلكُمه، ولكنّه بدلاً من ذلك ابتسم له و شكره فأدركت حينها أن الرجل كان يقصِد نِقابي. أيضًا أنا مازلتُ أذكر الشُرطي الذي سألني "لماذا ترتدين هكذا؟" ظننتُ أنه يُريد القبضَ عليّ، فاحتميتُ خلف ظهرِ خالد الذي أبعدَني عنه وطلب منّي أن أُجيب الشُرطي على سؤالِه، رفضتُ أن أتكلّم، فتحدث معه خالد بضع دقائق ثم انصرَف الشرطي بعد أن ابتسم لي، حينها قال لي خالد بعتَب "لماذا لم تُجيبيه! إنه يُريد أن يستفسر فقط عن الغرض من الحِجاب والنِقاب. خولة إذا لم نُعطِهم الإجابات الصحيحة عن دينِنا، فمن الذي سيُعطيهم؟"
"خولة!"
التفَتُّ إلى خالد الواقف بجوارِ باب المطبخ، والذي قال لي ببراءة "لقد استيقظ طِفلاكِ"
لا!، لقد ناما قبلَ ساعة واحدة فقط. هتفتُ بغضبٍ مُتهمةً إيّاه "أنت أيقظتهما!"
ابتسم ابتسامةً واسعة وقال بنبرة تحمل اعتذار أعرف أنه لا يعنيه "فقط أردتُ أن أُقبّلهما"
لقد نسيتُ لوَهلة أن خالد مِن أكثرِ الناس الذين يستمتعون بحَبْك مؤامراتٍ لإزعاجي وإخراجي عن طوري. قلتُ مِن بينِ أسناني "اخرُج قبلَ أن أقتُلك"
قال مرحًا "حسنًا، بالمناسبة اليوم هو يومُ اجتماعكن مع ريتشيل صحيح؟، أوصلي إليها سلامي الحار!"
أمسكتُ بمِلعقةٍ خشبيّة كانت على الطاولة، و قذفتُه بها بكُل قوّتي، لكنه فرّ مُسرعًا إلى الخارج ترافقُه ضحكاتُه العالية.
أجل، اليومُ هو اجتماع نون عربية، يا إلهي! لقد نسيتُ الدعوة في حين أن خالد يتذكّرها، هل يُعقل أنّه فعلاً مُهتمٌ بريتشيل؟! هل هناك مؤامرة جديدة تُحاك حولي دونَ أن أنتبه لها؟!


*****************




علياء عبد الحميد

(يا صباح الخير ياللي معانا الكروان غنّا وصحانا)
هكذا كنتُ أغني طربًا بانتهاء التنظيف الصباحي، بينما أرتشفُ كوباً من الشاي الساخن بجلسة هادئة في غرفة المعيشة، وبريقُ النظافة يلتمع من كل شيءٍ حولي.
بين لحظة وأختها كعادتها اجتثّت آية ببساطة مزاجي الرائق من جذوره وهي تقتل ذُبابة بمضرب الذباب على منضدة مُنخفضة تتوسّط الغرفة، صرخةٌ أطلقتُها مفجوعة على مصير جهدي، ونظرةٌ مُخيفة رأيتُ أثرَها في وجه ابنتي وهي تُلملم ذعرَها وتجري لتغتسل وتُبدل ثيابها.
تجُيدْ الانتقام مني هذه الصّغِيرة، كُل هَذا لأنِي لم أذهبْ بهاِ في يَوم العُطلَة للحَفل الاسِتثنَائِي بعِيد المعُلم مثل بسمة ابنة ديمة وأيمن ابن مُونيا.
أعدتُ كَرّة التنظيف والتعقيم بجهدٍ أكبر هذه المرة، وأنا ألعن ذُبابَ مصر ولندن وكل ذباب العالم (من أين تسلّلت هذه المؤذية؟) وجدتُها من شُرفة المطبخ وقد نسيتُها مفتوحة للأسف الشديد.
السيمفونية السابعة لبيتهوفن! مَن مزاجُه رائق بهذا الصباح؟ لابد أنها (ريتشيل زينب) أو (زينب ريتشيل) مالكة العقــار
حقيقةً لا أعلم من أين يأتون بهذه الأسماء الغريبة! في كل مرة أحيّيها أرتبك بأي اسمٍ أُناديها، فتُسارع هي بابتسامةٍ عريضة لتُصافحني قائلةً " أهلاً علياء " تنطِق اسمي بطريقة غريبة جدا، هي طيبة لا تحتمل إزعاجَ حتى مُجرد قطٍ شريد ولكن ابتسامتَها حُلوة، حُلوةٌ لدرجة أصابت فجأة نظرَ عمرو الضعيف بالحدّةِ وهو يحدق من خلفِ نظارته الطبية مبهورا بابتسامتها ويُبادلها بأخرى أكثر اتساعًا (عمرو ابن رئيسة)!
أتساءل كثيرا هل يعلم عمرو أن ابتسامةً أجمل من ابتسامة تلك الـ ريتشيل زينب كانت سببًا في مأساتي الزوجية. ابتسامتُه هو.
ابتسامة تُدرك منها المعنى الحقيقي للصفاء، تُشرق عن صفّين من الأسنان الرائعة مُتألقة البياض وغمازة شقية في خده الأيسر، يصيبُني الخدر حين يبتسم، أجدُ نفسي عدتُ مُراهقة في الخامسة عشرة من عُمري لا أُجيد التصرُف فقط أتسمّر ببلاهةٍ أمامه، حتى هو لا يُلاحظ تأثير ابتسامته الجارف في قلبي. يضربُني بهذا الزلزال دومًا ثم ينصرف لشئونه بمُنتهى البراءة.
ابتسامة جعلتني أرتضي اشتياقي الجارف لأبي وأمي، واغترابي الحديث، ووحدتي بمدينة الضباب وأتّخذ من هذه الشقةِ الأنيقة بغُرفِها الثلاثة واللون الأخضر الذي تتكرر بهجةُ درجاتِه على الأثاث والجدران والأرضيات، وهذا الشارع الجميل والهادئ مُستقر اً آمناً بعيداً عن سيطرةِ رئيسة على حياتي.
خالتي الكُبرى وحماتي المَصون، إن كان ابنُها الوحيد لا ينتبه لي غالبًا، فهي دائمة التيقظ لكل شاردة وواردة، حتى أدراج ملابسي الخاصة تتفحّصها بفُضولٍ مُتبجِح، ثمانِ سنوات من الزواج المُجمّد بفضلِها هي!، وبفضل سكني في نفس البناية التي تقطنها، مجيئي للندن هو بداية للاستقلال، للتحرُرِ من عقدة رئيسة، بداية لي مع عمرو أُشعِره فيها بحُبّي دون رقيبٍ أو مُنغِص.
فرّت دمعةُ ساخنة من عيني، لأجد آية تُسرع بمسحِها وهي تُربّت على كتفي. ضممتُها لصدري ثم أبعدتُها قليلاً لأتأمل ملامحَها، أحبُ هذه الفتاة رغم شجارِنا المُتواصِل خاصةً عندما يسألها أحدٌ عن اسمِها، فتنطلِق صائحةً (آية عمرو عبد السلام)، لا أعلم تعريفًا لماهية الأمومة، فقط عندما أراها يختلجُ قلبي بسعادةٍ تُشعرني أن زواجي من عمرو مهما كانت أيامي فاترةً به، ولكنه يستحق المُحاولَة. خاصةً وهي تربط رأسَها بهذا المِنديل، فتبدو لي كامرأةٍ صغيرة قام زوجُها بتطليقها ثلاثَ مرّاتٍ وتُلاحقُه ببؤسٍ في المحاكم كي تُحصِّل نفقاتها هي وأطفالها. آية تُشبه رئيسة كثيرًا أليس كذلك؟!
انتبهتُ لميعاد اتصالي بأمي عبر الانترنت، طلبتُ من آية الابتعاد قليلا وأسرعت مُتحمّسةً ليصِلني صوتُ أمي الحبيبة عابرًا المُحيطات مُحمّلاً بدفئها
:- افتقدتُكِ أيتُها النكديّة، كيف حالُك؟ كلُ عامٍ وأنتِ بخير.
اندفعت قائلةً دون مُقدِّمات: - أمي، أُريد عيدَ زواجي لهذا العام أن يكون مُميَّزًا؛ أرهقَتني شقيقتُك ثماني سنواتٍ في صدِّ فُضولِها وتدخُلِها في حياتي، لأكتشفُ اليوم أنّها أول مرّة نقضيه مُنفردَين بدونِها.
صمتت قليلاً لتتنَهّد قائلةً:- قومي بالرَقصِ له.
شهقْتُ وأخبرتُها:- أمي، خُطوةٌ خُطوة، أريدُ لهذا اليوم أن يكون مميزًا، لا أن يشُك عمرو في استقرارِي النفسي!
ضحكَت عاليًا ثم قالت:- خُطوة خُطوة بعد ثماني سنواتٍ من الزواج!، أنتِ بلهاء، وأنا أريدُ الذِهاب؛ أبوكِ سيستيقظ بعد دقائق.
وصلتْها أنفاسي المَكتومة ببكاءٍ وَشيك لتتراجع قائلةً:- حسنًا لا تَبكِي حبيبتي.. ماذا تريدين؟
تمَلمَلتُ في السؤال، ثم أطلقتُه دفعةً واحدة:- أمي كيف تضحكين هذه الضحكة الرَّقيعة؟
نهتني مُتفاجِئة:- علياااااااااء!
اعتذرتُ منها، وأخبرتُها أنني لم أجِد وصفًا لها غير هذا.
أخبرَتني مُشفِقة:- حبيبتي، هذا سينبُع من داخلِك، لا يحتاج إلى تعليم، ولكن لا تنسَي أن ترتدي الفستانَ الأحمر مَكشوف الأكتافِ الذي انتقيتُه لكِ قبلَ سفرِك، و زَيّنيه بالبروش، إياكِ أن تنسيه، ببساطة، اجعلي مِن نفسِك امرأة قبل الوصولِ الوَشيك لزوجِك.. إلى اللقاء.
هرولتُ إلى خِزانةِ الملابس وأنا أُذكِر نفسي.. البروش، والفستانُ الرَقيع، والضَحِكةُ الحمراء.. البروش والفستانُ الرَّقيع والضحكةُ الحمراء.
أحكمتُ الخطة، وتمارَضْتُ في الفِراش. وبعدَ دقائق دار المِفتاحُ بمقبض الباب ليُعلن عن وصولِ عمرو، استقبلَتْه آية بحفاوَةٍ كعادتِها، وأنا قرّرتُ استغلالَ شوقهما المُتبادَل في تهدِئة ارتباكي المُتزايِد، ولكن آية لَم تمنحني تلك الفُسحة وهي تُخبِره عِندما سألها عني
:- أمي في غرفتها متعبة، لأن جدتِي علّمَتها اليوم الضَحكةَ الرَقيعة!
صاح بها مُستنكِرًا: - علّمَتها ماذا؟!
كادَت أن تُعيدها على مَسامِعه لولا أن رأتني أقفُ بِبابِ الغُرفَة أحدجُها بنظراتٍ مُتوَعّدة، وقد وجَدتُ فيها بهذا المِنديل صورةً مُصغّرَةً مِن رَئيسة، مَلأني شُعورٌ بالقَهرِ والغَيظ وهي تُهروِلُ إلى غُرفتِها هاربة، ليَنتَشِلني مِن كُلِ هذا صوتُ صَفيرٍ مُرتفِع، بينما يُخبرُني مُتأمِلاً :- حدَثَ في مِثل هَذا اليَوم!
التفَتُ إلى التَقوِيم، لأجِدُه يومَ السبت، يومَ اجتماعي وجاراتي في مَنزلِ ريتشيل زينب، ولَكن مَهلاً.... مَن أطلَق هذا الصَفِير؟!
************




مينة أحمد

طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان.. بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران
ينساني الزمان على سطح الجيران.. علي فوق سطوح بعاد على النسمة الخجولة
أخدوني معون الولاد وردولي الطفولة.. ضحكات الصبيان وغناني زمان
رد لي كتبي ومدرستي
كل مرة أسمعها أشعر بنقص واختناق، وأحلم بمكان أريد الهروب إليه في داخل نفسي.. ليتني كنت من ورق وخيوط وأعيش لحظات قصيرة، ولكنها مفرحة.. ومن غير قيود الماضي.. إلى يوم أعود فيه إلى مدرستي، وأضم كتبي إلى صدري وأنسى ما حولي وكل شيء يغرقني، ومن ثم أتمزق بعدها كما يحصل للطائرة الورقية، وتأخذ الرياح بقاياها في أراض متفرقة.. تبقى مجرد أحلام ترسمها فيروز بكلماتها.
يا إلهي، لا أعرف ما الجنون الذي اعتراني وأنا أنتظر (علي) في تلك الحديقة الصغيرة من أجل أن.. كما قال
(نتحدث في حياتنا!) أي حياة يتحدث فيها وهو وجدني ألعب مع أولئك الأطفال، وأنا أحمل تلك الطائرة الورقية وأركض بها علها ترفرف وتأخذ معها كل مشاعري. رأيت الصدمة في عيونه وهو يراني بتلك الهيئة، وملابسي قد فعل الركض فعله بها وللحق أول ما قدمت إلى الحديقة كنت أنيقة، ولكن هذا حالي ككل مرة.. قصدت أن يراني هكذا، لكن كل تصرف فعلته كان صادقا، لأني أعيش معهم تلك اللحظات بإحساس طفلة وليس امرأة ناضجة على وشك الزواج. وهو تلقى الصدمة، ولكنه ابتلعها وقهقه ضاحكا لهيئتي تلك، وأنا أبتسم كالبلهاء بوجهه، لم يقل شيئا، بل قرص وجنتي وهمس (أحبك بأي شكل تكونيه) وتركني أعيش شتاتي وحرماني لنفسي من لحظات جميلة.. كانت إحدى خططي لدفعه لفك الارتباط، لكنها تركت جرحا كبيرا في داخلي.
ليس لي ذنب أنني أصبحت هكذا بسبب عائلتي؛ لم يراعوا الخوف بداخلي من مشاكلهم، وبدأت أعزل نفسي بعيدا عن المحيطين بي حتى في المدرسة كنت أجلس في أخر الصف صامتة، خائفة من اللحظة التي أعود بها للمنزل وأسمع صراخه مجددا وبكاء والدتي، فتقسو نظرتي وتتسارع نبضات قلبي.. فتطبعت عيناي بتلك القسوة.. حياتي لابد أن تبدأ هكذا بجرعة من الذكريات المؤلمة حتى أستمد منها قوتي وأثبت لنفسي أني أسير على الطريق الصحيح، ولتصبح الذكريات في حالتي سما بطيئا ينهش روحي بدل أن تكون غذاء لها.. كالعادة أظن أن دماغي سيجف يوما ما؛ من تلك البرودة التي أمتصها من زجاج النافذة بإسكاني جبيني عليها علها تخمد قليلا من النيران التي تستعر في داخلي.
اليوم هو عطلة، يعني، لا عمل ولا أرقام، وحتى في هذا اليوم يجافيني النوم، ولابد أن أهرب منه بالاستيقاظ مبكرا وأفرغ قليلا من طاقتي بالسير بلا وجهة، فقط أشغل نفسي بما ومن حولي! وأيضا ينقصنا الكثير من الأغراض ولا أحب أن أزعج مازن في يوم راحته وهو للحق تحمل الكثير، وبالذات مني، لكن يا شقيقي العزيز ستتلقى المزيد من صدماتي.
باردة تلك الأجواء، تذكرني ببرودة أرضية الغرفة، وأنا أختبئ ليلا في إحدى زواياها هربا من تلك الكوابيس التي
تراودني منذ أن كنت صغيرة؛ لا أعلم ولكني أجد القليل من الأمان والراحة بالتقاء الجدارين!
الأشياء المعتادة التي آخذها من السوبر ماركت، والتي أصبحت رتيبة وأحفظها عن ظهر قلب لأنها من متطلبات حياتي المنظمة.. ألقي التحية بصمت لبائع الجرائد، وأخذ ما أريده وأمضي بسرعة لأنني لا أحبذ الاختلاط كثيرا وعلاقاتي محدودة؛ لأنني أقيم بشرنقة خاصة وليس من السهل تمزيقها، فقط أناس قليلون أسمح لهم بالتقرب مني ومنهم ابن عمي الذي يكبرني باثني عشر عاما، كنت سابقا ملتصقة به كالعلقة، هو وشقيقي، لا أنفك أتبعهما في كل مكان لأنني أشعر بالراحة معهما، حتى كبرت وأصبح حالي كأمي تحت الإقامة الجبرية في المنزل، فقط أخرج للمدرسة؛ لأنني كما يقول والدي سأصبح مثل أمي..... أمي لم ترتكب جرما، فقط أحبته حد الجنون وعارضت أهلها، وتمردت فوق تمردها وخيرتهم بين الموافقة على زواجها بموافقتهم أو من دونها، ولم يجدوا غير أن يرضخوا لما تريده: لأنها ابنتهم
المدللة، وأفضل من أن تطالهم ألسنة الناس، ولتثبت لها الأيام ما حذروها منه... مرت أيامهما بعسل وذلك الفارس الذي عشقته والدتي يغدق عليها بالحب يوما بعد يوم، وظنت أن أهلها على خطأ،
لكن دوام الحال من المحال، وانقلب الحب إلى شك،
وأباح له العشق أن يهينها مرارا وتكرارا، ويقدم كرامتها قربانا للتقرب من ظنونه، ولكنها كانت تسكت، وتصور لنا والدنا بأبهى صورة وهي تحكي لنا قصة ما قبل النوم عن الفارس الذي أنقذ الأميرة، ويعيشان بسعادة مع أطفالهما الثلاثة.. لكنك نسيت يا أمي أننا كبرنا، وبدأنا نسمع صراخكما ونفهم مشاكلكما
رغم محاولة مازن أن يشغلنا بأي شيء أو يرفع صوت التلفاز حتى لا نسمع، لكن هيهات، ما يسمع مرة ينطبع بالذاكرة، ويشمها بوشم لا فكاك منه.. لا أعرف كيف يفكر! لا أنكر أن أمي أخطأت وهي تنساق وراء
قلبها وتقابله من دون علم أهلها، لكنها ظنت أنه سيبقى يثق بها كما كان، وليس أن يشك بها كلما خرجت لمكان، وأنها ستقابل أحدهم مثلما فعلت معه!
هذا ما كان ينقصني، كلب السيد ريتشارد، إن لم يصادفني في طريق الذهاب يقتنصني عندما أعود، ولا ينفك يلاحقني وينبح عاليا، أظنه كما يقولون، يشتم رائحة الخوف، وأنا أخاف الكلاب، لكن لن أظهر له ذلك وتلك القوة التي بنيتها تنهار لوجود كلب! هذه المرة وقفت أمامه وانحنيت لمستواه، ونظرت له بقوة وقسوة، ومثلما توقعت انسحب بكل هدوء! ههههه.. النظرة الشريرة، حتى الكلاب تنفع معهم، أصبحت جزءاً مني بعد أن اعتدتها مع البشر وخصوصا في مكان عملي؛ نظرا لميزاتي، أولها مسلمة، ومحجبة، وأصغر من أولئك الصلع الذين يطمحون لهذا المنصب، وبنظرهم لا أستحقه .. هم يتذمرون من وجود (فتاة الصحراء) بينهم،
لا يعرفون أني بت أعشق هذا اللقب؛ لأنه يذكرني بالدفء والحيوية بدلا من هذا البرود الذي يعيشون فيه... صحيح أن كل شيء منظم في حياتهم، بدءا من الشوارع والمنازل والشركات.. أشبه ما يكونون بالروبوتات! وتلك الحدائق الجميلة ومظاهر
النظافة، والمطر الذي أعشقه، لكنه ليس مثل مطر بلدي؛ حيث يكون رقيقا، وتكتسي الأرض بمظاهر الحياة، لكن هنا، الأمطار والثلوج قاسية، ولا أشعر أن أحدا يبالي بها كما كنا نفعل ونحن صغارا.. ربما لأنهم اعتادوا عليه في
حياتهم.. الشيء الذي يريحني، أن لا أحد يتدخل في حياة الآخر، حتى الأقرباء قليلا ما يلتقون، وليس مثلما عندنا: كل صغيرة وكبيرة يحشرون أنوفهم بها، وليس كما يقولون صلة الرحم! وكالعادة ألتقي بالسيدة اليزابيث، امرأة كبيرة بالسن تسكن لوحدها، وأبناؤها يزورونها بين الحين والآخر. في بادئ الأمر كانت تلقبني بالمغرورة المتعالية؛ لا يعرفون أني اعتدت أن أرفع رأسي وأنا أمشي وعيني دائما بعين محدثي، أو كما يقولون بالعامية (عينها ماتنكسر)، أو تلك الفتاة قليلة أدب! لماذا ؟!، هل الأدب أن ننكس رؤوسنا ونخشى النظر في عيون الآخرين؟!.
والآن، السيدة إليزابيث اكتفت بالمغرورة: لأنني رغم كل شيء متواضعة، ولا أحب أن أتكبر على أحد، وأحيانا أسمعها تهمس بالمجنونة! لا أعرف، تضحكني تلك العجوز حتى وأنا في أحلك حالاتي، وأخيرا دلفت إلى شقتنا: التي هي جزء من تلك العمارة التي تجمع ما بين الشرق والغرب في تفاصيلها، وهي أول شيء جعلني أشعر بالألفة، وأصر على الاستقرار في هذا المكان منذ سنتين.
مازن، ذلك الكسول، لابد أنه ما زال نائما.. لا أنسى مشوار العذاب الذي أقطعه حتى يستيقظ، وأجرب كل الطرق المجنونة، آخرها؛ أقفز على سريره بقوة، ومرات متتالية، لأحدث ما يشبه الزلزال! لكن هذه الطريقة أتركها عندما أشعر بالذنب، وأجده ما زال إلى جواري وأنا متمسكة بيده أغط في نوم عميق، وهو ما بين إغفاءة وأخرى.. كم تمنيت أن أتخلص من تلك الكوابيس لأجله هو؛ لذلك ذهبت إلى طبيب نفسي.. لكنها ما زالت تراود حياتي، وهو من يتعذب مثلما أنا أتعذب؛ لأن صراخي يصل له بسهولة ويقضي ليله ساهرا إلى جواري كما كان يفعل منذ أن كنت صغيرة، اليوم
سأحدث الزلزال في غرفته بعد أن أعد له فطورا معتبرا، والأكيد الأساسي فيه البيض؛ لأنه يحبه كثيرا... ما زالت
الساعة التاسعة، لو كان يوما آخر لكنت غارقة في العمل الذي أستهلك فيه معظم وقتي، من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصرا.. أعود منهكة لا أقوى على رفع رأسي، وهذا ما أريده.. علي، أفتقدتك اليوم كثيرا، أين رسالتك الصباحية التي أدمنت عليها كثيرا؟!... أما المسائية، فهي مليئة بأشواق ومشاعر ترهقني حد البكاء.. أحيانا أرد برسالة أقرب ما تكون للرسمية وأرسلها الى صديقة وليس.. إلى خطيبي، ولكنه يقول هذا أفضل من أن لا تردى بشيء.. الطيب عند ذكره.. (صباح الحب من قلب عشق روحك تمناها
عشق همسك عشق خطك ومراسيلك يتحراها)
يا رب امنحني الصبر.
حبه يقتلني ويتركني شتاتا لا أعرف أين أستقر، لكنه يستحق من تمنحه الاستقرار، لا أن يلحق لحظات جنونها وانقلاب مشاعرها وخوفها وهروبها الدائم.. هو بحاجة لمن تؤنس وحدته وينام قرير العين، لا أن يصدم بكوابيسها وبحثها عن زاوية تختبئ بها... أحبك،
وسيبقى حبك أجمل شيء في حياتي، لكني لا أستطيع إلا أن أرى حياة أمي وحبها الذي أصبح مصدر عذابها.
كنت أظن كما يظن غيري، أن الحرية هي أن نخرج خارج المنزل، أو خارج الوطن الذي نعيش فيه.. لكن تبين لي أن ذلك خاطئ؛ إن لم نتحرر من قيود أنفسنا وقيود الماضي لن نعرف طعم الحرية.. هذا ما أدركته بعد خروجي المشبوه من العراق قبل عشر سنوات، تلقيت أجمل هدية في حياتي.
عجة البيض! أتمنى أن لا تكون احترقت وأنا واقفة أقلب بصفحات الماضي.. الحمد لله ما تزال سالمة وقابلة للأكل وللصراحة لونها الذهبي شهي جدا.. هذا أقل ما أقدمه لمازن، وأنا أحاول أن أعوض ولو القليل من غيابنا عن الوطن ببعض الأكلات العراقية التي أعدها في أيام العطل؛ لأن الوقت بباقي الأيام لا يسمح بإعداد شيء يتطلب وقتا، سأذهب لإيقاظ ذلك الكسول حتى نخرج قليلا.. قبل أن أكمل جملتي كان يجلس إلى الطاولة! استغربت وجوده، قال لي بأن الرائحة أغرته أكثر من النوم.. جلسنا نتناول الفطور بصمت وأنا أنظر لوجهه الذي لازمني منذ ذلك اليوم كالعادة كانت أمي تعد الفطور بابتسامة مزيفة، وأثار
البكاء واضحة عليها وهي تحاول أن تخفي ما حدث؛ لأن مازن كان قد عاد من لندن بعد أربع سنوات من الغربة، لكنها كانت زيارة ولم ينفك يقنعني بأن أرافقه وأدرس الطب النفسي كما أحلم هناك؛ لأن في بلدنا لا يحبذون هذه الاختصاصات، لكني فضّلت البقاء إلى جانب والدتي، وحتى خالي كان يحاول إقناعي.. وابن عمي، حتى مللت من هذا الموضوع وصرخت بوجههم كعادتي عندما أنهي نقاش، خرج خالي على أثره، وبعده بقليل ذهبت إلى مدرستي لأعرف النتيجة وأسناني تصطك من الخوف، ماذا إن لم يكن معدلي كما أردت؟! هل سيضيع حلمي، وأرضى بأي تخصص آخر؟! وظننت أن الحياة ابتسمت لي عندما تحقق لي ما أردت وعدت إلى البيت أحمل حلمي معي، لأجد كابوسي قد سبقه وهي تنال
ضربات موجعة لم تعرف جزءاً معينا من جسدها، صدمت لهذا وذهبت إليه، ودفعته بكل قوة لكن ذلك لم يزده إلا غضبا.. وأصبحت أنا الضحية الجديدة هذه المرة، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير؛ لأنه ظن أن خالي رجل غريب دخل إلى المنزل!... انتهى ذلك اليوم بوجود والدتي في المستشفى بسبب إصابتها بكسور، وترقد في روحها كلمة الطلاق التي مزقت بقايا الحب المهترئ، وأنا بحالة انهيار عصبي وصدمة قوية؛ بعد أن حبسني في المنزل ومزق نتيجتي، وقرر تزويجي لابن عمي الذي كان وما زال أخا كبيرا وناصحا لي في كل مرحلة من حياتي، وتذكرت أنه في السنة الأخيرة.. دائما يقول لي "إنني أخوك ولا تصدقي أي شيء آخر يقال لك".
ما بين غفلة وأخرى، وجدت نفسي في المطار، يمسك مازن بمعصمي وأنا كالدمية أتبعه حيث يريد.. عرفت فيما بعد، أنهم خططوا منذ فترة لذهابي للندن بعد أن أصبحت الحلقة الأضعف في الموضوع.. وابن عمي كان يشاغلهم فيما نحن نهرب تحت جنح الليل.. سنين طويلة مرت، حرمت فيها من حضن والدتي ودفء وطني وماء النهرين، حتى دراستي، اخترت تخصصا بعيدا عما حلمت؛ لأنني لم أكن أريد أن أتعامل مباشرة مع مشاعر الناس... صحوت من شرودي على صوت مازن وهو يقول لي بأنني لم أترك أي شيء في الصحون! ويتعجب لمقدرتي على أكل هذه الكمية دون أن يزداد وزني، وكأنه لا يعرف السر وهو كان موجوداً عند الطبيب، ويخبره بأن مشاعري المختلفة التي أكتم أكثرها في داخلي تحرق السعرات الحرارية بكثرة.. هذا عدا عن نوبات الغضب. نظفت كل شيء بسرعة، وأعددت عجينة الزلابية.. وفكرت بوجبة الغداء قبل أن نخرج لنلعب كرة السلة قليلا، رغم أنني لست طويلة، وتذمر مازن من برودة الجو وتساقط الثلوج.. لكنه اعتاد أن رأيي هو النهائي.. أخذنا الطريق مشيا لأنه لم يكن بعيدا، وهو ملعب صغير يرتاده القليل من الناس في هذا الجو البارد.
كنت أمشي براحة وأحيانا أسابق مازن، والأجمل، ليس هنالك من يستغرب.. اعتدت على هذه الملابس، بكنزة طويلة فوق الركبة بقليل، وبنطلون جينز، وحذاء رياضي... مثل كل مرة؛ ألعب قليلا حسب أصول اللعبة، وباقي الوقت، أسرق الكرة وأحتضنها حتى أصل إلى السلة وأرميها فيها. نسيت البرد وشعلة من النشاط تدب في، لكننا توقفنا بعد فترة، وذهب ليحضر قهوة لنجلس في الحديقة.. ولكن ما أن ذهب حتى وجدت شابا يجلس قريبا مني، بتسريحة شعره الغريبة وواضح أنه مراهق، لكنه كان طويلا.. تركت المكان، لكنه عاد ليتبعني، وبدأ يرمي كلماته البذيئة! لم أشعر به إلا وهو يحاول سحب حجابي!! كل تعقلي ذهب أدراج الرياح وأنا الكمه بقوة ليسقط أرضا وهذا بفضل دروس الدفاع عن النفس، وبضع تمارين من الملاكمة ولم أكتف بهذا؛ بل وجدتني أنهال عليه ضربا حتى أدميت وجهه! ولم أشعر إلا ومازن يمسك خصري ويرفعني كي لا أقتل ذلك الفتى.. لكنني أردت بأن يفلتني؛ حتى أتم ما بدأته، وانفض كل غضبي بذلك التافه "توقفي ستقتلينه! هل جننتِ! يا إلهي، كأنني لا أعرفك، لا أرى في ملامحك أيا من مينة التي أعرفها! ليس هنالك إلا واحدة نظرتها شرسة، ومستعدة لارتكاب جريمة! وتريدينني أن أتركك وأعود للعراق؟! ما الذي حصل في تلك الدقائق القليلة، وكيف انقلب حالك بهذه السرعة؟".. دفعته بعيدا ومازلت أتنفس بسرعة.. وفجرت البقية الباقية: "عن أي مينة تتحدث؟!
تلك الجبانة ماتت.. لم يعد لها وجود، أستطيع أن أدافع عن نفسي، حتى لو ارتكبت جريمة! لا يهمني أحد، أتركوني أعيش حياتي كيفما أشاء.. كل تلك السنين وأنتم تقررون ماذا أفعل! كأنني زورق بين أمواج عاتية.. من الآن وصاعدا، كل شيء في حياتي سيسير حسبما أريد، وما حدث ليس من شانك أو شأن أي أحد.
عدت إلى الشقة والغضب يسيرني، وأصبحت أكثر تصميما على ما أنوي.. لم أعرف كيف أعددت الغداء وبالي مشغول بتأخر مازن، ولكنني لست نادمة على ما حدث.. أرسلت لعلي، وأخبرته أن يلاقيني الساعة الثالثة عصرا في المقهى.. عاد مازن، ومرت فترة الغداء بصمت كئيب.. وشرعت بتنظيف الأطباق والمطبخ، ولم أشعر إلا وهو يحتضنني، ويقبلني على جبيني ويتمتم باعتذار.. لم أرد عليه بشيء، وانسحبت بهدوء، تركت العنان لدموعي وأنا أفكر باليوم الذي سيتخلى فيه الجميع عني.. وسأبدأ اليوم بعلي الذي يشعرني وجوده بأني أنثى، جميلة ورقيقة ومحبوبة، ويجعل قلبي يخفق بقوة لأقل لمسة عفوية.. بقيت ساعة وأنا أحضر في عقلي ما سأقوله له بكلمات مختصرة حتى لا تفضحني مشاعري.. ارتديت ملابسي والتي كانت عملية وألوانها كئيبة كمزاجي، والآن لابد من أن أستقل سيارتي؛ لأن الطريق ليس قريبا، والثلج بدأ يتساقط بغزارة.. وصلت إلى المكان الذي كان فيه أحد مقالبي لعلي، عندما اتفقنا في مرة سابقة أن نلتقي هنا، أتيت.. ولكني لم أدخل.. وبقيت أراقبه وهو جالس لوحده وينظر لساعته بتوتر.. وبعد أن مرت خمس وأربعون دقيقة فتحت هاتفي الذي كان مغلقا.. واتصلت مباشرة، وهو يسألني عن تأخري وسبب إغلاق هاتفي فكذبت مرة أخرى، وقلت له بأن الشحن نفذ وكنت نائمة ونسيت اللقاء، وليس لي مزاج للخروج..
الآن أجاب بشيء من العصبية "حسنا".. وخرج من المقهى بعصبية وضرب إطار السيارة بقدمه لينفس عن غضبه، وباب السيارة لم يسلم أيضا.. والآن، أنا قادمة، ولم أتخلف لأني أريد الانتهاء من الموضوع بسرعة.. هذه المرة انتظرته لأني جئت قبل الوقت.
دخل وأدخل صاعقة إلى قلبي بطوله الجذاب وجسده الخالي من العيوب، وبشرته المائلة إلى السمرة قليلا.. وعيناه بلون العسل قويتان، ولكن فيهما الكثير من الحنان.. والابتسامة التي خصني بها، لا أستحقها وأنا الجالسة بكل رسمية وكأنني في مقابلة عمل.. اعتدت على حديثه الرقيق ونظراته العاشقة، وللحظة ترددت، وفكرت بأنه لا بأس من التفكير بنفسي والاحتفاظ بوجوده بجانبي: ومن حقي أن أكون أنانية، لكنني تراجعت، وتذكرت أنه لم يخطئ بحقي، وتحمل لفترة طويلة صدي الدائم له.
أدخلت كمية كبيرة من الهواء إلى رئتي، وفجرت قنبلتي بوجهه وأنا أنقل له الكلمات ببرود يخالف الأعاصير التي في داخلي.. حملت حقيبتي وخرجت، وهو ما زال صامتا، لم ينطق بكلمة! كنت أركض أكثر مما أمشي، لأصل للسيارة حتى ألقي نفسي بها.. لم أعرف كيف قدت السيارة والدموع تغشي عيني، وقبل أن أصل وصلتني رسالته (جبانة! ظننتك أشجع من أن تلقي كلمتك وتهربي كالأرنب المذعور! لكن هذه المرة لن تسير الأمور كما تريدين؛ سنة ونصف كانت كافية لتأخذي وقتك بالتفكير، والآن الأمور آلت لي، وما تريدينه لن يكون لك ولو على جثتي) هذه أول مرة يستعمل هذه الكلمات! لكن يبدو أن صبره قد نفد.
رنة منبه التذكير نبهتني وعرفتها؛ لأنها تذكير بموعد لقاء نون عربية عند ريتشيل..
فجأة كبحت جماح الفرامل وأطلقت الذعر في نفسي وأنا لا أعرف هل صدمت ذلك الرجل أم لا؟!


***************




ديمة مصطفى

أستيقظ كلَ يومٍ في تمامِ الساعة السابعة صباحًا..
وقبل أن ترتفع شهقاتُ المُعجبين وتستدير أعيُن الحُسّاد، أوضح بأن استيقاظي هذا خارجٌ تمامًا عن إرادتي؛ فابنتي بسمة _البالغة مِن العمر سبع سنوات_ تستيقظ منذُ الأزلِ عند الفجر، تنتظر بمُعجزةٍ مرورَ الوقتِ حتى يدفع ضوءُ النهار ظلمةَ الليل، فتقفز فوق سريري لتوقظني بصخَبِها المُعتاد مُطالِبةً إيّاي بإعدادِ فُطورِها، وتجهيزِ حقيبتِها المدرسية.
بسمة بهجةُ حياتي بلا نقاش. إلا أنها سببُ تعاستي أيضًا؛ فاكتشافي لحملي بعد أسابيع قليلةٍ من زواجي أحبط كلَ خُططي المُستقبَلية وذهب بها أدراجَ الرياح، لا دراسة، لا عمل، لا أي حياةٍ اجتماعيةٍ خارج جُدرانِ هذا المبنى وإياد كان مسرورًا جدًا بهذا التواطؤ القدريّ ضدي؛ فزوجي _المُتبَجِّح دائمًا بتحضُّرِه وحداثَةِ تفكيرِه_ كان زوجًا شرقيًا تقليديًا جدًا في الصميم .
الساعةُ السابعة صباحًا، إياد يكون قد استيقظ بدورِه في ذلك الوقت، وعِماد الصغير _البالِغُ من العُمرِ أربعَ سنوات_ يبدأُ جولتَه المُعتادَة في البحثِ عمّا يُحطمه في أنحاءِ المنزل.
إفطارُنا تقليديٌ تمامًا. لا يُشبه_ لا مِن بعيدٍ ولا مِن قريب_ ما يُفطر به الإنجليز؛ طبَقا الزيتِ والزعتر، الجبنة، البيضُ المَسلوق. ثم سلَطة الإفطارِ التي يُفضّلُها إياد بالطماطم والبقدونس والبصل. مَن ينظُر إلينا في جِلستِنا هذه لا يُصدّق على الإطلاق أننا نُقيم في لندن منذُ ثماني سنوات. وكأننا نأبى أن تنتشلنا الغُربةُ من عاداتِنا وتقاليدنا حتى في الأكل. وقد انتشلَتنا مِن لَمّة أحبائنا.
قبلَ أن يُغادر.. يُلقي عليّ إياد بعض الكليشيهات اليوميّة المُحبّبَة؛ (لا تنسي ترتيبَ المكتبة. هل غسلتِ قميصي الأزرق؟ أين وضعتِ مفاتيحي؟ أحب أن آكل اليوم بعض الـ....! هل تحتاجين إلى مزيدٍ من المال؟ إن عُدت باكرًا هذا المساء، قد نخرُج لنتمشى قليلاً.)
- يخرُج مُصطحبًا بسمة إلى مدخَلِ العمارة، حيثُ ينتظرها (الباص) عادةً ليأخُذها إلى المدرسةِ الواقعة على بُعدِ حارَتين، فأغرِقُ أنا في أعمالي المُعتادَة؛ تنظيفُ المطبخ وقد شعّت فيه الفوضى بعدَ وليمةِ الإفطار، ترتيب الشقّة، ومسحُ الغُبار. عارفةً بأن إياد المُتيقِّظ دائمًا لكُلِ تقصيرٍ مني لن يتورّع عن تمريرِ إصبَعِه فوقَ الأسطُح ليتأكّد من تلميعِها..
مُلاحقةُ عِماد في أنحاءِ المكان. وإنقاذُ ما تبقّى مِن تُحَفٍ رخيصة اشتريتها يومًا مِن مَعرَضٍ للتُحَفِ المَصنوعة في الصين. ثم آخذ دقائقَ معدودةً لشُربِ قَدحٍ مِن القهوة، بينما أجلسُ إلى جانبِ النافذة أتأمّل الحيَّ المُحيط بنا. مُستغلّةً انشغال عِماد في مُتابعة الرسومِ المتحركة. قد أتلقى اتصالاً من الوطن، وقد أصبح هذا نادرًا مَع توافُرِ خِدمة الإنترنت وكفاءة برنامج السكايبي في الحلولِ محلَّ الاتصالات التقليدية. وإن كان هذا قد حرمني من لذّةِ انتظارِ الهاتفِ الأسبوعي كما السابق، وتسابُقِ لساني مع أنفاسي كُلما كلّمتُ أمي في مُحاولةٍ منّي لسَكبِ أكبر قَدرٍ مِن المعلوماتِ والأخبار في أذنها وفي أقصرِ وقتٍ مُمكن.
أخيرًا، يأتي الوقتُ المُفضَّل لديّ من النَهار، أُلبِس عماد أثقلَ ملابسِه وأكثرَها عمليّة وأرتدي مِعطفي السميك فوق مَلابسي العفوِيّة وأذهبُ به إلى محلِ البقالةِ الواقعِ في نهايةِ الشارع. أسير الهُوينى مُمسكةً مِعصمَه بأصابعٍ مِن حديد؛ كَي لا يهرُب منّي _وقد فعلَها مئات المرّات من قبل_ فأقضي ساعةً في البحثِ عنه. أتأمّل المتاجرَ في طريقي، هناك مَخبزٌ تفوحُ منه رائحةُ الخُبزِ الطازَج، والكعك الشهيّ فأشتري منه قطعتِين لي ولعماد. ومكتبةٌ اعتدت المرورَ بها يوميًا لمَعرفةِ جديدِها من الكُتب. أُلقي التحيّةَ على بائعةِ الورودِ العجوز، وأمنعُ عِماد _بمُعجزة_ مِن مَدِّ يدِه وتمزيقِ وَردتَين. أُراقِبُ المارّة من الرائحين والغُداة. أتساءَلُ عمّا يفكرون بِه؟! ما الذي يشغل حيواتهم فيرسم تلكَ التعابيرِ المُختلفةِ على مُحيّا كُلٍ منهم؟! أصِل إلى مَحلِ البِقالة، فآخذُ وقتي في اختيار مُشترياتي. لقد اشتهى إياد أن يأكل الأُرزَ مَع الفريك واللحم.. ألا يمتلِك هذا الرجُلِ أيَّ مُخيّلة؟
حسنًا. لَن أطبخ اليوم، سأُعلِنُها إجازةً رسميّة لأدواتِ المطبخ، وأقوم بتَحمِير بعضِ قِطع الستيك مع البطاطس والسلطة.. سيحتجّ إياد قليلاً، ثم يأكُل كالعادة؛ _كمُعظمِ الرجال_ يُجيد زوجي الصُراخَ والتَذمُّر ثُم استغلالَ المَوجودِ أبشعَ استغلال.
عُدتُ إلى البيت، وضعتُ عِماد في سريرِه ليحظى بقَيلولَتِه، وركضتُ أصنعُ قدحَ القهوةِ الثاني. مممم.. ماذا أفعلُ خلالَ النصفِ ساعةٍ المُتاحَةِ لي قبل استيقاظِه وعودة بسمة من المدرسة لتستلِم منّي إدارةَ البيتِ بشقاوَتِها و لسانِها الطّوِيل؟
مِن ضِمن الخِيارات الكثيرةِ المُتاحةِ أمامي. كان تناوُل قطعةٍ من الشوكولا الغاليةِ الثمن _التي أُخبئُها في خِزانتي عَن أيدي وأفواه أفراد عائلتي_ أكثرَها إغراءً.
وكأنني أتذوّقُ قطعةً من الجَنة اختصرت بمَزيجٍ سحريّ من الكاكاو والحليب ونكهةِ البُندق. ممممممم.. تذوب في فمي لاغيةً كلَ مشاغلي وهمومي.. وماذا إن كنتُ في النهاية مُجرّد ربةِ منزلٍ تقليديّة؟ وماذا لو كان أعظمُ إنجازاتي هو منحَ أبنائي أفضلَ حياةٍ، ومساعدتهم على النجاح؟ ماذا لو عُرِفتُ طوال عمري كحرَمِ (إياد الأمين) بدون أن أمتلك أيَّ هويّةٍ تُميّزُني وتُخَلِّدني بعد مماتي؟ أليست هذه قصة الملايين من النساءِ غيري؟
- ثم إن إياد رجلٌ رائع يستحق أن أُقدّم كلَ هذه التضحيات لأجله. صحيح؟ ففي النهاية مازلتُ أملك جزءًا مُهمًا من نفسي غيرَ قابلٍ للمساس، إنه عقلي؛ أستطيعُ أن أكون فيه أيَ شيء آخر أريدُه. تلك الصحفيّةِ التي حلمتُ يومًا أن أكونها، أو الرسّامة التي تمنّيتُ أن يسطُع اسمي مُعلِنًا عنها، المرأة الاجتماعية الجميلة والأنيقة والمُتباهِية بشخصيتِها القوية. رُبما كان لي نصيبًا في السياسة، فأنتمي إلى أحدِ أحزابِ المُعارضَةِ التي يمتلئ بها المَهجر.
(أنا ديمة مصطفى، أتحدّث إليكم من قناةِ الجزيرة، يستضيفُني فيصلُ القاسم في حوارٍ ساخن عن الظُلمِ الذي تُعانيه الطبقةُ الفقيرةُ في الوطن.)
كرااااااااااااش.... صوتُ تحطُّمٍ أيقظني من أحلامِ اليقَظة، لأُدرك بأن قطعةَ الشوكولا قد انتهت، وأن عماد قد استيقظ، كما اقترب مَوعِدُ عودةِ بسمة وعليّ أن أبدأ بإعدادِ الطعام.
دخلتُ إلى المَطبخ وأنا أجُرّ عماد لأُجلسه رغمًا عنه أمام ناظريّ أثناءَ عملي؛ كَي لا يحطم شيئًا جديدًا.
هذه هي حياتي. بلا أيِّ مُبالغَة، تتكرّر الوقائعُ نفسُها بوتيرةٍ مُختلفةٍ يومًا بعدَ يوم، على الأقل، في مِثل هذا اليومِ من كُلِ أُسبوع، أجتمعُ مع نساءِ العمارة في جِلسةٍ نسائيّةٍ خالِصة، نتشارَك فيها التذمُّر حولَ حيواتنا المُملّة؛ أن تعرف بأنّ هناك من يُعاني مِثلك مِن واقعيّة ورتابةِ العيش، من ذلك التواتُرِ بين السعادةِ والحُزن، الرضا والغضب، الطمأنينةِ والقلَق أمرٌ مُريحٌ للغاية، وإن كان فيه شيئًا من الأنانية
بالإضافة إلى عقلي، الشيء الوحيد الذي فشِل إياد في السيطرةِ عليه، مَوعدي الأُسبوعي مع رَفيقات كِفاحي المُحاصَرات بقَدرٍ مُتفاوِت من قُيودِ تاريخِنا الشرقيّ. لكُلٍ منّا عالمُها، أسرارُها، عائلتُها وحياتُها، إلا أنّنا جميعًا ندورُ في فلَكٍ واحِد وهو هذه العمارةِ العَجيبة! ماذا تراني أرتدي هذا المساء؟


********





مونيا العلوي

كنتُ أنظر في المِرآةِ الأماميّةِ لسيارتي، إلى طِفلي الصغير أيمن ذي الأربع سنوات، الذي يجلس فِي الخَلفِ مُثبَّتًا على كُرسي الأطفال. ابتسامةٌ واسعةٌ كانت مُرتَسمةً عَلى شفتيّ وأنا أرى التقطيبةَ التي رسمَها على جَبينِه ومَلامِحِه الصغيرةِ التي لُوِيَت تَعبيرًا عَن غضَبِه وعَدمِ رِضاه؛ لاضطّرارِه للذِهاب إلى المدرسة، هي في الحقيقة رَوضة للأطفال، لِمَن هُم في مِثلِ سِنّه ولَيست مَدرسة. كلُ صباح أوصِلُه إلى تلك المدرسةِ بنفسي في سيارتي الخاصة، لكي أذهب بعدها إلى عملي -الذي بدأتُ أمَلّه- في تلك المجلّةِ المشهورة في لندن. -كالعادة- غيّرتُ في السنة أكثرَ مِن ثلاثِ مرّاتٍ مكانَ عملي؛ أنا أبحثُ عن الإثارةِ والشغَف والراحةِ النفسيّةِ في عملي. ضَحِكتُ مع نفسي وأنا أعترفُ قائلةً: لا، بَل إنني أعشقُ التغيير ورؤية كلِ ما هو جديد. تجديد حياتي! كم أتمنى لو أستطيع الآن السفرَ إلى تنزانيا، أو إلى الهندِ مثلاً؛ سأجِدُ ما يستحقّ عدسَتِي هناك عن جدارة، لكنني لا أستطيع حاليًا. سافرتُ مرّة لكينيا مع ياسر وأيمن، لكن الاثنين مَرِضا هُناك عند تغيُّرِ الجو عليهما بقوة، خصوصًا ابني الصغير الذي أُصِيب بإسهالٍ حاد، فعُدنا على وَجهِ السرعة إلى لندن. مازال ياسر لا يُصدّق نفسَه بأنه طاوعني للسفر الى كينيا، ويستغرِب لحَدّ الآن لأنني لَم أمرِض مثلهما؛ ببساطة، لأنني تعوّدتُ على تلك البلدان وأجوائِها المُختلفة؛ فقبل زواجي سافرتُ إلى دولٍ عديدة هناك. مِن أجلِ العمل على مشاريعٍ تصويرية وإنجاز كتالوجات للصورِ النادرة والغريبة، كانت أجملُها في تلك الدولِ الإفريقية، حيثُ الطبيعةِ المُتوحشة، وثقافة مُختلفة رائعة. آآه كم أشتاقُ للذهاب إلى هُناك، لا، بَل آآه كم أشتاقُ للذهاب إلى المغربِ أيضًا. تلاشَت ابتسامتي وأنا أُديرُ المِقود حتى أتّخذُ مُنعطفًا آخر، حيثُ مدرسةِ طفلي.
توقّفتُ عن النظرِ بين كلِ حينٍ وآخر إلى طفلي عبرَ المرآة، وانتبهتُ أكثرَ إلى الطريق؛ حتى أركنُ السيارةَ أمامَ بابِ المدرسةِ الذي كان مفتوحًا، مليئًا بالآباءِ الذين كانوا يُوصلون أولادَهم ويُودّعونَهم.. نزلتُ من سيارتي بسرعة، وتوجّهتُ إلى البابِ الخلفيّ حيثُ يقبع طفلي. كنتُ أُحاول أن أحمل أيمن من كُرسيه -الذي كان مُتشبثاً به- والذي بدأ بالصُّراخِ حالَ أن بدأتُ أفكّ أحزمة الوقايةِ مِن على كرسيه. لَم أهتم لصُراخِه ذاك؛ فأنا متعودةٌ عليه -كما يقول ياسر- أيمن أخذَ مِن جيناتي المجنونة الكثير؛ فهو عَنيدٌ للغايةِ مثلي، وتصرُفاتُه مجنونة في بعضِ الأحيان. أكثر من سَنة، وأنا آتي به لهذه المدرسة، ولَم يتخلَّ يومًا عن صُراخِه هذا الذي يعرف بأنه بدون فائدة؛ في داخلِه هو لن يستسلم، يعتبر بأنه في يومٍ ما، سينجح بأن يجعلني أقتنعُ بعدَمِ أخذِه إلى المدرسة. تجاهلتُ صُراخَه وحركات جسدِه العُدوانية الغيرِ مُستقرة حتى لا أُدخله إلى مدرسته، وحملتُه ضامّةً إيّاه بينَ ذِراعيّ جيدًا. أعرِفُ لِمَ يكره هذه الروضة! نفس السببِ الذي جعلني -أنا أيضًا- أكره مدرستي عند صغري، شعرتُ بأوّلِ يَومٍ لي فيها، بأنّها مكانٌ مُغلَق مليء بالقوانين الصّارمة التي كانت تكتم على أنفاسي التي تُنادي كلُها بالحُريّة، الحُريّة.. والحُريّة، هكذا هو إبني. لكنّه يجب أن يعرف -كما عرفتُ أنا- بأنّه لاحقاً سيُحب الحُريّة لأسبابٍ كبيرة جدًا، ويحتاجُ للدِّراسة، وتحَمُّلِ بعضِ الكَبْت؛ حتى يَصِل إلى مَناصبٍ أكبر، مَناصِب ليست هي القُوّة أو السُلطة، إنما هي الكرامة وتحقيقُ الذات.
وضعتُه على الأرض، كان يبكي الآن، فعدّلتُ له قُبّعتَه الصوفية التي كان يرتديها هي وشالَه الوثيرَ الذي استقرّ حولَ رقبتِه الصغيرة. رأيتُ المُعلِّمة المسئولة عنه تقِف أمامَنا، ولَم تفُتني نظرات العبوسِ التي ظهرَت -لجُزءٍ من الثانية- على ملامحِها؛ مِن بُكاءِ أيمن الذي ملّت منه المسكينة لأشهُرٍ كثيرة، ويأسِها في مُحاولةِ بثِّ الحُب فيه لمدرستِه. مسحتُ دموعَه وأنا أهمسُ في أُذُنِه بالكلِمةِ السِحريّة: "انظر، ألكسندرا تنتظرُك عِندَ الباب!"
ابتسمتُ بمَكرٍ وأنا أراه يلتفت بسرعة بوجهِهِ الطفوليّ الباكي لكي يرَى تلك الفتاةِ الإنجليزية الصغيرة، ألكسندرا، التي يظلّ يحكي لي عنها في البيت.
هي شريكتُه في الطاولة، وفي اللعِبِ في المدرسة. ابتسم لها، فأشارَت له لكي يدخُلا إلى المدرسة، ليَركُض إليها بعدَها تارِكًا المُعلمة واقفةً أمامي تنظُر بتعجُب إلى ألكسندرا، التي تجعله يتقبّل تمضيةَ يومِه في المدرسة بدون بُكاء ككُلِ صباحٍ يبدأ فيه يومه. أثناءَ ركضِه صرختُ له قائلةً:
"أُحبُّك"
قَهقَهتُ عندما عادَ إليّ راكِضًا ثانيةً؛ لكي يرُدّ عليّ هو الآخر بصَوتِه الطفوليّ الجميل: "أُحبُّك مامي"
كانت قُبلتُه لي طويلة، وهو يضمّني بكِلتَي يدَيه، يُحاول أن يعصِرني بتلك الأذرُعِ الصغيرةِ الضعيفة. قبّلتُه أنا الأُخرى، واستغربتُ لقُبلتِه التي طالت أكثرَ من دقائق، لكي أشعُر بحركاتِه المُشاغِبة الماكرة كالعادة! أبعَدتُه عنّي بسرعة، لكي يركض هاربًا منّي داخلاً المدرسة تحتَ أنظاري، وضَحِكاتُه تصِل إلى أذنيّ وأنا أمسح لُعابَه عن وجنتي إثر تلك القُبلةِ الماكرة، التي تعمّد فيها أن يترُك لُعابَه على بشرتي! يا إلهي! عِندما أُفكّر أجد بأنني كنتُ أكثرَ مَكرًا منه أثناء صِغَري (أعانَ اللهُ والِدَتي). قُلتُ ذلك وتوجّهتُ إلى سيارتي الرُباعيّة الدفعِ السوداء، أُحِب سيارتي هذه؛ لأنّها مُناسبة جدًا للسفرِ بها، خُصوصًا عِندما أُسافر مع زوجي وطفلي، كما أنّها خيرُ رفيقٍ لي، ومُساعِد لي للتجوالِ بينَ تِلال وسُهولِ لندن؛ لالتقاطِ صورٍ قَد أُضيفها إلى ألبومات صُوري الكثيرة المُميّزَة. دخلتُ وعِندما جلستُ خلفَ المِقوَد، قلتُ لنفسي بنَبرةٍ حازِمة تتفَجّر إصرارًا وثقة: "والآن.. إلى العَمَلِ الجَادّ" أدَرتُ سيارتي، وبدأتُ أنهبُ شوارعَ لندن مُتوجِّهَةً إلى تلك المنطقة الراقية جدًا. اليَوم، لَن يكون يومًا عاديًا بالنسبةِ لي؛ فلَن أذهب اليومَ لعمَلِي كما خطّطت، كيفَ أذهَب وأترُك صَيديَ الثمين الذي على وشكِ أن يقع بينَ براثنِ يدي؟! سِياسيٌّ كَبيرٌ عَربيّ، حطّت قدماه أرضَ لندن البارِدة منذُ أيّام. إنّه هُنا فِي رحلةٍ خاصة غيرُ مَعروفةٍ أسبابُها، وغيرُ مُعلَن عنها إعلاميًا، خاصة جدًا، وبالتأكيد.. لا علاقةَ لها بالبلاد! السياسيّ الذي يُجهّز الآن لدُخولِ البرلمان -بعد أشهُر- والتَربُّع على عَرشِه، هو الآن في لندن حتى يعيش حياتَه الفاسدة، ويُظهِر وَجهَه الحقيقي هُنا بعيدًا عَن الإعلامِ في بلده. سأؤكِّد للجميع بأنّه ليس أهلاً لذلك المَنصب وبأنه سارقٌ كبيرٌ لأموالِ الشعب.
رِحلتُه المُكلِّفَة هذه -والخاصّة- إلى لندن، هي بالتأكيد على حِسابِ أموالِ الشّعبِ المسكين، سأُفرِغ جيوبَه مِن تلك الأموالِ المَسروقة بسرعة كما أدخلها إليها بسرعة، ولو كان آخرَ ما أفعله في حياتي! مونيا العلوي ليس لديها أفضلَ من الجنون! لَن يوقفني شيءٌ عمّا أُريدُ تحقيقَه الآن؛ فمنذُ قدومِه إلى هنا وأنا أتبعُ خطواته، خطوة خطوة ودون أن يدري أحدٌ عن مُخطّطاتي. لا أُنكِر بأنني لجأتُ إلى مُساعداتٍ كثيرة من أصدقاءٍ مُقرّبين لي في التصويرِ الإعلامي والصحافي، إضافةً إلى ناشطين سياسيّين كثيرين يترصّدون خطوات سارقي الشعوب العربيّة هُنا في أوروبا، وذلك كلّه؛ لكي أصِل إلى ما في جُعبتي الآن.
عليّ أن أجِد دلائلَ أكبر على ذلك السياسيّ البارز. لدَيه اليوم اجتماعٌ خاص مع رِجالِ أعمالٍ عرب وأجانب لَم أستطِع معرفة مَن هُم، لكنّني عرِفتُ المكان بالطبع الذي سيُقام فيه اجتماعُ غداءٍ يبدو عاديًا للمَرءِ على غيرِ مَضمونِه الحقيقي. هذا الرجل لديه نقاطٌ سوداء كثيرة في ملفِّه الخاص! وأنا عليّ أن أحرِص على كشفِها للجميع، أوَلَيس على الشخصيّات السياسيّة البارزة في بلدانِنا العربيّة أن تُحاسَب على كُلِ سِنْت تَقوم بإخراجِه، كما يحدُث في أوروبا بالضبط؟! إذن.. هذا الرجُل عليه أن يُحاسَب على ما يقوم بتكديسِه في جيوبِه مِن مالٍ عام.. الرجلُ اشترى مؤخرًا بيتًا فخمًا في لندن بمبلَغٍ ضخم جدًا، إضافةً إلى أموالٍ تُضافُ لحِسابِ امرأةٍ هُنا -في لندن- هو على معرفةٍ بها.
يا لَلعار ويا للمُصيبة لأنني اكتشفتُ كلَ هذا عنه بطَريقةٍ كادت أن تكون شِبه مُستحيلة! علينا أن ننهض من سُباتِنا، وأن نضَع حدًا لمِثلِ هؤلاء، لِمن يتحكّمون بمَصيرِنا ومَصيرِ مُستقبلِنا و مُستقبَلِ أولادِنا. خفّفتُ سرعةَ سيارتي وأنا أدخلُ إلى تلك المنطقة من لندن، حيثُ يقع واحدٌ من أفخمِ فنادقِ العالم المعروفة على نهرٍ التايمز. أوقفتُ سيارتي على أبعَدِ نقطةٍ من المكان، وفي نَفسِ الوقت كانت نقطة تُمَكِّنني من تَمشِيطِ المكانِ كلّه بعيني، نقطة جعلَت المكانَ مَكشوفًا لي بأكملِه. دسَستُ يدي في جيوبِ مِعطفي -الذي كان يَصِل إلى خصري- عندما خرجتُ من سيارتي. كنتُ أنظر إلى الفندقِ من بَعيدٍ مِن تحتِ نظارتيّ السوداوين الأنيقتين رغمَ الضبابِ الذي كان يلُفّ المكان! بينما كانت خصلاتُ شعري الأسود الطويل المُنفردة بتمرُّدٍ حولَ وجهي تطيرُ مع الرِياح أمامَ عينيّ. كنتُ أُبعِدُها بينَ الحينِ والآخر عن وجهي؛ حتى أستطيع النظرَ بوُضوحٍ إلى الفندق. أريدُ معرفةَ من سيكون برِفقةَ ذلك الرجلِ السياسي عندما يدخُل الفندق، رُبما أستطيعُ تصويرَهما. كنتُ على وشكِ أن أعود؛ لكي أجلِس في سيارتي وأنتظِر في داخلِها قدومَ ضحيتي عندما مرّت سيارةٌ أمامي، سيّارة فِضيّة رياضيّة، تُشبِه تمامًا، بل تبدو لي بأنها نفسها سيارةُ ياسر زوجي! أبعدتُ النظارات عن عيني مُنذَهِلة، وأنا أتأكّد مِن أنّه -هو نفسه ياسر- يتوقّف بسيارتِه أمامَ الفُندقِ الفخم؛ لكي ينزِل من السيارة، كان هو بكُلّ تأكيد، مع أنّه كان بعيدًا عن نظري وكان موليًا ظهرَه لي وهو يُسلّم المفاتيح لواحدٍ من سائقي الفُندق، إلا أنني استطعتُ أن أعرِفه؛ لا يُمكن ألاّ أعرِف زوجي! حتى أنه يرتدي نفسَ المِعطف الأسودِ الطويل الذي أخرجتُه من خِزانتِه هذا الصباح؛ لكي يرتديه فوق طقمِه الأنيق قبل أن يتوجّه لعملِه. قامتُه الطويلة، رسمةُ جسدِه مِن الوراء كافية لكي أتأكّد من أنه ياسر. أعدتُ وضعَ نظاراتي بسرعة على عيني عندما التفَت ياسر بتلقائية إلى الوراء. زمَمتُ شفتيّ بغيظ. لقد رآني! مِن كُلِ تلك المسافة استطاعَ أن يُميّزني! استسلمتُ للأمرِ الواقع وأنا أراه يستَرجِع مفاتيح سيارتِه، ويعود إليها حتى يسوقها مِن جديدٍ مُستديرًا بها ناحيتي، فتنهّدتُ بصمت.
لَم أكُن أريدُه أن يعرف بهذه الطريقة، صحيحٌ لَم أُخفِ عنه يومًا ما أقومُ به، كُنتُ أريدُ إخبارَه لكنني لَم أكنُ أجدُ الوقتَ الكافي معه حتى أتكلّم عن موضوعٍ مثل هذا، يحتاجُ إلى الكثيرِ مِن الوقتِ لإقناعِه؛ فبالتأكيد سيرفُض الخُطوَة لأنّها جريئةٌ كثيرًا؛ فهي أكثر من إعطاءِ رأيي بالقلمِ والورق في الأمورِ السياسيّة التي تتعلّق ببلدِنا المغرب، فأنا أبحثُ الآن عن دلائلٍ حيّة عن تلك الآراء. (لا داعي لكي أُنكر الأمرَ الآن أمام ياسر أكثر) قلتُ ذلك لنفسي وأنا أقِف عِند مُقدّمةِ سيارتي، عندما أوقَف هو سيارتَه بمُقابلَتي وخرج منها.
تقدّم منّي بخطواتٍ كبيرة واثقة، كنتُ أتأمّله مِن تحتِ نظاراتي، لم تَكُن هناك مشاعر مرسومة على وَجهِه غير الجُمودِ والبُرود، وذلك لم يجعلني أتوقّع ردّةَ فعلِه، (مهما كانت ردّةُ فعلِه، ما يهمّني أنني مُقتنِعةٌ بما أفعله الآن)، هكذا قلتُ لنفسي وأنا أراه يقِف أمامي لا تُفرِقنا عن بعض سِوى خُطوتَين، كنتُ أنتظر ما سيقوله، لكنّه فاجأني عندما مدّ يدَيه المُغطّتَين بقُفّازَين جِلديّين أنيقين إليّ، ونزَع نظارتيّ السوداوتين عن عينيّ لكي تلتقى عيونُنا مُباشرةً، فتكلم عندها أخيرًا ليقول: "بحَقّ الله، ما الذي تفعلينه هُنا مونيا؟!"
أجبتُه بسؤالٍ أنا الأُخرى: "نفسُ السؤالِ أريدُ أن أطرحه عليكَ ياسر! ما الذي تفعله هُنا بحَقّ الله؟!"
أجابَ بنَبرةِ مَلَلٍ جعلَت صورتَه التي كانت قبلَ قليلٍ صارمةً وحازمة تتلاشى، ويظهر وجهُه الآخر معي، الذي جعلني أقعُ في هواه منذ أن اكتشفتُ ذلك الوجه فيه، الحقيقةً إنه رجلٌ مَرِح ومُتفَهِّم للغاية "اجتماعُ عمَلٍ -كالعادة- سيجمعُني مع عُمَلاءٍ جُدُد، بإحدى قاعات الاجتماعات بهذا الفندق"
لمستُ تعَبًا في كلماتِه، أعرف بأنّه مُتعَبٌ مِن عملِه، وبأنّ التوتُرَ هو سيّدُ عملِه ولا يُحِبّ الخسارة، إنّه شخصٌ يكره الخسارة، لذلك أعرف كَم يُعاني لكي يصمُد أمامَ الرِياحِ القويّةِ التي تُحاول أن تسقطه في عالمِ الأعمال، لكنّه قويٌ، قويٌ لدرَجة أن ينسى نفسَه في الكثيرِ من الأحيان مِن أجل طموحاتِه والنجاح في عملِه، نجاح لا أعرِف له حدود! أغمَض عينَيه عندما وضعتُ إبهامي على صدغَيه وبدأتُ أقوم بحركاتٍ مُهَدئة ستُساعده كثيرًا لكي أجيبُ بعدها بنبرةٍ لطيفة: "في نفسِ الفُندق أيضًا، سيُقام اجتماعٌ آخر لسياسيٍّ مَعروف في بلادِنا، وجودُه هنا ليس مُعلَنًا عنه، بَل هو سريّ لمَصالحِه الشخصيّة التي تضرّ بالبلد، وهذه فُرصتي الذهبيّة لكي أُعطي دلائل على فسادِه، وبأنّه عارٌ على برلمانِ بلادِنا وعلى ذلك المَنصِب الذي يُريد أخذَه بغَيرِ حق".
كنتُ أتكلّم وفي نَفسِ الوقت أُحاوِل أن أسترِق النظرَ إلى الفُندق حتى أرى إنْ كان قَد وصل مَن أبحثُ عنه.. التفَتُّ إلى ياسر مرّةً أُخرى عِندما لَم أَرَ شيئًا وعندما أبعَد هو الآخر يدَيّ عَن صدغَيه، لكي يقول لي وقد ارتسَم على ملامِحِه البُرودُ مِن جديد -على الأقل بُرود ولَيس غضَب-: "لِماذا لَمْ تُخبرِيني بأنّك تقومين بمُغامراتٍ جديدة؟ بَل كيف تركتِ عملك وأتَيتِ إلى هُنا تتجسّسين على سياسيّ معروف؟!عَمَلُك هو التصويرُ فِي مجلّة فوتوغرافية للندن، وليس تَتَبُّع آثارِ خطوات السّاسَة وكشف أسرارِهم الخطيرة."
كِدتُ أن أفتحَ فمي، أدافِعُ عَن نفسي وعَن أفكارِي بقوّة، وقد ثارت ثائرتي كالعادة، كنتُ أريدُ أن أقول (إنّني مُواطِنة تُريد مَعرفَة حقيقة من ينوي أن يترأّس مَركزًا مُهمًّا في حكومَةِ بلادِها، كما على الشَعبِ بأكمَلِه مَعرفة حقائق مَن يلعبون بحياتِهم وبمُستقبَلِهم)، لكن ياسر كان أسرَع منّي، حين وضَع شفتَيه على جبيني يُقبّله برقّة -كالعادة- تُذيبُني، وهي الوحيدة التي تجعلُني أبتلِع حِدّةَ لساني، وهَمَسَ لي: "لن نتكلّم الآن عن هذا الموضوع، حسنًا، في الحقيقة أنا أعرِف كيفَ تُفكّرِين الآن وبأنّ الواجِبَ يُنادِيكِ لكن واجِبَ طِفلِك وزَوجِك يُناديانِك أيضًا، عُودِي إلى البيت أو إلى عمَلِك في المجلة، وعندما أعودُ إلى البيت سنتناقَش عن هذا الموضوعِ الخطيرِ الذي أخفَيتِه عنّي."
أبعَدتُ يدَيه عنّي بقوّة وأنا أصيحُ في ظِلّ ذلك الجَوِ القارس البرودة: "مُستَحِيل! لَن أعود ياسر، أنتَ تطلُب منّي أن أرمي فُرصةً أتَت على طَبَقٍ مِن ذَهَب وراءَ ظَهرِي ببساطة! هذا أمرٌ مُهمٌ يتعلّق بشَعبٍ بأكمَلِه ولَيس بِنا فقط أنا وأنت ثُم متى قصّرتُ معك أو مع أيمن؟!"
"أنا أُوافق بأن تُعلِني آراءك عَن مِثل هؤلاء السّاسَةِ بحُريّةٍ و جرأة، لكن ليس أن تُلاحِقيهم شخصيًا! هذا خطير"
لَم ألتفت إليه، إذ كنتُ مُولِيةً له ظهري أبدًا غَير مُقتَنِعة بكلامِه. شعُرتُ بكلامِه هذه المرة استخفافًا بقدراتي، لكنّه -كالعادة- يعلَم بطُرُقِه المُلتَوِيَة كيف أقتَنِع بكَلامِه وأؤمن به. ضمّني بذِراعَيه إليه، وهمَس في أُذُني مِن جديد: "مونيا، المَكانُ مُراقَب مِن كُلِ زواياه، كُل ما يُحِيط بهذا الفُندُق مُراقَب، لَن تَستطيعِي فِعلَ شيء. لا تُخاطِري بحياتِك! ماذا تُريدين أن تعرفي؟ أن تتأكّدي بأنّه قادِمٌ إلى الفُندق؟" توقّف لكي يتنَهّد باستسلام ويُكمِل بعدَها: "أنا لَدَيّ اجتماع في نَفسِ الفُندق، سأُحاول أن أنقل لكِ ما ستراه عيناي"
لَم أكُن راضية عن كَلامِه؛ كنتُ أريدُ أن أكتَشِف الأمورَ بنَفسي، لكن كلامَه، وحركاته الخبيثة جعلتني أنقادُ وراءَه مُستسلِمَة أدخُلُ إلى سيارتي التي فتَحَ بابَها لي بنَفسِه.. كنتُ أُصِرّ دَومًا على القِيامِ بكُلِ شَيءٍ بنَفسي، لكنّني الآن أعرِف بأنّني سأُخفِق كما قال ياسر؛ فالمكانُ فِعلاً مُراقَب. لا أستطِيع أن آتي بدَليلٍ واحد -بوُقوفِي هنا- على ذلك السِياسيّ، ولا حتّى صورة!
دخلتُ سيّارتي، فأقفَل هو بنَفسِه البابَ ورائي. أنزَلتُ الزُجاجَ لِكي أُودّعُه، لكنّه تكلّم قائلاً: "ألَم تُغيّري رأيك في تغيير مكانِ إقامَتِنا؟ متى ستقبَلِين بأن نشتري بيتًا كبيرًا يخُصّنا وحدَنا، بدَلَ أن نتشارَك عمارةً مَع أُناسٍ آخرين؟"
كنتُ أعرِف بأنّه يُغيّر المَوضوع، فقط بطَريقةٍ ذكيّة كشفتُها كعادتي؛ لأنّه يعرِف بأنّ ذلك مُستحيل، وبأنّنا تكلّمنا مِرارًا فِي أمرِ السَكَن، لكنّني أجَبتُ عليه بنَفسِ الجَوابِ ككُلِ مرّة: "مُستَحِيل، تَعرِف بأنّ واحدًا مِن شُروطي للبَقاءِ في لندن هو السَّكَنُ في عمارةِ ريتشيل، غيرها فلا!... مع تلك العائلات العربيّة أشعُر بأنّني في أحضانِ العالَمِ العربِيّ، وليس في بِلادٍ بارِدة مُمِلّة لا تَمُتّ لتقالِيدي وعاداتي ودِيني بِصِلَة! لَن أُغَيّر العمارة ولو بقَصرِ المَلِكة إليزابيث"
لَم يُجِبني إلا بابتسامةٍ رسمَهَا على شفتَيه، كان يُعيد بِضعَ خصلاتٍ مُتمَرِّدة تَحومُ حولَ وجهي خَلفَ أُذُنِي، وأنا أُكمِل كلامي قائلةً: "ثم إن أفضَلَ ما يُعجِبني في تلك العمارة، هو الاجتماعُ الذي نُقيمُه كُلَ يَومِ سَبت، اجتماع نِساءِ العمارة، نِساء عربيّات برِئاسة -الإنجليزية والتركية- ريتشيل زينب، أنا أُحبّ تلك الاجتماعات؛ ففيها نجِدُ أنفُسَنا في عَالَمٍ آخر، عالَم نحنُ مِنه، بعيدًا عن ما نعيشُه مِن قَسوَةِ الغُربة، عالَم نُضطّرُ أن نَخرُج مِنه حالَ أن نَخرُج مِن ذلك الاجتماع وأنا مُتشوِّقةٌ لاجتماعِ هذا الأسبوع، الذي سيَكونُ اليَومْ "


**************


لين الطاهر

قبلَةٌ خَفِيفَةٌ على وَجنَتِي، شعُرتُ بها وأنا أسمَعُ هَمسًا حنونًا باسمي.. تمَلمَلتُ قَليلاً بينَ الوَسائد، وقد تسرّبَت شَمسُ الصَّباحِ الباكرِ للغُرفَة، بنُورٍ خَافِت عَبْرَ السّتائِر المُخمَلِيّة التي تُغطّي مُعظَمَ النّافِذَة.. شعُرتُ برَائِحةِ رَاشد العَطِرَة تتغَلغَل إلى أنفاسي الدافئة، وبقايا مِن عِطري يمتَزِج بعِطرِه الأخّاذ، و قد مَال قَليلاً نَحوِي ليَهمِس في أُذُنِي بتعبيره الصباحي المُعتاد:
- صَباحُ الوَرد ليني.
دفَنتُ رأسي في وسادتي وأنا أهمِسُ بِالرد، أكادُ أذوب خَجَلاً مِنه، و حَياءً من ابتسامَتِه المَاكِرَةِ المُنتَصِرَةِ التي أراها عادةً على وجهِه بعدَ أن يغمرُني بحُبّه المُتطَلِّب.. شعُرتُ باقترابِه منّي حِينَ سمِعتُ صوتَ أنفاسِه الدافئة، وهو يَهمِس قَريبًا من أُذُني:
- ارتاحِي اليوم حبيبتي..
قبّلنِي مرّةً أخرى على شعري وأتبع قائلاً:
- لا أُرِيدُ شيئًا على الغَداءِ اليوم.. قد أتأخّر في المُستَشفَى.
أومَأتُ برَأسي دُونَ أن أُدِير وَجهي نحوَه، مسّدَت يدُه شَعرِي قبلَ أن يَقِف مُبتَعِدًا، وهو يَقول بصَوتِه الرَّخِيم الذي يُخفِي فِيه ضَحِكَتَه السّاخِرَة منّي ومِن حَيائي الشّدِيد منه:
- سأتّصِل بكِ ليني، انتبهي لنَفسِك.
بَعدَ ساعاتٍ قليلة، كنتُ أقِفُ أمَامَ مِرآتي و أنا أُجَفّفُ شَعرِي الطَويل، بينَما أُدَندِن لحنًا ناعِمًا لفَيروز (سألتَك حبيبي) وأنا أُفَكّر في رَاشد كالعادة، ابتسامةٌ حُلوة ارتسمَت على شفتيّ، و أنا أتأمّل عيناي ثم غمَرَت وجنتاي حُمرَةُ الخَجَل عِندما تذكّرتُ ما كان بَينَنا منذُ ساعات.
آهٍ يا راشد، أنتَ دائمًا تُحبّني وبقوّة.. لكن بصمت! أتمنّى مِن كُلِ قلبي أن تَهمس لي بكَلِماتِ الحُبِ والغَزَلِ التي أراها مِرارًا وتكرارًا في الأفلامِ التي أُشاهِدُها، أقرأُها في الروايات، وأسمعُها في الأغاني. تَنهِيدَةٌ طويلة أطلَقتُها قبلَ أن أُرَدّد بهَمسٍ حنون كَلِمات (كُنْ صَدِيقي)، لِماذا تنسى حِين تلقاني نِصفَ الكلام، تكلّم، تكلّم، فأنا مُتعَبَةٌ مِن قِصَصِ العِشقِ وأخبار الغَرَام.
أخرَجتُ لِساني لانعكاسِي في المِرآة، قَبل أن أبتَسِم بسَعادة وأنا أُحرّكُ كَتِفي دلالاً:
- سترى يا حَجَرَ الجرانيت كيفَ ستخرُج مِنكَ كَلِمات الحُبِ و أعذَبُها ليلاً و نهارًا.
أتبَعتُ جُملتي بضَحِكةٍ ناعِمَة، وأنا أتخيّل راشد بتَقاطِيعه الحادّة و الصّارِمَة يتفوّه بتلك الكلماتِ هَامِسًا بها، وهو يَحمِل الورودَ الحمراء خلفَ ظهرِه لتكون مُفاجأةً لي! هَزَزتُ رأسي نَفيًا، بينما لا زِلتُ أضحَك مِن خَيالاتي عَن رَاشِدِي الوَقور لاستِحالَةِ تلك الفِكرة.
فِي تَمامِ الساعةِ الحَادِية عشرة صباحًا، أتمَمتُ تَرتِيبَ بيتي وتَنظِيفَه و تَعطِيرَه برَوَائِح (دهن العودِ) الجميل الذي أحضَرتُه مَعِي؛ لأنّني أعشق رائحَتَه التي تُذكّرُني بالروح العربيّةِ الشرقيّةِ التي أشتاقُ إلَيها. سرَحتُ بأفكارِي بَعيدًا، نحوَ وطني وأهلي و أحبابي، وأنا أُرَدّدُ في نَفسِي ما كانت تقولُه أمي (عاملين إيه في الغُربة، أعزّ الناس حبايبنا) وهي تُحادِثني على الهاتف... فتَحتُ بابَ الشُرفَة لأخرُج إليها وأستَنشِق بعضَ الهواء؛ عَلّه يطرد ما أثقَلَ صَدرِي مِن شُعورٍ بالوَحدةِ و الحنين لأمّي و أبي وإخوتي.. مسحتُ دمعتي التي نزِلَت شوقًا لَهم، وأنا أرسمُ ابتسامةً على وَجهِي مِن جَدِيد، بينما أتذكّر أبي وهو يقول لي (أنّني أملِكُ أجملَ ابتسامَة تنبُع مِن القلب).
كنتُ أتأمّل الشّارِعَ المُمتَدّ أمامي، وأنا أقِفُ في شُرفَتِي، وشاهدتُ على بُعدِ أمتار قَلِيلة سيّدةً وَقور تَحمِل سلّة كبيرة و جَميلة مِن القشِّ في يدِها، تَحوِي أزهارًا مِن كُلِ الألوان. شعرتُ بفَرحةٍ غامِرة و أنا أراها تسأل كُلَ مَن يمُرّ -عبرَ هذا الطريق- أن يبتاع مِن أزهارِها. كان الطَرِيقُ مَكسوًا بالأشجارِ على حافّتَيه اللّتَين ازدانَتا بالأزهارِ أيضًا، بدا لي المَشهد وكأنه خَارِجٌ مِن رواية (مازالت أُمنياتي أحلامًا) لكاتبة أُحبّها كثيرًا. اجتاحَني إحساسٌ غَريب برغبةٍ في شِراءِ تلك الأزهار؛ كَي أحمِلُها وأُغرِق وَجهِي بينَ وُرَيقاتِها لأستَنشِق عبيرَها، و أدور حولَ الأشجارِ فَرحًا بهذا النهارِ الجميل! أرسَلَت الفِكرةُ ابتسامةً ناعمةً إلى شفتيّ، وأنا أشعُر بارتياحٍ وطمأنينة يبثّان سعادةً صافِيةً إلى قلبي.
كنتُ أتمشّى في ذلك الممَرّ المشجر حاملةً أزهاري التي ابتعتُها من السيّدة، عندما انتبهتُ لأن هُناك مَن يُناديني، رفَعتُ رأسي، لأجِد راشد على بُعدِ خطواتٍ منّي! استغرَبتُ جدًا وُجودَه في هذا الوَقت، و في هذا المكانِ بالذات! كان يقتَرِب منّي بخُطواتٍ غاضِبة، لقد كان غاضِبًا جدًا و قد ارتسَم العُنفُ على تَعابِيرِ وَجهِه الذي بدا مُسودًّا مِن شِدّةِ انفِعالِه، صرَخ بي مُعنِّفًا :
- لِماذا لَم تُخبريني أنّكِ ستخرُجِين من المنزل؟! وأين هاتِفِك الجوّال؟ ربما لا يجِب أن أسألِك عنه، بما أنّك تمُرّين بإحدى حَالاتِك الجُنونيّةِ النّادِرَة. يَجِب أن يتم إضافَة خِدمة لجوّالِك، تقول أن المُتَّصَل به سَاهِمٌ وهو يَحمِل الأزهار و يسرح بينَ الأشجار!
اتّسعَت عَيناي رُعبًا وأنا أدورُ بنظراتي حَولي؛ كَي أرى إن كان صَوتُه المُجلجل قد استقطَب الجَماهِير أم ليس بَعد! شعُرتُ بارتِجافةٍ تهُزّ ساقيّ وأنا أهبِطُ مِن خيالاتي الرومانسية مُصطَدِمَةً بصَخَبِ راشد المُفاجِئ. حثَثتُ خُطاي المُرتَبِكَة نَحو مدخَلِ البِناية؛ فِي مُحاولَةٍ منّي لجَرِّ راشد إلى شقّتِنا بعيدًا عن أعيُنِ المُتطفّلِين، في الوَقتِ الذي رطّبتُ شفتيّ بتَوتُّرٍ وأنا أُجيبُه بصَوتٍ خافِت:
- راشد، أرجوك! أخفِض صَوتَك، نَسِيتُ هاتفي النقّال في البَيت.. أرجوك لا تصنَع جَلَبة أمامَ الناس!
رأيت شرارات الغضبِ تتطاير مِن نظراتِه، وأنا أبتعِد عنه مُهروِلَةً باتجاهِ المِصعد، فيما كان يُلحِق بي وهو لا يُطيق صَبرًا على الانفِجارِ بوَجهي مُحدثًا جَلَبةً حقيقيّة. ازدَرَدتُ رِيقي، وأنا أضغَطُ على الرّقم (أربعة) حيثُ شقّتِنا التي تقبَعُ في الطابقِ الرابِع، وما أن أغلَق المِصعَد بابَه عَلينا حتى سَمِعتُ صَوتَ تَنفُّسِ رَاشد الغاضب، وهو يَلتَفِت إليّ قابضًا على ذِراعيّ بعُنفٍ شديد، و يقولُ مُوبِّخًا:
- باللهِ عَليكِ يا لين، متى ستتعلّمين مَعنى المسؤولية؟! متى ستُفكّرين مرّةً قبلَ أن تتصرّفي؟!
كان راشد فِي قِمّةِ غَضَبِه وهو يرعد رَعدًا فِي وجهي، رَجوتُه بَاكيةً أن يُخفِض صَوتَه خَوفًا مِن أن يَنفَتِح بابُ المِصعد، فيرانا أحَدُ سُكّانِ البِناية.
خرَجتُ مِن المِصعَد فورَ انفِتاحِه، لألتَصِق بِبابِ شقّتِنا في مُحاوَلَةٍ منّي لأختفي من أمامِ راشد، الذي لم أعرِف كيفَ فتحَ الباب، وأصبحنا داخلَ الشقّةِ أخيرًا. كنتُ أرتجِف مِن الخَوفِ والانفِعال، و اتّجَهتُ إلى غُرفَتي بسُرعة، و دموعي لَم تتوقّف، و مازلتُ أسمَعُ تساؤلات راشد الغَاضِبة عن سَبَبِ عَدَمِ اتّصالِي به، و إخبارِه بخروجي.
هروَلتُ إلى غُرفَتي وأغلقتُها خَلفي بالمفتاح لأتحصّن داخلها مِن راشد وألقَيتُ بنَفسِي على سَريرِي وأنا أبكي بحرقَةٍ وألم مِن هذا الراشد وتقَلُّباتِه التي أرهقَتنِي! أعتَرِف أنّني أخطأت بعَدَمِ الاتّصالِ به، وأعرِف أنّني أخطأتُ أيضًا بعَدَمِ إخبارِه عن نُزهَتِي. ولكن هل يتطلّب نِسياني كُلَّ هذا الغَضَبِ الهَادِر! نَظَرتُ إلى الأزهار التي وضعتُها بجانبي على السّرِير، وتحسّرتُ على يَومِي المُشرِق الذي اغتالَه راشِد كعادَتِه.
تذكّرتُ فجأةً - وأنا أتأمّل أزهاري- الدعوَةَ التي كنتُ أنتظِرها منذُ فِترة، دعوَة جارَتِي (زَينب) التي أُحبّها لطِيبَتِها وعُذوبَتِها وشعُرتُ بالمَرارة وأنا أُدرِك استحالَة خُروجِي وأنا أشعُرُ بكُلِ هذا الألَمِ في داخلي.. سأعتَذِرُ عَنِ الدعوة، يَجِبُ أن أعتذر، لَن أتمكّن مِن الذِّهاب وأنا حزينة هكذا.
طرَقاتٌ حَازِمَة ومُصمِّمَة على بابي، أيقظَتني مِن سَهوَتِي، حيثُ سمِعتُ راشد يُناشِدُني بصَوتِه القَويّ:
- افتحي البابَ يا لين، و كفاكِ تصرفات طفوليّة.
لَم أُجبه، وبقيتُ مُستَلقِيةً على سريري أُحدِّقُ في النافذة، لحظات قصيرة مضَت قبلَ أن أسمع راشد يُنادِيني، ولكن بطَريقَتِه الخاصّة هذه المرة:
- هيا يا ليني، افتحي الباب.
أغمَضتُ عَينيّ وقد فَرّت دمعةٌ حارّة على وَجنَتي، وأنا أشعُرُ بتَعَبٍ حَقِيقيّ في قلبي، سَبَبُه راشد!
سارة جوزيف
استيقظت مِنّ قيلُوْلتِهَا لِتَعَودَ لِمْكَتَبِهَا ناعِسة مُبتَسِمَة بسُخْرِيَة مِنّ هذه الإنجْلِيزِيّة (ريتشيل) تزاول لُعْبَة 'العثمنَة' عَلَّى النْسوة العَرَبيّاتِ فِي عِمَارَتِهَا كَمَا يفعلها الأترَاكُ في الوطنِ العَرَبيّ.
استدراج العَربِ إلى الزَمَنِ الجَمِيلِ فِي نَظَرِهم؛ زَمَنُ سُلطَة دار السَعَادَةِ (إستَانبُول) عَلَّى الَوْلاياتِ العَرَبِيَّة شَرقَاً وغَربَاً، ولَكِنّ لُعبَتهم لَمْ تَأتِ هَذه المَرَّة بفَرمَانَاتِ سُلْطانِية؛ وإنَمَا باسم حُرِّيَّة الشُعوبِ وباسم التَبَادَل الثَقَافِيّ والحَضَارِيّ وكأنَهَم لَمْ يسَلِبُوا حُرِّيَّة العَرَبيّ يَوْماً ويحَاولُون طَمَسَ هَوِيَته بالطُورانِيَة البغِيضة.
أوه ريتشيل.. ألَمْ يَكُن يَوْماً عِرقَكِ الإنجليزيّ مُسْتَبِدّاً أيضَاً فُوَرِثَ التَّرِكَة العَرَبِيَّة وقَسمهَا وقَضَى عَلى نَصفَكِ الآخر التركي..
لا يَهُم.. المُهِم أن أعَرفَ مَاذَا يحَدُث فِي اجتماعاتكن مُنْذ شَهَر؟ أسكُن بَينكن ولَمْ تدَعْونِي إليها، هَلْ أنَا مَنبُوذة لهَذِه الدَّرَجَة حَتَّى لا ترَغبّن فِي حُضُورِي؟! فَلدي كُل المُقَوِّمَاتِ الَّتِي لَدَى جَارَاتك، ريتشيل.. العَرِق العَرَبيّ الأصِيل واللُغَة العَرَبية الفُصحَى، (أم إنه العَرِق الأمريكي هُوَ سَبب نُفُوِركن مِني؟).




