آخر 10 مشاركات
دجى الهوى (61) -ج1 من سلسلة دجى الهوى- للرائعة: Marah samį [مميزة] *كاملة* (الكاتـب : Märäĥ sämį - )           »          56 - الندم - آن هامبسون - ع.ق (الكاتـب : pink moon - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          لا تتحديني (165) للكاتبة: Angela Bissell(ج2 من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          ❤️‍حديث حب❤️‍ للروح ♥️والعقل♥️والقلب (الكاتـب : اسفة - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          رحلة امل *مميزة*,*مكتملة* (الكاتـب : maroska - )           »          السر الغامض (9) للكاتبة: Diana Hamilton *كاملة+روابط* (الكاتـب : بحر الندى - )           »          أُحُبُّكِ مُرْتَعِشَةْ (1) *مميزة & مكتملة * .. سلسلة عِجافُ الهوى (الكاتـب : أمة الله - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree309Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-12-22, 12:36 PM   #1

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي رواية غصونك تُزهر عشقًا (1) .. سلسلة لعنة تسمى العشق





السلام عليكم اعضاء المنتدى الكرام
لأول مره بشارك هنا وأنا كلي توتر وأمل اني أقدم لكم سلسلة تنال اعجابكم... وكلي شوق لتعليقاتكم وآرائكم حول الشخصيات والأحداث

بشكر كل مشرفات المنتدى الي تعبتهم معايا من كثرة الأسئلة والازعاج، ولكنني لن أنسى لطفهم وسعة صدرهم أبدًا... وأرجو من الله أن يُثمر جهدي بثمرة طيبة وتنال السلسلة حبكم❤️❤️

نبذة عن سلسلة "لعنة تُسمى العشق"
هي سلسلة مكونة من خمس روايات منفصلة تحمل العديد من المشاعر المضطربة، تحمل الحزن والخوف، العشق بدراجته والندم بأنواعه.. تحمل نيران تُدفئ القلب
وتحمل وحشة تُرسل الصقيع للجسد

وأول رواية في السلسلة هي " غصونك تُزهر عشقًا"
مكونة من ثلاث ثنائيات، تجمعهم المشاعر وتُسيرهم الأحداث..

أتمنى لكم رحلة رائعة معهم

مواعيد تنزيل الرواية يومين في الاسبوع " الاثنين والخميس" بشكل مؤقت خلال شهر ديسمبر

وبداية من اول يناير ٢٠٢٣ سيتم تنزيل الفصل يوم الخميس الساعة ١١ بتوقيت القاهرة

في انتظار تعليقاتكم ومشاركتكم الغالية

مع حبي
وسام أسامة

المقدمة
لطالما تسائل، أهي امرأة من الزمن الغابر !!

خاوية من أي شيء عدى قلبها وطفلها، كانت جميلة وناعمة ولكنها لا تُشبه خطاياه الأشد جمالًا وإثارة
كل ما بها لا يثيره بقدر النظرة الحزينة على فقيدها، وفائها المُر يستفز رجولته لينتزع منها الشيء الوحيد الذي تملكه...قلبها.
فـ دهشتهُ بغصونها التي أزهرت عشقًا.



روابط الفصول

الفصل 1.. المشاركة التالية
الفصول 2, 3, 4, 5 .. بالأسفل

الفصول 6, 7 ج(1, 2), 8 ج( 1, 2) نفس الصفحة
الفصل 9, 10 نفس الصفحة
الفصل 11
الفصل 12 ج( 1,2), 13 ج(1, 2) نفس الصفحة
الفصول 14, 15, 16 ج(1, 2) نفس الصفحة
الفصل 17
الفصل 18
الفصل 19
الفصل 20
الفصل 21
الفصل 22
الفصل 23























التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 04-09-23 الساعة 01:43 PM
وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-12-22, 09:18 PM   #2

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي رواية غصونك تُزهر عشقًا " سلسلة لعنة تسمى العشق"

المقطع الأول
أُمسية السبت في أحد البنايات البسيطة في منطقة تشابه المناطق الشعبية ولكنها أفضل حالًا منهم، كانت مـرام تساعد صغيرها في ارتداء ملابسه بعد حمامه اليومي وتعطير جسده الناعم بمعطر رقيق يلائم الأطفال في عمره.

- (قهقهاتٍ رقيقة تنبعث من فم الصغير الذي يواجه دغدغات من الأصابع الرفيعة التي انتشرت في أنحاء جسده تثير فيه نوبة ضحك.)

_ضحكت على قهقهاته البريئة وهي تمسح على وجنته المنتفخة بحمرتِها اللطيفة التي تجعل قلبها يفيض رقة من فرط براءة طفلها الجميل براء فقالت بخفوتٍ رغم بسمتها وهي تحدق في عينيه البريئتين:
-(ما كانت حياتي تكون حياة دونك يا صغيري، لا تتوقف عن الضحك أبدًا، أُطرب آذناي بصوتك كي تجعلني على قيد الحياة يا طفلي.)

كان الصغير لا يفهم تمتماتها الخافتة، ولكنه ظل يؤرجح يديه ورجليه في الهواء يطالبها بحملها له كي يغفو على كتفها كما اعتاد بعد كل استحمامٍ له، ولكن مـرام لم تنتبه بمَا يفعله، بل شرد عقلها بعيدًا واجتمع الدمع في مُقلتيها وهي تتذكر كلمات فايز لها ذات مره وهو ينظر لها مليًا ويقول بصوتٍ صادق حمل عاطفته الخالصة:
(كم أنتظر قدوم طفلنا يا مـرام، لا أصدق أن الله مَنّ عليّ بزوجة مثلكِ وسيرزقني بطفلٍ يكمل حياتي بهجة ويزيدها استقرار، أكاد أموت شوقًا لمجيئه.)

هطلت دمعة سريعة على وجنتها وهي تفكر بألم وقد مات بالفعل، ليس شوقًا كما قال، بل فارقته حياته وأعلنت مودعه أن تُكمل طريقها وحدها، وتستعد لاستقبال طفلها بمفردها، فما عاد فايز قادرًا على مشاركتها الطريق، وباتت مُسيرة على وحدتها لا مُخيرة.

رفعت كفها سريعًا تمسح أثر الدمعة وانتبهت لصغيرها الذي بدأ النعاس يداعب جفونه برقة، وهو يقاومه كي يبقى مستيقظًا؛ لذا رفعته على كتفها وبدأت تتحرك به يمينًا ويسارًا تساعده كي يغفو بسلامٍ تفتقده هي حاولت ألا تسقط فريسة لأفكارها الحزينة، وركزت انتباهها على براء النائم على كتفها وهي تربت على ظهره الصغير برفق وتغمغم بصوتٍ خافت حنون وكأنه سيفهم ما تقوله:
-(في طفولتي كنت أرى في الأفلام القديمة الطفل يغفو بين يدي والدته التي تبدأ الغناء بصوتٍ عذب، ولكني لا أتذكر أن أمي غنت لي تهويدة قبل النوم أبدًا؛ لذا سأغني لك كي لا تقول حينما تكبُر أمي لم تغنِ لي.)
بدأت تتحرك به وتمسح على جسده بنعومة كبيرة، خرج صوتها كهديل الحمام التي تُرتل قَسم الطيور في طبيعتها الخلابة، طبيعة ورقة لا تشعر بها سوى وهي تحمل صغيرها بين يديها، قطعة منها، نبض قلبها ونور صدرها، هوائها النقي وسط تلوث عالمها الموحش.
(شـعره نازل على جبينه، روحـي وعمـري بهـدي له
وسنـينـي لـو عاجـبينه, بـهديله أحـلى الأيـام
يلا نـام يلا نـام، واهـديلك طـير الحمــام
روح ياحَـمام لا تصــدق، بغنيله حتى يــنام. )
توقفت عن الغناء الخافت واتسعت بسمتها الحنونة على ثغرها حينما شعرت بانتظام أنفاسه على جلد عنقها فتمتمت باسمة:
-(وتنام سريعًا كخالتك فاتن؟!)

جائت فاتن من خلفها تفوح منها رائحة معطر سائل الاستحمام وهي تغمغم بشقاوة وهي تقتنص قبلاتٍ رقيقة من وجه براء النائم:
-(وما بها خالته فاتن يا مرمورة؟)

أبعدته مـرام عنها سريعًا كي تحميه من إندفاعها وقطرات الماء التي تهبط من خصلاتها المُبتلة، ونظرت لها نظرة مؤنبة وهي تراها خرجت من الحمام لا يغطي جسدها سوى منشفة أخفت من بداية صدرها لأول فخذيها وكشفت عن باقي جسدها:
-كم مره أنبهك ألا تخرجي من الحمام هكذا، استحي يا فاتن وادخلي لترتدي ملابسك هيا.
ضحكت فاتن بغيظ وهي تحرك كتفها الأيسر قبل أن تسير نحو غرفتها الصغيرة المجاورة لغرفة مـرام وهي تغمغم بانشغال:
-(لن أرد عليكِ الأن يا مرمورة, أحتاج لوقت كي أجمع خصلاتي في باكور الشعر, وأرطب جسدي, واعتني بوجههي فغدًا عندي تجربة أداء, يجب أن أكون في أبهى صورة كي يختاروني من بين كل المتقدمات.)
اختفى صوتها حينما دخلت واختفت بين جدران غرفتها.
ضحكت مـرام وهي تحدق في أثر شقيقتها المهووسة بأُمور الفن والتمثيل وركضها المُستميت لتحصل على فرصة واحدة كي تدخل عالم الفن من أوسع أبوابه, منذ أن أنهت الثانوية العامة ورفضت التقديم في أي جامعة علمية أو أدبية رغم أنها حصدت درجات علمية عالية تؤهلها لتلتحق بكليات القمة كما هو سائد في بلدتهم، ولكنها كانت تحلم بشيء أخر تنام وتستيقظ على حلم واحد تأبى الاستيقاظ منه ألا وهو حلم التمثيل اجتهدت في دراستها كي ترضي والدهم فقط, ولكن حالما انتهت من دراستها الثانوية العام الماضي أصرت على الالتحاق بمعهد التمثيل رغم رفض الجميع, كانت مُصرة على رغبتها في إثبات نفسها فيه مستغلة وجهها الجميل الذي يوفر لها فرص عديدة, وموهبتها البدائية التي تفتقر للتدريب والمحاولات, وفاتن تسعى بكل قدرتها لتضع قدمًا في الفن, تقفز من تجربة أداء لأخرى, تلتحق بورش التمثيل التي تضطرها للعمل صباحًا في روضة للأطفال وتوفر راتبها كي تدفع ثمن الورش التمثيلية, ولم تيأس فاتن, لن تيأس أبدًا، تنهدت مـرام وتحركت لغرفتها كي تضع براء في فراشه وهي تغمغم بتمني صادق:
-(حفظك الله يا فاتن من أي سوء، حتى من نفسك يـارب.)
أنهت دعائها ودثرت طفلها بغطاءٍ خفيف وظلت واقفة محلها تتأمله بعيون أم شغوفة بطفلها وبأقل تفاصيله, تتمنى لو تضعه في قلبها كي تحميه من نسمة الهواء, تحميه من مجهول تخشاه, ومن واقع لا تألفه, ومن يُتمٍ تذوقته مرارًا، ولكنها ستحميه, ستفعل كل ما في وسعها كي توفر له حياة رغدة وبيئة سليمة تليق باسمه، انتبهت من شرودها على صوت طرقات قوية انتشلتها من شرودها, لا تدري لمَ خانتها نبضة قلب غادرة تُنذر بسوءٍ لا تنتظره, حدسها يخبرها أن خلف طرقات الباب خبر سيئ لن تحب استقباله أبدًا.
ابتلعت رمقها ونحت أفكارها السلبية جانبًا وخرجت من غرفة طفلها وأغلقت بابها بحرص قبل أن تتحرك نحو باب الشقة تنظر من الثُقب السحري فيه وهي تردد بهدوء:
-(مَن؟!!)
وصلها صوت عميق رجولي حمل خشونة معتدلة وهو يتمتم برسمية شديدة:
-(أنا المحامي عبدالعزيز رفال يا سيدة مـرام, محامي عائلة زوجك الراحل السيد فايز أل غانم.)
حدسها صحيح, السوء الذي لا تتوقع حضوره جائها, ارتعش جسدها واختلج عامودها الفقري في ظهرها ما أن سمعت اسم أل غانم, تلك العائلة الظالمة التي اتهمتها بقتل فايز رحمه الله حينما ذهب لبلدته كي يُدفن, باغتتها والدته القاسية ونبشت أظافرها في وجهها تُلقيها بأفزع الألفاظ سوءًا ولا تردد سوى جملة واحدة مُهينة ( قتلتيه يا إبنة الفاجرة, قتلتي ابني يا إبنة الفاجرة.)
ولم ينقذها من براثنها سوى بعض النسوة اللاتي أشفقن على حالها وانتزعنها من بين يديها, وبعدها بدأن يقترحن زواجها من الابن الأكبر لعائلة غانم " فراس الغانم" كي ينشأ طفلها الذي لم يأتي الدنيا بعد بين عائلته العريقة, ولكن والدة فايز قفزت مره أخرى تصرخ بجنون منهارة،
(تلك الفاجرة لن تتزوج أحد أولادي مره أخرى, يكفيني ضياع من ضاعوا, يكفيني, تذهب لقاع الجحيم هي وطفلها ابن الحرام, هذا ليس ولد فايز, انها فاجرة ابنة فاجرة.)
لم تتوقف الأم عن القائها بكلماتٍ جارحة تُدي القلب وتزيد رعبها أكثر وأكثر, فغادرت القرية بعد أن دُفن فايز, وأخذت أشيائها من شقة زوجها واختفت عن الجميع كي تحمي نفسها وطفلها من أذى يتربص بها في كل خطوة لها, ومضى على ما حدث أكثر من عام كامل تمارس حياتها الهادئة مع طفلها الرقيق.
خرجت من شرودها مفزوعةً على صوت الرجل يُكرر من جديد:
-(سيدة مـرام هل تسمعينني؟)
تمالكت مـرام نفسها وحاولت التحكم في رجفة أناملها وهي تفتح باب شقتها البسيطة وتنظر له من شِق الباب مغمغمة بهدوء اصطنعته بصعوبة كبيرة:
-(نعم يا سيد عبدالعزيز أنا أسمعك, ما سبب زيارتك !)
كان الرجل الواقف أمامها ينظر حوله للسُلم الضيق الخالي من أي خصوصية والشقق القريبة من بعضها حيث يتسرب الصوت سريعًا للجميع, فعقد حاجبيه للحظات ثم نظر لها نظرة متأمله فخرج صوته عميقًا يحمل دهشة وربما استنكار:
-(تنوين أن أقول سبب زيارتي هنا؟!)
ترددت للحظات قبل أن تفسح الطريق وتفتح الباب كي يدلف شقتها وتعلم سبب هذه الزيارة في أسرع وقت كي يرحل, ثم تركت الباب مفتوح وتبعته للداخل وتجلس على الأريكة البسيطة وتشير له كي يجلس على المقعد الوحيد المُتبقي في صالة الجلوس, استجاب عبد العزيز لها وجلس على المقعد الخشبي متجاهًلا صوت الأزيز الذي صدر منه بسبب تهالكه فقالت مـرام بوجهٍ عبوس:
-(تفضل يا سيد أنا أسمعك.)
مد الرجل يده لجيب بدلته الغالية يخرج منها بطاقة تعريف أنيقة ويمدها لها قائلًا بهدوء:
-(كما أخبرتك قبل لحظات, أنا عبدالعزيز رفال المحامي والمستشار القانوني لكافة أعمال عائلة أل غانم، لم يسبق وتلاقينا, ولكنني كنت صديق مُقرب لفايز رحمه الله.)
تنهدت تكتم توترها وهي تحرك رأسها بإيجاب بعدما قرأت البطاقة وأعادتها له قائلة بخفوت:
-(أهلا بك سيد عبدالعزيز, أرجوك أن تخبرني سبب زيارتك؟)
-(أخشى أن أخبرك أن عائلة أل غانم رفعت قضية حضانة لينضم براء فايز لهم, ولكن أرادوا أن يتركوا لكِ فرصة قبل أن يمضوا قدمًا في الإجراءات القضائية, وأنا هنا لأقترح حلول سلمية قبل أن نسلٌك طرق القانون.)
توقفت أنفاسها للحظات وشحب وجهها تمامًا وقد اختفت الدموية منه أكثر من ذي قبل, بردت أناملها وشخصت عينيها فيه دون أن تجد قدرة على استيعاب ما قاله, مضت ثوان كثيرة قبل أن تغمغم باستنكار مبحوح:
-(قضية ما الذي تقوله أنت؟!)
أشفق عبدالعزيز على صدمتها والفزع الذي اكتسح ملامحها فقال برفق:
-(القضية هي الخطوة الأخيرة إن لم تقتنعي بالحلول السلمية التي قدموها يا سيدة مـرام, دعينا لا نُنكر أن الطفل يجب ان ينشأ وسط عائلته, لا يرضيكِ أن يعيش مبتور الأصل والجذور.)
انتفضت واقفة وانفلتت صراختها المفزوعة في وجهه وقد انهار تماسكها كُليًا, جسدها ينتفض بجنون مما سمعته توًا, يريدون أخذ ولدها من أحضانها, يريدون نزع أخر أنفاسها في الحياة وحرمانها من ولدها:
-(براء ابني أنا، لا عائلة له، لقد شككوا في نسبه سابقًا وقالوا عنه ابن حرام، وتأتي الأن وتقول لي أنهم يريدونه أن ينشأ بينهم، ثم أن القانون سيحكم لي بكل الأحوال، أنا امرأة عازبة لم أتزوج وأتي له بزوج أم, ولا عاطلة ولا معدومة, أنا امرأة عاملة أستطيع توفير حياة معتدلة لولدي، لا يوجد قانون في عالم سيحكم بغير هذا.)
وقف عبدالعزيز أمامها وتحدث بهدوء تام دون أن يبدي أي ضيق من صراخها في وجهه وغضبها التي أنزلته على رأسه فقال:
-(اسمعي سيدة مـرام، قد لا تعلمين عائلة الغانم ولكنهم يستطيعون فعل ما أرادو دون أن يتحرك فيهم جفنٍ واحد، لو سلكوا مسلك القانون سينضم الطفل لهم وحينها ستفقدين أي حقٍ فيه، أنصحك بالتفكير أولًا بتريث وبعدها اتخذي قرارك الأخير، أنا أحادثك كأخٍ أكبر وأنصحك بالتفكير واللجوء للطرق الودية، أنتِ لن تستطيعي معهم قوة.)
ما إن أنهى كلماته وجد عاصفة من الشعر الأسود تندفع سريعًا نحو مـرام تقف جوارها وتتحدث بحدة وشراسة:
-(ما الأمر يا مـرام من هذا الرجل وما الذي ستفكرين فيه؟)
تأمل عبدالعزيز المخلوقة الواقفة أمامه بوجهٍ يغطيه شيء كريمي أخضر يغطي ملامحها كاملة وكأنه قناع ولا يظهر منه سوى عيني عسليتين واسعتين كـأكواب عسلٍ سائل يثير الشهية من دفئه، وخصلاتها مُلتفة حول دوائر ضخمة كان يرى والدته تستخدمها وهو صغير، ويتدلى باقي شعرها من أسفل تلك البواكير الضخمة، وترتدي منامة منزلية كشفت عن عودها المتناسق بغض النظر عن وجهها الكارثي أو رأسها الضخم بسبب خصلاتها المسدولة من الباكور الغريب، لولا الأجواء المتوترة لكان ضحك بسخرية من هيئة تلك المخلوقة الحادة التي تنظر له بعينين تقدحان شرًا وهي تتحدث حادة:
-(من أنت يا سيد؟
-‏ولمِ أشم نبرة التهديد في حديثك لأختي؟)
نقل عبدالعزيز نظرة بين مـرام الشاحبة التي تفكر في كلماته المُحذرة, وبين تلك الفضائية التي تحدق فيه تنتظر
إجابة وكأنها شُرطي يستجوب متهم, فأغلق زر بدلته الرسمية وهو يغمغم بهدوء:
-(تستطيعين سؤالها, والأن سأرحل يا سيدة مـرام، تملكين رقم هاتفي إن أردتي التفاوض معهم، تصبحون على خير.)
كاد يتحرك للخارج ولكن لحقته فاتن تقبل على مرفقه القوي بأناملها الرفيعة وهي تهدد بحدة:
-(قف مكانك يا رشدي أباظة واخبرني من أنت وما سبب تهديدك الخفي لأختي وإلا صرخت وجمعت الجيران ومن بذلتك هذه أنت لا تعلم مشجارات الحارة الشعبية يا ابن الذوات؟)
لا يصدق أن تلك الكلمات الحادة والسخرية المبطنة تخرج من ذاك الكائن الرخوي ضخمة الشعر قصيرة القدمين ذات قناع أخضر يفوح منه رائحة خيار ممزوجة بحليب، عقد حاجبيه للحظات وكأنه يحاول مطابقة تهديدها له بهيئتها المضحكة قبل أن يقول بصوتٍ ثابت شابه الجمود:
-(ابن الذوات نشأ في حارة شعبية يا أنسة خضراء, ثم أن بنات الناس لا يجمعن الجيران أو يخرجن لاستقبال غريب بملابس النوم, حينها ستنقلب المشجارات لبث مباشر يٌثير الغرائز المكبوتة يا أنسة خضراء.)
أنهى كلماته وغادر دون أن ينظر لوجهها المذهول مرتين, بل غادر تمامًا وأغلق الباب خلفه بقوة لتنتفض كلا من فاتن ومـرام التي كانت في عالم أخر بعيــد تمامًا عن الجدال الهزلي الذي دار قبل ثوانٍ بل كانت تسترجع حديث قديم أجرته مع زوجها الراحل فايز حينما أخبرها ذات مره بشرود حزين:
( عائلتي غريبة الأطوار يا مـرام، لا شيء فيها بسيط يمر مرور الكرام، بل كل خطوة لهم بألف حساب، لا يعرفون للهزل طريق، ولا للرحمة باب، كل شيء يخضع وفق إرادتهم وكأن العالم سُخر لهم ولأوامرهم، لقد نجوت منهم بأعجوبة، كل صباح أحمد الله ألف مره أنني لم أشابههم في طباعهم القاسية.)
تمتمت لنفسها بصوت خافت مفزوع:
(كل شيء يخضع وفق إرادتهم حتى القانون, لا لا مستحيل، القانون في صفي، براء ابني لن يخرج من أحضاني, لن أسمح لهم.)
ربتت فاتن على ظهرها برفق وهي تتحدث بثقة هشة لا تعلم كيف استطاعت اصطناعها وقالت:
-(لا تقلقي يا عزيزتي، لن يفعلوا شيء ولو أرادو أخذ براء لفعلوا من شهور طويلة، وحتى لو أرادوا الوقوف أمامنا لن نصمت، أنتِ الأم والقانون في صفك كما سمعتك تقولين قبل دقائق.)
فزع مـرام ويأسها جعلها تنظر لشقيقتها الصغيرة ترجوها بعينيها وهي تغمغم بصوتٍ يشارف على البكاء:
-(تظنين هذا يا فاتن؟!)
_(أنا لا أظن وإنما متأكدة, والأن هيا لنذهب للنوم مناوبتك ستبدء الخامسة صباحًا أمامك ساعات قليلة للنوم هيا لا تفكري في كلمات شجيع السيما ذو الوجه الجميل هذا.)
أتمت فاتن جملتها مازحة وهي تسترجع هيئة ابن الذوات في عقلها، ولكن مزحتها تلك لم تُضحك مـرام التي قضت ما بقى من ليلها وهي تُفكر فيما حدث، تضم صغيرها لصدرها تنعم بوجوده بين ذراعيها وهي تفكر في حلول فعالة إن حاولوا نزع طفلها منها مرة أخرى, ولم تستطع النوم سوى ساعة واحدة قبل ميعاد عملها كممرضة في المشفى العام للمدينة التي تعيش فيها، وفي أحلامها القصيرة جائها زوجها فايز، يربت على كتفها وينظر لها بعينين تحملان حنان الدنيا ودفئها، والأسف يظلل وجهه بذنبٍ غير مفهوم وهو يهمس لها بخفوت:
-(أنا أسف يا مـرامي، سامحيني لأرتاح يا حبيبتي.)
كانت دموعها تهبط أنهارًا على وجهها وهي تتمسك بكفه الحبيب وتحاول التشبث فيه وألا يتركها ويرحل من جديد ولسانها يلهث برجاءٍ حزين ملهوف:
-(أنت لم تفعل شيء لأسامحك عليه يا فايز, أرجوك لا تتركني وحدى, أنت أكثر من يعلم مدى ضعفي وتيهتي في الحياة، أنا لست قوية لأتابع الحياة بعدك، أرجوك لا تتركني أو خذني معك.)
كان بكائها المقهور يؤثر فيه ويجعل عذابه يتضاعف على وجهه، فحاوطها يعانقها ويربت على رأسها يحتويها بكلماته وذراعيه:
-(ونترك براء يا مـرام؟!
لا يا حبيبتي, أنتِ أقوى مما تظنين، لستِ واهنة كما تقولين، وواثق أنكِ ستنجين بولدنا براء، وتُثبتين برائتي أنا أيضًا.)
ابتعدت عن ذراعيه فجأة تنظر لوجهه الصبوح وتسأله محتارة في كلمته الأخيرة التي ألقاها بندم واضح:
-(أي براءة يا فايز؟!)
سؤالها جعله يتحول لضباب ويختفي فجأة وكأنه غبار منثور، اختفى فجأة واختفى دفئة الذي كان يحاوطها قبل لحظات وبدت الوحشة والصقيع ينفردان بها, فصرخت برعب حقيقي وهي تنظر حولها تحاول أن تبصره وسط الضباب الذي استحال حولها:
-( فايز عُد يا فايز لا تتركني, فايز أرجوك أنا احتاجك، فايز أرجـــــوك عُد فايـــــــز.)
انتفضت من نومتها صارخة باسمه وقد اختلط عليها الحلم بالواقع، فانتفضت لاهثة والعرق يتصبب من جسدها بغزارة، وصرختها المفزوعة تزامنت مع صرخات براء الذي فُزع من صرختها وقد صدح أذان الفجر يبدد سكون الليل وظلمته الحالكة.
-( الـلـه أكبــر الـلـه أكبــر.. أشهــد أن لا إلـه إلا الـلـه.. أشهــد أن مُحمــد رســـول الـلـه.)
مسحت وجهها المتعرق ومدت يديها المرتعشتين تحمل براء لصدرها وتربت على ظهره لاهثة وهي تردد الأذان. [أنفاسٍ مخنوقة وقلب مقبوض لم تجد له علاجٍ فعال سوى الوقوف بعدما غفى الصبي وذهبت لتتوضأ وتُصلي الفجر مودعة كل أحزانها وفزعها بين يدي الله كي يساعدها ويُنزل السكينة على قلبها, واستعدت ليوم عمل جديد وتفكير طويل.
#######################
قبل عدة ساعات،
صعد عبدالعزيز لسيارته وجلس أمام عجلة القيادة مباشرة ويضع المفتاح في سيارته ويقودها مبتعدًا عن المنطقة السكنية، يُفكر في ردة فعل مـرام على ما فجره في وجهها قبل دقائق، وتسرب لقلبه شعور بالشفقة لمَا ينتظرها على يد أل غانم، ورغم شعوره ذاك على أنه يجد معهم كل الحق فيما يفعلونه وسيفعلونه لاسترداد حفيدهم منه, ولكنه يتمنى ألا يحدث هذا بطريقة مؤذية تزيد غيرهم ألم وقهر.
خرج من تفكيره العميق حينما صدح رنين هاتفه من السامعة الداخلية في السيارة، فضغط على زر الرد حينما رأى اسم المتصل، فصدح الصوت على الطرف الآخر يقول بصوت هادئ عميق يخمن ما حدث معه قبل قليل:
-( قبلت بالعرض المالي الذي عرضته عليها, أم أرادت زيادة؟)
انتشر الضيق على وجه عبد العزيز وهو ينظر لهاتفه تارة وللطريق أمامه تارة أخرى مغمغمًا:
-(وهل ستكون ردة فعلك الطبيعية هي قبول المال كي تبيع ولدك يا رجُل؟
بالطبع لم أخبرها بأمر المال هذا، زوجة فايز تبدو امرأة محترمة تملك ما يكفي من الضمير بعكس الصورة التي رسمتها خالتك وفراس, ما أن أخبرتها برغبة عائلتك صرخت وقفزت مفزوعة وكأنني سأنتزع روحها، وأنت تقول لي قبلت المال أو لا؟!)
صمت الرجل على الطرف الأخر للحظات يُفكر فيما سمعه قبل أن يقول بضيقٍ واضح بعد لحظات:
(إذن اختارت الطُرق الصعبة؟)
-(على ما يبدو هذا يا نُصير, وأيضًا هي تعلم أن القانون يُناصرها وأن حضانة الطفل من حقها هي، فهي لم تتزوج بعد فايز رحمه الله، ولا تملك سجل جنائي سيئ يمنعها من تربية الطفل.)
للمره الثانية صمت نُصير للحظات يقلب الكلمات في رأسه وهي يهمهم بإيجاب ويعلق على كلماته بسؤال خبيث:
-(وما الذي يمنعها من حضانة الطفل باستثناء سجل إجرامي أو زواجها؟)
فكر عبدالعزيز لدقائق يسترجع الحالات المشابهة لمرام التي مرت عليه قبل أن يقول بهدوء مُفكر:
-(مثلا أن تكون الأم مُعدمة نهائيًا ولا تستطيع النفقة على طفلها، القضاء ينظر في النواحي المادية لمصلحة الطفل؛ لذا هذا يُضعف موقف الأم نوعًا ما.)
-(ذكرني بعمل مـرام تلك؟
-‏أه نعم تذكرت ممرضة)
صمت مره أخرى يتنهد مطولًا وهو ينظر للسقف أمامه للحظات قبل أن يغمض عينيه ويؤرجح مقعده يمينًا ويسار يُفكر في خطوته القادمة فيما يخص ذاك الأمر المعقد قبل أن يُوقف مقعده فجأة ويرفع أحد حاجبيه لمَ توصل له في عقله، فتبسم ابتسامة صغيرة وهو يتمتم بصوت هادئ لا يحمل أي همًا:
-(بسيطة يا عزيز أترك الأمر لي وعد أنت للمدينة غدًا، فراس يواجه بعض المشاكل القانونية في المصنع، أذهب غدًا وحل الأمر وأنا سأنهي أمر مـرام تلك هنا. )
تجعد وجه عبدالعزيز وأوقف سيارته على أحد الجوانب ونظر لهاتفه بغير ارتياح قائلًا بصوتٍ مُحذر:
-(نُصير لا تتبع شيء غير أخلاقي أو غير قانوني، تلك المرأة لا تستحق كل الحقد الذي تكنونه لها، هي فتاة بسيطة لا تؤذي نملة و..)
قاطعته ضحكات نُصير المرحة وهي يتحدث بذهول ممزوج بتسلية؛
-( ويحك يا رجل هل أرسلتك لها لتقع في هواها؟!
إذن يجب أن أصدق خالتي حينما تقول أنها مُشعوذة، ولكن إحذر لا يجب أن تحبها, ستنقلب عليك عائلة أل غانم وأنا أولهم.)
تجاهل عبدالعزيز نبرة التهديد في صوت صديقه وخرج صوته حاد نافذ الصبر من تلمحيات نٌصير ومزاحه في غير موضعه:
-(نُصيــــر أنا لا أمزح الأن, نحن لا نؤذي النساء لا تنسى هذا.)
كأن نفاذ الصبر عدوى وانتقلت لصوت نُصير الذي تمتم:
-(لا أؤذي النساء يا حضرة المحامي، وأنت لا تنسى فلك كي لا نؤذيك نحن، هيا أراك غدًا في المدينة.)
أغلق عبد العزيز الهاتف وحدق في الشارع أمامه وشعور عدم الثقة يتضاعف في صدره, هو يعلم أن رجال عائلة أل غانم لا يؤذون النساء، ولكن حقدهم على مــرام من الممكن أن يدفعهم ليفعلوا ما هو أكثر من الأذى، وموت فايز جعل نيرانهم تزداد وجروحهم الغير مندملة تلتهب من جديد, ولن يشفي هذه الجروح سوى القصاص.
مسح على وجهه للحظات قبل أن يعاود القيادة مره أخرى وهو يركز انتباهه على الطريق أمامه, وقد شغل عقله شيء أخر تمامًا، يفكر في فلَك التي هدده نُصير لأجلها قبل لحظات، وشيء داخله ضحك بسخرية على تهديد نُصير له، أيخشى على فلك من الأذى؟!
فلك التي خُلقت صلدة قوية لا يمسها السوء بسبب شخصيتها الحادة وأخوتها وأبناء عمومتها الذينَ يحاوطونها كدرع من نار يحمونها بأنفاسهم وكل قدرتهم، فهي الابنة المميزة في عائلة أل غانم, ورثت قوتهم وصلابتهم وقسوتهم؛ لذا فليخشى عليه هو منها لا العكس.