**************


الزئبق.. والاغتيال



بينما كانت أيام الحياة تمضي بالفتيات العربيات في رتابة كنـُسخٍ كربونية ليومٍ قدريٍ لحوح. يومٌ اعتدن الشرود يستعرضنه كل صباح على جناح الخاطر.. واعتادت هي تتبُّع تفاصيل حياتهن بفضولٍ مقيت.. كان هو هناك. على الشاطئ الآخر من البحر. يغدو ويروح، جيئةً وذهاباً في غرفته الفسيحة.. يضرب جانب ساقه بعصى قصيره في يده، خطواته المرتبكة تهمس بقلق خواطره وملامحه توحي بتفكيرِ عميق يحلق به خارج نطاق هذه الغرفة الفسيحة الكائنة بالطابق الثاني.. في هذا المبنى الضخم المعنـْوَن بلافتة كبيرة كُتب عليها: "إدارة حماية التراب الوطني" إنه الجنرال حميدو بن موسى، المدير العام لهذه المؤسسة الأمنية.
وهو على هذا الحال دخل عليه ضابط أقل منه رتبةً.. و ما إن ولج ذلك الضابط إلى الغرفة حتى صاح فيه الجنرال قائلاً: لا.. أنا لا أوافق على هذه الخطة.. لابد أن يتم التخلص من هذه المتمردة بطريقة لا تُثير الشبهات حولنا، لا أريد أن نـُوضع في مَوْضع الحـَرَجْ مع اسكتلانديارد.
إن مونيا العلوي تخطت كل الخطوط الحمراء بعد نشرها لهذه الصور التي التقطتها لسجناء "بولمهارز" ومن الخطر السكوت عليها بعد الآن، فهي في كل يوم بكاميرتها وبقلمها المتمرد تمزق بكارة أسرارٍ خطيرة وتنكأ جراحاً تنزف تمرداً وثورة.. أنا أوافق على تصفيتها ولكن ليس بأيدينا نحن.
وقف الضابط صامتاً حتى أنهى الجنرال حديثه ثم أجابه قائلاً: من أجل هذا جئت إليك الآن يا سيدي.. إنما جئت لأعرض عليك خطتنا البديلة
انتبه له الجنرال كمن يستحثه على مواصلة الحديث، فأكمل الضابط دون توقف؛
لدينا هنا أحد السجناء.. إنه الشيطانُ بنفسه ولصٌ محترف، لا تعرف له كل أجهزة الأمن الدولية هوية.. له ألف وجه.. وبحوزته العشرات من جوازات السفر بجنسيات مختلفة، والمئات من بطاقات الهوية.. لا نعرف له اسما سوى لقبه المعروف به: "مسيو ميركري".. هكذا تعرفه أجهزة الأمن، قبضنا عليه في مطار مراكش بطلبٍ من الإنتربول وليس لدينا إتهام محدد نوجهه إليه.. نحن مضطرون للإفراج عنه وحتى وإن لم نفرج عنه فإنه في غضون أيام بل ساعات.. يمكنه الهرب.. فالمعلومات التي لدينا أنه تمكن من الهرب من معظم سجون العالم شديدة الحراسة بكل يُسر.
وأكمل الضابط؛ طوال الأيام الثلاثة الماضية، حاولنا شتى الطرق لمعرفة اسمه الحقيقي أو جنسيته ولم نفلح.. حتى التعذيب لم يفلح معه وكأن جسده صُنع من خلايا ميتة.. لم يزده التعذيب إلا ضحكاً وسخرية منا.. إنه لص بدرجة شيطان.. كل متاحف أوروبا تنتظر زياراته الليلية بقلقٍ ورعب، فهو فنان عاشق للتحف التاريخية الثمينة والنادرة.
كان الجنرال ينصت في اهتمام حتى انتهى الضابط من حديثه.
ابتسم الجنرال قائلاً: هذا رائع.. أنا أدركت المغزى الذي ترمي إليه، أحضر لي هذا المدعو بالزئبق فوراً.
فإذا بالضابط يقوله له؛ لقد أحضرته معي بالفعل.. إنه بالباب يا سيدي.
وفـُتح الباب بأمر من الضابط.. ليدخل منه شاب ثلاثيني، طويل القامة أبيض البشرة وكأنه أوروبي المولد.. أسود العينين أكحلهما كأنه عربي الأصل. باسم الشفاه شيطاني النظرة وكأنه جحيمي النشأة. وقف أمام الجنرال.. مكتوف الرسغين والقدمين بسلاسلَ من حديد، لكنه يعبث بين إصبعيه بقطعتين من النرد بلامبالاة مستهيناً ساخراً.. فسأله الجنرال:
- ما الذي أتى بك إلى بلادنا؟
- جئت لأسرق تحفة من أحد متاحفكم سيدي.. من دار الماخزين، أنوي سرقة الطربوش الأزرق المزخرف بالكوبالت والمينا.
- أبهذه البساطة!؟
- نعم سيدي.. و لقد استرحت من عناء السفر لديكم ثلاثة أيام، أظنها كافية كاستراحة لي ولابد أن أذهب الليلة لممارسة عملي الذي جئت من أجله.. مع خالص شكري لكم على استضافتي هذه الأيام الثلاثة.. فاستضافتكم المرحة المسلية ستظل محل تقديري.
- ما رأيك لو منحناك مطلبك دون عناء السرقة منك؟
- لا سيدي، أشكرك.. فمتعتي من التحف سرقتها وليس اقتنائها.. ولكن دعني أوافقك لأعرف المقابل الذي تطلبه نظير هديتك.
- عملية بسيطة... اغتيال فتاه دون أي إشارة لنا.. ستحظى بعدها بكل دعم تطلبه منا وبعد أن تنفذ مهمتك و تهدأ الأمور، سنسعى بكل إمكانياتنا لإسقاط جميع التهم لدى الإنتربول الدولي عنك، فما رأيك في هذه الصفقة؟
- صفقة رابحة بالنسبة لي.. رغم أن مهنتي المفضلة هي السرقة و لم أجرب مهنة القاتل المحترف قبل الآن.. ولكنها أحد أحلامي التي أريد أن أضيفها إلى سجلي.
- إذن! أنت توافق على تصفية هذه الفتاه المتمردة لصالحنا؟
- أهي جميلة؟
- بارعة الحسن و الجمال، ولكنها ناشطة حقوقية وسياسية كرصاصة خرجت من فوهة بندقية تكاد تصيبنا جميعاً.
صمت اللص صمتا لم يطـُل كثيراً ثم أعرب قائلاً للجنرال؛ أنا أوافق سيدي، سوف أقوم بالمهمة لأجلكم.. فأنا أكره الجميلات لأنهن نقطة ضعفي الوحيدة.. هاتِ ما عندك من معلومات عنها لأضع خطتي الليلة وأنا في طريقي للمطار فور انتهائي من سرقة المتحف.
- ألا زلتُ تُصر على سرقة المتحف حتى بعد أن قررنا منحك مبتغاك؟
- سيدي، مبتغاي المتعة وأنا أسرقه بيدي.
- لا أعتقد أنك ستستطيع إتمام هذه السرقة... خاصة بعد علمنا بنواياك.
ابتسم اللص و هو يغادر غرفة الجنرال يرافقه الضابط إلى غرفة الأخير وجلس فيها أقل من الساعة.. علم فيها اللص كل المعلومات المتاحة عن مونيا العلوي و حصل على صورة حديثة لها.. وعنوانها في لندن.
وضع الزئبق الصورة في جيبه بعد أن تأملها وهمس لها؛ أنا آسف أيتها الفاتنة، ليس بيني وبينك ما يسوء ولكنه العمل عزيزتي ثم غادر السجن ليتوجه إلى المطار تحت رقابة رجال الأمن، إلا أن رجال الأمن بعد دقائق لم يجدوا للزئبق أثراُ و كأنه تبخر في الهواء فجأة، فظل رجال الأمن المراقبون يضربون أخماساً بأسداس حتى قـَرُبَ موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى لندن.. ليظهر الزئبق أمامهم في المطار فجأة كما أختفى فجأة وكأنه كان أمام أعينهم طوال الوقت شفافا غير مرئي.
ساعده الجنرال في إنهاء إجراءات دخوله للطائرة بسرعه ليلحق بها وما إن أقلعت الطائرة من مطار مراكش ودلف الجنرال إلى سيارته عائداً لمكتبه حتى سمع رنين تليفونه.
أجاب مُحـَدّثه ورفع حاجبيه ذهولاً حين أخبره المُحَدِّث بأن متحف دار الماخزين قد تمت سرقته منذ نصف الساعة.



الحربــــــاء.. والسطو

بالأمس، هناك بمنطقة فيكتوريان على خليج دوغلاس بلندن وعندما كانت الساعة في رسغ مستر "ريتشارد برنارد" تشير إلى الحادية عشر مساءاً.. وهو يجلس مستغرقاً في التفكير بغرفته بالطابق الأول بفندق "ويستيرن بالاس" فجأة انقطع التيار الكهربي لثواني معدودة ثم لم تلبث أن عادت الأضواء وسمع ريتشارد جلبة وضوضاء مصدرها صالة القمار بالطابق الذي يعلو غرفته ثم انطلقت صافرات رجال الشرطة تدوي في سكون الليل، فقام ريتشارد يستطلع الأمر من شرفة غرفته.. فإذا به يجد نفسه أمام هذه النـَمِرة التي قفزت من الطابق الثاني إلى شرفته.
إنها هي! هذه الفتاة الرشيقة صارخة الجمال، الفتاة التي وُلدت لا لشيء إلا لتسرق.
كل خلية من خلاياها احترفت السرقة بغير عناء، فهذه عيونها قد سرقت من البحر غموضه ومن السماء ألوانها وهتان شفتاها قد اختلست من الجوري لونه و رحيقه وها هما وجناتها قد جردت الياقوت من حُمرته و الشفق من سحره وقت الغروب وهذه خصلات شعرها الليلكي الفاحم ترقص بنعومة على ساحة المرمر الأبيض الناصع المُسمى جبين.
منذ لحظات كانت هذه الفاتنة تجلس مع جموع المقامرين حول طاولة البوكر وأكوام من دولارات الرهان مكدسة على حواف الطاولة، فإذا بها تقفز فجأة فرحةً بالفوز تهتف؛ رويال بلاك جاك؛ ثم تـلُقي على الطاولة أمام الجموع بكارت الآس ومدت يديها لتحتض أكداس الدولارات، فإذا بموزع الأوراق يهتف بها؛ توقفي! هذا خداع! ها هو الآس بيدي فكيف يكون معكِ!؟
رفعت يدها عن الطاولة ونظرت إلى موزع الأوراق بابتسامه تنحر الإرادة في نفوس الرجال في هذه اللحظة، وإذا بالكهرباء تنطفئ ليعود النور بعد ثواني وقد خلت الطاولة من كل سنت كان عليها وليس لهذه الجميلة الساحرة وجود، فـساد الهرج والمرج بالصالة وانطلق رجال الشرطة يعدون بصافراتهم في هذا المبني الضخم.
وقفت أمام ريتشارد في هدوء وسكينة وكأن شيئاً لم يكن.. باردة الأعصاب وبعينيها بريق المغامرة والمرح.
أزاحته بيدها قليلاً لتمر من باب الشرفة إلى داخل الغرفة وهي تحادثه و كأنها تعرفه منذ سنين بينما يسير هو خلفها متعجباً، يمطرها بوابل من الأسئلة..
- من أنتِ؟ لماذا دخلتِ غرفتي؟ ما الذي يحدث؟ ما سر هذه الجلبة بالفندق؟
دخلت تتهادى في هدوء إلى الغرفة وألقت بنفسها على الأريكة ثم قالت وهي ترفع له حاجبيها باستغراب ودهشة.
- من أنتِ؟ أهذا السؤال لي أنا؟ ألستَ من سكان لندن؟ لقد خذلتني أيها السيد! كنت أظن أني غنية عن التعريف حتى صفعتني بهذه الحقيقة المرة الآن، لقد خدشت مشاعري الرقيقة بقسوتك هذه.
جلس السيد ريتشارد أمامها وقد ضاقت عيناه فجأة كمن أقتنص فكرة كانت هاربة منه وقال لها وهو يصر على كلماته.
- لقد عرفت من أنتِ... أنتِ أحد لصوص الصالات بالتأكيد جئتِ للاختباء بشقتي حتى تهدأ مطاردتك.. أليس كذلك؟
- هو ذاك أيها العبقري، لكني لازلت أشعر بالإحباط من حديثك.. أنك تـُدمي مشاعري... أنا لست أحد اللصوص، أنا أميرتهم المتوجة يا سيد''
- ريتشارد، اسمي ريتشارد برنارد.. رئيس شركة إيداس للإنشاء والتعمير وقد ساقتك الأقدار لي في الوقت المناسب، فمنذ لحظات و قبل وصولك كنت أفكر في عقد صفقة مع أحد اللصوص ولا أظن أني سأجد من هي أبرع من أميرتهم، فما رأيك في العمل لصالحي؟
- أسمع أولاً و بعدها أقرر.
- الموضوع ببساطة أن إحدى الشركات الخليجية أعلنت عن مناقصة دولية لبناء عدد من المجمعات السكنية و الأبراج وشركتنا وكذا العديد من شركات البناء والتشييد بإنجلترا تـقوم بإعداد العروض المناسبة لهذه المناقصة وأهم شركة منافسة لشركتنا هي شركة برود واي ماليان للبناء وقد كلفت هذه الشركة أحد مهندسيها الأكفاء لإعداد هذه المناقصة.. هو شاب من بلد عربي أسمه خالد سعد وقد علمنا أنه انتهى من تصميم المنشآت وعروض أسعارها وهو يحفظ هذا الملف بفلاش ميموري بشقته.
- و ما هو دوري في هذه العملية؟! هل تطلب مني أن أغريه بفتنتي وجمالي واستنطقه بسحري فيكشف لي أسرار هذه التصميمات وعروض الأسعار، لقد أخطأت يا سيد ريتشارد، أنا لصة محترمة جداً ولستُ فتاة ليل.
- لا. لم أقصد هذا أيتها اللصة المحترمة، إنما قصدت فقط أن تسرقي لنا الفلاش ميموري قبل تقديم المناقصة ولك أن تحددي قيمة الشيك المطلوبة نظير هذا، فشركتي ستتعرض للإفلاس إن لم نفز بصفقة المباني هذه.
صمتت هُنيهة تفكر ثم قالت؛ لا بأس.. بعد الغد يكون الفلاش ميموري لديك وساعتها نتحدث عن نصيبي. فتهللت أسارير ريتشارد وراح يُلقنها بالمعلومات اللازمة عن المهندس خالد سعد وعنوان سكنه.
ولما أخذت منه كل المعلومات التي تريدها قالت في دلال وأنوثة وكأنها توجه إليه سؤالاً:
- أليس من طبيعة الرجل الجنتلمان أن يعزم ضيوفه على كأس من الويسكي!؟
قام ريتشارد مسرعاً إلى مطبخ الشقة يشعر بالغبطة بعد أن عقد معها هذه الصفقة، يُمنِّي نفسه بليلة ساخنة مع هذه الفتنة الأسطورية التي هبطت عليه من السماء كزوار الأحلام ولكنه عاد بعد قليل.. لتسقط زجاجة الويسكي من يده عندما وجد الفتاة قد اختفت من الغرفة ولمح حقيبته مفتوحة، وليس بها ما كان بها من مال، ووجد عوضاً عنه بطاقة من أوراق اللعب مكتوبٌ عليه.
" شكراً ريتشارد، نلتقي بعد الغد، حار قـُبلاتي.. الحرباء."


******


سارة جوزيف

ارتدت ملابسها وهي تراقب عقــارب الساعة، باقي نصف ساعة على اجتماعهن.. قدمت العشاء لكلبها المدلل وصدح الصوت اللبناني المختار هذا المساء زياد الرحباني...
تعي نقعد بالفي
مش لحدا هالفي
حبيني و فكري شوي
بلا ولا شي
وحدك...
بلا و لا شي
بلا كل أنواع تيابك
بلا كل شي في تزيين
بلا كل أصحاب صحابك
الثقلا والمهضومين
تعي نقعد بالفي
مش لحدا هالفي
حبيني و فكري شوي
أنه غريب الأطوار الأستاذ نبيه الساكن في الشقة المجاورة لها، صباحا موسيقى غربية وفي المساء أصوات لبنانية تثير حنين الرجل الخمسيني
(هل أحببت يوما؟) سألته يوما فضحك حتى احمر وجهه ودمعت عينيه وقال لها (ومازلت..)
وغمز بعينيه، ابتسمت لإياد الأمين عابس الوجه فرد الابتسامة وأغلقت باب شقتها فإذا بعمرو والد أية يمر متجاهلا وقوفها ليدخل عند نبيه، هل أيضا الرجال أصبح لديهم اجتماعات تخصهم؟ أخرجها من تساؤلاتها رنين هاتفها واسم (دايمون أدم) فردت بلهفة (أدم أهلا بك).
فرد غاضبا (تبا لك سارة جوزيف هل مازلت كالفارة في جحرك، تراقبين بصمت؟) سألته بدهشة (ماذا هناك آدم؟ لماذا أنت غاضب؟)
(الوقت يمضي وأنت لم تبعثي لي بورقة واحدة حتى يطمئن قلبي، هل كتبت شيئا أم مازلت في مرحلة المراقبة وجمع المعلومات؟..) (أدم..)
قاطعها بصوت أقل حدة فيه رجاء (منذ لقائي بمارك وحديثه عن هذه التركية وعمارتها وطبيعة ساكنيها ظهرت الفكرة، حملتك إياها وأيقنت بأنها ستولد على صفحاتك ولم أرَ لها ما سواك سارة.. لا تخذليني عزيزتي)
ابتسمت تتخيل قسمات وجهه الوسيم بائسا، قلقا من فشلها؛ فقالت له بصوت يحمل أكثر من معنى (أدم أنت أستاذي ومنك تعلمت القاعدة الأمريكية.. لا عداء دائم ولا صداقة مستمرة، المصلحة هي المهمة.. أعلم جيدا بأنك عندما تفقد الأمل في سوف تنهي اسم سارة جوزيف، فلا تستخدم حيلك علي لتبين لي أنك تستطيع أن تجد غيري.. فأنا كعباءة العربي تتنكر بها لتصل لما تريده.)
أنهت اتصالها ليلفت انتباهها هذا الغريب الذي يدخل العمارة وشاهدته اليوم يخرج منها قبل أن يفزعها صوت أستاذ نبيه من خلفها يدعوها على فنجان قهوة..


*************



انتهت الحلقة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 15-10-22 الساعة 09:55 PM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 15-10-22, 11:04 PM   #5

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

الصراحة الرواية اقل ما يقال عنها إنها رائعة،فريق متناسق ومتكامل انا منبهرة جدا تسلم ايديكم

**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 16-10-22, 10:43 AM   #6

كاردينيا الغوازي

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة وقائدة فريق التصميم في قسم قصص من وحي الأعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية كاردينيا الغوازي

? العضوٌ??? » 126591
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 40,361
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » كاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
من خلف سور الظلمة الاسود وقساوته الشائكة اعبر لخضرة الامل واحلق في سماء الرحمة كاردينيا الغوازي
Icon26

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )**
الصراحة الرواية اقل ما يقال عنها إنها رائعة،فريق متناسق ومتكامل انا منبهرة جدا تسلم ايديكم




والله كانت اجمل ايام يا منى وسارة بذلت مجهود كبير في قيادتنا لنكتبها وتظهر بهذا الشكل
ربنا يذكر بالخير كل من شارك بهذا العمل وغاب عننا


كاردينيا الغوازي غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 16-10-22, 09:59 PM   #7

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي



الحلقة الثانية

لين الطاهر

امتدّت يدا راشد بخفّةٍ إلى حِجابي الذي لازلتُ أرتديه حين غَفَوتُ على سَريري، وانتزَع الدبابيس برفقٍ ساحبًا حِجابي برقّةٍ مُتناهية؛ حِرصًا منه على ألاّ أستيقظ من نومي.. كنتُ لازلتُ مغمضةً عيناي وأنا أشعُر بشعري ينتشر على يدِ راشد، وقد تغلغلَت أنامِلُه السمراء لتُداعِب فروة رأسي بحرَكاتٍ رتيبة أرسلَت الاستِرخاءَ إلى نفسي المُعذَّبَة، و دونَ أن أشعُر أفلتَت منّي تنهيدةٌ مضطربة و قد شعرتُ بارتجافٍ يُهدّد بنَوبة بُكاءٍ جديدة....شعرتُ بعدَها بضغطٍ خفيفٍ على شفتيّ أرسل قشعريرةً في أوصالي، وهمستُ بحُزنٍ دونَ أن أستطيع فتح عيناي:
_ ر اا شـ..د..
فتحتُ عيناي بعد أن شعرتُ به يمسح على وجنتي، و أسرتني عيناه اللتان كانتا تحدّقان في وجهي الباكي بحنانٍ و شغَفٍ اشتقتُ إليهما، لكنني سُرعان ما تذكّرتُ ما حدث قبلَ نومي، فعادت التقطيبةُ ترتَسِم على جبيني، و استدرَكتُ قائلةً:
-كيف دخلتَ إلى هنا؟!
أجابني راشد و هو يتأمّل عبوسي، وشِبهُ ابتسامةٍ ترتسِم على وجهِه:
- بسهولةٍ حبيبتي.
لَم يعجبني جوابُه المُتهكِّم و قلتُ له:
- و لكنّها ليسَت المرّة الأولى التي أُغلقُ فيها غُرفتي فـ....
قاطعني راشد بابتسامة:
- و ليست المرّة الأولى التي أدخلُ فيها إلى الغرفة...الأمرُ بسيطٌ حيبتي؛ مفَكٌ كبير، و آخرٌ صَغير، وأُصبِحُ بجانِبِك..
أكمَلَ راشد و قد رأى علامات الاستفهامِ ترتَسِم على ملامِحِي التي يُدقِّق فيها:
- كنتُ أدخُل لأطمئِنّ عليكِ بعدَ نوباتِ غضبِك المُعتادة، لأجِدِك تنامين كالجميلةِ النائمة، لكنك لَم تكونِ تستيقظين عندما كنتُ أُقبّلك أيّتُها النائمة..
بدِفاعٍ أجبتُه:
- أولاً، أنا لَم أكُن أغضبُ بلا سبب، وأنت تعرِف أنّك كنت تصرُخ في وجهي وأنا لا أحتَمِلُ ذلك، ثُم أنّني أشُكّ أنك كنت تُقبّلني، لأنّي لَم أشعُر بأيٍّ منها، أو ربما كنت تتعمّد أن تُقبّلني بخِفّةٍ حِرصًا مِنك على عدَم إيقاظي لترتاح من صُحبتِي التي يبدو أنّها تبعث فيكَ الضجرَ و الملل و...
امتدّت أناملُ راشد نحوَ فمي الذي يُكيل له الاتهامات، و اقترَب مِن وجهي هامسًا بعَبَقِه الرُجوليِّ الخاص أمام فمي -الذي مازالت يدُه تُغطّيه- بمُداعبةٍ أفقدَتني تركيزي:
- أنا لا أمَلّ منك أبدًا ليني..أنت..
قطَع كلماته وهو يُبعِد أناملَه بخفّةٍ عن شفتيّ، وأمسَك بذقني رافعًا وجهي نحوَه، فيما امتدّت يدُه الأخرى خلفَ رأسي؛ ليسحبني نحوَه غامرًا إيّاي بقُبلةٍ أودَعَها شوقَه و حبَّه وأسفه ...نعم، أسَفه...هكذا شعُرت.
كنتُ أوّلَ من ابتعد وقد فرّت دمعةٌ على خدّي وأنا أقولُ له بصوتٍ مُتأثّرٍ بينما أبكي من الألمِ الذي اجتاحني لصُراخِه عليّ بتلك الطريقة:
- لقد أحرجتَني راشد، أحرجتني جدًا وأنت تصرخ في وجهي ونحنُ في الشارعِ أمامَ المارّة، لستُ طفلة لتُعاملني بهذه الطريقَةِ المُوبِّخَةِ لي!
لَم أستطِع التحمُّل، وأجهَشتُ بالبُكاءِ من جديدٍ وأنا أتذكّر ما حدث قبل قليل.
عادَ الغضبُ ليرتَسِم على وَجهِ راشد، وهو يشُدّ على أسنانِه مانِعًا نفسَه مِن الانفلاتِ مرّةً أخرى وقال:
- لين، لقد مررتُ بأسوأ صباحٍ على الإطلاق، و إن كنتِ تعتقدين أنني أحرجتُك، فأنتِ بالمُقابل قد أرعبتِنِي، حتى أنّى تركتُ المُستشفى دونَ أن أعتذِر عن العمليةِ المُتوجّب عليّ القيام بها، و قُدتُ سيارتي كالمجنون لأصِل إليكِ وأنا أبتَهِل إلى الله ألاّ يكون قد أصابك سوء.
كنتُ أستمِع إليه و قد صدمني ما سبّبتُه له مِن قلقٍ لَم أكُن أبدًا أقصدُه.
وحين رأى راشد ملامِحي وهي تلين، أكمَل بصَوتٍ أكثرَ لُطفًا:
- اتّصلتُ بك مِرارًا على الهاتفِ الأرضيّ لكنّك لَم تُجيبِي، فكرت بأنك ربما تستحمّين، أو ربما تُجفّفِين شعرك، وعاودتُ الاتصالَ بعدَها على هاتفِك المَحمول لكنّك لَم تُجيبِ أيضًا.. ثُم جُنّ جنوني حين اتّصلتُ مرة أخرى ووجدتُ الهاتفَ مُغلَق! لا تعرفين الأفكارَ التي عصِفَت بي، كِدتُ أموتُ من القلقِ عليكِ، وعندما عدتُ وجدتُك تسرحين مع أزهارِك، وأنا الغَبيّ كِدتُ أُصاب بجلطةٍ قلبيّةٍ خَوفًا عليكِ.. كَيف تُريدينني أن أتكلّم معِك برقّة في الوقتِ الذي أرغبُ فيه بصَفعِك؟!
فتحتُ عيناي و قد شعرتُ بذُعرٍ حقيقي مِن فكرةِ أن يصفعني راشد.. نظرتُ دونَ أن أنتبِه إلى يدَيه الكبيرتين، وفكّرتُ برُعبٍ أنّني ربما أموتُ لو فَعَلها؛ فهو قويٌ و... ثُم رفعتُ عيناي لوجهِه وقد أثارَت تعبيراتُه المُخيفة الرُعبَ في قلبي وشعرتُ براشد يتأمّلني و هو يستوعب الصدمةَ التي سبّبَها لي بكلماتِه، رأيت ملامِحَ وجهِه تكتَسِي باللُطف، وشعرتُ بأنفاسِه تهدأ وهو يأخذ نفسًا عميقًا طويلاً قبل أن يُكمل و قد أحاط كتفيّ بذِراعِه وشدّني إليه بينما يهُزّ رأسَه بعِتابٍ لي:
- و طبعًا عندما عُدت، وجدتُ الهاتفَ في دُرجِ المِنضدَةِ الصغيرةِ الموجودةِ بجانِبِ السرير مُغلَقًا؛ لأنّه فارغٌ من الشحنِ كالعادة!
حاولتُ أن أُدافع عن نفسي و أجِد الأعذارَ لراشد، فبلّلتُ شفتيّ بارتباكٍ وأنا أقولُ بصَوتٍ مَهزوز:
- و ماذا لو نسيتُ هاتفي؟ نسيانُ الهاتفِ المَحمول في المنزل حادثٌ عرَضِي قد يحصُل لأيٍّ كان، ألَم تنسَه أنتَ مرّةً في حياتِك؟!
بابتسامةٍ ساخرة أجابني باستخفاف:
- بالنّسبةِ لي شخصيًا لَم أنسَه في حياتي... أما إجابةً عن سؤالِك، فقد ينسى البعضُ هاتفَه، ولكن هل ينساه يا لين منذ الثامنةِ صباحًا و حتى الثانيةِ بعدَ الظُهر؟!
صمَتَ للحظةٍ قبل أن يُردِف و عيناه تُرسِلان إلي عيناي شرارات تحذيريّة، في الوقتِ الذي علا صوتُه مُنهيًا جِدالي معه:
- ستّةُ ساعاتٍ يا ليـــن؟ على أيِّ غَيمةٍ كنتِ تُحلّقين؟ و إلى أيِّ كَوكبٍ وصلتِ؟
اعتدلت في جِلوسي على سريرِنا، و ضمَمتُ يداي إلى صدري و برمتُ شفتاي، أقول له و أنا أُشيحُ بوَجهي عنه:
- هذا ما حصل دكتور راشد وإذا كنت على حق، ماذا بَعد؟! أنا لا أُحب صُراخَك في وجهي...وبالتأكيد كُنتُ على كَوكبٍ بعيدٍ عن همجيّةِ الرِّجال و خشونَتِهم الفِطريّة.
ثُم أدَرتُ وجهي نحوَه و أنا أرفَع ذقني و أقولُ في ثِقَةٍ كبيرةٍ و كِبرياءٍ لا أملِكهُما حقيقةً أمام سَطوةِ راشد:
- أنا لَن أُكلّمُك، و لا تتحدّث معي؛ لأنّك لَم تُصالحني بعد...
رفع راشد حاجبَيه استنكارًا و هو يقول بصوتِه الأجشّ، و قد ظهَر في كلماتِه الانفعالُ مرّةً أُخرى:
- و مَن يعتذِر عمّا سبّبتِه لي من قلقٍ و تَوتُّرٍ و هَلَعٍ كاد أن يُفقدني صوابي، اتّصَلتُ بزمِيلي و أنتِ نائمة؛ لأطلُب منه أن يقوم بالعمليّةِ عِوضًا عنّي، خرجتُ من المُستشفى و قد شلّ الخوفُ أطرافي و حتى بعد أن اطمأنَنتُ عليكِ، لَم أكُن بحالةٍ تسمح لي بإجراءِ عملية أو حتى العودة إلى المُستشفى، خصوصًا بعدَ دُخولِك المُنفَعِل إلى الغرفة و إغلاقِك الباب على نفسِك...لَم أعرِف كيف أتصرّف! كنتُ غاضبًا لين، غاضبًا جدًا..
للَحظاتٍ شعرتُ أن غضبَه سينالني مرّةً أخرى، وخِفتُ عليه حينَ رأيتُ انفعالَه، فاقترَبتُ منه ببُطء، ووضعتُ رأسي على كتِفِه وأنا أستنشِق رائحتَه التي أعشقُها، وأستشعر صلابةَ صدرِه العريضِ الدافئ، وقلتُ له بهَمسٍ حنونٍ وقد أحَطتُ خصرَه بذراعي مُقترِبَةً من جسدِه المُتصلِّب أكثرر:
- هل خِفت عليّ رشودي؟ حبيبي أنا آسفة لأنّني عطّلتُ يومَك، لم أقصِد..
رفعتُ رأسي لأنظُر إلى عَينَيه وقد شعرتُ بجسدِه يسترخي قليلاً، أرجوه بعينيّ أن يُسامحني وبهمسي الحنون:
- راشد أنا...
لم ينتظر منّي أن أُكمل، فقد أخذَني بين ذِراعَيه في عناقٍ حميمي دافئ و طويـــل، بثّ فيه حُبَه الغامِر والعميق لي وحدي، أميرة قلبِه الوحيدة، وابتسامة حياتِه الأبدية.
علا صوتُ هاتفِه الخاص بالمُستشفى مُعلنًا وصولِ رسالة، فابتعد عني بلُطفٍ مُقبّلاً جبيني بخفّة قبلَ أن يرفَع هاتفَه ليقرأ رسالتَه، ليُجري بعدَها مُكالَمةً هاتفيّة مع أحدِ الأطباء.
بهُدوءٍ شديدٍ انسحبتُ من سريرِنا، وتوجّهتُ نحوَ المطبخ لأُحضر لراشد كوبًا من عصيرِ البُرتُقال وقطعةً من الحلوى التي صنعتُها..(الألماسية) كما تُسميها أمي.
التفتُّ لأجِد أزهاري التي ابتعتُها موضوعةً في مزهريّة على طاولةِ المطبخ، فاقتربتُ لأستنشِق عبيرَها و أنا أشعر بامتِنانٍ لراشد على اهتمامِه بأزهاري.
دقائقٌ قليلةٌ مرّت قبلَ أن يدخُل راشد إلى المطبخ ويجلس في مكانِه المُعتاد، قدّمتُ له كوبَ العصير وقطعةً من حلوى الألماسية بمُكوّناتِها العربيّةِ الأصيلة التي عشقتُها من والدتي عندما كانت تطهوها، والجوُ يعبَقُ من حولِها برائحةِ ماءِ الزّهرِ العطرة.
غلبَني الحنينُ وأنا أتأمّل الفُستق الحلبيّ الذي زيّنتُ به الحلوى، وذكريات حُلوة مرّت في مُخيّلتي، فوجدتُ نفسي أقولُ بتلقائيّة:
- للألماسيّةِ التي تصنعُها ماما طَعمٌ آخر، ناهيكَ عن صَخَبِ إخوتي وهم يتسابقون أيّهم يملأ طبقَه أولاً، لتُنهي والدتي ذلك العِراك وهي تخُصّ والدي بأفضلِ طبَقٍ مُعلِنَةً بصَوتِها الحنون وبضَحِكَةٍ جميلة أنّها ما صنعَتها إلا له، يا الله كَم اشتقتُ لهم...
لَم أعِ أن دمعةً وحيدة تدحرَجَت على وجنتي إلاّ عندما شعرتُ بأنامل راشد وهي تمسحُها برقّة، وصوته الأجش الذي يمُدّني بارتياحٍ فريدٍ من نَوعِه يقول:
- الغُربةُ صعبةٌ يا لين، و أنا أُقدّرُ اشتياقَكِ الشديدَ لعائلتِك.
ابتسم برقّة ليُكمِل:
- لكن الألماسية التي تصنعينها لذيذةٌ أيضًا، وأنا بانتظارِ ذلك اليوم الذي ستخُصّينَني فيه بطبقِ ألماسية مُميّز تُبعدينه عن أيدي أطفالِنا!
نظرتُ إليه وقد استطاع بكلماتِه أن يسحرني، لكنّني استعَدتُ عبوسي وأجبتُه بغضب مُصطنع وأنا أدفعه برِفقٍ عنّي:
- من فضلِك، لا تُكلّمني؛ فأنا غاضبة مِنك لأنّك لَم تُراضِني بعد.
رفع راشد حاجبَيه استنكارًا و هو يعود إلى كوبِ العصير الذي على الطاولة، وسألني:
- و كيف سترضى السيدة (غاضبة)؟!
اقتربتُ منه وجلستُ على الكرسي المُجاوِرِ له، واحتضنتُ عضُدَه بينما أميلُ برأسي نحو كتِفِه، أهمس في أذنِه قبلَ أن أُقبّل وجنتَه بخفّة:
- أريدُ سِلسلةً ذهبيّة تحمِل كلمة (أميرتي).
شعرتُ براشد يتحرّك قليلاً لينظُر في عيناي، وسألني بتعجُّبٍ واضح:
- نـعــم؟! و مِن أين أُحضِرُها ونحنُ في لندن؟! لو كنتُ في الأردن لكان الأمرُ بسيطًا ثُم من أين أتيتِ بهذه الفكرة؟!
نظر مليًا في عينيّ اللّتَين تتهربان من النظرِ إلى عينَيه، ليُكمل قائلاً وهو يُمسِك بذقني ليُثبّت رأسي ويتفرّس في عينيّ بقُوّة:
- انتظري، أنا من سيُخبرُك، هل قرأتِها في رواية؟
أغلقتُ عيناي و أنا أعضّ على شفتي السُفلى بينما حرّكتُ له رأسي بالمُوافقَة:
- نعم في رواية (رُبما يومًا ما) للكاتبةِ التي أُحبّها...
تنهيدةٌ طويلةٌ أطلقَها راشد و هو ينظُر نحوَ السقف، ثُم عاوَد النظرَ إليّ و أنا أُرفرِف برُموشي الطويلة له، وأردف قائلاً:
- حسنًا يا (أميرتي) لَن أستطيع إحضارَها لكِ، على الأقلّ في الوقتِ الحالي، فأنا لا أعرِف سِوى سُوقِ الصّاغَة في عمّان.
كنتُ أميلُ بخفّةٍ نحو صدرِه العريض فيما كان يُحادثني، ثم و برِقّةٍ شديدةٍ دفنتُ وجهي في صدرِه، وأنا أختبئ من نظراتِه المُتعجِّبة وأحتمي في أحضانِه من أيِّ انفعالٍ قد يصدُر منه و يُكدّرني، همستُ له وأنا مُتعلِّقةٌ به:
- عِدني أن تُحضِرها لي، ألَم تُخبرني مِرارًا أنّني أميرَتُك؟
كان راشد يُسيطِر على أنفاسِه بصُعوبة وهو يشُدّني نحوَه، بينما يداه تضغطان بقُوّةٍ على ظهري مُقرّبًا إيّاي منه أكثر، وسألني بصَوتِه الأجشّ انفعالاً:
- هل ستذهبين لاجتماع الجارات يا لين؟
أجبتُه بحماسٍ و سعادةٍ حقيقيّة:
- نعم، بالتأكيد، أُحِبّ جاراتي يا راشد؛ فهُن في غايَةِ اللُطفِ معي، أشعُر أنّهن أخواتِي، وأتمنّى أن أتعلّم منهُنّ الكثير؛ فلكُلٍ منهُن شخصيّة ساحرة بطريقتِها الخاصة.
ابتسم راشد على حماسي وبلُطفٍ شديدٍ دفعَني عنه، لينهض واقفًا وهو يقول لي:
- استعدّي حبيبتي، وتعالَي لأُريكِ شيئًا فريدًا وخاصًا جدًا.
بعدَ نِصفِ ساعةٍ خرجتُ مِن غُرفتي وأنا أرتدي طقمًا جميلاً باللّونِ الأزرقِ المَلكيّ وارتديتُ معه حِجابًا مُناسِبًا بألوانٍ هادئة، وزيّنتُ وجهي بلمساتٍ بسيطةٍ أضفَت لعيناي تألُّقًا ولمعانًا جذّابًا...كان راشد يتأمّلني بإعجابٍ واضِحٍ وهو يربّت على المقعد المُجاور له على الأريكةِ لأجلِس بجانبِه فيما حملَت يدُه الأخرى كيسًا صغيرًا من قُماشِ المُخمَلِ الأسود.
نظرةُ التساؤلِ التي وجّهتُها نحوَه جعلَته يتناول كفّي ليضَعَ الكيسَ الصغيرَ فيه، أحسَستُ بأن هُناك ثقلٌ بسيطٌ فيه لشيءٍ لَم أعرِف ما هو، نظرتُ لعيني راشد الذي قال لي مُشجِّعًا:
- افتحيه ليني... هذه هديّتي لكِ.
بأصابعٍ رقيقةٍ مُرتجِفة فتحتُ الكيسَ الصغيرَ لأُخرِج منه -و لدهشتي- ساعةَ جيبٍ تبدو قديمة لكن جميلةً جدًا بلَونِها الذهبيّ وأرقامِها البرّاقة وشكلِها الرّاقي. شهقَةٌ خافِتَةٌ أطلقتُها و أنا أقولُ بإعجابٍ كبير:
- يا الله! ما أجمـلُهـا راشد!
أجابَني راشِد بفَخرٍ وكبرياءٍ مُحبّبَة وهو يتحدّث عن جَدّه المُتوفَّى:
- إنّها هديّةٌ من جدّي الذي أعطاها له جدُه؛ فأنا الابنُ البِكر لابنِه البِكر، وهذه الساعة أثريّةٌ جدًا، وهي من ماركة Moeris المشهورة ..أعتقِد أن عُمرَها مائةُ عام.
تأمّلتُها بانبهارٍ وأنا أُجيبُه:
- إنّها رائعة راشد ويبدو أنها قيِّمةٌ جدًا.
أومأ راشد برأسِه علامةَ المُوافقَة:
- نعم، إنّها تُقدَّر بقيمةِ مائتَي وخمسين ألف دولار تقريبًا ولكنّها طبعًا ليسَت للبَيع؛ هي إرثٌ عائليّ نتوارثُها في عائلتِنا، وأنا أعُطيها لكِ يا لين، لنُعطِيها معًا لابنِنا البِكر حينَ يتزوّج إن شاء الله.
ترَقرَقَت عيناي بالدموع وأنا أقول بتأثُّرٍ عميقٍ وبمشاعِرٍ جيّاشة:
- حبيبي، أرجوك أبقِها معَك؛ فأنا أخافُ أن أحتفِظ بها..
ضحِك راشد بخُفوتٍ ماكِر، ثم قال بهَمسٍ حنون:
- في هذه، معِك حق يا لين..
و أردف بابتسامةٍ ساخِرةٍ حين رأى عيناي تشعّان بتمرُّدٍ وأنا أقِف لأبتعِد عنه:
- انتظري...ألَن تأخُذي معك قالب الحلوى الذي أعددتِه؟!
تجاهلتُه ودخلتُ مطبخي لأُخرِج قالبَ الحلوى الذي صنعتُه خِصّيصًا للِقاءِ صديقاتي وقد زيّنتُه بطَريقةٍ حُلوة و غلّفتُه بأناقة.
كنتُ أراقِب راشد بطَرَفِ عيني يفتح إحدى الخزائن ليضعَ فيها ساعتَه الثمينة، فيما يبتسِم بمكرٍ لي كُلما التقَت عيناي بعينَيه الحادّتَين...حملتُ القالبَ بيديّ الاثنتَين واتّجهتُ نحوَ الباب لألحق بموعدي بينما أُحاول تجاهل نظراته علّه يُدرِك أن اتّهامَه لَم يُعجبني....توجّه نحوي وأمسكني من كتفي برقّة مُنتهِزًا فُرصة أنّني لَن أبتعِد خشيةَ وُقوعِ الحلوى التي صنعتُها، وقبّل وجنتي، يقول لي بحنانٍ وهو يفتَح لي الباب:
- استمتعي بوقتِك حبيبتي.
و أكمل بعدَ أن غمزَ لي وابتسامةٌ لَعوبٌ تلوحُ على وجهِه:
- سأكونُ بانتظارِك ليني.
بابتسامةٍ خجولةٍ ومُشرِقة، خرجتُ مِن بيتي لأتّجِه إلى بيتِ صديقتي زينب التي أُحبّها جدًا، وأنا أشعُر بالسّعادةِ قد ملأت قلبي بالفِعل؛ لمُجرّدِ التقائي مع صَديقاتي الرّائعات اللواتي أستمتِع بصُحبَتِهنّ وبأحاديثِهنّ.


*********



خولة سعود



بعد ساعتَين من ارتداءِ الملابس و تصفِيفِ الشَّعر مِن أجلِ اجتماعِ نون، والذي سيكونُ بعدَ ثُلثِ ساعة، جلستُ على الأريكة بجِوارِ أسعد وأشرف اللذَين كانا يُشاهدان الرسومَ المُتحرِّكَة، وبدأت بترتيب حقيبتي البُنيّة الواسعة. أخرَجتُ الكثيرَ منها، ووضعتُ بدلاً من ذلك علبة من الشوكولا، والتي ذكّرَتني بقصّتِها؛ فقبلَ يومَين، واتتني رغبةٌ قويّةٌ في حَبْكِ مؤامرَةٍ جديدة، بالتأكيد جديدة؛ لأنّني في الماضي حاوَلتُ صُنعَ مؤامراتٍ عديدة لكنّها باءَت جميعها بالفشل، أنا أرى أنّه من الغريبِ أن امرأةً بخبرَتِي لا تُجيد ذلك! بالطبع انسقتُ وراءَ رغبتي، وأخذت أُفكّر في نَوعِ المؤامرة، وقبلَ ذلك، مَن هو الشخص الذي سأتآمَر عليه؟! حينها رأيتُ في التلفاز إعلانًا لشوكولا، فقررتُ أن أحبك مؤامرةً صغيرةً تُسعِد ديمة التي هي إحدى جاراتي في هذه العِمارة، والتي تعشق الشوكولا.
قُمتُ حينِها بأخذِ مَصروفي لهذا الشّهرِ من خالد، وأعطيتُه كلّه لصديقتي جيني زوجة إدوارد وطلبتُ منها أن تشتري لي أفخمَ شوكولا في لندن، كما أعطيتُها بطاقةً وطلبتُ منها أن تجعلَ إدوارد يكتُب فيها إهداءً إلى خالد وقلت لها (اجعلي المتجرَ الذي تشتَرِين منه الشوكولا، يُثبّت البطاقةَ على العلبة قبلَ أن يُغلِّفها) وهكذا سأُعطي علبةَ الشوكولا لديمة بحُجّةِ أنّي لا أنا ولا خالد –و هذه حقيقة تعرِفُها- نُحبّ الشوكولا، وبالتأكيد مَمنوعٌ على طفليّ أن يأكُلا شوكولا قبلَ أن يُتما السنتَين.
في الحقيقة فكرتُ في أن أشتري حلوَى لطِفلَيها عِماد و بسمة، لكنّي تراجَعتُ (ولِمَ أصرِف على أولادِ إياد الذي أكرهُه؟! ليشتري هو لهما!)
خرجتُ من شُرودي في القصة، لأجِد أشرَف وقد أخرَج علبةَ الشوكولا، وبدأ يُقطر فوقَها قطرات من زُجاجةِ حليبِه، صرَختُ فيه وأنا أنتزِع العلبةَ مِن بينِ يدَيه ولَم أُبالِ ببُكائِه، بل سحبتُ بضعة مناديلٍ من على الطاولة وقمتُ بمَسحِ العلبة ثم قلبتُها وبدأتُ أمسح برِقّة لكن يدي تجمّدت مكانَها عندما مرّتْ عيني على مُكوِّنات الشوكولا، وقرأتْ (بربون) و(جين).
يا للروعة! فها قد فشلَت مؤامرَتي كسابقاتِها؛ فهل يُعقل أن أعطي امرأةً مُسلِمة شوكولا مصنوعة بالخُمور؟! رمَيتُ العلبةَ بغَضَبٍ لتقَعَ على الأرض، واحتضَنتُ ابني الذي صرختُ عليه من أجل لا شيء.
مِن أكبرِ نِعَمِ العَيشِ في بلَدٍ إسلامي هو أن المَرءَ لا يخاف مِن أن يأكُل أو يشرب حرامًا، وما حدَث معي في سَنَتي الأولى في لندن خيرُ دليل؛ فبعدَ خَمسةِ أشهُرٍ من سفرِنا إلى لندن، ذهبتُ مع جيني إلى مركزِ تسوُّق، وفي أثناءِ انشغالِها في قياسِ فستان، سبقتُها إلى أحدِ محلاتِ الوجباتِ السريعة ولأنّ لُغَتي الإنجليزية كانت سيّئةً في ذلك الوقت، فقد طلبتُ أوّلَ هامبرغر كان مكتوبًا في قائمةِ الطعام مع كولا وأكلتُ بنَهَمٍ لأنّي كنتُ جائعة وبعدها بثلاثةِ أيّامٍ أخذتُ خالد لنَفسِ المكان وأنا أتبجّح بأنّهم يُبيعون أطيب هامبرغر، ليُخبرني بابتسامةٍ مُواسِيَة -بعد أن قرأ القائمة- أن ما أكلتُه كان هامبرغر بلَحمِ الخِنزير. بالطبع أُصِبتُ بصَدمةٍ شديدة وأخذتُ أُطالِب بطَريقَةٍ للعودة إلى السعودية لكن ثورَتي هدأَت عندما كتَبَ لي خالد قائمةً طويلةً بالأسماءِ المُختلفة للَحمِ الخِنزير ولكُلِ أنواعِ المَشروباتِ الكُحولّية، لأحفظُها وأتجنّبُها، و بالطبع فإنّ مِن ضمنِ القائمة، مَشروبُ البربون و مَشروبُ الجين.
نهضتُ عن الأريكة ووضعتُ أشرف بجِوارِ أخيه، ثم سِرتُ والتقطتُ علبةَ الشوكولا، وأخذتُها معي إلى المطبخ لأرميها في سلّة المُهمَلات.
التفتُّ خارجة، فلاحظتُ ذاكرةَ التخزينِ على الطاولة، تأمّلتُها مُتذكِّرَةً تفاني خالد في عملِه الصعب والذي يتطلّب منه في كثيرٍ من الأحيانِ العملَ في أيّامِ السبت كحالِه الآن.
الحديثُ عن خالِد قادني إلى ريتشيل، التي أدركتُ -بعدَ تَفكيرٍ عميق- أنّ شُكوكي حولَها هي سخافَة لأبعدِ دَرَجة؛ فخالِد يُحبّني، وريتشيل رائعة وأعتقدُ أنّها مُهتمّةٌ بشابٍ تُركيٍّ نَسيتُ اسمَه. أمسكتُ بذاكرةِ التخزينِ لأُخبِئُها في مكانٍ أعتبِره آمِنًا جدًا؛ فكَونِي امرأة تفهَم كُلَ ما يخُصّ المُؤامرَة، فإنّي اشترَيتُ خزنتَين حديديّتَين، الأولى أضعُها في دولابِ خالِد، والتي تحوي بِضعَةَ أُلوف، وصُوَر مِن شهاداتِ ميلاد طِفليّ، ومُستنداتٍ لخالد، فإذا تسلل لِصٌ للشقّة؛ فإنّ مَوقِعَها ومُحتوياتها ستُوحيان له بأنّ هذه هي خِزانتَنا ولا يُدرِك أنّنا نملِك خزنَةً ثانية، والتي أضعُها في إحدى خِزانات المَطبَخِ خلفَ الأطعِمَةِ المُعلّبَة، هذه الخزنَة هي كنزُنا بالطَبع؛ ففِيها الكثير مِن الأشياءِ المُهمّة، مِثل مُسدّسِ خالد، وجوازاتنا، وشهاداتِ مِيلادِ طِفلَيّ، وها أنا الآن أضَعُ فيها ذاكرةَ التَّخزين.
سَمِعتُ بابَ الشقّةِ يُفتَح، فخرجتُ من المطبَخ لأرى خالِد ينزِعَ مِعطفَه، قلت له باسمةً: "كَم أُحِبّ دِقّة مَواعِـ..."
قاطعتُ كَلامِي عِندما رأيتُه يُشيرُ إليّ بإصبَعِه أن أسكُت، ثُم ركض إلى الأريكةِ حيثُ يرقُد توأميّ، حملَ أسعَد ومِن ثَم أشرف، وأدخَلهُما إلى غُرفَتِهما، ثم عادَ إليّ والسَعادةُ ترتَسِم على وجهه،فسألتُه بحَيرة: "ما الأمر؟!"
أجابَني بسُؤال: "متى ناما؟"
قُلت: "قبلَ أن تدخُل بلَحَظات!"
سألَني ثانيةً بتَرَقب: "هل ظلاّ مُستَيقِظَين منذ الصَّباح؟"
ردَدتُ و أنا لا أفهمُ ما الذي يحدُث: "نعَم!"
فرَفعَ رأسَه إلى السّماءِ مُتمتِمًا: "الحمدُ لله"
ثُم أعادَ نظرَه إليّ، وأضاف مُعترِفًا: "لقَد أيقَظتُهما عَمدًا عِندما قَدِمتُ هذا الصّباح"
تَمتَمتُ وأنا أرتَدي عباءَتِي وغِطاءَ رأسي: "أعرِفُ أنّك فعلتَ ذلك لإغاظَتي!"
فابتسَم ابتسامَةً عريضة، وهو يقول: "في الحَقيقة، بعدَ نِصفِ ساعةٍ هُنالِك مُباراة لريال مَدرِيد وبَرشلونة، وأُريدُ مُشاهدَتها دونَ أيِّ إزعاجٍ مِن الشَيطانَين، لِذا، فقَد أيقظتُهما صَباحًا حتى يناما عِندما أعود"
أنا الخبيرَةُ تفشَل مؤامراتي! وهو تنجَح مؤامراته! أيُّ حظٍ هذا! نظَرتُ إليه بحِقد، ودعَوتُ مِن بَينِ أسنانِي على فريقِه قائلةً: "يا الله، اجعَل ريال مَدريد يخسر" ثُم ارتَدَيتُ نِقابي، وخرَجتُ مِن الشَقّةِ وأنا أسمَعُ ضَحِكاته.


*******



مونيا العلوي

"أَبْنْتْ بْلاَدِي سْلْبُونِي عَيْنْكْ، وْالزِينْ لِي فِيكْ، قَلْبِي كَيْبْغِيكْ."
"أيَايَايْ بْنْتْ بْلاَدِي"
هكذا صدَحَت كلماتُ الأُغنيةِ الأصيلة في أجواءِ غُرفَةِ نَومي، كنتُ أُردّدُ كلمات أُغنِيَتي المُفضّلَة والمُحبّبَة عِندَ جَميعِ المَغارِبَة لكن طَبعًا بطَريقَتِي الخاصّة. اعتذَرتُ في نَفسِي مرّات ومرّات مِن روحِ المُطرِب شقارة -رحمةُ اللهِ عليه- لأنّني كنتُ أُردِّدُ الكلمات على عَكسِ ما هِي علَيه؛ فبَدَل (بِنت بلادي)، حوّلتُها إلى (إبن بلدي)، طبعًا هذا التحرِيف لم أتجرّأ عليَه إلاّ عِندما ظهرَ ياسر في حياتي لِكَي أكتَشِف بأنّ الرَجُلَ أيضًا يُشارِكني نفسَ الوَلَع بهذهِ الأُغنية، تذكّرتُ ذلك و أنا أبتَسِم، وفي نفسِ الوَقت بدأتُ أُردِّدُ الكلمات الإسبانيّة التي كانت تلي تِلك الجُملة من الأُغنية. مَزيجٌ مِن أصالةٍ مَغرِبيّة ومُوسيقى أندلُسيّة إسبانيّة، هذا ما أعشقُه في أغاني ذلك المُطرِب.
أخفَضتُ مِن صوتي قليلاً عندما انتبَهتُ إلى أنّني كنتُ أُغنّي بصَوتٍ مُرتفِع؛ فطِفلي الصغير نائمٌ الآن في غُرفَتِه، بعد ذلك وقفتُ على قَدَميّ حتى أُعدّل من سُترتِي القصيرة التي اخترتُها لاجتماعِ اليوم، كانت واحدةً من تلك السُترات المُصمّمَة بإبداعٍ مَغربِيٍّ تَقلِيديّ، والتي تمتَلِئ بها خِزانتي؛ كُل ما يُعبّر عَن أصالَتِي أُحبّه بجُنون ولا أُفرّطُ فيه، لذلك أُخصِّصُ وقتًا أيضًا للرَّكضِ وراءَ دُورِ الأزياءِ المُخصّصَةِ لإبداعِ التَصميمات المَغربيّةِ والتَفنُّنِ فيها.
ابتسَمتُ وأنا أنظُر إلى سُترتي؛ إنّها فَنٌ بحَدِّ ذاتِه، كَم أُحِبّ الفنون! ثَوبٌ مُخمَليّ تُركوَازِيّ تميّزه نُقوشٌ في مُنتَهى الإبداع طرِّزَت على جَوانِبِ السُترة بخُيوطٍ ذهبيّةِ اللَون تخلّلَتها أحجارٌ دَقيقةٌ وجَميلة، مُثبّتَة على تلك النُقوش، كانت بحَق فنًا عظيما، أنيقة وراقية للغاية؛ ولأنّني لا أُحبّ أن أكون بمَظهرٍ أشبَه بالكَامِل، كسَرتُ تِلك الأناقةِ الشّديدة بسروالٍ جينز جميل بسيط، والذي لاءَم السُترة بكُلِ تأكيد، كما أنّني راضيةً عن تَسريحَةِ شعري الحَالِك السّواد؛ فقد تركتُه مَسدولاً بحُريّة على جَانِبٍ واحدٍ من كَتِفيّ، بينما تبرز بوضوحٍ رقبةُ سُترَتِي العالية المُميّزةِ التَصميم بفتحَتِها عندَ العُنُقِ بشَكلٍ جَميل.
اكتفَيتُ بالنَظَرِ إلى نفسي في المِرآة، وقَد رَضِيتُ عَن مَظهَرِي الذي جمعَ ما بينَ البساطةِ والأصالة، وأيضًا بعضَ الجرأةِ في اختيارِ تلك السُترة التي قد يراها البعضُ غَريبةً إلا أنّ لا أحد يُمكِنُه أن يُنكِر جمالَها، وبأنّها قِطعةٌ مِن الفنِّ الرَاقِي. استدَرتُ أمامَ المِرآةِ و أنا أنظُرُ إلى جَسدي النحيل وتذكّرتُ كلمات أمّي بأنّ الرِجال لا يُحبّون المرأةَ النَحيلة، فابتعدتُ عن المِرآةِ وأنا أُفكّر بأنّ والدتي دومًا تُحبّ أن تُعطِيني النَقدَ عبرَ مُكالماتِها لي في الهاتف! لكنّني لا أغضبُ مِنها ولا أهتَمُّ لنَقدِها -الذي يكونُ أحيانًا جَارِحًا- وهي تُقارِنني بأخواتي.
أنا سعيدةٌ هكذا، أنا أكثر مِن راضيةٍ عَن نفسي، وياسِر أيضًا يُحب شَكلي هكذا، تُعجِبُني كَلِماته كَثيرًا عندما يَقولُ لي بأنّني أُشبه المُراهِقاتِ المَجنُونات، أكثرَ مِن امرأةٍ قد تجاوزَت عِقدَها الثاني بسِتِّ سنوات!.
"ياسر" همستُ بِها بمَشاعرٍ قويّة، وأنا أقترِبُ مِن بابِ الحمّامِ الخاصِ بغُرفَتِنا، كنتُ أستمِع إلى رشّاشِ المِياهِ القوية مِن داخِل الحمّام.
فاجأني بعَودتِه قبلَ قليلٍ إلى البَيت؛ فنادرًا ما يعودُ ياسر مُبكِّرًا، لكنّه ذَكّرني بالشَيءِ الذي كنتُ أنا قَد نسيتُه، أنّه وعدَ أيمن بأخذِه إلى التَزلُّجِ بدَلَ اضطِرارِه لمُرافقَتِي عِندَ نِسوَةِ النون.
سَعيدةٌ لأنّه وفى بوَعدِه لَه؛ فقليلاً ما يسمَحُ له عمله بتَخصِيصِ وَقتٍ خاصٍ لأيمن. عدتُ إلى حيثُ سَريرِي الواسع وبدأتُ بارتِداءِ حِذائي ولَم أنتَبِه إلى أنّ صَوتَ المِياهِ توقّفَت عن التَدفُّقِ بقُوّة إلاّ بعدَ أن فُتِح بابُ الحمّام، فرفعتُ رأسي إلَيه وأنا أرسمُ ابتسامةً على وجهي.
كان شعرُه مُبلّلاً، إذ كانت ما تزال هُناك قطرات مياهٍ صافية تنزِل بطَريقَةٍ بَطيئة مِن خصلاتِه الرّطبَة لتحطُّ على رقبة روبِه الرَماديّ.
بادلني الابتسامَة وردّ على كَلماتِي الرّقيقة وهو يقتَرِب منّي ليجلس على طَرَفِ السرير وطبَع قُبلةً طويلةً على خدّي. كان يُمكِن أن تتحوّل لأكثرِ مِن ذلك لو لَم أبتعِد عنه بسُرعة وأنهضُ مِن مَكاني بينما أقولُ له مِن بينِ ضحكاتي: "عليّ الذّهاب عندَ زينب، وأنت عليكَ أن تتأكّد مِن أن يُمضِي أيمن أُمسيةً رائعة معَك كما عليك الوفاء بالوَعدِ الذي وعدتَني به هذا الصباح"
ظهرَ عليه الاستغرابُ من كلماتي، فأمسَكتُ بيَدِه وشبَكتُ أصابِعي بأصابِعِه وأنا أحُثّه على أن يتبَعني وخرَجتُ مِن غُرفَةِ نَومِنا لكَي أدخُل بِه إلى غُرفَتِي الخاصّة، عالَمِي الصّغير الجميل الذي صنعتُه بنَفسِي في قلبِ شقّتِي. جُدرانُ الغُرفَةِ الأربعة كُلّها مَليئَةً بالصُورِ وذِكرياتِ جميع مَراحِل حياتي التي مررتُ بها، من أعلاها حتى أسفلِها، امتلأت بأنواعِ الصُور حتى أنّني كُنت أحتفِظ في تلك الغُرفَةِ -الغَريبة لِمن يراها- بكُنوزٍ ثمينة؛ ففي زاويةٍ مُهمّة مِن الغُرفة كانت هُناك خِزانة زُجاجيّة شفّافة، بها أشياء ثَمينة جدًا تخصّني، بعضُها وَرِثتُها عن عائلتِنا العَريقةِ الجُذور، والأخرى مِن تُحَفٍ جمعتُها أثناءَ سفري إلى مُختلف البُلدان، ولا أُنكِر بأنّ أغلبَها كانت هدايا مِن ياسر وأثمَن تلك المُقتنَيات هي كاميرا من طِراز داجير، هي مِن أوّل الكاميرات التي تمّ اختراعُها، ليسَت أكثر مِن صُندوقٍ خشبيٍّ قديمِ الطِراز بحَجمٍ كبير تمّ عرضُه في مَزَادٍ منذُ خَمسِ سنوات، وصمّمَ ياسر على شِرائِه لي حتّى لو كلّفَته ثروةً طائلة، وذلك بالفِعلِ ما حصل، مع أنّني لَم أُوافِقُه في البِداية على اقتنائِها لكنّني لا أُنكِر بأنّني أحبَبتُ هديّتَه هذه بمُناسَبَةِ حملي بطفلِنا الأوّل لِكي يُطلِق عليّ في الأخير بأنّني مَجنونةٌ مِن الطِراز الأوّل؛ لأنّني رفضتُ أن أحفظَ الكاميرا الثّمينة -كما هو الحال- مع مُمتلَكاتي الأُخرى في مَكانٍ آمِن كما يفعل هو لكنّني لا أرى في عملي هذا جُنونًا، فلَم أشترِ هذه الأشياء ولم تُعط لي حتى أُخفِيها في البنك السويسري.
أنا أُحبّ التَمتُّعَ بالنَظَرِ إليها وتأمُّلَها واكتشاف روعَتِها يومًا بعدَ يوم، كما لا أُحبّ أن أشعُر بأنّني أحمِل ثِقَلاً على كاهلي، أو وسواس لأنّني أملِك هذه المُقتنَياتِ الثّمينَة، فلَيس هُناك أثمَن مِن حُريتي وحُريتي، لن أُضِيعها بالخَوفِ على مُمتلكاتي، لا أُحبّ شُعورَ الخَوفِ أو التَحَفُّظِ على شيءٍ مُهم. أُحبّ أن أشعُر بالحياة، أُحبّ أن أشعُر بأنّني مُحرّرَةٌ مِن أيِّ قُيود، أُحبّ نفسي هكذا، وهكذا أُريدُها أن تَبقى، و إن كان هذا يُسمّى جُنوناً فليكُن! إنّه يُعطيني شُعورًا جَميلاً وإحساسًا بالسّلامِ مع النَّفس.
شددتُ على يدَي ياسر بحماس وأنا أحُثّه على السَيرِ مَعي باتّجاهِ مَكتبي الذي كان في نَفسِ الغُرفَة، المَكتب الذي شَهِد كُتُبِي السِّياسيّة وكُلَ ما خطّته يدي وما عبّرَت عنه أفكاري الجريئة وما صرَخ بِه قَلبِي. فَوق المكتب كان هُناك أيضًا لَوحَة كَبيرة تُشبِه لوحات المُحقّقِين كما يُطلِق عليها ياسر بسُخريةٍ دائمًا، وقد امتلأت تلك اللّوحَة بصُوَرِ سياسيّين مَكروهِين لي؛ لأنّهم فاسدون. وقُصاصاتِ مَقالاتٍ سِياسيّة و حتى اقتِصاديّة، كلُ ما يهمّني في الحياةِ السِّياسيّة كان هُناك مُلصَقًا على تلك اللَوحة، من بَينِها صُورٌ كثيرة لذلك الفاسِد الذي يتجوّل في لندن هذه الأيّام، والذي أصبَح هدفًا لن أُغمِض عَينِي عَنه حتّى أُطيح به. استدَرتُ إلى ياسر الذي كان يقِف إلى جانبي وقد تلاشَت الابتسامةُ مِن على وجهي بينما أسأله بلَهجةٍ هادِئة ومُبطّنَة بالجَديّة: "لقد تركتُك قبلَ قليلٍ لترتاح مِن تَعَبِ عملِك، لكنّني سأموتُ لأعرِف المَعلومات التي أتيتَ بها اليوم لي بعد أن وعدتَني أمامَ الفُندق بأنّك ستُساعدني في مُراقَبَتِه"
تفاجأتُ عِندما رأيتُ مَلامِحَه تتشَنّج غَضَبًا فجأة، لكنّه كان سَريعًا كالعادة، عِندما أخفى ذلك الغَضَب تحتَ ابتسامةٍ صفراء استطعتُ اكتشاف حقيقتَها بسُهولة، وهو يُجيبُني قائلاً بنَبرَةٍ غامِضَة: "مِن الأفضَل أن تنسي أمرَ ذلك السياسِيّ مونيا، انسِي أمرَه تَمامًا، فأنتِ لن تَستطيعِي تغييرَ العالم" قال كَلِماته الأخيرة وهو يُشدِّد علَيها بينما أنامِله كانت تمُرّ باستِفزازٍ على عَمودِي الفِقَري. أبعدتُ ذِراعَه عنّي وأنا شِبه مَصدومَةٍ مِن كلماتِه (لَن أستطيعَ تغييرَ العالَم) جُملة لطالما ردّدَها ياسر، لكنّني لَم أغضب يومًا منه، بَل كنتُ أضحكُ لَه، وأُجِيبُه بأنّ كلامَه رُبّما يكونُ صَحيحًا ورُبّما يكونُ خَاطِئًا. أُحبّ أن أُحاوِل، أُريد أن أنجَح في تَغييرِ ولو نِقاطٍ صَغيرةٍ سَوداء بأُخرَى بَيضاء تُنيرُ حياةَ أشخاصٍ أبرياء مَساكين نَسوا حتى كيفَ يحلُموا بحياةٍ كريمة! لكن هذه المرّة، الطريقَة التي قال ياسر بها تلك الجُملة، لَيست طريقته المَعهودة أبدًا. لطالما قالَها بنَبرةٍ سَاخِرَة أُحسُّها وكأنّه يُواسي نفسَه لانشغالِه بعَالَمِ الأعمال وتخلّيه عن روحِ ذلك الفَتى الذي كانه في سنواتِ مُراهقَتِه الأخيرة وهو يُناضِل مِن أجلِ حُقوقِه و حُقوقِ غَيرِه. الطريقة التي نطقها بها الآن، وكأنّها أمرٌ حَازِمٌ حَقيقةً، وثِقةٌ كَبيرةٌ خرجَت من بَين تلكَ الحُروف التي كانَت مُستفِزّةً لي. ثارت ثائرَتي وشعرتُ بأنّ الحرارةَ تتصاعَد معي جرّاءَ الغضبِ الكبير وكِدتُ أصرُخ بأعلى صَوتِي بأنّني لَم و لَن أتخلّى عن مَبادئي، لكنّني تجمّدتُ في مَكاني أنظرُ إليه بنَظراتٍ أعرِف بأنّه لو رآها طِفلي الصّغير -الذي فُوجِئنا لحظَتَها بوُجودِه خَلفَنا- لفَزِع منها بقُوّة رهيبة، ياسر هو الآخر ظَهرَت في عَينَيه نظرات تَحَدٍ كَبيرة وغَضَبٌ عارِم ينتَظِر ردّةَ فِعلي تلك حتّى ينفَجِر بغَضَبِه هو الآخر، غَضَب لن أتقبّله لأنّه هو من فاجأني وصدمَني بكلامِه هذا. رأيته يبتعِد عنّي وهو يرسُم تلكَ الابتسامة التي يُخفِي خَلفِها وجهَه الغَاضِب الذي كان قبلَ لحظات ثم سمِعتُه يتحدّث مع أيمن الذي كان صوتُه النّاعس يصِل إليّ مُشوَّشًا بسببِ تَفكِيري في كَلِماتِ ياسر لكي أسمعُه فجأة يُوقظني من شُرودي وهو يُحدّثني مِن خلفي: "الهاتفُ يرِنّ مونيا، لابُد بأنّ صَديقاتِك يُرِدن التأكُّد مِن قُدومِك للاجتماع، فقَد تأخّرتِ عليهم!"
لَم أُجِب علَيه ولَم أستطِع الحراكَ من مكاني حتى سَمعتُه يطلب من أيمن أن يودّعني لأنّني ذاهبة، حتى يذهَب لتجهيزِ نفسِه هو الآخر للخُروجِ معه للتَزلُّج. استطعتُ رسمَ ابتسامةً مُزيَّفَة أنا الأُخرى على وَجهِي أقابل بها طِفلي البريء الناعِس أمامي، قبّلتُه قُبلةً طويلةً على خدِّه، وقمتُ بإعطائِه بعضَ الإرشادات، أعرِف بأنّه لَن يستَمِع إلَيها لكنّني أعرِف بأنّ ياسر سيقوم بالاهتمامِ به كما لو كنتُ معه بنَفسي ثم تقدمت بخُطواتٍ قويّة خارجَ تلك الغُرفَةِ مُتأكّدةً مِن أنني يَجِب أن أذهَب إلى اجتِماعِ نون؛ فهو بمَثابَةِ وَعدٍ مُقدَّسٍ بيننا لا يُمكِنُ خَرقُه أو عَدم الإيفاءِ بِه (و عِندما أعود، سيكونُ بينَنا حديثٌ طَويلٌ يا ياسر!) هكذا تَمتَمتُ لنفسي وأنا أخرُجُ مِن بابِ شقّتِي.