المقطع الثالث
مضت أول ساعات عملها بغير تركيز, تتنقل من مريض لأخر وتساعد الأطباء الذين يستدعونها في عمل طارئ, كان جسدها هو من يعمل وذهنها غائب كليًا.. كانت لازالت تفكر في زيارة المحامي لها ليلة أمس وحديثه عن عائلة أل غانم.. لم تنم ليلتها من كثرة التفكير والأن لا تستطيع مباشرة عملها بتركيز بسبب ما حدث, وكادت ترتكب أخطاء شنيعة لولا وجود الأطباء جوارها أو ملاحظات زميلاتها.. فكانت تضطر للاعتذار وتحاول التركيز
سحبت نفسها لغرفة الاستراحة تجلس فيها بعدما أعدت كوب شاي ساخن يساعدها على الاسترخاء واستجماع شتات نفسها وهي تحاول طمأنة نفسها بما قالته شقيقتها ليلة أمس, لو أرادوا أخذ براء لفعلوا منذ أشهر طويلة, فهم فقط أرادوا تخويفها لا أكثر.. حاولت اقناع نفسها بتلك الحجة الضعيفة
بدأت تتنفس الصعداء وهي ترتشف من كوب الشاي, وما كادت تفعل حتى رأت أحد زميلاتها تسير نحوها وتميل عليها هامسة بصوتٍ قلق مُحذر...
-( سمعت أن المشرفة تريدك يا مـرام, هل فعلتِ شيء سيئ !!)
توقف الشاي في حلقها فجأة وهي تنتفض واقفة تسعل بقوة محاولة تنظيم أنفاسها وهي تغمغم بصوتٍ متقطع...
-(ما.. الذي.. حدث, لمَ تريدني)
ربتت هبة زميلتها على ظهرها كي يهدأ سعالها وهي تقول قلقة...
-(لا أعلم يا مـرام, كل ما أعلمة أنها قالت لرحمة تستدعيكِ لمكتبها فورًا وأحد غيرك يستلم مناوبتكِ)

بعد عدة ثوان دخلت بخطواتٍ قلقة لغرفة مشرفة الممرضات وقد بردت أناملها وباتت نظراتها قلقة من الاستدعاء المفاجئ الذي قطعها عن عملها, وتلك الهمسات التي انتشرت بين زميلاتها وهن يرمقنها بنظراتٍ مشفقة لا تدري سببها.. شيء ما داخلها يخبرها أن المشرفة ستُفجر خبر غير سعيد أبدًا.. فنظراتها الحذرة تخبرها بمدى سوء الأخبار المحملة لها..

أقصرت في عملها وستنال تقريع على تقصيرها ذاك !
نعم قصرت, فمنذ ولادتها وهي تحاول التوفيق بين عملها في المشفى لتوفر المال واعتنائها بطفلها الذي يحتاجها في شهوره الأولى من ولادته, قصرت لدرجة أنها كانت تجلبه معها بشكلٍ سري وتضعه سرٍا في روضة المشفى الخاصة بأطفال الأطباء فقط, ولكن المربية اخبرتها أنه سيكون في امانٍ معها ولن يعرف احد بأنه ولدها كي لا تتعرض لعقاب وتفقد مكانً أمن لطفلها أثناء تأدية عملها
اعلمت المشرفة بهذا الأمر !!
أم أن غيابها في منتصف الاسبوع الماضي بشكلٍ مفاجئ سيعرضها للحسم من راتبها كـ قرصة أذن كي لا تعيدها دون إنذار مُسبث !!
هل وشى بها أحد أنها تعمل في عيادة خاصة كعملٍ ثان لها !!
هل سيتم نقلها من قسمها الحالي !

توقف عقلها أخيرًا حينما انتهت المشرفة "عديلة" من اتصالها الهاتفي الذي استغرق خمس دقائق كاملة حرقت فيهم عقلها من كثرة التفكير فقالت بصوت هادئ خفيض ..
-(أخبرتني هبة أنك تريدنني يا أبلة عديلة.. أعلم أنكِ غاضبة مني بسبب غيابي أول أمس بشكلٍ مفاجئ ولكنني سأعوض غيابي ذاك وأعمل يوم إجازتي)
قُبل حديثها بصمت غريب وعديلة تنظر لها نظرات ذات مغزى لمع فيها التردد, فتحت فمها تنوي السؤال قبل أن يقتلها صوتها الداخلي الذي يصدح بخطر, ولكن طقطقة أصابع المشرفة جعلتها تنتبه لها فـ استمعت للمشرفة وهي تتنحنح وتشبك كفيها ببعضمها وتقول بصوتٍ هادئ بعيد عن صرامتها المعتادة...
-(سأختصر ما أردتكِ فيه يا مرام، المشفى استغنت عن خدماتك وتم فصلك صباح اليوم، لذا لا داعي لتعملي يوم اجازتك)
كانت الصدمة والشحوب هما الضيفان الثقيلان على وجهها منذ ليلة أمس, والان بدى وجهها ميت تمامًا وهي تتلقى تلك الضربة الموجعة التي صوبتها نحوها عديلة التي تنهدت وتابعت بصوت متعاطف...
-(صدر قرار فصلك منذ ليلة أمس ولم أعلم به سوى الان, وفقك الله في مشفى أخر يا مـرام)
خرج صوت مـرام مختنق مقهور وهي تردد..
-( ولكن هل فعلت شيء سيئ!!.. لمَ يا أبلة عديلة أنا..)
قاطعتها عديلة مره أخرى ترفض إيضاح الكواليس الحقيقية القرار فقالت..
-(ادارة المشفى علمت أنك قُبلتِ هنا بسبب اسم زوجك الراحل الطبيب فايز أل غانم, كما أن زميلتك قدمن شكوى بسبب تعيينك هنا بواسطة, بينما غيرك أبدى منكِ ويستحق مكانكِ)
اختنقت أنفاسها في صدرها لمَ تسمعه, هي حقًا عُينت في المشفى بسبب اسم زوجها الراحل وبسبب توسيط من طبيب كان صديق لزوجها, ولكنها تستحق مكانها هذا, هي تملك كل ما تملكه أي ممرضة اخرى ولم يصدر منها اي شيء سيئ, فلمَ تُفصل لمَ !!
ابتلعت رمقها وحاولت ألا تبكي أمام عديلة وهي تقف وتمسح كفيها فيملابسها قائلة بصوتٍ مختنق..
-(سأقابل ادارة المشفى و..)
قاطعتها عديلة بنبرة مشفقة ولكنها حاسمة لا تقبل التراجع..
-(مـرام, لقد تم تعيين ممرضة غيرك وتم امضاء قرار فصلك, لا داعي لإذلال نفسك.. يبدو أن فصلك يُفيد أحدهم)