***********

ديمة مصطفى

:- ماما، أنتِ جميلةٌ جدًا!
نظرت إلى بسمة التي انغرسَت إلى جانبي؛ تُراقِب بشَغَفٍ انعكاسي عَبرَ المِرآة، أثناءَ انهماكي في تَزيينِ وجهي بدِقّة، اللّمسات الخفيفة والمَدروسة مِن الزينةِ الغاليةِ الثّمَن التي أحرِصُ على اقتنائِها وتجديدِها مرّة كل بِضعة أشهُر وبهَوَسٍ غَير مُبرَّرٍ بجَمالي، في حِين أنني نَادِرًا ما أخرُج وقلّما يسنح لأيٍّ كان برؤية طَلّتي البهيّة!؛
وأجبتُ بسمة باكتئاب:- أعرِف!
تأمّلَتني مَذهولة وأنا أُمَرِّر فُرشاة الماسكارا فوقَ رموشي لأُزيد مِن كثافتِها وقتامةِ لونِها ثُم نظرَتُ إلى انعِكاسِ وجهِها الصّغيرِ الذي ارتسَم كالقَلبِ بينَ خصلاتِ شَعرِها البُنّية المُشعَثَة والتي غطّت مُعظَمَه، وقالت باكتئاب:- لماذا أنا لستُ جميلة مِثلِك؟!
(لأنّكِ نُسخَةٌ أُنثويّة مُصغَّرَة عن والِدِك يا حبيبتي!) كبَتُّ أفكاري اللئيمة؛ فلا ذنبَ لبَسمتي الصّغيرة في شجاري مع والدِها قبلَ دقائقٍ قليلة عبرَ الهاتِف، لا يَكفي أنّه يعمَل في يَومِ عُطلتِه بَدلاً من قَضاءِ النّهارِ برِفقتي وبرِفقَةِ الأولاد مُتحَمِّلاً جُزءًا مِن أعبائهم عنّي. بل – و بكُلِ وقاحة – يتّصِل بي ليُخبرني بأنّه قد يتأخّر قليلاً، ولَن يكون قادرًا على مُجالَسَةِ الأولاد كعادَتِه خِلال مَوعِدِي معَ رِفقَةِ السَّكَن.
لَم يكُن مِن عادَتي رَفع صَوتي أثناءَ مُخاطَبَتي إيّاه؛ فاحتِرامُ الزَوج وتَقديسُه جُزءٌ مِن ثَقافَتِنا الشّرقِيّةِ المُتوارَثَة جِينيًّا بينَ نِساءِ سوريا اللاّتي قُدِّر لهُنّ أن يأتين هُنّ و رَغَباتهن دائمًا في المَرتبةِ الثانية، إلا أنّني، ولهذه المرّةِ فقط فقَدتُ أعصابي وأنا أُفجِّر كلَ عُقَدِي في وَجهِه عبرَ الهاتف، أتّهِمُه بالمَكرِ والأنانية لاختيارِه هذا اليوم بالذات كَي يتأخّر عن البَيت في اليومِ الوَحيد خلال الأسبوع الذي أستَعيدُ فيه شيئًا مِن كِياني الضّائِع بينَ طيّاتِ الرتابَةِ والكَبت التي أُعاني منها منذُ زواجي، بل طُوالِ حياتي تحتَ ظِلِّ والدٍ يبدو بتَسلُّطِه وكأنّه قادِمٌ مِن أحَدِ المُسلسَلاتِ الشامِيّة القديمة وأخٍ أكبر يؤمِن بأنّ الهدَف مِن وُجود شَقيقَةٍ في البَيت هو التدرُّب على أن يكونَ بدَورِه ذاتَ يومٍ بطلاً لأحدِ المُسلسَلاتِ الشاميّةِ القديمة!
استمَع إليّ صامتًا حتى انتهى انفجارِي المُفاجِئ لأتوتّر بعدَ أن لاحظتُ هدوءَه المُبالَغ به والذي تجلّى في رَدِّه الجاف:- سأعودُ في المَوعِدِ المُحدَّد.
تبًا! ردُّه يعني أنّه قد غَضِب منّي، وهذا يعني خمسةَ أيّامٍ من التَعذِيبِ النَفسِي الذي يُجيدُه إياد بمهارة؛ لَن يُكلِّمني إلاّ إن تَحدّثتُ أولاً، سيبعَث بسمة إليّ برِسالة كُلما أرادَ منّي شيئًا وسيتجاهلني تمامًا حتّى أنهار باكِيةً في النِهاية تحتَ وَطأةِ جَفائه وبعده، مُتوسِّلَةً الصَفحَ والغُفران عَن الذَنبِ العَظيمِ الذي ارتكبتُه! والذي نَسيتُه أنا -بطَبيعَةِ الحال- في تلك اللّحظة وأنا أنظُر إلى مَظهَرِي العام عبرَ المِرآة عَابِسَةً؛ أُحاوِلُ اكتشافَ ما ينقُص كمالَ طَلّتي، عندها لاحَظتُ بأنّ بسمة ما تزال تنظُر إليّ مُتّسِعَة العَينَين في انتظارِ إجابَةٍ عن سُؤالِها، فقلتُ بكُلِ ما لديّ مِن رِقّة:- أنتِ أكثر جَمالاً منّي يا قمر، إلا أنّ جمالك هذا لن يظهَر ما دام شَعرُك يُشبِه عُشَ طائرٍ مُعاق، لَدَيه خَلَلٌ في مِنقارِه يمنَعه حتى مِن صُنعِ عُشِّه بتَرتِيب!
ارتسَمَت الصَّدمَةُ في عَينَيها الدّاكِنَتَين وسُرعان ما اختفَت مِن الغُرفةِ بحثًا عن مُشطِها الصّغِير، فصِحتُ مِن وَرائِها وأنا أكبِتُ ضحِكَتي:- ولا تنسِي إلقاءَ نظرة على عماد والتأكُّد من أنّه لا يُحاوِل فتحَ النّافِذَة و إلقاءَ نَفسِه مِنها كالعادة.
عدتُ بتَركِيزي إلى مَظهَرِي مُتأمِّلَةً الفستانَ الأسودَ الذي اخترتُه خِصيصًا ليُخفي استدارات جَسَدِي البارِزَة، لَم أكُن سمينة، بَل مُمتَلِئة القوام بشَكلٍ جَميل، إلا أن هذا لَم يُساهِم لشَعرَةٍ فِي تَعزيزِ ثِقَتِي بنَفسِي وأنا على وَشكِ لِقاء جَاراتي اللاتي تتميز مُعظمُهن بالنُحُول، لَكَم تُثير علياء غَيظِي -رغمَ حُبِي لها- برَشَاقتِها الطَبيعِيّة؛ إنّها زَوجةٌ وأم هي الأخرى بحَقِ الله! مِن المُفترَض أن تُكافِح مِثلي، وتُعانِي وهي تَحرِم نفسَها ممّا تضطَر لطَهيِه يَوميًا لأجلِ عائِلَتِها، على الأقل، مينة ما تزال عازِبة، كما أنّها تبدو باستمرارٍ و كأنّها تَحرِق ما تأكُله ذاتيًا وفقَ ما يظهَر مِن عينَيها الدّاكِنَتَين مِن عَوَاصِفٍ وأعَاصِيرٍ مَكبوتة.
(هل عليّ أن أرتَدي قرطي الماسي؟) فِي كُلِ أُسبوعٍ أطرَحُ على نفسِي هذا السؤال وأنا أُخرِجُ الحَقيبَةَ الجِلديّة التي أحتَفِظ فيها بمجوهراتي في مَكانٍ لا يعلَمه حتى إياد، القِرط المَاسِي الضّخم والثَمين الذي أصرّت أمي على أن أطلُبَه كمَهرٍ عِندما تقدّم إياد لخِطبتي بدلاً من الذَهَب، بحُجّةِ أنّه سيُفَكّر مرّتَين قبلَ أن يَجرؤ على خِداعي (كما يفعل مُعظَمُ الأزواج).. وإقناعي ببَيعِ مُجوهراتي لتَمويلِ مَشروعٍ عَبقَريّ كَفيل بالقَفزِ بحَياتِنا إلى مُستوى الأُمراء، مَشروع فاشِل بالطَبع ينتهي بضَيَاعِ (قِرشِي الأبيض) ليأتي اليَومُ الأسودُ فَجأة بدونِ إنذار، فأكتَشِف خِلالَ وَهميّةَ ذَلك المَشروعِ العَبقريّ بأن مُؤامرة زَوجي للاستيلاءِ على أموالي وضمانِ سيطَرَتِه المَاديّةِ التامّةِ على حياتي قَد كُلِّلَت بالنَجاح.
يا إلهي! ها أنا أتحدّث كخَوَلة تمامًا، حسنًا، لن أرتَدي حُليًا هذه المرّة أيضًا وإلاّ بَدوتُ شاذّة ومُتكلّفة ورُبّما مُحدثَة نِعمَة أمامَ جَمَالِ ريتشيل وأناقتِها الطَبيعِيَّين. ريتشيل زينب، جارتي التي لا أتوقّف عن التَفكيرِ بها بإعجابٍ وغِبطة؛ جميلة، مُستقلّة وقادرة على تَحقِيق ما تُريدُه في حياتِها. معَ العِلم أنّني لا أفهمُ على الإطلاق سببَ تمسُّكِها بالجانِبِ الشَرقِيّ مِنها! ما المُثير للاهتمامِ في تُراثٍ قامَ على قَمعِ المَرأة منذُ قُرونٍ طَويلة؟!
حتى أنّني لا أُحبّ مُناداتها بزَينب، الاسم الذي تَفخر ريتشيل بحَملِه كوسامِ بُطولةٍ تُعلّقُه على صَدرِها.
ارتدَيتُ قِرطًا ذَهبيًا بَسيطًا، كَفيلاً بمُضاهاةِ أناقةِ لين، أحدَث جاراتِنا في العِمارة، العَروس المُدلّلَة التي تُشرِق عَيناها ببَهجةِ تَوقُّعاتِها للمُستقبَل! وتأمّلتُ نَفسي للمرّةِ الأخيرَةِ باكتئابٍ وأنا أُفكِّر.. هل تَعرِف تلك الطِفلةِ المَسكينة بأنّ نظرتَها الوَرديّة للحياة لن تَستمرّ طويلاً؟ يا الله! كَم أشتاقُ إلى تِلك الفِترة، حيثُ كنتُ ساذجةً بما يَكفي لأؤمِن بقُدرَتِي على تَحقِيقِ ما أُريدُه بشَيءٍ بَسيطٍ من العَزيمةِ و قُوّةِ الإرادة.
أغلقتُ حَقيبتي الجِلديّة الصَغيرَة وأعدتُها إلى مَخبأي الغَيرِ مُتوَقَّع على الإطلاقِ ببَساطَتِه ورفَعتُ المِنضدَةَ الخَشَبيّةَ الثّقيلة، والمُجاوِرَة للسَريرِ قليلاً ثم دفَعتُ الحَقيبةَ أسفلَها لتَستَقِرّ تحتَ قَاعدَتها المُجوَّفَة ثُم اعتدَلتُ لاهِثةً وأنا أتحسّس ظَهري وأتأكّد بأنّه لَم يُصَب بضَرَرٍ بسَببِ فعلَتِي.
مَرّرتُ المُشطَ عبرَ خصلاتِ شَعري للمرّةِ الأخيرة، في نَفسِ اللّحظةِ التي سَمِعتُ فِيها مِفتاحَ إياد يُعلِن عن وُصولِه، رُبّما هو لَن يَتحدّث إليّ حتى أنهار نَفسيًا وعَصبيًا جراء أُسلوبِه المُعتاد والمُستَفِز جدًا في تَروِيضي، إلاّ أنّه سيُجالِس الأطفالَ على الأقلّ، حتّى أعودُ مِن مُتنَفّسي الأُسبوعيّ المُفضّل حيثُ أهرب لساعاتٍ قَليلة مِن إطارِ حَياتي المُحكَم، مُتناسِيةً قُيودَها المُتمَثّلة بزَوجٍ مُستَفِزٍ وأطَفالٍ مَجانِين وأكونُ مُجرّد أُنثَى مُتأَلِّقَة لا هُمومَ لها سِوى مُضاهاةِ إناثٍ لا يَقِلّنّ عَنها تعاسةً، حتى و إن رفَضن الاعترافَ بهذا ويُحاوِلن التَخَفِّي مِثلي وَراءَ وَاجِهَةٍ جَميلةٍ ضاحكة، إعلان بَديع عَن رَونق حَياةِ المَرأةِ الشَرقِيّةِ المُتألِّقة! هَل تَعرِف إحداهُن يا ترى إلى أيِ حدٍ هن مَكشوفَات لمَثيلاتِهن؟!
أُقيمُ في الطّابقِ الأخير ولَن أستَعمِل المِصعَدَ الكَهربائي للنُزولِ إلى حيثُ شقّةِ ريتشيل، ممّا يمنَحُني الوَقتَ لتَقمُّصِ الدَور. رَسمتُ ابتسامةً وَاسِعَةً مُظهِرَةً أسناني المُنتَظِمَة والنَاصِعَةَ البَياض وتَناولتُ حَقيبَةَ يَدي الأنيقة وبدونِ إلقاءِ أكثرَ مِن نَظرةٍ نحوَ إياد الجالِس على الأريكة يُحيطُ به الطِفلان مُتعمِّدًا التَظاهُرَ بعَدَمِ رُؤيتي، غادَرتُ الشقّةَ مُغلِقةً البابَ ورائي بهدوءٍ شديد مُتَجّهَةً لمُلاقاةِ عُصبَةِ نونِ النِسوة.


************



علياء عبد الحميد



(عمرو، ماذا تفعل؟ أتُحدّق بي؟! لقد، لقد انتبَه للفُستان!)
هكذا كنتُ أهمِس لنَفسي؛ لأُهدئ خَفَقات قَلبي المَذهولة والمُتقافِزَة بحُبور، يا إلهي! إنّه يتأمّلني بكَسَلٍ مُثير وابتسامةٌ عابِثَةٌ تملأ وَجهَه، أخَذتُ أبتَهِل في نَفسي كَي يُلَملِم بَهاءَ ابتسامَتِه قليلاً؛ فما يفعَله، وارتدائي لهذا الفُستان يُربكانِي لأبعدِ مَدى، فَلتسقُط ريتشيل زينب وجميعُ اجتماعاتِ النونِ العربية، لَن أذهب! لَن أذهَب وهذا قَرارٌ نِهائيّ.
شَهقةٌ خَافتة ابتلَعتُ رَجفتَها بينما يقتَرِب أكثر وأنفاسُه الدّافِئة تلفَحُ رقبَتِي.
مَهلاً! ما سِر هذا التَحوّل يا عمرو؟! الفُستانُ الأحمر وارتدَيتُ مِثلَه في السّابِق! والعِطرُ عِطري منذُ تَزوّجنا، أيَكونُ قَد استبدَل نَظّارتَه الطِبيّة؟! مؤكد هُنا -في لندن- يَختَلِف نَقاؤها عَن مَثيلاتِها في القاهرة. بتَردُّدٍ سمَحتُ لأهدابي بالرَفرَفَةِ قليلاً لأرى وَجهَه وقبلَ أن تَستَجيب أهدابِي لإشارَةِ عَقلِي، حَطّ كَفُه الكَبير على جَبيني ليُجفِلني بَعدَها بصَوتٍ مُرتَفِع:- ما بكِ يا علياء! هل أنتِ مَريضة؟!
نظرتُ إلَيه لأستفهم! وجَدتُه يَدور حَولي مُتأمِّلاً بينما يَحُلّ رَبطةَ عُنُقِه بنَزَقٍ قائلاً:- جميلٌ هذا الفُستان، ولكن ما هي المُناسبة لتَرتَدِيه في هذا البَرد؟! لا أعجَبُ من ارتجافِك! مؤكدٌ أنّكِ مَرضتِ! هَل أعدَدتِ (الكُشَري) أم أضَعتِ اليومَ كُلَه أمامَ المِرآة؟
لَكمَةٌ مُوجِعَة! هذا ما خَطر فِي بَالي الآن، وهو يُحدّق فيّ بعُيونِه الأربعة، لَكمةٌ قَويّة والدّمُ يَسيلُ مِن أنفِه! مَشهَدٌ رَائِع! لِمَ لَم أُترجِم الخيالَ إلى واقِعٍ بينما يُغادِر الغُرفَةَ ليَدخل إلى الحمّام، وهو يُغَمغِم بصَوتٍ يصِلني، ومُؤكّد يختَرِق مَسامِع (الجيران) :- عَلياء، أنا مَشغولٌ حتّى في يَومِ عُطلَتِي، لا تَعلمين بالطَبع أينَ كُنت ولا بأَيّ شَقاءٍ أُعانِي في الخَارِج! أنتِ هُنا، تَجلِسين مع آية، ولَم تُعِدِّي حتّى الطَعَام!، أصبَحتُ أهتَمّ بكُلِ شَيءٍ في هَذه الأُسرَة، بدأتُ أندَم على السَفَر، لَم تُعِدِيّ الطَعام، صَحيح؟! أنا مُرهَقٌ جدًا حتى لا أقوى على الخُروجِ و تَنَاو...
لَم يتوَقّف، بل أنا مَن أوقَفتُ بدَاخلي إرادَةَ الإنصات، و جَلَستُ في الصالةِ لأتفَرّج وآية بمِنديلِ رأسِها تُشارِكني الفُرجَة كعادَتِها.
ها هو قَد أنهى حَمّامَه وتوجّه رَأسًا إلى المَطبخ، الطَعامُ مُعَدٌّ بالفِعل، وثَلاثةُ أطباقٍ مِن الكُشَري الشَهِيّ تَقبَعُ بإذعانٍ هُناك. التهَم ما التهَمَ مِنها و لَم يُعَلِّق، أحبَبتُ في هَذه اللَّحظة مَطبَخِي المَفتوحَ برَحابَةٍ على الصالَة؛ كَي أتمَعّن في وَجهِه، علّني أجِد إجابَةً لسُؤالٍ يَقرَعُ عَقلِي الآن بمِطرَقَةٍ مِن حَديد، لِماذا أحبَبتُه؟! بَل لِمَاذا ما أزال أُحِبّه؟!
خَرج و تجوّل قليلاً في الشَقّةِ بِلا هَدَف ثم اندَسّ خَلفَ حَاسوبِه لنِصفِ ساعةٍ بتَركيزٍ ثَاقب، ليَهجع بعدَها إلى الفِراش، وتَنتَظِم أنفاسُه فِي دَقائقٍ مَعدودة مُسافِرًا لدُنيا الأحلام.. أتساءَل أحيانًا يا عمرو، هَل تستَطِيعَ الحُلم؟!
جلَستُ لأُكمِل هِندامِي أمامَ مِنضَدَةِ الزِينَة، وأنا أتَطلّع خَلفِي إلى (زوجي) عَلامَةِ التَعجُّبِ الَقابِعَةِ بهَناءٍ على الفِراش، عَلامَة تَعَجُّبٍ التَصَق مَصيري بِها لعدّةِ أسباب، سأسرِدُها عَليكم وأنا أُتَمِّم هَيئتِي وأُساعِد آية في ارتِداءِ ثِيابِها.
أسبابُ التِصاقي بعَلامَةِ التَعجُّب:
أ – أسبابٌ شَخصِيّة.
ب- أسبابٌ عَائِليّة.
السّبَبُ الشّخصِي، والوَحِيد هو أنّي أحبَبتُه. مَسألَةٌ قَدَريّةٌ بَحتَة، تمامًا كما يَسير شَخصٌ مُسالِم في أحَدِ الشَّوارِع ويسقُط عَلَيه فَجأة بَقايا جِسمٍ فَضائِيٍ مُحتَرِق، فيُردِيه قَتيلاً. لا أعلم إن كان حدَث هذا حقًا! ولكنّي أحبَبت عمرو بهَذه الطَرِيقة؛ عَلامَةُ تَعجُّبٍ جَليدِيّة وله ابتسامَةٌ سَاحِرَة، عِلاوةً على أنّه ابنُ خالتي، فمِن المَنطِقيّ جدًا أن أقَع فِي غَرَامِه.
ليتَني ما فَعَلت!
أمّا الأسباب العَائليّة، فهُما سبَبَان، أوّلهُما هَلَعُ أمي مِن شَبَحِ العُنوسَة والثّاني، صَفقَةُ بروش الأمِيرَة شهدزان (جدّتِي الكُبرى) زَوجة الأمِير نُعمان (جَدّي الأكبر) أيضًا هو الآخر. هكذا أخبَرونا مِرارًا، هي حِكايةٌ طَويلة، سأقُصّها فيما بعد، رغمَ أنّي لا أُصَدّقُها بالطَبع، ولا أحدَ يُمكِنُه التَصدِيق أنّ علامةَ التَعجُّبِ النَائِمِ خَلفِي هذا، تَجرِي فِي عُروقِه دِماءٌ مَلَكِيّة!
(هل أعدَدتِ الكُشَري!) أتمنّى أن تُصاب بتَلَبُّكٍ معوِيٍّ حادّ، أمِيرٌ مُغتَرِبٌ فِي لندن، يَشتَهِي الكُشَري في عِيدِ زَوَاجِه المُوافِق للأسَفِ لعِيد مِيلادِه الواحِد والثلاثين.
سامَحَكِ اللهُ يا أمي! لِمَ لم تَرفُضِي ابنَ أُختِك، وتَحبِسيني بغُرفَتي مِثل أُمّهاتِ المَاضِي؟! كنتُ سأبكي قَليلاً -أو كَثيرًا- حتّى أمَلّ وأُعاوِد مُزاوَلَة الحَياة ثُم مَا بِها العُنوسة؟! تأمّلتُ نَفسِي بالمِرآةِ مُخفِيةً خَلفِي عَلامةَ تَعجُّبِي، فَتاةٌ مَمشوقَة وذاتَ قوامٍ رَائِع وحَاصِلَة على مَاجِستير رياض أطفال -بدون عَلامة تَعجُّب- مَا أحلى الحَياة! للَحظَةٍ شَعرتُ بنَسائمِ الحُريّة تُهَدهِد خَيالي إلى أن أطلّت آية بِجانِبي في المِرآة، بابتِسامةٍ عَريضةٍ كأنّي ألتَقِط صورةً وهي ستُشارِكَني إيّاها، بتَطوِيقِها لخَصرِي بذِراعِها الصّغير.
ارتدَيتُ مِعطَفًا أنيقًا أُخفِى به مَفاتِني ووشاحًا لرَأسي يُحاكِيه أناقَةً، فُستانِي الرّائِع سيَجِد جُمهورًا كَبيرًا مِن الفَتيات، خاصةً وقَد زَيّنتُه بِبروش (شهدزان) فلَم أُعِدْه لمُستَقَرّه في صُندوقِه الصّدَفيّ بخِزانَةِ مَلابِسي؛ كَي يُدرِكن أيَ دَلالٍ يُغرِقني به (ابنُ رَئِيسة) وقبلَ أن أخطو خارِجَ الشَقّة، وكَفُ آية مُستَقِرٌّ فِي يَدِي، جَذبتُها لأُوصِيها الوَصايا التي باتَت تَحفَظُها وتُغيظُني بتِكرارِها كَمَا فَعلَت الآن "و لَن آكُل أو أشرب شَيئًا حتّى تُشيري لِي يا أمي!"
هَممتُ بالخُروج، فجَذَبتنِي بقُوّة وهمَسَت فِي أُذُنِي بشَيء، لأهمِس لها بَعدَها:- لا يا آية، لَن يصلُح هذا مَع والدِك ولَكِن في البِداية، هَل تُشارِكيني خُطّة (سِحرِ الفِيديو كليب وتَنسِيق الثّانَوية العامّة)؟
هتفَت بحَماس: "موافِقَة، و لَكن ما مَعنى هذا؟!". ابتسَمتُ لها وقد التمَعَت الفِكرَةُ في ذِهني، وقُلتُ لها:- عندما نَعود سأُخبِرُك.
قبّلَتنِي بقُوّةٍ ثُم انطلَقَت مُسرِعَة لتَسبِقني إلى شَقّة الإنجليزيّةِ الأنيقة التي ستَستَقبِلني الآن بحَفَاوَةٍ قَائلة: "أهلاً علياء".
مينة أحمد
غسَلتُ وَجهي بالماءِ الباردِ مِرارًا و تِكرارًا، رُبّما أُحاوِلُ أن أجِد (مَنْ أنا!) بَين كُلِ رَشقَةٍ وأُخرى، لَولا لُطفِ الله لكَان ذَلك الرّجُل إما مَيتًا أو بِحالَةٍ مُزرِية، وبعدَ جرعَةِ الخَوفِ الكَبيرةِ التي تَلقّيتُها، تَبيّن أنّه مَن عبَرَ مِن مَكانٍ خَاطئ. تمَالَكتُ نَفسي وأخَذتُ نَفَسًا عَميقًا وأنا أُرَدِّد "لَن أُفسِد يَومِي المُميّز" وكأنّي ما عُدتُ لتَوّي مِن مَوعِدِ طَلَبِ طَلاق! أُراهِنُ أنّه أسرَع طَلَب! رُبّما تَسَرّعتُ فِيه، لَكنّه صَحيح رغمَ بَقاءِ الأحداثِ الأخرى فِي قَلبِي، لكن لابد مِن النُهوض، وهذا ما اعتَدتُه؛ أنهَضُ بعدَ كُلِ سُقوط، وهذا لا يَعني تَجاوُز الأمرَ ببَساطة، بل هُمومي أُرتِّبُها مِثل الكُتُب، وأعِيدُ تَقلِيبَها كُلَّ مَرّة.
ذهبتُ للمَطبَخ؛ مَكان المَرأة المُفضّل مَهما بَلغَت مَكانتُها (مَكاني المُفضّل للتَفكِير)...لا أُنكِر أنّي خَائفةٌ مِن رَدّةِ فِعلِ عَلِيّ، خُصوصًا بعدَ رِسالَتِه وكَلامِ وَالِدَتِه قبلَ فِترة، وهِي تُشبِهه بالحَليمِ إذا غَضِب أثناءَ كَلامِها اللّطِيف المُبَطّن بنَبرَةِ تَهدِيد، حتّى كَلامِ خَوَلة يَرِنّ في أُذُنِي رغمَ تَشكِيكِها الدّائِم بكُلِ ما حَولها، لدَرَجة أفقِدُ بها أعصابِي، لَو تَعرِف بالكارِثة التي أقدَمتُ علَيها وهي تَحُثّني على إتمامِ زَواجِي مِن عَلِيّ: (فَكّري مَعي يا عَزيزَتي مينة..
أبوكِ كان عَبدًا لمؤامراتٍ حاكَتها له شُكوكُه وعقلُه المَريض، والتي كُنتِ ضَحِيّتَها؛ فأمُك لَا أرَها ضَحيّةً أبدًا، ابنُ عَمّك وخالِك صنعا مؤامرةً بمُحاولتِهما لإقناعِك بالدّراسةِ في الخارج، أخوك يحيكُ لكِ المؤامرات دائمًا، بدءًا مِن مُحاولاتِه الطُفوليّة كَي يُلهيكِ عن شِجاراتِ والدَيكِ، وانتهاءً بتَرحيلِك معه للخارِج، ويبدو أن خِطبتك مؤامرة مِن مؤامراتِه والآن أخبريني، مَن الرَجُل الوحيد في حياتِك، الذي لَم يكِد لكِ مؤامرةً يومًا؟ هذا الرجل رفَض أن يستخدِم هذا النوع الإيجابي مِن المؤامرات، أتعلمين لماذا؟ لأنّه يؤمن و يثِق بكِ، ويكرَه أن يحصُل على مآربِه نتيجةَ خِداعٍ ومؤامرات، رَجُل – رغمَ طبيعتي الشكّاكَة– أثِقُ بأنّه يُحبّك وسيُسعِدُك، رَجُل يُدعى عَلِيّ. انسِي الماضي يا مينة و تزوّجِيه، وإلا سأُزوّجُه للآنسة آية عمرو عبد السلام، على الأقل سترتاح علياء إن تخلّصَت من إزعاجِ ابنتِها). آية وعلياء رغمًا عنّي أضحكُ عندما أتذكّرهما و طريقَة تحاوُرهما، وتلك الصغيرة تُحاوِل أن تظهَر بمَظهرِ الكبيرة، وهَوَس علياء بالنّظافة، استغرَبتُ مرّة وسألتُها (كيف تستَطيع التَعامُل مع ابنتِها، أو بالأحرى كيفَ تتحمّلها!) أخبرتني: (إنّ الأمومةَ سِرٌ لا تُدرِكُه إلاّ مَن تُجرّبه، أنتِ تَرين آية مُشاغِبَة ولا تَستطيعين تَحمُّلَها، لكن ستَعرفين عِندما يكون لديكِ طِفل، لن تشعُري باتّجاهِه إلاّ بعَاطفةٍ لا تَستطيعين تفسيرَها) ولا أظُنّ أنّي سأُجرّب هذا الإحساس، رغمَ اشتِياقي ليكون لي طِفل لي وَحدي، يُشبِه مَن أُحِب.
سأترُك إخبارَ مازن بقراري لحِينِ عَودتي. اتّجَهتُ لغُرفَتي، وبدَأتُ حَملةَ التَنقيبِ عمّا سأرتديه اليوم، واتَتني اللَحظة لأكون إنسانة ثانية، وكذلك جاراتي ثيابهنّ جميلة، خُصوصًا الوافِدَة الجديدة (لين) وأنا لستُ إنسانة مُختلِفَة عنهنّ، ومِن حقّي أن أظهرَ بمَظهَرٍ أُنثَوِيٍّ جَميل. قلبتُ كثيرًا حتّى سقَطَت يدي على فُستانٍ بلَونٍ بُرتقالِيٍ غَامِق، لمَستُه بكُلِ رِقّة، وتذَكّرتُ أنّي لَم أرتَديه منذُ أن جلَبَه لي عَلِيّ، ذَوقُه جَميل، وكأنّه يَنطِق بالحياة. سأرتَديه اليَوم -و لسُخرِيَة القَدَر- دونًا عَن كُلِ الأيّام، أشعُر بخِنجَرٍ يُمزّق قَلبي.
أنهَيتُ ارتداءَ الفُستان، ونظَرتُ لنَفسي بغَرَابة! فُستان عَارِي الأكمام، وفَتحةُ الصَدرِ واسِعة نَوعًا ما، طُولُه يُلامِس رُكبتيّ، وحِزامٌ بُنِيّ يُزيّنُ الخَصر، يُحدّدُ الجَسَدَ بطَريقَةٍ جَميلة.. اليَوم، سأعِيش لنَفسِي فَقَط، سارَعتُ بوَضعِ لمساتٍ من الماكياج، سرّحتُ شَعرِي الأسود الناعم ورَفعتُ نِصفَه بمشبكٍ صغير ثم ارتدَيتُ حِذاءً بُنيّ عَاليَ الكَعبَين، ومَضيتُ بسُرعة لغُرفَةِ مازن. فتَحتُ الباب بينما أظن أنّه غَير مَوجود، لكنّه كان هُناك، يضَع بَعضَ الأوراق في الخِزنة، حالما رآني تصَنّع الدَّهشَةَ وهو يَقول: "عفوًا آنستي، يبدو أنّكِ دَخلتِ بالخَطأ إلى غُرفتي!". فعَاد يقول، وابتسامَةٌ تُزيّن وجهَه: "جميلة، وكأنّ الشمسَ أشرَقَت على بُستانِ بُرتقال، يبدو أن رؤيَة عليّ لها تأثير مُميّز". قالَها وهو يَغمِز بعَينِه (لا تَعرِف يا أخي، أنّي أدوسُ جَمرًا وألوكُ شَوكًا وأبتَسِم كَذِبًا) ادّعَيتُ الغَضَب واتّجَهتُ أيضًا للخزنة التي يحتَفِظ فيها بأوراقِ الشَرِكة المُهمّة وأنا أحتَفِظ فيها بخاتَمِ جدّتي - مُرتَبِطة بجِهازِ إنذارٍ كحالِ الشَقّة، لأن، حَسب قَولِه، ما فيها لا يخُصّه هو فقَط – أهدَته لي قبلَ سَنةٍ من سفَري، والكُل ظَنّ أنّها فعلَت ذلك لأنّي أُشبِهُها كثيرًا، لكنّها عرفَت أنّي أعشق الأشياءَ القديمة والخاتم يَعودُ للقَرنِ التاسِع عَشر، اشتراه جَدّي مِن مزادٍ في لندن وأهداه لها؛ من الغَربِ إلى الشّرق، وها هو يَعود إلى الغَربِ الضَبابِي. لابأسَ من ارتِدائه مع دِبلَةِ الخُطوبةِ التي تسكُن بِنصَرِي منذُ عقد قراننا، ورُبّما فقطَ لهذه الأيّام.
ناداني مازن، فالتفَتُّ إليه، "استمتعي بحياتِك ولا تترُكِي الماضي يسرِقك مِن حاضِرِك ومُستقبَلِك وتذَكّري أنّي مَوجودٌ دائمًا إلى جانِبِك مَهما حَدَث". أرهقَتني كَلِماتُه، فقلتُ له: "أعرِفُ ذلك، وأوقَن به بقَلبي والآن، سأتأخّر! سأُصَلّي المَغرِب، وأنطَلِق إلى نونِنا العربيّة" حيثُ أشعُر بالرّاحة وأنا أستَمتِع بحِواراتِنا رغمَ اختلافِ طِباعِنا. "لا تَنسِي أن تُسلّمِي لي على كوكتيل الأصول والجاذِبيّة ريتشيل!". قالها وهو يُمسِك قَلبَه بطَريقةٍ مَسرحيّة.
أكمَلتُ صلاتي وذَهبتُ لأُحضِر عباءَتي و حِجابي، وأنا أضَعُ هاتِفي في الحَقِيبة، سَمِعتُ صوتَ إغلاقِ الباب، فتوقعت خُروجِ مازن لأصدم برؤية عَلِيّ يَستَنِد إلى البابِ مِن الدّاخِل، ووَجهُه يَحمِل تَعابير مُضطَرِبَة، ما بينَ الغَضَبِ والتَعَبِ والشُحوب، وشَعرُه مُبَعثَر، فألجَمَتني الصَدمةُ مِن وجودِه ومَظهِره، وخَشيتُ من الآتي.
تصنّعتُ الشّجاعَةَ التي فَقدتُها كُلَها، وصَوتُ والدي يَعود ليَرِنّ بأُذُنَي مع بُكاء والدتي، فقلتُ له: "مازن خَرَج!"
ردّ بغَضَبٍ وبصَوتٍ مُخيف: "أعرِفُ ذلك، وهو يَعرِف بوجودي، وأيضًا أنتِ ذاهِبةٌ للِقاءِ جاراتِك؛ فلا داعِ لطَردِي بلُطف، لأنّي سأنتَظِرُك هُنا وهذا شيءٌ لا أقبلُ النّقاشَ فيه؛ لأن حياتَنا أصبحَت مُجرّد لُعبةٍ بينَ يدَيكِ، تتَسلّين بها دونَ أيِ اعتبارٍ لمَشاعِرِي، أو رُبّما اكتشَفتِ أن ارتباطَنا غير مُجدٍ بعدَ دِراسةٍ أجريتِها كما في عَمَلِك وامسَحي نظرةَ الذُعرِ مِن عَينَيكِ لأنّي لَن ألتَهِمك!". اتّهاماتُه مزّقَت روحي، وعقدَةُ حاجبَيه تزداد بينما عيناه أصبحتا بنَظَراتِ صَقرٍ سيَنقَضّ على فَريسَتِه في أي لحظة، لأدرك أخيرًا أنّني أقِفُ بذلك الفُستانِ أمامَه؛ فطوالَ السَنةِ والنِصف الماضية، كنتُ أرتدي كُلَ شيءٍ مُحتَشِمٍ أمامَه وأبتَعِد عنه قَدرَ الإمكان.
في غَمرَةِ أفكاري، وجدتُ نفسي أعضُّ شفتِي السُفلى ككُلِ مرّةٍ أشعُر فيها بالحَرَج، يبدو أنّ أفكاري لا مَحلّ لها من الإعراب وأنا أشعُر بصَدمة وأصابِعه تسحب شَفتِي من تحتِ كمّاشَةِ أسنانه بينما يُغمِض عينَيه قائلا: "اضطُرِرتُ لتَحمُّلِ هذه الحرَكة لفِترةٍ طَويلة، تُعذّبيني بها!" إنها رَغبةٌ عَارِمة بأن أنتَقِم مِن نَفسي قبلَ غَيرِي؛ فأنا اعتدتُ هذه الحرَكة منذُ أن كنتُ صَغيرة؛ أرَدتُ أن أنطِق بذلك، لكن حرَكةَ أصابِعِه وهي تَمُرّ على ذِراعي مَقرونَةً بكَلِماتِه حالت دون تحرك لساني : "دومًا بَشرتُك دافئة، ولَونُها حَيّرني حتّى بِتُّ أوقِن أنّ الشَمسَ تَسرِق مِنكِ دفئها، تُحاوِل مجاراة لَونَ بَشرَتِك الجميل؛ لَستِ سمراء ولا بَيضاء، لَونٌ ذَهبِيٌّ خَفيفٌ يَغمُرُكِ!". خَفَقاتُ قَلبي باتَت كطُبولِ الحَربِ تَضرِب بعُنفٍ وبِدَوِيٍّ عالِ، ورُكبتاي كالهُلام لا تَحمِلان ثِقَلَ جِسمي وكأنّه شَعُر بي فأحاطَت ذِراعُه بخَصري. حركَتُه تلك زادَت الأمرَ سوءًا، ولَم أعُد أملِكُ مِن مينة شيئًا وهو يُقبِّلُني برِقّةٍ و شَوق، تُشبِه تلكَ القُبَلِ التي لا يَخجَلُ الرِّجالُ هُنا مِن إغداقِ النساء بها أمام الناس، فاستَسلَمتُ لمَشاعِري التي تَعرّفتُ عَليها مُتأخِّرَة.
رنّةُ هاتِفِه أعادَتني إلى الوَاقِع وأدرَكت أنّ المَوقِف ليسَ في صَالِحي، فابتَعدتُ بسُرعةٍ اتبَعتُها بارتداءِ عَباءَتِي وحِجابي بسُرعَة وهو يَرُدّ على مُحدِّثِه. أمسَكتُ مِقبَضَ البابِ بسُرعَة وفتَحتُه لأسمَعه يقولُ لي: "لستُ نَادِمًا ولا آسِفًا على ما حدَثَ قبلَ قَليل، وقد انتَظرتُ كَثيرًا حتّى كَرِهني الصَبر.. الحديثُ بينَنا سيكونُ طَويلاً عِندما تَعودين". أغلَقتُ الباب، واستنَدتُ عليه مِن الخارِج أهمس لنفسي (أنا النادِمة أشَدّ النَدَم). وبعدَها اتّجَهتُ للسُلّم بدلاً مِن المِصعَد، صعودًا لشَقّةِ ريتشيل في الطابقِ الرابِع؛ كَي أتمالَك نَفسي قَليلاً.


**********

ريتشيل زينب

" خليل، كم عمرك؟"
للحظات طويلة ظننت أنه لن يجيب، اشتعل وجهي احمرارا لكني أبيتُ أن أتراجع فكتّفتُ ذراعيّ أمام صدري لأعطيه الانطباع بأني أنتظر ردا، أما خليل فكان يحدق فيَّ بنفس الغموض الذي يثير حنقي أحيانا! ابتسم ابتسامة صغيرة ثم قال " ثلاثون " خيبة الأمل قهرتني ولم أستطع اخفاءها، لم أشعر إلا وذراعاي تهبطان ببطء إلى جانبيّ لتخرج هذه التنهيدة اللعينة التي باتت تلاحقني.
عقد خليل حاجبيه الكثيفين لكنه كان يبتسم بمرح وهو يقول " كبير جدا على التبني، صحيح؟" ضحكة عالية خرجت مني بينما خليل يراقبني باستمتاع، قلت بعد أن هدأت من موجة الضحك " مؤكد لا أفكر في أن أتبناك " رسم تعبيرا لمن يشعر بالخيبة وهو يقول " هذا من سوء حظي " تنحنحتُ وأنا أدعي النظر إلى ساعتي لأقول له بعجل " لقد تأخرت جدا، ما يزال أمامي الكثير لأفعله " سِرتُ بخطوات حيوية وخليل يتبعني بأحماله الثقيلة دون مشقة، وصلت إلى المصعد قبله فالتفتُ إليه وأنا أقول له " خليل شكرا لك سأستخدم المصعد، لا داعي لتتعب نفسك أكثر." رد علي بلطف دون أن يتخلى عن حمل الأكياس " هل لديك مأدبة اليوم؟" ابتسمت وأنا أجيبه غامزة " مأدبة نسائية، أدعو جاراتي العربيات إليها يوم السبت عادة " ابتسم خليل وهو يعقب "تبدين مرتاحة لهن " ضغطتُ على زر طلب المصعد وأنا أرد عليه بصدق " جدا، إنهن مميزات وأشعر بالاستمتاع معهن " صوت وصول المصعد آذن بانتهاء محادثتنا فتحتُ باب المصعد وأسندته بظهري لأمد يدي نحو خليل حتى آخذ الاكياس منه لكنه أبعد الأكياس عن مرمى يدي وقال " دعيني أساعدك " رددت بامتنان " لا داعي، صدقني باب شقتي قريب جدا من المصعد " هز رأسه بنفي لم أفهمه ثم قال " لا أقصد بحمل الأغراض بل أقصد في التحضير للمأدبة " ارتبكت قليلا، أعترف بذلك، لكني تمكنت من قول الكلمات بابتسامة لطيفة " شكرا لعرضك السخي لكني لا أستطِع استغلالك هكذا، يكفيك العمل في المقهى." فاجأني خليل بأن دخل المصعد هو والأكياس ثم قال بإصرار " أنت لا تستغلينني أبدا، أنا أريد مساعدتك " غمز في وجهي وأنا ما أزال أشعُر بالارتباك ثم أضاف " لن تجدي أفضل من صبي مقاهٍ ليساعدك في تقشير وتقطيع البطاطا ولدي خبرة كبيرة في غسل الصحون أيضا " لم أبتعد عن باب المصعد وأنا أشعُر بالتردد يملأني، أنا لا أخشى خليل فهو شاب محترم، ولكني لا أعتقد أنها خطوة جيدة لتوطيد علاقتنا، لا تزال فكرة أني أكبره سناً تربكني، يا لها من فكرة سخيفة مؤرقة! من أدخلها في رأسي؟! أ هو أبي؟!
صوت خليل جعلني أتنبه لوقوفي الذي طال، قال لي بوجه لاح عليه بعض الجمود والكبرياء " إذا كنت لا تطمئنين لي قوليها زينب، لن تزعجيني، فهذا من حقك " تأوهت وأنا أنظر لعينيه السوداوين، فكرتُ في نفسي " لماذا عليّ أن آخذ الأمور بجدية؟! إنه مجرد صديق وصديق لطيف، إن لم أرتبط به عاطفيا فلماذا أخسر صداقته؟ وهكذا وبقرار لا رجعة فيه منحته ابتسامة واسعة وأنا أدخل المصعد معه وأقول " عليك أن تقشّر الكثير من البطاطا وتفرم الكثير من البصل " استعاد في لحظات سحره الخاص الذي يميزه، فقط عندما شع وجهه بابتسامة راضية!
***
كنّا واقفيَّن بجانب بعضنا نتساعد في غسل الصحون وباقي الأغراض التي استخدمناها بعد أن أنهينا سوية أيضا إعداد الطعام، خليل أفادني كثيرا بإعطائي بعض الملاحظات على مذاق الطعام، كان مريحا جدا ومسليا وبنفس الوقت مساعدا ثمينا، لم أتوقف عن الضحك وخليل يصف لي معاناته مع جارته العجوز وقطها الثائر دوما والذي لا يحب القيود، فيغافل صاحبته باستمرار ليخرج للشارع ولا يعود إلا عندما يجبره خليل على العودة بعد توسلات من العجوز المسكينة التي أنهكتها ملاحقة هذا القط الجامح!
كنت أمسح دموعي التي سالت من الضحك عندما تنبهت لنظرات الإعجاب التي يرمقني بها، أخيرا قال خليل وهو يستلم صحنا من يدي" وأنت؟ كيف هن جاراتك؟" ابتسمت بمرح ثم قلت " إنهن مميزات، حتى في سلبية بعضهن أجدهن مميزات" قال خليل وهو يضع الصحن مكانه بعد أن جففه " احكي لي عنهن " أملت رأسي جانبا بحركة عفوية ثم أطلقت صوتا مفكرا "امممممم " بعدها استدرت أليه لأعطيه صحنا آخر وقلت " سأبدأ بأكثرهن إثارة لفضولي، ديمة السورية " رفع حاجبيه بتساؤل وهو يتساءل " لماذا تثير فضولك؟!" هززت كتفيّ وأنا أرد " قد تبدو من الخارج امرأة مملة لا تهتم إلا ببيتها وأولادها وزوجها، نموذج لامرأة شرقية من النوع المنغلق، ولكنها ليست كذلك على الاطلاق! اشعر أن في رأسها الكثير من الافكار الخارجة عن المألوف، اختلاجات نفسية لا يعرف عنها أحد شيئا، كما أشعر أن روحها تتمرد على واقعها ولكنها تجيد لجم هذه الروح والسيطرة عليها " وضع خليل الصحن الآخر مكانه وهو يردد " فعلا تبدو مثيرة للاهتمام " قلت بجدية " مؤكد، أخشى أن تنفجر يوما بتحريض من روحها هذه " ابتسم وهو يسند يده على حافة الحوض ويستفسر " ماذا عن الأخريات؟" أعطيته شيئا آخر ليجففه وأنا أفكر ثم قلت " مونيا المغربية أحب جنونها وانطلاقتها، إنها لا تعترف بالحواجز وجريئة جدا وهذا ممتع ومنعش مع أنني لا أحب أن يكون الانسان خارج حدود السيطرة على الدوام " وقبل أن أنتظر ردا منه أضفت وأنا ابتسم بمرح " علياء مصرية، امرأة خفيفة الظل وبسيطة جدا، تحب عائلتها ولكني أشعر بأنها لا تجيد فرض سيطرتها في بيتها " أكملتُ وخليل يصغي باهتمام " مينا، هذه حكايتها حكاية " رد خليل " كيف؟!" قلت وأنا أشعر بشيء من التعاطف نحوها " هي عراقية، لديها ملامح تنقلك للبلاد القادمة منها، تشعرني دوما بأنها تحمل غضبا مكبوتا، وشعورا دائما بالرغبة في الهروب من شيء ما!" عبس خليل وهو يعقب " تبدو غريبة الأطوار " هززت رأسي نفيا وأنا أجيبه مدافعة " ليست غريبة، إنها فقط لديها طريقة معينة في حماية الذات " رد خليل بغموض " كلنا لدينا طرقا خاصة بنا " تنهدت وأنا أقول بأمل " اتمنى أن يعجبها (الفسنجون) ، صنعته خصيصا لكي يرفع معنوياتها ويقلل احساسها بالغربة " قال خليل بتساؤل " هل هي أكلة معروفة في بلادها؟" ابتسمت وأنا أجيبه " نعم، هذا ما علمته " ثم أعطيته بعض السكاكين ليجففهم بينم أكمل " أخفهم ظلا بالنسبة لي هي خولة، إنها سعودية، ليست خفيفة ظل بالمعنى المتعارف عليه مثل علياء مثلا؛ لكن تركيبة شخصيتها هي التي تشعرك بذلك " رفع حاجبيه وهو يقول " أثرتِ فضولي! " أغلقت صنبور الماء ومددت يدي لآخذ منشفة صغيرة ثم ارتكزت بظهري على الحوض وقلت له بمرح ومشاكسة وأنا أجفف يديّ " سأخبرك، (الكبسة) التي طبخناها الآن ستثير ارتيابها! ستعتقد أن هناك مؤامرة حيكت ضدها واني كإنجليزية أريد أن أنقل رسالة معينة لها ومؤكد رسالة سلبية! " ضحك خليل وهو يضع السكاكين مكانها وقال " لا أصدق! ولماذا سلبية؟!" قلت وأنا أرفع نظراتي للأعلى باستسلام " عقدة نظرية المؤامرة،" كتّف خليل ذراعيه وهو يستند بظهره للحوض بجانبي ثم قال بتأنيب مرح " إذن لماذا طبختِ هذا الطبق؟ هل تشاكسينها؟" ضحكت وأنا أجيبه " هذا واحد من الأسباب، والسبب الآخر لأن العرب بمجملهم يحبون هذا الطبق " شعرت بعينيه لا تفارقان وجهي ثم قال بصوت أجش " هل هناك المزيد؟" قلت ببشاشة وأنا أتجنب نظراته " مؤكد، إنها الحلوى، قطعة الكيك بالشكولاتة؛ لين، تلك الفتاة أعشق حالميتها الرومانسية، كما أعشق مشاكستها المحببة للنفس، أنا متأكدة من أنها تثير جنون زوجها ولكن بطريقة ايجابية طبعا " استدار جانبا وهو يحدق في عيني مباشرة، يسأل بصوت مبحوح " ماذا عن جارك؟ ذاك الرجل الذي يسكن في المبنى المجاور،كيف ترينه؟" ابتلعت ريقي وأنا أحاول اخفاء ارتباكي من قربه خلف لهجة من المرح " هل تقصد ذلك الشاب التركي الوسيم؟" أعطاني ابتسامة خلابة وهو يعقب بعيون لامعة " بداية موفقة " ضحكت لأغطي على اضطرابي المتزايد ثم قلت " حسنا، إنه وسيم لطيف وحنون " ارتجفت شفتاه وهو يجيبني " كيف تعرفين أنه حنون؟" رددت وما أزال أحاول جعل الأمر في حدود المرح " لأنه يساعد عجوزا في إيجاد قطها الهارب دون أن يمل أو يتذمر منها " خيبة أمل ظهرت على وجهه وهو يقول " فقط هذا؟!" قلت بلطف " ولأنه يساعد جارته الانجليزية في إعداد أطباق طعام غريبة عنها وكذلك في غسل الصحون" فتابع بينما يقترب مني أكثر " والانقاذ من حوادث الارتطام بالأطفال، وحمل أكياس ثقيلة " شعرت بسخافتي بينما أضحك كالبلهاء وأقول " وهذا أيضاً " اقترب جدا وهو يقول بصوت أثار قلقي كأنثى " إذن؟!" اختنقت وأنا أتساءل بغباء " إذن ماذا؟" تحرك ليقف قبالتي محتجزا إياي بين طوق ذراعيه بعد أن أسند يديه على حافة الحوض خلفي ثم قال دون اهتمام بانكماشي واحتباس أنفاسي في صدري " هل هذا كل شيء؟!" كان قلبي يقرع كالطبل ووجهي مشعا، شعرت بالخرس وأنا أحدق فيه واحساس بالحيرة الرهيبة يتملكني ثم قلت أخيرا بصوت مبحوح متردد " إنه في الثلاثين " نظراته كان جدية تماما وهو يتساءل " و..؟" رددت بصدق وخيبة واضحة " وأنا في الثالثة والثلاثين " ضيّق عينيه قليلا وهو يقول باستنكار" هل هذه مشكلة؟" هززت رأسي وأنا أقول " نعم، مشكلة بالنسبة لي " مرت لحظات ونحن نحدق ببعضنا على نفس الوضعية ليقول خليل بابتسامة قلقة حاول جعلها مرحة " ماذا إن قلت أن عمره ثلاثون سنة وتسعة أشهر هل سيغير من الأمر شيئا؟ إيجابيا طبعا!" شعرت بالتراخي فقلت مراوغة " ربما " كلمة واحدة مني جعلت نظراته تتركز على شفتي، أذناي تطنان وأنا أراقب رأسه يقترب مني ونيته واضحة حتى لطفل رضيع! لكن صوت الجرس أجفلنا معا قبل أن يصل اليّ فقلت بأنفاس متقطعة " الجرس.. يرن " تنهد بإحباط دون أن يبتعد وقال " أعرف " ثم أضاف بابتسامة " يبدو أن أولى ضيفاتك وصلت "


*************

لقاء الزئبق والحرباء

لم تكن قد مرت الساعتان منذ أن قرعت أجراس بيج بن معلنةً نهاية يوم الجمعة و ميلاد يوم السَبُوت، ليدخل مسيو ميركري شقته المطلة على خليج دوغلاس.. كان عائداً من المطار كمن يمتطي جواد الشوق الجامح بعد أن غاب أياماً وأيام عن بستان الأنوثة الذي اعتاد أن يسكر بخمر ثماره ويغفو بظل أشجاره و يسبح بشلالات عذوبته، إنها زوجته. هذا الحضن الذي احتواه، فكانت حريته و سجنه، انطلاقه و سكونه، شريكه و منافسه، كانت له الشيء و ضده، كانت كل الأشياء.
هي المرأة التي تسرقه من ذاته وتعيده إليها كل ليلة و هو راضٍ بكل ما تفعله، خاضعٌ لذاك البريق اللؤلؤي المشرق من عينيها، العيون التي تبدأ عندها الحياه و عندها تنتهي. مستسلمٌ لهذه الشفاه التي تـُـقبلها نظرات العيون، فتنتشي بها أرواح الناظرين.
دخل شقته، شقة يظنها الزائر أنها متحفٌ لكنوز التاريخ وألقى معطفه والحقيبة على الأريكة و أسرع ملهوفاً إلى غرفة نومها. وقف بجوارها و هي نائمة و في حضنها تنام كل أحلام البشر. تصمت الدنيا حولها كي لا تـُعكر صفو غفوتها و يـَلـُف الضباب نوافذ غرفتها بديلاً عن الستائر ليخفيها غيرةً من عيون النجوم التي تتلصص عليها من خلف النوافذ.
خلع حذاءه و تسلل بجوارها تحت الغطاء كعاشق تسلل من صفحة رواية إلى سريرها، كالراعي عازف الناي الذي تسلل فوق جدار بستان الملك لترتشف عيناه رشفة من كأس السحر، من عيون ابنته ست الحسن في ألف ليله وليله. وضع رأسه على الوسادة بجوار رأسها وكتم أنفاسه كي لا تـُـقبل وجنتيها.
لازالت هي نائمة، مغمضة العينين.. لمس شفتيها بشفتيه، فابتسمت و هي نائمة ليهمس و هو مغمض العينين؛ هل تأخرت عن هذا الجمال الناعس في دُنيا الخيال؟؛ لم تُجِبه ولكنها أحاطت عنقه بذراعيها وهي نائمة، تهمس كمن تُجيبه من هناك، من منتصف الحلم الوردي؛ لا، لم تتأخر لأنك لم تغب؛ صمتت و صمت هو و صمتت معهم الأرض و ما عليها.
لم يكن هذا الصمت إلا بداية العاصفة الوشيكة، فبعد دقائق راحت تمد ذراعيها تتمطى كالهرة السيامي في دلال ثم غادرت الفراش قبل أن تغادر الشمس مخدعها و قبل أن يتنهد الفجر تنهيدة الصباح، فقد كانت الساعة تشير إلى الرابعة عندما قامت الزوجة لتغتسل و ترتدي زيها الأسود الذي لا يزيد عن بنطلون و تيشيرت.. و راحت تعد حقيبتها وتلبس قفازاتها الجلدية و لكنها كعادة كل نساء الدنيا؛ قبل خروجها؛ فتشت جيوب معطفه الملقى على الأريكة لتقف بعدها و قد تحولت القطة الرقيقة إلى نمرٍ شرس و هي تمسك في يدها صورةً لفتاة. أخذت الصورة و عادت بها إلى غرفة النوم ثم قفزت لتجلس على صدره، تكتم أنفاسه بركبتيها و تصرخ فيه بغضب؛ قم! استيقظ! فقد حانت ساعة رحيلك عن الدنيا الآن!
فتح عينيه يجيبها وهي تجلس على صدره و كأنها تمتطي جواداً؛ هل أقبل عزرائيل؟ الآن!؟ أليس الوقت مبكراً!؟؛ صرخت فيه غاضبة و هي تفرك الصورة على أنفه و عينيه؛ من هذه أيها الخائن المخادع؟ أجب قبل أن أزهق روحك.
- هذه مونيا.
- ومن تكون هذه الموميا التي تحفظ صورتها في جيب معطفك العلوي؟ و كأنك تـُسمع صورتها نبضات قلبك؟
راح يضحك من ثورتها و هو يقول لها و على وجهه أمارات العشق والهيام؛
- أهذه موميا أيتها الكاذبة! أليست أجمل منكِ؟ هل ذهبت الغيرة من حسنها بعقلك لتقولي عن هذا السحر مومياء. انظري إلى سحر عينيها، شفتيها، خديها، وخصلاتها الغجرية التي تعبث على خدها التفاحي، سامحيني، أنا لم أحتفظ بصورتها في جوار القلب إلا بعد أن علمت أنها ليست كغيرها من النساء، إنها خـُـلقت من رحيق الزهور .
تسمعه زوجته في صمت، ما تزال تجلس على صدره و لكنها ما إن انتهى من كلماته حتى ابتسمت في خـُبث و نزلت عن صدره وهي تقول:
- لن تنال منى مغزاك، تريدني أن أحترق غيظاً؟ أليس كذلك؟ لا! لن يكون.
ثم ألقت بالصورة على وجهه و قالت في غضب حاولت إخفاءه؛ اشبع بمونياك، فالوقت يجري و لدى ما يجب أن أفعله الآن؛ ثم توجهت نحو الباب للخروج فقفز من سريره ليلحق بها يضمها إليه و يهمس لها؛
- ليس في هذه الدنيا من يمكنه سرقة روحي و فؤادي إلا تنهيدة منكِ.
- إذن! من تكون مونيا الجميلة هذه؟
- إنها صاحبة الفضل عليْ لكونها باكورة أعمالي كقاتل محترف، فقد كلفني أحدهم باغتيالها.
- سأتناساها الآن ولكن إن سمعتك تتحدث عنها مرة أخرى بهذا الهيام سأقتلها أنا نيابة عنك وستكون هي ثانية أعمالي كقاتلة بعد أن تكون أنت الباكورة.
غادرت الزوجة و بدأ هو في التهيؤ ليتوجه إلى هذه العمارة التي تقطنها ضحيته المرتقبة مونيا، ليدرس مداخلها ومخارجها و يرسم خطته لاغتيالها هذه الليلة و لم تمضِ سوى لحظات حتى كان الزئبق يسير بالشارع على قدميه، يضع يديه في جيوب معطفه و يرخي قبعته على وجهه، فالعمارة المقصودة قريبة والصمت يحتضن الشارع لا يعكر صفوه سوى بعض أنات لنسمات الفجر الرضيع.
وصل إلى العمارة ودار حولها يطالع نوافذها وشقق العمارة غارقة في الظلام.. و بعضها تسبح في ضوءِ خافت .
اقترب من العمارة وتلفت حوله و وقف إلى الجهة الخلفية من العمارة، بيده خيطاً رفيعاً آخره هلبٌ مُثبّت بفوهة مسدس كبير أخرجه من حقيبته ثم أطلقه حتى استقر الهلب الصغير بحافة الجدار و برشاقة القرود تسلق الخيط حتى بلغ السطح. استراح قليلاً و تأكد من أن أحداً لم يلمحه ثم راح بعدها يتدلى بخفة من جديد بعد أن جعل الخيط يواجه النوافذ الخلفية و لما واجه أول نافذة لمطبخ الشقة التي تحت السطح، تعجب لكونها مفتوحة، فولجها مسرعاً ينوي الخروج من بابها الرئيسي إلى سُلم العمارة الأمامي .
دخل مطبخ الشقة بالدور السادس و الغارق في الظلام، يفكر بأن قاطنيها غارقون في نومٍ عميق.. لذا أختار هذا الموعد الذي يفضله كل اللصوص، فساعات ما قبل الفجر أكثر لحظات النوم استغراقا في العيون. همّ بالخروج من المطبخ إلى الصالة ليخرج من باب الشقة متوجهاً إلى مسكن مونيالكن فجأة سمع صوت أقدام كحفيف الشجر تقبل نحوه من الصالة، فسارع بالاختفاء خلف ستائر النافذة بسرعة و كتم أنفاسه وما هي إلا دقيقه حتى لمح من خلف الستائر ربة المنزل تدخل المطبخ بثيابها السوداء.
وقف مختبئاً يتعجب من سلوكها، تمشي على أطراف أصابعها بخطوات لا تترك صوتاً و كأنها تسير في الهواء، لم تضئ مصباح المطبخ و لكنها راحت تحوم في المطبخ على هدى ضوءٍ خافت ينبعث من مصباح (بطاريه) في يدها. فتحت باب الثلاجة ثم احدى الأواني فإذا به يسمع شهقتها ثم صوت وضعها الإناء على الأرض و بدأت تلتهم ما به من طعام.
هنا فقط ابتسم الزئبق، فهذه ليست ربة المنزل، إنها لصة! خرج دون صوت من خلف الستارة ووقف خلفها و هي منهمكة في التهام الطعام فلم تشعر به.
كانت كلتا يداها مليئتان بمحشو ورق العنب و خديها منتفختان بما حشته في فمها مره واحده بملفوف ورق العنب المحشو باللحم و الأرز المتبل، تزوم استمتاعاُ بطعمه. فضحك وهو يقول همساً: كاميليون. ماذا تفعلين هنا!؟
كانت المفاجأة مفزعة لها و هي تجلس على الأرض و الإناء بحضنها و الأرز يتناثر من فمها المنقوع بالزيوت و لكنها تنفست الصعداء عندما رأت وجهه على ضوء المصباح وقالت له هامسة؛ اجلس.. اجلس!؛ فهذا أشهى طعام تذوقته في حياتي.
سارعها قائلاً؛
- ماذا تفعلين هنا؟
- تعلم أني خرجت دون أن أتناول إفطاري.
- و هل دخلت هذه الشقة لتناول الإفطار؟ ألهذا غادرتِ شقتنا قبل الفجر!!؟
- لا، أنا جئت أقصد ذاكرة تخزين في الشقة التي تحتنا، فدخلت من شباك مطبخ هذه الشقة المفتوح، مجرد طريق و لكني وجدت فيها أشياء سال لها لعابي، فقررت تأجيل شقة الطابق الخامس إلى المساء و لكن قل لي!.. مالذي أتى بك هنا!؟ أكنت تتبعني ظناً منك أني خرجت لخيانتك!؟ فالخائن مثلك يا قتيل مونيا يرى كل الناس خائنون.
- مونيا تقيم في هذه العمارة يا حبيبتي. أظنها بالطابق الثالث، لقد ظلمتني و ظلمتها، هيا بنا قبل أن يستيقظ ساكني الشقة.
- لا، اذهب أنت! فلن أغادر هذا المطبخ قبل أن أنتهى من إفطاري اللذيذ.
ابتسم لها و هو يعقب؛ ستبقى الحرباء هي الحرباء ثم تركها مع وجبتها و غادر الشقة من بابها الرئيسي و أغلق الباب خلفه في هدوء.
هبط السلم بخفة حتى بلغ الطابق الثالث، وقف و هو يتلفت يميناً و يساراً يتساءل أي الشقتين تقيم فيها حسناء المتوسط مونيا؟ كان الوقت يمر بسرعة، فمد يده إلى باب إحدى الشقتين و عالج الباب بأداة كانت معه ثم دخل الشقة مسرعاً.
مشي بخفه في الصالة، فجأة.. سمع صوت غناء يأتيه من إحدى الغرف "يا صباح الخير ياللي معانا. ياللي معانا. الكروان غنى وصحانا، وصحانا" ثم أحس بخطوات صاحبة الصوت تتوجه ناحيته، فأسرع يختبئ مرة أخرى خلف إحدى ستائر الصالة يحاول كتم ضحكاته و هو يتابع حركات سيدة الشقة. إنها ليست مونيا التي يحمل صورتها، هي سيدة أخرى جميله و رشيقة القوام كفرعِ بان مال مع الهوى، تُعلم الأغصان التمايل بمشيتها وتعلم البلابل الغناء بترنيمها و لكنه لم يلتفت كثيراً إلى جمالها، فقد كان يحاول كتم ضحكاته يفكر بأنها امرأه غريبة الأطوار، تتابعها طفله تتحدث معها كأنها عجوز، الطفلة أكثر غرابة من أمها فكر مجددا خلف الستارة يتابع و يكتم أنفاس ضحكاته بيده، فقد وجدها فجأة تقف في منتصف الصالة تكف عن الغناء ثم تطيح بخصرها تتمايل مع شعرها الفاحم ثم تضحك وتحدث نفسها. هأ هأ هأ هأ! لا، هذه ليست رقيعه.. هئ هئ هئ هئ. امممممم و لا هذه .
ثم عادت للغناء و توجهت إلى المطبخ ليجدها الزئبق فرصة مناسبه ليخرج من الشقة مسرعاً و لكنه أضطر للعودة داخل الشقة من جديد.. إذ شعر بصوت باب يُوصد في الشقة التي تعلوه و تهبط السلم فتاه ترتدي ثيابا رياضية، يبدو أنها تتجه الي الشارع لتمارس الجري. انتظر حتى تأكد من نزولها و تخطيها الدور الثالث ثم تبعها ينزل السلم ليغادر العمارة بعد أن بدأ سكانها في الاستيقاظ.
خرج ليجد الحرباء قد سبقته تقف بجوار أحد صناديق البريد عند مدخل العمارة.





السرقة

بدأت الحياة تدب في الشارع مع شروق شمس السبت الكسلى، شمسٌ بلا دفء، باردة كبرود الإنجليز تاركة الشوارع فريسة سهلة للضباب، فراحت أوصال الأرصفة والسطوح و النوافذ ترتعش من هواء يخفي المُدى و خناجر الصقيع خلف ظهره بينما كانت السماء تبصق رضابها الجليدي على هذه المدينة احتقارا لماضيها الذى أتعس الإنسانية أمداً طويلاً.
هكذا كان يراها كل يوم هذا الرجل الأشيب الوقور ذو النظارة السميكة والذى يقف بنافذته بالطابق الأرضي كل صباح يتابع في صمت حركة الحياة وهي تحبو ثم تدب خطواتها الأولى في الشارع، فقد كان ذلك عهده كل صباح.
أما اليوم فلم تكن عيونه ترقب الحياه و حركتها بل كان شارداً يعبث في ذقنه بمغلف بني اللون و عيناه تتفرسان في وجه هذه الفتاه التي تقف بالقرب من صندوق البريد عند باب العمارة تتلفت حولها ثم لم يلبث أن انضم إليها شاب سميدعيْ الطول، ليضع ذراعه حول خصرها و يمشيان على مهل حتى تخطيا الشارع إلى الجانب الآخر ثم جلسا يحتسيان الجعة في ذلك البار المواجه للعمارة.
همست وهي ترتشف من كأس جعتها " لماذا تأخرت هكذا ميركري ". فأجابها وهو يضحك و يقص عليها قصة هذه الحسناء التي كانت تعلم نفسها كيف تتمايل و كيف تضحك ضحكة إغراء رقيعة تسرق بها القلوب لتشارك الحرباء على عرش اللصوصية.
ثم التفت الي الحرباء و هو يغمز لها بعينه قائلاً "يبدو يا عزيزتي كلكن لصوص". فأجابته الحرباء حانقة " و بالطبع أعجبك تمايلها و ضحكاتها" فنظر إليها وهو يتكلم بجد قائلاً :
"نعم أعجبني و لابد أن يعجبني رؤية أثر ثقافتنا وهي تلقى رداءها على أرواح هؤلاء العرب، ها هي هذه المرأة تبدأ أول خطواتها لتكون مثلنا، تفعل هذا بمنزلها اليوم و غداً في الشارع، المهم إنها أدركت و اقتنعت بأن قدرتها على الإقناع تكمن في مفاتنها لا في عقلها."
فقاطعته الحرباء قبل أن يكمل وجهة نظره و هي تقول؛ " لا! أنا أعلم بهؤلاء العرب منك، إن المرأة العربية كأي امرأه، تعلم أن لأنوثتها تأثير لا يقاوم و لكنها في ذات الوقت تعلم متى ولمن تشهر هذا السلاح، فلا تعول كثيراً على نظريتك هذه في تغيُر هؤلاء القوم هنا." قطب الزئبق جبينه و طرح على الحرباء سؤالاً و كأنه تذكره الآن: "كاميليون، أتصدقين أني لا أعرف موطنك و لا أعرف جنسيتك الحقيقية إلى الآن؟ منذ أن التقيت بكِ و أنت تهربين على حدود ألمانيا و أحببتك من النظرة الأولى ثم تزوجنا و منذ ذلك الحين و أنا أنوى أن أسألك عن وطنك و لكن في كل مرة أنسى.
راحت الحرباء تضحك بمكر ثم قالت ؛ " ما أبدعك عزيزي ميركري، بعد هذه السنوات تسأل عن وطني، أنا ما تزوجتك إلا ليكون لي وطن، أنت وطني، أتظن حقاً أن زواجنا جاء عن هذه المشاعر الحمقاء التي يسمونها البـُلهاء "حباً"؟ زواجنا يا عزيزي كان زواج مصلحة لي و لك، أنت لتوفر لي الوطن وأنا لأعينك على تنفيذ سرقاتك التي لا تنتهي، هذا هو الرباط المقدس الذي يبقى، يموت الحب ولا تفنى المصالح، أنا أتعجب من العر ب سكان هذه العمارة لهم أوطان ويهجرونها، هم لا يستحقونها يا ميركري، أليس كذلك؟ نحن فقط من نعرف قيمة الوطن ونسعى إليه.
- نعم صدقتي كاميليون، هؤلاء العرب لديهم ما لا يستحقونه، لديهم ثروات لا يجب أن تكون في أيدى حمقى أمثالهم، إنهم عالة على كوكبنا يستنفذون بعضاً من موارده دون فائدة.
ثم قطع الزئبق حديثه فجأة و انتبه إلى باب العمارة الذي خرج منه شاب وسيم في يده طفلة بزيها المدرسي ليقف معها هناك في انتظار الباص بينما مرت من أمامه مونيا تحمل طفلاً وألقت على الشاب التحية ثم فتحت الباب الخلفي لسيارة أنيقة رباعية الدفع بينما راحت أعين الشاب تختلس النظر إلى ساقيها و هي منحنية توثق طفلها بالمقعد الخلفي، أما الطفلة فقد كانت تنظر إلى أبيها و تهز يده كي ينتبه إلى الباص الذي وصل ولكنه كان شارداً بخياله و عيناه شاردتان تمرحان على قوام مونيا و لم يفق حتى وكزته ابنته بقدمها غاضبة في قصبة رجله ليذهب بها إلي باب الباص في اللحظة التي انطلقت فيها مونيا بسيارتها.
في اللحظة التي وكزت الطفلة أباها وكزت الحرباء بكوعها الزئبق وهي تسأله:
- لماذا تنظر إلى هذه الفتاه هكذا؟ أأعجبتك؟
- ألم تعرفيها!؟ إنها ضالتي مونيا، أنا لم أكن أنظر إليها بل كنت أتابع نظرات هذا الشاب الذي ينظر إليها و ابنته.
- نعم عرفت إنها مونيا، أنسيت أني رأيت صورتها، ألا تعرف أنت هذا الشاب؟
- لا، لا أعرفه، أظنه من أولئك العرب الذين تركوا بلادهم ليتزايدوا كالجراد في أوروبا.
- نعم هو عربي وزوج المرأة التي تجيد الطهو و التي أفطرت اليوم عندها، لقد أنهيت إفطاري و تجولت في شقتهم التي تشبه المتحف و هم نائمون، فرأيته و رأيتها.
- يبدو أن زوجته ليست جميلة، فقد كادت عيناه تخرج لتتدحرج على سيقان مونيا.
شهقت الحرباء و هي ترفع حاجبيها متعجبة؛ "من قال إنها ليست جميله! قوامها الملفوف لا يضاهيه في الفتنه إلا ملفوف ورق العنب الذي تصنعه يديها، إنها ملفوفة تميل إلى السمنة برشاقة و جمال، كم أتمني أن يكون لي مثل قوامها، قوام تهفو إليه الأحضان ليملأها دفئاً، زوجته يا ميركري تصرخ بالأنوثة و الفتنة التي تذيب الجليد في منتصف كانون الثاني ولكنكم جميعاً هكذا معشر الرجال، يقتل الرجل نفسه حتى يظفر بأنثاه وما إن يحتويها بين ذراعيه حتى تروح عيناه تبحثان من جديد، هو و أنت وغيركما من الرجال كهذا، الرجل النهم.
استوقفها الزئبق عن الحديث الذي بدأت تمطره به وهي تحتد على رجال العالم كلهم و قال لها : "يبدو أني سأعيد التفكير في اغتيال مونيا هذه."
- هل أعجبتك أنت أيضاً و رأيت أن هذا الجمال لا يجب أن يُقـْبَر؟ أم أنك تعاطفت معها بإنسانيتك المفرطة أيها القديس؟
- دعك من هذه السخافات، ليس تعاطفاً ولا إعجاباً، فهي ليست إلا مجرد عربيه و مسلمة.
- إذاً ماذا؟ أليس هذا أدعى لقتلها؟!
- ليس في قتلها ما يفيدنا بل بقاؤها أكثر جدوى لتكون شوكة في ضلوع هؤلاء العرب و ذريعة أبتز بها مزيداً من المال من ذلك المدعو بن موسى.
صمتت الحرباء قليلاً ثم قالت للزئبق؛ " لقد ألهمتني يا رجلي الحبيب، أنا أيضاً لن أسرق هذه التصميمات من هذا الغر العربي المدعو خالد سعد، بل سأكتفي بأن أعبث في تصميماته وأغير بعض قيمها لتضيع على شركته المناقصة بسببه، فمثله لا يستحق أن ينظر له مثل النظرة للأكفاء، لابد أن تفشل تصميماته فيطردوه من لندن شر طرده ويكفيني ما أخذته من ريتشارد اللعوب.”
فابتسم لها الزئبق وهو يقر بمكر؛ " ما أخبثك وأدهاك في الكيد يا سليلة يهوذا، هيا بنا لنكمل عملنا، أظن أنه قد خلت بعض الشقق من سكانها بعد خروج رجالها ونسائها للعمل.
فتقدمته الحرباء بخطوة.. وفجأة.. مر من أمامها صبي مسرعاً بدراجته كاد أن يصدمها لولا أن الزئبق جذبها إليه من ذراعها بسرعه ليصطدم الصبي بفتاه أخرى عند باب العمارة، فسقطت على الأرض وتناثر ت الأكياس التي كانت تحملها في يدها.
تقدما إلى العمارة و لكنهما توقفا عند مدخلها للحظات، فقد كان هناك الشاب و الفتاة يقفان عند باب المصعد يحاول هو أن يحمل عنها أغراضها فتتدلل وسمعا طرفا من حوارهما معا.
نظرت الحرباء إلى الزئبق نظرة ذات مغزى عندما سمعت الفتاة تقول له " لدي مأدبة نسائية.. أدعو جاراتي العربيات إليها يوم السبت عادة " ..
وبعدها استقلت الفتاة و الشاب المصعد،فصعد الزئبق والحرباء على سلم العمارة بخطوات حذرة وقبل الطابق الرابع، توقفا فجأة واستندا إلى الجدار، فقد كانت الفتاة تتلفت إلى أعلى وأسفل السلم لتتأكد من أن أحدا من جيرانها لم يرها وهي تصطحب شابا لشقتها وما إن دخلت الفتاة بصحبة رفيقها إلى الشقة وخلا الطريق وقف الزئبق والحرباء بالطابق الرابع أمام شقتها يسترقان السمع ولكنهما لم يسمعا شيئا إلا أن الحرباء فجأة كادت تسقط من الضحك وهي تنظر إلى باب الشقة المواجهة لشقة الفتاة، فقد كان باب الشقة مفتوحا، فما كان من الحرباء إلا أن دفعته بإصبع يدها لينفتح على مصراعيه وراحت تضحك و تهمس للزئبق؛ "لابد و أن ساكنة هذه الشقة سكرى لتترك بابها مفتوحا هكذا ولكنها أحسنت صنعا ويسرت لي الأمر .. ما أرقها من فتاة! "
دخلت كاميليون الشقة و باءت محاولات الزئبق بالفشل إذ لم يستطع سماع حديثهما معا، فلحق من فوره بالحرباء ليجدها تقف بغرفة النوم وفي يدها ساعة موريس، فابتسم قائلا لها: "يبدو أن غزالتي قد وجدت صيدا ثمينا بهذه السرعة.”
- أبدا.. ليست إلا ساعة ثمينة ولكني أكره الساعات، فدقاتها السخيفة تصيبني بالقلق وتذكرني بجريان عمري و تسلله مسرعا من بين يدي.. ألا تعلم يا عزيزي أن المرأة والزمن خصمان لدودان ؟.
ضحك الزئبق وهو يمسك في يده هاتف جوالٍ على شاشته مكالمة غير مستلمة (ميسد كول) باسم "رشودي الدفش "فانطلقت الحرباء ضاحكة وهي تقرأ هذا الاسم و تقول؛" ألم أقل لك إن صاحبة هذه الشقة سكرى.. ها هي قد نسيت هاتفها أيضا" ثم أغلقت الهاتف حتى لا يلفت رنينه النظر فينفضح وجودهما بالشقة.
فجأة توقفت الحرباء عن كلماتها المرحة وتغيرت ملامحها الجميلة لتحل محلها ملامح الشيطان ذو الوجه الدميم ثم تقدمت إلى طاولة بجوار السرير ، أمسكت في يدها كتابا كان على المنضدة تفكر بأنها رواية، قرأت عنوانها بصوت مسموع، فخرجت الكلمات على
لسانها و كأنها تتقيأ حروفها قيئا ثم أمسكت بقلم أحمر شفاه من على منضدة الزينة وكادت تلطخ به عنوان الرواية "عائد إلى حيفا" لولا أن الزئبق أمسك يدها في اللحظة الأخيرة.
- ماذا تفعلين كاميليون؟ لماذا تغيرتِ هكذا؟ أفقدت عقلك وسيطرتك؟ ما لك حبيبتي؟ لا يجب أن نترك أي أثر خلفنا؟
- آسفة ميركري، لم أتحمل هذا العنوان السخيف، فأردت أن أمحوه و أكتب لهذا الكنفاني الأحمق عنوانا آخر " أبدا لن تعود "
وقبل أن يجيبها الزئبق حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد عاد في هذه اللحظة إلى الشقة أصحابها، فقفزت الحرباء والزئبق ليختفيا تحت السرير بغرفة النوم حيث دخلت فتاة غاضبة وألقت بأزهار كانت بيديها ثم ألقت بنفسها على السرير و راحت تبكي بينما هناك طرقات عنيفة على باب الغرفة و صوت جهوري يصرخ بها " افتحي الباب يا لين، وكفاك تصرفات طفولية ".
أحس الزئبق والحرباء بالورطة التي لم تكن متوقعة، فقد أغلقت الفتاة باب غرفة النوم عليها وعليهما بالمفتاح من الداخل وظلت ملقاة على سريرها تبكي وتتألم حزنا دون أن تدري أن تحته ضيفين متسللين.