لا تدري كيف خرجت من مكتب عديلة وغيرت ثيابها وتملصت من زميلاتها وغادرت المشفى, كانت قدميها تسير بلا هوادة ودموعها تهبط على وجنتيها بلا حيلة.. وجملة عديلة تتردد في سمعها بلا توقف (يبدو أن فصلك يُفيد أحدهم).. أيمكن أن سبب فصلها له علاقة بقدوم المحامي ليلة أمس, أم انه محض الصدفة فقط !!
وقبل أن تسترسل في أفكارها انتبهت لصوت هاتفها الذي صدح بباسم الطبيب الذي تعمل في عيادته كفترة ثانية يومان في الاسبوع وتزيد منه دخلها, أجابت على اتصاله بصوت مرتجف مغمغمة
-(مرحبًا)
جاء صوت الطبيب هارون متعجل ونزق وهو يلقي كلماته دفعة واحدة وكأنه يخشى نسيانه..
-( مرحبًا يا مـرام, لا داعي لتأتي يومخ الأربعاء, سأسافر مدة طويلة لمتابعة الدكتوراه ولن أتواجد في العيادة, حينما احتاجك سأحادثك, سأرسل لكِ أجر شهرين على حسابك الان, أنا أسف يجب أنا مشغول جدا.. مع السلامة)
ألقى كلماته وأغلق دون أن ينتظر كلمة واحدة, أما هي فت لازالت واقفة في محلها ه8اتفها معلق ععلى أذنها ودموعها تجري أنهارًا وشيء ما يخبرها أن كل هذا ليس صدفة, وإنما قدر سيئ يلاحقها
لم يخرجها من صدمتها سوى اتصال أخر من شقيقتها فاتن التي لا تتوقف عن الاتصال بإلحاح, فضغطت على زر الرد واستمعت لصوتها الباكي..
-(مرام أنا عدت للمنزل وأخذت براء من جارتنا, مـرام لقد تحرش بي ذاك المخرج الحقير, صفعته وركضت وتركت كل شيء خلفي, ذاك لذئب البشري أراد أن ينتهكني كي يعطيني دوره التافة, أنا صفعته ولكن نيراني لم تخفت.. مــرام أين أنتِ !!)
أغلقت مـرام الهاتف وتابعت سيرها وهي تشعر بأن الارض تميد بها, كانت تسمع جملة المصائب لا تأتي فرادًا, وهذا ما ينطبق عليها في هذه اللحظة.. فُصلت من المشفى والعيادة, وعائلة زوجها سيقاضونها وشقيقتها جربت مساوئ ما تتمناه
أي شيء أسوء قد يحدث !!
توقفت محلها وهي تفكر في تحذير عبد العزيز حينما قال -(اسمعي سيدة مـرام, قد لا تعلمين عائلة الغانم ولكنهم يستطيعون فعل ما أرادو دون أن يتحرك فيهم جفنٍ واحد.. لو سلكوا مسلك القانون سينضم الطفل لهم وحينها ستفقدين أي حقٍ فيه, أنصحك بالتفكير أولًا بتريث وبعدها اتخذي قرارك الأخير, أنا أحادثك كأخٍ أكبر وأنصحك بالتفكير واللجوء للطرق الودية, أنتِ لن تستطيعي معهم قوة)
لقد حذرها أنهم لن يقفوا أمام شيء يمنعهم بل سيأخذون ما أرادوا دون طرفة عين واحدة
أدخلت يدها المرتجفة في جيب حقيبتها تخرج بطاقة تعريف عبدالعزيز وضربت الأرقام المدونة عليها ثم رفعت الهاتف لأذنها تستقبل صوته الذي صدح بعد دقيقة او أكثر فقالت بنبرة مقهورة أليمة..
--(هم سبب فصلي من عملي أليس كذالك !)
ران الصمت عليه دون أن يجد رد يقوله سوى بعد دقيقة وهو يتنهد بقوة قائلا..
-(سيدة مـرام, أرجوكِ أن ترضخي للتفاوض معهم, ستجدين حل يرضيكِ ويرضيهم, صدقيني العناد لن يُفيد)
لم ـابه مرام باي شيء حولها واستندت للجدال تصرخ بعنف وهي تتمسك بهاتفها بقوة وقد انهارت قواها تمامًا..
-(أي عناد يــا هذا أي عناد.. هذا ولدي أنا, هم أنكروه وهو نطفة في رحمي والان يريدونه !!, سأجد عمل أخر ولن أضع عنقي تحت فأسهم ولن أسلمهم ولدي أتسمعنى !!)
-(أليسوا قادرين على فصلك مره أخرى, سيدة مـرام, أنا لا أريد الوقوف أمامك في المحكمة, صدقيني أنتِ خاسرة في هذه المعركة)
كان صوته حاد صادق يثنيها عن عناد لن يٌفيد ولن تأخذ منه سوى الألم والحرمان من صغيرها, فتمتمت بصوتٍ باكِ ترجوه..
-(أرجوك لا أود مفارقة طفلي, أرجوك لا تدعهم يأخذونه)
اغمض عبدالعزيز عيناها مشفقًا على حالها, هو حقًا يريد مساعدتها بأي ثمن ولكن حتى لو أراد الوقوف أمام غانم سيكون خاسر معهم, هو يُدرك الوضع وأبعاده, ولكنه تحكم في انفعاله واعتدل في جلسته وهو يقرب الهاتف من فمه قائلا..
-(اسمعيني سيدة مـرام, لن تبتعدي عن ولدك, ولكن أرجوكِ ثقي بي وأنا سأساعدك, أعلم انك لن تصدقيني الان, ولكم امامك اختيار من اثنين, إما ان تقودي حربك الخاصة مع أل غانم ونتقابل في المحاكمة, وإما أن تغامري وتثقي بي"
كان بكائها يتضاعف وهي تضع فمها على فمها تحجب بكائها العالِ وهي تردد منهارة..
-(كيف اثق بك كيف.. أنت محاميهم كيف أثق بك!!)
صمت عبدالعزيز للحظات قبل أن يقول بحسم..
-(قرارك بيدك يا سيدة مرام)

***
بعد عدة ساعات، كانت تقف على الشارع الرئيسي تحمل صغيرها بين يديها وشقيقتها فاتن جوارها تحمل حقيبة ملابس صغيرة تحوي ملابس للصغير تناسب زيارة يوم واحد لبلدة والده

كانت قد اتصلت بوالدها لتخبره بما حدث ولكنها علمت بمرضه فقررت أن تحل مشكلتها بمفردها وتثق بـ عبدالعزيز، لا حل أخر أمامها

توقفت أمامها سيارة سوداء فارهة تلمع من كثرة نظافتها وثرائها، نظرت لزجاج السيارة الغير عاكس تحاول رؤية من فيها لتتأكد أنها السيارة المنشودة، بينما هو كان جالس أمام عجلة القيادة يحدق فيها بعينين هادئتين يحاول تقيميها بنظراته الغير واضحة لها، فهو يراها ولا تراه، كانت تحمل طفلها لصدرها وتحاوط ظهره، تجمع شعرها في ربطة خلف رأسها وقد بدت بعض الخصلات مشعثة تنم عن طول يومها ومدى الإرهاق فيه، ترتدي بنطال قماشي ذو لونٍ أسود والقطعة العلوية باللون الأسود أيضًا لا يظهر منها سوى ذراعين، وعلى ما يبدو أنها لم تخلع لون الحداد بعد.
كانت ملامحها جميلة ولكنها باهتة وكأنها تسير نحو عمر العجَز، وليست امرأة عشرينية كما علم، ملامحها تحمل سكينة رغم عينيها السابحتين في موجة حزن وبلادة، نظر لرفيقتها التي تبدو أصغر عمر منها بملابس عصرية زاهية كان جمالها أكثر جرأة من ملامح شقيقتها الساكنة الباهتة
انتهى من تأملهما وفتح نافذة السيارة وأبعد الحائل الذي يعوق رؤيتهما فقال بصوته الهادئ العميق:
-(لمَ لا تصعدين يا مـرام؟)
رعدة تملكت جسدها وهي تسمعه يذكر اسمها دون ألقاب أو تحفظ وينظر لها تلك النظرة المتسلية وهو يُقيمها بغير حق، أرادت أن تمسك كف شقيقتها وتهرب من أمامه وتعود لشقتها الأمنة، متخلية عن فكرة التفاوض مع عائلة أل غانم، أرادت أن تختفي في أي مكان وتنهي ذاك الرعب الذي تعيشه، ولكن ما منعها هو إدراكها أنهم سيصلون لها أينما ذهبت وكيفما كانت.
رطبت شفتيها وتنفست الصعداء، لم تحتاج سؤاله أهو السيد نُصير أم لا، ماء وجهها منها من السؤال وهي تتجه نحو الباب الخلفي تفتحه وتدلف وتُشير لشقيقتها بالدخول، كانت لفتتها الصامتة سبب جعله يبتسم بتسلية أكبر وهو يحرك أصابعه على عجلة القيادة يجاري اللحن في رأسه، وينظر لها عبر المرأه الأمامية في سيارته ويرى مدى ارتباك ملامحها فقال:
-مرحبًا يا أنسة خضراء كيف حالك؟
-‏انتفضت فاتن من جلستها وقد اختفى صمتها وبدت كشعلة حادة وهي ترد:
-(خضراء !! )
بدأ نُصير القيادة وهو ينظر للطريق أمامه ويردد بصوته الهادئ العميق الذي يحمل بحة مثيرة للعواطف في النساء:

-(أخبرني عبدالعزيز أن السيدة مرام تقف أسفل البناية ومعها شقيقتها خضراء, ألم يكن هذا اسمك؟!)
ضغطت فاتن على نواجذها وهي تتذكر ذاك الرجل الذي ألصق فيها اسم " خضراء " بكل وقاحة فدمدمت من بين أنفاسها الضيقة:
-(رشدي أباظة أخبرك أن اسمي خضراء ها، خضراء تلك تكون والدته.)
نظر لها نُصير عبر المرأه وقد اندهش مما قالته فردد:
-( عذرًا لم أسمعكِ يا عزيزتي، قُلتِ من؟!)
تبسمت فاتن ابتسامة صفراء وقد تحكمت في ضيقها وهي تعاود القول بهدوء خافت بعدما وكزتها مـرام تُحذرها:
-(أقول اسمي فاتن يا سيد نُصير، لا أدري من أين جاء محاميك هذا باسم خضراء.)
ضحك نُصير بطبيعية وهو يركز على الطريق أمامه قائلًا بصوتٍ متسلي مرح:
-( لا حق له، بل فاتن هو ما يليقُ بكِ، اسمك يناسبكِ يا فاتن.)
تلك المجاملة الناعمة التي صدرت من رجل وسيم مثله جعلتها تنكمش في محلها بخجل بعض الشيء وقد اندفعت الدماء لوجنتيها ونسيت الأزمة التي تمر عليها الأن فغمغمت:
-(شكرًا لك يا سيد نُصير هذا من ذوقك.)
صدح صوته مره أخرى ولكن هذه المرة وجه حديثه لمـرام الصامتة منذ أن صعدت السيارة تحدق في الشوارع والأسفلت الذي يُنهب تحت إطارات سيارته الفارهة، فسمعته يقول بهدوء مُسيطر لا يقبل المناقش:
-(بما أن الليل أُسدل سنذهب لشقتي على حدود المدينة للمبيت ليلًا وفي الصباح سنسافر لمدينتنا فورًا، أنتن والصغير في حاجه لراحة قبل السفر ومقابلة العائلة.)
كانت الجملة الصحيحة هي " انتن في حاجه للراحة قبل الحرب التي ستٌقام غدًا، ولكنه لم يشأ الحديث بهذا خاصة وهو ينظر لتلك الشاحبة عبر المرأة، ولكنها نظرت له أيضًا وقالت مندفعة بصوتها الهادئ الذي خلله التعب:
-( إن كنت ستبيتُ في شقتك دعنا نحن في اي فندق، أو نعود لمنزلي للمبيت ليلًا و..)
قاطعها بذات النبرة المُسيطرة التي حملت نعومة حادة وهو يركز عينيه على عينيها الذابلتين:
-(المسافة التي قطعناها لا تسمح بعودة مره أخرى، ونحن بحاجه للسفر بطائرة من المدينة التي سنبيت فيها إلى قريتنا التي جئتي فيها في عزاء فايز, أي تدركين طول المسافة.)
كانت المسافة تستغرق يوم كامل سفر لقريتهم تلك، تدري أن الطريق أمامهم طويل جدًا جدًا ولكن رغم ذالك لن تقبل بالمبيت هي وشقيقتها معه في شقة واحدة، فحدسها الصادق يخبرها أن ذاك الرجل يُمثل خطر كبير عليها.
خرج صوتها مُصر يجابه سيطرته وهي تقول:
-(لا يجوز أن نبيت معك تحت سقف واحد، وحسبما فهمت من محاميك أنك رجل عازب يا سيد نُصير، أليس كذالك؟!)
ابتسامة غريبة نمت على شفتيه الغليظتين ويمر عينيه عليها للحظات قبل أن يقول بصوتٍ غريب:
-(أظن أنكِ إجابة سؤالك حتى قبل أن تسالينني، حسنًا يا مـرام سأوصلكما للشقة وأغادر.)
نعم سينفذ إرادتها ولكن لا تدري لمَ ارتعش جسدها من نظرته التي أثارت فيها ارتباك وجعلت نواقيس الخطر تضرب في رأسها، صوته يحمل إتهام لم تفهم سببه أو مغزاه، أشاحت عينيها عنه وتمسكت بصغيرها الذي انشغل بمراقبة الطريق مثلها قبل أن يقاطعها ذاك الرجل المريب
كان الوصول لشقته الضي أخبرهم عنها قريب، فبعد ساعة كاملة توقفت سيارته أمام بناية عالية يبدو عليها ثراء قاطنيها، لم تستغرب ثرائه ولا ثراء عائلته، فـهي كانت تعلم سابقًا من فايز بمدى ثراء عائلته، رغم أن فايز لا يبدو عليه الثراء مثلهم وتمسكه بالواجهة المتواضعة بدأت تتحرك هي وشقيقتها يتبعنه نحو المصعد الواسع المليء بالمرايا, وللمره التي لم تعد يحصيها كان يحدق في انعكاسها في المرأه وهو يضع يده في جيب بنطاله بعدما خلع سترته وبقى بقميصه الأبيض الناصع وبنطاله الأسود.
كاد صدرها يختنق من رائحة عطره الثقيلة التي كانت تحاوطها وتجعل معدتها تنقلب وتموج في الغثيان، حمدت الله داخلها حينما توقف المصعد وخرج منه أخيرًا وتبعته فاتن وكذالك هي، وتوقف أمام باب خشبي ودخل في صناعته المعدن أيضًا يحوي لوحة أرقام ضغط عليها نصير بضعة ضغطات سريعة وفُتح باب الشقة الكترونيًا
تجاهلت مـرام نظرة الانبهار في عيني شقيقتها التي نظرت لها سريعًا تُشير للباب، وسمعت صوت نُصير يُشير لهن بالدخول قائلًا:
-(تفضلن بالدخول.)
فخمة واسعة، أنيقة، مُبهرة، بديعة، كل تلك الأوصاف تنطبق على شقته التي دلفتها هي وفاتن وأخذن في تأملها حينما أشعل الأضواء فجأة، كانت الأرضية التي تلمع باللون البُني المحروق، وفوقها سجاد ناصع يتهدل منه شعيرات ناعمة، وأخر ذو رسومات بديعة، جدران مليئة باللوحات التاريخية من الزيت، والأضواء والتحف والمراي،, كل شيء فيها يجعل الأنفاس تتوقف في الصدر للحظات، وإن كانت هي قادرة على اخفاء انبهارها فشقيقتها ليست كذالك، فقد اندفعت تقول مبهورة:
-(سيد نٌصير، أهي حقًا شقتك أم متحف قومي؟!)
للمره الثانية يضحك نٌصير على كلمات فاتن فوضع سترته على الأريكة قبل أن يتحدث بتواضع ناعم أربك اثنتيهم:
-(ليست بالشيء العظيم كالمتاحف يا فاتن.)
كادت فاتن تتحدث وتمتدح شقته مره أخرى ولكنه وجه لها أحد كلماته الناعمة المُسيطرة وهو يُشير للطفل النائم بين يدي مـرام:
-(خذي الطفل وضعيه في الفراش يا عزيزتي، الغرف الجانبية تحت تصرفكما، وأنا سأتحدث مع شقيقتك لثوان.)
حركت فاتن رأسها بحماس وهي تأخذ الطفل من مـرام التي نظرت لها راجية ألا تتركها وحدها مع ذاك الرجل، ولكن فاتن المتحمسة لرؤية المزيد لم تنتبه فقالت:
-(سأحممه وأضعه في فراشه كما اعتاد، تُصبح على خير يا سيد نُصير.)
بالفعل اختفت فاتن وبراء بين الجدران الأنيقة وبقت مـرام وحيدة مع نُصير الذي كتف يده ونظر لها قائلا بخوتٍ ذا مغزى:
-(واضح أنكِ في ظرف يومان جعلتِ لكِ في قلب عبدالعزيز مَعزة كبيرة يا مـرام.)
ابتلعت رمقها من تلميحة الغير بريئ وحاولت التحدث بصوت قوي حاد كي توقفه عند حده وتثبت له أنها ليست طير سهل للالتهام, ولكن خلاف ذالك خرج صوتها ضعيف مبحوح:
-(ماذا تقصد يا سيد نُصير؟!)
اقترب منها عدة خطوات ووقف أمامها مباشرة يثبت عينيه في عينيها ويرسل لها تحذير عنيف جعلها جاهلة تمامًا بمَا يدور حولها وخرج صوته حاد ممطوط:
-( لا أقول شيء غريب، ثم أنني نُصير فقط, ألست ابن خالة وعم زوجك فايز، إذًا أنا في مقام أخ زوجك، قولي نُصير فقط.)
ارتعشت أناملها وخفق قلبها رعبًا، لم تكن رعدة جسدها خجلًا كما اعتقد، بل كان أكبر بكثير وأسوء من خيالاتها كان رعبًا خالصًا حتى بدأ جسدها في وصلة ارتعاش لا تنتهي، جحظت عينيها وهي تتأمله وشيء ما في خاطرها يصرخ فيها فزعً:
" اهربي حالا هذا الرجل بئر أسود وسيبتلعك، اهربي قبل أن يُكبلك فيه وتتحولي لمسخ دميم، لا تنظري لملاحة وجهه، لا تأسرك مساحة صدره، ولا تهابي هالته الخادعة
سيقتُل روحك ببطئ، أهربي، أهربي. "

أشاحت وجهها عنه وابتعلت رمقها بصعوبة وشعرت بالبرودة تجتاح جسدها وكأنها أُلقيت في بقعة ماء مُثلجة جمدت أطرافها؛ لذا حاوطت ذراعيها سريعًا لتبعث في جسدها الدفئ، أو ربما الأمان الذي افتقدته منذ أن حضر ذاك الرجل وانتزعها من عالمها فجأة دون أن يترك لها فرصه لاستيعاب التغيرات التي طرأت على حياتها هي وصغيرها.
شيء ما داخلها يقشعر خوفًا من هذا الرجل ونظراته الغريب، هيئته تبعث فيها ارتعاش لا يهدأ حدسها يخبرها أنها غير مأمونة في كنف هذا الرجل، بل وسط تلك العائلة الغريبة كليًا، منذ أن وطأت شقته وقلبها يخبرها أن الأسوء بانتظارها.

لم تكن تدري أن الأسوء يقف أمامها مباشرة ويحدق في وجهها بعينين هادئتين تحملان نظرة مجهولة لا ينبض منها سوى تحذير يتقدم عاصفة هوجاء، عاصفة ستقتلعها من أرضها وتُلقيها في قلب الجحيم كما تستحق هي.

زحفت ابتسامة كسولة لشفتيه الغليظتين قبل أن يخرج صوته خشنًا لا يتماشى مع نعومة كلماته الكاذبة:
-(تبدين كدجاجة مذعورة تُساق للذب، إهدائي يا مرام أنا لا احب الدجاج، كوني آمنة تمامًا طالما لم أُبدي ما يفزعك.)