العقد الفريد



بعد أن توقفت طرقات الباب العنيفة، بدأ النعاس يداعب عيون هذه الفتاة الحزينة التي تدعى لين وهي ملقاة بملابسها على السرير ، وكأن النعاس تسرب من عيونها وبدأ يتقاطر من فوق الفراش لأسفله ليسقط في عيون الحرباء التي بدأت تتثاءب تحت مخدع الفتاة بينما يضع الزئبق كف يده على فمها حتى لا تصدر صوتا.
كانت الحرباء تشعر بتعب شديد، فقد استيقظت منذ الرابعة فجرا ولم تنل أي قسط من الراحة، فراح النعاس يطرق جفنيها بقوة حاولت مقاومتها ولكنه كان ذو سطوة وغلبة على يقظتها، فأغمضت عينيها بعد أن جعلت من ذراعها وسادة لرأسها وسرعان ما كانت تغط في نوم عميق .
نامتا الفتاتان وما زال الزئبق يقظا ينظر الى جميلته التي تغفو بجواره تحت السرير ، فابتسم متعجبا من هدوءها ولامبالاتها.. كيف تنام وهي في هذا الموقف العصيب؟ ولكن لا عجب ..إنها الحرباء .. المغامرة الجريئة فريدة عصرها حُسنا وجرأة.
رفع الزئبق رأسها برفق ووضع ذراعه تحت رأسها وضمها إلى صدره ليحتويها في حضنه، ليس عشقا وهياما بسحرها الذي فاق الخيال ولكن خوفا من أن تتقلب أو تتمطى وتتأوه في نومها كعادتها فتفضح وجودهما.
استمرا على هذا الحال وقتا من الزمن حتى سمع الزئبق صوت انفتاح القفل ليدخل إلى الغرفة شاب يتسلل برفق نحو مخدع الفتاة وفي يده "مفك صغير" . ابتسم الزئبق وهو يرى صاحب الشقة يسلك مسالك اللصوص في فتح الأبواب وكتم أنفاسه وأنفاس الحرباء النائمة بجواره بينما يسمع همسات العتاب بين الزوجين وإن هي إلا لحظات معدودة حتى خرج الزوجان من الغرفة ليجدها الزئبق فرصة مناسبة ليخرج من مخبأه، لكنه سرعان ما عاد إليه مرة أخرى بعد أن وجد الزوجين على مقربة منه في المطبخ، وأيقظ الحرباء التي كانت تفتح عيونها بصعوبة وهي تدفعه بعيدا عنها لتستكمل نومها وكأنها تنام في فراشها.
وكم كانت الأقدار رفيقة بحال اللصين، فلم يمض وقتا طويلا حتى عادت الفتاة لغرفتها تستبدل ثيابها وتتزين بينما الزئبق يراقب قدميها وبعضا من ساقيها من تحت السرير ، فانتبهت الحرباء وقد طار النوم واستبدلت النعاس في عينيها بنظرة تحذير للزئبق ثم وضعت يديها على عينيه حتى لا يرى الفتاة وهي تستبدل ثيابها.
بعد قليل ساد السكون في الشقة معلنا خلوها من أصحابها، وكانت الساعة قد تخطت الخامسة مساءا بقليل، فخرج اللصان من مخبأهما ليغادرا ولكن عند الباب نظر الزئبق من العين السحرية ليجد صاحبة الشقة لين تقف مع الفتاة الأخرى صاحبة الضحكة الرقيعةتتهامسان أمام باب الشقة المواجهة، وما إن دخلتا الشقة بعد أن طرقا بابها حتى انتظر اللصان بعضا من الوقت وهما يتابعان عددا من ساكنات العمارة يدخلن إلى الشقة المواجهة وحين هدأت حركة السكان على سلم العمارة، أسرع الزئبق والحرباء بالخروج من شقة لين.
وبينما هما على السلم أمام المصعد ليغادرا العمارةقالت الحرباء للزئبق؛" أنا لن أغادر العمارة الآن! اذهب أنت! فأنا استرحت بما فيه الكفاية ولن أخرج خالية الوفاض بعد هذا اليوم الطويل، يبدو أن نساء العمارة ضيفات على هذه الشقة وبعض من رجالها خرجوا، هذه فرصة لا أضمن أن تتاح لي مرة أخرى لأدمر هذا العربي الذي يصفونه بعبقري هندسة المعمار ،اذهب يا حبيبي!.. أنت لم تسترح منذ عودتك من السفر وسوف ألحق بك سريعا". كان التعب قد بدأ يدب في أوصال الزئبق، فوافقها بسرعة وهبط هو بالمصعد ليغادر العمارة بينما صعدت هي السلم إلى الطابق الخامس، فقد كانت الحرباء تعرف مسكن خالد سعد الذي أخذته من ريتشارد.
حقا أميرة للصوص هي، فلم يصمد باب شقة خالد سعد أمامها أكثر من ثلاث دقائق حتى انفتح على مصراعيه وكأنها سحرت الباب بلمسة من يديها وكأن الباب يقول لها؛
" شبيك لبيك يا فاتنة الدنيا وحسناء الزمان .”
دخلت الشقة وبدأت تبحث في كل ركن فيها على ذاكرة التخزين، بحثت في أدراج المكاتب والزوايا والأركان والحقائب حتى وجدت الخزنة في الدولاب ليخضع باب الخزنة لسحر لمستها كما خضع باب الشقة ولكنها شعرت بخيبة الأمل، فلم تجد ذاكرة التخزين (الفلاش ميموري) كما لم تجد شيئا ذو قيمة لتسرقه وظلت تبحث وتبحث حتى فقدت الأمل وهمت بأن تغادر الشقة لولا أنها شعرت بالجوع، فهي لم تأكل منذ أن التهمت ورق العنب عند الفجر بشقة الدور السادس، فتوجهت إلى المطبخ لعلها تجد أكلة عربية طيبة المذاق كي تلتهمها قبل مغادرتها للشقة .
ما ان خطت الحرباء أول خطواتها بالمطبخ حتى شهقت فرحة كالأطفال عندما وقعت عينيها على علبة شوكولا فاخرة بالبربون والجين ما تزال بغلافها، ففضت الغلاف بسرعة وألقت به جانبا وراحت تلتقم قطع الشوكولا وهي تهمهم قائلة؛ "لقد صدق حبيبي، هؤلاء العرب يستنفذون الموارد دون فائدة، تموت الشعوب جوعا بينما يلقون هم أطايب الطعام في سلال المهملات .. لم؟ لم يشترون ما لا يحتاجونه؟ أ ليسوا حمقى لا يستحقون ما يملكونه؟" ثم التفتت إلى البطاقة المثبتة على العلبة عليها إهداء من "ادوارد إلى خالد"، فقالت تحدث نفسها؛" يا لكم من عديمي الذوق والأخلاق! لمَ قبلتم الهدية إن كان مصيرها سلة المهملات؟ لقد أخطأت عزيزي إدوارد بصداقتك وإهدائك هؤلاء الطفيليات الذين لا يستحقون إلا الاحتقار.”
كانت الحرباء تحدث نفسها وهي تلتقم الشوكولا بينما راحت يديها تفتح الأدراج والدواليب في المطبخ حتى تجمدت مكانها أمام إحدى خزانات المطبخ، فور أن فتحتها راحت تضحك وتردد، برافو! .. برافوووو!.. عندما وجدت خزنة أخرى بخزانة المطبخ لم تستطع الحرباء أن تخفي إعجابها بهذه الحركة الذكية من خالد سعد، والذي أجاد التمويه ولولا حظه العائر وجوع الحرباء ونهمها للأكل ما انكشفت خدعته في إخفاء مقتنياته الثمينة .
فتحت كاميليون الخزنة بسهولة وفرحت فرحا شديدا بعد أن نجحت في الوصول لهدفها وهي تمسك بالفلاش ميموري في يدها، فتركت الطعام والمطبخ وتوجهت الى جهاز الكومبيوتر في غرفة مكتب المهندس خالد. جلست إلى الجهاز وعملت نسخة من الفلاش ميموري على ذاكرة تخزين جديدة كانت بحقيبتها ثم جلست بضع دقائق تبدل الأرقام والأطوال والمساقط للتصميمات الهندسية كما فتحت ملف المناقصة وغيرت كل عروض الأسعار بها ثم أغلقت الجهاز وأعادت ذاكرة التخزين إلى موضعها بالخزنة وأغلقتها وكأن شيئا لم يكن... وهي تقول " مبارك لك الفوز بالصفقة عزيزي ريتشارد اللعوب" ثم همت لتغادر الشقة بسرعة لولا أنها سمع صوت أقدام على السلم، فأسرعت إلى المطبخ لتقفز من نافذته وتتسلق المواسير الخلفية حتى بلغت
الطابق الثالث. خافت الحرباء أن يراها أحد المارة بالشارع وهي تتسلق المواسير ، فدلفت من نافذة الطابق الثالث لتعبر منها إلى السلم الرئيسي، لكن وبمجرد أن وطأت قدماها تلك الشقة حتى تجمدت مكانها تسمع وتراقب وقتا طويلا وعندما لم تجد فرصة لتعبر الشقة عادت أدراجها لتتسلق المواسير مرة أخرى حتى بلغت الشارع حيث استوقفت سيارة أجرة وانطلقت إلى منزلها وهي شاردة في تفكير عميق تستعيد بذهنها ما سمعته بشقة الطابق الثالث في جلسة ليلة الديار عن هذا الكنز الثمين.
ولجت الحرباء غرفة نومها لتجد الزئبق غارقا في النوم، فقفزت لتلقي بنفسها عليه وكأنها تقفز بحمام سباحة وجثمت على صدره وراحت تفرك أنفها بأنفه وتعض أذنه لتوقظه من نومه بطريقتها المرحة الغريبة حتى فتح عينيه مبتسما لها وشاركها فرك أنفه بأنفها وعندما أفاق تماما سألها :
- ماذا حدث حبيبتي ؟
- استيقظ أيها الكسول، أنا أتممت عملي وجئتك بخبر استحق عليه أن تمنحني ثروات الشرق الأوسط مكافأة لي .. هيا!.. لابد أن تقتنص هذه الفرصة حبيبي.
- أخبريني ماذا حدث؟ وما هذا الخبر الذي تطلبين ثروات الشرق نظيرا له؟
- سأخبرك بالتفاصيل وأنت تستبدل ثيابك، هيا انفض الكسل عن عزيمتك، لابد أن نعود للعمارة الليلة قبل الصباح". قام ميركري يغتسل ويستبدل ثيابه وان هي إلا لحظات حتى كان هو والحرباء يسيران بالشارع في طريق العودة إلى العمارة والحرباء تقص عليه قصة ليلة الديار قائلة:
بعد أن دمرت هذا العربي المدعو خالد سعد وفي طريق مغادرتي للعمارة، مررت بشقة بالطابق الثالث لأستخدمها في العبور لسلم العمارة الأمامي ولكني لم أستطع المرور ، فقد وجدت فتاة عربية جميلة تلبس بيجاما قصيرة تجلس على الأرض مع شابين يضحكون ويتسامرون، جلسة تسميها ليلة الديار ، إنها فتاة سيكوباتية لا تعرف ما تريده!" وأكملت الحرباء وهي ترفع حاجبيها تعجبا وسخرية :
"هؤلاء العرب يتشدقون بعفاف بناتهم وها هي إحداهن ترافق شابين، تعيش معهما بشقتها؟ متبرجة وتضحك معهما تارة وتصرخ غاضبة تارة أخرى حتى احتواها أحد الشابين وضمها إلى صدره، فلانت له ثم فزعت منه وهو يصارحها بحبه لتصرخ في وجهه وكأن الحب صار قتلا، ألم أقل لك عزيزي! إنها فتاة غير طبيعية“.
استحثها الزئبق لتكمل حديثها وهو يتابعها صامتا، فأكملت الحرباء :
- لم أسمع كثيرا من حوارهم، كانوا يضحكون بينما عيون أحد الشابين تفضح لهفته على أنوثتها".
- أ بسبب قصة هذه الفتاة أيقظتني وجعلتنا نعود للعمارة الآن؟ أ تريدين منا أن نساعد الشاب العاشق ليظفر بأنوثة حبيبته؟
- لا.. لا! انتظر حتى أكمل لك! ما أهمني فيما سمعت من حوارها هو تنهيداتها وحديثها عن عقد تاريخي فريد وثمين تملكه إحدى ساكنات العمارة، كانت تتحدث عنه بشغف حتى اتهمها أحد الشابين بأنها تخطط لسرقته، ساعتها برق في ذهني أن نقتسم الخطة معها، نسرقه نحن بدلا عنها وتحمل هي التهمة بدلا عنا، أليس هذا عدلا ميركري؟"
ضحك الزئبق من خفة ظل لصته الجميلة وهو يجيبها بقوله " نعم.. هو عين العدل يا حبيبتي لكن؟ أي الساكنات التي تملك هذا العقد؟" فأجابته؛ "إنها الشابة قاطنة الطابق الرابع، التي كانت نستضيف الفتيات العربيات هذا المساء بشقتها.”
عندما اقترب الزئبق والحرباء من العمارة صمتا عن الحديث فجأة تمر من جوارهما تلك المرأة غريبة الأطوار في طريقها إلى العمارة، تمسك في يدها بطفلتها وهي تحدث نفسها بصوت مسموع دون أن تلتفت إليهما:
- والله عال يا عبد العال! سنتك كبيسة يا ابن رئيسة وكمان بتعرف تعزم وتتعزم، يا بتاع صفاء!!"




********





سارة جوزيف



عجوز وسيم وفنجان من القهوة في صحبة رجال النسوة العربيات، تبتسم سارة إعلانا لقبولها الدعوة الأكثر إغراء من اجتماع ريتشيل بينما الضجيج من شقة أستاذ نبيه لم يكن أعلى من صوت عقلها (مفتاح مجلس النون في شقة نبيه) نثرت خصلات شعرها الكستنائي، وما هي إلا دقائق وذابت مع فنجان القهوة كل الحواجز، فهذا راشد مستريحا في جلسته بعد اتصال هاتفي مع خالد يسأله عن أسعد بينما نبيه يخرج من غرفته بعد أن تفقد أشرف مبتسما وعمرو يقلب كفيه ويسأل راشد عن خالد وابنه، فرد راشد مبتسما- الصغير بخير ولكن المستشفى لديه إجراءات طويلة ولكن ما سيصيبني بالجنون هو هذا الخالد الذي يرفض أن يخبر زوجته بما حل بابنهما .
هزّ عمرو رأسه مؤيدا : قراره صائب إنها أم ستجزع إن علمت عن صغيرها وستربك زوجها أكثر .
رد راشد معترضا:-لأنها أمه ستعرف كيف تعتني به .
لبس عمرو نظارته الطبية بعد أن مسحها وتحدث بعاطفة: -وهو أب يعرف كيف يعتني بصغيره .
قال نبيه ليبدد جو التوتر؛ " أنت تعلم يا ابن رئيسة.
ضحكت سارة وسألت عمرو : -اسم أمك رئيسة؟
فهز رأسه مبتسما :-أمي رئيسة وزوجتي رئيسة وابنتي كبيرة الرئيسات.
تعالت الضحكات من جديد، فأكمل عنه إياد:- عندما تتعرف إليك لا تكتفي باسمك بل تريده كاملا
كذلك اسم والدتك حتى تعرف؛ وقال بلكنة مصرية؛ إنت ابن مين بابا؟ ابن رئيسة "
أنهى نبيه النقاش قائلا :-هذا دليل على ذكائها .
فابتسمت سارة تعلق :-لا يوجد امرأة غبية.
نقلت نظرها بينهم لتجد الرجال الأربعة ينظرون أليها بتركيز، فأكملت : -ليست نرجسية مني كامرأة ولكنها حقيقة يجب أن يدركها الرجال ثم قد قيل (أن كيدهن عظيم ) والكيد من الذكاء، كما أنها أكثر حبا للابتكار من الرجل وتسعى دائما لكل جديد .
فوجئت برد إياد ساخرا: -نعم أعرف إحداهن لا يتعدى حيز ذكائها باب المطبخ، وإن أرادت أن تتطور وتبحث عن جديد تسألني "هل يباع السفرجل في لندن؟.
بعد كلمته هذه دخل مازن وعلي، رحب الجميع بهما بينما يسكب لهما نبيه فنجان القهوة، فتحدث مازن
مازحا: - لمَ لم تخبرني أستاذ نبيه أن لديك كوكتيلا آخر من الجاذبية بينما أنا أتحصر على لقاء النسوة
عند فتاتك الساحرة؟
ضحكت سارة وبدلال سألت مازن :- هل اعتبر هذا غزلا صريح؟
رد عليها غامزا بعينه : -وهل تشكين بجاذبيتك يا ناعسة العينين، يا كستنائية الشعر ؟ أظن أنك لم تحظي هذه الليلة بأي كلمة جميلة سوى مني ولكن اعذري هؤلاء الرجال عديمي الإحساس وضعيفي النظر، لا يقدرون جمال الهجين العربي الأمريكي المدمر.
قالت بابتسامة :- سأعتبر كل ما قلته مزحة، فأنا لا أقبل الغزل من شاب وسيم يصغرني بعشرة أعوام، أنت تغويني لأقع في غرامك عندها تحمل ما سيحدث، ربما أختطفك.
ضحك الجميع على وجه مازن المحمر خجلا فقال نبيه له:- أنا وأنت فقط يا صديقي، فقط من بين هؤلاء الرجال بلا قيود.. فليخطف أحدنا هذه الحسناء.
ضحكت سارة على تعليق راشد مهددا:
-عازبا العمارة.. لم أر أحدا مثلكما يقدس عزوبيته فلا تكثرا الحديث حول الارتباط، ستندمان كثيرا لأن حياتكما ستتحول لجحيم.. فداخل كل امرأة فتاة مراهقة رومانسية تدخلك أكواخا من القصص الخيالية وتحلم بأنها تثرثر مع جنيات كالفر اشات الملونة.
أكمل عمرو : -وداخلها كذلك جنون بلا حدود، فتجدها أحيانا على غير عادتها، تارة تعيدك لصباك و تارة تواري عنك عقلك المتزن عندما تعلم بأنها تتعلم الضحكة وخصوصا الضحكة الرقيعة.
قال إياد : -وبين هذه وتلك تجد من لا جديد لديها، صباح الخير كمساء الخير وأخرى تتورط معها أكثر.
صوت جرس الشقة قطع حديثهم ليعود نبيه بكراتين مصفوفة من البيتزا تناولها منه راشد وإياد، فقال مازن وهو يرتب الأطباق على مائدة نبيه الخشبية : -لا تخشون علي عندما أود أن أتزوج فعلا سأستفيد من علي .. لدي نموذج للحياة الزوجية السعيدة.
ضحك علي على سخرية مازن : -بل أؤكد للجميع بانه لن يتزوج مادام يسمع حديثكم هذا !
تشعب الحديث ليأخذ أكثر من اتجاه الاقتصاد والسياسة، كانا المحور، فهؤلاء العرب يعشقون الحديث عن (رغيف الخبز والديمقراطية) ولم يستوعبوا بعد أن بيئتهم غير حاضنة للديمقراطية التي من خلالها يمكن أن تقطع يد الفاسد الذي يسرق قطعة الخبز .
فقال إياد بألم (وحتى عندما نكون خارج الوطن ونحاول أن نكشف حقيقة هؤلاء تجدهم يطاردونك) .
سأله نبيه: ماذا هناك؟
تنهيدة سبقت كلماته (ياسر.. يعاني من تهور زوجته الأندلسية المجنونة..)
فعلق مازن؛ منذ عودته من المغرب، لم أره!
رد إياد (تحدثنا بالأمس كان مهموما، واليوم صباحا شاهدت زوجته تشع حيوية بينما بالأمس كان مهموما من تهورها ويقلقه مستقبل عائلته ..)
تدخل عمرو (مطاردة السياسيين لا تجلب سوى وجع الرأس).
تحدثت سارة مشاركة( هل مونيا صحافية؟)
رد مازن (وناشطة حقوقية ومصورة فوتوغرافية و ربما شي آخر أجهله، إنها دينامو من النشاط) .
ضحك راشد (وتمارس بعض هوايتها على جاراتها.. تصور وجوهن وتصور لهن وجهاتهن.)
تجاوزت سارة سخرية راشد لتسأل (هل تحاسب على جرأتها في طرح رأيها؟ ألا يوجد مساحة من الحرية في التعبير أبدا؟)
رد نبيه (في بلادنا الحرية مقننة، ليس لدينا مشعل كالذي يحمله تمثال الحرية، تربينا على أن النار تحرق أصابع من يعبث بها .(
ربت على كتفه إياد وهو يقف (نعم " لا تلعب بالنار فتحرق أصابعك") ضحك الجميع وانفضوا من حول المائدة يجمعون الأطباق فتدخلت سارة محاولة المشاركة معهم، فأخذها نبيه من يديها يهتف ببسمة مرحة:
-ليهتم أحدكم بهذه السيدة، تريد أن تحمل الأطباق بينما نقف نحن الستة رجال هكذا، هل تريدين أن تكتبي عنا مقالا لاذعا غدا على أولى صفحات جريدتك سارة جوزيف "العرب الهمج يأكلون وصديقتهم الأمريكية تغسل الأطباق ".
كان المطبخ مفتوحا على بقية الشقة حيث وضع راشد الأطباق في غسالة الصحون ضاحكا يعلق : -ليتك تعلم يا أستاذي بأن هؤلاء النسوة لا يجدي معهن التدليل بل يفسدهن أكثر.
فقل عمرو مؤيدا له : - فيبدأن في محاصرتك وتكثر طلباتهن واحتجاجاتهن، لذا يجب أن نطبق معهن نظام العسكر .
شاركهما إياد :- يا إلهي عندما يتحسرن على أيام شبابهن وأننا سلبنا حريتهن ويحاولن الثورة علينا.
وعندما تحدث علي كان حزينا: - عندها لا تجد نفسك إلا ضائعا مع ضياعهن، متقلبات داخلهن، صراع لا ينتهي.
اعتلى مازن الأريكة التي يجلس عليها ليحيط فمه بكفيه في محاولة لجعل صوته أعلى، وعلى قسماته ارتسمت كل معالم الجدية:-يا رفاق رفقا بالقوارير!" وعاد ليجلس بمرح، يسأل نبيه :- ما رأيك في هؤلاء الرجال ؟
ابتسم نبيه بينما يجيبه؛ "من الأفضل لهم يا صديقي أن ينظروا لأنفسهم ويجدوا طريقة أفضل يتعاملون بها معهن، الواضح لي بأنهم يعيشون دكتاتورية يحتاجون لاصطلاح حياتهم والتجديد فيها وإلا فالطرف الآخر سيبدأ بالتحرر منهم، فأنتم كما قال روسو في كتابه العقد الاجتماعي (أصبحتم كالحكام ذئاباً، و زوجاتكم كالغنم)، ضعوا قوانين ولا تكونوا أنتم القوانين.
يستمر هو.. وتندهش هي..


***************************************



انتهت الحلقة الثانية

قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 17-10-22 الساعة 10:03 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 17-10-22, 10:04 PM   #8

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحلقة الثالثة



ريتشيل زينب

هل يوجد إحباط أكثر من ذلك؟! تساءلتُ في سري طبعا وأنا أتملص من إحاطة خليل بي، فهو لم يجعل ابتعادي عنه سهلا ولم يحد بعينيه بعيدا عن وجهي وكأنه يؤكد لي أن الامر لم ينتهِ، ابتلعتُ ريقي وأنا أتلكأ بأناملي على شعري في حركات عشوائية سخيفة، كان يحدق فيّ بصمت غامض فابتسمت له بإحباط بينما كنت أحثُّ خطاي المتبلدة نحو الباب لأفتحه فرنين الجرس علا مرة ثانية. أخذتُ عدة أنفاس لأستعيد هدوئي شاكرة لخليل الذي اختار أن يبقى في المطبخ بعيدا عني، لم أنظر من العين السحرية في الباب لأني أكاد أكون متأكدة من أنها آية ابنة علياء، دوما تقتحم المكان كأولى الغزاة، ابتسمت وأنا أُدير عتلة الباب متوقعة رؤية وجهها الجذاب الصغير عندما تفاجأت بوجه آخر تماما! فقلت باستغراب لم أستطع إخفاءه " دكتور نبيه؟!" عبس الدكتور وهو يقول بتأنيب مرح " لم أتوقع ترحيبا حارا، ولكن على الأقل ليس صادما هكذا " ضحكت وأنا أعتذر قائلة " آسفة دكتور، لكني كنت أتوقع وجها صغيرا ماكرا " قال الدكتور نبيه باستدراك وهو يعدل من وضعية نظارته الطبية " آآآآ تذكرت، أنت لديك اليوم هذا التجمع النسوي، حسنا لن أعطلك، لقد جئت خصيصا لأسلمك رسالة من الدكتور كورشان " استغربت وظهر ذلك جليا بصوتي وأنا أتساءل " رسالة لي؟ لمَ أرسلها لك عوضا عن ارسالها مباشرة لي؟!" رد الدكتور نبيه بابتسامة طفولية ماكرة " لأنه بالأساس أرسل لي طردا خاصا ووضع فيه رسالتك لأسلمها إليك " هززت كتفي وقلت " حسنا، يسعدني إنه ما يزال يهتم بمراسلتي " قال الدكتور نبيه بعاطفة حانية " والدك كان صديقاً عزيزاً علينا نحن الاثنين، وحتى والدتك كانت مقربة منا، أقل ما نفعله أن نحاول الاطمئنان عليك باستمرار " أطرقت وأنا أغالب دموعي فلا أملك إلا أن أتأثر بكلمات الدكتور نبيه، بعد كل هذه السنوات التي مضت على رحيل والديّ ما زلت أفتقدهما، تنحنح الدكتور نبيه ليغالب تأثره هو أيضا كما يبدو ثم مد يده لجيبه وأخرج مغلفا بنيا قدمه لي وهو يقول " هذه هي الرسالة عزيزتي " أخذت المغلف وشكرته فابتسم ثم لوّح لي قبل أن يغادر وهو يقول " أتمنى لك جلسة نسائية ممتعة "
لوحت له أنا الأُخرى ثم أخذت أغلق الباب بتلكؤ وعينايّ على المغلف الذي أقلبه في يدي، أجفلني صوت خليل وهو يقول " ظننت للحظات أن الدكتور سيدخل ويتسبب بمشاكل لي بتواجدي معك هنا بمفردنا " ضحكت وقلت " لا تقلق! إنه لا يتدخل في شؤوني " ثم غمزت وأنا أضيف " رغم أنه يحاول أحيانا عندما تغلبه طبيعته الشرقية " هزّ خليل كتفيه باعتداد وقال " نحن الشرقيون لا نعتبره تدخلاً، بل اهتمام يعبر عن المحبة والرغبة في الحماية " ابتسمت بلطف وقلت " أعلم ذلك، لا تنسى أن والدي كان تركيّاً " التمعت عيناه وهي يقترب مني ثم قال بصوت أجش " يبدو أن الأتراك قدرك يا زينب " تنحنحتُ وأنا أبتعد بنظراتي عنه ثم قلت بفكاهة لأتهرب منه " أرجو أن يعجبهم الطعام الذي تعبنا في إعداده " أطرق خليل قليلا وهو يبتسم ثم قال " أتمنى ذلك، سأذهب الآن لأتركك لضيفاتك القادمات " فتحت الباب وابتسمت له بعرفان بينما أقول " شكرا لك خليل، ممتنة للغاية لتعبك معي اليوم " اتسعت ابتسامته وهو يجيبني" في خدمتك دوما سيدتي الجميلة " لم أرد عليه فقط اكتفيت بابتسامة أردها له مودعة إياه.
بعد أن أغلقت الباب خلف خليل أخذت أفتح مغلف الرسالة التي ما تزال في يدي، لا أعرف لماذا انتابني الفضول لمعرفة فحوى الرسالة! ربما لمرور وقت ليس بالقصير على آخر رسالة استلمتُها من الدكتور كورشان، أخرجت الورقة من المغلف وفتحتها لتجري عيناي على الكلمات بينما أعض - دون قصد مني- على طرف شفتي السفلى، إنها مجرد عادة لديّ عندما أقرأ شيئا! أحيانا أكتشف آثارها على شفتي بعد قراءتي لشيء أستغرق فيه، تماما كما يحدث الآن!
عقدت حاجبيّ وأنا أرفع عينيّ عن الرسالة لأحدق أمامي بشرود و.. ذهول! للحظات طويلة ظللتُ هكذا، ثم فجأة تقدمتُ باتجاه طاولة بيضوية صغيرة على الطراز الشرقي في إحدى زوايا غرفة الجلوس، هذه الطاولة أعتبرها ركناً خاصاٍ بوالديّ، أضع عليها أجمل ما اقتنياه في سفراتهما هنا وهناك، مددت يدي لشيء محدد موضوع في مقدمة الطاولة، علبة خشبية قديمة الصنع مشغولة بالفسيفساء، كانت أمي تستخدمها لوضع اكسسواراتها فيها، معظم اكسسوارات أمي كانت من النوع الشرقي والذي للأسف لا يستهويني لأنه دوما ثقيل وبزخارف كبيرة وفصوص بألوان مبهرجة، ببساطة إكسسوارات من النوع الذي يباع بكثرة في البازارات الشعبية، فتحتُ الصندوق وأخذت أبحث فيه عن شيء معين حتى وجدته، أخرجته وعينايّ تلمعان! بينما أهمس لنفسي " عقد من العهد العثماني لا يقدر بثمن! هل يعقل هذا يا دكتور كورشان؟ مجرد عقد اشترته أمي من أحد البازارات بثمن بخس، فكيف تكون له هذه الأهمية دون أن يعرف أحد؟!"
صوت همهمات قادمة من خلف باب الشقة جذب اهتمامي، فأعدت العقد لمكانه في الصندوق ووضعت رسالة الدكتور كورشان معه، ثم تقدمت نحو الباب لأستطلع من هناك، ابتسمت ما إن نظرت من العين السحرية في الباب أصغي لأصوات المتحدثين خلفها، إنهما جارتيّ لين حاملة قالب حلوى وعلياء تمسك بيد الصغيرة آية، انتابني الفضول لأفهم ما تهمسان به خلف بابي ويمنعانهما من رن الجرس ليدخلا خصوصا وأنا أرى نظرات الصغيرة الذكية التي تفتح عينيها في تركيز لتتابع الحوار بين أمها ولين، تنصّتُ بابتسامة شقية لأحاول التقاط الكلمات خصوصا وكل واحدة منهما تتكلم بلهجة بلدها والتي هي بعيدة عن اللغة العربية الفصحى التي تعلمتُها، مع ذلك ومن خلال معاشرة هؤلاء النسوة فقد تعلمت الكثير ، سمعت علياء تقول بصوت منخفض " لين حبيبتي والله ما يصحش تسأليها " ردت لين بابتسامة مشرقة تحمل الكثير من المرح والاثارة " شو فيها علياء! لا تكبري الأمور، والله إني بحبها وبحب أشوفها متزوجة من فتى الأحلام الهمام الي تكعبلنا فيه لما وصلنا هون، يا الله شو شب حليوة ووسيم، والله بيطير العقل " ردت علياء ببعض الحرج وهي تنظر باتجاه ابنتها آية " سدئيني ريتشيل زينب، أقصد زينب ريتشيل، يووووووه، المهم سدئيني ما بتحبش حد يدخل في خصوصياتها، ما تنسيش إنها انجليزية وهم يعتبروا أمورهم الشخصية مقدسة ومبيحبوش حد يسأل عنها " مطّت لين شفتيها في إحباط وخيبة أمل وهي تقول " خلص ما بسألها مع اني حموت وأعرف قصة هذا الطويل.. عريض المنكبين " سمعتُ صوت ضحكة آية بينما علياء تحمر في ارتباك وخجل، فقالت لين تكمل كلامها الحالم دون أن تتنبه لحرج علياء " يا ريت هيك وبس! إلا عيونه يا الله عليهم سبحانه الي خلئهم، دباحيّن، واسعين وحالكي السواد كلها غموض وعاطفة، خلت قلبي يرفرف مثل العصفور وأنا بتخيل إنه هيمان بريتشيل وحيموت حتى ترضا فيه، والله انه رجال بيليق فيها، بس هي لو تعطيه فرصة أو تعطيني فرصة ارسملها رسم أخليه يلهلب بنار الحب ويجيلها جاثيا على ركبتيه طالبا الرضا ترضى، آآآه ياقلبي " هنا ضحكت آية بأعلى صوت بينما كانت علياء تكتم ضحكتها هي الأخرى وتحاول كتم ضحكة ابنتها بيدها، لم يعلموا أنني أنا أيضا أكتم ضحكتي من خلف الباب، أخيرا تماسكت علياء وهي تقول بهمس " خلاص بئة يا لين خلي نرن على الست زمانها لايصة وهي بتطبخ لوحدها، وبعدين لتروح تفتح الباب دلوقتي وتشوفنا واقفين كده، تئول علينا إيه ساعتها؟" ضحكت لين وهي تحرك حواجبه بمرح وتقول " يا حبيبتي ريتشيل (لايصة) فعلا على قولتكم يا مصريين، فبعد رؤيتها عريض المنكبين هاد كيف ما بدها تكون (لايصة) يعني! " ضحكة أخرى من آية كتمتها علياء بحزم أكثر هذه المرة وهي تحدجها بنظرات متوعدة ثم ودون أن تعطي مجالا للين كي تضيف المزيد قرعت الجرس، فتحركتُ على رؤوس أصابعي لأبتعد عن الباب وأنا أقاوم الانفجار بالضحك، ثم عدت لأسير بخطوات طبيعية نحو الباب لأفتحه، وهكذا ابتسمت بترحاب في وجه أولى ضيفاتي العزيزات.
***
بعد ساعات وبعد رحيل جاراتي كنت أُحدق في العقد الأثري، لا أعلم لمَ أحببت أن أريه لهن، لقد أثرتُ اهتمامهن به عندما قصصت عليهن ما جاء في رسالة الدكتور كورشان عن أهمية هذا العقد، جميعهن اهتممن بالعقد ولو بنسب متفاوتة إلا ديمة! فديمة نظرت له بلا اهتمام ولم تكلف نفسها عناء قول تعليق عليه أو على الموضوع بحد ذاته، أما علياء فقد اكتفت بابتسامة صغيرة وهي تقول بأنه جميل جدا.
لين رسمت ابتسامة عريضة على فمها وهي تقول " سينفعك ارتداءه يوم زفافك " مونيا بدت مهتمة بقيمته المعنوية أكثر من المادية وقد أخبرتني بأن أتخذ الحيطة والحذر، فإذا كان كلام الدكتور صحيح فقد يصبح العقد مستهدفا، ضحكت متذكرة خولة كيف عقدت حاجبيها في ارتياب وهي تقول " هل أنت متأكدة؟ إنه يعود للعهد العثماني؟ ربما يعود للدولة العربية الاسلامية والأتراك يريدونه لأنفسهم كالعادة!" ثم ضحكت بصوت أعلى فخولة حولت موضوع (الكبسة) لمؤامرة، فكيف بها لعقد أثري يعود لقرون سابقة، لم أنسَ ملامح خولة وهي تنظر لطبق الكبسة الكبيرة بتوجس وكأنها تفكر " هل تحاول ريتشيل أن تقول أنتن أدنى من أن أقدم لكن طعاما انجليزيا؟!" أخيرًا شابني بعض الحزن والشفقة وأنا أتذكر مينة، تلك الفتاة التي بدت مشتتة اليوم وكأن هناك أمرا يثقل عليها أو هم ترزح تحت وطأته، لقد دمعت عيناها عندما رأت طبق (الفسنجون) فأثارت شفقة الجميع وأخذت النسوة يسرين عنها بإخبارها أنهن يحنون لبلدانهن أيضا. حاولت مينة الابتسام بلطف بينما ملامحها تنضح بحزن أكبر بكثير من مسألة تأثر بطبق طعام يذكرها ببلدها، هناك أمر آخر أكثر عمقا يقض مضجعها، رغم ذلك عينا مينة الذكيتان لم تفتهما التحديق باهتمام وتقدير للعقد، ربما أكثر من الاخريات!
أعدت العقد للصندوق ثم وضعته في مكانه على الطاولة، أفكار كثيرة تدور في رأسي وأنا أحاول تنظيمها، وجدت نفسي أقول بصوت مسموع " عليّ السفر لتركيا " هنا رن الهاتف، فتوجهت نحوه لأرفع السماعة وأقول " نعم " جاءني صوت رجولي يقول بمرح " هل أعجبهن الطعام؟!"

****

ديمة مصطفى

من المريح أن يعود الإنسان في النهاية إلى بيته، مزعج إنما مريح كإبرة المسكن، مؤلمة إنما مخدرة وذات تأثير مؤقت إذ سرعان ما يعود الألم لينبض من جديد، هذا ما فكرت به وأنا أستقل المصعد الكهربائي إلى شقتي بعد انتهاء السهرة. كنت أشعر بالتعب بعد ساعات من ارتدائي لحذائي المفضل ذي الكعب المرتفع، حذائي الجميل الأسود اللون والمصمم خصيصاً لتعذيب المرأة حتى الموت. أفكر أحيانا بأن مخترع الكعب العالي لابد أن يكون أحد مجرمي الحرب العالمية الثانية، لأتذكر بعدها بأنه قد اخترع لإرضاء ملك فرنسي نرجسي أُبتلي بقصر القامة إنها ضريبة الجمال، فكرت بهذا ساخرة وأنا أفتح باب الشقة بهدوء ليقابلني الصمت المطبق. تنفست الصعداء بارتياح، لقد نام الأولاد.
خلعت أداة التعذيب التي كلفتني مبلغا كبيرا من المال في الوقت الذي سمعت فيه ضجيجاً مكتوماً قادماً من المطبخ، ففكرت باكتئاب بأن والد الأولاد ما يزال مستيقظا.
عادة أحب العودة إلى البيت لأجد إياد في انتظاري، فأحكي له عن أهم ما حدث خلال جلستي الأسبوعية ليس أن هناك شيئا خاصا في حديثي مع جاراتي لن يرغبن بأن يعرفه، فقد كان هناك اتفاقاً ضمنياً بيننا معشر النسوة على ترك همومنا ومشاغلنا في شققنا والحديث بشكل عام بدون التطرق إلى خصائص حيواتنا، فلا علياء أفصحت عن الخطة السرية التي زل بها لسان ابنتها الصغيرة والتي احمر على إثرها وجه علياء فبدت كتلميذ مشاغب ضبط بالجرم المشهود ولا أظهرت مينة سبب اضطرابها وقد بدت فاتنة للغاية هذه المرة بالمناسبة، بفستانها البرتقالي الجميل، مونيا بدت مهمومة إلا أنها تحدثت بمرح عن ابنها الصغير وهيامه بزميلته الإنجليزية. لين فقط بدت سعيدة وخالية من الهم كأي عروس جديدة أما خولة فلم تتوقف كالعادة عن سرد آخر شكوكها ونظرياتها الغريبة حول المؤامرة الكونية التي تحاك حولنا دون أن ندري.
هل كنت فاشلة بدوري في إخفاء همومي الشخصية عن أعينهم ونظراتهن الرقيبة؟ أتمنى أحيانا لو أستطيع مصارحة إحداهن بهمومي، بآمالي وأحلامي، بإحباطي واكتئابي، إلا أننا لم نعد طالبات في الثانوية والكبرياء أصبح جزءا لا يتجزأ من المعادلة وكرامتي ورفضي للواقع يأبيان عليّ أن أظهر لإحداهن بأنني لست سعيدة.
شخص واحد، أجد لديه القدرة على سماعي واحتواء تذمري الذي لا ينتهي، الشخص الوحيد الذي اعترف بي يوماً ليس كامرأة ربة منزل عادية وأم مملة و تقليدية بل كإنسانة حقيقية لديها أفكار وآراء لها قيمة، الشخص الوحيد الذي أجد نفسي حقا كلما تحدثت إليه، الأستاذ نبيه.
خطر الاسم في بالي وأنا أتجه نحو المطبخ لأكتشف ما يفعله زوجي هناك ويتطلب منه خلق كل هذه الضجة وفي نيتي إخباره عن العقد العجيب الذي أرتنا إياه ريتشيل، العقد الثمين جداً والمبهرج جداً والمتوارث...... لا أذكر بالضبط القصة التي حكتها ريتشيل حوله، فكل ما وجدت نفسي أفكر به كان بشاعة العقد وغرابة أن يكون شيئاً كهذا ثميناً جداً وعالي القيمة كما ألمحت مينة، لن أرتدي في حياتي شيئا قديماً وبعيداً عن الموضة مثل ذلك العقد حتى لو توقفت حياتي على ذلك.
كان إياد يبحث بين الخزائن عن شيء ما وجده أخيرا وهو يخرج طبقاً زجاجياً يضعه فوق السطح الرخامي بعناية، فسألته عابسة :- ماذا تفعل؟
انتفض مجفلاً وهو يستدير نحوي مبسملاً ومحوقلاً قبل أن يرد علي بنزق :- لقد أفزعتني، ألم تسمعي يوما بالنحنحة؟
قلت غير مصدقة لفظاظته :- أنا أرق من أن أتنحنح وقد أصدرت خلال دخولي إلى البيت ضجة كافية لإيقاظ الدببة من سباتها الشتوي، كما أنك لم تجبني، ماذا تفعل؟
:- آخذ بعض ورق العنب للأستاذ نبيه؟
رمشت بعيني متفاجئة وقد كنت أفكر منذ لحظات فقط بالشخص عينه :- وما المناسبة؟
:- لا مناسبة، لقد تذكر الأستاذ نبيه بأنكن معشر نساء العمارة تجتمعن كل أسبوع في هذا الوقت، فدعانا نحن الرجال لملاقاته في سهرة رجالية مرتجلة، كنت هناك وصعدت لآخذ هاتفي الذي نسيته.
أمسكت خصري بكلتي يديّ وأنا أقول بغيظ :- يا سلام! وقررت فجأة أن تأخذ له غداء الغد دون حتى أن تسألني.
قال إياد كازاً على أسنانه :- لقد طلب بنفسه أثناء خروجي أن أحضر له القليل بعد أن وعدته بنفسك هذا الصباح بأن ترسلي له طبقاً، ألم تفعلي؟
لم أكن متمسكة حقا بما تبقى من ورق العنب، لقد خططت بالفعل لأخذ الطبق بنفسي للأستاذ نبيه لعلمي بمدى حبه له وبعد أن أظهر في لقائنا الأخير حنيناً كبيرا لطهي والدته وأيام الطعام الحقيقي الذي كان يتناوله في لبنان إلا أنني ومع انشغالي باستعدادي لموعدي طوال اليوم.. نسيت .
احمر وجهي وأنا أقول :- بلى.
:- ليس هناك ما نقوله إذن، أنا ذاهب ولا تتوقعي مني العودة باكرا.
وبدون أن يقول المزيد وكأنه قد تذكر غضبه مني بسبب ثورتي عليه هذا المساء ودون أن يسألني عن سهرتي أو يطمئنني عن الأطفال كعادته حمل الطبق الذي غلفه بكيس من النايلون وخرج.
عندما أصبحت وحيدة في الشقة اعترفت لنفسي بسبب انزعاجي من فكرة لقاء إياد للأستاذ نبيه وأخذه له ورق العنب بنفسه، لقد كنت أشعر بالغيرة من إياد، فبدون أن يعترف أحدنا بالحقيقة هناك تنافس لا إرادي بيننا حول احتكار اهتمام وصداقة الأستاذ نبيه الذي كان لنا أشبه بالوالد النصوح منذ إقامتنا في هذا المبنى. إياد كان يجد فيه متنفسا حين يسأم من ضغط العمل وحرقة الغربة وأنا كنت أقابله بشكل شبه يومي خلال مشواري الصباحي إلى المتجر بصحبة عماد، أراه في المكتبة يغازل الموظفة الشابة بطريقته الأبوية الظريفة أثناء اختياره لكتاب جديد يقرأه، فنخرج من المكتبة وأنا أمطره بتعليقاتي اللاذعة التي تثير ضحكه دائما ثم نعرج على المقهى القريب حيث نجلس معا لنحتسي القهوة ونتبادل معا أطراف الحديث بينما عماد مسجون في مقعد أطفال مرتفع يصرخ احتجاجاً وهو يمزق فطيرة ما طلبتها له بشوكته انتقاماً. كان يصدمني دائما بردة فعله على شكواي عن حياتي، يتهمني بالسلبية والجبن وبأنني أجعل من زوجي ووظيفتي كربة عائلة شماعة أخفي ورائها خوفي من مواجهة المجهول، قالها لي صراحة بأنني لن أحترم نفسي أو أعرف السكينة يوما حتى أواجه الحقيقة بأن سبب المشكلة يعود إلي أنا وأنني الشخص الوحيد القادر على حلها.
أدرت التلفاز وجلست على الأريكة بعد أن بدلت ملابسي وأخذت أشاهد برنامجا مملاً دون أن أعي منه حرفا، هل كان الأستاذ نبيه محقا حول جبني واختلاقي الأعذار كي أفسد حياتي بنفسي؟ هل ظلمت إياد لسنوات طويلة متهمة إياه بظلمي وقمع طموحاتي وأفرغت إحباطي فيه كما فعلت اليوم دون سبب حقيقي؟
الذنب رفيق سيء، فكرت بهذا وأنا أستل هاتفي المحمول بنية الاتصال بإياد في محاولة مني لتنقية الـأجواء بيننا. تذكرون بالطبع ما قلته من قبل عن توسل الصفح، لم يخب توقعي والفرق أن الأمر سيحدث مبكرا جدا هذه المرة.
حاولت الاتصال بضعة مرات لكن هاتف إياد مقفل، فتساءلت إن كان قد أقفل هاتفه كي يثير غيظي في حال اتصلت به لأسأله عن وقت عودته، لابد من أنه قد نسي بأنني أقل خجلا من أن أتردد في الاتصال بشقة الأستاذ نبيه بنفسه إن صممت على الوصول إليه.
بعد دقائق أنهيت المكالمة وأنا أشعر بالدوار، فلم أستوعب نبرة القلق في صوت الأستاذ نبيه، كل ماكنت أفكر به حائرة هو السبب الذي دفع إياد لتقديم طبق العنب للأستاذ نبيه عند الباب ثم مغادرته معتذرا بسبب ارتباطه بموعد مهم.
موعد مهم! في هذا الوقت المتأخر! أين أنت يا إياد؟


********



مينة أحمد

كل تأهبي وأنا أنزل درجات السلم ذهب فجأة لأني لم أجده في الشقة، يبدو أنه مل من الانتظار. أخرجت هاتفي لأجده مازال على الوضع الصامت و رسالة من مازن يخبرني بأنه عند الأستاذ نبيه و ربما سيتأخر قليلاً .
أمي أنا بحاجة إليك، كل مرة أحتاجها لا أجدها إلى جنبي وحتى الاتصال أتردد كثيراً لأتصل بها لأنها ستبدأ بلوم نفسها على كل شيء و للحق أنا أيضاً ألومها بقلبي، اشتقت إليها و أظنها لم تنم إلى الآن، سأتصل بها.
و مثل ما توقعت بدأت بالبكاء و لوم نفسها، تمالكت نفسي وغيرت الموضوع و أنا أسألها عن أحوال البلد المغدور الذي لم يمهله الزمن و توالى على شعبه بسلب الأمان و نعمة الاستقرار، أليس الوطن العربي يتوحد ببحثه عن بصيص الأمل؟
و ككل مرة تسألني عن علي و كيف يعاملني.. بقلبي و عقلي وروحي أكن له الحب و من قبله الاحترام .
برودة الهواء في الشرفة لم تفلح بإخماد النيران التي في صدري، وقع بصري على ساعة بيج بن و هي تقف بشموخ وتدور برتابة مملة دون أن تعترض، فأتمنى أن لا يبقى حالي مثلها .
غيرت ملابسي ببيجاما قصيرة وأعدت تنظيف الشقة لأنهي الوقت قبل أن ينهيني وأحصل على جرعة أكبر من التعب. تذكرت أنه يوم السبت فاتصلت بمازن لأذكره بذلك.
عند العاشرة والنصف أنهيت كل شيء و تزامن ذلك مع دخول مازن و ركضت باتجاهه كطفلة تنتظر والدها و أنا أحضنه بشوق.. و أسأله عن الأغراض فرد علي :ألا تشبعين من الأكل؟ أنا متأكد من أنك لم تتركي شيئا في الصحون عند ريتشيل؟
- مخطئ! ليس كل شيء، بل تركت قليلاً من الفسنجون لأني شعرت بالخجل و الجارات ينظرن إلي، لكن شعرت بعودتي لبلدي.
ما زلت بمكاني أتأكد من وجود البيتزا و البطاطا المقلية والمشروبات الغازية ورقائق البطاطا لأفاجأ بعلي يدخل خلف مازن. يا إلهي! ليس مجدداً، يراني بهذا المنظر و هو يغيظني بابتسامته اللعوب. مررت بجانبه إلى غرفتي لأغير ما أرتديه و أخرج بسرعة لأنه إن ظن أني لن أخرج فسيكون مخطئ، فالجوع ظالم .
كان مازن قد وضع كل شيء في صالة الجلوس على الأرض كما اعتدنا بليلة الديار، وعلي يصاب بالدهشة مما نفعله بينما أشعل التلفاز ثم نجلس على الأرض و هو مازال ينظر باستغراب لمزاجنا الذي تبدل فوراً و بدأت تتعالى ضحكاتنا مع ذكريات قديمة .
- علي ماذا بك؟ لماذا لا تأكل؟ اسمع نصيحتي بعد دقائق سيختفي كل شيء.
قالها و هو يبدأ بالتهام البطاطا فتساءل علي؛
- بالبداية أحب أن أفهم ماذا تقصدون بليلة الديار و لماذا جلستم على الأرض و كل هذا الأكل؟
- هذه الليلة خاصة بنا منذ سنين نحب أن نحييها لأننا كنا ومنذ طفولتنا نهرب إلى سطح المنزل و نأخذ الأكل هناك بعد تناول وجبة العشاء "طبعا" و نبقى هناك نأكل و نلقى النكات إلى أن يحل منتصف الليل و بما أننا هنا لم نجد إلا الغربة، أبقينا هذا اليوم لنعود به إلى وطننا و نتذكر أيامنا التي لم ننساها أصلاً.
قلت له و أنا أشعر بشوق كبير للعودة فعلاً؛
- شيء جميل، على الأقل تمحي القليل من الاختناق في الغربة وعلى الأقل أنتما هنا موجودان معي.
لا أعرف، لكن جلستنا هذه كانت خالية إلا من ضحكاتنا الحقيقية حتى أنني نسيت كل همومي و لم يكن أمامي إلا عائلة سعيدة و كأنني أرى علي لأول مرة، دققت في ملامحه فوجدت نفسي مجدداً أغرق في خصلة الشيب التي تضيء شعره؛
- كيف كان لقاء النون هذه المرة؟؛ سألني مازن و بدد لحظة الغرق، فرددت عليه؛
- مثل كل مرة، ما عدا مفاجأة العقد، يا إلهي كم هو جميل وقديم، تشعر أنه يحمل حكاية و بضمنها حكايات، تشعر أن فيه شيء من الحياة و يروي حكايته عبر أجيال و أجيال، كم هو جميل و ساحر، وطبعا لا أنسى قيمته المادية.
- لن تكوني مينة إن لم تدخلي الأموال و الأرقام في كلامك، من يسمعك يظن أنك ستسرقينه.
- صرت أحسد ذلك العقد لاهتمامك به و التنهيدة العميقة و النظرة الحالمة في عينيكِ.
لماذا يحرجني ذلك العلي؟ لذا حاولت أن أغير الموضوع بسرعة؛ "صحيح متى ذهبتم للأستاذ نبيه؟"
- عندما خرجت وجدني بالطريق و دعاني لآتي عنده و أن أخبر علي بذلك، هذا الأستاذ نبيه فعلاً نبيه و جلساته لا يمل منها.
(نعم يا أخي، فعلاً نبيه ويقرأُني من دون كلام و كثيراً ما وجدت نفسي أمامه بلا أي قوة أطلب نصحه في متاهة حياتي، كم تمنيت أن يكون هو والدي بتفهمه لي، دائماً ما يخبرني بأن حياتي تدور في طرق تتلاقى و لكني أخاف من نقطة التلاقي هذه و أحاول تجنبها و أهرب من المستقبل الجميل إلى ماضي مشوه و حتى الماضي أستطيع أن أجعله نقطة انطلاق في حياتي و أحاول أن لا يتكرر مرة أخرى و لا أنسى جملته؛ طيبة قلبكِ تغمركِ لأنها من عقلكِ و قلبكِ.)
- .ههه أتخيل بجلستنا هذه و الشرطة تأتي لتعتقلنا بحجة أننا إرهابيين، تخيلي أن علي لم يحضر إلا متأخراً لأنه كان نائما هنا .
- عندما رأيت هذه الأريكة المريحة لم أفكر إلا بقليل من النوم أقتل به تعبي و صداعي.
أنهيت كل شيء في المطبخ و ذهبت أسألهم إن كانوا بحاجة لشيء قبل أن أنام، فقال علي و هو يلح على كل كلمة؛
- مينة، ابقي قليلاً أريد أن أتكلم معكِ في موضوع مهم.
- فعلاً أنتما في حاجة للتحدث، لأن الأمر طال أكثر من اللازم، سأذهب الى غرفتي و عند أول صوت ستجدونني هنا أتدخل رغماً عنكما .
انتظر دخول مازن لغرفته و هو يقول - يبدو أن حديثنا هذا كل مرة يتأجل، لكن هذه المرة لا مفر لك مني.
- بالفعل يجب أن ننهي الموضوع.
قلت له و شيء يكتم على صدري، فتابع بحزن؛
- أنا مستعد لأمنحكِ ما تريدينه (خوف و حزن اعتراني لجملته هذه، ألست أنا من سعيت لها؟ ) لكن بالبداية أحتاج أن أعرف أسبابك.
- الأسباب كثيرة، أولها أن هذا الأمر تم لأجل مازن بعد ذلك الحادث و ثانياً نحن غير متناسبان و متناقضان كثيراً و حتى والدتك لا تريد هذا الارتباط و أحب أن أعيش حياتي دون أن يشاركني أحد. ( هذه الأسباب كانت حقيقة و لكنها أصبحت شيئا غير المرتبة الأولى. )
- هذه ليست أسباب مقنعة و إذا تذكرين الأقطاب المختلفة تتجاذب و والدتي ليست هي الموضوع الآن، لماذا تصرين على البقاء بعيدة؟ و لا تنسي أن حياتكِ تؤثر على حياة شقيقكِ، من حقه أن يعيش و يكون عائلة بدوره، أما لقب مطلقة سيكون كالنار التي تنتشر بالهشيم حتى لو كنت في آخر البلاد... اسمعيني جيداً، أنا أحبكِ لدرجة لا أعرف عمقها ولا أخجل من الإفصاح عن مشاعري لأنها قوة و ليست ضعف مثلما يظن البعض و أنا متأكد من أن الحب يستطيع أن يغير كل شيء .
إلى هنا و بدأ كل شيء بالتلاشي و كلمة الحب أصبحت تعيد لي أسوأ شيء في حياتي، لم أتمالك نفسي و أنا أصرخ بوجهه..
الحب.. الحب! تظنونه مثل العصا السحرية تغير كل شيء وماذا بعد الحب؟ لن تراني إلا مجرد شي تملكه و من حقك أن تفرض عليّ كل شيء و تجعلني حبيسة جدران حياتك قبل المنزل، ستسلب مني كرامتي و تجعل شخصيتي مجرد رماد لنار انطفأت.. ستشك بكل تصرفاتي و كل هذا مباح باسم الحب و لن تتوانى عن ضربي! لا أريد الحب حتى لو اقتلعت قلبي.
بكل حرقة كنت أضرب على قلبي، فأمسكني من ذراعيّ و هو يهزني بقوة؛ ما هذا الهراء الذي تتفوهين به و كيف سأفعل كل هذا؟ هل ترينني في كوابيسك؟ لماذا كل شيء ترينه بعين السوء؟.
الغضب الذي ارتسم على ملامحه و الألم في ذراعيّ أفلت معهما كل شيء في داخلي وأنا أرى والدي أمامي.
"لن تضربني! لن أسمح لك بذلك! لست ضعيفة! لن أسمح لك بهذا! لن تضربها مجدداً لست خائفة منك!.
لا أعرف بلسان من أتكلم و في أي زمن ولم أجد نفسى إلا و أنا أضربه على صدره بكل ما تبقى لي من قوة وكنت أسمع صوت مازن بعيدا و هو يحاول أن يجعلني أصغي إليه ثم ذراعيّ علي تقيدانني بقوة و يسندني على صدره، كلما حاولت الإفلات لا يتركني إلى أن خارت قواي و سقطت على الأرض وهو معي و بدت صورة مازن ضبابية و هو يمسح دموعي ويقول كلاما لم أفهم منه شيئا و أنا أتمتم : "أرجوكم أخرجوا من رأسي، أصواتهم تقتلني"
كل شيء أردته أن أهرب من أمامهما وأحمل معي أوجاعي وألمي و خجلي، أخبرتهما بأني بخير حتى يطلق أسري من بين ذراعيه ثم ذهبت إلى غرفتي أجر أقدامي بالكاد، غيرت ثيابي وارتميت على سريري أندب الماضي و أشيع المستقبل، فتكورت على نفسي و لم أعد أستطيع فتح عينيّ.
لا أعرف إن كنت نمت أم لا لكني شعرت بمازن يسألني عن مسكن الصداع، فأخرجته من الدرج و أعطيته له وبالصدفة لمحت القفازات فارتديتها بسرعة حتى لا أنساها مرة ثانية و ما كدت أغفو حتى عاد يطرق الباب و هو يسألني عن مكان الأغطية الإضافية فأشرت له إلى الخزانة العلوية.
أخبرني أن علي سينام عندنا فقلت له بخفوت عفوي :حسناً!
ثم غفو ت مرة أخرى لكن الكلمة رنت بأذني (علي سينام عندنا ) فجلست على السرير و حاولت أن أحارب النوم لأنه ليس في صالحي أبداً .


********



لين طاهر

بعد طرقات خفيفة على باب شقتي استعملت مفتاحي الخاص الذي وضعه راشد بنفسه في جيب الطقم الذي كنت أرتديه عندما هممت بالخروج و أنا أحمل قالب الحلوى، تلفتُّ في الشقة مستغربة عدم وجود راشد فيها ودخلت إلى غرفتنا لاعتقادي أنه ربما نائم لكنه لم يكن موجوداً و بعد لحظات أدركت أن راشد غير موجود في الشقة، اعتراني بعض الخوف و أنا أتساءل أين يمكن أن يكون في هذا الوقت، حاولت أن أتذكر إن كان قد أخبرني أنه سيخرج، فهو عادة يخبرني ليعلمني بمدة غيابه، راشد يدرك خوفي الشديد من المكوث وحدي ليلاً و هو حريص على مهاتفتي كل نصف ساعة حين يكون في إحدى مناوباته الليلية في المستشفى.
هذا التفكير أثار ارتباكي و جعل دقات قلبي تتسارع حتى أنني أكاد أسمعها، كنت أفكر و أنا أبدل ملابسي ثم خطر لي بسرعة أن أتصل به عبر الهاتف الخلوي، بحثت عن هاتفي، لكن الصدمة أن هاتفي كان بجانب هاتف راشد على المنضدة بجانب سريري، قفزت كالمذعورة و أنا أتساءل بخوف شديد." أين أنت يا راشد؟ " شعرت أنه سيغمى علي من القلق عليه، كنت أتنفس بسرعة كبيرة و أنا أفكر لمن يمكنني أن ألجأ ليبحث معي عن راشد، أنا لا أعرف أحداً من أزواج صديقاتي و بالتالي لا أعرف إن كان أي منهم سيرحب بهذه الفكرة، لا أريد أن أضع راشد في موقف محرج مع أي من الرجال هنا، فالعلاقة بينهم مبنية على الاحترام المتبادل بينهم، قفز إلى ذهني بسرعة السيد نبيه، ذاك الرجل الذي أكن له احتراماً خاصاً لأنني أشعر أنه يعاملني بحنان أبوي وتفهم أخوي راقي. نعم سأذهب إلى السيد نبيه، هو حتماً سيتفهم قلقي على راشد كما أنه دائماً يشعرني أنه يدرك صعوبة الغربة على فتاة مثلي يقضي زوجها معظم وقته مشغولاً في مستشفاه، له فضل كبير في تمكني من التعايش وسط كل هذه الظروف لأنه يعيرني الكتب الرائعة وينصحني و يوجهني لما أقرأ في كثير من الأحيان.
كنت أهم بارتداء حجابي، فقد مضت ساعة الآن و أنا أكاد أموت قلقاً على راشد، لكنني فجأة سمعت صوت الباب يفتح و توجهت بينما أرتجف هلعاً لأنظر من بالباب فإذا به هو، كان قلبي سيتوقف عن الخفقان خوفاً لأنني كنت أظن أن أحدهم قد اقتحم شقتنا ثم فرحاً لأن راشد بنفسه كان يقف مبتسماً على مدخل الشقة، لكن مهلاً..!
شعرت أنني أرى شبح ابتسامة ساخرة تلوح على شفتيه بينما أنا أكاد أجن من الخوف، سألته باندفاع متوتر:
- راشد أين كنت؟ و لماذا لم تخبرني أنك ستخرج؟ و لم تأخرت؟ و لماذا لم تأخذ هاتفك معك؟
بهدوء شديد كان راشد يتقدم نحو المطبخ و يصب لنفسه كوباً من الماء، ثم استند بجذعه إلى الثلاجة و هو يسألني بهدوء مخيف:
- ماذا كان آخر سؤال؟ آه نعم، لماذا لم آخذ معي هاتفي؟
شرب كوب الماء و وضعه جانباً بينما أنا أتأمل تقاسيم وجهه الصارمة و كأنها منحوتة من حجر، ثم أردف قائلاً:
- لقد وضعته بجانب هاتفك يا لين ليؤنس وحشته، فهاتفك يقضي وقتاً طويلاً وحيداً كل يوم!!
أرجعت رأسي إلى الخلف قليلاً و أنا أتأمل وجهه علني أجد ما أبحث عنه من إجابة لسؤال يحيرني، لم فعل راشد هذا؟، كأنه تعمد إثارة قلقي.. أجبته بإصرار:
- كان بإمكانك ترك ملاحظة لي، أين ستذهب وإن كنت ستتأخر حتى لا أشعر بكل هذا القلق الذي جعلني أموت خوفاً.
قاطعني راشد قائلاً باستيضاح :
- إذن فلقد شعرتِ بالقلق و الخوف...
كنت أنظر إليه و أنا لا أستوعب بروده و هدوءه المقيت هذا، ليتني أستطيع أن أصرخ في وجهه لأخرج كل الذعر الذي شعرت به يتملكني و أنا أتساءل أين يمكن أن يكون، حركت رأسي يميناً و يساراً بينما بدأت دموعي بالتساقط ألماً و أنا أدرك أخيراً أنه فعلاً و قصداً قد تعمد ذلك، أجبته بألم :
- أنا لا أصدق أنك تركت هاتفك فقط لتجعلني أشعر بخطئي لتركي هاتفي في البيت، أنا أنساه من دون تعمد أو تقصّد لذلك، ببساطة أنساه، لكنك تركته فقط لإثارة الذعر في قلبي، أنت تعرف تماماً أنني أخاف السكون في الليل و لا أحب أن أبقى وحيدة، لكنك يا راشد تركته بدم بارد دون أي اعتبار لخوفي.
تركته و توجهت إلى غرفتي لأحبس نفسي فيها كما أفعل في كل مرة أتشاجر فيها مع راشد و سمعته يصرخ قائلاً:
- أجل بالتأكيد....أسرعي و اختبئي في حجرتك كالأطفال....علك بعد اليوم تدركين أهمية الهاتف!
صمت قليلاً ليضيف بعدها بغيظ :
- مرتين في اليوم تنسينه؟ ساهية و حالمة كالعادة.
التفتُّ إليه و أنا أغلي من الغضب منه، دائماً يتهمني بأنني طفلة و بأنني لا أدرك أهمية كثير من الاشياء .، نعم بالطبع فهو الدكتور الذي يعرف كل شيء عن كل شيء، أجبته متوعدة و أنا أقف على رؤوس أصابعي من الغيظ:
- حسناً راشد أنت لن تنام في غرفتي و اذهب من حيث أتيت.. لا أريد أن أعرف أين كنت أو أي شيء عنك.
و أكملت خطواتي السريعة نحو الغرفة و تناولت وسادته وغطاء جانبي و رميتهما على الأرض أمام الغرفة و أحكمت إغلاق الباب على نفسي.
كان راشد واقفاً ينظر إلي و كأنه لا يصدق أنني فعلاً سأرمي له وسادته خارجاً و على عكس ما توقعت، سمعت خطواته الهادئة تتقدم نحو الباب و يناديني قائلاً:
- تعرفين أنني أستطيع أن أدخل إلى الغرفة بسهولة لو أردت.
سمعته يضحك بخفوت و بلا مبالاة ثم أردف يقول:
- لكنني الليلة عندي أعمال كثيرة و أحتاج إلى الهدوء بعيداً عن ثرثرتك التي تصدع رأسي، تصبحين على خير.
جن جنوني و أنا أسمعه يتغنى بالارتياح لأنه سيكون وحده ولم أتمالك نفسي و صرخت من خلف الباب :
- إنها أنا من سترتاح منك يا حجر الجرانيت، أنت شخص عديم الإحساس و مستبد و أنا لا أريد قربك أبداً أيها الراشد المغرور.
صمت رهيب في الخارج جعلني أدرك فداحة ما تفوهت به ووضعت يدي على فمي و أنا ألوم نفسي على تسرعي و تهوري بكلماتي تلك، ثم و بهدوء مخيف يخفي خلف طياته وعيدا وتهديدا:
- ألجمي لسانك يا لين و إلا أسكتك بطريقتي الخاصة.
كنت سأعتذر منه فوراً على كلماتي لولا أن يده التي ضربت الباب بشدة جعلتني أقفز بذعر في مكاني و أنا أسمعه يضيف:
- لكنني أقسم بأنني سأجعلك تندمين على كلماتك هذه، سأجعلك ترين حجر الجرانيت عديم الإحساس كيف سيتصرف معك يا لين.
كدت أختنق من الخوف الذي ألجمني و أردت فعلاً أن أقدم اعتذاري و ما أن فتحت فمي للمرة الثانية حتى سمعته يكمل بسخرية و تهكم مريرين:
- لكن ماذا أتوقع من طفلة فارغة الرأس؟.....ابقي في غرفتك حتى الصباح ولا تخرجي منها.. اجتنبيني هذه الليلة حتى لا أقول أو أفعل شيئا أندم عليه.
بكيت حتى تعبت و أنا ألوم نفسي على ما تفوهت به، راشد معتد جداً بنفسه و لن يقبل أبداً كلمات كهذه و لو مزاحاً، فكيف و أنا ألقيها كقنابل في وجهه، لكنه أيضاً مخطئ، يتركني ساعة كاملة أموت فيها من الخوف قلقاً عليه فقط ليعلمني أن لا أنسى هاتفي أبداً، لست طفلة ليعلمني بهذه الطريقة.
جلست على سريري أشعر باكتئاب كبير لا أعرف ماذا أفعل أو كيف أتصرف، ثم وقعت عيناي على الكتاب الذي أعارني إياه السيد نبيه قبل يومين فتناولته متأملة عنوان الرواية للأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، رواية عائد إلى حيفا، لن أنسى كيف لمعت عينا العم نبيه " كما أحب أن أدعوه" بإعجاب حين أخبرته أنني قرأت جميع أعمال هذا الكاتب المناضل ما عدا واحدة، و بابتسامته الدافئة المشجعة أكملت حديثي موضحة له كيف كنت أقضي معظم وقتي بين أرفف الكتب الشامخة في مكتبة الجامعة الأردنية لأقرأ كل ما تقع عيناي عليه من روايات و دواوين شعرية، تلك المكتبة الضخمة التي ربما أعرفها أكثر مما أعرف كليتي، أذكر أنه ناقشني في رواية " رجال في الشمس" وحين أخبرته بتعاطفي الشديد مع الابطال و الأحداث المحزنة التي في الرواية، وجه تفكيري لما هو أبعد من ذلك حين أخبرني أنه يرى في نصها الإنساني تجربة عاشها غسان كنفاني وعاشها كل فلسطيني، تجربة جرح وطن، و عذاب إنسان عانى قهراً و ظلماً و حرماناً و تشرداً، إلا أنه دائماً وأبداً يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في الوجدان، ثم سألني بعدها عن الرواية التي لم أقرأها لهذا الكاتب، فأوضحت له أنني لم أقرأ " عائد إلى حيفا" لأنني شاهدتها فيلما سينمائياً مرتين فيلم " عائد إلى حيفا" و " المتبقي"....لكنه كان مصراً أن قراءة الرواية مهما كان الفيلم جيداً تكون أكثر عمقاً و أعظم تأثيراً، فأعطاني الرواية على وعد أن يناقشني في أحداثها و كيف أراها..... ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي و عبارة " طفلة فارغة الرأس" تقفز إلى أفكاري، نعم بالتأكيد! فكوني الأولى لمدة اثني عشر عاماً بلا منازع على دفعتي ثم التتخرج من الجامعة بامتياز مع مرتبة الشرف لا شيء أمام عبقرية الدكتور راشد. هل نسي أنني من صحح له ثلاث كلمات في بحثه الأخير حين استبدلتها بكلمات " أفضل" على حد قوله؟ أم أنه نسي أنني قمت بعرض نتائج بحثه برسم بياني أبدى بنفسه إعجابه الشديد به! أعترف أنه ذكي جداً و ألمعي و حاضر البديهة، أدركت هذا من جلساته مع والدي ( خاله ) و هو يبرر غيابه الطويل بانشغاله الشديد في الأبحاث التي يقوم بها و أنه دائماً يتم اختيار بحثه من ضمن العشر بحوث الفائزة في المؤتمرات...حسناً" ولكنني أيضاً متميزة و لست فارغة الرأس كما يقول السيد حساس! هززت كتفي و كأنني أنفض عن نفسي التفكير ثم عدلت الوسائد خلف ظهري و بدأت بقراءة الرواية، لم أشعر بالوقت و أنا اقرأ و أقرأ، بكيت بصمت مؤلم على أحداث الرواية، كنت أشعر أنني أرى و أسمع كل موقف فيها، و حين انتهيت منها وضعتها جانباً و قد غمرني شعور هائل بالحزن والألم والمرارة، واستحضرت في ذاكرتي المشاهد الأخيرة من فيلم " المتبقي" حيث تصل الأحداث إلى ذروتها في الجهاد الفدائي والتضحية بالنفس عندما تأخذ الجدة من زوجها الصحافي المناضل حقيبة تضم قنبلة موقوتة و بمغامرة جريئة تصعد بها إلى القطار الذي يقل الصهاينة في مشهد مليء بالتوتر و الإثارة، و بعد سير القطار يكتشف أمرها الضابط الصهيوني 'شيمون' فتقفز مع حفيدها من القطار الذي ينفجر بعد لحظات من قفزها فتضحي بنفسها ويبقى حفيدها حياً، وتبقى صرخته امتداداً لحياة فلسطين.
اعتصر الألم قلبي و ضاقت بي الغرفة و أردت الخروج منها، لا أريد أن أبقى وحيدة، قراءتي للرواية جعلتني أدرك أن أي مشكلة أخرى تهون، تذكرت ما حدث منذ قليل و فكرت أنني ربما يجب أن لا أدع مجالاً للغضب و الكدر ليحول بيني و بين راشد، سأتجاوز عن كلماته هذا المساء و ربما أعاتبه عليها في وقت آخر، لكن الحياة فيها من الآلام ما يكفي، لا يجب أن نتخاصم، يجب أن نكون دائماً على وفاق لنستطيع أن نتواصل و نتعايش، نعم قررت أنني سأصالح راشد، أعرف أنها ستكون مهمة صعبة لكنني يجب أن أحاول، و ما إن هممت بالنهوض و كلي عزيمة حتى استوقفتني نفسي لتقول لي :
- هو أيضاً أخطأ حين ترك هاتفه متعمداً فقط ليعلمك درساً، أفهميه أنك لست طفلة ليقوم بتربيتك .
بررت موقفه قائلة:
- لكنني نسيت الهاتف مرتين اليوم، ثم إنه غادر مقر عمله قلقاً علي.
جاءني ذلك الصوت الشرير يقول لي متلكئاً عند كل كلمة :
- تركه متعمداً بينما أنت نسيته دون قصد.
أجبت من فوري معترفة بخطئي :
- ما كان يجب أن أقول له أنه حجر جرانيت و عديم الإحساس، لا أدري كيف زل لساني بها؟
باستنكار عادت نفسي تسوّل لي:
- هل وصفته بما ليس فيه؟ صارم كالحجر و هادئ و غير مبالي، ثم إنك لست فارغة الرأس .
- نعم صحيح، لكنني لن أستمع إليك أيتها الشريرة و أنا متأكدة من أنه لم يقصد، ثم إنني سأصالح راشد يعني سأصالحه.
- و ماذا إن صدك ببروده و غروره؟
- ششششش سأذهب لرشودي الحنون.
ضممت وسادته الثانية أشم عطره و أنا أقول :
- حبيبي الحساس أنا قادمة إليك يا رقيق...
ضحكت بخفوت شديد و قمت لأرتب نفسي و أرتدي قميصاً جديداً كما فعلت نهى في رواية " امرأتي والبحر" لتصالح شاهرها ثم تعطرت بسخاء لأدير رأس راشدي العنيد، علني أجد منفذاً لأتسلل منه عبر جدار البرود الذي أعرف أنه يلفه الآن....
تسللت بهدوء و حذر للغرفة الأخرى التي يتخذها راشد غرفة لملابسه التي لا تتسع لها خزانة الحائط الموجودة في غرفتنا، حيث فيها مكتبه الخاص و أريكة مريحة يمكن أن تتحول إلى سرير و بجانبها طاولة مستديرة مرتفعة نوعاً ما عليها أباجورة جميلة تبعث ضوءاً ناعماً، كنت أتأمل راشد من باب الغرفة المفتوح و قد استلقى على الأريكة، ظهره للباب ووجهه للحائط الذي ترتكز عليه الأريكة و يبدو أنه يشرب قهوة و يقرأ كتاباً لأنه كان قد توسد يده و هو يستند إلى مرفقه ليتمكن من قراءة الكتاب و شرب القهوة...
أخذت نفساً هادئاً و تقدمت ببطء شديد نحوه، لكن خطواتي تجمدت عندما قال :
- أخرجي و أغلقي الباب خلفك.
شهقة خافتة صدرت مني و أنا أسمّي بالرحمن، لقد أرعبني، فقد قال جملته تلك دون حتى أن يلتفت أو تنقبض له عضلة، كيف شعر بدخولي؟!!
أغلقت عيناي و أنا أقنع نفسي أن أتقدم و لا بأس فهذا الصد متوقع منك يا حبيبي الخشن، تقدمت بخطوات هادئة حتى وصلت عنده و همست بصوت خفيف و أنا أدعو الله أن يكون غضبه قد خف :
- ر...ا..شـــ...د.
وحين لم أسمع رداً، أردفت قائلة:
- راشد أنا أشعر بالبرد الشديد .
بكل هدوء و دون أن يلتفت أجاب بلا مبالاة:
- هناك غطاء إضافي في الرف العلوي من خزانتي .
حاولت أن أكتم صوت أنفاسي و نبضات قلبي التي اضطربت لبروده الشديد في التعامل معي و اقتربت أكثر و أنا أميل نحو جسده المستلقي على جانبه و هو ما يزال يوليني ظهره لأضع يدي بتردد على كتفه و أميل أكثر نحو أذنه لأهمس له من بين شفتي برجاء :
- أرجوك راشد أنا خائفة و لا أريد أن أبقى وحدي.
لم يتحرك لكنه وضع فنجان القهوة من يده على الطاولة، ودون أن يلتفت رفع الغطاء من جهتي بدعوة صامتة لأن أنضم له على الأريكة الصغيرة بينما ما يزال على وضعه وقراءته لكتابه .
لم أهتم حقاً سوى أنني و أخيراً بجواره أنعم بالدفء والأمان، التصقت به و دفنت رأسي في ظهره الصلب و أنا أستنشق رائحته العطرة و أستشعر قربه الحميم مرة أخرى، بحذر شديد تسللت يدي من ظهره نحو خاصرته فبطنه صعوداً نحو صدره، شعرت بعضلات صدره العريضة تنبض من خلال أزرار قميصه المحلولة و بنعومة فائقة كتبت بسبابتي بينما ضممت نفسي أكثر له (أ....حـ....بــ.....ك) و أعدت كتابة الكلمة مرة أخرى قبل أن أقبل ظهره .
لحظات مضت شعرت بعدها براشد يغلق كتابه و يلتفت نحوي ليضع ذراعه الأيمن تحت رأسي ليضم كتفي و بذراعه الأخرى يمسكني من خاصرتي ليلفني من فوقه و يضعني على الجهة الأخرى من الأريكة و قد أصبح الحائط خلف ظهري . كنت ألهث من هول المفاجأة فراشد تحرك بسرعة لم أتوقعها ثم مال نحوي و في عينيه وهج أخافني و همس أمام وجهي:
- و الآن يا لين، أنت في قبضتي...لن تستطيعي الفرار و أنت محجوزة هكذا بيني و بين الحائط.
اتسعت عيناي ذهولاً و رعباً من تقاطيع وجهه الصارمة التي أشعرتني بالخوف... لم أستطع أن أتحرك و ربما لم ترمش عيناي و أنا أحدق في عينيه اللتان استحالتا إلى ليلة سوداء تنذر بالعواصف.. رفع أحد حاجبيه استنكاراً و قال بتهكم واضح و هو يلف حول أصابعه خصلاً من شعري المتناثر ليشده بشيء من الغضب :
- إذن فأنا عديم الاحساس و حجر جرانيت...
لم أتكلم و لم أستطع حتى أن أفتح فمي، لا أعرف لماذا شعرت بخيبة أمل مريرة و أنا أراه يحاسبني على كلماتي تلك بعد أن رسمت له رسماً أنني أحبه، شعرت بالألم و لم أرغب حتى بمعاتبته على ما رشقني به من كلمات، لماذا ألتمس له الأعذار في ساعات غضبه و أثق أنه طيب و لا يقصد بينما هو يحاسبني على كلماتي و لا يكترث بما قال عني أو تصرف معي مما أثار استيائي؟.... شعرت بالدموع تتجمع في عيني فأغلفتهما بقوة كي لا أرى شيئاً ثم شعرت بأنفاسي تضطرب و أنا أسمع راشد يهمس أمام وجهي:
- لين... إفتحي عينيك و أنظري لي .
ثم شعرت به يسحب منديلاً من على الطاولة ليجفف دموعي. فتحت عيناي ببطء و أنا أترقب ردة فعله، لكنه بادرني بسؤال لم يخطر على بالي :
- لم تخبريني كيف كانت أمسيتك مع صديقاتك؟
أطلقت تنهيدة طويلة و أنا أشعر أنني حتماً سأجن من راشد و تصرفاته المتقلبة معي، رسمت ابتسامة واهنة على شفتي وأجبته قائلة:
- استمتعت جداً معهن كعادتي، كل واحدة منهن لها سحرها الخاص.
ترددت قليلاً قبل أن أسأله:
- أين كنت راشد؟ و لماذا لم تخبرني أنك خرجت؟
ثم وضعت أناملي على شفتيه و أنا أقول:
- أرجوك لا تقل شيئاً عن الهاتف؟ كان بإمكانك أن تكتب لي ملاحظة؟
شعرت بصوتي يضطرب لتظهر فيه آثار البكاء، سحبت أناملي من على شفتيه ببطء و أنا أناجي عينيه قائلة:
- أنا شعرت بقلق شديد عليك، كنت سأجن لأنه ليس من عادتك نسيان هاتفك و أنا أفكر أين يمكن أن تكون و ماذا سأفعل وحدي من دونك؟ كنت سأموت من الخوف، فأنا لا أستطيع أبداً أن أعيش من دونك راشد.
لم أكد أكمل جملتي الأخيرة حتى شعرت براشد يطوقني بذراعيه رافعاً إياي قليلاً ليضمني إلى صدره، و كأن حركته تلك كانت كل ما أحتاجه لأنخرط في بكاء حبسته في صدري خوفاً و ضيقاً و ألماً...بخفة شديدة استلقى على جانبه بينما ما يزال يحتضنني ليجعلني أتوسد ذراعه و يضمني بقوة نحو صدره بينما يربت على شعري وهو يتمتم لي بكلمات بثت الطمأنينة في قلبي من جديد.
عندما هدأت نفسي، شعرت بأصابع راشد الطويلة ترفع ذقني نحوه و تمسح دموعي بحنان ثم رتب شعري مبعداً إياه عن وجهي قبل أن يقول:
- خضراء العينين.. من أين تسربت إلى جدول عمري؟
كانت آثار البكاء ما تزال ظاهرة على صوتي حين أجبته بعتاب :
- نعم بالتأكيد، من أين أتت هذه الطفلة المشاكسة لتثرثر وتزعج الدكتور راشد الذي لا يعرف إلا العمل.
ضحك راشد بخفوت و هو يضمني أكثر ثم ابتعد قليلاً لينظر إلى عيني و هو يقول:
- آه لو تعرفين كم انتظرت هذه اللين المشاكسة حتى تكبر، ربما يوماً ما سأخبرك .
اتسعت عيناي دهشة من كلماته و ما إن هممت بسؤاله حتى بادرني بالسؤال أولا و ابتسامة لعوب تلوح على شفتيه:
- هل سأسمع يوماً من هاتين الشفتين ما كتبته على صدري؟
أطرقت برأسي و أنا أدفن وجهي بصدره لأبتعد عن مرمى نظراته الحادة و المفصلة لكل ما تقع عليه عيناه.
ضحك مرة أخرى و هو يضمني قائلاً :
- حسناً يا لين الخجولة.. ما رأيك أن نذهب إلى غرفتنا لتثرثري لي عن ما فعلته اليوم، فقد ضقت ذرعاً بهذه الأريكة.
رفعت رأسي نحوه بحدة و أنا أعقد حاجبي اعتراضاً على كلمة " تثرثري"، لكنه نهض واقفاً قبل أن يرفعني حتى صرت على ركبتاي فحملني نحو غرفتنا و هو يسألني ضاحكاً بعد أن غمغمت له أنني لست ثرثارة :
- أكثر ما أحبه ثرثرتك يا لين، فأنت تلونين كل شيء بألوان قوس قزح.
برمت شفتي و رفعت رأسي و هو يضعني على سريرنا و قلت له بينما أندس تحت الأغطية لأبتعد عنه:
- أنا لن أخبرك عن جلستنا الرائعة و لا عن ذلك العقد الملكي حتى لو رجوتني لأفعل...
ضحك راشد ملئ فمه ثم انحنى نحوي ليقول لي و هو يحرك حاجبيه بمكر يشوبه التهكم:
- يا حبيبتي أنت تتحرقين لإخباري كل شيء حتى لو لم أسالك، ستنطلقين في الحديث من تلقاء نفسك .
كان راشد قد اتجه إلى جهته من السرير ليرفع الغطاء ويندس تحته غامزاً لي و هو يضمني نحوه :
- هيا يا لين أريد ان أنام، أنهي قصتك الحلوة لننام بهدوء.
بحماس شديد جلست على ركبتي و أنا أصف لراشد ذلك العقد الملكي المبهر الذي أرتنا إياه صديقتي زينب:
- عقد ملكي من الياقوت الأحمر تشتعل أحجاره بحمرة قانية و كأنها قلوب تنبض بالحب، ياقوتة كبيرة في المنتصف وحولها تصطف ياقوتات أصغر كأزرار من الورد الجوري الأحمر، تتلألأ و تعكس احمرارها بوهج ينير أحلك الليالي وأظلمها.
كنت قد أغمضت عيناي و أنا أصف لراشد العقد؛" كان رائعاً بشكل خيالي، تخيلته في صندوقه القديم و قد قدمه أحد السلاطين لزوجته الحسناء، تعبيراً منه عن حبه العميق لها.
أيقظتني لمسات راشد على قميصي وهو يتحسس طريقه صعودًا نحو وجهي و قد امتدت أصابعه لتداعب شفتَي بينما يقول لي بصوته الذي أثقلته العواطف:
- تعالي يا أميرة الياقوت، أريد أن أنام لأستيقظ باكراً، فعندي عمليات يجب أن أكون مستعدًا و نشيطاً لها.
استلقيت على ذراعه فضمني إلى صدره بقوة، لكنني رفعت رأسي و أخبرته ما عصفت به أفكاري :
- لكنني أحب الزمرد، ستكون أحجار الزمرد على جانبي كلمة أميرتي في القلادة التي طلبتها منك تخطف الأبصار ببريقها، أم تُراك نسيت أنك وعدتني بأن تصممها لي؟
كان راشد ينظر إلى عيناي و يبتسم بحنان و شغف حين قال لي:
- نعم الزمرد سيناسبك بالتأكيد.
وقبل أن أعاود " ثرثرتي " من جديد، أسكت راشد كل محاولاتي بقبلة طويلة أودعها شوقه وحبه و حنانه العميق. شعرتُ بحضنه الدافئ كدفء الحياة و العابق دائماً برائحته الشرقية التي تشبعت بها مسامات جسده
الحبيب، شعرت بقوة ذراعيه و صلابة صدره و أنا أشم رائحته التي تشعرني و هو يحتويني بحبه الغامر أنني لا أعيش غربة بعيدة عن وطني و أهلي، فهنا أنتمي و هنا أتمنى أن أبقى طوال حياتي حيث الأمان و الحب.