كلماته لم تبعث الأمان لقلبها، بل زادت رجفتها وفزعها، فجمعت شفتيها كي لا ترتعش أمامه وكتمت زفير مذعور كاد ينفلت منها، وهي تحدق فيه بعينين حذرتين لمع فيها خوفها الغير مبرر، خاصة حينما اقترب منها خطوة ومال عليها فانقبض قلبها لاقترابه وضخامته أمامها فلفحتها أنفاسه الحارة حينما همس:
-(الآن دعي جسدك ينتعش بالماء بالساخن وأذهبي لسريرك كما فعلتي مع طفلك، وأجلي أي فزع للغد، فهناك وليمة ستُقام على شرفك، فـعائلة الغانم تنتظرك على أحر من الجمر.)

الجمر؟!
لمَ تشعر أن الجمر هو ما سيتكون في أحشائها وسط تلك العائلة المرعبة، كانت تهابهم من مجرد حكايات مختصرة تسمعها من فايز، كان يردد لها دائمًا أن عائلته تخلو من العواطف والرفق بخلاف عائلتها الدافئة المترابطة
كانت تظنه يبالغ في الأمر أو أن عدم التفاهم بينه وبينهم هو من أوصل له شعوره ذاك، ولكن ما أن علمت بالقضية التي أقاموها ضدها لأخذ طفلها من أحضانها ومحاولاتهم الناجحة في طردها من عملها ووضعها في حالة بؤس تخولهم بالفوز بالقضية حينها أدركت أنه لم يكن يُبالغ في وصفههم، أُناس نُزعت الرحمة من قلوبهم نزعًا.

والأن هي تواجه أكثرهم سطوة وقوة وكراهية رغم أنه لم يُبدي أي من تلك الصفات باستثناء نظراته المستهينة وتعليقاته الساخرة التي تحمل أكثر من معنى لارهابها، أن لهجته الناعمة وابتسامته المتربصة جعلتها تدرك الحقيقة المُره حتى وإن لم يتفوه بها صريحة، ولكنها تُدرك ما ينتظرها، أو ربما تظن هذا ولكن الأكيد أنها وقعت في شِباك أل غانم والسكاكين تتربص بها لسببٍ لا تعلمه وانتهى الأمر.
ابتعدت خطوة للخلف وتمسكت بالحقيبة التي كادت تنفلت من أصابعها في غمرة خوفها من الواقف أمامها, ولكنها استجمعت شتات نفسها وأشاحت وجهها عنه بعدما أجلت حنجرتها فخرج صوتها همسًا متحشرجً:
-(تصبح على خير سيد نُصير، شكرًا على استضافتك لنا وأسفة أنك ستضر للمبيت في الخارج.)
كانت تطرده من منزله بأدب كبير، تلك الفأرة رغم أنها تبدو جبانة مقارنة بشقيقتها النارية الجريئة, إلا أنها لا تخضع تحت رايات الخوف، بل تتمسك بموقفها حتى لو كانت تموت في جلدها كأرنبة مذعورة تكاد تسقط قتيلة
تنهد مطولًا ونظر حوله قائلًا بهدوء يقارب اللامبالة: -المنزل تحت خدمتك حتى الصباح، سأرسل لكِ السائق كي يأتي بكما للمطار كي نذهب للمدينة.
أنهى كلماته وهو يتجه نحو باب الشقة يضغط على عدة أرقام الكترونية فينفتح الباب ويغادر منه ثم يغلقه خلفه مرسلًا رنين ينم عن الاقفال بأمان، سمحت لأنفاسها المرتجفة تتحرر من قضبان صدرها وانخفضت تجلس أرضًا وهي تضع كفها على معدتها التي تلوت ألمًا من فرط توترها وخوفها، عجزت قدماها عن الصمود أكثر وأنهارت سريعًا كما انهار كل شيء فيه، نبضها متسارع، عقلها متعب، جسدها يئن، وقلقها يغلي في جوفها يؤرقها
تأوهت وهي تفكر متعبة أن كل ما فيها يؤلمها وما عادت تملك قوة لمتابعة أحداث اضافية في يومها المتلاحق بالأحداث المُدوية.
انتبهت لصوت شقيقتها التي خرجت من الغرفة الجانبية وسارعت نحوها حينما وجدتها جالسة أرضًا وترتجف كورقة خريف متساقطة، انخفضت تربت على ظهرها بقلق وخوف كبيران قائلة:
-(مـــرام، آنتِ بخير؟
هل فعل بكِ شيء هذا الرجل, تحدثي يا مرام وجهك شاحب وكأنك تحتضرين، هل نذهب للمشفى أو)
رفعت مرام وجهها سريعًا وربتت على كف فاتن تقاطعها بصوتٍ هامس حاولت أن تخفي فيه تعبها ولكنها فشلت فشل ذريع فخرج مرهقٍا يحمل شجن:
-(أنا بخير يا فاتن, أحتاج للراحة بعد يومي الطويل هذا، ما عدت قادرة على الصمود أكثر.)

تأملتها فاتن بشفقة وحزن، كانت بالفعل متعبة، ذابلة، مرهقة، عينيها تنطقان بالألم الصامت الذي لا يبرح نفسها، أُبتليت شقيقتها بداء الكتمان والتحمُل، كانت دومًا " حمالة الأسية" كما يقول والدهما، منذ توفى فايز ومرام في تدهور مستمر، تمر بنوبات اكتئاب تتجاهلها بالعمل والاعتناء بها وبالصغير " براء " تتحلى بالقوة والهدوء أمام الجميع ولكن تفرغ دموعها على وسادتها في ظلمات الليل، أما في الصباح تتظاهر أن كل شيء على ما يرام رغم الدوائر السوداء حول عينيها، ولكنها تدعي التماسك ظنًا منها أن فاتن لم ترى انهيارها الصامت في الليل، فتتصرف الآخرى وكأنها لم ترى شيء وتجاريها في تمثيلية تماسكها الهش، ولكنها الأن لم تخفي ضعفها أو تعبها النفسي والجسدي؛ لذا حاوطتها تساعدها على الوقوف من الأرض وتربت على كتفها بصوتٍ حنون رقي:
-(حتى الجبل ينهزم لو كان مكانك، هيا نذهب للنوم يا مـرام، لقد سمعت الرجل يُخبرك أننا سنغادر صباحًا.)
حركت الآخرى رأسها بإيجاب وتحركت معها تسيران في صالة الاستقبال الكبيرة والأنيقة جدًا وكأنها متحف مٌبهر وليست مجرد شقة لرجل عازب كما اخبرها, ضربها ذاك الخاطر للحظات فوقفت محلها تنظر لباب الشقة بضع لحظات قبل أن تنظر في أنحاء الصالة وكأنها تفتش عن شيء ما، عقدت فاتن حاجبيها قائلة:
-(عمَ تبحثين يا مـرام؟ !)
ابتعدت مرام متجهة للأريكة القوية الأنيقة الغالية التي تقبع في منتصف الصالة وحاولت زحزحتها ولكن طاقتها النافذة أخبرتها أنها تحتاج لمساعدة, فاعتدلت وتحدثت بأنفاس لاهثة من المحاولة وهي تشير لفاتن:
-(لا تقفي هكذا يا فاتن تعالي لنضع هذه الأريكة أمام باب الشقة.)
-(ولمَ تفعلين هذا, الباب مُغلق بإحكام, ألم تري تلك الأزرار والرموز على باب الشقة، لا يٌفتح سوى بكلمة مرور, انه نوع من الأقفال الحديثة القليلة جدا في بلدنا و...)
أوقفت مـرام سيل كلماتها الذي انهمر دون نهاية وقد ضاقت ذراعًا من بساطة تفكير شقيقته:
-(كفى ثرثرة يا فاتن, أعلم كل هذا، ولكننا امرأتين وحيدتان في شقة رجل عازب وضع كلمة مرور على باب شقته ويستطيع أن يدلفها في اي وقت أثناء نومنًا, إذًا لمَا طلبت منه أن يترك لنا الشقة أو نبيت في أي فندق حتى الصباح.)
بدى وجه فاتن هادئ لثوان قبل أن تتسع حدقتيها وينفتح فمها بإدراك لتفكير شقيقتها فأصدرت كلمتها المعتادة التي تأتي بعد نوبة غباء غير مقصودة منها:
-(ااااه أهذا ما تقصديـــنه)
بضع ثوان وستخور قواها أرضًا إن لم تسرع بوضع تلك الأريكة أمام الباب وتنضم لطفلها النائم، وبدى فقدان الصبر واضحًا على وجهها كما بدى الضعف أيضًا، فسارعت فاتن تساعدها في تحريك الأريكة الثقيلة إلى أن استقرت أمام باب الشقة كحاجز ثقيل يشكل صعوبة على من يقرر الاقتحام.
وفي نفسها أخبرها حدسها أن نُصير لو أراد الدخول، لن تمنعه الأريكة, ولا ألف رجُل.

***



التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 03-12-22 الساعة 01:10 AM
وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-12-22, 12:35 PM   #3

duaa.jabar
 
الصورة الرمزية duaa.jabar

? العضوٌ??? » 395763
?  التسِجيلٌ » Mar 2017
? مشَارَ?اتْي » 946
?  نُقآطِيْ » duaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond repute
افتراضي

بدايه جميله ومشوقه يبدو ان مرام وضعها فايز في طريق من لا يعرف الرحمه ومشوارها الطويل بدأ بمقابلة الوحش

duaa.jabar غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-12-22, 02:51 AM   #4

Seham elhenawy

? العضوٌ??? » 435220
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 98
?  نُقآطِيْ » Seham elhenawy is on a distinguished road
افتراضي

هي الرواية وقفت ولا ايه؟

Seham elhenawy غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-12-22, 03:35 AM   #5

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثاني

الفصل الثاني

جلست السيدة أميرة على أريكتها الأثيرة وكفها يحتضن فنجان القهوة السوداء المُره ترتشفها ببطئٍ شديد وعينيها تسبح في الفراغ أمامها، عقلها بعيد كل البُعد عن مكانها وحاضرها، نظرة عينيها الحزينة تلائم لباسها الأسود الذي لم تخلعه منذ سنواتٍ طويلة، وقد أقسمت حينها ألا تخلعه إلا حينما ينتقم الله لها ممن دمروا حياتها وسلبوا ولدها أغلى ما يملك، ولكن مرت السنوات وباتت ترتدي الأسود حزنًا على حال بِكرها وألمًا لفراق ولدها الأوسط فايز

انتزعه الموت من بين أحضانها ورحل وهو في عمر الزهور، لذا لم تعد تؤثر بها مرارة القهوة السوداء، فقد تركت الدنيا في حلقها مُر لم يمحوه طعم العسل، أو قطع السُكر، لا يغلب المُر سوى مُر أشد منه.