*************



علياء عبد الحميد

أنا عند الأستاذ نبيه، هاتفني بعد انصرافكِ، سأهاتفكِ عند قدومي لتُعدّي العشاء! "
" سأهاتفكِ عند قدومي لتُعدي العشاء!"
" لتُعدي العشاء!"
" العشاء!"
ملصق تقريري على الثلاجة يتشبث بمغناطيس صغير على هيئة بطيخة ضاحكة تركه عمرو لتستقبلني كلماته عند عودتي من جلسة النون العربية ليُطمئن معدته على تموينها الغذائي:
" حسناً يا عمرو، لكَ ما تشاء يا حبيبي "
التفتُ لـآية وأخبرتها بحماس " حبيبتي ما رأيك في تناول مشروب الشيكولاته الساخن بالخارج؟ "
صفقت بحماس وتبعتني مسرعة لتقلدني وأنا أبدل ملابسي بأخرى أكثر دفئاً لأحتمي بها من برد لندن القارص .
- يوم مميز! حقاً كنت أريد لهذا اليوم أن يكون مختلفاً ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه -
هكذا كنت أهمهم لنفسي ساخرة لحظة وصول المصعد للطابق الأول .
مررنا بجانب شقة الأستاذ نبيه فسمعنا ضحكات رجولية بالداخل، لحسن الحظ لم تميز آية بينها ضحكات والدها، وإلا كان الحاحها علي للمرور بالأستاذ نبيه أصبح تشبث جنوني!
أعذرها في تعلقها بالأستاذ نبيه، هذا الرجل اللبناني الجنسية الخمسيني الوقور، أنا أيضاً لا أنكر الدفء الأبوي الذي يغمرني عندما ينظر لي تلك النظرة الحنون كأنه يربت على كتفي و يخبرني صمتاً - أعلم يا ابنتي سر معاناتك - ولولا الحياء من تشبثي برجل أعزب كنت سأطرق بابه مثل آية بين الفترة والأخرى لأثرثر بلا انقطاع أو لألون في كتب الرسم .
ريتشيل سيدة منزل بارعة، على أن أعترف بهذا واجتماع النون كان رائعاً بكل ما للكلمة من معنى، أنا فقط ببساطة تركت عقلي في بيتي فلم أستطع الاندماج كما العادة، لِمَ أشعر أن الفشل يبسط سطوته على تفاصيل حياتي ولمَ أبحث الآن على النكد والكآبة، أمي محقة، أنا نكديه أفسدت استمتاعي باجتماع النون رغم أهميته لدي وها أنا أيضاً أفسد بهجة نزهتي مع ابنتي، غمزت آية بعينيها وهي تجذب يدي بكفها الصغير كي أسرع معها .
الساعة الثامنة مساءاً، شارعنا جميل في هذا التوقيت، الأشجار السامقة تزين جانبيه بأناقة، تبدو في إشراقة النهار بخضرتها اليانعة مبهجة للناظرين، خز قلبي حنين موجع لمساءات القاهرة المضاءة والمؤنسة دوماً بالمصابيح وزحام المارة، - شوارعكِ يا قاهرة لا تعرف السكون!- .
عدت بالنظر للأشجار فبدت لي بظلالها المتراقصة في هذا الظلام الساكن كعجائز حزينة تتجه نحوي برؤوسها المشعثه لتهشم رأسي وابنتي بعُصيها الغليظة التي تحملها، نفضت هذه الأفكار المرعبة من رأسي وأنا أعتصر كف آية في يدي لتبثني بعضا من الدفء والاطمئنان وهي تتقافز بجانبي احتفالاً بهذه النزهة الطارئة، غمزتها في كفها لتلتفت إليّ ونسرع بالخطى نحو المقهى القريب وقد عاد الأمن يغمرني فقناديل المقهى تمنح المساء سحراً خاصاً .
دلفنا للمقهى ليغمرنا دفئه بألوانه النارية وتصميمه الحميمي الأنيق، تخيرت طاولة في ركن هادئ بجانب المدفأة وطلبنا الشكولاتة الساخنة فصفقت آية بحماس، أشفقت عليها بفرحتها المفرطة من أجل نزهة بسيطة كهذه يبدو أنها لم تعتد الاغتراب بعد حتى أنا لم أعتاد ولا أظن أنني سأعتاد. فقط يا عمرو لو..! نفضت رأسي من ذكره وصببت جُل اهتمامي على ابنتي، يجب أن أمنحها بعض الفرح حتى لو لم أحظى به فكما يبدو أنني لم أرق للفرح فقد توزع بالتساوي على جميع رواد المقهى بملامحهم العربية التي أشعرتني بود ودفء سُحِب فجأة كما سُحِب الأكسجين من المكان عند وصول عصام الشوادفي، عصام السمج الذي سحب أحد المقاعد ليقتحم جلستنا بهندامه الأنيق وبلاهة محياه ليردد قائلاً :- أنتِ علياء. علياء عبد الحميد .
سؤال غبي يلائم سائله - أنتِ علياء عبد الحميد! لا يا رجل تفيدة عبد الحميد. سمج سمج سمج-
رمقته آية بامتعاض وهي تنظر نحوي مستفهمة، فأخبرتها بصوتٍ هادئ " قولي مرحباً يا آية لعمو عصام " أعادت له نظرها ليبتسم لها هامساً " مرحباً آية " زاد وجهها امتعاضاً ولم تنبس ببنت شفة .
أحبكِ يا آية أنتِ ابنتي حقاً، من يطيق عصام السمج هكذا كنا نطلق عليه أنا وعمرو بالصغر ابن أحد أقاربنا هاجر إلى لندن من فترة لا بأس بها، يكبر عمرو بعام ولكن أين الثرى من الثريا؟ يمثل هو ووالده فرع العائلة الثري والمُخزي، يا إلهي ما يزال يمتلك نفس الابتسامة الباردة والمستفزة ويعتقد أن أموال والده - أحد أعضاء مجلس الشعب الدائمين في العهد الغابر من أصحاب العقول الفارغة والكروش المنتفخة و رئيس حزب موافقون متثائبون - يمكنها أن تبتلع سخافته وتجعله جذاباً مقبولاً لدي، كم هو رخو لزج!
عبثت بهاتفي قليلاً استعداداً للنهوض بين لحظة وأخرى إن استمر في صحبتنا وبدأني بالكلام قائلاً :- أتمنى أن تقرروا المجيء عندنا، سيسعدني وجودكم، فنحن عائلة واحدة بالنهاية .
سألته عما يتكلم؟ فأجاب بابتسامة صفراء :- ألم يخبرك عمرو عن أمر الدعوة؟.
ثم هز رأسه بتفهم واسترخى للوراء في مقعده ليستدرك قائلاً :- كارول زوجتي ستفتتح متجر اضخما.
ابتسم لآية وأكمل :- به كل ما يتعلق بالأطفال، قابلنا عمرو صباح اليوم هنا، فمنزلنا قربكم لو تجهلين ذلك، وكان يتناول الإفطار مع صفاء ابنة خالتك .
صفاء! ابنة خالتنا ناهد! اسم صدم أذني وأصابني بالتشوش للحظات .
لمَ أتت صفاء هنا؟ صحيح هي مضيفة طيران ولكن لِماذا لمْ تتصل بي عند مجيئها وقابلته وحده؟ ولِمَ لم يخبرني بذلك؟ كدت أسأله المزيد ولكني التقطُ الفخ، فهو يريد إثارة غضبي. نهضت فجأة وجذبت آية التي أسرعت الخطى معي وأنا أودعه مبتعدة :- عذراً عصام مضطرة للمغادرة .
في لحظات معدودة وجدت نفسي بأنفاس مأخوذة أقرع جرس شقتنا وقد دغدغني الأمل وتناسيت مقابلة عصام - هل انتبه لغيابي؟ أيكون غاضباً مني؟.
قرعت الجرس مجدداً وأنا أغوص داخلي - ماذا ينقصني عن لين لكي يهتم بي زوجي كما يهتم بها راشد! -
فُتحَ الباب لتواجهني نظراته المصدومة وهو ينظر في الساعة قائلاً :- تأخرتِ عند ريتشيل، حسبتكِ نائمة بالغرفة .
اكتفى بهذا ليفسح لنا الطريق ويعود خلف حاسوبه ليكمل ما يفعله.
وقفت أمامه وقد ترقرقت دموع خائنة في عينيّ وأنا أخبره بحدة :- لا! لم أتأخر عند ريتشيل، بل تناولت العشاء في الخارج مع عصام الشوادفي.
رفع نظره إليّ وقد ظهر عليه غضبٌ أسعدني فهممت بالمغادرة إلى غرفة آية ولكني عدت لأستدرك قائلة :- آه صحيح إنه يبلغك بتحياته .
قرع باب غرفة آية الموصد فتجاهلته وقد دسست رأسي في صدر آية متمددة جوارها بملابسي على الفراش، اهتز الهاتف في جيب سترتي لأجد منه رسالة " لنا حديث في الصباح "
تذكرت الرسالة، فأسرعت لحاسوبي وقمت بإرسالها هامسة بدموع مختنقة - البادي أظلم -
عدت لأستقر بحضن آية وأنا أحدق بخيالي المتراقص على الحائط لينشغل صحوي بأي شيء كي يسقط مذعناً في مدينة الأحلام الكشري، عمرو، لين، عصام، صفاء، عقد ريتشيل، عقد جميل وريتشيل أيضاً جميلة مثل صفاء!


**********



خولة سعود

(أنا وشيطانيّ عند جارنا نبيه، سنشاهد المباراة عنده)
هذه الرسالة وصلتني في تمام الساعة السادسة، ثم (ليتك تدعين على إسرائيل كما تدعين على فريقي، النتيجة 0- 1 لصالح برشلونة) هذه الرسالة قرابة السابعة إلا ربع، وأخيراً (بقي عشر دقائق و تنتهي المباراة، لو لم يفز الريال، فستُحرمين من الذهاب لاجتماعكن القادم، حتى تعرفين كيف تدعين على فريق زوجك) و كان وقت وصولها السابعة و النصف.
لحسن الحظ أن هاتفي كان على وضعية الصامت، و إلا لضاعت الزيارة في ردي على رسائله، و مع ذلك فأنا مسرورة فلا يوجد شيء يسعد امرأة أكثر من رؤية رجل غاضب بسبب خسارة فريقه، و لكن لماذا لم يعد إلى الآن! الساعة وصلت إلى التاسعة، و من المفترض أن تنتهي المباراة قبل أكثر من ساعة. أوه صحيح! لقد نسيت التحليل الذي يشاهده من فضائية إلى أخرى، من يرى كثرة برامج التحليل الرياضية يدرك أنها مؤامرة دنيئة لإشغال شبابنا و رجالنا عن المصائب المحيطة بهم. حسناً حتى لو لم يكن هنالك تحليل، فخالد كان سيتأخر طالما أن مضيفه هو جارنا نبيه، كم يحبه خالد، في الحقيقة أنا أيضاً أحب هذا الجار لسببين، أحدهما أنه لا ينفك يشد من أزر خالد، و يحثه على بناء مستقبله، بل إن مشروع خالد لم يكن ليتم لولا مؤازرة نبيه له، و السبب الآخر أنه رجل كاسمه تماماً، و هذه السمة تجعلني أشعر بالراحة، فلا يمكن أن يحدث مكروه في عمارتنا طالما نبيه موجود بها، و الحق يُقال أن هنالك سبب ثالث، و هو أنه إلى الآن لم تصدر منه أي مؤامرة.
تأوهت عندما تذكرتُ أني لم أنزع عباءتي حتى الآن، بالرغم من أني عُدت منذ أكثر من نصف ساعة، أنا ممتنة لريتشيل كثيراً لأنها باجتماعاتها هذه أتاحت لنا فرصة رائعة لن يشعر بلذتها و قيمتها سوى مغترب عن أهله و بلده، أشعر بقلبي مثقل بالحب أثناء النون، فرغم اختلاف جنسياتنا، إلا أنني أعتبرهن جميعاً أخواتي الصغيرات، حتى ريتشيل التي تكبرني بثلاث سنوات و التي أرادت أن تفاجئني اليوم بالكبسة، لا أنكر أني تساءلت في البداية لماذا صنعت الكبسة بالذات، لكن نظراتها المستمتعة التي كانت ترمقني بها أثناء العشاء جعلتني أدرك أنها حقاً مؤامرة ضدي، فريتشيل صنعت الكبسة من أجل أن تجعلني أفكر بأنها حاكت لي مؤامرة، للأسف خطتها كانت ستنجح لولا شيء واحد، وهو أنها نسيت أنني ملكة كشف المؤامرات.
إن فشلت ريتشيل بمفاجئتي بالكبسة، فقد نجحت بمفاجئتنا جميعاً بالصندوق الأثري و العقد العثماني الفريد، و الذي أشعل فتيل المؤامرة في عقلي، فأولاً من هو هذا صديق والدها! و أخيراً لماذا أرتنا ريتشيل إياه! هل فعلت ذلك من قبيل الصداقة أم أرادت أن تتفاخر به أو ربما فعلت ذلك لغاية في نفسها!
رنين هاتفي أخرجني من غمرة أفكاري، و لأنني ظننتُ أنه خالد، فقد ضغطت على زر الإجابة دون أن أنظر إلى اسم المتصل، و كانت هذه أكبر غلطة في يومي، إذ أن المتصل صرخ في أذني قائلاً "أخيراً شرَّفت ست الحسن و الدلال"
زفرتُ قبل أن أجيب "و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته"
صاحت بغضب "لا سلام لأمثالك، أنا إلى الآن لا أعرف كيف سحرتي ابني و جعلته يتزوجك!"
نعم، هذه هي أم زوجي، و التي أعتقد أنها تقضي وقتها كله في محاولة إقناع خالد بتطليقي، فهي تكرهني كثيراً، بالله ما ذنبي أنا إذا رفض ابنها أن تزوجه أمه و لجأ إلى خطّابة! قلت برقة مصطنعة "كيف حالك و حال عمي؟"
ردت ساخرة "بدلاً من السؤال عن الغير، لما لا تسألي عن زوجك و ابنيك أولاً! لقد أرسلناك مع ابننا حتى تخدميه، لا أن تتسكعي مع جاراتك العربيات، و تتركيه وحيداً مع أولاد."
أجبت و قد طفح بي الكيل "رجاء يا خالتي! لا تهينيني بكلامك، زيارة لمدة ثلاث ساعات ليست تسكعاً" ثم أضفت بجرأة "و بالمناسبة هم أولاده بقدر ما هم أولادي"
قالت بغضب "أنت حقاً وقحة، بالرغم من المصيبة التي ألمت بكما مازال لسانك طويل"
التقطت أذني كلمة، فتمتمت "أي مصيبة؟"
قالت بدهشة "يا إلهي يا امرأة! ألا تعتقدين أن ما حل بابنك مصيبة!"
الآن أظلمت الدنيا في وجهي، فلم أع وأنا أصرخ فيها: "ماذا حدث لابني؟ تكلمي بسرعة!"
بعد لحظة مرت علي كيوم وأنا جامدة لا أستطيع حراكا، سمعت صوت والد زوجي يقول بحب: "خولة، اهدأي يا ابنتي"
همست برعب: "ماذا حدث؟
قال بلطف: "لا شيء، قبل مدة تعب أسعد، وأخذه خالد للمستشفى ليطمئن عليه"
صحت بقوة و قد امتلأت أجفاني بالدموع: "هذا كذب، قل لي ما به ابني؟، وتوقف عن اللعب بأعصابي"
صمت قبل أن يقول بهدوء: "سقط أسعد من فوق السرير على رأسه، فقد وعيه لنصف دقيقة، ثم بكى وأخذ يتقيأ كثيرا، بعدها نام مباشرة، ثم أردف: "اتصلت أم خالد قبل خمس واربعين دقيقة بخالد لتطمئن عليه، وأخبرها بما حدث لأسعد في سياق حديثه، فأخبرته أن يذهب به فورا للمستشفى، لذا لا تقلقي!"
سقط الهاتف من يدي دون أن أشعر، وانمحت جميع الأفكار من رأسي سوى فكرة واحدة أخذت ترن في أذني، فكرة تقول أنّ أسوأ ثلاث علامات حدثت له: فقد وعيه، تقيّأ، نام؛ هذا لا يعني سوى شيئا واحدا: أن ابني ...
سمعت صوت المفاتيح ومن ثم: باب الشقة يفتح، ليظهر منه خالد حاملا بيده أشرف النائم على كتفه، لم أستطع أن أتحرك، فقط أخذت أحدق في عينيه: لماذا لا يتكلم؟ لماذا لا يجيب على سؤالي؟ سؤالي الذي أريد أن أطرحه عليه، لكني لا أجرؤ خوفا من إجابته: (ابني؟ ماذا حدث له؟ أين هو؟!)
قال بصوت عطوف: "إنه بخير"
لم أرد، فظن أني أنتظر تفصيلا، أو ربما ظن أني لا أصدقه وفي الحقيقة أنا أشعر بالحالتين معا لذا أكمل قائلا: "تعرض لكسر في الجمجمة، يدعى الكسر الخطي وهو كسر غير خطير، يشبه الخط، ولن يسبب أي ضرر لدماغه، لا في الوقت الحالي ولا مستقبلا، كما أنه سيزول مع الوقت ثم أردف: "ولكنه سيظل في المستشفى بضعة أيام تحت المراقبة، أسعد بخير تماما"، وختم كلامه بابتسامة واسعة.
أردت أن أزفر براحة، أردت أن أصرخ شاكرة ربي، أردت أن أبكي فرحا، لكني لم أفعل ذلك، لأني رأيتها، رأيت شفته السفلى وهي ترتعش أثناء ابتسامته: وهي العلامة التي تخبرني أن زوجي يخفي أمرا ليس سارا.
وقفت وأنا أضغط قبضتي، ثم تمتمت: "قلها!"
فحلت بي الصاعقة وأنا أسمعه يقول: "حتى يتم التحقيق، فأسعد سيظل تحت رعاية وحراسة الشئون الاجتماعية، ولا يحق لنا رؤيته أبدا لاشتباههم بعنف أسري".


************




مونيا العلوي

أقفلت الباب ورائي وأشعلت أنوار الشقة التي كانت غارقة في الظلام، من الظاهر بأن ياسر وأيمن لم يعودا بعد فالصمت يصم الأذان في المكان. رفعت ساقي إلي واحدة تلو الأخرى أنزع عنهما فردتي حذائي و أرميهما بعشوائية في شقتي المرتبة. كنت أشعر بفرح كبير لأنني حضرت ذلك الاجتماع المميز وحمل صوتي نشوة كبيرة بينما أقول:" يا الله كتبت لي يوماً أرى فيه شيئاً أثرياً كذلك العقد." كنت أشعر بسعادة لا تصدق لأنني رأيت تلك القطعة و شاهدتها بأم عيني، كم أحب القطع الأثرية و كم أحب كل ما يتعلق بالماضي، أشعر بأن ما بقي من الماضي يحقق لي حلمي في نقلي إلى تلك العوالم الماضية و يا له من عالم! لقد نقلني ذلك العقد الأثري إلى عهد العثمانيين، ذلك العهد الذي لطالما جذبني تاريخه و أساطير سلاطينه .
حتى إنني قمت بجولة كبيرة في جميع أنحاء المآثر التركية ودوماً كانت تبهرني المعالم و الأماكن التي كانت فيما قبل في يد الدولة العثمانية و قد كنت شغوفة و مازلت بتصوير متحف آيا صوفيا في إسطنبول و قد أبهرني الفن المعماري لذلك المتحف كما إنني التقطت مئات الصور فقط عن الزخارف الاسلامية لقبة آيا صوفيا لكي أرى اليوم ذلك العقد بأم عيني، قطعة من ذلك التاريخ العظيم نفسه، آآه يا لهذا اليوم الحافل!
وضعت يدي على مقبض باب غرفتي الصغيرة، ليست غرفة نومي بل غرفتي الخاصة حيث عالمي الصغير ودخلت إليها وأنا لا أستطيع نزع ذلك العقد عن مخيلتي الذي ورثته زينب عن والديها، تملك بيدها قطعة لحريم سلطان عثماني. كم هو رائع أن تملك شيئاً من تاريخ عظيم بين يديك! ارتسمت على شفاهي ابتسامة و أنا أتذكر خوفها وحرصها الشديد على تلك القطعة، صحيح أنني أعشق كل ما هو أثري و ما هو نادر لكنني أيضاً لا أكبل نفسي بالحرص الشديد عليه لكن تلك ريتشيل و أنا هي مونيا قلت هذا و أنا أحدق إلى اللوحة الكبيرة التي كانت على الجدار لكي تنجح تلك الصور المثبتة على تلك اللوحة في إخراجي من أفكاري التي تمحورت فقط حول عقد زينب ريتشيل و تتجه نحو أفكار أخرى تملك مكانة هامة في عقلي. ارتسم العبوس والحزن على وجهي و أنا أتذكر آخر ما حصل بيني و بين ياسر هنا قبل أن أذهب لاجتماع النون، ماذا قصد بكلامه ذاك بأنني يجب أن أنسى أمر ذلك السياسي؟ أنا حقاً لن أفعلها. ليست مونيا من تتخلى عن مبادئها أو أهدافها و طموحاتها. هو يعرف هذا جيداً من الطريقة التي التقينا فيها. ما زلت أذكر جيداً عندما انتهت دراستي للقبور البريطانية هنا في لندن قبل سنوات لكي يتصلوا بي من المعهد الفوتوغرافي في باريس، أخبروني بأنه تم اختياري لكي أرافق بعثة من العلماء الأوروبيين و الباحثين عن أنواع الزواحف في شمال أفريقيا و أنا سأكون واحدة من المصورين المحترفين الذين سيرافقونهم لتصوير تلك الزواحف مع أنني كنت ما أزال شابة صغيرة في العمر لكن لموهبتي الشديدة التي لاحظوها في صوري و تخرجي من المعهد بتفوق كبير و أيضا لشجاعتي و جنسيتي العربية تم اختياري مع فريق محترف مما سيسهل عليهم التنقل في تلك المناطق، ابتداء من صحاري المغرب والجزائر وصولاً إلى حتى موريتانيا و تونس. كنت متحمسة لذلك العمل لدرجة لا تتخيل فقد كانت فرصتي الكبيرة والأولى لإبراز ذاتي و موهبتي في التصوير الفوتوغرافي الخطير في عمل حقيقي كبير. المسئول عن البعثة كان رجلاً إنجليزياً وقد تحمس لعملي كثيراً لأتفاجأ بعدها باعتذار رسمي من ذلك الباحث الإنجليزي لأنه تم سحب مشروع التصوير مني و ذلك بسبب ممول المشروع و هو رجل أعمال شاب رفض أن تكون المصورة هي أنا عندما علم بهويتي و ذلك بحجة أن العمل خطير على شابة ما تزال في بداية حياتها العملية. لقد استخف بي و حطم أحلامي بفعلته تلك لكنني لم أكن أبداً الشخصية التي تستسلم بسهولة وكل ما أريده علي تحقيقه. الذكريات عادت بي إلى الوراء إلى ذلك اليوم الممطر بقوة كنت أجثو على قدمي في وسط شارع خال حيث كانت عيني على العدسة أحاول ألا أضيع تلك اللقطة من ذلك المكان حيث المطر يتساقط بقوة و الضباب يلف تلك الأبنية التي كانت على الطراز الأوروبي القديم، سمعت صوتا قويا لسيارة قوية تتوقف خلفي لكي تبدأ أبواقها بالصدح في الأجواء في ذلك الجو الذي جعل الشوارع تخلو من المارة إلا مني. علت ابتسامتي شفاهي و أنا أتجاهل أبواق السيارة التي لم تهدأ أبداً ثم سمعته يصرخ من داخل سيارته:" ما هذا الجنون؟ ابتعدي عن طريقي."
وقفت على قدمي أخيراً و أنا أفلت الكاميرا من يدي حتى تتدلى برباطها على صدري، اقتربت منه و أنا أبعد خصل شعري المبلل عن وجهي حيث كانت قد التصقت به ورمشت بعيني عدة مرات حتى تنزل قطرات المطر التي علقت بين رموشي و التي كانت قد بدأت تزعج نظري وكان زجاج نافذة السيارة مفتوحاً لذلك اقتربت منه و وضعت ذراعي على طرف النافذة وتكلمت بصوت هادئ للغاية في نفس الوقت بينما عيناه كانت تتأملاني بذهول و استغراب:" مَالْكْ زْرْبَانْ مْسْيُو يَاسِر؟ غِيرْ بْشْوِية عْلِيكْ."
ضاقت عيناه عندما تكلمت معه باللهجة المغربية و نطقت اسمه بكل ثقة وبقينا للحظات نحدق في بعضنا بتحد و قد شعرت بأنني غاضبة من ابن القصور هذا، والذي استخف بي من دون أن يعرفني شخصياً و الذي نزع حلمي من بين يدي. سأسترجع حلمي! قلتها بقوة و ثقة كبيرين لنفسي بينما لساني ينطق بشيء آخر:" لدي شيء لك لكي تراه مسيو ياسر"
بقي صامتاً ينتظرني أن أقدم ما في جعبتي، فقربت له كاميرتي الرقمية، استرجعت الصور الذي التقطتها قبل أن آتي إلى ذلك الشارع. و تركته ينظر إليها في شاشة كاميرتي الصغيرة. كنت أراقب تلون وجهه باستمتاع و أنا أراه يتلون ما بين الذهول و الدهشة و عدم التصديق لكي يستقر أخيراً على مشاعر الغضب و أنا أقلب في تلك الصور بواسطة الزر الصغير الذي كنت أتحكم فيه بإصبعي، وفي الأخير نظر إلي وعيناه تقدحان شرراً لكنني لم أتأثر لغضبه ذاك و أنا أقول له بينما تابعتُ النظر إلى صوره:" السيد ياسر ميريني ابن واحد من العائلات الفاسية العريقة من أصل أندلسي. شهرتكم تجاوزت حدود المغرب لكي تكون أنت الوريث لمجموعة شركاتكم في لندن، أتساءل ماذا سيكون رد فعل المغاربة، بل العديد من الناس على واحد من سلالة عائلة عريقة محافظة بالمغرب عندما يروا هذه الصور؟ بل ماذا سيكون رد فعل والديك و عائلتك على هذه الفضيحة التي ستضر بسمعتهم بكل تأكيد؟ ."
"لم لا تتوقفين عن تلو هذه المعلومات على مسامعي وتخبريني عن الثمن الذي تريدينه من أجل إتلاف هذه الصور؟"
ابتسمت و أنا أشعر في نفس الوقت بأن ثيابي تلتصق علي من البلل لكنني لم أهتم، وقلت له و أنا أبتعد عن النافذة :" أنا مونيا العلوي، مصورة تم اختياري لتصوير أبحاث مشروع كبير في شمال أفريقيا لكن ممول المشروع و الذي هو أنت رفض أن أكون واحدة من بين أولئك المصورين الذين سيرافقون البعثة."
رفع حاجبيه بتعجب و هو يحدق بي قبل أن يفتح باب سيارته لكي ينزل منها، فغمرني انزعاج من تأمله لي من أخمص قدمي حتى أعلى رأسي لكي يقذف كلماته في وجهي بوقاحة كبيرة :" كنت محقاً عندما رفضت، أنت لست أهلاً لهذه المهمة، إنها أول مرة أمول مشروعاً كهذا لا أريد الخسارة فيه أبداً، كما أنني لن أكون السبب في موت فتاة صغيرة حمقاء بسم إحدى أفاعي الصحاري الخطرة."
كززت على أسناني بقوة لكنني عدت و أمرت نفسي بالهدوء، فالغضب ليس من صفاتك، بالعقل و الهدوء كل شيء يحل.. أبعدت الكاميرا عن رقبتي و أنا أحاول أن أستمد من مياه الشتاء القوة و السعادة التي لا تجعلني أهتم بكل ما يقال عني وصحت بقوة حتى يعطني انتباهه مرة ثانية عندما رأيته عائداً إلى سيارته و أنا أشير له بيدي بحركة مستفزة إلى الكاميرا التي كنت أمسك بها :" و أنا أيضا ليس لدي استعدادا لكي أخسر أمامك، أقسم بأنني لن أتوانى عن نشر هذه الصور على المواقع الاجتماعية أو إرسالها حتى إلى مجلات تهتم بهذه الفضائح كما أحب أنا كثيراً فضائح من يظنون أنفسهم أسياد الفقراء."
ابتسمت عندما توقفت خطواته و قد تبلل هو الآخر بمظهره الأنيق ذاك تحت المطر واستدار يقترب مني بخطوات كأسد يريد التربص بفريسته ثم وقف أمامي و قال بصوت كفحيح الأفعى:" ماذا لو نزعت منك هذه الكاميرا حالاً و حطمتها أمامك؟ حتى تتعلمي عدم التطفل على الحياة الخاصة للناس؟."
رفعت له يدي و أنا ألوح له بالبطاقة الصغيرة الرقمية و التي كانت خاصة بكاميرتي و أنا أقول بابتسامة واسعة:" الصور محفوظة هنا يا ابن بلدي وسأخبئها في مكان لن تتجرأ أنت على مد يدك إليه و إلا سأتهمك بتهمة التحرش الجنسي، فالأحرى بك أن توقع لي العقد و تدعني أبني مستقبلي كما حلمت دوماً ."
بقي يحدق إلى عيني بنظرات غريبة شعرت بها و كأنه يريد التأكد من ثقتي تلك، كأنه يريد التسرب إلى روحي لمعرفة ما بداخلها، في الأخير قال بهدوء فاجأني و جرأة كبيرة صاحبت كلماته:" جريئة و وقحة لكن جميلة جداً، تشبهين تلك الأفاعي التي تسحر النظر بألوان جلدها الخلابة لكن عندما تقتربين منها تلدغك بلا تردد بسم قاتل حتى تحمي نفسها وكل ما يخصها."
ابتسمت و أنا أتذكر كلماته الأخيرة تلك بينما كنت أقلب في صور تلك الأفاعي التي قمت بتصويرها و أنا في غرفتي الخاصة، كم أحب تلك الذكرى! ذكرى لقاؤنا الأول. من كان ليقول بأننا سنحب بعضنا بعد تلك المشادة و بأنني سأسامحه على حياته الماضية التي كنت أهدده بها بنفسي لكي نبدأ حياة جديدة و نبني عائلة صغيرة أساسها الثقة والحب و ثمرتها الصغيرة هي أيمن. ما زلت أتذكر كيف تغلغل عطره الرجولي الجذاب في أنفي عندما اقترب مني قائلاً تلك الجملة، كان اقترابه خطيراً كابتسامته، حينها علمت بأن شيئاً ما هز مشاعري بقوة لكنني لم أفهم مشاعري حينها فتركتها للأيام حتى توضحها لي و أنا أجيبه بذات الابتسامة المعوجة الواثقة:" صدقني! أنا سعيدة جداً مسيو ياسر لهذا الوصف، إطراؤك هذا جميل جداً كما أنني متأكدة بأنك ستوافق من الآن على أن أضع بصمتي على ذلك المشروع ولهذا أرجو أن تقبل نصيحة من ابنة بلدك، لا تتردد على الحانات مع الشقراوات من دون حراس شخصيين، فبسهولة سيتم تصويرك."
كنت ابتسم لتذكري تلك الكلمات التي أجبته بها و أنا أتوعده في نفس الوقت إن كنت قد نسيت شخصيتي يا ياسر، فعندما تعود سأذكرك بها جدياً و بكلماتي هذه التي واجهتك بها في أول لقاء بيننا و عندها ستعرف بأنني لن أتخلى عن مطاردتي لذلك السياسي حتى أكشف حقيقته على الملأ و إن لم توافق على مساعدتي، فلا بأس يا حبيبي، هناك الصحفي نبيه صديقي اللبناني المهووس بالكتب والقراءة و لم يخيب يوماً ظني فيه، كلما طلبت منه مساعدة و تشجيع حتى أواصل كشف الحقيقة حتى لو كان الكبار قد حرموا الخوض فيها. استنشقت الهواء بقوة أحاول أن أصفي ذهني من أي عقد تحاول تعكير مزاجي وقلبت صفحة أخرى من ذلك الألبوم لكي أقف عند صورة ترسم عل شفتي ابتسامة واسعة مجنونة كلما نظرت إليها، صورة لأفعى ذات القرنين و هي تلتهم إحدى الفئران قريباً من وكرها، لا أنكر بأن الأمر سبب لي الغثيان للوهلة الأولى و هم يطلبون مني تصويرها على قرب مليمترات منها و هي تلتهم فريستها لكنني تمالكت نفسي و جثيت على الأرض بشجاعة بينما قلبي كان يكاد يخرج من مكانه و استطعت تصويرها بنجاحٍ أعترف به الجميع. ضحكت ملئ فمي و أنا أتذكر ردة فعل جارتي وصديقتي الصغيرة لين حين أريتها هذه الصورة إذ أنها ركضت فوراً للحمام تتقيأ كل ما كان في جوفها لكي ترتعب كل مرة أجلب لها صوراً جديدة حتى قبل أن تراها. تلك المرأة رقيقة و حساسة للغاية، هي غالية على قلبي و عادة ما أترك عملي حتى أجلس معها. تشعر بالوحدة في لندن لأنها جديدة عليها كما أنها في سنتها الأولى من الزواج ما زالت تشعر بأنها غير متعودة على حياتها الجديدة و مع أنني لا أحب المرأة الضعيفة التي تُسير حسب رغبات الجميع إلا أنني أرى في لين خلاف ما يخيل للمرء حال رؤيتها للوهلة الأولى.. يكفي إعجابي الشديد برغبتها الكبيرة و إصرارها على تحطيم جمود و برود زوجها حتى تجعله ليناً كما هي لينة. خرجت من أفكاري تلك على صوت جرس الباب، فأقفلت ذلك الألبوم الذي كان من عدستي الخاصة و المختص بأنواع الزواحف لشمال إفريقيا، ألبوم يعني لي الكثير بداية حياتي المهنية الحقيقية و أيضا قصة طويلة مع ياسر تكللت بالزواج. نهضت من مكاني مستغربة الطارق أيكون ياسر و قد نسي مفاتيحه؟ مستحيل! هو لا ينسى مفاتيحه مثلي أنا. إنه منظم و دقيق في كل شيء لكن ربما يكون قد نسيهما فعلاً، قلت ذلك و أنا أفتح الباب بسرعة فتغضن جبيني وضممت حاجبي لبعضهما، لا أحد! لم يكن هناك أي أحد. مددت رأسي خارج شقتي ألتفت يميناً و شمالاً لكن لا أحد! الممر كان خالياً و المصعد لا ينبأ بأن هناك من استقله، فعدت إلى شقتي و أنا لا أجد ما أفسر به الأمر، كنت على وشك أن أقفل الباب عندما توقفت و تجمدت أصابعي على طرف الباب و أنا أنظر إلى الأرض أمامي حيث كانت هناك ورقة صغيرة بيضاء عليها كتابة صغيرة، ضيقت عيني و أنا أفكر بأن هناك من يحاول أن يوصل لي رسالة بالخفاء.


************




سارة جوزيف

أوصدت معطفها الصوفي متمتمة بكلمات الشكر على حسن الضيافة، فدخل خالد قبل خروجها يحي الجميع (السلام عليكم؟)
ردوا السلام.. ونظراتهم تستجديه ليحكي لهم ما حدث معه.. فعبس وهز أكتافه (سيبقى في المستشفى، يظنون أنه تعرض لعنف أسري.. ربما يرفعون دعوى قضائية؟)
طمأنه نبيه (لا عليك، لي صديق محامي سيدلنا على حل؟ سأتصل به حالا؟)
بإنجليزية قوية حدث نبيه صديقه وشرح له المعضلة وأعطى الهاتف لخالد ما أن انتهت المكالمة حتى قال (الحمد الله على كل حال..)
تمتم الجميع بالدعوات لصغيره وهي تقف حائرة صامتة ثم نطقت أخيرا (سيكون بخير .. ) أبتسم لها ممتنا.. عندما قالت ( لا تقلق! كل قضايا العنف الحقيقية تنتهي وكأنها لم تحدث تحايلا على القانون.. فكيف إن لم يثبت أي شي يدل على العنف .. التقرير الطبي سيوضح أنه مجرد سقوط.. ثق بي ..سيعود صغيره ..)
(أتمنى ذلك شكرا لك سارة، أنتِ جارة طيبة .. سعيد بالتعرف إليك)
هم الجميع بالمغادرة وأول من غادر كان عمرو.. ثم تبعه راشد الذي أعطى لخالد هاتفه (كما اتفقنا رسالتين بعثتهما في السادسة والأخرى في السابعة وغمز بعينيه مشاكسا وأكمل، لم يفتني تفحص رسائلك لأعرف أسلوبك المشاكس..) ابتسم خالد له (شكرا راشد)
عرض نبيه على خالد العشاء، فرفض وحمل له طبق من بتيفور التمر بينما يقول له (ما تزال لدي قطع من بتيفور التمر الذي صنعته مدام خوله ولعلها أفضل من جارها الـ يلنجي الذي وعدني بـ يلنجي اليوم..)
ضحك إياد (هل تقصدنا يا جارنا العجوز؟ سأذهب لأحضر نصيبك من الــ يلنجي ..)
خرج إياد وحمل خالد ابنه، فشكرت سارة نبيه مرة أخرى على ضيافته وخرجت بعد خروج علي ومازن اللذان خرجا الى خارج العمارة وقبل دخولها لشقتها رأت علياء تدخل العمارة وهي تمتم ساخطة و أية تشير بكفها الصغير في تحية خجولة.. دخلت واتجهت لأوراقها وابتسمت وخاطبتها قائلة
(انتظري قليلا، دعي الأفكار تكتمل.. في كل مرة أرى لهؤلاء العرب شكلا جديدا، متقلبون.. من حال إلى حال.. يهمني استقرارهم حتى أحكم السيطرة.. سأحاول حتى أصل لما أريده..)


*********



الزئبق والحرباء
الأستانة (دار السعادة)

كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والنصف عندما جلسا الزئبق والحرباء في هذا البار الذي قضيا به بعض ساعات النهار .. يحتسيان الجعة وينتظران هدوء الحركة في عمارة العرب .. ساعتها ..همس ميركري سائلا كامليون؛
- أ واثقة أنت من أنها تعيش بمفردها؟
- نعم.. لقد تأكدت من بائعة الزهور في الصباح وأنا أسألها عنها .. إنها تركية الجنسية ومالكة هذا الxxxx.
- فمن ذلك الشاب الذي اصطحبته هذا الصباح؟ .. ألا يبيت لديها؟
- لا أعتقد.. ربما يقضيان بعض الوقت معا ولكني واثقة من أنها تعيش بمفردها .. و ماذا لو كان عندها؟ .. أتنوي أن تؤجل الغنيمة الليلة؟
- بالطبع لا.. و لكني لا أفضل السرقة بالإكراه.. فتلك هي طريقة الأغبياء.. يستهويني أكثر الحيلة والخداع والمغامرة.
فتحت الحرباء حقيبتها و أخرجت منها زجاجة عطر.. ووضعتها أمامها على المنضدة وهي تبتسم لميركري قائلة بمكر؛ "نفحة من عطري هذا تجعل الأفيال ترافق الضفادع في بياتها الشتوي و إن كان هذا الشاب يبيت عندها الليلة، سأجعلهما يقضيان وقتا ممتعا في نوم طويل لتبحث أنت على هذا العقد الثمين ريثما أتناول أنا عشاءي عندها .. فقد كان لديها وليمة كبيرة الليلة.
فجأة توقفت الحرباء عن حديثها و أدارت ظهرها إلى الشارع لتخفي وجهها، كذلك فعل الزئبق ..استدارا .. وقاما إلى منضدة أخرى داخل البار بعيدا عن عيون الشارع، فقد ظهر في هذه اللحظة ذلك الشاب الذي اصطحبته الفتاة في الصباح يقف أمام العمارة المجاورة ويحدث سائق سيارة أجرة كان يقف أمام عمارته.
جلست الحرباء تحتسي الجعة وتتمايل في رقصة خليعة على أنغام الموسيقى المنبعثة من مكبرات الصوت بالبار .. بينما كان الزئبق شاردا ينظر إلى رجل و فتاة في زي الشرطة دخلا لتوهما ليحتسيا بعضا من الجعة ثم يعودان إلى الشارع من جديد.. وعيون الزئبق تتابعهما وهما يجلسان في سيارة الشرطة عند باب البار.
كانت الحياة قد هدأت في الشارع.. عندما انتبه الزئبق من شروده ونظر إلى ساعته ليجدها قد تخطت الثانية عشر بدقائق .. فقال لها وهو يهم بالخروج من الحانة .. "هيا بنا!" .. لتخرج الحرباء خلفه وهي ما تزال ترقص على أنغام الموسيقى منتشيه وكأنها متوجهة إلى حفل راقص وليس إلى عملية سرقة بينما يتابعها كل رواد البار وهي تمر بين المناضد كراقصة تقدم عرضا لجمهورها.
كانت العمارة ترتدي ثوب الهدوء وعباءة الظلام عندما دخل إليها الزئبق والحرباء بخطوات واثقة وكأنهما أحد سكانها.. صعدا السلم حتى الطابق الرابع.. اقتربا من باب الشقة المقصودة .. وقفا بعض دقائق يسترقان السمع .. لا صوت .. الصمت يخيم على المكان.. و كأنهما يقفان بين المقابر .. غير أن المقابر تكسوها الزهور .. فعالج الزئبق باب الشقة ليدخلاها والظلام يكسو كل أركانها ..
أضاءت الحرباء مصباحها و أمسكت بزجاجة عطرها في يدها الأخرى و تقدمت إلى غرفة النوم بينما توجه الزئبق إلى غرفة أخرى، وبعد دقائق التقيا من جديد في الصالة وعلى وجهيهما أمارات التعجب، فقد كانت الشقة خالية، ليس بها أحد واستمرا يبحثان بمهارة وخبرة عن كل ثمين ..لكن الدواليب كانت فارغة والأدراج خالية والحرباء تقف أمام الثلاجة الخالية والمفصولة عن مصدر الكهرباء بينما يقف الزئبق وفي يدهصندوق فارغ ومغلف بني اللون خالي من رسالته.
لم يمض وقت طويل حتى دب اليأس في روح الزئبق والحرباء من أن يجدا العقد أو أي شيء ثمين يمكن سرقته فأضاء الزئبق أنوار الصالة وجلس على الأريكة كأنه يجلس في بيته .. وألقت الحرباء بنفسها بجواره وهي تقول له متسائلة؛ "أين هذه الفتاة؟ هل تبخرت؟ !وأين ذاك العقد الذي يتحدثون عنه ؟"
كانت الحرباء تتحدث في حسرة وخيبة أمل بينما كان الزئبق مبتسما وهو يفكر ثم التفت إليها قائلا :
- لماذا تسأليني أنا!.. أين الفتاة وأين العقد ؟! فلنسأل الحمقاوات؟
- ماذا تقصد؟
- أقصد أنك زوجتي المريضة التي تحتاج إلى مساعدة عاجلة.
ثم قام الزئبق من مكانه وأضاف بجدية؛ ادخلي إلى غرفة النوم و ادعي المرض و الألم!
سأعود إليك بالمساعدة حالا ثم أخذ من يدها زجاجة العطر وغادر الشقة ليتركها بها وحيدة.
فلم يكن منها إلا أن قامت و ألقت بنفسها على سرير الفتاة وراحت تتأوه وتتألم وهي تضحك وتقول؛ لقد جن حبيبي بسبب هذا العقد .. لكن لابأس! .. لنرى ماذا تقصد أيها الثعلب؟
بعد عدة دقائق.. عاد الزئبق و في صحبته شرطي وشرطية.. يتقدمهما وهو يفتح لهما باب الشقة على وجهه أمارات الهلع والحزن على زوجته المريضة يقول لهما؛ "أرجوكما بسرعة ..ساعداني .. إنها تتقطع ألما.. أظنه انفجار ا للزائدة الدودية.. أرجو أن ندركها قبل أن يصيبها مكروه!"
وقف الشرطي في الصالة بينما أسرعت الشرطية مع الزئبق إلى غرفة النوم ليجدا الحرباء تتقلب ألما وتوجعا وهي تئن أنات تقطع القلوب شفقة عليها وما إن وقفت الشرطية بجوارها حتى كانت زجاجة العطر في يد الزئبق قد دست بأنفها لتسقط ممددة بجوار الحرباءعلى السرير ..
تركهما الزئبق وخرج مسرعا ليستقبل الشرطي فيدعوه للدخول وقبل أن تقع عينا الشرطي على رفيقته الممددة على السرير.. كانت ذراعا الزئبق الفولاذية تحيط بعنقه و زجاجة العطر تكمل المهمة.
اعتدلت الحرباء جالسة على السرير وفي عينيها نظرة إعجاب لفارسها المخادع ثم ضحكت وهي تنظر إلى الرجل والمرأة الممددان على السرير وتقول؛ "الآن فهمت ما قصدك من أن نسأل الحمقاوات .. أنت أروع الشياطين يا حبيبي"
مد الزنبق يده ليجرد الشرطية من زيها، إلا أن الحرباء مالت لتعض يده التي امتدت إلى سترة المرأة وقالت محتدة؛ "دعها لي وخذ أنت هذا الأبله وجرده من ثيابه بغرفة أخرى ودع لي هذه الحسناء أيها العربيد" فحمل الزئبق الشرطي و خرج به إلى غرفة اخرى بينما راحت الحرباء تجرد الشرطية من ملابسها.
كانت نسمات الفجر قد بدأت عبثها بأوراق الأشجار في الشارع عندما انتهى الزئبق والحرباء من الخطوة الأولى في مهمتهما، فقد تحولا إلى شرطي و شرطية بعد أن انتحلا شخصية هذين الجسدين الممدين متجاورين على السرير في نوم عميق بينما أقدام كل منهما محكمة الوثاق بالأصفاد التي كانت بحوزتهما .
تمددت الحرباء والزئبق على الأريكة بالصالة بعد أن أطفأت الحرباء أضواء الشقة وهمس لها الزئبق قائلا؛ " لن نستطيع أن نمارس عملنا الآن حتى يخرج الرجال لأعمالهم .. علينا أن نستريح هنا حتى يحين الوقت المناسب .. ولكن عليك أن تعيدي تخدير الشرطي ورفيقته كل عدة ساعات.. يجب أن لا يفيقا أبدأ حتى ننتهي من الوصول لهذا العقد ونستجوب كل سكان العمارة بشأنه.
وضعت الحرباء رأسها على صدر الزئبق وأغمضا أعينهما.. بينما عاد الهدوء من جديد ليعم الشقة والعمارة.. وكلما أفاقت الحرباء.. ذهبت بعطرها لتجدد النوم في عيون الرجل والمرأة.



التحقيق

مستغرق في النشوة سابح الخيال يتعجب من سحرها، ينظر إليها وهي ترتدي زي الشرطة، فقد زادها الزي أنوثة .. أنوثة النساء تبديها زينة الأزياء، أما معشوقته فسحرها يبدو من خلف كل رداء، أنوثتها شمس لا تغيب وجمالها عاص على كل حجاب .. سألها وكأنه يتكلم بعيونه؛ ما أخبارها؟ .. كيف حاله؟ .. تعال لنطمئن عليه الآن.
رفعت حاجبيها متسائلة وهي تنفذ إلى دقات قلبه من عينيه، فتجعل قلبه يرتجل نبضات مختلة الإيقاع .. قالت؛ أخبار من!.. وحال من؟ .. وعلام الطمأنينة؟ .. فأجابها؛ أسأل عن أخبار السحر في عينيك وكيف حال الورد على خديك؟.. وأريد أن أطمئن على عبير شفتيك. فأرخت الحرباء أهدابها الطويلة لتحجب سهام عينيها عن قلب حبيبها .. ثم مالت عليه وهي تهمس بجوار أذنه؛ سحر العيون يصهره الحنين لتحتضنه عيناك و ورود خدي ذبلت في انتظار لمسة أصابعك يا هاجري، هيا اطمئن على عبيري حتى تغلي اشتياقا له كلما اطمأننت .
ثم راحا بعد هذه الهمسات إلى غيمة ترقص في السماء على أثير قبلة طال وقتها وقصر الإحساس بها وكأنها لمسات شفاه. قامت بعدها الحرباء تنزع عنها سترتها وهي تقول؛ "دعك من التحقيق الليلة وليكن ليلنا طويل بطول صبري على فراقك، سكان العمارة لن يرحلوا عنها وليتهم يفعلوا" فضحك الزئبق وهو يمسك يدها حتى لا تكمل نزع سترتها وهب واقفا وهو يقول :
- ليس الآن حبيبتي.. الشمس بدأت في الغروب ويجب أن نبدأ الآن قبل أن يبدأ البحث عن الشرطين المختفيين .
قالت وعلى وجهها أمارات الخيبة والحنق وهي تتبعه :
- هكذا أنت دائما.. تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تلقي بي بلا رحمة إلى السفح .. لا أستطيع أن أحتويك متى شئت.. دائما تفلح في الفرار من يدي و لكن ماذا أقول هكذا أنت .. زئبق!
غادر الزئبق والحرباء الشقة بعد أن تأكدا من تخدير الشرطيين من جديد وعلى السلم همس الزئبق للحرباء؛ "لنبدأ من الأسفل ثم نزلا درجات السلم في هدوء، لولا أن الزئبق توقف فجأة وهو يرى أعلى السلم شابا يحاصر هذه المرأة غريبة الأطوار في ركن مظلم من مدخل العمارة ويهمس لها بكلمات ثم يتركها وينصرف، لتقف هي مشدوهة غارقة في ذهولها هنيهة من الوقت ثم تصعد تجرها ابنتها من يدها..
وقف الزئبق والحرباء عند باب شقتها واعترضا طريقها، فمالت الحرباء على هذه الصغيرة التي تسحب أمها خلفها، تسألها :
- اسمك إيه يا حلوة؟
- ملكيش دعوة خليك في حالك.
فهزت الأم يد ابنتها قائلة؛ "عيب يا آية" لكن الصغيرة صرخت فيها ... ( إييييييييه .. حيرتيني
يا لولو .. بتزعلي لما أقول اسمي للغرب) ثم تركت يد أمها لتدخل الشقة التي كانت الأم قد فتحت بابها للتو إلا أن الزئبق استوقف المرأة وهو يقاوم الضحك بصعوبة وفي ذهنه ضحكتها الرقيعة وتمايلها، فوقفت المرأة وإحدى قدميها داخل شقتها:
- ماذا تريدان؟
- نحن من مكتب التحقيقات.. جئنا نسأل عن صديقتك التي تقطن بمفردها بالدور الرابع.
- تقصد ريتشيل؟
ارتبك الزئبق قليلا، فهو غير واثق من اسم الفتاة ولكنه أوما برأسه وأكمل كلماته قائلا:
"نعم .. هي صديقتك التي تملك عقدا تاريخيا ثمينا؟ .. أين هي .. لقد اختفت منذ الصباح؟.
كانت المرأة تسمعه وكأنها لا تسمعه بينما راحت الحرباء تحدق في زيها العربي وحجابها الأنيق ولكن فجأة استدارت المرأة وهي تجيب بكلمة واحدة؛ ( أنا لا أعلم شيئا عن ريتشل منذ الأمس ) ثم صفعت وجه الزئبق بباب شقتها الذي أغلقته خلفها ليطلق الزئبق العنان لضحكاته الحبيسة. ربتت الحرباء على كتف الزئبق ليكف عن ضحكاته وهي تشير إلى الشقة المقابلة وتقول له :
- لا بأس .. دعك من هذه المرأة وتعال نسأل في هذه الشقة فالفتاة التي تقيم هنا .. هي من أخبرتني بلسانها الزلق عن سر العقد الثمين .. أظنها تعمل كفتاة ليل لأنها تصاحب رجالا بشقتها .. ومثلها من فتيات الليل يمكن استدراجهن بسهولة.
قرع الزئبق جرس الباب لتخرج عليه حسناء رشيقة تاهت رشاقتها وحسنها في طيات هذه البيجاما الفضفاضة كقلوع المراكب .. وقفت تنظر إليهما ويدها على مقبض الباب .. وضع الزئبق بطاقة الشرطي أمام عينيها وردها إلى جيبه قبل أن تتحقق منها واستأذنها في الدخول لبعض أسئلة .. ولكنها اعتذرت متعللة بأنها بمفردها بالشقة .. ولن تستطيع السماح لهما بالدخول،فسألاها على الباب عن غياب ريتشيل وعن العقد ولكنهما لم يخرجا منها بأي معلومة، فقد كانت إجاباتها كلها مقتضبة .. بقول ( لا أدري .. لم أرها منذ الأمس. )
ما إن أغلقت الباب.. استدارت الحرباء لتجد نفسها أمام شاب وسيم يرمقها بنظرة شرهة حتى أنه لم يلحظ وجود الزئبق بجوارها، فابتسمت له الحرباء ابتسامة جعلته يفتح باب الشقة ويدخلها بظهره وعيناه متعلقتان بعيني الحرباء التي راحت تداعب أنفها بمرح وتبتسم.
أغلق الشاب الباب خلفه، فقالت الحرباء للزئبق :
- أرأيت؟ .. ألم أقل لك؟ إنها فتاة ليل، ها هو شاب لعوب يختلي بها الآن.
ضحك الزئبق وهو يحيط خصرها بذراعه ليصعدا السلم للطابق الرابع وهو يجيبها:
- هذا أخوها أيتها البلهاء.. ألم تلاحظي الشبه الكبير في الملامح بينهما .. ما أخبث أفكار النساء حول النساء! أهذه التي تمنعنا من الدخول لكونها بمفردها فتاة ليل؟
وقفت الحرباء أمام الشقة التي قضت نهار أمس نائمة بها وقرعت الباب وهي تقول للزئبق؛ "ربما نجد عند لين ورشودها الدفش معلومة تزيل حيرتنا وانفتح الباب لتجد الحرباء نفسها أمام شاب عريض المنكبين، غاضب النظرة كأنه خرج لتوه من حلبة مصارعة، فطلب منه
الزئبق أن يستجوب زوجته حول اختفاء ريتشيل التركية.. ولكن راشد أجابه حازما بأن زوجته نائمة ولن تستطيع أن تجيب على أسئلتهم الآن وحين هم بإغلاق الباب ظهرت من خلف ظهره الفتاة الحالمة الباكية وهي ترتدي عباءة منزلية وتلف رأسها بحجاب أتقنت زينته.
ظهرت لين خلف ظهره وهي تسأل ما الأمر؟ وبقايا النعاس تداعب أهدابها،فأخبرها زوجها عن سبب زيارة الشرطة ولكنها أجابت كسابقاتها بأنها لا تعرف أين ذهبت ريتشيل؟!
كانت تجيبهما من خلف ظهره وتنظر إليهما من فوق كتفه وهي تقف على أطراف أصابعها تارة وتختفي خلف ظهره تارة وكانت تنقل عيناها بين عيون الزئبق وعيون الحرباء والزئبق يتفرس في ملامحها بنظرته الثاقبة ليقرأ صدقها على صفحة ملامحها البريئة ولكنها أسرعت بالاختفاء من جديد وكأنها تهرب .. ليغلق راشد الباب معتذرا إليهما.
بدأ اليأس يدب في روحيهما حتى الآن لم يستطيعا معرفة أي شيء عن العقد المفقود وصاحبته المختفية ولكن الزئبق همس للحرباء وهما يصعدان إلى الطابق الخامس؛ "لابد أن نكمل وإن لم نحصل على ما نبتغي من معلومات، فهناك دائما خطة بديلة".. فأجابته الحرباء بفتور؛ "إذن هيا بنا إلى عبقري الهندسة وزوجته قبل أن نذهب إلى مونياك الجميلة
ما إن قرع الزئبق باب خالد سعد حتى فتحت المرأة التي لا يبدو منها إلا عيون سود من خلف النقاب الأسود، عيون ساحرات كبحر ساكن بلا أمواج، فهمس الزئبق للحرباء؛ " الآن عرفت مصدر تسمية أحد بحار الشرق بالبحر الأسود .. لأنه كعيون هذه المرأة" فوكزته الحرباء وقبل أن تصرخ به غاضبة انطلقت المرأة بالكلمات كالمدفع قبل أن يسألاها بانفعال؛
- أقسم أننا نرعاه خير رعاية، فهو ابننا الحبيب، أنا لن أترك أبني حتى لو سجنتموني ..أرجوكم صدقوني .. لقد سقط عفويا على الأرض.. لم يكن خطا منا ولا إهمالا.
استوقفها الزئبق عن الحديث بصعوبة وهو يهدئ من روعها؛ "عما تتحدثين سيدتي؟ .. إنما جئنا نسألك عن ريتشل التي اختفت في ظروف غامضة منذ الصباح .”
تحولت المرأة من الانفعال إلى الهدوء وانقلبت الأوضاع فجأة بأعجوبة، فقد ضاقت عيونها في تركيز شديد وكأنها أجاثا كريستي وراحت أصابعها تعبث في ذقنها من تحت الحجاب دلالة على تفكير عميق وصارت هي التي تسألهما وكأنها هي المحقق وهما المتهمان! :
- إذن.. اختفت ريتشيل؟! ومنذ الصباح؟
- نعم سيدتي.. لقد اختفت هي ومقتنياتها.. ألم ترينها منذ الأمس؟
- دعك من هذا وأخبرني .. أ لخليل علاقة بهذا؟
- من خليل هذا؟
- اممم لا بأس لا بأس!.. قلت مقتنياتها اختفت.. أليس كذلك؟
- نعم .. ذلك العقد.. العقد التاريخي!
- نعم نعم.. رأيته معها .. تعني أن العقد وريتشيل اختفيا.. أليس كذلك!! .. أنا اعتقد
ولكنها قبل أن تكمل حديثها وقف بجوارها زوجها يسألها عن الأمر ، فهمست له من طرف خفي لم يغب عن الزئبق، فقد قالت لزوجها همسا 'سوف نتحدث عن هذا الأمر لاحقا' ثم التفتت إلى المحققين وهي تقول؛ "ليس لدي أدنى فكرة عن اختفائها.. ليتني أستطيع مساعدتكما ولكن للأسف ليس لدي ما أفيدكما به" ثم أغلقت بابها.. ليقف الزئبق والحرباء أمام الباب ينظران إلى بعضهما فترة قبل أن يتكلما بصوت واحد؛ "هذه المرأة تعرف شيئا هاما بالتأكيد" وتوكأ الزئبق على كلماته وهو يتوجه إلى شقة مونيا؛ "لابد أن أجد وسيلة أنتزع بها ما برأس زوجة خالد هذه، أظنها تعرف كل شيء عن ريتشيل وعن العقد"
فتحت مونيا الباب لتجد نفسها أمام الزئبق والحرباء، كان الزئبق ينظر إلى وجهها وهي ترسم ابتسامة مفتعلة على شفتيها الرقيقتين، فشردت خواطره إلى عميله الذي كلفه بقتلها وهو يقول في سريرته .. ( أيعقل أن أقتل هذا الجمال الأندلسي؟ ) ..
وبينما هو شارد كانت الحرباء ترمق مونيا بنظرة باردة ميتة تخفي خلفها الغضب الذي هب داخلها وهي تفكر بأن صورة هذه الجميلة بجيب معطف زوجها، وكانت في سريرتها تقول( ..لابد من قتل هذا الجمال الأندلسي).
لم يطل شرود الثلاثة، فقد شد طفل مونيا ثياب الحرباء كي تنظر إليه ولكن الحرباء كانت تحت تأثير غضبها فحدجت الطفل بنظرة محذرة وما إن لمحت مونيا النظرة في عيون الحرباء حتى سحبت ابنها بيدها تبعده عنها وسألت بهدوء:
- هل من خدمة أستطيع أن أقدمها لكما؟
- نحن من مكتب التحقيقات.. جئنا نسأل عن ريتشيل التي اختفت منذ الصباح، متى رأيتها آخر مرة؟
- بالأمس.. قضينا عندها بعض الوقت .. ولكني لم أرها اليوم منذ الصباح.
- هل لديك أي فكرة أين يمكن أن تكون؟
- ربما غادرت مدينة الكآبة هذه.. ربما طارت إلى مكان آخر .. إلى عالم به أحلام .. ليتني أستطيع أن أفعل مثلها.
كانت مونيا تجيب على أسئلتهما وهي مبتسمة، تتفرس في وجهيهما وكأنها تعلم ما يدور في رأسيهما حتى أضطر الزئبق أن ينهى حديثه معها مسرعا، فقد شعر أن هذه الفتاة تشك في أمرهما وما إن أغلقت مونيا بابها حتى عضت الحرباء على أسنانها غاضبة وهي تقول: "لماذا تماطل في اغتيالها؟ .. لابد أن تسرع عزيزي حتى تريحها من مدينة الكآبة ثم صعدت الحرباء السلم خلفه وهي تقلد مونيا ( ليتني أستطيع الذهاب مثلها.. هذه مدينة الكآبة..)
(غادريها إذا واذهبي إلى مدن الفرحة في بلادكم)
الحرباء تكلم نفسها بحديث مونيا خلف الزئبق وهو يصعد السلم شاردا يفكر في شك مونيا ونظراتها المرتابة لهما والتي تعني الكثير، حتى بلغا الطابق السادس .. قرعت الحرباء الباب مسرعة قبل الزئبق وهي تضحك وتقول:
- هذا منزل حبيبتي .. أنا أحببت هذه المرأة.. يبدو أني أصبحت كالرجال .. الطريق إلى قلبي يبدأ من المعدة" .
فتح الباب .. ليظهر من خلفه فتاة ممشوقة القوام الممتلئ بالأنوثة والجمال، شعرها الفوضوي يمرح بلا رقيب على وجناتها الورديتين وما إن ظهرت حتى تقهقرت الحرباء للخلف خطوات فقد وقفت الفتاة على الباب وبيمينها مكواة كأنها خرجت إلى صراع بمكواة في يد وقميص رجالي أنيق تلف به اليد الأخرى .
همت الحرباء بسؤالها إذا كانت طبخت ورق عنب اليوم؟ لكن ملامحها الحزينة الساخطة والمرتسمة على وجهها جعلت الحرباء تتراجع.. ليحادثها الزئبق.. وكسابقاتها جميعهن.. لم تكن تعلم شيئا.. فهما بالانصراف، ولكن قبل أن ينصرفا من على بابها تذكرت الحرباء أمر الشرطيين.. فقد مر وقت طويل منذ آخر تخدير لهما، ليهبطا السلم جريا.




************


انتهت الحلقة الثالثة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 21-10-22 الساعة 08:43 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 18-10-22, 09:52 PM   #9

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحلقة الرابعة




مونيا العلوي


"بدل أن تركضي وراء الناس لمعرفة أسرارهم اعلمي أولاً أسرار زوجك."

قرأ ياسر بصوت عال للمرة الثانية تلك الجملة التي كانت مكتوبة بخط مجهول وأنا جالسة على طرف سريري أنظر إلى الأرض أمامي بصدمة بعد أن أعطيته تلك الورقة التي وصلتني بطريقة مريبة.

هدر قائلاً:" من كتب لك هذا الكلام التافه و أنت صدقته؟"

فتحت عيني على وسعهما و أنا غير مصدقة لصراخه في وجهي و الذي فجر كل غضبي الذي كنت أكتمه في داخلي بهدوء غريب جداً. استقمت واقفة بقوة لأصيح به أنا الأخرى:" حقاً! هل علي تصديقك الآن؟ كل الدلائل تشير إليك بأصابع الاتهام. أولها اعتراضك الشديد على ملاحقتي لذلك السياسي ثم تلك الصدفة الغريبة التي لم أشك فيها ولو للحظة لثقتي الكبيرة فيك، لدرجة أنني أريد صفع نفسي الآن لأنني كنت أصدق كل ما تقوله و عيناي مغمضتان."

توقفت عن قذف كلماتي الغاضبة في وجهه و أنا أراه يبتعد عني بخطواته ناحية باب غرفتنا و يقفله وغطيت وجهي بيدي و أنا أحاول أن أهدئ من نفسي، لا أريد أن ندخل أيمن في ما بيننا الآن، لا أريد أن يخيب أمله بأبيه مثلما خيب أملي فيه. شعرت بالدموع تترقرق في مقلتي لكي تحرقهما بنار الألم. مونيا القوية على وشك أن تنزل دموعها لكن هذا ياسر و ياسر يعني لي الكثير، ياسر من يجعلني ضعيفة أمامه، لقد كان مثلي الأعلى، هل من المعقول أن يفعل بي هذا؟ أن يحطم ثقتي به و هو من عودني دوماً على أن يكون بجانبي يساندني على كل ما أقوم به؟ شعرت بيديه تمسكان بذراعي بلطف و قد هدأ من غضبه هو عندما رأى ما وصلت إليه من حالتي النادرة هذه. ومن دون أن أبعد يدي عن وجهي سمعته يقول بصوت خافت حنون:" مونيا لا تدعيهم يحطمون زواجنا من أجل بضع كلمات كاذبة تافهة." توقف ينظر إلى عيناي عندما رفعت رأسي إليه لكي يردف بعدها:" لقد أخفيت عنك أمراً، هذا صحيح و لكن ليس أبداً كما تظنين، بأنني أعمل معه بل لحمايتك أنت و أيمن، ذلك الرجل يعرف بأنك تطاردينه، الرجل ليس أحمقاً مونيا ويعرف سجله لذلك هو حذر في كل خطواته بذكاء ماكر وأنت لم تخبريني بملاحقتك له إلا عندما وجدتني عند الفندق."

"ماذا؟"

جذبني من ذراعي حتى أجلس على السرير ثانية ولم أمانع، إذ كنت غير قادرة على التصديق بأن كل حركاتي كانت مكشوفة لذلك السياسي و أنا التي كنت أظن بأنني ذكية، أمسك بيدي معاً و هو يجثو أمامي ليكمل كلامه موضحاً اللعبة التي لعبت وراء ظهري:" تعلمين بأنني أعمل على إنجاز مشروع ضخم في المغرب، مؤخراً واجهت عراقيل كبيرة في إكماله وفوجئت بأن السبب وراء تلك العراقيل كان هو بنفسه وفي ذلك اليوم الذي وجدتك قريبة من الفندق كنت أنا ذاهب للاجتماع به حتى أعرف السبب الذي يجعله يقف في وجه مشروعي في المغرب، فوجئت بك هناك تطاردين نفس الشخص الذي سأجتمع به ولم أرد إخبارك طبعاً على الأقل ليس في تلك اللحظة. فوجئت في الاجتماع بأنه يهددني بالمشروع، أراد التفاوض معي على أن تدعيه و شأنه مقابل أن يبتعد عن محاولاته تلك في إفشال مشروعي."

كلماته بقيت تتردد في أذني بينما الصمت كان وقعه مؤلماً علي، في الأخير أبعدت يدي بحدة عن يديه اللتان كانتا تحضنهما لكي أقول له و أنا أكز على أسناني بعدم تصديق:" وطبعاً أنت اخترت أن تقمع الحقيقة من أجل مشروعك ذاك."

نهض من مكانه كصاعقة بعد أن فقد صبره و هدوئه كلياً والذي حافظ عليهما لدقائق عدة، يصرخ في وجهي و هو يجذبني إليه من ذراعي بقسوة:" اسمعي! لقد بدأت تفقدينني صبري، كل ما أفعله هو من أجلك و من أجل أيمن و أنت ماذا تفعلين؟ سوى إيقاعي في المشاكل، لا أحاول أن أفرض عليك أي شيء و أدعك تعيشين حياتك كما تحبين لأنني أحبك و أريدك سعيدة لكن الأمر تجاوز حده وأنت تلومينني على مصيبة ستطيح بنا جميعاً بينما أنت من تسببت فيها، مونيا! هل تعرفين كما استثمرت من الأموال في ذلك المشروع؟ الملايين! الملايين يا مونيا! ملاييني الخاصة التي جنيتها بعيداً عن أموال عائلتي، هذا يعني سنوات من العمل و الاغتراب كلها وضعتها في ذلك المشروع الذي أصبح على الهاوية بسببك أنت! هل تعرفين لماذا أصلاً؟ المشروع بنفسه قائم من أجلك أنت، أم أذكرك بكلامك عندما نقدتيني و قلت بأننا أغنياء و لكن لا نفيد بلادنا بقدر ما نفيد الغرب بأموالنا. ذلك المشروع من أجل البلاد و من أجل كل واحد فيها و من أجلنا نحن أنا و أنت و ذلك الطفل الصغير الذي يقبع نائماً بسلام في غرفته، سلام تهددينه أنت بأفعالك المتهورة!."

عيناي لم تفارق عيناه، أبحث عن ياسر المتفهم المثقل بالعاطفة الذي لا يبخل بها علي أبداً، ياسر الذي يجاهد دوماً لكي يحافظ على ابتسامتي و على عالمي الخاص، أنا أيضاً عملت جهدي طوال سنين زواجنا لإرضائه، هو لم يظهر يوماً اعتراضه على ما أفعله بل كان اليد الذي تأخذ بي في هذا العالم المليء بالفخاخ المتربصة بي، كنت أشعر بأنني ضيعت حبيبي ياسر الذي جعلني أجن بحبه بحيث لم أرفض الدخول الى القفص الذهبي عندما طلب مني ذلك مع أنني أكره الأقفاص بجميع أنواعها لكن قفصه هو لم أتردد لحظة في دخوله و الذي لم يكن قفصاً بل جنة نعمت بها، لا أنكر بأن تلك الجنة كان ينغص عليها بعض السلبيات و لكني دوماً عملت على ألا تخطف منا سعادتنا. تمتمتُ بنبرة تعيسة:" معقول ياسر. أهذا هو رأيك بي؟ أنني متهورة أعرض حياتك و حياة ابننا للخطر؟"

زم شفتيه بغضب و هو يتجه بخطوات تستعر غضباً إلى زاوية الغرفة، راقبته لكي ألاحظ بأنه يضم قبضتيه بقوة وهو يقترب من الحائط و يضع جبينه عليه بينما قبضتيه هما الأخريين كانتا على ذلك الحائط تضربانه و كأنه يخرج غضبه في ذلك الجدار وسمعته يقول من بين أسنانه:" لا أعرف ما الذي تفوهت به للتو! لقد امتحنت صبري وهدوئي."

نهضت من مكاني و اقتربت منه و أنا أشعر بأننا قد وصلنا إلى نقطة لم نصلها من قبل، شجارنا هذا لم يكن عادياً فقد لمس أوتاراً حساسة داخل كل منا، وقفت ورائه و قلت بصوت رغماً عني ارتعش لكلماتي التي كانت قاسية لدرجة كبيرة على نفسي:" لقد أظهرت لي اليوم حقيقة نظرتك لي ياسر، أتسائل هل مثلت علي كل تلك المدة بأنك تتقبلني كما أنا؟"

أجفلت عندما استدار إلي فجأة و بسرعة فاجأتني وأرخى قبضتي يديه لكي يرفعهما إلى وجهي، فكانت عيناه تتجولان على و كأنه لأول مرة يراني ومسح بإبهامه دمعتين خانتا قوتي عندما تدحرجتا بهدوء على وجنتاي لكي يهمس لي بعاطفة كبيرة:" أعشق دموعك كما أمقتها لأنها تحزنك."

أسدلت جفناي بحرج من دموعي، فأفكاري و قلبي شفافين لياسر يستطيع أن يفهم بسهولة ما يدور في خلدي، سمعته يقول و هو يمرر إبهامه برقة شديدة على وجنتاي و كأنه يمرره على إحدى أوراق تلك الكتب القديمة الرهيفة مخافة منه أن تؤذيها لمسته:" لقد جرحتك بكلامي أعرف، لأنك ليس من السهل أن تدعي لدموعك عنان النزول وفضح تأثير الغير عليك."

تمتمت بصوت محشرج من تلك المشاعر التي كانت لمساته تدبها في، مازلت أستغرب بعد كل هذه السنوات تأثير لمساته علي و كأنه أول مرة يلمسني بتلك الطريقة المدغدغة لمشاعري بطريقة لا تقاوم :" دموعي بسببك أنت."

إجابته كانت هي عندما قربني إليه بسرعة فجأة ضاماً إياي بذراعيه القويتين، شعرت بقبلة حانية على أعلى رأسي لكي يحني برأسه قليلاً و يهمس في أذني:" آسف مونيا لم أقصد حقاً ما قلته." ابتعد عني لكي يكمل قائلاً:" أنا فقط غاضب بسبب المشاكل الكثيرة التي لدي بالعمل و الذي يقف خلفها ذلك السياسي الحقير، الراحة لا تعرف طريقها إلى نفسي وأنا أعرف بأن ذلك الرجل يعلم بأن أسراره معك و لم أرد إخبارك بتهديداته لأنني أردت أن أحل الأمر من دون أن أقلقك."

وضعت يدي على خصره أضمه بقوة بين ذراعي النحيلتين وكأنني أريد عصره و قد جعلتني كلماته أشعر بالذنب الكبير، بذنب لأنني خنت العهد الذي بيننا و هو الثقة التي لاي جب أن يكسرها أي طرف منا تحت أي ظرف من الظروف. شعرت بأني تصرفت بغباء كبير هذه المرة وكدت أن أضيعه بسبب شكي فيه بينما هو كان يحاول حمايتي لكنني لم أستطع أن أنسى كلماته التي وجهها لشخصيتي وعاد الجرح لينزف ثانية و كلماته ترن في عقلي رافضة أن تترك لي فرصة نسيانها. شعر بيدي ترتخيان لكي تنزلا ببطء من على خصره، فابتعد عني هو الآخر و نظر إلي عيني و كأنه يريد التسرب إلى أعماق روحي و رؤية ما بداخلها:" مونيا، تعرفين بأن تلك الكلمات ليست ما أشعر به حقاً، لقد شعرت بأنني أفقد السيطرة عليك فأخرجت تلك الكلمات في غمرة غضب نادرة مني اتجاهك." لم يظهر علي الاقتناع بكلماته تلك و أنا أنظر إليه نظرات باردة لكي يكمل قائلاً و قد أجاد التصويب على هدفه هذه المرة:" حبي... هل أعيد عليك الأسباب التي جعلتني أحبك؟ أحببت شخصيتك هذه لو كنت أريد امرأة عادية لكان علي سهلاً جداً الزواج بها، لكنني لاحقتك لمدة طويلة كالمجنون لأنك جعلتني مجنوناً بشخصيتك الجريئة و القوية، الكثيرون يتمنون فقط نظرة منك لكن تلك النظرة لا تحظى بها سوى عدسة كاميرتك، تكرهين أن يتحكم أحد بعقلك و بمصيرك، تكرهين الظلم و تكونين في أتم الاستعداد لنهش كل من يحاول تهديد عالم حالم جميل، لا يصدق المرء بأن امرأة قوية ثائرة مثلك تؤمن بوجوده، أنت مزيج من مشاعر القوة و الضعف الرقة و الطباع النارية، كل هذا مميز فيك و لهذا أحببتك أنت دون غيرك من النساء و أريدك أن تبقي هكذا."

رفعت يدي أحيط بهما رقبته و أنا أهمس له بصوت مغر ور، رافعة أحد حاجبي بعدم الرضا:" شخصيتي فقط ما جعلتك تحبني؟"

مرر إبهامه على شفتي برقة شديدة بينما يجيبني :"جمالك يفتنني."

"حقاً ." قلتها لكي أمسك بأطراف قميصه مقربة إياه إلي بجرأة كبيرة وعندها لم أستطع أن أردف شيئاً آخر.

..................................

يوم غد

"ماذا تتناولين مونيا؟"

"و ما أدراني أنا؟" قلتها و أنا أهز بكتفي بينما تابعت تذوق ذلك الخليط البرتقالي بطرف إصبعي مع إنني لم أكن أعرف حقاً ماذا أتناول، أتتني فكرة صنع صلصلة من إبداع أفكاري فصنعت هذا الشيء العجيب و مزجت فيه جميع البهارات ليست فقط بهارات نون عربية بل أيضاً بهارات نون واو العالمية، لكن طعمه لذيذ لكي ينقده ياسر بسرعة قائلاً و هو يسعل بعد تذوقه:" يا إلهي ما هذا الشيء؟ كيف تستطيعين تناوله؟"

لم أستطع منع نفسي من الضحك بينما عيناي تتجهان إلى أيمن الذي كان جالساً في غرفة الجلوس على الأرض يحاول إخراج ما يوجد في جوف تلك السيارة الكهربائية الكبيرة التي أهداها له ياسر بمناسبة عيد ميلاده الرابع لكي لا يهتم بركوبها و قيادتها في الشقة بقدر رؤية ما بداخلها:" أيمن، لم لا تأتي لكي تتذوق الصلصة التي صنعتها لتوي."

سمعت اعتراض ياسر الحاد و الذي كان يجلس على كرسي من تلك الكراسي الحمراء الطويلة الخاصة بالمطبخ المفتوح على الصالة و ذلك لأنه لم يحبذ فكرة أن يتذوق أيمن من ذلك الخليط العجيب الذي كان طعمه مغرياً لي، لكن أيمن حل تلك المعضلة التي كانت بيننا عندما رفع رأسه إلينا ونظر إلينا تلك النظرات المقيمة و التي تضحكني عادة لكي يقول بعدها:" أنا لم أصالحكما بعد، لا تكلمانني لأنكما خدعتماني البارحة."

سمعت صوت ياسر يصدح ملطفاً الأجواء مع الصغير قائلاً :"ما تزال غاضباً يا أيمن! ثم إنك أنت بنفسك من طلبت مني البارحة أن أضعك في سريرك.. تذكر جيداً أيمن."

"لا" صاح أيمن بعناد كبير " أنا لم أقل ذلك، أنا لا أحب النوم في سريري بل أحب النوم مع مامي لأنها تضمني إليها أم إنك تريد ذلك فقط لنفسك؟"

كنت أزم شفتي بصعوبة مانعة نفسي من القهقهة عالياً بينما ياسر كان الغضب قد لون وجهه و قد انتهى صبره بسرعة هذه المرة و أنا أسمعه يقول بصوت حاد و صارم:" أيمن أنا لن أكرر كلامي، لديك غرفتك الخاصة و هناك ستنام وعندما أكون مسافراً ساعتها يمكنك النوم مع والدتك." لم أستغرب للحدة التي تكلم بها ياسر و التي جعلت أيمن يصمت و ينكمش على نفسه في مكانه مع أنه عادة متفهم لطلبات أيمن الكثيرة بحكم إنه عادة لا يكون معنا في البيت، بالإضافة إلى أنه حنون معه دوماً لكن الآن فقدانه لصبره ليس فقط بسبب تلك الكلمات التي صدرت بدون وعي بها من فم أيمن بل لأنه كان مشغول البال بشأن تلك الرسالة التي وصلتني البارحة. فدفاعي عن الحق أنتج هذه المرة عدواً ذكياً يحاول محاربتي عبر نقاط ضعفي و هي ياسر وأيمن، مع أننا كنا قد فكرنا في كيفية محاربته ليلة البارحة بعد أن استطاع ياسر و بكل خجل من نفسي أن ينسيني أمر ذلك السياسي كلياً ببحر مشاعره العميقة التي أغرقني فيها، عدنا إلى واقعنا الذي لم نعد نعرف أين نخطو بقدمينا فيه لكي يجعلني أقتنع بعدها بأنه علي أن لا أتخذ أي خطة ضد ذلك السياسي، بل إن الوثائق التي أملكها و الصور سيستخدمها ياسر هذه المرة من أجل استفزازه بها و هكذا تعود الكرة إلى ملعبنا و لكن مع ذلك أكدت لياسر بأن الوثائق لابد من نشرها فيما بعد مرفقة بالصور من عدسة كاميرتي الخاصة و حتى و لو لم أنشرها بنفسي هناك العديد من الأصدقاء سيرحبون بأن يظهروا هم في الواجهة و هكذا أبقى أنا بعيدة عن تربصات السياسيين بي و بعائلتي. اقتربت من أيمن بخطوات بطيئة لكي أجثو على ركبتي أمامه و أسأله قائلة:" ماذا تريد أن أفعله لك و تسامحني؟"

لمعت عيناه بمكر طفولي محبب و هو يقترب من أذني يتأكد في نفس الوقت من أن والده الذي كان يراقبنا باستغراب بأنه لا يستطيع سماعه لكي يهمس قائلاً:" لقد أخبرتنا المعلمة بأنه علينا إهداء شيء لمن نحبهم في عيد الحب و أنت عليك أن تصنعي لي كعكة مامي."

اقتربت أنا الأخرى من أذنه و همست له بخبث:" أيمن لمن تريد إهدائها أيها المشاغب؟ بالتأكيد إلى ألكسندرا"

ابتعد عني و نظر إلي بنظرات عدم رضا و هو يقول برفض:" لا مامي لا! لصديقتي الأخرى في هذه العمارة."

سألته بعدها و أنا ألوي فمي تعجباً إن كان يقصد آية عمرو عبد السلام كما تهتف دوماً تلك الفتاة أو بسمة ابنة ديمة، لكي يجيبني بعدها بتردد قائلاً:" لا! بل لصديقتك التي تزورنا دائماً في البيت، لين مامي، أنا أحبها."

وقعت على الأرضية أضحك بقوة على كلامه و قد بدأت بضرب الأرض بقبضة يدي غير قادرة على التوقف بينما كنت أسمع سخرية ياسر منا لضحكي المجنون و خجل طفلي الغريب الذي لم يفهم معناه. توقفت عن الضحك فجأة عندما رأيت الدموع تترقرق في عيني طفلي الجميلتين لكي أستقيم في جلستي و أنا أحاول بأعجوبة ألا أنخرط في نوبة جديدة من الضحك : "تحب لين يا أيمن؟ لين المرأة المتزوجة؟" أومأ لي لكي أقول له بجدية بعدها:" لين أكبر منك يا ولد! ثم ألا تخجل عندما كنت في سنك لم أكن أعرف شيئاً عن الحب سوى تلك الأغنية التي أشبعت المعلمات دماغي بها "أحب ماما أحب بابا" لا غير، أهذا ما يعلمونك إياه في تلك الحضانة؟ ثم أليست صديقتك هي ألكسندرا؟" أجابني و هو يبرم شفتيه بعدم رضا عن كلماتي قائلاً:" الاثنتان أحبهما و أنت لا يجب عليك أن تخبري لين بأن لدي صديقة في الحضانة المملة." لم أجد نفسي سوى أني أضمه إلي وأضحك بأعلى صوتي لكي أتوقف عن الضحك و أنا أرى ياسر يرتدي سترته و في نفس الوقت كانت أنامله تلعب بخفة على شاشة هاتفه النقال بملامح واجمة، اقترب منا بعدها وودعنا مفسراً حجة رحيله:" سأذهب الآن إلى حيث أخبرتك مونيا قبل قليل، لن أتأخر حبيباي." أومأت له برأسي بتفهمأراقبه يرحل و أعود بعدها بعقل شارد إلى أيمن و هيامه بلين زوجة راشد ولم تمر إلا دقائق على رحيل ياسر و سمعت بعدها جرس الباب، عندما فتحته فوجئت بشخصين يقفان أمامي، امرأة و رجل على وجهيهما نظرات باردة وعملية بينما يحدقان بي، لكنني مع ذلك لم أهتم لذلك البرود، بل حرصت على أن يفغر فاهي عن ابتسامة واسعة ازدادت أكثر عندما عرفاني بنفسيهما على أنهما من مكتب التحقيقات وعندما تأكدت من الشّارة، حاولت فهم سبب حضورهما وقد كنت أواجه لحظتها صعوبات مع أيمن الذي كان قد تبعني هو الآخر و عند رؤيته للرجل و المرأة يستغرب من شكليهما الشديد الجاذبية و الغريب في آن واحد لكي يبدأ بالتحديق إليهما ببلاهة لا بل تطاولت يده لكي يبدأ بجذب المرأة من ثيابها حتى تعطيه انتباهها، فلم أستطع منع نفسي من الابتسام و أنا أفكر بأنه قد يكون إبني المجنون و الغير العادي قد أحب المرأة الجميلة أيضاً رغم أن المرأة أثارت بعدها استفزازي عندما رمته بنظرات حادة لإزعاجه لها، نظرات شبيهةبالرصاص لو كان حياً لكانت''' لم أكمل تعبيري إذ شعرت بأنفاسي تتسارع فجأة و الغضب يعميني، فرسمت فجأة ملامح شرسة على وجهي و أنا أحدق بالمحققين و كأنني أنبههما من إعادة رمي طفلي الصغير بتلك النظرات القاتمة لكي أجيب بعدها على أسئلتهما و أنا أمسك بقبضة من حديد بيد أيمن الذي لم يعارض بعد أن أخافته نظرات المرأة. كنت أتكلم ببرود و رسمية شديدين و عندما سألاني عن ما يمكن أن أظنه بشأن اختفاء ريتشيل فجأة والذي في داخلي استغربت كثيراً منه، ابتسمت ابتسامة صفراء مستفزة و أجبتهما قائلة:" ربما أحبت أن تطير إلى جزء آخر من العالم بعيداً عن ضباب هذه المدينة الذي يسبب الاكتئاب، تبدو لي فكرة جيدة جداً و أشجعها عليها." رحلا بعدها بدون إضافة الكثير، فأقفلت الباب وحررت يد أيمن من قبضة يدي لكي أوصيه بأن يبقى في غرفة الجلوس يلعب بألعابه ريثما أستحم و أخرج لكي أكمل اللعب معه. دخلت بعدها غرفتي و بدأت أخرج ثياب نوم نظيفة و مريحة من خزانتي و أنا أفكر بغياب ريتشيل المفاجئ، الأمر يشعرني بالقلق على عكس ما أظهرت للمحققين، زينب أو ريتشيل المهم تلك المرأة الإنجليزية التركية قد أثارت قلقي عليها الآن. لو أنها لم تخبرني بأنها ربما تكون مستهدفة بسبب عقدها الثمين ذاك لفكرت باختفائها فقط من الناحية الإيجابية وقلت بأنها فعلاً ربما أرادت أن تسافر فجأة لكي تغير روتين حياتها. الأفكار و الأفكار بقيت تنهش عقلي و أنا أكره ذلك النوع من الأفكار المريبة التي تقلق نفسيتي، حال أن تُحل كل هذه المشاكل أريد السفر بعيداً عن هنا مع عائلتي. "لقد سئمت من هذه المدينة و أجوائها المقلقة". قلت ذلك و أنا أنزع قميصي عني في الحمام و قبل أن أرميه في سلة الملابس سمعت أيمن يصيح قائلاً:" أمي! جرس الباب يدق."

زفرت الهواء بقوة و أنا أفكر ، هل عادا لإزعاجي ثانية؟ أعدت ارتداء قميصي بسرعة و أنا أصيح من الداخل:" أيمن انتظر! لا تفتح الباب، أنا من سأفتحه."

سارعت يدي بتوتر تقفل آخر زر من قميصي عندما لم أسمع جواب أيمن وخفت من أن يكون قد فتح الباب بنفسه.. فيداه تستطيعان الوصول إلى مقبض الباب. خرجت بسرعة كبيرة من الحمام الذي كان في غرفتي لكي أهرول خارج غرفة نومي، فتوقفت فى مكاني أبعد بضع خطوات عن باب الشقة الذي كان مفتوحاً كلياً. و لا أحد يقف عنده، تلفت من حولي بعينين جامدتين فلم أجد أثراً لطفلي في أنحاء الشقة و طنين الصمت يدق في الشقة. ازدردت ريقي بصعوبة كبيرة و أنا أشعر في نفس الوقت بالوهن في ساقي و ببرودة تجتاح أطرافي.

و أنا أنادي بصوت يعرف أول مرة ذلك الرعب المميت:"أيمن؟"


************






علياء عبد الحميد


مشهد مؤثر أليس كذلك؟! تمتمت بخفوت وأنا أتابع النادلة الأربعينية البدينة وقد رسم الإحباط على محياها خطوطاً من الأسى بينما ترمقنا بفضول .

عدت بالنظر لعائلتي الصغيرة!

عمرو يتفحص قائمة الطعام بإمعان!

آية تجلس بيني وبينه تقلده وهي تختبئ خلف قائمة الطعام لتلوح مبتسمة لولد في العاشرة يتناول الإفطار أيضاً مع والديه بالطاولة المقابلة وهو يشير إليها بلعبة الكترونية في يده! .

ضبطتها بالجرم المشهود فأعادت رأسها بذعر بحجة انتقاء الإفطار.

ما بها جلستنا حتى تصاب هذه النادلة بالإحباط؟ عائلة سعيدة تتناول إفطارها بمزاج رائق!

صدح صوت أم كلثوم من هاتفي وهي تشدو بـ " أنتَ عمري " وقد عبثت به آية، فتركتها ولم أنهرها وقد غمر قلبي دفء الحنين بينما أتأمل بشرود المكان حولي وقد استقرت عينايّ على واجهة المطعم الزجاجية الرائقة .

أجمل ما في هذا الحي أو بمدينة الضباب عامة، هذه الخضرة المبهجة التي تلف كل شيء حولك، أخافتني بالمساء برؤوسها المهووشة أما الآن بهذه النضرة الغضة تتخللها أشعة ناعسة امتدت بفتور من قرص شمس أصفر باهت الوهج، ورغم هذا الفتور بدت بهجة حقيقية للناظرين، انتبهت لعمرو وهو يحدق بوجهي ويجيب ابتسامتي الشاردة بأخرى أجمل منها - أحبه كثيراً – نهرت نفسي لهذا التهاون وأعدت لملامحي تقطيبة ألصقتها بها طوال الصباح!

لن أسامحه ما حييت على ما فعله اليوم، أن يقوم بتجاهلي أو عدم الانتباه لي أمر وأن يفسد انتقامي الرائع أمر آخر، أُبيت له طوال الليل ثم يأتي في الصباح و ينسفه لي بمنتهى البساطة، لا عجب أنه يبتسم الآن بانشراح .

:- تأنقكِ اليوم ملفت؟ إلى أين تنوين الخروج في هذا الصباح؟

هكذا فاجئني بتلك العبارة بعد استيقاظي وإعدادي العدة، كان في أبهى حلة وقد أيقظ آية وساعدها في اتمام هيئتها هي الأخرى وأنا حسبتها تلهو أمام الحاسوب .

أثناء هبطونا بالمصعد لم تنفك آية عن الثرثرة وسؤاله عن وجهتنا بينما هو يقيم هيئتي بنظرات فاحصة، ما بها ملابسي؟ فضفاضة واسعة والحجاب أنيق صحيح! لكن بعيد عن البهرجة، أين هذا الاهتمام عندما ارتديت الفستان الأحمر ؟ آه يا قلبي المسكين بت أتحسر على هذا الفستان الرائع وأنا أتذكر فاتورته الباهظة التي دفعتها أمي، أموت شوقاً لتأتي أمي المبجلة الآن لأخبرها مصيري ومصير الفستان الأحمر في تلك الليلة .

ركبنا سيارة أجرة لتقللنا إلى وجهتنا المنشودة، أسرَ لي وهو يداعب آية بحاجتنا لسيارة خاصة، فهززت رأسي بموافقة ضمنية وأنا أتفحص الطريق أمامي، أتساءل إلى أين يأخذنا؟ تسللت أفكاري في غفلة مني لتطرق مسامعه ليخبرني بعدها وهو يتجنب النظر إلي :- ألا تعلمين؟ بالطبع لمتجر عصام الجديد.

ابتسم وهو يضغط على الكلمات :- نحن عائلة واحدة مهما تباينت دروبنا، من الواجب أن نشاركه أفراحه، أليس كذلك يا لولي؟

تدخلت آية بحماس :- مَن لولي يا أبي. أنتِ يا أمي؟

التهت عني بعمرو وأحاديثه وهو يخبرها عن المتاجر والمقاهي في طريقنا .

لولي! اسم تحبب أطلقه علي عصام بالصغر، صحيح أنا لا أطيق سماعه منه ولكن لا يهم، ما يعنيني الآن أنه غاضب، ضحكة خافتة ابتلعتها سريعاً وأنا استرخي في مقعد السيارة في انتظار وصولنا للمتجر الحُلم، ولكن كيف علم بوجهتي لعصام اليوم؟ انتبهت لنظراته رباعية الأبعاد وقد حطت بتركيز على ملامحي وقد لاح بها بعض.. بعض التوعد.. ابتسمت مكايدة له بينما عيناي تخبراه جهراً انتظر حبيبي لترى مفاجأة لولي؟

استقبلنا عصام و زوجته كارول بحفاوة وعدم تصديق لمجيئنا.

متجر حُلم كأننا انزلقنا فجأة في هوة متسعة لعالم ديزني الرائع بشخوصه المضحكة، ارتفعت ضحكات آية وهي تجري هنا وهناك وعصام يأخذنا كمرشد خاص لكل ركن من أركان متجره الفسيح وقد انتفش وتعاظم بهذه الزيارة، ابتسمت في نفسي وقد علمت أن وقت مفاجئتي قد حان وتقدمت منهما وقد انتحيا للتحدث جانباً وتركاني مع كارول وبعض أصدقائها الأجانب.

قلبي لم يلتهي عن النبض من أجله وهو يقف بكامل وسامته بجانب هذا العصام بحلته الزرقاء وسمرته الدافئة، هل يراه الجميع هكذا أم أنا فقط من تعثرت بغرامه منذ ولادتي؟

توقف عصام عن الحديث عند وصولي ليخبرني :- لا تعلمين مدى سعادتي بوجودكم اليوم؟

داعب عمرو أناملي وهو يحتوي كفي الصغير ويضغط عليه بخفة ونظره موجهاً لعصام قائلاً :- لا نستطيع التخلف عن المجيء نحن عائلة واحدة يا عصام، وأنتَ تسعى لتصلنا بهذا الود، أحاط كتفي بذراعه ليغمرني بدفئه ويخدرني عطره لثواني وهو يكمل :- أخبرتني علياء عن الحاحك عليها بالأمس، لابد أن تحاط بعائلتك في هذا اليوم، أليس كذلك؟

صمت عصام وهو ينتقل بالنظر بيننا، أما أنا فشعرت بالبرودة تتسرب لأطرافي المرتعشة، كيف علم بما أنوي؟ جاهدت ليخرج صوتي ثابتاً وأنا أتوكأ بدلال على الكلمات :- عصام لي عندك رجاء .

تحفزت حواسه وهو يخبرني :- أنتِ تأمريني علياء ما هو طلبك وسأنفذه لكِ على الفور .

أكملت دلالي المزيف، وقد أبتعد عمرو بدفئه عني ليتابعني بتسلية كأنه يعلم ما سأقوله،فاضطربت قليلاً ولكني أمسكت زمام الكلام مجدداً لأخبره بابتسامة مرتجفة :- رأيت ركن هنا لكتب الأطفال أعجبني كثيرا و.. ما رأيك أن أستلم مسئوليته منذ الغد؟

أشرت له ببطاقة الدعوة : لقد أرسلت سيرتي الذاتية إلى بريد المتجر الإلكتروني الذي وجدته مدون هنا .

أسرع قائلاً بحفاوة :- بالطبع لا مانع لدي، اعذريني، لم أفحص البريد اليوم لانشغالي، تستطيعين البدء من الآن لو أحببتِ .

توجه كلانا بالنظر إلى عمرو والابتسامة لم تغادر وجهه وهو يشير إلى آية ويقول؛"لقد تأخرنا يا عصام وعندي مقابلة مهمة مع زميل، تهانينا الحارة

اعترض عصام قائلاً :- دائماً أنتَ على عجل، أيضاً عندما التقيناك وصفاء منذ أيام، غادرتما سريعاً، نريد الاستئناس بكَ يا رجل .

ابتسم ابتسامة واهية وهو يجذب آية متجها بنا للمغادرة، قائلاً :- فرصة أخرى بإذن الله .تهانينا الحارة.

ثم صمت مطبق طوال الطريق، يليه إفطار رائع ثم عودتناالى عمارتناوالشمس الباهتة تتراجع بدفئها الشحيح لتهجع آمنة إلى مستقرها الدافئ .

سبقتنا آية لشقة الأستاذ نبيه لتلقي التحية عليه في طريق صعودنا بينما هو تنحى بي جانباً ليحاصرني في ركن مظلم من مدخل العمارة وهو يهمس بصوت ارتعدت له أوصالي :- شيئان سنناقشهما عند عودتي، الأول عمرو يحفظ علياء ككف يده لذا كفي عن هذه الصبيانية، الأخر أنا من يضع قوانين هذه الأسرة وعلياء من ينفذها.. استقللنا عن أمي وغادرنا مصر كلها، ألم يكفيكِ هذا؟ لا تطمحين للمزيد حبيبتي! لم تنجبني أمي لألبي طموحات سموك .

ابتعد عني بهدوء ليغادر بعدها لموعده وأنا غارقة في ذهولي حتى جذبتني آية من يدي تجاه المصعد وأنا أحاول أن أخفف من رعشة يدي كي لا أثير تساؤلاتها اللامتناهية، وصل المصعد لبيتي فتنفست الصعداء، لأجد رجل وامرأة في انتظاري عند باب الشقة أخبراني أنهما من مكتب التحقيقات يريدان ريتشيل زينب ولم يجداها في شقتها منذ الصباح، فأجبتهم باقتضاب بعدم معرفتي بمكانها وأنا أغلق الباب خلفي وأستعيد كلمات عمرو. أعادتني آية للواقع بسؤالها عن زينب ولم أعرف بمَ أجيبها ولكني تذكرت كلام لين الناعمة فابتسمت سعادة لزينب، لابد أنها وجدت في خليل نصفها الأخر ودعوت لها في سري أن تجد سعادتها معه، خنقتني غصة مؤلمة وسؤال خجول يتماوج داخل عقلي، هل وجدتيها أنتِ يا علياء؟ .

جذبت اهتمامي ضجة بغرفة المكتب لأجد آية تزاول نشاط شقاوتها في أشياء أبيها وهي تعبث بمغلف مذهب ملفوف بعناية فضضته فوجدت به إحدى التابلوهات الأنيقة ولكن ما لفت انتباهي حقاً تلك البطاقة التي تسللت من المغلف لتسقط على أرضية الحجرة، التقطها لأجدها بطاقة لـصفاء دونت عليها بخط أنيق :-كل عام و أنت بخير يا عمرو، إفطار السبت كان مدهشاً شكراً لك .

صفاء .


**************




مينة أحمد


بالكاد أستطيع التنفس و الوقوف بمكاني. ألم محسوس والآخر باطن و كلاهما ظالمان لا يرأفان بحالي و يبدو أن كل شيء حولي لا يرضى بأن يعتقني. بداية من مشواري الصباحي و التعب الذي جعلني ألقي نفسي في المصعد حتى أصل لشقتنا و كالعادة تلقفني بين جنباته الفولاذية دون تذمر، و الأخبار التي تمزقني " سبعون قتيلاً ومائتا جريح الحصيلة الأولية لانفجارات الصباح الباكر في العراق" و الله أعلم كم سيصبح العدد.. كم من الرجال و النساء و الأطفال ذهبوا و لم يعودوا .

و أصحاب السيادة يجترون خطاباتهم التافهة من وعودهم الزائفة، فهل تنفع كلماتهم في هكذا مواقف هل سيعود الابن لوالدته؟ هل سيكونون المعيلين لعائلة فقدت الوالد؟ أم يأتون بأم مستوردة حتى ترعى الأطفال اليتامى؟

لا يهمهم سوى أن يظهروا على شاشة التلفاز و يرسمون ملامح حزن زائفة و أقلامهم توقع على عقود سرقة النفط.

و حتى مازن لم يكن على حاله اليوم و هو يؤنبني مثل الطالبة المذنبة ولم أكد ألقي عليه تحية الصباح حتى انفجر بوجهي

" أين كنتِ؟ و أيضاً لم تهتمي بشحن هاتفكِ فأنتِ لا تهتمين بقلق الآخرين عليكِ فقط تريدين قتل نفسكِ ببطء و لكنك أنانية بهذا التفكير و هذه البلاد ليست بلادنا.. أنظري لنفسك بالكاد تقفين!"

أجبته ببرود : ما بك مازن؟ هذه أول مرة تكلمني هكذا و أنا لم أذهب بعيداً فقط أحضرت الفطائر.

قال بغضب " الكلام معكِ لا ينفع و بالمناسبة لا داعي لأي من مقالبكِ و إصدار أي أصوات لأن علي نائم في غرفتي ولديه صداع نصفي و لا يحتمل الصوت أو الضوء فقط دعيه يأكل شيئا و لا تعترضي تكفيني أمور العمل المتدهورة فلا تزيديها عليّ بحياتكما التي أصبحت مجرد لعبة"... و خرج صافقاً الباب وراءه.

و الآن أقف أمام باب الغرفة التي يقبع فيها الأمير النائم أصارع أمواج القرارات و أنا أقنع نفسي بأنه مريض و من حقه عليَّ أن أعتني به و ربما صداعه بسببي .

بعد قليل طرقت الباب و دخلت، كانت الغرفة تسبح في الظلام إلا من ضوء الأباجورة الخافت و مصدر حيرتي يجلس على السرير ، يمسك رأسه بكلتا يديه، يبدو أنه يتألم كثيراً. تقدمت ببطء و أنا ألقي التحية: صباح الخير

أجابني بهمس " صباح الخير " سألته : كيف تشعر الآن؟

همهم قائلاً " الألم يكاد يفتت رأسي. أغلقي الباب أشعر أن الضوء يعميني "

نعم الضوء يعميك و كأني مغفلة حتى أغلق الباب و أبقى معك في نفس الغرفة، يظنني نسيت يوم أمس؛

هيا لتتناول فطوركقلتها و وضعت الصينية بجانبه على السرير و اتجهت إلى الأريكة لأرتبها قليلاً، كانت ملابسه هناك و ذلك الشماغ الأحمر الذي عذبني مراراً، فابتسمت كالبلهاء و أنا أتخيله يخنقني به بسبب غيظه، رائحة عطره المميزة، إنه عربي حد النخاع!

اتجهت للباب لأخرج لكن صوته المتعب أشعل النيران في رأسي و هو يعود ليتهمني بالجبانة مرة أخرى

"يبدو إنكِ اعتدت الهروب ككل مرة لا تواجهين، أستغرب ذلك رغم قوتكِ التي أشعر بها إلا أنك تنسحبين بسرعة، خذي الإفطار معكِ فأنا سأذهب بعد قليل لست بحاجة لاهتمامكِ المزيف"

ابتعدت عن الباب و قلت له " اسمعني جيداً، أنا لا أهرب منك! أنا قلت لك ما أريد بعد أن مللت من أن تأتي المبادرة منك. بالله عليك سنة و نصف و أنا أغيظك بكل شيء وأبتعد عنك قدر الإمكان و ماذا أجد منك بالمقابل؟ هدوؤك و ابتسامتك التي تجعلني أشعر بأنك تستهزئ بي.. لم أعد أعرف إن كانت كلمات الحب حقيقية أم أنك تريد أن تنتقم مني و تقيدني".. الغضب و التعب أعميا بصيرتي و لم أجد نفسي إلا أمامه و هو يقف قريب مني يجيبني و هو يصر على أسنانه " لأي شيء تسعين؟ هل تريدين أن تري غضبي؟ لا أنصحكِ بهذا،تكفي النيران التي تحرقني و لا أريد أن أحرقكِ معي بها و أستعمل معكِ أسلوبا سيجعلكِ تكرهيني لما تبقى من عمرك.. لا تخدعكِ المظاهر، الهدوء و الصبر صرت أغذي بهما روحي و أسممها في نفس الوقت، هل بنظركِ هذا يجعلني عديم الإحساس؟ جنونكِ يقتلني و يقضي على صبري"..

"نعم فأنا مجنونة بنظرك و مشاعرك اتجاهي ليست سوى شفقة.. لا أراك إلا كالماء أخاف أن أصل إليه فأجده سراب أو ربما ملح أجاج لا أستطيع أن أشرب منه، فلماذا تعذبني؟ مشاعري ليست مُلكاً للمستقبل"

و من دون مقدمات وجدت نفسي بين أحضانه و يداه تطوقني بقوة كأنه سيحطمني و يدخلني بصدره، للحظة تمنيت أن يفعل هذا حتى أجد الأمان، تعبي النفسي والجسدي لم يدع لي أي مقاومة كي أبتعد عنه،

فتنهد بارتياح " هذا ما كنت أريده أن تواجهيني، أن تلقي مخاوفك خارج صدرك و تسألين لماذا صبرت مع طفلة ومراهقة و أنثى لونت حياتي و غيرت طباعي؟ لعشر سنوات وأنا أغرق بين مشاعر مختلفة لا أعرف متى أصبحت حباً".

هممت برفع رأسي من على صدره لكنه لم يترك لي المجال وهو يجلسني إلى جانبه على السرير و يردف قائلاً : "أشفقت عليكِ أول مرة رأيتكِ فيها و أنا أقلكم من مطار هيثرو بعد أن اتصل بي مازن، لم تكوني إلا طفلة نظراتها هائمة و تلتصق بشقيقها، بعد ذلك رأيتكِ مرات عدة و أنا أستغرب انقلاب شخصيتكِ و مشاعري، بنفس الوقت احتقرت تلك غير المبالية بمن حولها وكرهت الفتاة الطائشة التي كانت تتعالى ضحكاتها من تلك السيارة المكشوفة و ظننت أن حياة الغرب سحبتكِ لها و ستتغيرين مثلهم قريباً" .

قلت له و الذكرى تدغدغ مشاعري : أتعرف؟ ذلك اليوم الوحيد الذي أردنا أن نجرب أنا و صديقتي الجزائرية حياة الطيش لكن النتائج كانت قاسية لكلتينا.

فعاد يقول : "كرهت لندن التي أصبحت كالضوء الذي يحرق الفراشات.. ابتعدت و عدت للعراق لفترة لكنكِ كنتِ ملتصقة بعقلي و عدت إلى المدينة التي تلفكِ بضبابها وصرت مهووس بمراقبتكِ و الغيرة تنهش بعقلي و قلبي حتى من قرب أخيكِ، كل مرة أرى فيها مازن أتهرب من النظر إليه و أنا أشعر بأني خائن، فخطبتكِ منه و لكنه لم يقل سوى إنكِ صغيرة و بعيدة، أصبحت أحترف الصبر كلما رأيتكِ تلك الأنثى الجميلة الواثقة القوية الصعبة المتقلبة التي لحظي لم تغيرها الحياة كما ظننتحتى قبل الحادث بيوم فتحت الموضوع مرة أخرى مع مازن و قال بأنه سيكلمكِ و تعرفين البقية، ما حدث في المستشفى وافقتِ مجبرة لأجله و لكني لم أعترض و وجدتها فرصة لأغيرك و أجعلكِ عاشقة وأحتوي ذلك الضعف الذي قلما تظهرينه لكنني فشلت لأن الماضي و عودتك له أصبح سدا أمام مشاعري" .

إذن حياتي لم تكن إلا مؤامرة كما قالت خولة...أخرجني من أفكاري صوته و لمساته على ظهري و هو يسألني بصوت عاتب :

"لماذا تحتكرين الألم و لا تدعيني أشاركك به؟ لن أستجدي الحب منكِ لكن كل ما أريده هو فرصة أخرى لحياتنا نعيشها نحن و ليس بتجارب غيرنا، نعرف بعضنا أكثر من دون حواجز و إن لم يكن هنالك تفاهم سأذبح قلبي حتى تتحرري من قيدي ".

أجبته و الألم يعصف بي : كني بحاجة للكثير من المشاعر والتفهم و الاحتواء و الأمان، سيكون عليكِ أن تتعامل مع كل مرحلة سابقة في حياتي لأني ببساطة غير مستقرة في مشاعري"

أخبرني: " لا أنكر بأن الأمر ليس سهلاً و لكن لابأس من المحاولة، فأنا يقين من أن بداخلكِ عاصفة من المشاعر والأعاصير من الأحاسيس، ليكن القرار في الصيف. "

بتردد كبير قلت : "حسناً سأحاول لكن لا أؤكد لك إني سأستطيع الاستمرار، فقط لا تضيق عليّ الخناق وتحاصرني كثيراً بإغداقك عليبالمشاعر"

قال و هو يستلقي على السرير و ملامحه تنبض بالألم: "لكِ ما تريدينه".

لكن قبل أن أخرج أردف :" لي شرط واحد، تلك البيجامات التي أكبر من مقاسك مرتين و فيها عرض مميز لأفلام الكارتون و التي تخصصينها لاستقبالي أريد أن أحرقها بيدي، أما تلك القصيرة سأضعها في متحف لأنها لم تبخل عليّ و رأفت بحالي "قالها بضحكة عابثة.

قح" قلتها بغضب من جرأته و تركته و خرجت و لم أنسى صفع الباب جزاء له على كلماته.

هل من المعقول أنا من أقدمت على هذه الخطوة؟ كيف تركته يؤثر بي؟ لم يعد هناك مجال للندم أو التراجع.

أشغلت نفسي بتحضير الغداء و لأول مرة لا أشعر برغبة بالأكل فقط أريد أن أنام و أرتاح.

أنهيت الغداء و أنا بالكاد أسند نفسي و لحسن حظي رجع مازن و مازالت الحيرة تعصف به، فأخبرته أني أنهيت الغداء و لكن عليه أن يسكب له و لعلي لأني متعبة جداً .

جررت قدميّ إلى غرفتي و ألقيت نفسي على الفراش و رحبت بجحافل النوم .

عند الغروب استيقظت على نغمة الرسائل من مازن يخبرني أنه بالخارج و لن يتأخر، بعد قليل تفاجأت بزيارة رجل وامرأة يقولان بأنهما ضابطين من الشرطة و أرياني هويتهما وسألاني عن الجارة ريتشيل و أخبراني أنهما ينتظرانها منذ الصباح و أرادا أن يعرفا متى آخر مرة رأيتها فيها، كل هذا من على الباب لأني كنت لوحدي وصادف ذهابهما مع مجيء مازن.

أفضيت له بشكوكي حولهما وكيف ينتظران منذ الصباح والآن تذكرا ليسألا حتى نظراتهما لم تكن مريحة و ما الذي فعلته ريتشيل؟ هل يكون لخليل علاقة بهذا؟ قال لي "مجرد استفسار و من الطبيعي أن يسألاك و باقي الجيرانلكن تلك الفتاة ساحرة و باستطاعتها انتزاع الاعتراف من فم أشجع رجل و عيناها رائعتان لو رآها علي لكتب بجمالها أروع قصيدة"

يغيظني، أنا أقول شيء و هو يقول شيء ثاني :" معك حق فأنتم تفقدون التركيز عند رؤية شيء ملون يمر أمامكم و لو علي فعل ما تقول فتأكد إني سأضعه في غرفة فارغة و أقفل الباب و سأحرص أن أكون آخر من يراني و أقتلع عينيه و إن كنت ستقول له فأخبره أن الضابط الذي معها وسيم جداً "

متأخراً تلك الليلة شعرتُ بعطش يلهب جوفي، فذهبتُ للمطبخ وملأت الكأس بالماء لكن وقبل أن أروي عطشي ارتوت روحي بخناجر الاقصاء وأنا أسمع بضع كلمات وجهها مازن لمحدثه عبر الهاتف، فانزلق الكأس من يدي أثر صدمة ما سمعته تتردد صدى كلمات في قلبي لم ينطقها لساني "لماذا تفعلون بي ذلك؟ "


***********




خولة سعود


الضغط يولد الانفجار، هذا ما حدث لي تماماً، فبعد يوم كامل من ادعاء الهدوء و رباطة الجأش انفجرت.

فتحت الباب بقوة، و صرخت و أنا أنظر إلى السرير حيث كان نائماً "لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر، الساعة الآن الخامسة مساءاً من يوم الأحد، و هذا يعني أني لم أرى ابني ليوم كامل، افعل شيئاً"!

لم يفتح عينيه إلا بعد أن انتهيت من كلامي، فعرفت أنه لم يكن نائماً من الأساس، تأملني لثوانٍ قبل أن يقول ببرود "ماذا تريديننا أن نفعل؟"

قلت بحشرجة "نذهب لرؤيته على الأقل"

قال معترضاً و هو يجلس معتدلاً "لا! أولاً لن يسمحوا لنا برؤيته، ثانياً سنعقد الأمور أكثر إن رأونا في المستشفى بعد أن أمرونا بعدم الذهاب، ابننا بخير و هذا هو المهم"

قلت باحثة عن أي بصيص أمل "مازلت غير مرتاحة، على الأقل أطلب من جارنا راشد أن يذهب للاطمئنان عليه، إنه يعمل في نفس المستشفى، ولن يمنعه أحد"

تمتم قائلاً "لا داعي لذلك"

أجبت مصرة "إن كنت محرج منه لا بأس، سأتصل أنا بلين وأطلب منها ذلك، أنا متأكدة من أنها لن تردني أبداً" ثم التفت هامة بالمغادرة، لكنه أوقفني هاتفاً "خولة"

استدرت إليه، فأكمل بصراحة "الأمر ليس بهذه السهولة، على أي أساس سيسمحون للدكتور راشد بالدخول إلى غرفة أسعد! على أساس أنه طبيب! و لكن ماذا يريد طبيب جراح قلب من طفل لديه شرخ في الجمجمة؟ الأمر غير منطقي، سنجلب له المشاكل و نعقد مشكلتنا أكثر"

صحت فيه "و الحل إذن؟"

قال و هو ينهض من السرير "ننتظر"

بسطت يدي وأنا أقول ذاهلة "يا إلهي! أي برود هذا الذي أصابك، و كأن المسألة لا تخصك!"

اقترب مني و هو يقول بهدوء "خولة للمرة الثانية أقول، ماذا تريدينني أن أفعل؟"

أجبته باضطراب "لا أعرف، أنت من ورطتنا بهذه المشكلة وأنت من يجب عليه أن يقوم بحلها"

وقف أمامي يرمقني بنظرة معاتبة قبل أن يتكلم ببطء "أنا من ورطتكِ في هذه المشكلة، لذا دعيني أقوم بحلها بالطريقة التي أراها مناسبة" ثم أزاحني عن طريقه مغادراً الغرفة.

لم أستسلم له، بل لحقته و أنا أقول غاضبة "لكني لا أراك تقوم بحلها، أنت لم.." قطعت كلامي و أنا أسمع جرس الشقة يصدح في الأنحاء.

***

كان الطارقان رجل وسيم و امرأة فاتنة لأبعد درجة، ظننتهما من الشئون الاجتماعية، لأنهم أخبروا خالد البارحة أنهم سيقومون بزيارتنا، لكنهم لم يكونوا هم، بل كانوا من مكتب التحقيقات، أتوا من أجل ريتشيل زينب، قالوا أنهما كانا ينتظرانها منذ الصباح و لكنها لم تأتِ حتى الآن، سألانا إن كنا نعرف أين هي؟ و متى آخر مرة رأيناهاو كلمناها فيها؟ ثم انصرفا بعد عشر دقائق دون أن يخبرانا عن سبب اهتمامهما بها.

"تفضلي"

رفعتُ بصري لأرى خالد يمد لي كوب شاي يفوح منه البخار، تناولت الكوب و أنا أقول ببرود "هل ترشوني حتى أكف عن إزعاجك؟"

ابتسم متمتماً و هو يجلس على الأريكة بجواري "أنتِ لا تزعجيني"

قلت مباشرة "كنت أعرف أنها ليست عادية"

نظر لي مستفسراً، فأوضحت "الـ ريتشيل هذه، لقد عرفت حقيقتها، إنها جاسوسة من المخابرات البريطانية، مهمتها كشف الإرهابيين العرب، و هذا يفسر لماذا أغلب قاطني عمارتها من العرب"

قال خالد الذي بدا أنه يستمتع بتحليلي "أن تقوم بتأجيرنا شقق في عمارتها لن يجعلها تكتشف إن كنا إرهابيين أو لا"

أجبته بثقة "أجل، و لذلك قامت باختراع فكرة اجتماعات النون العربية، حتى نكون تحت ناظريها، تسمع أحاديثنا ومجريات حياتنا، و تكتشف من ذلك ما تريده لكن ريتشيل أولاً و أخيراً مسلمة و فتاة جيدة أيضاً، لذلك فكرت أن هذه خيانة، فقررت أن تهرب من المخابرات البريطانية و تلتحق بالمخابرات التركية"

كرر خالد ذاهلاً "المخابرات التركية!"

ارتشفت من الشاي، ثم قلت مسترسلة "أجل، أنت تعرف ذلك الشاب التركي خليل الذي يركض مع ريتشيل في الصباح، إنه من المخابرات التركية، لقد أخبرتني البارحة وكالة الأنباء آية ابنة علياء أن خليل خرج من شقة ريتشيل قبل اجتماعنا، و هذا يدل أنهما اتفقا على الهرب لتركيا بعد اجتماعنا، و عندما اكتشفت المخابرات البريطانية اختفاءها، أرسلت الرجل و المرأة إلى عمارتها ليسألوا الجيران عنها"

كعادته ابتسم تلك الابتسامة التي أحبها و هو يقول بصدق "هذه أروع مؤامرة سمعتها في حياتي، لما لا تكتبين روايات بوليسية؟"

مؤامرة! كيف لم أفكر بذلك من قبل! أجل إنها مؤامرة لكن خوفي على أسعد جعلني أغفل عن ذلك، هتفت بصوت عالي "إنها مؤامرة"

نظر لي خالد بدهشة، ثم قال "أجل، لقد قلت ذلك"

أدرت رأسي يمنة و يسرةً قائلة "لا، لا أقصد ريتشيل، بل أقصد ما حدث لأسعد، المسألة ليست اشتباه في عنف أسري، المسألة هي مؤامرة فقط ضد المسلمين العرب"

زفر بتعب وهو يتمتم "رجاء ليس هذا"

لم أهتم باعتراضه، بل واصلت بحماس "ذلك البرنامج التلفزيوني (كلام نواعم)الذي تكرهه، لقد استضاف في إحدى الحلقات أسرى أردنية، و التي حكمت عليهم المحكمة السويدية بأخذ أطفالهم الأربعة و توزيعهم على أسر سويدية بحجة اتهامهم بالعنف الأسري لأن الأم شوهدت وهي تجذب ابنتها بقوة لتبعدها عن طريق السيارات. أرأيت؟ لو كانوا يهتمون حقاً بحماية الأطفال لشكروا الأم بدلاً من أخذ أطفالها، لكنهم لا يبالون بحماية الأطفال، إنهم فقط يبالون بتعذيبنا و إيلامنا نحن المسلمين العرب" ثم أكملتُ بهستيريا "و هذا ما سيحصل معنا، سيأخذون أسعد منا، ليس أسعد فقط، بل حتى أشرف، سيحرموننا من رؤيتهما، بل ربما..

"كفى!"

أوقفتني صرخة خالد، التفت إليه غير مصدقة، هذه أول مرة أسمع فيها خالد يصرخ بهذا الصوت العالي، نظرت إليه، فهيأ لي أني أرى غضباً بدلاً من ملامح وجهه، سمعته يكمل بنفس النبرة القوية "كفي عن هذا الهراء، لن يحدث ذلك، لن يأخذ أحد ابنيّ مني، أنا لم أرتكب خطأ، هل فهمتي؟"

كان صراخه و غضبه علامة واضحة لأنهي هذا الحديث، لكنني للأسف لم أنتبه لهذه العلامة و أكملت مجادلة بصوت عالي "تلك العائلة أيضاً لم ترتكب خطأ، و مع ذلك أخذت السويد أبناءها"

قال بعنف "نحن لسنا في السويد"

رددت عليه "و إن يكن، فبريطانيا مثل السويد، دولة كافرة تكره العرب و المسلمين."

أجابني ساخراً "بالتأكيد ستقولين هذا الكلام، من شابه أباه فما ظلم" ثم أردف بلؤم "أم هل علي أن أقول من شابه قريته"

صمت، لم أنبس ببنت شفة، جمدت، لم أقم بأدنى حركة، خالد! ماذا فعلت؟




**********




ديمة مصطفى


عادة.. أفقد أعصابي عندما تمارس معي بسمة لعبتها السخيفة التي تحلو لها أثناء قيامي بمهمة كي قمصان إياد. كلما رششت رذاذ الماء فوق القماش بهدف ترطيبه تمد يدها لتسترق شيئا من الانتعاشثم تسحبها مبللة وهي تضحك.

عادة أزجرها بنزق، فتهرب إلى غرفتها باحثة عن شيء جديد تلهو به إلا أنني هذه المرة تحليت بسعة بال نادرة وأنا أراقبها تضحك بمرح، أنشي قمصان إياد الأنيقة بذهن شارد واعية لمرور أكثر من نصف ساعة على موعد نوم بسمة المعتاد.

لقد كنت بحاجة هذا المساء إلى وجودها البريء، إلى الإحساس بقلب صادق يرغب بصحبتي بدون شروط. شخص يحاول دون قصد إلهائي عن التفكير بدون فائدة تذكر، إذ أن عقلي لم يتوقف عن العمل منذ عودة إياد في وقت متأخر للغاية ليلة الأمس، وتسلله إلى جانبه من السرير دون أن يفطن إلى صحوتي.

هل العمل ما أخرك يا إياد؟ أم أن في حياتك أسرار تخفيها عني؟ من الصادم أن أكتشف فجأة بعد ثماني سنوات من الزواج أنني لم أعرف زوجي قط، كمن كان في سبات عميق فاستيقظ ليجد نفسه على بعد سنوات ضوئية من زمنه. ضائعاً، تائهاً لا يجد أرضاً ثابتة يقف عليها.

صباح هذا اليوم وفي لقائي العرضي المعتاد مع الأستاذ نبيهوجدت نفسي أفضي له بأفكاري المتخبطة، ففاجئني بسؤال هزني في الصميم :- وهل عرفكِ زوجكِ يوماً يا ديمة؟ هل حاولتِ يوماً أن تظهري له ديمة الحقيقية قبل أن تتذمري من إخفاءه الحقائق عنك؟

وهل حاولت فعلا؟ نعم في سنوات زواجنا الأولى تحدثت كثيراً عن آمالي وأحلامي، عن طموحاتي الكثيرة التي كان يقابلها بابتسامة شخص يسمع دون أن يستمع، ولم أجد لديه قط أذناً صاغية لي فاحتفظت بما لدي لنفسي.

هل كنت أماثله أنانية واهتماما بنفسي واحتياجاتي فلم أعبأ باحتياجاته؟ عندما أخبرت الأستاذ نبيه عن قلقي من وجود امرأة أخرى في حياة إياد؟ من ألا يكون مخلصا ليوقد كانت هذه المرة الأولى التي أتطرق فيها بهذا الشكل إلى حياتي الخاصة مع شخص غريب، إلا أن الأستاذ نبيه كان دائماً مختلفاً عن أي شخص آخر، لقد كان بنظراته الحنونة خلف عويناته الأنيقة بالأبوية الخالصة في استماعه المهتم ونصائحه جديراً بتلقي سري. وقد كان أهلاً لها إذ صارحني بكل وضوح قائلا :- هل فعلتِ كل ما تقدرين عليه للحفاظ على زوجكِ يا ديمة؟ هل احتويتِ احتياجاته كما كنت تتذمرين دائماً من تجاهله لاحتياجاتك؟

أجبته يائسة :- لقد كنت له الزوجة وربة البيت التي يريدها. لم أقصر يوماً في واجباتي اتجاهه واتجاه أولادي.

:- الرجل الشرقي لا يريد أكثر من ربة بيت مخلصة مثلك في منزله يا ديمة؟ أنا لم أسألك إن كنتِ له الزوجة التي يريدها. بل أسألك إن سعيتِ يوماً كي تكوني الزوجة التي يحتاجها يا ابنتي

قلت بدون تفكير وأنا أقلب كلماته داخل عقلي :- لا تناديني بابنتي، فأنا لا أفكر بكَ أبداً كوالدي.

ابتسم بتلك الطريقة الغامضة التي تذكرني دائما بما يخفيه هذا الرجل خلف وقارهوقال بهدوء :- أنا أيضاً لا أفكر بكِ كابنة لي، يا صغيرتي!

ابتسمت بتقدير لصداقتنا المميزة دون أن يفارقني الاضطراب، فحديث الأستاذ نبيه عن احتياجات إياد سرقت تفكيري بالكامل، قال لي بالحرف الواحد :- حربكِ في سبيل الحفاظ على زواجك. قد لا يتعارض مع حربك لإيجاد مكانك في الحياةعلى العكس، ثورتك على واقعك ستظهر أخيراً الإنسانة الرائعة والطموح المختبئة خلف قناع الزوجة الخانعة، ستستثمر مواهبك المقيدة بالدور الذي فرضه عليه واقعك كامرأة شرقية وفي الوقت نفسه سيأتي هذا لصالح بيتك وأسرتك وتحقيق التوازن الذي تنشدينه في علاقتك مع زوجك.

.. كيف لرجل عازب لم يتزوج قط أن يعرف كل هذا عن الحياة الزوجية؟ أم أنه لم يعرف شيئا وكانت كلماته مجرد شعارات فارغة يتغنى بها رجل لم يعرف قط تعقيدات الزواج؟

وكيف لي أن آخذ كلماته على محمل الجد وقد تبخر كل اتزاني عندما اتصلت بإياد بعد غروب شمس هذا اليوم لأخبره عن زيارة ضابطي الشرطة المفاجئة، فسمعت صوتاً أنثويا إلى جانبه وهو يستفسر بقلق عما أرادته الشرطة.

تلاشى اهتمامه بالموضوع فور أن عرف بسبب الزيارةوسرعان ما أنهى المكالمة بشيء من الفظاظة بعد أن أخبرته عن استفسار الضابط الوسيم الحاد النظرات عن غياب ريتشيل المفاجئ عن بيتها، لم أستطع التركيز وقتها فيما يقول الضابط وأنا أتفحص قوام رفيقته الرشيق، أنا لا أفهم.. ألا يأكل هذا الصنف من النساء؟ من حسن الحظ أن إياد لم يكن موجوداً،فلم ألاحظ استراقه النظر إلى الأخريات قبل الآن،ولكن هل سبق لي أن لاحظت أي شيء يتعلق به في يوم من الأيام؟

أحسستُ بالضياع الكامل وكأن أحداً قد ألقى بي على متن مركب بلا بوصلة في قلب بحر هائج. كل القواعد التي كنتُ أقف عليها اهتزت وتلاشت في غمضة عين.

لأول مرة منذ غادرت حلب عروساً مشرقة ما كانت لتمانع لو لم تعد إليها مطلقاأشعر بالغربة والحنين إلى صدر أمي وإلى أمان وصلابة وجود أبي.

:- ماما.. أنتِ تحرقين القميص.

رفعت المكواة مذعورة وحدقت أنا وبسمة الذاهلة بقميص إياد المفضل وقد ارتسم على صدره مثلث أسود اللون يتصاعد منه البخار.

حاولت تجاهل شعوري بالشماتة والرضاوفكرت بردة فعل إياد وتوبيخه غير المرغوب به في هذا الوقت بالذات. تلاقت نظراتنا أنا وبسمة في تفاهم صامت ترجمته أنا بهدوء شديد :- لقد أرسلت هذا القميص إلى المصبغةولم يعد قط.

ولم تخيب أملي حين رفعت يدها في تحية عسكرية فكاهية وهي تصيح بحزم محبب :- أمركِ سيدتي.




**************




لين طاهر


(خدني يا حبيبي على بيت ماله أبواب.. خدني يا حبيبي على قمر الغياب..

إنساني بالغفا بأيام الصفا تترجع الليالي و يرجعوا الأحباب....يا حبيبي

في أميرة صغيرة انخطبت بكير..رميوا عليها الغيرة و ما بتعرف تطير..

و سكنّوها قصور.خلف سبع بحور.و صغيرة الأميرة و كبيرة الأبواب)

على أنغام فيروز الدافئة كنت أقرأ رواية " مرت من هنا " بينما أشرب قهوتي الصباحية بعد أن غادر راشد مبكراً ليجري العملية تعويضاً عن نهار الأمس، سرحت بأفكاري مع صلاح و ليندا و الظروف الغريبة التي جمعتهما و المشاعر الجياشة التي لفتهما معا بغموضٍ مثير أبدعت الكاتبة بلو مي في وصفه بطريقة ساحرة. أيقظني رنين الهاتف المتواصل من متابعة منتدى روايتي الذي أحبه فتركت جهاز اللاب توب وأسرعت لألتقط سماعة الهاتف بأنفاس متسارعة .

استغربت كثيراً من هوية المتصل أو بمعنى أدق " المتصلة" التي تسأل عن " الدكتور راشد"، وحين أجبتها أنه في المستشفى ضَحِكَت بنعومة شديدة و هي تخبرني بعفوية مصطنعة أنها تنتظره منذ الصباح لكنه تأخر في الوصول.

كنت أحدق في سماعة الهاتف كالبلهاء بعد أن أنهيت المكالمة ببرود و أنا أخبرها أنه خرج منذ ساعة تقريباً للمستشفى. سرحت أفكاري في مكالمتها الغريبة وكلماتها المتكبرة حين سألتها عن اسمها حيث أجابت بتشدق واضح أنها " الدكتورة رشا" و أن راشد هو الطبيب المسئول عنها في المستشفى، ترى ماذا كانت تقصد؟ قررت فورا أنني يجب أن أتصل براشد.

أكثر من خمس مكالمات اتصلت براشد دون أن ألقى إجابة منه فأرسلت له رسالة ليتصل بي فور انتهائه من عمله، مر الوقت دون أن يرن هاتفي و قد أنهيت كل أعمالي في البيت لألهي نفسي عن التفكير بأي شيء سوى ترتيبي لمنزلي، حتى أنني جهزت قالباً من حلوى كعكة النسكافيه التي يحبها راشد.

قررت أن أتصل على علياء لأطلب منها أن ترسل آية اللطيفة إليّ لنتسلى معا و نشاهد فلم ديزني تانجلد الذي تحبه، رن الهاتف كثيراً لكن و على ما يبدو لم يكونوا في البيت . تنهدت بحسرة و أنا أتذكر أن اليوم عطلة و الأكيد أن أي أسرة ستخرج في يوم عطلتها لكن راشد كطبيب دائما عنده مواعيد و ليس له جدول محدد لعمله و لأيام إجازته، أعتقد أحياناً أنه يأخذ عن الأطباء الآخرين أعمالهم من كثرة عشقه لمهنته و أبحاثه العديدة فيها . أفكاري حول آية جعلتني أبتسم بسعادة و أنا أتذكر حديثها العابث و حركاتها اللذيذة ونظراتها البريئة الواعية لما يدور حولها، يا الله كم أحبها ثم أوصلني تفكيري لبسمة حبيبتي الحالمة الصغيرة، ضحكت من قلبي و أنا أتخيل منظر ديمة حين أخبرها أن ابنتها تحب حكايات الأميرة والأمير و أنها ربما تكون حالمة في المستقبل عكس والدتها المفكرة الواقعية، عماد ابن ديمة و أيمن ابن مونيا مع آية و بسمة يشكلون عصابة صغيرة تمتلئ نشاطاً وحيوية، ربما كانت أمهاتهم يعتقدن أنهن هنا في لندن لم يفعلن الكثير أو لم يحققن ما يطمحن إليه لكنني أرى أنهن الأروع على الإطلاق في تربيتهن لأطفالهن،ما زلت أذكر ملاحظات آية عندما أقدم لها الشيكولاتة :

- " ماما علياء بتقول مش من الاتيكيت نأخذ أكتر من حبة وحدة بس " .

أما بسمة فلم أنسَ كيف حدجت أخوها بنظراتها المستعرة التي حتما قد ورثتها عن ديمة لأنه و دون قصد منه أوقع الآنية الموضوعة على الطاولة الصغيرة في آخر مرة قضوا فيها بعض الوقت عندي، كانت الحمرة تكسو وجهه خجلاً لكنني احتضنته لأطمئنه أنها لم تنكسر و أنني لست غاضبة أبداً منه، بينما تلقى كلمات من بسمة من ضمنها :

- " كم مرة ماما قالت لك لا بقى تتحرك متل الدولاب " .

ابني خولة هما الأكثر إثارة، يشبهان بعضهما بشكل جاذب و ُلبسهما خولة دائما ملابس جميلة متشابهة و أقبل تحديها في معرفتي أيهما أشرف و أيهما أسعد.

ابتسامة دافئة ارتسمت على شفتي حين تذكرت أيمن ابن مونيا، فهو الأكثر دفئاً وحناناً، بيننا ترابط خفي، ما إن أراه في زيارتي لمونيا حتى أنزل لمستواه على ركبتي لأحتضنه بحب خالص يملأ قلبي لأنني أشعر بمحبته النقية لي و هذا الحب الطفولي البريء يغنيني عن العالم بأسره . هؤلاء الأطفال هم الوطن الحي النابض بروح البناء والتجديد، هم أجيال الوطن الحر. فخورة جداً بصديقاتي العربيات اللواتي تعرفت عليهن هنا في غربتي، فعلى الرغم من اختلاف جنسياتهن و خلفياتهن الاجتماعية والثقافية إلا أنهن جميعاً قمن بدور بطولي في تربية أبنائهن تربيةً رائعة راقية أشعرتني بالفخر لأنني أنتمي لهؤلاء النساء العربيات الأصيلات. ربما يعتقدن أن أطفالهن لا يسمعون توجيهاً ولا يلتفتون إلى إرشاد لكن الحقيقة أنهم يعيدون على مسامعي عبارات تربوية فيما يجب و ما لا يجب حين ألقى أي منهم أو يزورني أحدهم بموافقة كريمة من والدته . جهود أمهاتهم ترسخت في أعماقهم و سيكونون جيلاً واعياً متفاهماً رغم اختلافاتهم .

نظرت لساعتي بعد أنهيت ترتيب آخر رف في الخزانة بينما كنت أفكر فوجدتها العاشرة ولم يتصل راشد بعد، بدأت أشعر بالقلق والتوتر و ذكرى المكالمة الصباحية تلاحقني كرؤوس شريرة تهددني، ثم خطرت لي فكرة قفزت ابتهاجاً على أثرها، نعم سأذهب إلى المستشفى الذي يعمل فيه راشد لأفاجئه، أملت رأسي قليلا و أنا أستدرك أنني لم أرَه و هو في مقر عمله مرتدياً معطفه الأبيض الخاص بالأطباء و يضع السماعة الطبية حول عنقه، " تقبرني الرقبة و صاحبها". يجب أن أراه و هو في المستشفى فلطالما أعجبني وصف الدكتور سامر في رواية الكاتبة سحابة نقية " نسائم حب"، أبدعت سحابة في رسم شخصيته الساحرة، كان محبا ومتفهماً بشكل غامر، ضحكت من أعماق قلبي و أنا أتخيل ملامح ديمة لو أخبرتها بما أفكر به، ربما سأخبر زينب عن تلك الروايات لتقرأها، ثم ابتسمت و حركت حواجبي و أنا أتذكر ذلك الشاب التركي خليل و بدأت برسم رواية جديدة في خيالي تكون زينب بطلتها، و ربما نصنع لها أنا و جاراتي حفلاً عربياً نزفها لخليل بأهازيج من فلسطين والأردن و مصر والعراق و السعودية و سوريا و المغرب، ليعرف أنها وسط عائلة كبيرة و محبة من الأخوات يجتمعن على قلب عربي واحد من الخليج إلى المحيط .

بحماس شديد بدأت في تحضير نفسي و من الانترنت عرفت تماماً كيف سأصل إلى المستشفى باستخدام المواصلات العامة والتي هي أكثر أماناً من الخاصة، إذن سأركب الباص الأحمر المتميز بطابقيه و أتجول في شوارع لندن وحدي حتى أصل إلى مستشفى راشد، نعم إنها فكرة رائعة، اخترت ملابسي بعناية و تأكدت من أخذي لهاتفي و أغلقت الباب جيداً و أنا أهبط الدرجات بمرح كبير و أمني نفسي بقضاء يوم جميل مع راشد، ربما سنذهب للغداء في ذلك المطعم الذي أعجبني أو ربما سأطلب منه أن يأخذني للمتحف التاريخي ثم نتمشى بالقرب من نهر التايمز، سعادة غامرة شعرت بها و أنا أسرع خطواتي لأصل لموقف الباص و أنتظر رحلته القادمة والتي ستكون بعد 10 دقائق.

اخترت مكان جلوسي في الطابق العلوي من الباص و بجانب الشرفة و صرت أتأمل الشوارع و المحلات و أتابع تحركات الأشخاص هنا و هناك و أقرأ أسماء الشوارع وأدون في رأسي كل مكان أراه و كل طريق نسلكه وبعد نصف ساعة وصلت أخيرا للمستشفى و رفعت رأسي لأتأمل المبنى الضخم بإعجاب كبير فقط لأن راشد يعمل هنا..

استفسرت من موظفي الاستقبال عن المبنى المختص بجراحة القلب و تتبعت الإرشادات لأصل لعيادات الأطباء هناك، كنت أشعر بالإثارة والفخر لأنني قمت بهذه الرحلة وحدي و أتحرق شوقاً لأرى تعابير وجه راشد و هو يراني أمامه في مغامرة غير مسبوقة، لكنها ناجحة بالتأكيد .

كنت في المصعد أنتظر وقوفه في الطابق الرابع و ما أن خرجت منه حتى شعرت بأنني قد حققت نجاحاً رائعاً و أنا أقرأ "عيادات القلب و الشرايين" . أطلقت تنهيدة و سرت في اتجاه العيادات، لكن شيئا ً هناك قد استوقفني، في الاستقبال الخاص بعيادات القلب رأيت راشد يقف مع فتاة يبدو أنها طبيبة لأنها ترتدي الرداء الأبيض ويحمل في يده ملفاً و قد اندمج بشرح و تفصيل لتلك الفتاة عما هو موجود في الملف،لكن ما لفت نظري و استوقف خطواتي هو نظرات الفتاة نحوه، كانت تتأمل تقاطيع وجهه و لم تنظر أبداً لما بين يديه من ملف يشرح و يكتب عليه، كانت تقريباً تلتهم كل تفاصيله و هي قريبة منه إلى درجة خطيرة، هل تحاول أن تتنفس عطره الآسر أم تراها تحاول أن تجعله هو يستنشق عطرها و شعرها؟ كانت ترتدي سروالاً أسوداً وقميصاً حريرياً بلون الذهب و ترفع شعرها الأسود بطريقة ساحرة، كانت تبدو جميلة، بل فاتنة، دون شعور مني أحنيت رأسي لأنظر لملابسي، طقم راقي باللون الزيتوني يتكون من تنورة طويلة و جاكيت يزين صدره تطريز ناعم جدا و قد اخترت له حجاباً مناسباً بألوان هادئة و كما عادتي دوماً أنتقي الحذاء والحقيبة معاً ليكملا أناقة مظهري، فراشد رجل أنيق و أحب أن أكون مكملة له في كل شيء.

اقتربت منهما و أنا أرسم على وجهي ابتسامة رائعة رغم رغبتي الشديدة في صفعها فقط لأنها تتأمله على هذا النحو، كان راشد أول من رفع عينيه نحوي حين تقدمت قائلة :

- السلام عليكم، مرحبا راشد .

كم أحببت نظراته المتفاجئة، لكن التماع عينيه و ابتسامته الواسعة جعلتني أتوق لأن أتعلق برقبته ليضمني نحو صدره أمام عينيّ تلك الصفراء القلب، لم ألتفت إليها و أنا أتأمل بسعادة إشراقة وجهه لمشاهدتي واقفة أمامه فرد قائلاً:

- و عليكم السلام و رحمة الله، أهلا ليـــــــــن، كيف أتيت إلى هنا؟

لكنني قبل أن أرد عليه استجاب لنداء طبيب آخر كان يبدو على عجلة من أمره، استأذنني راشد بسرعة ليرد على الطبيب الأكبر سناً، فالتفتُ نحو الطبيبة بابتسامة باردة فابتدأتني قائلة بلهجة وجدتها ساخرة:

- إذن فأنتِ لين؟!

رفعت رأسي بفخر شديد و أنا أعيد على مسامعها ما أشعرني أنه السبب في غضبها:

- نعم أنا لين زوجة الدكتور راشد الحسيني.

كما توقعت تماماً، تغضنت ملامح وجهها، لكنها استدركت قائلةً:

- سعيدة بالتعرف إليك .

ضَحِكَتُ بخفوت مستفز قبل أن تضيف:

- أرجو أن لا تكوني قد ضللتِ الطريق، فمنذ الثامنة و حتى الآن هناك أكثر من أربع ساعات، أم أنك ربما نسيت هاتفك فعدت أدراجك لالتقاطه من البيت.

أتبعَت كلامها بنظرات باردة مستخفة بوجودي ولم أصدق ما أسمع و شعرت وكأن قبضة حديدية لكمتني في معدتي لشدة صدمتي مما تقوله و صارت الأسئلة تحفر عقلي حفراً و أنا أكاد أختنق من فكرة أن راشد أخبرها عن هاتفي، تلك اللئيمة انتهزت فترة صمتي و أنا مذهولة من كلامها لتتبع قائلةً بتشفي من ملامح وجهي و بتوبيخ مبطن :

- لقد اضطر للاعتذار عن عملياته بالأمس و عاد لبيته و قد بلغ توتره أقصاه.

لم أستطع أن أصمت أكثر و صار عقلي يعمل على السرعة القصوى لألجم لسانها الجريء والسليط و أنا لا أعرف لم تتحدث معي بهذه الطريقة، لكنني استحضرت كل ما قرأته من روايات حتى تمخض عقلي عن ابتسامة واسعة رسمتها بدلال على وجهي و أنا أنظر نحو راشد لأقول لها و أنا أتصنع الخجل :

- إذن فقد كان هذا عذره ليأتي مسرعاً للبيت .

ضحكتُ بعدها بخفوت و أنا أضع أناملي برقة أمام شفتاي قائلة :

- يا ربي لقد أحرجني معك بحركاته تلك .

ثم وضعت يدي على كتفي لأدلكه قليلاً قبل أن أسألها:

- دكتورة من فضلك هل تعرفين علاجاً لآلام الكتف .

ثم وجهت نظراتي نحو راشد و أنا أكمل بخفوت تعمدت أن تسمعه دون أن أوجه حديثي نحوها:

- ربما أنا لم أعتد بعد ثقل رأسه على كتفي.

أدرت وجهي نحوها و ابتسمت بطريقة مسرحية أرسلت الدماء حارة في وجهها لأراها تشد فكيها بسخط.

في تلك اللحظة أقبل راشد قائلاً:

- عذراً لين لقد كنت مضطراً لشرح حالة المريض للطبيب المختص بالتخدير .

ابتسمت ُفي وجهه و أنا أحاول كبت غضبي ليتقدم نحوي وهو يشير نحو تلك الطبيبة قائلاً:

- لين هذه الدكتورة رشا طبيبة مقيمة هنا في المستشفى"

ثم نظر نحو رشا ليقول لها :

- وطبعا دكتورة رشا هذه زوجتي لين.

نظرت نحوها و قد عقدت الدهشة لساني، و فكرت لقد كان شكي في محله فأنت هي من اتصل صباحاً يسأل عن راشد، ماذا تريدين من راشدي أيتها الماكرة؟!

لم أعرف كيف مضى الوقت حتى وصلنا إلى سيارة راشد. كانت الدماء تغلي في عروقي و أنا أعد الدقائق لكي أختلي به وأُنَفّس في وجهه غضبي، لكنني اضطررت للانتظار ريثما ينهي ما بيده ليسلم ملف المريض للطبيبة رشا التي لم تترك فرصة سانحة ولا واردة إلا و انتهزتها للاقتراب منه أو الابتسام له، راقبتهما بنفاد صبر و أنا أشعر أنّ جميع مخططاتي لقضاء يوم جميل مع راشد قد ذهبت أدراج الرياح .

...............

جلست في السيارة و نظرت بشكل موارب نحو راشد الذي أدار المحرك و وجهه قناع لا ينفذ، لكنني بمعرفتي به عرفت تماماً أنه غاضبٌ و بجنون، غضبه أثار جنوني و جعلني أقول بصوت عالٍ حذرني مراراً من استعماله أثناء الحديث معه:

- هل قدمت اعتذارك لحضرة الطبيبة التي كانت تنتظرك منذ الصباح؟

توقفت السيارة بشكل مفاجئ و صدح صرير المكابح بطريقة جعلت قلبي يهبط في صدري و التفت إليّ صارخاً بغضب ألجمني :

- إيّاكِ أن تتفوهي بكلمة واحدة يا لين، لأنك لا تنطقين إلا بالحماقات، لقد مللت ألاعيبك الطفولية و مفاجآتكِ غير المرحب بها....

قبض على ذراعي بعنف شديد و أدارني نحوه و هو يقربني إليه و يقول بغضب هادر من خلف أسنانه المطبقة :

- و إيــــاكِ! هذه المرة الأخيرة التي أحذرك بها يا لين! إيــاكِ أن ترفعي صوتك أثناء حديثك معي.

شعرت بصدمة حقيقية، فصراخه حطم البقية الباقية من تماسكي، شعرت بانهزام شديد في معنوياتي و لم أتدارك الدموع التي تجمعت في عيني رغماً عني و همست دون تفكير:

- متوحش!

كان راشد على وشك أن يحرك السيارة من جديد لكنه أوقف تحركاته و كأن رصاصة أصابته، التفت نحوي و عيناه القاسيتان تتسعان بتساؤل أرجف أوصالي، و همس بهدوء شديد:

- ماذا قلتِ؟!

تساؤله الذي يغلّفه الوعيد والتهديد أطلق الدموع مدراراً على وجنتيّ، لكنه لم يرحم دموعي و هو يقول بوحشية تتناقض مع الهدوء الذي تكلم به :

- أعيدي ما قلته يا لين مرة أخرى و سأريكِ الأعاجيب، عندها فقط ستعلمين أي متوحش حقيقي أنا .!

انطلق لساني بسؤال لم أستطع أن ألجمه رغم دموعي :

- لماذا أنت غاضب؟

و شهقت ُ و أنا أنتحب أكثر و أتابع قائلة :

- ما الذي فعلته يا راشد لتغضب مني لهذه الدرجة؟

التفت راشد نحوي و هو يهدر بالسؤال:

- قولي بربك كيف وصلت إلى هنا سالمة؟!

اتسعت عيناي الغارقتان بالدموع بتساؤل بريء و أنا أجيب ببساطة :

- بالباص الأحمر .

أرسل نحوي نظرة مستعرة و هو يقلد طريقتي بالكلام بصوت ساخر :

- بالباص الأحمر!!

استعاد صوته خشونته و غضبه ليكمل :

- بالله عليكِ ألا تنصتين لنفسك و أنت تتكلمين، كلماتك أشبه بكلمات طفلة لم تتجاوز الثامنة من عمرها .

نقر بأنامله بغضب على رأسي و هو يكمل :

- دق دق، مرحباً، يفترض أن تكون دماغ امرأة متزوجة وليس طفلة في الروضة .

و ختم كلماته بمصطلحه الأردني الأصيل :

- " البين يطسهم لليهود إذا إنّك بتفكري بشلن، ولِك لويش طالعة سروة من الصبح من غير لا احم ولا دستور "

كنت أستمع إليه دون أن يرف لي جفن و عقلي يدور في دوامات في محاولة لاستيعاب كلماته الخشنة مثله، وبارتباك سألته:

- ماذا تعني بـ " سَروِة"؟

عض راشد على شفته السفلى و هو يقبض كفيه الاثنين بانفعال شديد جعلني أتباعد في جلستي عنه قدر الإمكان خوفاً من هجوم مباغت علي ّ و همس بحنق :

- آاااااخ..أهذا ما أثار انتباهك في حديثي؟

أخذ نفساً طويلاً قبل أن يكمل بصوته العالي:

- هذه المرة الثانية يا لين و خلال يومين أضطر لترك عملي كي أنقذك من براثن أفعالك، ربما يجب أن أنسى عملي كطبيب كي أجلس معك في المنزل وأغرقك في الدلال، فهذا ما تتوقعينه من الروايات التي تقرئينها.

ثم أردف بسخرية شديدة :

- أهذا ما يفعله خضر لغادته الرقيقة؟ أم لعله الدكتور سامر الذي أنقذ لميا من تعاستها؟

ضرب المقود بقوة شديدة و هو يشتم بخفوت ليقول و كأنه لا يصدق نفسه :

- أتدركين هذه التفاصيل التي أتكلم بها عن شخوص لم أقرأ عنهم و لم أعرفهم في حياتي، يا للسخرية، لكنك بحديثك المستمر كالببغاء عنهم صنعت حفرة في رأسي اسمها " روايتي ".

شعرتُ أن فمي كان فاغراً من الدهشة لهجومه المباغت، ولم أجد ما أقوله، خاصة و هو يحرك السيارة بسرعة جنونية يقودها نحو المنزل .

لم أتفوه بعد انفجاره بأية كلمة و أشحت بوجهي نحو النافذة لأنظر بعيدا عنه نحو أي شيء فقط لأبتعد بأفكاري عن غضبه الذي يطلقه نحوي بلا هوادة، كنت أرتجف من الانفعال والخوف والألم، يا الله كم أجد صعوبة كبيرة في فهمه، لم لا يدرك أنني لا أتقصد إغضابه، لماذا يعاملني بهذه الوحشية، هل هذا هو راشد نفسه الذي قضيت الليلة الماضية في أحضانه، لماذا لا يسألني و لا يحاورني، فقط يهاجم و يكيل الاتهامات ولا يعبأ بمشاعري .

كنا قد وصلنا شقتنا و أنا لازلت أسمع تأففه و تبرمه في كل حركة تصدر منه، كنت صامتة تماماً لأنني شعرت بأنه ينتظر مني كلمة لينفجر مرةً أخرى و أنا لن أقوى على هذا، أنا حتى لا أجرؤ على سؤاله أو الاستفسار منه عن كل هذا الغضب، ألستُ أنا من اتصلت بها تلك الرشا صباحا لتعكر مزاجها؟ ألستُ أنا من رآهما معا و هي غارقة حتى أذنيها في تأملاتها له؟ ألستُ أنا من اضطر لتحمل كلماتها الساخرة لي فقط كي لا أثير المشاكل له؟ من الذي يحق له أن يغضب هنا؟، يا الله أشعر بالاختناق و ضاق صدري من كل هذا التوتر، لم أشعر إلا بيد راشد تديرني نحوه بعنف قوي ليقول :

- كم مرة أخبرتك ألا تتجاهلي ندائي لكِ يا لين؟

ثم قبض على كتفيّ و هزني وعينيه المتحجرتان تأسران عينيّ ليتابع:

- لا تختبري صبري يا لين و لا تتعمدي تجاهلي لأنني قادر على تحطيم رأسك العنيد هذا.

كنت أسمع كلماته و أنا لا أدرك كل ما يحدث معي، لم يستطع عقلي استيعاب كل هذه التعقيدات، كنت أحرك رأسي بنفي ما يقول و قد صارت الصورة أمامي ضبابية من دموعي التي انسابت و أنا أقول :

- أنا لم أسمعك تناديني و لا أتقصد تجاهلك، لم دائما توجه لي كل هذا النقد لتصرفاتي؟ لماذا لا تحاول أن تسمعني؟ أنا لا أفهمك راشد، لا أفهمك..

قاطعني ليضحك بسخرية مريرة:

- لماذا لا أستغرب يا لين أنك لا تفهمين؟

كنت أنا من قاطعه هذه المرة لأقول بحزن حقيقي أدمى قلبي :

- كفاك تجريحاً لي يا راشد، أنا لم أفعل ما يستحق منك كل هذا الغضب..

لم أستطع أن أكمل و قد أغلقت عيناي ألما قبل أن أشهق لتدخل الأنفاس من جديد لصدري المختنق انفعالاً، ثم سمعته يقول و هو يشدني نحوه أكثر و الغضب ما يزال يسيطر على تصرفاته :

- افتحِي عينيكِ و واجهيني يا لين، أخبريني كم مرة أخبرتك أنك يجب أن تتصلي بي قبل أن تخرجي من المنزل؟

أي كلمة من بين تلك الكلمات لم تفهميها؟ ألا يدرك عقلك الصغير هذا أنك يجب أن تحيطيني علما بتحركاتك الهائمة أيتها الساهمة.

نظرت مباشرة في عينيه لأخبره بصوت مبحوح من البكاء :

- انظر إلى هاتفك لتعرف كم مرة اتصلت بك، ثم أرسلت لك رسالة و بعدها..

قاطعني و هو يشد أكثر على كتفِي :

- هذا أدعى أيتها الذكية أن لا تخرجي و تنتظري حتى أعاود الاتصال بك، لكنك كالعادة يا لين لا تفكرين.

اقتربت من وجهه و أنا أنفي ما يطلقه من اتهامات لي:

- هذا ليس صحيحاً، لقد أردت أن تكون مفاجئة لك، كنت أعرف أنك لن تكون مشغولا بعد الظهر ففكرت أن نخرج معاً و..

توقفت لحظة لالتقط أنفاسي لأمنع دموعي و أكملت:

- كنت أخطط لقضاء يوم جميل معك في المدينة، أنا لم أعرف أنك ستكون مشغولاً أو أنك لن ترحب بقدومي إليك، أنا ببساطة أردت أن نخرج معاً .

تملصت من بين يديه و أنا أبرر أنني أريد الذهاب إلى الحمام، فلست أتحمل اتهامات أخرى منه، يكفيني ما نلته حتى الآن.

سمعته يقول و أنا أتوجه لغرفتي :

- غيري ملابسك و وافيني في غرفة المكتب، هناك حديث طويل بيننا فأنا لن أسمح لك بتعكير حياتي أكثر من ذلك.

التفتُ إليه على الفور و قد اتسعت عينايّدهشة مما يقوله و أجبته غير مصدقة :

- أنا يا راشد؟ أنا أعكر عليك حياتك؟

سمعته يطلق شتيمة لم أسمعها من قبل و دخل نحو مكتبه و هو يقول :

- ارحميني من كل هذه التراجيديا يا ملكة الدراما و أسرعي لأنني سأخرج! لكن ليس قبل أن أضع النقاط على الحروف معك .

بأنامل مرتجفة كنت أبدل ملابسي و أنا أفكر فيما سيحدث بعد قليل، كل ما كان يشغلني أنني لا أريد أن أتأذى أكثر من راشد، أعرفأنني لن أحتمل، ربما ما كان يجب أن أتعلق به هكذا حتى لا أتألم كل هذا الألم حين يجرحني بكلماته المستهدفة، فهو عندما يغضب لا يقيم وزناً لكلامه و أنا فعلاً لا أحتمل.

دخلت ُ الغرفة بعزائم متراخية ليفاجئني صوته الهادر الذي لم يخف غضبه ليطلق شتيمة مرعبة قبل أن يقول:

- ما الذي كنت تفعلينه كل هذا الوقت، اجلسي و أنصتي و لا تتكلمي.

عاودتني رغبة البكاء من جديد لكنني منعتها بإرادة من حديد، ليكمل هو بلا رحمة :

- لهذا المنزل قوانين عليك الالتزام بها، ربما كان يجب أن أخطرك بهذه القوانين في بداية عامنا الأول معا، تماماً كما اعتدت في بداية كل عام دراسي، فتصرفاتك أشبه بتصرفات تلاميذ المدارس.

اتسعت عيناي بدهشة و أنا أوشك أن أعترض على كلماته، لكنه رفع يده و كأنه يقول لي " اسكتي " ليكمل:

- ولا حتى كلمة واحدة، فوقتي لا يتسع لاعتراضاتك الطفولية،

أولاً دخولك و خروجك من هذا المنزل يجب أن يكون بإذن، ويفضل أن يكون قبل يوم أيضاً،

ثانياً اخترعي لهاتفك النقال حقيبة ألصقيها بك، فلا أريده أن يفارقك و لا حتى لثانية واحدة،

ثالثاً مفاجآتكِ الحالمة اتركيها لكتّاب الروايات،

رابعاً والأهم عليك احترام مهنتي كطبيب و توقفي عن التعامل معي و كأنني رجل متفرغ للحب فقط.

كنت مازلت تحت وقع الصدمة من بيانه العسكري المتحجر كقلبه، ليفاجئني بوقوفه أمامي و ينتشلني من على مقعدي بعنف مخيف دافعاً ذقني نحو الأعلى و مقرّباً إياي من وجهه الذي كان أسوداً لشدة غضبه وهو يقول :

_ إن لم أرد على اتصالاتكِ يا زوجتي العزيزة فهذا يعني أنني مشغول، و مخاطرتك في الخروج ليست فيوقتها في مثل هذه الحالة، فإن لم أتمكن من الرد عليك و أنت في المنزل فماذا لو أصابك مكروه و أنت في الخارج يا ذكية، ماذا كنت ستفعلين؟! لكنك بالطبع لا تفكرين ولا تفهمين .

و دون أي كلمة أخرى تركني و خرج من الغرفة لأسمع بعدها انصفاق الباب بقوة هائلة، فأدركت بأنه غادر المنزل .

كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها راشد و هو ينفلت بكل هذا الغضب و كل هذا التجريح، ضممت ذراعاي لأحتضن نفسي و أبث فيها الدفء بعد أن أحالها راشد بكلماته القاسية لجليد فجعلني أرتجف ألماً، و تساءلت في حسرة، هل هكذا يراني راشد؟ لكن الأخطر والمؤلم أكثر أنني شعرت أنه زعزع ثقتي في نفسي وفي تصرفاتي و تفكيري أيضاً، إلا أنّ كل صديقاتي يخرجن لوحدهن و لا يرى أزواجهن بأساً في ذلك، مينة و مونيا تعملان و علياء تتنزه مع ابنتها أحيانا وكذلك ديمة و حتى زينب أعرف أنها تهرول في الصباح الباكر كل يوم مما يدل على أن المنطقة آمنة، فلماذا تكون مصيبة إن خرجت أنا و ذهبت لمكان عام وباستعمال وسيلة نقل عام؟ الخوف كل الخوف من الخاص لأنني وقتها سأكون وحدي، هكذا فكرت و أنا أحلل كل ما قاله لي .

أرهقني التفكير و لم أتمالك نفسي من التعب فاحتميت في سريري تحت الغطاء الوثير عن كل شيء وضممت نفسي وأغلقت عيناي و أنا أشعر بوحدة أثقلت قلبي و عقلي لأنام بعدها دون أن أشعر.

استيقظت من نومي على أصوات رجولية بعيدة تتحدث، نظرت إلى الساعة فوق المنضدة فوجدتها تشير إلى الخامسة والربع، أطرقت سمعي قليلاً قبل أن أميز صوت راشد من بين الصوتيين .

استغربت جداً من ذلك و خرجت من سريري على رؤوس أصابعي لأسترق النظر من فتحة باب الغرفة علني أتعرف على هوية من يتحدث معه بهذه الرسمية والجفاء مطالباً إياه بهويته الشخصية، لكنني لم أرَ شيئا.. مهلاً.. مهلاً؛ هل هذا صوت نسائي؟! ماذا تريد؟!

ارتديت عباءة منزلية واسعة و لففت حجابي بإتقان حول رأسي قبل أن أخرج بهدوء نحو مكان وقوف راشد أمام الباب كالحصن المنيع لمنزله لأسمعه يقول للرجل:

- أخبرتك أن زوجتي نائمة و أنا لم أرَ الآنسة زينب ريتشيل اليوم .

وقفت خلف راشد و قد أقلقني السؤال عن صديقتي، فقلت له هامسة :

- ماذا هناك راشد؟

التفت من فوره نحوي ورأيت عينيه تتفرس في ملامحي قبل أن يجيبني و هو يشير برأسه نحو الرجل والمرأة الواقفان بالباب والذي يحجب بطوله و بنيته رؤيتي لهما :

- هذان المحققان يسألان عن جارتنا زينب .

أملت رأسي قليلاً من خلف كتف راشد لأراهما، وما أن نظرتُ إلى الرجل الغامض حتى حدجني بنظرة خاطفة وقصيرة أخافتني لعمقها وجرأتها و حدّتها، أما المرأة التي بجانبه والتي أثار صوتها فضولي فأقل ما يقال عنها أنها فاتنة لكن نظراتها المتفحصة لكل شيء أشعرتني بمكرها و دهائها، فأجبت راشد بسرعة كبيرة قبل أن أختبئ خلفه لأعود إلى غرفتي:

- أنا لم أرى زينب اليوم، رأيتها بالأمس فقط أثناء زيارتي لها .

دخلت غرفتي لأنزع حجابي و عباءتي و بعد أن تأكدت من إغلاق راشد لباب البيت و مغادرتهما خرجت إلى المطبخ لأشغل نفسي بتحضير العشاء، رأيت راشد بطرف عيني و أنا أدخل مطبخي جالساً على أريكته المفضلة يحتضن جهازه المحمول " اللاب توب " و حدثتني نفسي ألا أحضر العشاء احتجاجاً على كلماته التي انهال بها عليّ ظهر اليوم لكنني لن أعطيه فرصة ليظل يتصيد لي أخطائي و يتهمني أنني طفلة، أنا امرأة قادرة على تحمل مسؤولية بيتي، أخذتني أفكاري نحو صديقتي زينب و شعرت بالقلق عليها و قررت أنني يجب أن أتصل بها أو أزورها غدا صباحا حين يخرج راشد إلى عمله، و بتنهيدة مريرة أكملت لنفسي " بالطبع بعد أخذ الإذن من حضرة سموّه "بعد ساعتين خرجت من المطبخ وأنا أجفف يداي بمنشفة صغيرة كيلا أفركهما من التوتر أمامه و قلت له بصوت منخفض نوعاً ما:

- العشاء جاهز .

دون أن يرفع رأسه عن جهازه المحمول و دون أن يوجه لي أي نظرة قال:

- ضعي لي طبقي هنا فأنا مشغول و لن أنتهي قبل ساعات.

كانت كلماته تلك ببرودها و قسوتها كصفعة قاسية تلقيتها لتختم نهاري التعيس مع راشد، لكنني و يا للعجب رتبتُ على صينية تقديم طبقاً من اللازانيا التي يحبها و آخر من السلطة و لم أنسَ عصيره المفضل "البرتقال الطبيعي " .

خرجت نحوه أحمل الصينية لأضعها أمامه على طاولة الجلوس، كنت أنحني ببطء شديد لأعطيه الوقت الكافي ليرفع رأسه أو يخرج عن صمته أو حتى أن يدعوني لأجلس معه، مهلاً لين لقد قال " طبقي "، أي أنه يريد أن يأكل وحده، رفعت رأسي و أنا أعتدل لأقف ثواني قليلة قبل أن أنسحب نحو غرفتي من جديد، فلم تعد لي شهية للطعام و لا أريد أن أبقى معه في غرفة الجلوس و هو يصر على جفائه معي.

تلحفت في سريري و أنا أتكور على نفسي من الوحدة والحزن و أفكر بحل مع راشد و أسلوبه القاسي معي، دمعة حارة نزلت على خدي فأغلقت عيناي بشدة لتنهمر بعدها دموعي الحبيسة بصمت، كنت أتنفس باضطراب و شعرت أن قلبي يتمزق ألماً و صرت أفكر أنني ربما لا أعرف كيف أتعامل مع راشد، لكن الأكيد أنني لا أتعمّد أو أتقصّد أي تصرف من تصرفاتي، لست عنيدة بطبعي، أفكاري بدأت تتداخل و أنا أتذكر المكالمة الصباحية ثم رؤيتي للطبيبة رشا و كلماتها نحوي و آاااه هل من المعقول أنه يشكوني لها، يا إلهي سأموت إن كان هذا صحيحاً، هل يراها بعين الكمال؟! نعم هي جميلة لكنها ليست أجمل مني، أما تلك المحققة فإنها فاتنة بلا شك، ارتجفت حين تذكرت المحقق، كان عمق عينيه الذكيتين و تركيز نظرته الخاطفة يبعث الرهبة في القلوب، يا الله أنا خائفة، كيف سأنام وحدي هنا؟، راشد في غرفة الجلوس، بهمس خافت أطلقت ما في صدري : "راشد يا دفش يا خشن يا حجر الجرانيت ".

حاولت تهدئة نفسي لأنام، فربما يأتي بعد قليل و لن أبقى وحدي في الظلام، نعم سيصالحني و يقول لي " جميلة الجميلات " كما يقول كونان، و سيقول لي "صغيرتي" كبلال، و" قارورتي" كشاهر، و " امرأتي أنا " كآسر.

ابتسامة متعبة ارتسمت على شفتي ثم أغلقت عيني و قرأت آية الكرسي و المعوذات و دعاء النوم ولم أشعر بأهدابي و هي تتثاقل لأنام ملئ جفوني.


****************




ريتشيل زينب


" هل أعجبهن الطعام؟"

فكرت في نفسي " هل هذه إشارة ما؟ هل يجب عليّ أن أخبره بالأمر أيضاً؟" أعادني صوت خليل للواقع عندما ناداني " زينب، هل تسمعينني؟!" أجبته معتذرة " آسفة خليل سرحت قليلا " قال بصوت مرح " إذن؟ هل أعجبهم الطعام؟" قلت بمرح مماثل " بالضبط كما توقعنا " ضحكت قليلا ثم شعرت بأفكاري تتسرب مني فصمت، عاد خليل ليقول ببعض الجدية " زينب ما بكِ؟ تبدين شاردة! هل حدث شيء منذ أن تركتكِ؟" تنهدت وقلت " خليل أنا يجب أن أسافر، غداً صباحاً، بل الليلة إذا وجدت حجزا " رد خليل باستغراب " تسافرين؟! إلى أين؟ " قلت له ببساطة " إلى تركيا، يجب أن أقابل شخصاً هناك بأسرع وقت " لحظات صمت تبعها صوت خليل وهو يقول بنبرة غريبة " هل حدث أمر طارئ؟ هل يوجد ما أستطيع مساعدتك به؟" لم أستطع منع نفسي من أن أقول له برجاء " هل تستطيع مرافقتي؟" صمت آخر أطول من الأول، فشعرت بسخافتي وأنا أطلب منه أن يترك أموره ويرافقني فسارعت بالقول " آسفة خليل مؤكد أنت مشغول جداً، لم يكن يجب أن أطلب منك السفر معي" أياً كان ماتوقعته من رد فلم يكن ما قاله لي لاحقا فقد رد بصوت أجش " ظننت لوهلة إني احلم وأنتِ تطلبين مني أن أرافقكِ! سأتدبر لنا حجزا الليلة، انتظري مني مكالمة بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر، إلى اللقاء " وأغلق الخط وأنا فاغرة فمي عاجزة عن قول شيء!

***

بعد ساعة ونصف بالضبط رن هاتفي وركضت نحوه بإثارة لم أستطع منعها وعندما رفعت السماعة سمعت صوته المبتهج يقول " طائرتنا ستكون في الساعة الثانية بعد منتصف الليل " نظرت للساعة فوجدتها العاشرة مساء فقلت بحماسة " سأكون جاهزة خلال ساعة " رد خليل " وأنا سأحضر سيارة أجرة لننطلق معاً للمطار "

صمت كلانا لأقول أنا أخيراً " خليل، شكرا لك، لكن.." قال برقة " لكن ماذا؟ هل تراجعتِ عن صحبتي؟ سيتفتت قلبي كمداً إن فعلتِ " ضحكت وأنا أقول " هل أنت متأكد بأني لن أؤثر على دراستك أو عملك؟" قال بتأكيد " زينب لا تقلقي، لقد أخذت إجازة لأسبوع من عملي وأما دراستي فقد تدبرت الأمر مع الأستاذ المشرف على رسالتي " بدلا من أن يريحني ذلك جعلني أشعر بالسوء أكثر فقلت له بحرج " لقد كنت حقا سخيفة عندما طلبت منك السفر معي، أرجوك خليل أنا يمكنني تدبر الأمر وحدي، فقط.. " قاطعني قائلا " فقط أنت تثرثرين كثيراً وتضيعين وقتكِ ووقتي عبثا، اذهبي لتعدي نفسك للرحلة ودعيني ارتب أمري أنا الآخر وخلال الرحلة سأخبركِ عن عائلتي وأنتِ ستخبرينني عن سبب سفرتنا المفاجئة هذه " ضحكت لأني لا أملك إلا أن أضحك بسعادة لما يفعله دوما من أجلي.

***

عند الحادية عشرة تماما جاء خليل وساعدني بحمل حقيبتي، يبدو في قمة الحماس، حماسه يوازي حماستي رغم أنه لم يكن يعرف لحد الآن بأمر العقد!

في طريقنا للمطار تكلم خليل بإسهاب عن عائلته في تركيا، والداه ما يزالان على قيد الحياة، وجدّته أم والده تعيش معهم، لديه ثلاثة أخوة وأربع أخوات! عائلة كبيرة، وخليل يعشقهم، شعرت بوحدتي أكثر وتساءلت لو كان لي سبعة أبناء كيف سيكون شعوري؟ اعترف أن الرقم يبدو مرعباً، لكن في داخلي لم أستطع منع شعور بالحسد يتملكني، يا الهي كم أصبحت هذه الوحدة تثقل كاهلي! هل لجاراتي العربيات تأثير في تفاقم شعوري هذا؟ هل لأن كل واحدة منهن لديها عائلتها التي تنتمي أليها بينما أنا لا أملك انتماء عائليا إلا لتراث والديّ القابع في أركان شقتي؟

تنهدت بحسرة فجذبت نظر خليل وهو يدفع عربة حمل الحقائب في المطار فالتفت أليّ وقال " مابكِ زينب؟ تبدين ساهمة، هل لهذا علاقة بسبب سفرك المفاجئ لتركيا؟" رددت عليه وأنا أعود بتركيزي للسبب الرئيسي لسفري هذا " نعم، الأمر مهم خليل " أخفضت صوتي قليلا وقربت رأسي منه حتى لا يستمع أحد من المارة لما سأقوله " هناك شيء ثمين عليّ تسليمه للدكتور كورشان " ابتسم برقة وهو يقرب وجهه لوجهي ويقول مقلداً لطريقتي في الكلام " ومن هو الدكتور كورشان؟" ابتسمت وأنا أرد " انه دكتور في التاريخ العثماني " نظر خليل لساعته وهو يقول " ما يزال أمامنا نصف ساعة نستطيع أن نجلس في إحدى المقاهي في المطار ونتحدث عن الأمر، لقد أثرتِ فضولي حقا " ثم عاد لينظر إلي ويضيف بمزاح " فقط من أجل راحة نفسي، كم عمر الدكتور كورشان هذا؟" انفجرت ضاحكة رغما عني فالتفتت الكثير من الوجوه إلينا فكتمت ضحكتي وقلت له " إنه بعمر الدكتور نبيه، كانا صديقين حميمين لوالديّ " رد خليل باستدراك " آآآآ صحيح لقد تذكرت كلام الدكتور نبيه عنه البارحة، إذن البارحة أرسل لكِ الرسالة ليخبرك عن هذا الشيء الثمين؟"

كنا قد وصلنا إلى أحد المقاهي فعلاً فجلست على أقرب كرسي وقلت له " الشيء الثمين عبارة عن عقد أثري يعود تاريخه لقرون ماضية، تصور خليل أمي اشترته من أحد البازارات في تركيا بسعر بخس، يبدو أنه تم تناقله وربما سرقته لتضيع أهميته عندما بِيع بثمن زهيد دون تقدير لقيمته الحقيقية " رد خليل وهو يشير للنادل " القصة ليست بغريبة ولكن الغريب إذا كان الدكتور كورشان يعرف بأمر العقد أقصد أنه رأى والدتكِ ترتديه حتما ليتذكره الآن ويخبركِ بأهميته، فكيف لم يدرك الأمر في ذلك الوقت؟!" انقطع كلامنا ونحن نخبر النادل بما نريد أن نحتسيه وبعد ذهاب النادل أجبت على خليل " أنك لا تعرف الدكتور كورشان، رجل لا يعيش حياتنا، إنه يحصر تركيزه في التاريخ القديم فقط ويبدو أنه يعيش هناك أكثر من الحاضر، في أحيان كثيرة ينسى أن يأكل وهو غارق بأبحاثه ودراساته في مكتبه ولولا زوجته لهلك جوعاً دون أن يتنبه له أحد "

ضحك خليل بينما النادل يعود ومعه كوبين من القهوة، ارتشفت رشفتين قبل أن أكمل " انه لا ينتبه لمظهر الآخرين، بل إنه لا يتنبه لما يرتديه هو، شعره مشعث أغلب الأحيان كأسلاك متنافرة " ضحكت وأنا أتذكر وصف والدي له فقلت لخليل " والدي كان يسميه اينشتاين " قال خليل بحيرة " إذن كيف تذكر عقد والدتكِ وبعد كل هذه السنوات؟!" أجبته وأنا أتذكر سطور الرسالة التي بعثها لي الدكتور كورشان " يبدو أنه كان يبحث عن أوراق معينة بين أغراضه ووجد صورة قديمة تجمعه بأمي وأبي، عيناه التقطتا العقد الذي كانت ترتديه أمي في الصورة، شكّ في الأمر وعمل بحث وتقصي ليكتشف أنه هو نفس العقد الثمين الذين يبحثون عنه منذ سنوات طويلة!"

رفع خليل حاجبيه بتعجب وقال " حقا شيء مبهر، أن يمتلك إنسان ولسنوات طويلة شيء يعتقده بلا قيمة مادية؛ ثم فجأة يكتشف أهميته ليست مادية وإنما تاريخية! " نظر خليل لساعته ثم رفع عينيه لي وقال " علينا أن نتحرك الآن" وهكذا بدأت رحلتنا وأعترف بأني قضيتها نائمة على كتف خليل!

***

حال وصولنا مطار اسطنبول أصررت على خليل أن نذهب مباشرة للدكتور كورشان حتى أسلمه الأمانة وأرتاح، وخليل لم يمانع فأوقف سيارة أجرة لنذهب إلى الدكتور كورشان في بيته فما يزال الوقت مبكرا. استقبلنا الدكتور كورشان بشعره المشعث ومبذله الصوفي المخطط ، شعرت بخليل وهو يبذل جهده لكتم ضحكته، كان الدكتور كورشان مبتهجا برؤيتي وعندما أعطيته العقد احتضنني بقوة وهو يقول بتأثر " لا أستطيع أن أفيكِ حقك من الشكر لاستجابتكِ بهذه السرعة لطلبي، شكرا لثقتكِ بي يا ابنتي، سنحدد موعدا غدا نلتقي في وزارة الثقافة والسياحة"

وهكذا اعتذرنا منه لإقلاق نومه وغادرنا بنفس سيارة الأجرة التي كانت بانتظارنا، التفت لخليل وأنا أقول " هل تعرف فندقا مريحا؟" رد خليل بمرح " بل أعرف بيتاً مريحاً " عبست بتساؤل وأنا أقول " بيت؟! هل تقصد أؤجر غرفة في بيت؟" ضحك خليل بخفة وأجاب " ستأخذين غرفة في بيت دون أن تضطري لدفع شيء " قلت " خليل لا تحكي بالألغاز، ماذا تقصد؟" قال وهو يحدق بعينيه الواسعتين بعينيّ " ستأتين معي لبيت عائلتي، وهناك ستجدين غرفة مخصصة لكِ وعائلة دافئة تحيط بك "

***********



ســـــــــــــــــــارة جوزيف


عتمة الافكار


شاردة في الافق وكأنه مملوء بالأسرار التي تبحث

عنها حتى تتم ما كتبته على أوراقها المبعثرة ينقصها الكثير لتكتمل الصورة، فما زالت كقطع البزل تحتاج الترتيب وبعضها مفقود، نظرت نظرة استغرقت ثوان في التفكير من نافذتها للشمس وهي ترتفع وتنشر ضيائها قبل أن تقفز لتبدل ثيابها، ربما المشي في طرقات لندن صباحا يجدد نشاطها وحماسها للكتابة أفضل من أن

تبقى حبيسة لجدران شقتها، عند خروجها رأت العائلة المصرية تخرج للشارع بخطوات ثابتة لمقصدها الذي تجهله وتتمنى أن تعرف إلى أين سيذهب عمرو بمشية العسكر هذه مع عائلته، استقلت سيارة أجرة بالقرب ولحقت بهم لتراهم يدخلون شارعا من أهم شوارع لندن وعند متجر جديد اسمه متجر الحلم، ضحكت في سرها (هل تبتاع العائلة المصرية أحلاما ؟!)

أشارت للسائق ليأخذها إلى الهايد بارك، في طريقها للحديقة تتمعن النظر في وجوه الناس من خلف زجاج نافذة السيارة ولم تصدق عينيها الصدفة الغربية التي تجمعها بسكان العمارة.

لمحته إياد، أمرت السائق أن يتوقف لكنه رفض

لأن وقوفهم مخالف للأنظمة المرورية شغلها منظر

إياد وامرأتين أحدهما صهباء بشعرها الأحمر والأخرى

قصيرة بشعر أسود وملامحها شرق آسيوية تركبان معه في سيارته، ربما يعمل معهن هكذا حدثت نفسها وعندما سألها السائق إن كانت تود العودة للشارع نفسه أخبرته أنها عدلت عن رأيها تريد الهايد بارك، كيف يمكن للأسئلة اكتشاف إجاباتها ؟!

سؤال سألته سارة لنفسها لتزيد تساؤلا على تساؤلاتها الكثيرة حول العمارة وساكنيها ويثقل الهم كاهلها ، آدم لا يكف عن إلحاحه والقلم مازال فى غيبوبة يتمدد على صفحاتها لا حول له ولا قوة، تريد أن تنجز هذه المهمة بنجاح حصولها على إعجاب مازن ليس الوصول إلى مينة والقبول الذي تجده عند خالد لا يجعلها قريبة

من خولة والسلام الذي يلقيه عليها راشد لا يعني صداقتها معه، ابتسامة إياد الغامضة لا يمكن أن تحزر معانيها ونظرات عمرو وكأنه يخشاها ويخشى اقترابها منه تجعلها دائما تقابله بابتسامة مطمئنة وغياب ياسر يجعلها متشوقة للقائه كما أن حضورها لاجتماع نبيه وقبول بعض آرائها ليس الهدف من وجودها بينهم تريد أن تعرف أكثر.
لم يكن ذاك الصباح شبيها بغيره من الأيام الماضية، غابت السحب لتفسح مجالا للشمس ينعكس ضوئها على كل ما يحيط بسارة في دعوة صريحة لتخرج أدواتها البسيطة كراسة الرسم
(الكانسون) وعلبة فضية تحتوي على اسفنجة صغيرة تدعى(بالمدعكة)، وممحاة تغير لونها وتشرب لون أقلام الرصاص، جلست في مكان هادئ لتبدأ في عملها، في منتصف النهار رفعت لوحتها

غير راضية عن ما رسمت، الظل بدا كثيفا عتم على رسمتها الرئيسية، أغلقت الكراسة وهي تنوي توضيحه أكثر باستخدام الممحاة، جمعت ما نثرته على مقعدها الخشبي وعبرت الجسر وخرجت من الحديقة لأقرب مطعم للوجبات السريعة لتتناول غدائها وبعدها خرجت تتمشى في الطرقات قبل المغيب. تجمعت السحب، فأوقفت سيارة الأجرة لتقللها إلى العمارة وعند دخولها سمعت صوت جري على سلم العمارة، فوقفت تسمع صوت امرأة ورجل يهبطا السلم جريا وأنفاسهما تقطع حديثهما وسمعت صوت الرجل يرتفع قليلا ويشتم ( حمقاء ..يجب أن نعود لهما لنأخذ ملابسنا، هويتهما معروفة بدون الزي الرسمي، أما ملابسنا فستكون دليلا علينا).

عادا جريا فلحقت بهما وعندما دخلا الشقة وقفت وسؤال (ماذا عند ريتشل؟)لا ينتظر الإجابة دخلت لتعرف ..


***************




الزئبق والحرباء

سارة واللصوص


أنت حمقاء! كيف تغفلين مثل هذا الأمر؟ أليس في ملابسنا بالشقة دليل على هويتنا؟

هذه كلمات قالها الزئبق وهو يسبق الحرباء قفزا على سلم العمارة وهي تتبعه .. كي يلحقا بالشرطي والشرطية قبل أن يفيقا من المخدر .. ولم يتنفسا الصعداء حتى دخلا الشقة مسرعين ليجداهما ما زالا فاقدي الوعي ..

كانت الحرباء قد تركت الباب خلفها غير محكم الإغلاق .. وقد وقفت خلف الزئبق تسأله :-

- كيف ستخرجهما دون أن نلفت الأنظار أيها الثعلب؟

انطلق الزئبق يضحك وهو يقول لها ..

- ألم يأتيا هنا لينقذا امرأة مريضة؟ .. لقد كان زوجها منذ قليل يستغيث بهم على مرى ومسمعٍ من رواد البار.. وهو يكاد أن يصاب بأزمه قلبية خوفا على زوجته ..

- هل فعلت ذلك؟

- نعم .. لقد تعمدت أن يسمعني الجميع وأنا أكاد أسقط من الحزن عليها .. والآن على الشرطة أن تطلب سيارة الإسعاف لإنقاذ المرأة وزوجها .. هيا أعيدي تخديرهم حتى تنقلهم سيارة الإسعاف.

وقفت الحرباء كمن تفكر وعلى وجهها أمارات التعجب ومحاولة الفهم بينما راح الزئبق يحادث أحد أعوانه بالهاتف .. نيكولا..

"أحضر سيارة إسعاف الآن وبسرعة" .. ثم أعطاه عنوان العمارة ..بينها كانت الحرباء تخدر الشرطيين وتحرر أقدامهما من الوثاق الحديدي .. وفجأة ..

أنتفض الزئبق والحرباء وقد سمعا من خلفهما فتاة تقول لهما.. "قفا مكانيكما" .. وهي تحمل سلاحا خلف لوحة رسم .. فارتبك الزئبق والحرباء لثواني ولكن سرعان ما عاد الزئبق لهدوئه بينما ابتسمت لها الحرباء وهي تقترب منها ..وعلى حين غفلة .. قفزت الحرباء كالقط الشرس فأمسكت بالفتاة وشلت حركتها .. لينطلق الزئبق ضاحكا عندما اكتشف أنه ليس هناك أسلحة خلف اللوحة ولم يكن خلفها سوى قلم من الفحم بطرفه ممحاة سوداء.

وقف الزئبق يتابع الصراع القصير الذي دار بين الفتاتين.. كانت نتيجته الحاسمة السريعة لصالح الحرباء.. محترفة المغامرةبينما استسلمت الفتاة الأخرى بسهولة و الغريب ..الذي لم يفهمه الزئبق .. أن الفتاة لم تبدِ مقاومة عنيفة ولم يبدو عليها الهلع أو الخوف.

ألقت الحرباء بالفتاة على الأريكة ومالت عليها وهي تمسك بتلابيب فستانها وتسألها بعنف:

- أين كنت مس ريتشيل؟ .. لقد بحثنا عنك طويلا ؟

- لماذا تسألان عني؟ ومن أنتما؟

- نحن أعوان بابا نويل .. جئنا لنهبك هدية الكريسماس.. -أين العقد؟

-أي عقد هذا؟

- لا داعي اللف والدوران .. العقد الأثري الذي عرضتيه على زائراتك؟

- أها.. إذا أنتم هنا من أجل هذا العقد الذي يتحدث عنه السيد نبيه؟

كان الزئبق يتابع استجواب الحرباء لريتشيل التي كانت

تجيبها ببرود وهدوء دون خوف ثم ابتسمت الفتاة وهي تخلص نفسها من يدي الحرباء وتقول:

- لا تتعجلي الأحكام أيتها الجميلة أنا لست ريتشيل .. أنا سارة صديقة الأستاذ نبيه ويعنيني أمر العقد مثلك وربما أكثر .. هل لك أن تهدئي لنتحدث ببعض من العقل؟

نظر الزئبق للحرباء كي تترك الفتاة التي اعتدلت في جلستها وراحت تتحدث بهدوء وكأنها قد أصبحت فردا من أفراد العصابة.. قالت للزئبق :

- الوحيد الذي يعلم كل التفاصيل عن ريتشيل وعن هذا العقد الفريد هو السيد نبيه.

- من هو السيد نبيه؟ .. زوج من مِن العربيات هنا؟.. لقد استجوبناهم جميعا ولم نحصل منهم على أي معلومة مفيدة.

- هل استجوبتم مونيا أيضا؟
-نعم؟

شردت سارة قليلا وقد بدا على ملامحها التفكير العميق ثم قالت كمن تحدث نفسها .. " إذن.. لقد تم تصويركما بالصوت والصورة ".

فالتفتت لها الحرباء تستحثها على استكمال حديثها .. فأكملت سارة تقول .. "إن مونيا لديها كاميرات على بابها .. ولأنها مستهدفة وتخشى على حياتها وعلى حياة أفراد أسرتها .. فقد اعتادت أن تدير كاميرات شقتها كلما طرق على الباب طارق".

كانت هذه المعلومة كالصاعقة التي بدا أثرها على ملامح الزئبق ..وازداد قلقه وهو يتذكر نظرة الشك في عيون مونيا ساعة اللقاء بها وبينما كان القلق يلعب بالأرجوحة على ملامح الزئبق .. كانت الحرباء شاردة تفكر .. وسرعان ما ابتسمت وهي تسأل سارة:

- من أقرب الجارات لمونيا ؟

- أعتقد أنها لين.

- تقصدين الحالمة زوجة الدفش ؟

فانطلقت سارة ضاحكة وهي تقول للحرباء " أو تعلمين هذا أيضا؟يا لك من فتاة .. أنا أحببتك" .. فضحكت معها الحرباء ثم ألتفتت إلى الزئبق تسأله .. "أليست لين هذه في مثل قامتي؟"

فأجابها الزئبق:

-نعم .. ماذا تقصدين بهذا السؤال؟"

- أقصد أن مونيا تثق بلين .. فلابد إذن أن تذهب إليها

لين لتحصل على هذه التسجيلات.

- ما زلت لا أفهم.

- ستفهم حبيبي عندما يحين الوقت .. لتعلم أني لست أقل منك مكرا وخداعا.

كانت سارة تتابع حديثهما في صمت وعلى وجهها أمارات الإعجاب بهما .. ولكنها قبل أن تنطق .. سمع ثلاثتهم صوت سيارة الإسعاف في الشارع .. ليهتف الزئبق لسارة قائلا.. "سوف نعود إليك سريعا ..فقط انتظرينا حتى نتخلص من هؤلاء الشرطة

وقفت سارة تقول .. " سوف أذهب للمطبخ لأعد لنا بعض أطباق المكرونة" .. فصرخت الحرباء فرحة.. "واااااو .. انتظريني .. سأعود لنطهوها سويا .. فأنا أتمزق جوعا، لن نغيب"

توجهت سارة إلى المطبخ بينما حمل الزئبق وهو في زي الشرطة الرجل فاقد الوعي وهبط به السلم بحذر،ليضعه في سيارة الإسعاف ثم عاد مسرعا ليحمل الشرطية بقميص نومها ويهبط بها والحرباء من خلفه ليضعا المرأة بسيارة الإسعاف بينما اجتمع حولهم جمع من رواد البار يساعدونهما في أداء هذا الواجب النبيل في إنقاذ المرأة المريضة وزوجها الذيانهار حزنا عليها .

ما إن تحركت سيارة الإسعاف بالمرضى حتى تبعتها سيارة الشرطة وبها الزئبق والحرباء في زي الشرطة ومعهما ملابسهما في لفافةوعلى بعد عدة شوارع جانبية توقفت السيارتان ليصعد الزئبقوالحرباء إلى سيارة الإسعاف .. وبعد دقائق هبطا منها وقد استبدلا ثيابهما ليعودا مشيا إلى العمارة ..

ظل الشرطي والشرطية ممدين بسيارة الإسعاف بكامل زيهما وبعد أن أعاد نيكولا تخديرهما من جديد انطلق بهما خارج مدينة لندن وعلى بعد ساعات منها ثم أوقف سيارة الإسعاف على جانب الطريق وغادرها عائدا في سيارته التي كان قد تركها في هذا المكان من قبل ولم ينسى قبل رحيله عن سيارة الإسعاف أن يجرد الشرطي والشرطية من كل أدوات الاتصال التي لديهما.

سارة جوزيف

ربيع أبريل

عينيها على أبريل، شهر الربيع يحين موعد الازهار، أريجها ألوانها، ولكن من انتظر ربيعا آخر يختصره في الحرية، لم يجد إلا لون الحداد الأسود ورائحة البؤس في دنيا التعساء.

في هذه الحياة الأهم من تقليب صفحات الأيام ومعرفة الفصول وكل ما يخص الزمان، المكان له الأولوية من العبث والمتاهات، وحينما اختارت سارة عمارة ريتشيل تعلم بأنها في المكان الصحيح، تعبت كثيرا حتى وصلت إلى عتبة عمارة النون تقذفها أمواج الافكار حتى حذفتها إلى لندن حيث تروي بذور الحروف بالطل، وتنتظر هيمتى تظهر الكلمات كما تنتظر المعكرونة تنضج حتى تضعها في طبق سيغير تاريخها وحياتها، ابتسمت عندما تذكرت طبق المعكرونة الذي غير تاريخ مصر وجعل للسويس قناة تعتبر من أهم قنوات الاتصال في العالم (طبق الخديوي سعيد)، تحاول تركيز تفكيرها على كلمات الأغنية التي تسمعها من شقة نبيه،

من يوم تغربنا وقلبي عم بيلم جراح
يا ريتا بتخلص هالغربة تا قلبي يرتاح

حملت الطبق وأخذت نفسا عميقا وبابتسامة صغيرة

تحاول إقناع نفسها أن ما يقدم عليه الزئبق والحرباء

شيء يخصهما كانا سيفعلانه بدونها، لا تدري كيف

تمكنت من إقناعهما بضرورة اختفائهما عن العمارة فترة حتى يعم الهدوء، وجودهما يسبب لها المشاكل وسيؤخر مشروعها، قطعت المسافة بين الشقتين وهي تذكر نفسها تسأل بعفوية،(مساء الخير أستاذ نبيه..)

استقبلها مبتسما ( أهلا سارة )..

كانت نظارته السميكة تتدلى على صدره ومعلقة بسلسلة فضية رفعها ليلبسها ويفسح المجال لتدخل ودخلت متعثرة بخجل كاذب عندما دعاها (تفضلي)..

وضعت الطبق على المنضدة الصغيرة وابتسمت (لست طباخة ماهرة ولكني أحببت أن أشاركك عشاءي).

(بكل سرور..)

أعد نبيه طاولة الطعام بكأسين وطبقين وحدثها مازحا (لا شمع عندي، حتى يكون عشاءنا عشاء رومانسيا).

ضحكت مستمتعة بأريحيته وحدثته (الرومانسية تأتي بلا شموع).

وضعت طبقها في منتصف الطاولة وسكب كلاهما في صحنه وبدأ الأكل، سألته (ما رأيك ؟)

أجابها (لا بأس به، جيد نوعا ما إذا قارنته بأطباق زينب قبل سنوات، فلقد تطور طبخها كثيرا بعد تعرفها على جاراتها العربيات).

سألته ( وماذا تغير في أطباقها؟)

أجابها بنبرة صادقة (أصبح له نكهة وروح، كل حياتها تغيرت) .

(تحب ريتشيل كثيرا).

(زينب ابنتي) ثم رفع كفه لكتفيه، (حملتها على كتفي صغيرة).

استغلت الوضع لتسأله (لم أسمعها اليوم تزاول رياضتها الصباحية)

(أحيانا لا تمشي صباحا، يكون مساء..)

لم يرق لها جوابه فسألته (لم أرها اليوم؟)

دفع بطبقه إلى الأمام وجسده إلى الخلف وسألها محدقا في عينيها(هل تريدينها في شيء؟)
لاح على وجهها التلعثم (لا شيء مجرد سؤال)
.

دفعت هي الأخرى بكرسيها ووقفت، فشكرها وحمل

الأطباق فلحقت به وسألته محاولة فتح باب حوار آخر

(سمعت صوت فيروز حزينة اليوم تحكي الغربة ؟)

ابتسم نبيه (ونحن نسمعها بحنين ) ..

بادلته الابتسامة فسألها (تشربين قهوة؟)

فاعتذرت (لا .. وأرى أني اقتحمت خلوتك .. أظنك كنت تعمل وأخذت من وقتك الكثير..)

كانت نظراتها تشير إلى مكتبه الصغير وكتب قديمة مصفوفة بعناية عليه وكتابين مفتوحين وقلم طريح على الأوراق كقلمها الذي ما زال ينتظر ارتعاش أناملها ليعود للحياة، استأذنت نبيه لتعود لشقتها، إلى ما كتبت ورسمت، والزئبق والحرباء يستحوذان على تفكيرهاوتتمنى ألا يعودان حتى تعطيهما الضوء الأخضر.


***************

انتهت الحلقة الرابعة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 21-10-22 الساعة 08:57 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 20-10-22, 12:49 AM   #10

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحلقة الخامسة



خولة سعود

وقفتُ أمام الثلاجة لأتفاجأ بأن بابها قد عُلق عليه ورقة بيضاء معطرة ومغروس في طرفها وردة حمراء، انحنيت على الورقة لأقرأ (حبيبتي خولة... كل ما في الأمر أنني كنت في ثورة غضب منشأها خوفي على أسعد، أنا لم أعني أي كلمة مما قلتها، بالمناسبة فور أن تنتهي هذه المعضلة، سأقدم على إجازة و سنذهب إلى قبرص، زوجك الأحمق خالد)
سامحك الله يا لين أنتِ و رواياتك التي تقصينها علينا، ها أنا قد بدأت أعيش في الخيال، فالحقيقة أني وقفتُ أمام الثلاجة فلم أجد شيئاً معلقاً عليها، لا ورقة و لا وردة.
زفرت بضيق، أنا الآن نادمة لأنني لم أتشاجر معه و أخرج كل الألم الذي شعرت به عندما نطق تلك الكلمات، أنا نادمة لالتزامي الصمت كالبلهاء، لأنه التزم الصمت بالمقابل، لم يعتذر، لم يبرر، لم يقل أي شيء، و علاوة على ذلك، أصبح يعاملني كأنني أنا المخطئة في حقه، فقبل قليل خرج إلى عمله دون أن ينبس ببنت شفة.
رن جرس الشقة، يا صباح الخير! ماذا الآن! الإنتربول تبحث عن ريتشيل زينب! بدأت أشك أنها من سلالة السلاطين العثمانية هي و عقدها ذاك. اقتربت من الباب و نظرت من العين السحرية لأرى امرأة ترتدي عوينات طبية بملابس رسمية و تحمل في يدها حقيبة جلدية، لم أحتج إلى ذكاء لأدرك أنها من الشئون الاجتماعية، أغمضت عيني بشدة وأنا أهمس "يا إلهي أنقذني"، أخذت نفساً عميقاً، ثم فتحت الباب بيدين مرتجفتين.
دخلت المرأة و عرفت نفسها بأنها السيدة جون من الشئون الاجتماعية كما توقعت، كانت امرأة مخيفة ذات نظرات صارمة، ذكرتني بالآنسة منشن في المسلسل الكرتوني سالي، استأذنتْ أن تتجول في الشقة، و هي منذ حوالي ربع ساعة في غرفة أطفالي حيث أشرف نائم في سريره، بدلاً من الدخول معها فضلت أن أعد لها كوبا من القهوة الأمريكية.
عندما خرجت من المطبخ حاملة كوب القهوة، وجدتها تجلس على أريكة بجوار التلفاز، قدمت لها كوب القهوة، ثم جلست على أريكة أخرى لأني لم أرد أن تشعر بارتباكي.
قالت تجاملني لأني قدمت لها قهوة "ابنك وسيم"
خفت أن أسألها أي واحد منهما تقصد، على العموم هذا لا يهم، فكلاهما نفس الشكل، أجبتها "شكراً لك"
ارتشفت رشفة من القهوة قبل أن تقول بفتور "بالمناسبة أسد بخير"
كنت على وشك أن أسألها من هو أسد، لولا أنها أضافت "يقول الطبيب أنه طالما مرت عليه أربع و عشرين ساعة تحت المراقبة و لم تحدث له مضاعفات، فهو بخير و لا يوجد أي داعٍ للقلق"
تأوهت بفرح و أنا أضع يدي على قلبي و لساني يلهج بحمد الله، ثم سألتها بترقب "متى سأراه؟ متى سيعود إلينا؟"
أرسلت إلي نظرة جعلتني أزدري ريقي بصعوبة، يبدو أنها معتادة على ألا يسألها أحد، بالتأكيد من سيجرؤ على سؤال الآنسة منشن! قالتْ لي بنفاد صبر "أنا هنا لأقرر إن كان الأمر مجرد حادث أم أنه عنف أسري"
لابد من أن رئيسها يكره المسلمين أو العرب أو السعوديين، وإلا لماذا يختار من بين جميع موظفيه هذه المرأة ليجعل مصيرنا في يدها! لماذا لم يرسل لي أختها إيميليا الطيبة! آه عليك السلام يا حبيبي أسعد، أقصد أسد.
أخرجت ملف من حقيبتها و قلم أسود، ثم قالت بقوة "أريدك أن تعلمي يا سيدة خالد أننا مختصون في كشف الكذب، لذا كوني صادقة تماماً معي و الآن أخبريني هل تتعرضين للعنف من قبل زوجك؟"
أردت أن أبتسم و أنا أجيبها، لكني خفت أن تكون الابتسامة علامة من علامات الكذب، لذا قررت أن أميل برأسي قليلاً، لكن! ماذا إن كانت إمالة الرأس تعني أن الشخص يشعر بالذنب لأنه كاذب! حسناً سأجيبها و أنا أسحب خصلة من شعري لتغطي أذني و كأنها حركة عفوية، لحظة! قد يعني ذلك أن أغطي الحقيقة! إذن..
"سيدة خالد!"
قطعتُ أفكاري و أنا أنظر إليها ببلاهة، فأمرت " أجيبي لو سمحت"
قلت بسرعة "لا، أنا لا أتعرض لعنف من قبل زوجي، لا أنا ولا أبنائي"
تكلمت بنبرة دهاء "أنا لم أسألك عن أبنائك"
رائع! الآن ستقول أني كاذبة لأني أجبت على شيء لم أسئل عنه، همست "آسفة"
قالت و هي تعدل من وضع عويناتها "و الآن قولي لي.." قطع حديثها صوت رنين مزعج، فالتقطت حقيبتها وتناولت منها هاتف نقال، تمتمت "علي أن أرد على هذه المكالمة"
شكرت من قلبي هذا الشخص الذي اتصل بها، الآن يمكنني أن ألتقط أنفاسي، و أحاول تهدئة نفسي، إن هذه..
"لا، أنا متأكدة أنها مؤامرة"
حملقتُ فيها بانشداه و أنا لا أصدق ما أسمعه، خصوصاً بعد أن سمعتها تكمل بجدية "لا تحاول إقناعي، أنت تقول ذلك لأنك لا تعرف المؤامرة، يا عزيزي أقسم لك أن الحرب على العراق لم تكن سوى مؤامرة مدبرة، فكر أنت معي وستدرك أني على حق... اسمع.. أنا في عمل الآن، سأتصل بك بعد أن أنتهي... وداعاً" أغلقت الاتصال، ثم قالت ببرود "أعتذر"
قلت محركة يدي ببساطة "لا عليكِ، لا عليكِ يا سيدة جون، لا أعرف متى يصحى أولئك الغافلين و يرون أن كل أحداث العالم منشأها مؤامرة"
حدجتني بنظرة غاضبة حادة، يا إلهي! لماذا فتحتُ فمي! أردت أن أتراجع و أقول لها إني آسفة على تدخلي فيما لا يعنيني، لكن ربما كما يقولون وقع الفأس في الرأس، و لا مجال للتراجع، لذا قلت مدعية الثقة و أنا أرتجف خوفاً "أتعلمين بأن جورج بوش صنع مؤامرة من أجل الحرب على العراق" ثم بدأت أشرح لها هذه المؤامرة، مقدمة بيانات وأدلة، و الفضل يعود في تلك المعلومات بعد الله إلى فيلم أمريكي - مستند على أحداث حقيقية - شاهدته قبل ستة أشهر، كان يحكي عن قصة امرأة من الاستخبارات تحاول كشف مؤامرة الحرب على العراق.
لما انتهيت من كلامي، بدأت أنتظر ردة فعلها و قلبي يخفق بقوة، صمتت و طال صمتها، فتمنيت لو أن الأرض تنشق وتبلعني، أي غباء هذا الذي أملكه! كيف نسيت أن بريطانيا هي شريكة أمريكا في الحرب على العراق! لماذا فسرت كلامها على أنها تقصد أمريكا! ماذا لو كانت تقصدنا نحن العرب وأننا نحن أصحاب المؤامرة! الآن فقدت كل أمل في عودة أسعد لي بهذا الكلام، بل ربما ستقبض علي بتهمة الإرهاب و..
"أنتِ رائعة يا سيدة خالد، يا له من شرف كبير أن أتعرف بامرأة ناضجة متفتحة ذكية مثلك، أرجو أن تسمحي لي بأن أناديك بخولة من الآن، من أين لكِ هذه الثقافة القوية عن فلسفة المؤامرات؟"
ضحكت ضحكة شريرة في داخلي، إن كنتِ ريحاً يا آنسة منشن فقد لاقيتِ إعصاراً اسمه خولة، و ها قد بدأت الجلسة، و أخذت أحكي لها عن مؤامرات حياتي، و أخذت تحكي لي عن مؤامرات تقابلها في وقت عملها و التي أعتقد أن نصفها - إن لم يكن كلها - كذب في كذب، و لكني للأسف مضطرة للاستماع إليها، فمصير ابني متعلق بهذه المرأة.
بعد مضي ساعة، اعتذرت آنسة منشن قائلة أنها مشغولة ولديها الكثير من الأعمال ثم قالت و هي تغلق حقيبتها "بالمناسبة يا عزيزتي، لا تقلقي بالنسبة لأسد، ستكون الأمور على ما يرام" ثم أضافت ضاحكة و هي تضع في يدي بطاقة صغيرة "هذا رقم هاتفي، أتمنى أن نلتقي مرة أخرى، فما زال لدي الكثير من المؤامرات التي صادفتني في حياتي، وأهمها تلك المؤامرة التي اكتشفت على أثرها أن صديق أخي هو رجل مخابرات" ثم انصرفت خارجة.
آه أول مرة أكره قصص المؤامرات، أنا متأكدة من أنه بعد لقاءين معها سأعتزل نظرية المؤامرة، و لن أتحدث عنها مطلقاً، لكن من يعلم قد تكون مؤامرة صديق أخوها ممتعة، فقد قالت أنه رجل مخابرات، و هذا ما يذكرني بهذه الـ ريتشيل، في الحقيقة أنا عاتبة عليها، حتى لو كانت من المخابرات و عملها يتطلب السرية، لم يكن من اللائق أن تذهب هكذا دون أن تخبرنا، ألم تفكر أننا سنكون قلقين عليها! أننا نحبها و نهتم بها!
ريتشيل زينب! أين أنتِ يا فتاة؟


**************



ريتشيل زينب

صحيح أن عينيه لهما تأثير غير عادي عليّ لكني كنت شجاعة حقا وأنا أقاومهما وأقول " خليل لا أجد الأمر مناسبا، كيف سأدخل ضيفة على عائلتك وأنا غريبة عنهم؟! أنا أعرف أن المجتمع التركي هو أقرب للمجتمع المتحفظ، فماذا سيقولون عني؟"
لكن كل ما قلته لم يثنِ خليل فأصر أن يأخذني لبيت عائلته وقال لي إن رفضت المكوث معهم سيعتبره اهانة شخصية له، حاولتُ إفهامه أني سأشعر بالراحة أكثر في الإقامة بفندق ولكنه كان لحوحا جدا، فظهر طابعه الشرقي وكأنه ما إن وطأت قدماه أرض وطنه حتى استعاد روحه الأصلية فيها بشكل كامل، الأمر أربكني وأحرجني أيضا، لا أحب أن أشعر بتسلط أحدهم عليّ حتى ولو من باب اللطف والاهتمام.
في انجلترا كان خليل بوجه مختلف، شاب متفهم ومراعي، لكن هنا بدأت أشعر أنه يحاصرني حقا ويأخذ المبادرة في أي خطوة نخطوها وهذا ما لم أعتد عليه، لقد تعودت أن أكون سيدة نفسي وتعودت أن أرسم صورة معينة لزوج المستقبل، صورة شراكة وليس تحكم، في النهاية رضخت وقلت أنها فقط بضعة أيام وسأعتبر الأمر مراعاة لتقاليد بلد تعتبر حسن الضيافة واستقبال الزوار من شعائرها المقدسة.
مع ذلك لم أملك وقف أفكاري التي تزاحمت في عقلي ما إن وصلنا لذلك البيت الأبيض الكبير والذي يمثل بيت العائلة لخليل، بيت من طراز جميل لكن بان عليه القدم، أعترف أن الدخول لبيت غريب أمر؛ والدخول لثقافة غريبة أمر آخر تماماً، كنت مذهولة وأنا أرى خليل ينحني ليقبل يد والده أولا ثم جدته العجوز ليتبعها بأمه، كان منظره وهو ينحني بكل هذا الخشوع مثيرا للاهتمام والدهشة في آن واحد، بعدها تلقفته الأحضان ما بين إخوته وأخواته وأزواجهم وأطفالهم الصغار، حتى خليل نفسه تغير، نبرة صوته ارتفعت وهو يتكلم بطلاقة ودون أي تحفظ، حركاته وهو يمازح أخوته باتت أكثر صخبا عن طبيعته الهادئة التي تعودت عليها، أشياء كثيرة كنت أحاول استيعابها وتحليلها بينما أتلقى الترحيب منهم، أجلسني خليل بجوار جدته العجوز التي أخذت ترمقني بنظرات متفحصة، امرأة طاعنة بالسن خطوط وجهها أكثر من أن تحصى لكن عينيها ما تزالان تبرقان، كانت ترتكز على عصاها حتى وهي جالسة وعندما جلس خليل بجانبها تفاجأت بأن رفعت العصا وضربته على ظهره وهي تقول " اذهب واجلس بعيدا، أريد مكالمة رفيقتك الانجليزية "
ضحك الجميع بمن فيهم خليل وهو يمسد متوجعا الجزء الذي ضربته من ظهره، نظراتها العميقة نحوي كان يسكنها الغموض رفعت حاجبي وأنا أراها تحرك عصاها يمينا ويسارا وللحظة تصورت أني سأتلقى ضربة على ظهري مماثلة للضربة التي تلقاها خليل، قالت الجدة " هل تتكلمين التركية يا فتاة؟" رددت عليها بابتسامة لطيفة " نعم أيتها الجدة، أنا أجيد التركية والعربية والفرنسية أيضا " شبح ابتسامة لاح على فم الجدة وهي تقول " هذا ممتاز، علمت من خليل أنك من أصل تركي عربي، هل هذا صحيح؟" عقدت حاجبي قليلا وقلت والدهشة تملأني " هل أخبرك خليل بهذا؟ متى؟" هنا شعرت بظل يقف بجواري بينما الجدة تقول بحزم " ولد يا خليل قلت لك أريد مكالمة البنت على انفراد، اذهب ولاعب أبناء إخوتك أو ساعد والدك في شيء بدلا من أن تقف هكذا كأعمدة أنوار الإضاءة المملة في الشارع " رد خليل بعتب " لكني دخلت للتو وأريد مشاركتكما الحديث فربما لن تستطيع زينب فهم بعض كلماتك فأترجمها لها " ضربت الجدة بعصاها على الأرض وقالت بحزم " ولد خليل اذهب الآن وفتاتك قادرة على فهم كل كلمة ولا تخف لن أقول ما لا تريدني قوله " تلعثم خليل وهو يتمتم (حاضر) بينما شعرت بموجة حر عاتية تهب من داخلي لتحرق وجهي بحمرة الخجل!
أخيرا تمددت على سريري المريح في غرفة جهزت لي كانت سابقا لأحدى أخوات خليل قبل أن تتزوج، أغمضت عيني وأنا أشعر بابتسامة بلهاء على وجهي، لا أعرف كيف مر اليوم وانتهى ورغم غرابة أحداثه وشخوصه إلا أني استمتعت، لكني أعترف بأن سر بلاهة ابتسامتي هذه لا تعود لاستمتاعي باليوم ولا تعود لأني قضيته وأنا أحاول تجنب تغامز أخوات خليل وابتساماتهن المنشرحة نحوي، سر البلاهة هذه مجرد جملة يقولها الناس لبعضهم البعض يوميا قبل أن يتفارقوا للنوم؛ إنها (تصبحين على خير)!
أجل مجرد جملة، لكنها فعلت بي الأفاعيل بسبب من نطقها وكيف نطقها، خليل لم يفارقني طوال اليوم والسهرة وكنت أشعر دوما بملامسة أصابعه ليدي يحيطني باهتمام كبير، لم يقل شيئا خارجا عن المألوف ولكن الله حباه بعينين تجعلان الحجر يلين، وهاتان العينان خصّتاني الليلة بالذات بنظرات عاطفة متوهجة، جعلني أشعر أني أكثر امرأة محبوبة ومرغوبة على سطح الأرض، وعندما فارقني قبل ربع ساعة عند باب الغرفة نطقت هاتين العينين بما لم ينطق به لسانه، هل يمكن أن أفسر نظراته الواضحة الي بشكل خاطئ؟ لا.. لا يمكن، مشاعره واضحة جدا، لم تعد مشاعر إعجاب عادية، أنا حتى توقعت أنه سيقبلني لكنه – ولخيبة أملي- لم يفعل وتركني مباشرة بعد أن همس " تصبحين على خير "
لا أعرف كيف خرجت الهمسات مسموعة لتصل أذنيّ وأنا أقول " أتوسل إليك إلهي لا تدع ظني يخيب "
***
اليوم التالي كان مختلفا، استيقظت منذ الصباح الباكر لأجد خليل قد سبقني بالاستيقاظ وبعد الافطار الدسم الذي أعدته لنا والدة خليل خرجنا لنلحق بموعدنا مع الدكتور كورشان، وجدناه ينتظرنا بشعره المتنافر عند مقر وزارة الثقافة والسياحة، استقبلنا بلهفة دون أن يتذكر إلقاء تحية علينا " الحمد لله أنكما لم تتأخرا فلدي موعد آخر علي اللحاق به بعد موعدنا هذا " وهكذا دخلنا ليستقبلنا مدير مكتب وزير السياحة و الثقافة التركية ومسؤول في الوزارة في متحف طوب قابي.
تفاجأت بإعطائهم إياي لوحا برونزيا كهدية تقديرية منهم لسرعة استجابتي لإعادة العقد ومساهمتي في الحفاظ على التراث التركي القديم، كانت بادرة أثرت بي عميقا وجعلتني فخورة حقا بما فعلته.
كنت أشرب قدح الشاي بالياسمين الذي أعدته لي والدة خليل وأنا أنظر لمغيب الشمس عبر شرفة غرفة الجلوس التي على البحر، شعورا رائع بالاسترخاء غمرني، تحول لشعور آخر وأنامل خليل الذي يجلس جواري تمتد لخصلات شعري، ما أزال اشعر ببعض القلق والرهبة، لا أستطيع تحديد مصدرهما، لكنهما موجودان والسبب خليل نفسه، أحتاج لأركز أكثر فيما يحدث بيننا والى أين نتجه؟.
التفت إليه وقلت " أريد الاتصال بالدكتور نبيه، مؤكد سيقلق من اختفائي المفاجئ فأنا لم أخبر أحدا " ابتسم خليل وغامت عيناه وهو يقول " لكنك أخبرتني أنا " ابتسمت بارتباك ووقفت على قدمي لأنهي هذا الاتصال العاطفي بيننا وأنا أقول " سأتصل به من هاتفي " رد وهو يقف على قدميه هو الآخر " لا.. تعالي معي لغرفة المكتب، يوجد لدينا خط هاتف رخيص التكلفة للمكالمات الخارجية وتستطيعين مكالمته بحرية هناك "
ضغطت على الأزرار المناسبة ما إن خرج خليل وتركني بمفردي في غرفة المكتب، بعد عدة رنّات فتح الخط..
" مرحبا دكتور نبيه" جاءني صوته متلهفا وهو يقول " ريتشيل! لقد أقلقتني عليك يا فتاة، أين كنت؟ هل أنت بخير عزيزتي؟! " رددت عليه بلطف " آسفة جدا يا دكتور، فعلا كان عليّ الاتصال بوقت سابق لأطمئنك، أنا في اسطنبول لزيارة الدكتور كورشان وسأعود بعد يومين على أكثر تقدير"

**************

مينة أحمد

إن كانت الشمس تبدد الضباب و تنشر الدفء فأنا بددت الهدوء الذي كان به مازن، فمنذ ليلة أمس و أنا أغلي غضباً.. و زاد الأمر سوءاً و أنا أراه يخفي آثار أظافري على رقبته بكوفيه و هذه المرة أسوأ من سابقاتها .
لم أقل له إلا : "إلى متى تحاول أن تغطي الأمور بدل أن تجد لها حلاً؟ إلى متى تستمر بلف شرنقة الحماية حولي؟ لا أنكر أنك حاولت أن تحميني ممن حولي و لكن من يحميني من نفسي؟ أنا أعرف أن والدي هنا سمعتك تكلمه ليلة أمس، لماذا لا تريدني أن أذهب لرؤيته؟ اتصلت بخالي و أخبرني بما تخفونه.”
غضب مازن أسوأ من كل شيء لأنه لن يتراجع عما يقوله وللحق ليس هو فقط.. قطع كل أمل و هو يردد: "تباً مينة لا تنبشي بالماضي و تعيدي أشياء أبعدتكِ عنها.. و بماذا يهمكِ الموضوع إن كان هنا أو لا؟ هل تريدين أن تذهبي و تلقي نفسكِ بأحضانه أم تظنين أنه نادم لما حصل؟ لا يهمني إن حفرتِ أخاديد في جسدي، الشيء الوحيد الذي يهمني أن لا أفقدكِ، انسِي موضوع رؤيته نهائياً
خرج و تركني و أنا قد قررت ما أريده، لا يعرف إن كانت حركتي بخفة الفهد و أنا أتسلل و آخذ الرقم من هاتفه و هو نائم. استعنت بالمواصلات لأذهب لعملي لأن ذلك الدوار لم يفارقني وغرقت في محيطي الذي أجيد الغوص به و أكون أقوى هناك.. أنهيت آخر دراسة و سلمتها ثم اتصلت بعلي وطلبت رؤيته الساعة الحادية عشر صباحاً و أخذت باقي اليوم إجازة.
هل أحسد نفسي على وجوده معي؟ يقف بجانب سيارته بمعطفه الأنيق و نظرة التفاؤل التي لا تفارق عينيه..
الصور تتعاقب من نافذة السيارة لأشخاص من مختلف الأجناس و الألوان و هنالك لحظات تستحق التخليد حينها أدركت لماذا مونيا تعشق التصوير فهي ترسمها باحتراف بعدسة ودون فرشاة. جاءت على بالي ريتشيل أشعر بأن هنالك شيئا غامضا يحدث، العشاء الأخير.. العقد و قيمته الأثرية و المادية، كيف تحتفظ به في بيتها ألا تخشى من السرقة؟ و ليأتي أولئك المحققين فيزيدا الأمر حيرة.
حتى وجودهما غير مريح، هل من الممكن أنها اختُطِفت؟ لا لا غير معقول!.. لكن هل من المعقول أن يكون هنالك عقد بهذا القيمة في سوق شعبي؟
يبقى الأمل خليل، أرجو أن تكون في مغامرة قلب بدلاً من شيء سيء. ابتسمت و أنا أتخيل نفسي أتكلم مثل لين الرومانسية العاشقة، ربما سأسأل ديمة عن ريتشيل و لم أذهب إلى الآن لأطمئن على ابن خولة. ريتشيل لماذا ذهبتِ وتركتي كل هذا الغموض خلفك؟ كان الأمر ليكون طبيعياً لولا وجود المحققين.
قطع تفكيري صوت علي وهو يسألني : لماذا اخترتِ الهايد بارك في هذا الجو البارد؟ ألا تشعرين بالبرد؟ قلت له :أشعر بالاختناق أريد أن أتنفس الحياة .
شيء من الفرح يلوح على وجهه و هو ينظر لي بين الفينة والأخرى. وصلنا أخيراً و فعلاً الجو كان باردا لكن مريح .
جلسنا على أحد المقاعد و أناس متفرقون هنا و هناك مع نقاء اللون الأبيض للبجعات في البحيرة .
حاولت التزام الهدوء و اتخاذ طريقٍ للنقاش، فسألته :" هل تؤمن بوجود السعادة؟" أجابني بطمأنينة : "أؤمن بأن الإنسان يستطيع الوصول لها إن كان يريد ذلك و إن لم يضيع لحظة في البحث عنها
أجبته :"لماذا لا تدعوني أصل لها بإخفائكم الكثير من الأمور عني ولي الحق في اتخاذ قرار بها كي أحصل على الطمأنينة؟ لماذا لا تدركون إني لست ضعيفة لهذه الدرجة؟ لست أنكر الحب الذي تحيطوني به و خصوصاً أنت لا تترك لحظة إلا وتغدقني بمشاعرك التي لا أستطيع أن أواجهها و أهرب منها. أردتك أن تواجهني و تضع حدا لكل شيء لا أن تقف على الحياد و تحاول أن تجنبني عبور الطريق بدل أن أجازف وأعبره حتى لو كان شائك لكنه غير معبد بالهروب
نظر إلي ثم أشاح ببصره للأمام : "هنالك أمور يتوجب إخفائها و خصوصاً عنكِ ليس لأننا نراكِ غير قوية لكن أنتِ رقيقة و حساسة و مازلتِ تعيشين على أمل أن تصطلح الأمور.. رغم كل شيء لا تستطيعين أن تنكري أن بداخلكِ الكثير من المشاعر و لكنكِ تخافين التعبير عنها. كل مرة كنت تبتعدين عني أشعر بالغضب فأبتعد عنك أخاف أن أؤذيكِ حتى و لو بكلمة. أعترف أني لم أستطع التعامل معكِ لكن مازن كان دائماً و مازال يضع حاجزا بيني و بينك و ينبهني أن لا أثير مواضيع تذكركِ بالماضي"
و مازال الهدوء يسود في داخلي : "هل رأيت؟ كلاكما أخطأتما معي و لست وحدي من تأذى من هذه المتاهة، لماذا لم تخبرني أنك ذهبت لرؤيته قبل شهرين؟ أريد أن أعرف ما ذنبي في الأمر كله؟ لماذا كان يعاملني هكذا؟ هل كان يرى شيء خاطئا أقوم به وأنا لم أدرك ذلك؟"
أمسك بيدي و هو يرد علي : "لم أقل لكِ لأني أعلم برغبتك بالذهاب، أحببت أن أصحح الأمور لكن يبدو أن ما في قلبه لم تمحيه السنين، قال كلام أساء لي و لمازن و الأكثر لكِ"
ما زلت أتمسك بالأمل فقلت :"ربما أخطأنا بإخفائنا الأمر عنه منذ البداية، لا أستغرب أن تكون ردة فعله هكذا"
سألني وهو يضغط على يدي :"هل أنتِ نادمة على زواجكِ مني؟"
أجبته بسرعة :"رغم أني وافقت بلحظة واحدة دون تفكير لأني كنت لأفعل أي شيء لأجل مازن و هو سيدخل غرفة العمليات بسبب ذلك السائق المخمور لكن صدقاً لست نادمة،علي أريد أن أخبرك شيئا بما أن مازن أخبرك الكثير عني و أصبحت حياتي و روحي عارية أمامك لكن قبلها هل رأيت يوماً أي آثار أظافر على ذراعيّ مازن و ربما رقبته؟".
إبهامه يتحرك على باطن كفي و هو يجيبني : "نعم رأيتها وأكثر من مرة و سببت مشكلة بيننا لأني ظننت به سوءاً و لكنه أخبرني أن الأمر ليس كما أظن و هو أمر يخصكِ، فتركت الأمر و لم أسأل عنه مرة ثانية .”
سحبت يدي من يده و بسطتها أمامه و قلت له :"هل ترى هذه لا أتوانى عن إيذاء مازن بها، ألمي لا يفارقني حتى في منامي، كل مرة أرى نفسي أسقط بتلك الحفرة المظلمة الباردة و كلما أردت الخروج تكبر و تصبح أكثر عمقاً، أحاول أن أخرج و لكن هنالك من يسحبني من أقدامي ليعيدني إليها و لا تنفع تلك الأيدي التي أتشبث بها بكل قوتي فأعود لأسقط كل مرة لأجد صباحاً آثار تشبثي على ذراع مازن وأحياناً رقبته. أصبحت أرتدي القفازات في نومي حتى لا أؤذيه و لكن أحياناً أنساها فتكون النتيجة كما رأيت، فهل مازلتم تريدون أن تجنبوني الماضي وتريدون مني أن أسقط فيه أكثر؟"
حاول أن يضمني لكنى أبعدت ذراعاه و أنا أقول له بكل حرقة : "لا أريد الشفقة أو المواساة لأنني أمقتهما و بالذات منك و أنا لم أخبرك كي تفعل ذلك، أخبرتك لأني تعبت من إخفاء حقيقتي، أريد أن أرتاح و هناك تلك التشنجات التي تصيبني بعد كل كابوس فيضطر مازن معها أن يأخذني لطبيب نفسي، لكن لم ينفع الأمر
نظرت إلى وجهه فرأيت الصدمة ولم ينطق بشيء فأكملت : "أغلب الشرقيين يكون الطبيب النفسي بالنسبة لهم دليل على الجنون، لا يهم السبب الذي يضطر الإنسان كي يذهب إليه لكنهم يرونهم كالمرض المعدي . من حقك أن تتراجع عن مساعدتك لي لأني لا أريدها بدافع الشفقة."
ذهبت بعيداً كي أداري دموعي عنه لكني وجدته يتبعني، يقف إلى جانبي و هو يقول : "أغلب الشرقيين و ليس كلهم. لم تكن صدمتي مما قلته، و لكن على قدرتك على التعايش مع الألم و الاستمرار بالحياة كل هذه الفترة و حتى من قدرة مازن أن يكون دائماً إلى جانبك دون ملل لكن أعتب عليه لأن من حقي أن أعرف، حتى أكون معكِ لأنكِ شريكتي في هذه الحياة
رفعت رأسي و قوة كبيرة تنبعث بداخلي و قلت له : "يجب أن تقرر و تتخذ موقف إما معي أو مع مازن و رفضه لرؤية والدي؟ لأني قررت أن أنهي كل شي حتى لو لم يكن معي أحد. لم أعد أتحمل كل هذا الأمر و كرهت دور الضحية المظلومة."
أمسك يدي بقوة و هو يجيبني :"رغم أنك ستتأذيّن لكن أن كنتِ ترين أنه نهاية كل شي فسأكون معكِ و لن أتركك لوحدكِ مهما كلف الأمر. هذه هي مينة القوية التي عصفت بحياتي
رحلة العودة كانت بروح مختلفة داخلي و نحن نتبادل أحاديث مختلفة حتى وصلنا للعمارة فوجدته ينزل معي.. وصلنا للدور الثالث و فتحت الشقة فقلت له :" و الآن قد أوصلتني تستطيع أن تذهب لتلحق المحاضرة"
قبلني على خدي و هو يقول :"لدي وقت" فابتعدت عنه وقلت له ": ما الذي تفعله؟ فربما يرانا أحد من الجيران وربما آية الصغيرة التي لا يفوتها شيء."
دلف إلى الداخل و هو يجيبني: "أتمنى ذلك و لن تتوانى عن القول إن علي ابن فريدة يقبل مينة عند الباب ثم ما هذا؟ تطرديني عند الباب أين كرم الضيافة؟"
توجهت للمطبخ و سكبت له العصير و قبل أن أحمله شعرت بيده على خصري و هو يديرني باتجاهه و تلك النظرة تلوح في عينيه و يده تمتد نحو حجابي و ينزعه عن رأسي و يفك شعري و يغرز أصابعه فيه و هو يقول : "تمنيت أن أغفو في ليالي شعرك البهيم.. تحرقني نار الحياء التي تشتعل على وجنتيك كأني ملك و أنا أشعُر بعذرية مشاعركِ" اقترب أكثر فعرفت ما ينوي فعله، فتشنج جسدي من لمسته وأغمضت عينيّ و بدأت صور أخرى تختلط مع صورته، حاولت أن أمنع ذلك السد من أن يتحطم و يحطم تلك اللحظة.
أخيراً نجحت بالسيطرة على كل شيء و أنا أتخيل صورة علي فقط و أقول لنفسي ليس هنالك إلا علي الذي يحبني و لم يؤذيني يوماً ولن يشك بي .
شعرت به يغرقني معه بمشاعره التي أصبحت مشاعري وشيء ما يتدفق إلى قلبي بقوة و أنا أحيط ذراعيّ برقبته وأشعر إني جزء منه.. وضعت رأسي على صدره و تمسكت بقميصه بقوة و كأني أتمسك بملاذي و وطني يغرقني باحتوائه، نعم فهو جزء من وطني.
هل هذا قلبي أم قلبه لم أعد أميز بين دوي و آخر. أخيراً استطعت أن انطق بما يشبه الهمس :"ماذا عن الهدنة؟"
بصوته القوي ضحك بخفة :"لم يعد هنالك هدنة بعد أن شهدت انفجار بركان مشاعرك و تأكدت أن هناك مينة أخرى تخبئينها خلف تلك الواثقة القوية المصنوعة من الحجر."
أردتُ البقاء مع الشعر بالأمان لكن يجب أن أبتعد، فقلت له أن يذهب لأن مازن سيأتي بعد قليل و لا أحب أن يرانا هكذا .
شعرت بغضبه وهو يضرب الحائط خلفي بقبضته ويقول : "تذكري أني زوجكِ و أريد أن أفهم كيف ينقلب مزاجكِ بين لحظة و أخرى؟ أشعر كأنك إعصار مدمر، بالمناسبة سنذهب لرؤية والدكِ غداً لكن لا تخبري مازن و لا تحاولي أن تتصرفي من تلقاء نفسك، لأنكِ ستنهين كل شيء بيننا وصفق الباب وخرج .”
أشعر بالفرح و الحب يتفجر في قلبي، صرت أدور مغمضة العينين– صدق الطبيب عندما قال بأني غير متزنة نفسياً - وأنا أدندن.
أنا قلبي دليلي قالي حتحبي. شهقت و أنا أفتح عينيّ و أرى مازن يمسكني و نظرة حزن بعينيه و يقول: "فعلاً إن قلبكِ دليلكِ و وجد الحب أخيراً و لم يعد لي لزوم و لم تعودي بحاجة لمشاركتي حزنكِ أو فرحك، فعلي أصبح أولى مني
و كما يبدو أنساكِ غضبكِ صباحاً".. شعرت بالخجل ومددت يدي إلى شعري أرتبه و أمسح شفتي و أهرب بعينيّ بعيداً.
لكنه عاد يقول بانزعاج : "مرة ثانية لا لقاءات هنا ولوحدكما و إن كنتما لا تطيقان بُعد بعضكما و أمامي تتظاهران بالجفاء فيفضل أن تحددوا موعد زفافكما" .
هل مازن يغار؟ و منزعج من وجود علي؟ أليس هو من زوجني له؟ ابتسمت لفكرة أنه لم يعتاد أن يكون أحد قبله، هو كان ملجأي الأول و لا يعرف بأنه ما يزال .
عاد مرة ثانية ليقول: "إن كان قلبُكِ دليلكِ لماذا لم يدلكِ على سقوط عصبة النون العربية و توديع اجتماعات الجامعة العربية لأن ريتشيل سافرت البارحة إلى تركيا من أجل العقد، أخبرني الأستاذ نبيه صباح اليوم كما أخبر أم بسمة التي لم تبدو في حالة طبيعية
تركني في حيرتي وأصبح المطبخ يعج بأنواع المشاعر و أنا أردد ريتشيل سافرت؟ هل بقية الجارات يعرفن؟ و ديمة ما بها؟ ومازن انتظر للساعة الواحدة ظهراً حتى يخبرني.


**************



ديمة مصطفى

لأول مرة أفهم ما يقولونه في الروايات عن الإحساس بالاختناق وضيق التنفس وكأن جدراناً لا مرئية قد أطبقت فجأة على صدري فما عدتُ قادرة على التقاط أنفاسي.
في ظروف أخرى كنت لأرحب أيضا باختبار الشعور بفقدان الوعي في منتصف أحد شوارع لندن المكتظة علَ شيئاً من الضياع الذي أحس به يختفي قليلاً.. يتأجل على الأقل حتى وقت آخر أكون فيه أكثر استعداداً. لولا أنني ما كنت لأضمن بقاء عماد واقفا إلى جواري دون أن يستسلم لهوايته المفضلة في الهرب فور أن تفلت أصابعي معصمه ولولا أنني ومع الأسف الشديد لم أكن على الإطلاق من ذلك النوع الهش القادر على فقدان وعيه وقت الحاجة.
بالكاد ميزت طريق عودتي إلى البيت وأنا أشد عماد المتذمر بيد وأقبض على هاتفي بأصابع يدي الأخرى بقوة وكأن حياتي كلها متوقفة عليه. لم أرَ بائعة الزهور تلوح لي كالمعتاد عارضة عليّ شيئاً من أزهارها البديعة ولم أبالي باللافتة الكبيرة المعروضة على زجاج المكتبة معلنة عن وصول الكتاب الجديد لمؤلفي الأمريكي المفضل، حتى أنني تجاهلت صيحات عماد الهستيرية عندما مررنا جوار المخبز مطالباً بحصته اليومية من الفطائر الطازجة.
أريد أن أصل إلى البيت فحسب، أن أحتمي بين جدرانه الحميمة وأنسى نفسي في مساحة شقتي الضيقة. أريد فقط أن أجد شيئاً من الأمان، في أريكة شهدت ليال عائلية دافئة، على سجادة شرقية الألوان حيث تبعثرت ألعاب عماد عليها بفوضوية، في دفتر مذكرات بسمة الذي تخبئه بسذاجة تحت سريرها دون أن تعرف أنني أخرجه كل يوم لأقرأ ما خطته أناملها الصغيرة عن أحداث يومها وآمال مستقبلها.
في سريرٍ كما كان حلبةً استعبدت فيه أنوثتي تحررت فيه قوة المرأة داخلي وقد ظننت أنني اكتشفت فيه أقوى أسلحتي.
لم أعرف لم تذكرت في هذه اللحظة حادثا مرت عليه اثنتي عشر سنة، عندما استمعت إلى أمي صدفة تنصح صديقتها هاتفياً دون أن تفطن إلى استماعي إليها، توصيها بتكوين صداقة مع ابنتها واستدراجها لتثق بها فتحكي لها كل تفاصيل يومها مهما كان سخيفا كي تستدرك أي مشكلة قبل حدوثها.
جرحني ما سمعته يومها وطارت كل أوهامي عن متانة علاقتي بوالدتي مع الهواء عندما أدركت بأن استماعها لي وتفهمها لي لم يكونا سوى وسيلة رقابة أخرى إلى جانب ما فرضه علينا المجتمع، أحسست يومها بالهجران، بالضعف وانعدام الأمان كما أشعر الآن بالضبط.
أدركت فور أن دلفت إلى المبنى حيث أقيم أن أحدا يناديني، فالتفتت إلى الأستاذ نبيه الذي وقف أمام باب شقته المفتوح وقد أطل القلق من وجهه ومن وراءه ظهر مازن شقيق مينة الشاب، والذي يبدو لي دائما شديد الغموض بابتسامته الهادئة التي لا تختفي، عدا أن مسحة من القلق كانت تعلو وجهه هو الآخر هذه المرة وكأن شيئا يشغل باله.
قال نبيه مستعيدا اهتمامي من جديد :- هل أنتِ بخير يا ابنتي؟ ناديتكِ مرارا دون أن تسمعي ندائي، هل من مشكلة؟
هل أنا مكشوفة إلى هذا الحد؟ خمنت بأن وجهي يبدو شاحباً وأن عينيّ محدقتان كمن رأى شبحا لتوه، أعرف جيداً كيف أبدو في حالة الصدمة لذا افتعلت ضحكة مضطربة وأنا أقول له :- أنا متعبة فحسب، قطعت مسافة كبيرة مشيا على الأقدام وأتوق لأخذ قسطٍ من الراحة.
قلتها عله يختصر الحديث ويسمح لي بمتابعة هربي إلى ملاذي حيث أستطيع التقوقع حول نفسي بأمان ولم يبد عليه الاقتناع، إلا أنه قال بسماحة :- لن أعطلكِ إذن، أردت طمأنتك على ريتشيل وقد سألتني عنها هذا الصباح، لقد اتصلت بي لتوها معلمة إياي بسفرها المفاجئ إلى تركيا والأمر يتعلق….
لم أستطع استيعاب ما يقوله، كنت أهز رأسي مصدرة الأصوات الملائمة الدالة على متابعتي لحديثه قبل أن أعتذر منه فور إنهائه كلامه وأتجه إلى المصعد الكهربائي. تنفست الصعداء فور احتمائي بالمساحة الضيقة للحجرة الصغيرة بينما أخذ عماد يتقافز كعادته مستمتعا بانعكاس صورته على الجدران المغطاة بالمعدن.
لم يطل إحساسي بالسلام عندما فُتح الباب لتطل علياء برفقة آية الصغيرة كالعادة. ابتسمت تحييني بشيء من الابتهاج وهي تنضم إلي في المساحة الضيقة غير مبالية بمتابعة المصعد رحلته إلى الطابق الأخير حيث أقيم.
لاعبت آية عماد بينما ترمقنا بطرف عينها محاولة ألا تغفل عن كلمة من حديث والدتها المتعجب لغياب ريتشيل. فوجدت نفسي أجيبها بتوتر :- ريتشيل بخير، لقد أخبرني الأستاذ نبيه للتو عن سفرها إلى تركيا لأجل العقد الأثري على ما أظن، لا داعي لكل هذا القلق.
قطبت علياء قائلة بحيرة :- هذا غريب، ما الذي أراده رجلي الشرطة من سؤالنا عنها إذن؟
هتفت بنزق دون أن أشعر :- ومن يهتم؟ ألا تكفي همومنا كي نرهق أنفسنا بهموم غيرنا؟
ساد الصمت داخل حجرة المصعد في اللحظة التي فتح فيها الباب أمام باب شقتي وخطوت خارجاً وأنا أعتذر باضطراب :- أنا آسفة يا علياء، لم أقصد أن أكون فظة، أنا متعبة جداً من السير لساعات صباحاً، سأتحدث إليك لاحقا لنتباحث حول أمر ريتشيل، حسنا؟
كعادة علياء طيبة القلب، شع التفهم والتعاطف من عينيها وهي تهمهم موافقة. منحتها ابتسامة اعتذار أثناء انغلاق الباب وأنا أسمع آية تهمس لأمها :- هل طنط ديمة حامل؟
الـ شششششش الغاضبة من علياء. كانت آخر ما سمعته وأنا أفتح باب شقتي وأنفجر في ضحكة هستيرية وأنا أغلقه محررة عماد أخيرا من قبضتي. ضحكة هستيرية تحولت تدريجياً إلى بكاء هستيري وأنا أتذكر حديثي مع شقيقتي الكبرى مساء الأمس وغيرتي الشديدة وأنا أسمعها تبشرني فرحة بحملها للمرة الرابعة علها تنجب أخاً لابنها الوحيد. وابنتيها التوأمين. شعرت بالغيرة وأنا أتساءل عن ردة فعل إياد إن اقترحت عليه إنجاب طفل ثالث وقد افتقدت إحساسي بنمو بذرة زوجي داخل أحشائي، بفيضان مشاعري كلما أطعمت رضيعي من صدري، ببهجة مراقبة طفلي ينمو ويكبر، لم أحدثه بالأمر طبعا.. فالحرب الباردة بيننا لم تنتهي بعد وكما يرفض التنازل لمخاطبتي أرفض أنا الاستسلام وتوسله التواصل معي بينما قلبي يفيض بالشكوك والمخاوف..
لا! لم تعد شكوكاً، انزلقت لأتوسد الأرض مسندة ظهري إلى الباب رافعة هاتفي الحديث الذي اشتريته مؤخرا لأتفاخر به أمام رفيقات السكن في اجتماعنا الأسبوعي. فتحت ألبوم الصور و شغلت الفيديو القصير الذي صورته أنا بنفسي صباح اليوم.
صباح اليوم الذي يبدو وكأن دهراً قد مرَ عليه عندما كنت أسير الهوينة برفقة عماد في طريقي نحو متجر البقالة، فلمحت سيارة إياد من بعيد.
لم أكن متأكدة من السيارة لبعد المسافة، فأخرجت هاتفي وشغلت الكاميرا مقربة الصورة إلى أقصى حد ولقد كان هو داخل السيارة... ولم يكن وحيدا.
أقفلت الهاتف وأرجعت رأسي إلى الوراء بإعياء، لطالما كنت امرأة عقلانية ولم أستسلم قط لثورة مشاعري، لم أسمح أبدا لهرموناتي النسائية أن تسيطر عليّ. عقلانيتي هذه ما أبقاني مكاني أسجل بثبات ما أراه.. والآن وأنا أراجع الفيلم القصير الواضح للغاية أعرف يقينا وبدون أي ذرة من الشك، ضائعة دون أن أعرف خطوتي القادمة... بأن إياد يخونني.


*****************



علياء عبد الحميد

:- علياااااااااااااااء
:- ماماااااااااااااا
صرخت بهما :- اصمتااااااااااا .
هدأ سمعي من صخب الصراخ، ما أجمل السكون، بين تنفس أمي المنفعل في أذني ووجه آية المتوهج والثائر وقد استلمت كلا منهما أذن من أذني ليبدءا معاً مهرجان الصراخ للجميع، لم أجد أمامي إلا الخيار الأسهل وهو ( أضربْ المربوط يخاف السايب ) هو مثل لا يليق أن يدرج بحضرة أمي في مرمى الحديث ولكنها لم تترك لي مجالا آخر منذ وصولي من الخارج واتصالي بها عبر الإنترنت وهي لم تكف عن الصراخ بأذني المسكينة دفاعاً عن ابن أختها المبجل
:- آية إلى غرفتكِ وإلا لن تذهبي إلى لين.. رأسي سينفجر منكِ .
هكذا صرخت بآية لتدب الأرض بقدميها وتصغي مرغمة حانقة إلى ملاحظتي الأخيرة لأعود بعدها لأمي كي تكمل وصلة توبيخها لي عبر الأثير .
:- لِمَ تصرخين بابنتكِ؟ أنتِ تحتاجين للتربية مثلها، لا تختلفين عنها كثيراً .
أخذت أنظم من تنفسي لكيلا ينفلت زمام غضبي من بين يدي فحسبتني لا أصغي إليها فعادت لصراخها بأذني :- لِمَ خرستِ ها؟ هل ربيتك على هذه الأفعال الصبيانية؟ أنا هدى ابنتي تتلاعب بزوجها بهذه الطريقة؟
:- أمي.
:- استمعي إلى أولاً حتى أكمل كلامي، هل نسيتِ في لندن قواعد الأدب يا بنت عبد الحميد؟
صمت وأنا أناظر الأكياس القابعة بجانبي بتوعد
:- أكملي أمي ولكني ستستمعين إليّ بعد هذا حتى النهاية .
:- لا تهدديني يا بنت عبد الحميد، أنا سأستمع إليكِ عندما تعودي ابنتي التي ربيتها.. تثيرين غيرة زوجك بعصام يا علياء يا زينة النساء.. عصااااااااام يا علياء؟!
أخفضت حدة صوتها قليلاً لتقول :- ما حكاية مبيتك بغرفة آية؟ ماذا حدث لكِ؟ هل تبحثين عن خراب بيتك بيدك؟ .
:- أمي هل انتهيتِ؟
:- لا!
:- اتركِي لي مساحة لأتكلم وبعدها أكملي كما تحبين.. أمي أنا متزوجة منذ ثمان سنوات وأشعر أني أعيش مع عمرو مثل الروبوت.
صاحت مستنكرة :- روبوت.. أتعلمين أنتِ لا تريدين زوجا كعمرو المستقيم، تريدين زوجا لا تدركين أولك من أخرك معه، هل ذنبه أنه إنسان جاد ومجتهد في عمله ماذا تريدين يا علياء؟
:- أريد أن أحيا مثلكِ، انظري كيف يقدرك أبي منذ طفولتي وأنا أرى عيناه تفيضان بالحب لكِ، أما أنا فلا أشعر أني متزوجة، بل خادمة تطعم وتنظف وتمرض دون اعتناء أو اهتمام وعندما أثور قليلاً فقط قليلاً، يتصل ليشكوني لكِ، لمَ تأخذين صفه دائما؟
اختنق صوتي بالبكاء لأردف بعدها :- ألم يخبرك عن صفاء؟
:- ما بها صفاء ابنة خالتك؟
:- تناول معها الفطور ولم يخبرني، أخفى الأمر عني هذا هو التعبير الأصح؟
:- يا غبية أنا من بعثت صفاء إليكم باللوحة، بمناسبة عيد زواجكما لأنها ذهبت إلى لندن في رحلة جوية طارئة، ألم تعطيه لكِ؟
:- افهمي يا أمي، أعلم أن صفاء مضيفة ويمكنها المجيء للندن في أي وقت ولكنه أخفى الأمر عني، ألا تجدين في ذلك ما يثير الريبة وصفاء منذ الصغر تهيم به حباً؟
ضحكت بسخرية وهي تقول :- أولاً ابنة خالتك جميلة ومهذبة، لا تحتاج إلى اختطاف رجل متزوج ثانياً من تزوجها بالنهاية يا نكدية؟ تزوجك أنتِ، أليس كذلك؟ كنتما أمامه لِمَ أختارك وتركها؟
:- لأنه متأكد من مدى حبي له.
قلتها بصوت منتحب لأنفجر بعدها في البكاء وأنا أصيح بها : أمي أنا بت أكره حياتي معه، سأعود لمصر، لا أطيق النظر لوجهه بعد الآن .
تسلل الحنان لصوت أمي عند سماعها لصوت بكائي لتكمل : لا تبكي يا حبيبتي أنا لا أحتمل دموعك .
جذبت قابس الكهرباء لينطفئ الحاسوب بأكمله وانهرت في بكاء مرير كعصفور علق في شباك صائده يحاصرني من كل جانب، يجب أن أكون كما يحب ولو بلي الذراع، حسناً يا عمرو إلى هنا وكفى .!
بغل أمسكت أكياس المشتريات التي ابتعتها للتو واتجهت إلى غرفة النوم لأقذفها بها فتناثرت محتوياتها ذات الألوان الصارخة في أرجاء الحجرة، لا يستحق أياً من هذا لا يستحق حبي!
ابتهلت في سري " يا رب ألهمني الصواب، يا رب انزع حبه من قلبي إن كان سيشقيني هكذا "
انتبهت وسط دموعي لرنين الهاتف وناديت بصوت مرتفع : آية أجيبي ولو كانت جدتك أخبريها أنني في الحمام .
وبالفعل ذهبت لأتوضأ وأهدئ من روعي قليلاً وإذا بمجريات يومي منذ الصباح قد طفت أمامي.. منذ استيقظت لأوقظ آية وتعللها أن حلقها يؤلمها، وجدته قد غادر مبكراً لم ينتظر ليطالب بالإفطار كعادته فأجلست آية كما أرادت ولم أذهب بها لمدرستها رغم يقيني من كذب ادعائها ولكني أردت التفرغ كالغبية لشراء هذه الأشياء من أجله، تذكرت ديمة وبؤسها وهي تخبرني عن سفر ريتشيل في المصعد، ترى لِمَ كانت مُطفأة هكذا؟ لطالما كان بريق أنوثتها ودلالها يخطفان الأبصار ، ماذا ينقصها لتكون بهذه الحالة؟ سخرت للحظة من نفسي، فهل ظننتني مركز الكون الهموم كما الأرزاق تقسم بالتساوي على البشر ، ترى ما يحزنك يا ديمة؟ اللهم فرج همي وهمها.
دق الباب فذهبت لأفتح وأنا أتلفت حولي بحثاً عن آية، فوجدت غرفة المكتب مضاءة فتحت الباب فهالتني المفاجأة باقة صغيرة من الزهور الحمراء تقبع بهدوء أمام شقتنا ولفافة أنيقة تسكن بجانبها، لم أجد من وضع هذه الأشياء فأغلقت الباب وقد لفني التعجب ،من فعل هذا يا ترى؟ لم أجد بطاقة مرفقة بالورود ولكن مهلا هذه زهور التيوليب الحمراء. شهقت بسعادة! عمرو هو من بعثها ألا يزال يتذكر غرامي بتلك الزهرة الرقيقة؟ ضممت الباقة الصغيرة إلى قلبي وقد شعرت أن كل غضبي قد تلاشى وتبخر ، يكفي أنه لا زال يتذكر مغامرات الطفولة حين كان يقتطف لي زهور التيوليب من مزرعة جدتي وأنا أقص له عناقيد العنب كي يأكلها دون غسيل من تكعيبتها النضرة، كانت أياما جميلة ولكنه منذ ارتاد المدرسة الثانوية وارتدى هذه النظارات الطبية وقد تغير كثيراً، ألا تشتاق لمزرعة جدتنا يا عمرو؟ .
فضضت اللفافة فلفني العجب مجدداً، ما هذا؟ منذ متى وأنا أحب هذه الألعاب الإلكترونية ليهديني بها عمرو؟ لابد من أن باقة الزهور لي واللعبة لآية، انزلقت بطاقة من الغلاف فقرأتها:
أتمنى أن تعجبك يا آية كما أتمنى أن نظل أصدقاء .
صديقك وليد.
:- وليد... من وليد هذا؟
تسللت إلى غرفة المكتب وفي نيتي الانقضاض عليها... من وليد هذا الذي يراسلها بزهور حمراء منذ الآن وهي بالسابعة؟
:- أنت بطل في السباحة أيضاً!
شهقت آية وهي تكمل :- وأنا أريد أن أكون بطلة مثلك يا وليد.
كانت تتموضع خلف المكتب في مقعد والدها الدوار وهي تلف به يميناً ويساراً وقد احتواها تماماً، فلم تلاحظ دخولي:
:- لا! ليس لي أشقاء، مثلك أنا وحدي فقط ولا ألعب مع أحد، أمي تتشاجر الآن مع جدتي .
:- لي أصدقاء بالتأكيد لين و بسمة وأيمن وأشرف وأسعد، سأحكي لك عنهم، فأنا أحبهم كثيراً ولكني أشتاق لأصدقائي في مصر .
:- لعبة الكترونية.. من أحضرها، أنت؟!
التفتت نحوي لتجدني أحدجها بنظرات مخيفة وجدتُ أثرها في وجهها، فصرخت بها قائلة : آية يا بنت عمرو!.
ارتعدت دون أن تترك الهاتف وقالت :- ما بكِ أمي؟ لم أفعل شيء.
دون مقدمات صفعت الهاتف في وجه المتحدث وأنا أشير لها باللعبة وباقة الزهور وأصرخ بها :- مع من تتحدثين دون أن تخبريني؟
جرت نحوي وقد التمعت عيناها ببريق فرح طفولي وجذبت اللعبة الإلكترونية من يدي وهي تصرخ ببهجة :- لقد أحضرها وليد! حقاً يا أمي، لأن لعبته أعجبتني بالأمس .
جذبتها من يدها فتأوهت متوجعة وأنا أسألها من هذا الوليد، فأجابتني أنه طفل لبناني بالصف السادس يعيش مع أسرته قرب حينا وقد تعارفا بالمطعم أثناء تناولنا الإفطار بالأمس وتبادلا أرقام الهاتف .
أخذت اللعبة منها وأنا أتجه نحو غرفتي فوضعتها في خزانة الملابس ثم أخبرتها بحزم :- لن تكلمي وليد هذا بعد الآن وسنعيد اللعبة إليه، هذا أمر منتهي .
لم ترتدع بل أخذت تصيح بي :- ولِمَ لا أراه؟ أنا مللت منكما، لا أحبكما أنتِ ولا بابا لم تحضرا لي أخوة مثل بسمة وعماد ومثل أشرف وأسعد، أنا وحدي حتى وليد له شقيقة اسمها حلا هو أخبرني أنني أجمل منها ويريد اللعب معي لأنها مزعجة وتفسد له ألعابه، حتى لين صديقتي لم تذهبي بي إليها لنشاهد الفيلم الذي أحبه .
صراخها تحول إلى شهقات مكتومة ثم إلى انفجار صاخب وهي تقول : أريد العودة لتيتة رئيسة، لا أحبك!
هربت بعدها من أمامي لتعتصم في مكان غضبها الرسمي خلف باب حجرتها .
تجولت بالشقة وبكاء آية يصل لمسامعي، هل أذيتها كثيراً إلى هذا الحد؟ هل تأخيري للحمل من أجل دراستي أنا وعمرو كان أنانية مني.. آية تكرهني!
لم أطق الفكرة، فهرولت إلى غرفتها لأجثو بجانبها وقد أغرقت الدموع وجهها الصغير فتحت لها ذراعي فارتمت بحضني وهي تكمل وصلة بكائها التي أعلم أنها لن تنتهي بسهولة.
همست لها : هل تكرهين ماما يا آية؟
هزت رأسها نافية وما تزال تدس رأسها بقوة في صدري، رفعت وجهها الباكي بعدها وهي تشهق قائلة : أنا آسفة يا ماما .
احتضنتها بقوة كأني أريد إدخالها بين أضلعي، لو لم تكن موجودة هل سيكون لحياتي معنى؟ ثمان سنوات لم أهدرها هباءاً لأنكِ في حياتي يا آية .
قبلت كل موضع بوجهها الصغير وقلت لها :- هيا لنذهب سوياً إلى لين، ألا تريدين مشاهدة الفيلم واللعب معها .
احتضنتني بقوة وهي تصيح فرحاً وذهبت مهرولة لخزانتها كي تبدل ثيابها وأنا أيضاً ذهبت لأرتدي عباءتي، فتحت الخزانة وأنا أخفي أكياس المشتريات، فلمحت الصندوق الصدفي للبروش، أغلقتها مجدداً وقد التمعت الفكرة القديمة في رأسي وأنا أناديها.
:- هيا يا آية هل انتهيتِ .


*******************



لين الطاهر

على صوت موسيقى مألوفة فاستيقظت من نومي و أنا أحاول فتح عيناي لأعرف مصدر هذا الصوت بينما عقلي يعمل و يحاول أن يدمج بين هذا الصوت و شيء ما في ذاكرتي، حتى تمكنت أخيراً من رؤية هاتف راشد الموضوع على المنضدة البعيدة بجواره و صوت المنبه يعلو شيئاً فشيئاً، عرفت من شكل السرير بجانبي أن راشد قضى الليلة هنا لكنني لم أشعر به و هو ينام بجواري مع أنني تقلبت في السرير كثيراً حتى داعب النوم جفوني لأنام بعدها دون أن أشعر بما حولي .
تساءلت في نفسي، ترى متى جاء للغرفة و متى استيقظ؟، كنتُ أسمع صوت استحمامه في الحمام، فأدركت أنه ربما يكون على موعد أو يجب أن يخرج باكراً كعادته، أطلقت تنهيدة و نفضت غطاء السرير لأذهب إلى الحمام الآخر، فأغتسل لأحضر القهوة لراشد .
كنتُ أصب القهوة في الفنجانين و أرتب بعض حبات الشكولاتة و قطعاً من الكعك ليتسنى لراشد تناول شيء من طعام الإفطار قبل خروجه المبكر حين شعرت به واقفاً خلفي و هو يمد يده لفنجان القهوة و يتناول قطعة من الشكولاتة دون حتى أن يسمعني تحية الصباح المعتادة.
استغربت جداً منه و أدرت نفسي لأواجهه فرأيت علامات الإرهاق والتعب بادية على وجهه العابس و قد سرح شعره المبلل إلى الوراء دون أن يجففه و ارتدى قميصا أسودا وسروالاً أسودا أيضاً. شعرت أنه مخيف حقاً بمزاجه الأسود هذا و ارتأيت ألا أحادثه بأي موضوع أو أن أسترجع معه أي من كلامه الذي أطلقه نحوي البارحة.
رفعت عينيّ لعينيه و حاولت رسم ابتسامة على شفتي والتي رغماً عني كانت باهتة و قلت له :
- صباح الخير راشد.
حرك شفتاه و هو يرتشف من قهوته بهمهمة ربما كانت رداً على تحيتي، لكنني لم أيأس و شعرت بالشفقة على حاله وتعبه، فما كان مني إلا أن اندفعت قائلة :
- لم لا تأخذ اليوم إجازة لك راشد.
لم أكد أنتهي من جملتي حتى رأيت نظراته الساخطة تنصب على وجهي لتحرقني بغضبها، فأتبعت كلامي بتبرير ودفاع :
- أقصد أن ترتاح من تعبك.... إجازة لك أنت من عملك المتواصل....يعني... أقصد.. أن ترتاح...أنت...لك راشد.
كنت في كل نظرة مستعرة يلقيها نحوي أحاول أن أغير الكلمة أو أعدلها لتناسب مزاجه، لكن يبدو أن كل ما أقوله لن يناسبه أبداً اليوم.. فهو سوداوي المزاج لدرجة مخيفة.
صمته أرهقني و أتلف أعصابي و أنا أحاول ألا أنظر إليه، شعرت أنني أستفزه دون حتى أن أعرف لماذا أو كيف! فقررت أن أخرج من المطبخ لأتوجه إلى غرفتي قبل أن يخرج عن صمته ليرشقني بكلمات لا أعرف حقيقةً لمَ يتهمني بها، وقبل أن أحمل فنجان قهوتي لأخرج سمعت هاتف راشد يرن ليلتقطه و يرد على المتصل، كان واضحاً جداً التحول في صوته و مزاجه من النقيض إلى النقيض، كان في البداية حازماً قليلاً لكنه سرعان ما تقبل الفكاهات التي يطلقها الطرف الآخر، كان هذا واضحاً من ضحكاته القصيرة المجلجلة، لم يحتج الأمر مني للتفكير لأعرف أن المتصل لم يكن سوى الدكتورة رشا!
بقلب كسير خرجت من المطبخ دون حتى أن أحمل فنجان قهوتي لكنني قبل أن أخرج حدجته بنظرةٍ طويلةٍ عاتبةٍ متألمةٍ أسرت عينيه، لم يرمش و هو يتأمل عينيّ العاتبتين، لحظات مضت شعرت فيها أنه لم يركز مع من تحادثه لأنه تقدم نحوي بخطوة بينما الهاتف ما يزال على أذنه، تراجعت خطوة بدوري قبل أن أغادر نحو غرفتي و قلبي منفطر مما سمعت و رأيت من راشد، دخلت غرفتي وأغلقت بابي غير عابئة بما سيحدث أو بما سيقوله عني أو بما سيتهمني به، هو أطلق علي الأحكام جزافاً دون أن يستمع لأسبابي أو حتى دفاعي، هو القاضي و هو الجلاد، فلا فرصة لي لأشرح أو لأوضح دوافعي، شعرت بالغبن و أنا أجلس رويداً رويداً على أرض الغرفة و صدى ضحكاته مع تلك الدكتورة يتردد في أذنيّ، أي ذنب اقترفته حين أحببت أن أزوره في مقر عمله؟ يكيل لي الكلمات بالأمس لا لشيء إلا لأنني أردت قضاء النهار معه، جرحني و بشدة ثم تركني ليعود دون حتى أن يهدأ غضبه و يرفض العشاء الذي جهزته، " آه يا حسرة قلبك يا لين!" بل يرفض جلوسي معه للعشاء، ومن ثم يستيقظ بمزاج أسود سرعان ما يتبدل حين تحادثه تلك الرشا.
لم تنفع قهوتي و لا حتى تحيتي في رسم ابتسامة على شفتيه أو حتى محو علامات الغضب من عينيه، لكن مكالمة منها تجعله يضحك .
لماذا؟ لماذا أشعر بكل هذا الألم في صدري؟ لماذا أشعر أنني لا أستطيع أن أتنفس؟، أستغفر الله العظيم، يا الله أشعر أنني حزينة جداً، قلبي لا يحتمل كل هذه القسوة منك راشد، لماذا تزوجتني إن كنتُ لا أعجبك أو كانت تصرفاتي لا تتناسب معك؟ لماذا لا تدرك أنني لا أتقصد أن أضايقك بينما أنت تجرحني و تقسو عليّ دون أن تهتم!!
صوت طرقة خفيفة على بابي أجفلتني لأسمع راشد يقول بصوت عادي :
- أنا ذاهب يا لين، عندي عملية صباحية و عندما أعود سنتحدث.
انتظر دقائق قصيرة قبل أن يعاود الطرق ليقول:
- هل سمعتني يا لين؟
أجبته مضطرة فقط ليبتعد و يذهب، فأنا لا أريد أن أراه الآن، لكن صوتي الخائن خرج هامساً خافتاً:
- سـ مـ عـ تـ ـك.
سمعته يتنهد بملل قبل أن يضيف:
- سأحاول ألا أتأخر عن الساعة الرابعة.
سمعت صوت خطواته المبتعدة و أنا أغوص بين طيات الأغطية في سريري لأعاود النوم و أختبئ من كل تلك الهموم التي أثقلت صدري.
في تمام العاشرة صباحا كنت قد استيقظت أكثر نشاطاً وأفضل حالاً، فلقد حاولت عدم التفكير كثيراً بالموضوع وألهيت نفسي بترتيب غرفتي و تنسيق بعض الأزهار التي جففتها في مزهرية جميلة لأضعها على طاولة المطبخ، ثم قررت أن أستحم لأصبح أكثر انتعاشاً و قد خطرت لي فكرة جعلتني أبتسم من كل قلبي.
حين أكملت ارتداء ملابسي، طلبت على الهاتف جارتي علياء لأطلب منها أن تشرفني ابنتها آية بزيارتي فنحضر معا فيلماً جميلاً أحضرته من محلات ديزني، علياء جارتي رغم تحفظها الشديد في علاقاتها و رزانتها الواضحة و غموضها فيما يتعلق ببيتها إلا أنها و لطيبتها و أمومتها و حنيّتها لا ترفض لي طلبي حين أسألها أن تزورني آية، أدرك تماماً أنني ربما أكون الوحيدة التي ستسمح لابنتها آية أن تزورني فقط لأنها تراعي أنني في غربة بعيدة عن أسرتي و أنني أجد في آية أختاً صغيرة أفتقدها و أشتاق إليها.
محظوظة أنا بجاراتي، يا الله كم يجعلن يومي بهيجاً سعيداً لمجرد التحدث إليهن، أتمنى من كل قلبي أن يجدن السعادة في بيوتهن مع أزواجهن و أطفالهن، فهن يشعرنني دائما بالاهتمام و يراعين صغر سني و حداثة زواجي بأسلوب عائلي دافئ، أرتاح معهن و أحب أن أكون برفقتهن، تعلمت منهن أن الزواج علاقة مقدسة ليست للأحاديث الصباحية ولا حتى للجمعات النسائية، يلتقين ليتحدثن في كل شيء، لكل منهن حديثها الممتع و المفيد، لا أجلس مع إحداهن إلا و أخرج بفائدة أو إدراك لشيء جديد، أحاديثهن دائما تكون بعيدةً عن الخصوصية لكل منهن، احتراماً و تقديراً لاختلاف حياة كل منهن عن الأخرى، لم أرَ وعياً و فهماً للعلاقات متفقاً عليه بالإجماع الصامت كهذه الخصوصية لكل منهن.
ربما لهذا السبب هن متفقات و قلوبهن تقطر حناناً و كرماً وتفهماً، خولة صديقتي الطيبة "المحققة" تشرح لي رؤيتها لما حصل في حرب الخليج و المخطط الأمريكي لاستنزاف ثروات الوطن العربي بتسلسل للأحداث و بدلائل منطقية عجيبة لم أعتقد أنها من اهتماماتها، أبهرتني بعمق إدراكها و لم تكن نظرية المؤامرة التي تبنتها إلا بأدلة وبراهين اكتشفتها من قراءاتها المتعددة و بحثها المستمر عن أدلة وبراهين تدعم نظريتها التي تؤمن بأنها موجهة نحو الوطن العربي الغالي، أما ديمة فهي بعد الأستاذ نبيه من تقدم لنا ملخصاً عن آخر كتاب و فيما إذا كان يستحق القراءة، ولأنها تعرف أنني أجيد اللغة الانجليزية أيضاً تناقشني في أسماء بعض الكتّاب ورواياتهم و أجمل ما كتبوا، مفكرة رائعة و متميزة هذه الديمة، بل عاصفة من أفكار المدارس الأدبية المختلفة، ثم مونيا حبيبتي، أم حبيبي أيمن أراها الأكثر تفهماً لي، لا أعرف لمَ أشعر بعينيها تحكي لي حكاية، تريني ما تصور ببراعتها ومهارتها غير المسبوقة في نظري، أشعر أنني أقتحم عالمها بموافقتها التامة و ابتسامتها المشرقة، دائماً توجهها نحوي بتفهم أخوي اشتقت له جداً، تلقي لي بكلمات رنانة مختصرة أظل أفكر فيها حتى بعد عودتي لبيتي، سرحت بعدها بمينة و أنا أفكر كم هي دافئة ابتسامتها رغم نظراتها الحزينة التي تطل من عينيها، عندها غموض في حياتها أحترمه رغم أنني أتمنى أن أكون صديقتها المقربة، أما ريتشيل فإنها صديقة لطيفة و تشعرنا بأنها تحب رفقتنا بدعوتها الأسبوعية لنا حيث نلتقي في بيتها لتجمعنا أحاديث متنوعة نتسلى و نستمتع بها.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر حين قررت الاتصال براشد لإخباره عن زيارة آية، فسيادته يجب أن يتم إبلاغه بكل شيء، فكرت قليلاً و ارتأيت أن أرسل له رسالة بدلاً من مكالمته فربما لا يزال في مزاجه الصباحي.
فكتبت له :
- " يعطيك العافية راشد، بتمنى ما أكون أزعجتك، بس كنت حابة أخبرك إني طلبت من جارتي علياء أن تسمح لآية ابنتها بزيارتي لنتسلى معاً، دير بالك على حالك و حاول ترتاح و تأكل سندويشة و تشرب كاسة عصير "
انتظرتُ ردّه بفارغ الصبر علّ مزاجه المتعكر يكون قد أصبح أفضل، و ربما يبتسم، أو ربما يرسل لي برد يعبر فيه عن استيائه لما بدر منه، تنهدّت في حزن و أملٌ كبير يداعب قلبي، رنة وصول الرسالة أيقظتني من أحلامي لأنظر بلهفة إلى الرسالة و أقرؤها بلهفة:
- “ok”
بكل غباء قلّبت الهاتف بيدي علني لم أفتح صندوق الرسائل كما يجب، لكنني و بذهول أدركت أن الرسالة التي وصلت هي فقط و لا غير "ok"، يا الله لم أنت قاسٍ هكذا؟، يا ربي ماذا أفعل؟ و كيف أتفاهم معك؟
قررت أنني لن أفكر بالأمر و سأستمتع بوقتي و أستقبل حبيبتي آية بأحلى ابتسامة . قمت على عجل لأحضر بعض الحلوى و حليب الشكولاتة الساخن اللذيذ بعد أن أخبرتني علياء أن آية متغيبة اليوم عن مدرستها لأنها تعتقد أنها تعاني من التهاب في حلقها.
جلستُ و آية على السجادة الوثيرة ننتقي سويةً الفيلم الذي سنشاهده معاً و أنا أحكي لها باختصار قصة كل فيلم لنختار الأكثر إثارةً و حماساً من بينهم وأخيراً وقع الاختيار على فيلم ( Tangled ) . كانت تخبرني أنها و بسمة تحبان جداً أفلام الكرتون فوعدتُّها أن نعقد أمسية جميلة خاصة لحضور أفلام الكرتون أنا و هي و بسمة و عماد و أيمن. إذ لم يكن ذلك ممكناً اليوم لوجودهم في مدارسهم. نظرت لي قبل أن تقطب جبينها بتفكير و هي تقول بحيرة ظهرت في صوتها الناعم:
- " تعرفي إن طنت ريتشيل مش موجودة في العمارة؟"
ثم رأيت اتساع عينيها الجميلتين لتكمل و بطريقة مسرحية كمن يكشف سراً خطيراً :
- " تعرفي إنها سافرت تركيا؟ "
هذه المرة أنا التي اتسعت عيناها من المفاجأة، لم أكن أتوقع أبداً أن تسافر ريتشيل دون أن تودعنا أو أن تخبرنا و لو هاتفياً برحلتها، هل حدث شيء أرغمها على السفر؟، هل أصاب أحد أفراد أسرتها هناك مكروه ما؟، ثم هل سافرت حقّاً دون إخبار أي من الجارات؟، لابد و أنها قد أخبرت أحداً، لقد كنا في زيارتها قبل يومين فقط .
أيقظتني آية من شرودي وهي تناديني بحماس لأجلس بجانبها على الأريكة الكبيرة لنشاهد الفلم الذي كان قد بدأ عرضه.
كانت آية مبهورة بأحداث الفلم التي تحكي قصة مغامرة رابونزل في رؤية العالم الخارجي حقيقةً و واقعاً وليس من نافذة البرج العالي الذي حبستها فيه تلك الساحرة الشريرة والتي اعتقدت رابونزل أنها والدتها.
كانت نظراتي تنتقل من شاشة التلفاز نحو آية بين فينة وأخرى و أنا سعيدة جداً بمراقبة استمتاعها الكامل بتلك الألوان البراقة ويدها تنقل الفُشار الساخن من الطبق الذي أمامها نحو فمها الصغير بعشوائية بريئة، كانت تبتسم بطفوليةٍ في كل مرةٍ ترى فيها السحلية الخضراء الصغيرة .
حادت عيناي نحو الساعة لأجدها تقارب الثانية عشر والنصف، تذكرت أن علياء ستمر لاصطحاب آية في تمام الواحدة كما أخبرتني. التفتُّ مجدداً نحو التلفاز لأشاهد المشهد الختامي في الفلم حيث المدينة بأسرها تحتفل ابتهاجاً بعودة أميرتها المفقودة.
امتدت يداي لتداعب شعر آية بحنان شديد لأسألها بلطف:
- هل أعجبك الفلم يا آية؟
هزت آية رأسها بسعادة حقيقية و هي تقول بحماسها الذي يدب الحياة في أكثر الأشياء بروداً:
- " أوي أوي أوي يا طنت لين، ده جنان بجد، عجبتني رابونزل و شعرها الطويل و عيونها اللي بتبرق"
أخذت نفساً بطريقةٍ طفولية و هي تكمل بحماسٍ شديد :
- " و أكتر حاجة حبيتها وعايزة أشتري زيّها لمامي علياء هي المقلاية اللي بتضرب بيها كل الوحشين " .
ضحكت من أعماق قلبي بطريقة لم أفعلها منذ مدة وهمست بأمنية أعرف أنها مستحيلة :
- يااااه يا آية، ليت كل فتاة لديها مقلاة رابونزل التي تقوّم كل اعوجاج في تفكير الرجل .
اتسعت الابتسامة على وجهي و أنا أتخيل نفسي و أنا أضرب راشد بمقلاة رابونزل في منتصف وجهه النكد علّني أساعده في رسم ابتسامةٍ تظهر فيها أسنانه التي تكون قد تحطمت أو على الأقل أفسد ابتسامته التي لا تظهر إلا عندما تكلمه تلك الرشا.
لا أدري لمِ هذه الأفكار أرسلت الهدوء إلى أعصابي و كأنني أنتقم من راشد بطريقتي الخاصة، لم أكن أعتقد أنني أخضع لمراقبة حثيثة من عينين طفوليتين اتسعتا لتحتلا معظم وجه آية و هي تسألني ببراءة:
- "إنتِ كمان عايزة مقلاية يا طنت لين؟ "
فرقعت ضحكتي التي انطلقت بقوة و أنا أرى علامات التفكير العميق التي لا تتوافق أبداً مع الوجه البريء الذي كانت ترتسم عليه و هي تردف:
- " أنتِ في حد مزعلك يا طنت لين؟ و عايزة تدّيله في المقلاية عدماغه؟"
لم أعد أتمالك نفسي من كثرة الضحك و أنا أتخيل ضرباتي هذه المرة تنهال على رأس رشا، و صرت أضحك كالمجنونة وأنا أراها تتهاوى في مخيلتي حتى تلوث معطفها الأبيض بغبار الأرض.
احتضنت آية بقوة و حنان شديدين و أنا أقبلها و أقول بصدق :
- متى سيمن الله عليّ بنعمة عظيمة مثلك يا آية، حماك الله و حفظك من كل مكروه، اللهم آمين.
شعرت بيديها الصغيرتين تبادلاني الاحتضان و هي تسألني مجددّا:
- " إنتِ بتحبي العيال أوي يا طنت لين صح؟، حتجيبيهم امتى؟ ".
انتصبت واقفة و أنا أمسك بيدها كي ندخل المطبخ حيث ينتظرنا حليب الشكولاتة و أنا أجيبها و الابتسامة لا تفارق شفتاي:
- العلم عند الله يا حبيبتي.
ساعدتها في الجلوس و أنا أضع أمامها كأس الحليب لترتشف منه و حاجبيها معقودين بتفكير جديد ثم قالت:
- " طب أنا عايزة أطلب منك طلب يا طنت"
أثارت فضولي هذه الآية و وجدتُ نفسي أقول لها:
- ما هو حبيبتي؟
لتجيبني برجاء في عينيها :
- " ممكن يعني لما تجيبي عيّل تسميه وليد؟!"
اتسعت عينايَ دهشةً و أنا أسألها بفضول يشبه رجاءها:
- ولماذا اسم وليد بالذات يا آية؟
و قبل أن تتمكن آية من إيجاد إجابة مقنعة، كان جرس الباب مقاطعاً لهذا الحديث ليعلنَ عن وصول علياء لاصطحاب ابنتها.
تبادلتُ و علياء عبارات الشكر والترحيب بحرارة، فأنا كنت ممنونة جداً للوقت الجميل الذي قضيته مع ابنتها و هي بدورها كانت شاكرة لي لأنها استطاعت في ذلك الوقت أن تقضي بعض حوائجها.
كنت ألوح لهما بيدي و هما تتجهان نحو المصعد عندما التفتت إليّ آية و هي تقول ببراءتها التي سلبت قلبي:
- " متنسيش، سميه وليد".
كانت الابتسامة ما تزال على وجهي و أنا أغلق باب شقتي، هذه الآية أدخلت السعادة إلى قلبي، يا الله كم أحبها، هنيئاً لك يا علياء بابنتكِ و جعلها الله قرة عين لك.
لا أعرف لمَ شعرتُ بصفاءٍ في نفسي جعلني أفكر براشد، قمت من فوري إلى المطبخ لأحضّر له وجبةَ عشاءٍ مميزة لأساعده على مراضاتي حين يعود في المساء، انهمكت في تحضير السلطات التي يحبها بعد أن انتهيت من تتبيل الدجاج و تجهيزه للشواء في الفرن و اعتنيت بقالب الحلوى الذي أعددته سابقاً فزينته بكريما الشكولاتة و وضعت عليه حبات الفراولة الشهية ليكون لذّةً للناظر إليه.
نظرت لساعة مطبخي فوجدتها تقارب الثانية و عادةً راشد ينتهي من دوامه في تمام الرابعة إلا إذا كان عنده مناوبة في العيادة التخصصية.
نظرت إلى هاتفي ربما للمرة العاشرة بعد الألف، لا أعرف لمَ كنت أشعر بخيبة أمل كبيرة و أنا أرى الشاشة السوداء لأدرك أن راشد لم يفكر أبداً في الاتصال بي والاطمئنان عليّ، لكنني حاولت التماس الأعذار له فهو ينشغل جداً في المستشفى بمواعيدها المتلاحقة.
قررتُ أن أرسلَ له رسالة لأسأله عن موعد عودتهِ فأنا أريد أن أعرف كم معي من الوقت لأجهز نفسي و ألبس الفستان الذي يحبه.
أرسلت له على عجل :
-" مرحباً راشد كيف حالك؟ متى ستحضر إلى البيت؟ أنا أنتظرك "
مرت دقائق و ربع ساعة قبل أن تصلني رسالةً نصّها:
- " لا أستطيع المغادرة، ربما ليس قبل ساعتين أو ثلاث "
بخيبة أمل مريرة أرسلت له و أنا أكاد أبكي من الألم:
-" لكنني حضّرتُ لك الطبق الذي تحبه راشد! لمَ لا تغادر؟ ألم تعدني صباحاً أن نتحدث عندما تعود، لا تتأخر راشد فأنا لا أريد الجلوس وحدي حين يأتي المساء ".
لكنني لم أتوقع أبداً أن تكون رسالته التالية لي كالآتي:
- " كفاكِ تذمراً يا لين، ارحمي أعصابي و تصرفي بنضج، أنا في عملي و سأحضر فور انتهائي منه، حاولي أن تفهمي! ".
رميت الهاتف جانباً و أنا أضع كلتا يدايَ على وجهي أبكي قهراً منه و من أسلوبه و من كلماته و من قسوته التي أصبحت الطابع العام في كل تعاملاته معي، أحاول كثيراً أن أكون مبادرة و متسامحة و متفهمة لعصبيته، لكنه لا يهتم، لم يعد يهتم . بكل مرارةِ الدنيا بكيت و أنا أتساءل عن الأسباب التي جعلت راشد يتغير في تعامله معي، أنا حقاً لا أفهم أسبابه، كل محاولاتي للتواصل معه يهدمها بقسوته وتباعده، أنا لن أجلس وحدي هنا سأخرج، نعم سأخرج، لكن إلى أين؟ إلى أين يا لين؟ حملتني أفكاري نحو أمي، آه يا أمي، بعدي عنك يذبحني، كم أشتاق أن تُسكنيني بين عينيك وتحضنيني، أشعر بالضياع بعيداً عنك أمي، أشتاق لحجرك الهاني يحتويني، أشتاق لندائك الحاني باسمي لتضميني، أشتاق لأسمع دعواتك تغشاني وتُظلِّلُني لتحميني في غربتي بعيداً عنكِ.
أوقفتُ شريط ذكرياتي بإرادة من حديد، و كفكفتُ دموعي وأنا أتوجه نحو غرفتي لأرتدي ملابس الخروج .
أحكمت وضع الحجاب على رأسي و أنا أشعر بامتنان عميق لصديقتي مونيا التي رحبت كثيراً بزيارتي وداعبتني مازحةً وهي تخبرني أنّ أيمن مشتاقٌ جداً لصديقته الجميلة لين وأنه متحمس ليريني مجموعة الألعاب الجديدة التي حصل عليها.
أغلقتُ باب شقتي و تأكدتُّ من أنّ هاتفي معي تجنُّباً لأي مشاكل مع السيد " مَشكَل" الراشد الصارم ولم أنسَ طبعاً أن أرسل له رسالة مقتضبة تفيدُ أنني ذاهبةٌ لزيارة جارتنا مونيا أو كما يسميها صاحب السمو راشد،" أم أيمن"، علّني ألقى معها و مع ابنها أيمن حبيبي ما يعيد الهدوء لنفسي .


*******************





مونيا العلوي

أن ترتعش أطرافك وأن يصم طنين دقات قلبك أذناك وأن تشعر بندم لم تشعر به يوماً من ما فعلته قبلا لتقع في هذا الموقف. هذا كله اسمه الخوف. انه الخوف الحقيقي الذي لم أجربه يوماً. ذلك الخوف الذي لم يكن موجوداً في قاموسي. فلطالما كان يحذرني الجميع من أنني ألعب بحياتي لكن كنت مقتنعة أتم الاقتناع بأنني أبدا ليس عليّ أن أفكر بنهايتي، فعندما يصل موعدها لن يستطيع أحد منعها لا أنا ولا غيري لكن الآن لمَ كل هذا الخوف؟ هو بالتأكيد ليس خوفاً على حياتي بل خوفاً على جزء مني "أيمن" رددت ذلك من جديد بقوة هذه المرة لكي أتقدم من الباب مهرولة بلا تردد لكنني توقفت عند عتبة الباب بذهول وعيناي تجحظان لمّا كنت أراه.
رفع الرجل بهدوء رأسه إليّ عندما شعر بوجودي، نظرت إليه وقد شعرت بأن كل ذلك الخوف الذي اعتراني قبل قليل قد تحول إلى غضب عظيم وغريزة الدفاع عن فلذة كبدي احتدت كثيراً لدي. غضب قد أقتل بسببه بلا شعور وأنا أرى ذلك الغريب المجهول يجثوا على الأرض حتى يصل مستوى ابني أيمن الذي كان واقفاً أمامه. اقتربت بخطوات هادئة نارية في نفس الوقت وعيناي لا تحيدان عن عينيّ ذلك الرجل الذي ارتسمت ابتسامة كريهة ماكرة على شفتيه. عرفت من نظراته إليّ بأنه ليس مجهولاً كما ظننت في بداية الأمر، فهو صحيح مجهول الشكل عني ولكن ليس مجهول الهدف. وقفت أمامه وقلت وأنا أمد في نفس الوقت يدي إلى ابني حتى أخذه من بين يديه:" متى سيرسل لي رسائله بنفسه؟"
شعرت بهزة من الخوف تضربني من جديد وبقوة عندما لم يعطيني أيمن ولم يحرره من بين يديه بل إنه شدد قبضتيه على ذراعي طفلي الصغير الذي نظر إليّ بعينين دامعتين خائفتين وقبل أن أفعل أي شيء، قال بلكنته اللندنية." طفلكِ جميل سيدة مونيا."
نزعت ابني من بين يديه بحدة لكي أحمله بين ذراعي أحميه من نظرات ذلك الرجل الشاحب ذو اللحية الخفيفة الحمراء اللون كشعره الناري القصير والعينين البشعتين المخيفتين. وقف الرجل الانجليزي الطويل القامة أيضاً على قدميه لكي يدس يده في جيبه ويخرج هاتفه النقال، نظرت إليه وهو يضغط على الزر الأخضر وفي نفس الوقت كنت أربت على ظهر أيمن بينما هوكان يدس رأسه في رقبتي يطلب الأمان. مددت يدي حتى أمسك بالهاتف الذي كان يعطيه لي ذاك الرجل الذي كان من الواضح بأنه قد أُرسل لكي يخيفني. وضعت الهاتف على أذني وضيقت عينيّ بغضب كبير وأنا أسمع الطرف الآخر يتكلم بثقة قائلا: "لقد خرج زوجكِ للتو من عندي، أهنئكما لأنكما لم تستسلما أبدا، سأبتعد عن مشروعه وسأدعكما بسلام."
"إذن لماذا أحد عبيد أموالك يشرفني بهذه الزيارة الغير المرحبة؟"
أطلق ضحكة ساخرة صمت أذني وزادت من غضبي وحنقي أضعافاً مضاعفة وكأنه شعر بصمتي الغاضب لكي يصمت فجأة وتتحول نبرته من السخرية إلى الجدية بعد أن توقفت قهقهته وهو يقول:" اسمعي! ياسر استطاع أن يجعلني أوافق على كلامه ولكنني أبداً لن أثق بكما، فأنت امرأة خبيثة لن تهدئي حتى تدمريني وزوجكِ هو الآخر لن يتردد في مساندتك، لذلك أحببت أن أتأكد بطريقتي الخاصة بأنكِ لن تستطيعي أن تحققي مرادكِ.. مونيا أنا لن أبتعد عنكِ أنتِ وياسر وطفلكِ الجميل ذاك كما وصلتني الأخبار من رؤيته، سيبقيان تحت نظري حتى تنتهي فترة الانتخابات وتمر على خير من دون تدخل منكِ لإفسادها عليّ وإن خرقت اتفاقنا فلن تدفعي أنتِ الثمن بل ذلك الصغير ابنكِ ووالده."
كنت أزم شفتيّ بقوة حتى سببت حركتي تلك الألم لنفسي لكنني لم أهتم، فكل ما اهتممت به هي تلك الرغبة المستعرة في أن يكون ذلك السياسي الفاسد أمامي حتى أقطع لسانه ذاك بلا رحمة أو شفقة. الحقير يهددني بزوجي وابني، ليته هددني بنفسي ما كان الأمر ليكون صعباً لهذه الدرجة كما الآن. نظرتُ إلى ذلك الانجليزي الهادئ التي كانت له نظرات المجرمين وهو يقف أمامي ينظر إليّ ببرود بينما وجهه الشاحب يخلو من أي تعبيرات. ضغطت بخوف على ظهر أيمن الذي كان ما يزال يضمني هو الآخر بكل قوة جسده الصغير لكنني في نفس الوقت رفضت رفضاً تاماً أن أظهر لهما أي ضعف وخوف كبيرين اجتاحاني ساعتها لكي أهتف بعدها كاذبة:" اسمع أنت الآن! عليك أن تحرص على تنفيذ الاتفاق، لا تقترب منا لا نقترب منك! شيء آخر عليك معرفته وإن سببت لزوجي أو ابني خدشا واحدا فقط فسوف أقتلك بيدي هاتين."
أبعدت الهاتف بسرعة عن أذني من دون أن أنتظر سماع رده ورميته على ذلك الرجل بقوة فضرب صدره عندما فشلت محاولاته في التقاط هاتفه من مفاجئتي له بحركتي العنيفة تلك وركضت بعدها إلى شقتي أنا وطفلي وأغلق الباب علي بالقفل. أسندت ظهري إلى الباب وأنا أزيد من ضمي لابني الذي صدمه ما حدث لدرجة البكاء بصخب ولم يستفسر كعادته عن الغرباء وكأنه قد علم بالموقف الخطير الذي وضعنا فيه أنا وهو معاً. مددت يدي إلى ذراعيه حتى أبعده عني لكنني فوجئت بتشبثه بي أكثر، فقلت له بصوت رقيق:" أيمن حبيبي لقد انتهى الأمر.. لمَ أنت خائف؟."
لم يجبني فخفت عليه أكثر، أبعدته بقوة ورغماً عنه لكي أنزله على الأرض.. نظر إليّ بعينين دامعتين وأنف محمر، فزممت شفتيّ بغضب مفتعل وأنا أهتف به بعمد:" إنه خطئك أيمن، كم مرة قلت لك بأن لا تفتح الباب أبداً إن لم أكن أنا معك؟"
شهق عن صرخة قوية من البكاء فجذبته بسرعة إليّ أحتضنه بين ذراعي بقوة بعد أن سعدت لردة فعله تلك الطبيعية.
***
بعد أن استحممت وغيرت ثيابي وحممت أيمن هو الآخر وتناول عشاءه استطعت أن أجعله يعدني بأن ينسى أمر الرجل المخيف وألا يخبر والده بشيء عنه قبل أن ينام بعمق بين أحضاني. بقيت أنظر إلى وجهه البريء وهو يغط في سبات عميق، أتأمل ملامحه بحب والتي تجسدت فيها ملامحي وملامح والده الوسيمة في وجهه الصغير الجميل جداً. فكنت تارة ابتسم للنعمة التي وهبني إياها الله تعالى وتارة تكتسي عبرات الوجوم ملامحي عندما أتذكر بأنني خاطرت بهذه النعمة من دون أن أدري. عائلتي الصغيرة هي كل ما لدي وأيضاكما أفكر بعائلتي أفكر بملايين أبناء بلدي. الدموع تجتاحني والغضب يكتسحني كلما فكرت بأن هناك عائلات عديدة لا تجد ما تأكله أو تشربه، تتشرد ولا تحصل على أبسط حقوقها، ليسوا أبناء المغرب فقط بل أبناء الوطن العربي بأكمله، لمَ؟ سؤال كنت دوماً أطرحه على نفسي. أ ليست بلداننا العربية تزخر بمتنوع الخيرات لا تزخر بها كل من الدول المتقدمة والغنية؟ لماذا نحن دوماً ما تسرق خيراتنا على مرمى أعيننا؟ لماذا الضعيف لقمة سهلة لدى القوي ولماذا كرامتنا شبه معدومة في بلداننا؟ هذا ما يجعلني أغضب وأغتاظ وأثور. هذا ما يجعلني لا أستطيع أن أذوق طعم السعادة الكاملة وأنا أعرف كيف يعيش غيري.. مهنة التصوير الفوتوغرافي لم تكن فقط مهنة جميلة يتجلى فيها الإبداع والفن، إنما هي مهنة قربتني كثيرا من العالم الآخر. عالم كان بعيداً عن عائلتي الغنية المرموقة. عالم كنت أراه بعدسة كاميرتي التي لم تكذب عليّ عندما كانت تلتقط صوراً لدور الصفيح والبيوت المهمشة التي غطوا بشاعتها وقذارتها بناطحات السحاب في الواجهة حتى لا تظهر الحقيقة بأن هناك عالم آخر تعيس يعيش على الهاوية وهي النسبة الأكبر للبلدان العربية التي زرتها. عدسة كاميرتي أرتني حقيقة السياسيين بعيدا عن المنصات التي يصعدون إليها ويبدأون بتلو تلك الوعود علينا وقد حفظوها من غير أن يعرفوا حتى من كتبها لهم من مستخدميهم. فهل أنا مجنونة لأنني أريد نشر الحقيقة والسعي للأفضل؟. أعليّ أن أواجه كل هذا الرفض لأنني أريد أن أقول فقط كلمة حق؟ ومن يجيبني لا أحد!. التفتُ إلى جانبي حيث يستقر هاتف البيت على المنضدة الصغيرة التي كانت بجانب سريري، عليّ أن آخذ خطوة كبيرة في حماية عائلتي، اليوم تهديد وغداً من يعلم ماذا سيحصل؟. كما لا يثق بي الرجل لا أستطيع الوثوق به. ربما يستطيع أن ينفذ تهديده حتى ولو لم أفضحه. إنه فاسد حقير، ما الذي يعرفه عن الوعد؟ لا شيء!
ضغطت على تلك الأزرار التي أحفظها عن ظهر قلب لأقرب شخص إليّ في عائلتي، إنه الأخ الذي لم يهبه الله لوالدي، ابن عمي بدر الذي كان أقرب مني من أختيّ اللتين كانتا دوما ترفضان شخصيتي، كنت أقضم شفتي وفي نفس الوقت أمرر يدي على شعر أيمن بحنان وأنا أستمع إلى رنات الهاتف المغيظة والتي كانت تلعب بأعصابي على غير المعتاد، في الأخير أجاب بعد أن كنت على وشك إغلاق الخط :"مرحبا مجنونتي."
تنفست الصعداء عندما انتهت المكالمة بعد إن استطعت إقناعه بصعوبة بالقدوم إلى لندن لكي يأخذ معه أيمن إلى المغرب حيث بيت العائلة الآمن الذي لا يستطيع أحداً التجرؤ عليه، لكنني كنت قد لمست في نبرته تشككاً واضحاً في كلامي عندما سألني 'هل ياسر يوافق أن آخذ ابنه لوحده في عطلة إلى المغرب؟' فأجبته بضحكة بلهاء متوترة وكذبة خفت حينها بأنه لن يصدقها لأنني كنت أسوأ واحدة تلفق أي كذبة، فأنا أنادي بالحقيقة منذ الصغر فكيف لي أن أجيد الكذب لكن هذه المرة كنت مضطرة لإنقاذ حياة أقرب الناس إليّ. أخبرت بدر بأنني ذاهبة مع ياسر في رحلة خاصة خارج لندن، فارتسمت ابتسامة انتصار على فمي وأنا أتذكر كيف اقتنع بكلامي ووافق عليه لكي تزداد ابتسامتي اتساعاً وأنا أفكر بان ياسر وأيمن قريباً سيكونان بأمان، أمان لن أكون فيه أنا، فأيمن سيكون في بيت والدي الكبير وياسر مسافر في رحلة عمل ضرورية، وعندها سأكون قد حللت المشكلة بيني وبين ذلك السياسي عندما لا أجد أي عقبات أمامي، فلا أحد سيكون في رقبتي، لا ابني ولا زوجي.... إما أنا أو ذلك السياسي الفاسد.
نهضت من على السرير عندما سمعت صوت باب شقتي يفتح وخرجت من غرفتي نومي أمشي بقدمين حافيتين وأنا أشعر بالتوتر لعودة ياسر المنتظرة. كيف عليّ أن أواجهه وأنا أخفى عنه أمراً مهماً. تقدمت منه وأنا أراه ينزع شاله الذي كان يدثر به رقبته بحركات عنيفة. اقتربت منه أكثر لكي أقف أمامه وتمتمت بتحية المساء لكنه لم يجبني، فحاولت أن أحافظ على هدوئي. بدأت بمساعدته في نزع سترته واستدرت حتى أنزعها عنه وأعلقها في خزانة لستراتنا بجانب الباب. التفت إليه فوجدته ينظر إليّ والغضب في عينيه يلونهما بسواد شديد ومع ذلك اقتربت منه وطبعت قبلة رقيقة على شفتيه لكي يمسك بذراعي ويبعدني عنه حتى يستطيع النظر في عينيّ قاطعاً قبلتي تلك، شعرت بأنني مكشوفة أمامه خصوصا عندما سألني:" هل لديكِ ما تقولينه لي؟"
قوة آلمتني تسلحت بها وأنا أنظر إلى عينيه وأقول بإصرار:" لا."
شعرت بأن غضبه ازداد أضعافاً وهو يكز على أسنانه لكي يعقب من بينها:" كيف تتجرئين على النظر فيعينيّ والكذب بكل سهولة؟"
***
في اليوم التالي
أوقفت السيارة أمام عمارة ريتشيل "وأخيراً عدتُ من عملي إلى بيتي". قلتها وأنا أضع رأسي على المقود بتعاسة، تعاسة زارتني هذه المرة رافضة أن تتركني أعود لمونيا العلوي. أشعر بأن ذلك السياسي نجح في أن يفقدني نفسي، أين هي مونيا التي عهدها الجميع نشيطة تكره النكد والغضب والحزن؟ لم تعد موجودة، وما حصل البارحة خير دليل على أنني بدأت أفقد عائلتي، لا أستطيع أن أنسى كلمات ياسر وغضبه، قلت ذلك لنفسي لكي تعود الذكريات رغما عني أمامي وكأنها شريط سينمائي كامل.
"ماذا كنت تنوين فعله؟ أن تتركيني حتى أسافر وترسلين الطفل بدون علمي مع ابن عمك ذاك إلى المغرب؟" أمسك بذراعي بقسوة لم أعهدها منه وهزني بعنف، يردف:" أريد فقط أن أفهم السبب الذي جعلك تخططين هذا المخطط الأناني التافه.. أمن أجل ذلك السياسي؟ لقد أنهيت معه المشكلة، لن يقترب منا من جديد، إذن ما هو السبب الحقيقي؟"
"ياسر اهدأ أرجوك!.. أنت لست ممن يفقدون السيطرة على أعصابهم بسهولة."
صرخ فيّ من جديد حتى أجفلت بقوة:" كيف أهدأ؟ أنا يتصل بي ذاك المتسكع ابن عمك لكي يلومني عن السبب الذي يجعلك تريدين إبعاد الطفل عنا لأنكِ لا تحيين حياة مريحة معي."
اعتلاني الغضب الكبير من ابن عمي، كنت أعلم بأنه لم يصدقني، كنت أعلم بأنه شعر بخوفي الشديد وقلقي لكنه فسر الأمر خاطئاً والأسوأ انه لم يصارحني بحقيقة أفكاره بل اتصل بياسر يتهمه بأشياء تخيلها عقله الأحمق ذاك! اتصل بياسر الذي أعرف بأنه يغار منه لأنني في مرة أخبرته في غمرة غباء مني بأنه في صغرنا كان يتوقع الجميع أننا أنا وبدر سنكون لبعضنا عندما نكبر لكنني أبداً لم أعتبره يوما أكثر من أخ لي يفهمني أكثر من أختيّ ووالديّ وهو الآخر لم يشعر يوماً بشيء ناحيتي غير الأخوة والصداقة والتحالف معي في مغامراتنا لكنني أعرف بأن تصرفه الغبي الذي أفشل جميع خططي لم يكن إلا بغريزة الحماية التي يحملها لي ذلك المتهور.
توقفنا فجأة جامدين في مكاننا بعد أن أيقظت أصواتنا العالية أيمن الذي كان نائماً لكي يعلو صوته الباكي على أصواتنا وهو يناديني من الغرفة. نظرت بغضب إلى قبضته التي كانت ماتزال تحيط بذراعي وقد اشتدت أصابعه عليّ بطريقة مؤلمة لكي أرفع رأسي إليه بحدة وأنا اهمس من بين أسناني:" هلا أبعدت عني يدك حتى أذهب لطفلي؟"
تبادلنا النظرات الغاضبة الحانقة وللحظة ظننت بأنه لن يحرر قبضتي لكنه فاجأني عندما أطلق سراح ذراعي بسرعة لكي أرتد للوراء عدة خطوات قبل أن أثبت نفسي جيداً وأتحكم في جسدي وأقف بشموخ وأقول له قبل أن أستدير وأتوجه إلى غرفة نومي:" اسمع ياسر! ليس لدي ما أقوله لك أكثر من هذا، أنا لم أنوي التقليل من شانك. لكنني أردت ان أحمي أيمن. السبب فقط أنني أرى بأن حياتنا أصبحت متوترة حاليا بشدة. أردت أن أبعده عن هذا التوتر والانفعال الذي أصبح سلطاناً على كل لحظة من حياتنا وإن كنت غاضبا مني لأني فعلت هذا وإن كنت ترى بأنك قد سيطرت على الأمور، فأنت مخطئ! أنا أشعر بالخوف حالياً وأنت ماذا تفعل؟ تخطط للسفر في رحلة عمل بعد يوم غد تاركاً إيايّ لوحدي تواسيني بعذر سخيف. "سأترك لك حراسة شخصية " ألا ترى بأنك تتركني وحيدة في الوقت الذي أحتاج فيه بشد إليك فقط من أجل أعمالك ونجاحك فيها بأي ثمن.”
"مونيا!" صرخة قوية صدحت منه لأنني استفززته بقوة ولمست الوتر الحساس لديه، لو يعرف بأنني هُددت اليوم وهو خارج البيت؟ يظن بأن كل الأمور أصبحت على ما يرام. تجاهلت صرخته تلك التي زادت من خوف أيمن الذي كان قد وصل إلى عتبة باب غرفة نومنا يقف عندها ينظر إلينا بعينين باكيتين. حملته وضممته إليّ وأنا أدخل غرفتي لكي أسمع صوت باب الشقة يفتح ويغلق بعنف كبير أجفلت معه، فتمتمت بصمت لم تسمعه سوى أذنيّ:" لقد بدأنا نُضيع بعضنا البعض يا ياسر."
رفعت رأسي من على المقود وقد اكتفيت من تذكري لليلة البارحة المشؤومة التي أعرف بأن ذكراها ستعود إليّ بعد دقائق. كل ما يهمني الآن أن أرسل أيمن إلى المغرب، شاء ياسر أم أبى وذلك بدون أن أخبره عن تهديد ذلك السياسي وهذا ليس إلا لمصلحته الخاصة. أجل، لا أحد يعرف مصلحتهم غيري أنا. صوت في داخلي نبهني بأنني أصبحت أتصرف بأنانية لكنني رفضت الاستماع إلى ذلك الصوت المجهول وغيرت توجهات أفكاري عندما نظرت إلى ساعة السيارة، إنها الثانية بعد الظهر، عليّ الصعود إلى شقتي بسرعة فلين ستكون على وشك زيارتي الآن إن لم تفعل بالفِعل! اتصالها بي قبل قليل هو الوحيد الذي جعلني أعود للبيت مبكراً بدل المماطلة في شراء حاجيات البيت وكأنني أهرب بساعة سأمضيها في شقتي وحيدة أتجرع ألم الوحدة وغضب الجميع مني قبل أن أذهب في الثالثة للحضانة حتى أجلب أيمن من "الحضانة"، تمتمت بذلك بتعب وأنا أتذكر إزعاجي لهم طوال اليوم باتصالاتي بهم لكي أتأكد من أن صغيري بخير وحتى أوصيهم في كل مرة بألا يدعوه يغيب عن أعينهم ولا للحظة متجاهلة نبراتهم المستغربة من كلامي. فتحت باب سيارتي لكي اخرج منها. واحمل بعدها مستلزمات البيت التي قمت بشرائها بعد خروجي من البيت. فتحت باب الشقة لكي أقفله بقدمي وأنا أحمل بكلتا يدي تلك المشتريات، وضعتها على الأرض حتى أنزع سترتي المبطنة عني واستدرت من جديد إلى الباب عندما سمعت الجرس يدق. ابتسمت رغما عن حزني وأنا أرى في شاشة الكاميرا الصغيرة المخصصة بالجرس هوية الطارق وفتحت الباب أستقبل لين برحابة صدر، فقط رؤيتها جعلتني أنسى جزءاً من همومي وأشعر بالبسمة تلون وجهي كله. لطف وبراءة ورقة وخفة ظل، كلها كانت متجسدة في ملامح وجهها الهادئة مثل هدوء الطبيعة. أدخلتها للبيت لكي أضحك على نظراتها المستغربة وكأنها أخطأت في الشقة عندما رأت بأن كل الأثاث كان مُزاحاً بطريقة غريبة. قلت لها بمرح غادرني منذ ليلة البارحة:" أنا من فعلت ذلك حتى أترك لأيمن مساحة خالية يستطيع اللعب وقيادة سيارته الكهربائية فيها، ادخلي يا لين، سألحق بكِ حالا."
على إثر ضحكاتها الهادئة وهي توافق على كلامي وتجمع ألعاب أيمن التي كانت منتشرة في كل مكان في الشقة كنت أنا أشغل جهاز إنذار البيت، فلم أعد أثق بأنني فعلا بأمان. صحيح أنني أحاول التعامل بطبيعية بذهابي للعمل وإرسال أيمن للحضانة بسبب إصرار ياسر الذي ما يزال غاضبا مني بقوة والذي أصبح بارد التعامل مقررا أن ليس هناك شيء يستحق بقاء أيمن في البيت، إلا أنني مع كل هذا أشعر بأن القادم لا يبشر بخير أبداً.. والدليل كان عندما وضعت المشتريات في المطبخ وبدأت في إعداد الشاي المغربي بالنعناع الأخضر لي ولصديقتي عندما تكلمت هي قائلة :" بتعرفي إنه ريتشيل سافرت على تركيا؟"
"لا" هتفت بذلك مستغربة جدا من كلامها لكي أعقب سائلة إياها:" وَاشْ نْتِي متأكدة بِأن ريتشيل سافرت لْتركيا؟"
أجابتني لين وهي تمسك بكأس الشاي الذي كنت أمده لها حيث كانت جالسة مكانها على إحدى تلك الكراسي الطويلة في المطبخ:" متأكدة كتير مونيا، آية اليوم خبرتني و هي عندي و حكتلي إنها سمعت هالحكي من علياء ." توقفت قليلاً عن الحديث وظهر بأنها كانت تفكر في الأمر بعمق قبل أن يظهر على ملامح وجهها الهادئة القلق والريبة متسائلة:" مونيا أنتِ ما حسيتي إنه سفر ريتشيل غريب شوي؟، قصدي يعني بالذات إنها ما خبرت حد فينا"
رسمت ابتسامة على فمي حاولت بها طمأنتها لكنني كنت أدرك بأنني أحاول طمأنة نفسي أيضاً لذلك كانت ابتسامتي مرتبكة أكثر منها طبيعية قبل أن أقول:" حتى أنا قْبْلْ كنت كَنْسَافْرْ أحياناً فجأة، الروعة في السفر هو مْلِي كَتَاخْدِي القرار بدون ما تْخَطْطِي لِيهْ."
يبدو أنني فعلا نجحت في طمأنتها قليلا إذ ضحكتها الرنانة ترددت عالياً في الأجواء قبل أن تردف من دون أن تتوقف عن الضحك:" بس هلأ ما بتقدري إلا عن تخطيط طويل لحتى يوافق زوجك." ابتسمت باكتئاب على كلامها ذاك الذي ذكرني بمشاكلي العويصة مع ياسر وعدت أفكر بالمشكلة الثانية عندما تلاشت ضحكة لين وقالت بجدية:" بس زينب غير عنك مونيا. أنتِ كلنا بنعرف أديشك بتحبي تعملي أشياء من نفسك و إلك عالمك الخاص اللي أنا شخصياً كتير بحبه و بحترمه فيكي، فممكن ببساطة تفاجئينا بسفرة خاصة إلك و لهيك ما راح نخاف أو نقلق إذا اختفيتِي فجأة، لكن زينب دايما بتخبرنا عن كل لي بيصير معها."
وأكملت بهمس حتى لا يسمعها أحد ناسية بأنني أنا وهي لوحدنا بالشقة:" لتكوني نسيتِ إنها خبرتنا عن سر العقد وإنه ممكن يكون مستهدف."
لم أستطع إجابتها بشيء، في داخلي كنت أعرف بأن كلامها صحيح، زينب ليست هي أنا حتى تسافر فجأة، هي دوما تحب التريث في قراراتها لكنني لم أجد نفسي سوى قائلة للين:" ممكن يكون جَاهَ(جائها) أمر طارئ واضطرت تْمْشِي لْتركيا بْلا مَتْخَبَرْنَا."
"ممكن." قالتها لين لكي تنظر أمامها بحزن، فتكلمت مرة أخرى بتعاطف معها:" لين عندي إحساس قوي بِأنك كَتْعَانِي قلق واضطراب مَاشِي غِيرْ بْسْبَبْ سَفَر ريتشيل ولكن بْسْبَبْ أمور أخرى."
رفعت إليّ عينيها فتأكدت من صحة إحساسي ذاك، فالحزن والحيرة كانا واضحين في عينيها الخضراوين. امتدت يداي لكي أضعهما فوق يداها اللتان كانتا على الطاولة أمامها، ربتت عليها بلطف قبل أن أقول:" مرة تانية راشد؟"
تنهدت لين بصوت مسموع ينبئ عن الصراع الذي تعانيه في داخلها، قبل أن تومئ برأسها وتهمس:" كل محاولاتي لأقرب منه بتفشل وبحسها بتبعدني عنه اكثر، ما بعرف ليش بيفكرني بعانده مع إني أبداً ما بكون قصدي هيك مونيا، مو عارفة شو أعمل؟"
"لين. صارْحيه بالشعور دْيَالْكْ. لازم بْجُوجْ بِيكُمْ تْصَارْحُوا بعض بالأسباب لي كَتْخَلِيكُمْ مْتْبَاعْدِينْ."
"شو يعني بْجُوجْ بِيكُم؟" خرجت ضحكة صغيرة من بين شفتي بسبب سؤال لين ذاك وأنا أنظر إلى حاجبيها المضمومين لبعض بعدم استيعاب للكلمتين، أجيبها وأنا أحاول تقليد نبرة صوتها:" بتعني اثنيناتكم." ضحكت مرة ثانية وأنا أرى محاولاتها لحفظ تلك الكلمة فتلاشت ضحكتي وارتسمت على فاهي ابتسامة رقيقة وأنا أفكر في هذه العمارة، أشعر بأنني في قلب العالم العربي وليس خارجه وهذا الإحساس استطاع أن يحسه ياسر أيضاً في هذه العمارة وإلا لما ضعفت محاولاته بقوة في السنتين الأخيرتين عن رغبته في شراء بيت كبير يخصنا لوحدنا.. ففي هذه العمارة نشعر جميعا بأننا جسد واحد مهما اختلفت لهجاتنا، عاداتنا وتقاليدنا، نتفهم بعضنا ونستمتع بكل ما يحمله الواحد فينا من عبق بلاده.. نشعر بآلام بعضنا ونسعد لفرح كل واحد فينا ونعيش معه مشاكله. نهضت من على الكرسي الذي كنت جالسة عليه فجأة ووقفت على قدمي وأنا أشعر بالحماس الجنوني تجاه هذه العمارة. تقدمت من لين وقلت لها بابتسامة واسعة قاطعة عليها شرودها الذي تجاوز تلك الكلمة التي كانت تحاول حفظها إلى راشد بكل تأكيد:" لين، كَتْعَرْفِي ستة وعشرين سنة خضت فيها شتى التجارب ولكن أفضل تجربة عْزِيزَة على قلبي بشكل خاص إنني عِشْتِ وبَاقَا كَنْعِيشْ مْعاكُم في هاذ العمارة بين أخواتي اللي كَنْتْشارْكْ مْعاهُم الدم العربي."
جعلتها رغما عنها ترسم ابتسامة واسعة هي الأخرى على شفتيها، ابتسامة حقيقية وليس كما كانت تتظاهر قبل قليل حتى تخفي حزنها عني، ابتسامة امتزجت بدموعها الرقيقة على اثر كلامي ذاك، تلك الدموع التي استفزت دموعي هي الأخرى وجعلتني غير قادرة على التحكم فيها، حينها لم نجد أنفسنا إلا ونحن نضم بعضنا البعض بقوة، نتشارك أحزاننا ومشاكلنا وكل واحدة فينا تحاول أن تستمد قوتها من الأخرى.
قالت بصوت مهتز:" والله بحبكم كلياتكم يا عصبة النون."..
كدت أنا الأخرى أن أردد لها نفس الجملة من أعماق قلبي لكن بدل ذلك ابتعدت عنها بسرعة البرق وسألتها (هل زارك شخصين يسألان عن ريتشيل مساء البارحة؟) ردت بالإيجاب ووصفتهما لي وأكدت أن راشد يشك فيهما نفس الشك الذي تركته زيارتهما في نفسي، تركتها تتبعني لأخذ الذاكرة من كاميرا المراقبة ونشغلها على الحاسوب لأطلعها على شكليهما، كنا نتحدث عنهما وقطع حديثنا صرخة أطلقتها مدوية أفزعتني في مكاني، فنظرت إلى عينيها لكي أجدهما تحدقان إلى شيء ورائي بفزع شديد والرعب ينطق من ملامحها الهلعة وجسدها الذي كان يرتعش كله. استدرت بجسدي وأنا كلي إحساس بأن عينا لين تعلقتا بطرف ثالث أصبح معنا في الشقة ولم يخب ظني للأسف الشديد إذ إن عينيّ تجمدتا برعب شديد على ذلك الشخص ومسدسه الذي كان يوجهه ناحيتنا.


**********************





الزئبق والحرباء
اغتيال

لم تبذل سارة جهدا كبيرا في إقناع الزئبق والحرباء بتأجيل ما انتوياه من مهاجمة شقة مونيا للحصول على أشرطة تسجيل الكاميرات التي تدينهما، فما إن اجتمع الثلاثة بهذه الحديقة التي تقضي فيها سارة أوقات فراغها ترسم بعيدا عن عيون السيد نبيه ..حتى بدا على سارة استيائها من ذلك الأخير بعد أن فشلت
معه فشلا ذريعا في اقتناص أي معلومة منه عن ريتشيل وعن العقد الفريد .. حتى أن سارة كادت أن تتمرد عليه كي تتحرر من تبعيتها لأصابعه التي يحركها بها كدمى مسرح العرائس.
كان حوارا يلفه الغموض بين شخصيات ثلاث .. شخصيات غامضة يتكلمون بلسان واحد وكأنهم يقرئون أفكار بعضهم البعض .. حوار .. أصبحت فيه سارة تحرك الأحداث وترسمها وكأن الزئبق والحرباء صارا أدوات في يديها
بعد إن اتفق الثلاثة على تأجيل سرقة شقة مونيا .. استمروا في حديثهم الغامض الذي لا يفهمه مستمع .. إن وجد .. حتى ابتسمت سارة لكليهما وهي تسألهما:
- أي ماض لكما؟ أود معرفتكم أكثر .. ولكني لست كنبيه المتجسس المتسلط .. سأترك لكما المساحة لتخبراني عن ماضيكما.
ضحكت الحرباء حتى استلقت على ظهرها على حشائش الحديقة ..ولكنها صمتت بعد أن بدا على ملامحها الجد .. وراحت تقول كمن يلقي خطبة عصماء على جمهور من المستمعين
- أتسألينني عن الماضي؟ .. أعلى هذا الكوكب من لا يعرف أننا الماضي والحاضر والمستقبل؟.. أنا يا سارة تقلبت في أصلاب رجال ونسوة عمروا أرض كنعان حتى انتقلنا مع يوسف إلى مصرنا الحبيبة .. بنينا حضارتنا هناك حتى خرجنا مع موسى .. وعشنا في شبه الجزيرة حتى رحلنا مع خيبر وبنو قينقاع ....وانصهرت عظامنا في أفران هتلر حتى خطت أقدامنا أرض الميعاد ..أما مستقبلي يا سارة ..
ثم أشارت الحرباء إلى اللوحة التي ترسمها سارة وقالت؛ مستقبلي!.. مستقبلي هو هذه اللوحة التي جلستي ترسمينها منذ الصباح، هذه التحفة الفنية التي أحسنت تصويرها بريشتك الساحرة .. لوحة " الوطن بين نهرين".. هذه اللوحة الرائعة بخطوطها وحدودها وبنيلها وفراتها.
كانت سارة و الزئبق يستمعان في صمت لحديث الحرباء.. حتى قاطعها الزئبق قائلا؛ لا تعتقدي أن هذه اللوحة يمكن أن تكون واقعا بهذه السهولة حبيبتي .. فأنا أعلم بهذه البلاد منك ..عاشوا حكاما لنا ردحا من الزمن وعشنا حكامهم فترة..حتى عرفنا مكامن قوتهم وضعفهم ونهايتهم يا حبيبتي في جملة،جملة واحدة زرعناها في نفوسهم حتى صاروا يرددوها ويصدقونها أكثر منا .. جملة .. هي مفتاحنا وريشتنا السحرية التي ترسم هذه اللوحة .. جملة تقول .. " نحن اتفقنا على ألا نتفق" ..وما دامت ألسنتهم تردد هذه الكلمات ويصدقونها سيدوم لدينا الأمل .. وبشرى لك وطنك الغالي حبيبتي"
ثم تنهد الزئبق وهو يقول لسارة: لقد عدت بي إلى الماضي الحي الذي لا يموت .. لقد عبرنا لهم البحر .. مصصنا دماءهم ولعقنا ثرواتهم .. ولكننا اكتشفنا أن مورد هلاكهم لا في ثروة ولا في احتلال .. فهم قادرون على الحياة بزاد الكفاف .. ومقاومتهم لا تفتر لأي احتلال لذلك .. عشنا نغرس فيهم الاختلاف حتى صدقوا مقولتنا وصارت مقولتهم .. يا سارة .. أنا تصيبني القشعريرةكلما قرأت هذه القصة التي في كتب الأطفال .. عن رجل جاء بعود من الحطب وطلب من أبنائه أن يكسروه .. فكسروه ..فجاء بحزمة حطب عجزوا عن كسرها .. لكن رغم قشعريرتي ..ينتابني الهدوء سريعا لأنهم قوم لا يقرأون .. وإن قرأوا لا يقفون عند الكلمات.”
كانت سارة في حالة من الصمت والشرود وهي تستمع إليهما .. ثم تنهدت وقالت وهي تجمع أدواتها .. الآن عرفت ماذا يدور في رأس نبيه المجنون .. أنه يريدني أن أنتزع اعترافا صريحا من على ألسنتكما يفضح نواياكما ويكشف القناع عن وجهيكما .. ولكني سأمحو حديثكما هذا من رأسي عقابا له على تلاعبه بي.
غادرت سارة الحديقة وهي تلوح بيديها للزئبق والحرباء وتقول .. "سأنتظركما متى حضرتما لشقة مونيا .. فلا أريد أن يفوتني هذا المشهد
قبل آخر زفرات النهار.. غادرت الحرباء شقتها بعد أن تركت زوجها بها وتوجهت من فورها إلى العمارة .. فقد قررت أن تسطو على شقة مونيا بمفردها .. ووصلت إلى العمارة ..لم تبذل الحرباء جهدا كبيرا وهي تقفز من السلم الخلفي للعمارة داخل شقة لين .. ولكنها وقفت صامتة تتابع لين التي كانت تجلس بالصالة .. كانت تطالع تليفون محمول بيدها وكأنها تقرأ الرسائل .. ثم تلقي بالتليفون بغضب فجأة .. لتنهار بعدها في البكاء وهي متكورة على نفسها على الأريكة..لم يطل بكاء لين التي قامت متماسكة فجأة كما انهارت فجأة ..ودخلت إلى غرفتها لتخرج بعد دقائق وقد استبدلت زيها وأحكمت حجابها وغادرت الشقة .. وما إن خرجت لين .. وخلت الشقة للحرباء حتى أسرعت بدورها إلى غرفة نوم لي.
فتحت دولاب ملابسها وأدوات مكياجها وبعض الأدوات من حقيبتها .. ثم وقفت أمام المرآة تعمل بجد .. ولم تمض دقائق حتى تحولت الحرباء إلى لين بكل تفاصيلها.. نظرت إلى نفسها في المرآة وتأكدت من إتقان تنكرها .. ثم ضحكت وهي تحدث نفسها“:الآن استطيع زيارة صديقتي مونيا دون أن تدير كاميراتها عندما تراني .. فأنا لين حبيبتها" ثم راحت تضحك من جديد..غادرت الحرباء شقة لين وصعدت بثقة وثبات إلى شقة مونيا ..ولكن خطتها الماكرة راحت أدراج الرياح .. فما إن مدت يدها لتقرع الباب .. حتى توقفت فجأة بعد أن سمعت صوت لين الحقيقية داخل الشقة .. تقول بصوت واضح .. " شو يعني بجوج بيكم؟؟ ".. فلم تكن الحرباء تتوقع أن لين إنما خرجت وغادرت الشقة لتتوجه إلى مونيا.
وقفت الحرباء حائرة .. ولكن سرعان ما دب فيها التحدي والحماس .. فقد كانت تشعر باللامبالاة تجاه هؤلاء النسوة العربيات .. وواثقة من نصرها عليهم مجتمعات .. فقالت في نفسها .. لا بأس! .. لنرى ماذا تفعل لين ومونيا عندما تجدان لين ثانية معهما بالشقة .. يكفيني لحظة الارتباك هذه .. لأحصل على ما أريده.. ثم أخرجت مسدسها من حقيبتها .. وأسرعت إلى السلمالخلفي لتدخل إلى شقة مونيا خلسة كي تفاجئ الفتاتان وتتحقق لها لحظة الارتباك التي تنشدها .
في اللحظات التي كانت فيها الحرباء تتنكر أمام مرآة لين.. كان الزئبق يبحث عنها بشقتهما .. وعندما لم يجد لها أثرا .. أدرك أنها ذهبت بمفردها إلى العمارة لتنفذ خطة كانت تشغلها .. فأسرع الزئبق ليلحق بها قبل أن تقع في خطأ يكشفها ..
وما إن وصل الزئبق إلى العمارة حتى لمح لين تتلصص على السلم الخلفي وبيدها مسدس .. ولكنه سرعان ما ابتسم بعد أن أدرك إنها ليست لين .. إنما هي الحرباء .. تنفذ خطتها التي أدركها الآن وفهم تساؤلها عن قامة لين وقامتها .. فأسرع يلحق بها على السلم الخلفي بعد أن وضع القناع على وجهه .
دخلت الحرباء الشقة .. كانت مونيا تجلس إلى جهاز الكومبيوتر وظهرها للحرباء ولين تقول لها .. " نعم، شفتهم وحكالي راشد أنهما محققين يسألان عن ريتشيل.."
فأدركت الحرباء أن التسجيلات في متناول يدها الآن على هذا الجهاز، فوجهت مسدسها إلى ظهر مونيا.
أما لين فقد كانت وجها لوجه مع الحرباء .. وما إن لمحت لين نفسها وكأنها تقف أمام المرآة .. حتى اتسعت حدقاتها وأصابها الهلع والذهول الذي بدا في عينيها ..
حتى أن مونيا استدارت لترى ما الذي أصاب لين بالذهول ..
في لمح البصر كانت الحرباء تطلق الرصاص على مونيا قبل أن تستدير وتراها .. في اللحظة التي شد فيها الزئبق زوجته إلى الخلف .. حتى يمنعها عن القتل ولكن الرصاصة كانت قد خرجت مع اهتزاز يد الحرباء التي اختفت بسرعة إلى داخل المطبخ بعد الطلقة.. بينما وقف الزئبق مكانه وهو يرى ضحية زوجته تسقط على الأرض مخضبة بدمائها .. بينما راحت الفتاة الأخرى تحدق في قناعه وقد أسقط في يدها من هول المفاجأة.. ليستغل الزئبق هذه اللحظة ويسرع بالفرار خلف زوجته.


*****************



سارة جوزيف
غداً نلتقي

(نلتقي غدا في الهايد بارك)
عبارة كتبت بخط أنيق سقت صحراء صفحاتها المبعثرة، فكانت بداية لتزرع حقولا من السطور بل من الصفحاتصفحاتها التي بلا شخوص وجدت شخوصا بلا صفحات، شهورحاولت عبثا أن تجد الفكرة لرواية جديدة، ووقفت كثيرا أمام الكلمةالأولى عن هؤلاء العرب، والآن تكتب بلا توقف، وكأن كل الشخوص العربية التي كانت ملهمة لروايتها كجواد جامح لم تستطع ترويضه إلا بهذين السائسين، فقد استحوذ عليها الزئبق بعبقريته والحرباء بمكرها، كتبت عنهما شخوصا أساسية وستترك الشخوص الثانوية للعرب، فاعتمادها على هاتين الشخصيتين، سيكون موضوعا مناسبا لرواية، فكل ما سيفعلانه الزوجان بالعرب سيثير القارئ، ويجعل عنده انطباعا يشابه واقعنا، سيقف القارئ دائما يتنظر سارة جوزيف ككاتبة أن تنقذ العرب وترفع يد هذين الزوجين
عنها، ابتسمت وهي تتذكر نبيه، سيكون محركا للأحداث أيضا إن تعمقت في حياتهم الداخلية، نبيه صديق تعرف كيف تأخذ منه ما تريده، توقفت ومازالت تود مواصلة الكتابة ولكن لقاء الزوجين أهم، قبل خروجها بقيت تنظر
بعينين تقطران دهشة وإعجابا بما كتبت وتفكر كيف
سيكون شكل الرواية الجديدة، وتأمل أن ما سيفعله الزوجان سيحقق مبدأ مكيافيللي "الفوضى الخلاقة"، حيث سيكون التغيير والأحداث المشوقة.
عندما دخلت الحديقة وتأهبت كل خلاياها لاستطلاع مكانهما، لمحتهما تحت ظل شجرة كبيرة. إحساسا بالألفة يقودها إليهما ليس بغريب عنها، وعندما تحدثت معهما أدركت بأنها في الطريق الصحيح وبهما ستسيطر على الأحداث، ودعتهما تسابق خطواتها لصفحاتها. قبل أن تدخل شقتها وجدت آية عند باب شقة نبيه الذي أدخلها ووقف مبتسما لها ، كانت تظنه منكبا على مكتبه،
يعيش بين ثنايا الصفحات ويتنفس بين سطورها، لا يستقبل أطفال العمارة، حينما وصله صوتها مرحبا (مرحبا)
بابتسامته المعهودة رد لها التحية (أهلا)..
سألته مازحة (أين فيروز اليوم ؟ هل غيرت مجرى حياتك؟ لم أسمعها صباح اليوم ؟)
(ما رأيك أن نسمع فيروز ونشرب القهوة التركية؟)...
عندما دخلا جلست أية مقطبة الحاجبين، فسألت سارة نبيه ( ما بها عابسة هكذا ؟)
قبل نبيه رأس الصغيرة بحنان أبوي وسألها بلهجة مصرية (مين زعل آية الأمورة ؟)
ردت بمصريتها الجميلة (مش ينفع أقول دلوقتي !!)
سألها مقطبا حاجبيه (ليه ما ينفع ؟!)
فأشارت بعينيها لسارة التي تتابع حديثهما .. ضحك نبيه وقال لسارة:
(حديث بين جد وحفيدته لا نقبل طرفا ثالثا)
ودخل ليحضر القهوة بينما انشغلت آية بالرسم ..
سألته سارة (ما الذي يجعل رجلا مثلك يعيش وحيدا، بلا زوجة وأبناء، ربما لو تزوجت لكان لك أحفاد بعمر آية وأكبر!!)
رد بجواب قاطع (وإن تزوجت لن يكون لي أبناء ولا أحفادا فـ أناعقيم)
(أسفة .. لم أقصد ؟!)
قاطعها (أعرف)
..
ابتسامة باهتة منه وابتسامة اعتذار منها غيرت مجرى
الحديث (سألتك هل أحببت ولم تعطني جوابا؟)
(ما زلت إلى اليوم أحبها..)
(من هي؟)
(ابنة الحي سارة يوسف !!)
(متى أحببتما بعضكما.. وكيف؟)
(متى وكيف .. الحب لا يعرفهما .. الذي أعرفه أني مفتون بها .. كل صباح ، يصدح صوت فيروز، وتنتشر رائحة الخبز من فرن جدي، ويظهر وجهها تحتمي بجسد والدتها الضئيل من كلمات المديح التي تنساب منه بكل عذوبة، بينما لا يصلني وصبيان الفرن إلا يده
الغليظة وكلماته القاسية ، ينصهر ذلك العجوز أمام جمالها الكندي فهي تحمل جينات والدتها.)
وكما تقول فيروز (سوا ربينا) عشت سنوات الصبا والمراهقة والشباب وسارة هي الحبيبة ولكن القدر كان له كلمته فكان الفراق)
سألته متأثرة (لم ؟)
(أنا معلم لغة عربية ابن الفران أما هي ابنة الطبيب
والطبيبة، كما أن أهلها كباقي العوائل، الفقر والحرب دفعهم للهجرة.)
(إلى أين هاجرت؟)
(لا أدري، هاجرت وتركتني مغتربا في وطني)
(كيف وصلت للندن؟)
(أتيت هربا من الغربة إلى غربة أخرى ومع الأيام اكتشفت أن الوطن ذاكرة ذكريات.)
(وعشت حياتك مع الذاكرة والذكريات ؟)
ضحك نبيه من جرأتها (بل تزوجت، ولكن كي أكمل حياتي يجبأن أكون كافرا بالحب.)
حمل الفنجانين وتبعته ولكنها توقفت عند مكتبه وقد وقعت عينيها على صفحة كتاب كان يقرأه مفتوحة على أبيات لغازي القصيبي
لقد أعلنوها وفاة العرب
وقد نشروا النعي .. فوق السطور
وبين السطور .. وتحت السطور
وعبر الصور!!
وما إن ختمت قراءتها حتى سمعت صوت طلقة
اخترق أذنيها، صدى صوتها كلمات تردد في
عقلها مونيا .. الكاميرا .. الزئبق والحرباء .


*****************


انتهت الحلقة الخامسة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 21-10-22 الساعة 09:00 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:56 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.