انتبهت من شرودها وهي ترى ابنتها تجلس أمامها بوجهٍ واجم وعينين تقدح بغضبها المكتوم وحدتها اللاذعة، فتنهدت أميرة وهي تضع كوب قهوتها على المنضدة وأمسكت سبحتها الطويلة قائلة بهدوء...
-(ما بال نظراتك يابنت أميرة، لو كانت النظرات تقتُل لقتلتيني بها، هاتِ ما عندك )

زفرت فلك بحدة وهي تشيح عينيها عنها للحظات قبل أن تنظر لها مره أخرى وتقول بنبرة مشدودة كالوتر الحاد..
-(معاذ الله يا أمي، ولكن هل لكِ أن تخبريني سبب قرارك ألا تدعي فيدرا تباشر في الجامعة، ألم نتفق أن تكمل دراستها ما دامت تريد التعليم !)

بدى الفتور واضحًا على وجه أميرة وكذلك نفاذ صبرها الذي ظهر في نظراتها الهادئة وهي تنظر لابنتها الحادة " فلك".. أكملت الذِكر على مسبحتها دون أن تقول شيء يفتح باب نقاش قد أغلقته سابقًا
ولكن كانت فلك تملك من الإصرار ما يجعلها تتحدث مره أخرى بنبرة منفعلة رغم خفوتها وقد ضاق صدرها من قرارات والدتها فقالت...
-(أمي لا تعاملي فيدرا بهذا الشكل، أنتِ تعلمين مدى تعلقها بالدراسة، بالأساس يجب أن تفخري بتفوقها وبإصرارها للتعلم و...)

قاطعتها أميرة أخيرًا وقد جمعت سبحتها في كفها كعلامة على غضبها الذي بدأ يدق بابها بحذر كهدوء ما قبل العاصفة...
-(من أخبركِ أنني أحب تعليم الفتيات، لن أسمح لها أن تُضيع سنوات عمرها في الدراسة لمجرد أنها تعيش منهزمة بوهم شعورها تجاه ابن اختي، لقد صمتُ ست سنوات كاملة وأقول لا بأس دعيها تكمل دراستها ولا تعكري سعادتها باللقب الغالي الدكتورة ذهبت الدكتورة عادت، وها هي أنهت سنوات الجامعة وانتهينا )

-(دراسة الطب لا تنتهي يا أمي، ثم أن فيدرا لا تدرس لهذا السبب بل انها...)

قاطعتها أميرة مره أخرى بنبرة أكثر حدة وقد تعكر وجهها كليًا وهي تغمغم بفتور...
-(فيدرا ذكية دراسيًا، لكنها مُشتتة القلب والمشاعر، أحبت نُصير ولكنه صدمها برفضه لها واخبارها أنها لا تحل له بسبب رضاعته مع فراس، ثم أحبت عنان فصُدمت بكثرة علاقاته النسائية وأنه لا يكترث لها، وبالأخير بدأت تنجذب للطبيب المُشرف على رسالتها.. وستأتيني باكية حينما تُدرك أنه لا يصلح لها.. لن أنتظر انتكاسة جديدة وانعزالٍ أكثر، لا دراسة لفيدرا يعني لا دراسة، وهذا الأمر أُغلق نهائيًا يا فلك، ولشقيقك فراس كلمته الأخيرة وهو مؤيد لما أقول)

كانت والدتها محقة في كل كلمة تقولها، فيدرا توأمها مشتتة عاطفيًا وسريعة الانجذاب لأي شخص حولها، رغم كونها ذكية دراسيًا إلا أن شخصيتها الضعيفة الخانعة تجعلها تنساق وتنجذب لأي شخص أقوى منها وتبدأ مشاعرها نحوه بالنمو بغض النظر عن كونه يصلح لها أو لا، وبغض النظر عن المستحيلات التي تحول بينها وبين الطرف الأخر، انعزالها الاجتماعي وذبذبة شخصيتها تجعل منها شخصية ضعيفة بلا مرسىٰ

انتبهت من شرودها على صوت شقيقها فراس وهو يقصف فور دخوله غرفة الجلوس، وقد احتل المقعد الذي يجاورها....
-(السلام عليكم)

تمتمت فلك وكذالك السيدة أميرة تجيبان على تحيته الفاترة...
-(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته)

-(ما حال المصنع يا فراس، لازال العمال في حالة هياج !)
كانت أميرة قد بسطت سبحتها مره أخرى وبدأت تُمسك خرزها واحدة تلو الأخرى ببطءٍ شديد وصبرٍ واسع لا يتلبسها سوى في حضرة ولدها الكبير فراس، ذاك الرجل الخشن الذي جمع هيبة العالم وقسوتها في عينه الواحدة
ووجهه المتجعد في عبوسٍ لا ينفك أبدًا.
فرج صوته خشن ووجهه العابس يحكي مدى ضيقه في هذه اللحظة
-(استطاع عبدالعزيز أن يهدأ روعهم، ولكنني لست طويل البال كنُصير وعبدالعزيز، لذا لو أعادوا تلك الفوضى مره أخرى سأصرفهم جميعًا ولا عيش لهم عندي )

-(اهدأ يا بُني العمل يتطلب خشونه وعقل في الان ذاته، ثم أنني لا أود أن تظهر للعمال أنك السيئ الحاد، ونُصير الهادي الرزين، ولائهم يجب أن يكون لك أنت يا فراس)

كتمت فلك تنهيدة باردة كادت تنفلت منها عند سماعها كلمات والدتها مره أخرى.. لا تسأم من تكرار حديثها هذا، لا تمل من تسديد نصائحها الحادة التي تحمل بين طياتها البغض الغير مبرر لنُصير
فقالت متدخلة في حديثهما الجاد وهي تنظر لشقيقها فراس...
-(نُصير لا يتعمد الظهور بالطريقة التي تقولها أمي يا فراس، أنا أرى انكما تكملا بعضكما في العمل، أنت تستخدم هيبتك ومعارفك، وهو يستخدم هدوئه وعقله)

صدح صوت أميرة حاد مره أخرى وقد ضاقت ذراعًا من انتقاد فلك الدائم وقوة رأيها الذي تُحكمه في كل شيء ترفضه...
-(وهل أتبلى عليه يا فلك، شقيقك أحق بولائهم من نُصير، لا تنسي أن نصف المصنع ونصف الxxxxات ونصف الأموال مُقيدة باسم فراس، أي هو الحاكم الناهي في العمل )

لم تتأثر فلك من حدتها وتحدثت بهدوء مُسيطر تجابه كلماتها الحادة قائلة...
-(والنصف الأخر باسم نُصير وأخوته يا أمي، أي أنهم شركاء مع نُصير، وأرجوكِ تذكري انه ولد شقيقتك وأخينا بالرضاعة، لذا لا تحاولي خلق الفوضى في علاقتنا.. يكفينا تفكك )

كانت فلك محقة في كل كلمة قالتها، نُصير لم يكن مجرد إبن الخالة وابن العم فقط، بل كان شقيقهم الخامس، والأخ الأكبر لهم كفراس تمامًا.. كان الجميع يتعامل على أساس أن فراس ونُصير توأم لا يفرق بينهما أحد.. لا يربطهم حليب الرضاع فقط، بل الطفولة والمراهقة والشباب أيضًا، الأقرب لفراس دونًا عن باقي البشر.. ولكن أميرة غير مقتنعة بما بينهما، دائمًا تحاول زرع النفور والبغض في نفس فراس، تحاول أن تُخرج نُصير في صورة بشعة لا تمت له بصلة.. ولا تيأس أبدًا لسبب لا يعلمه إلا الله.

لذا تمسكت بعنادها وصلابتها وهي تحدق فلك بنظرة غي مقروءه...
-(السفينة لا تحمل أكثر من رئيس، ولو فعلت لهَلكت)

حسم فراس ناقشهما الحاد بحدة أكبر وخشنة لا تقبل التفاوض....
-(لا أود سماع كلمة أخرى في هذا الموضوع، نُصير شقيقي وشريكي يا أم فراس، لذا لا داعي لحديثٍ لن يُسمن أو يغني من جوع.. وأنت يا فلك احتفظي بطبعك الناري بعيدًا في هذه الفترة، ركزي انتباهك على زواجكِ الذي اقترب، لن نؤجله مره أخرى.. ما أن نضم ولد فايز لنا سنبدأ بتجهيز زفافك في أسرع وقت )

تحولت فلك لتمثال شمعٍ لا ينطق أو يُبدي ردة فعل واضحة، غلفها صمتها الثقيل وهي تحدق في الخاتم الموضوع في اصبعها الدال على " الخطبة "
وعما قريب سينتقل لليد الأخرى معلنًا زواجها المؤجل من عام كامل حدادًا على أخيها الراحل

تنهدت أميرة وهي تنظر لفنجان قهوتها الذي برد اثناء النقاش الناري الذي قادته مع فلك، فتمتمت بنبرة فاترة حادة وهي تنظر لفلك الصامتة...
-(أخبري أم عبده أن تعد لي فنجان قهوة أخر، اخبريها أن تحرق القهوة تمامًا قبل صبها في الفنجان)

وقفت فلك تطيعها وحملت الفنجان مختفية بين جدران منزلهم الكبير والعريق جدًا، منزل يكبرهم عمرًا ورغم ذلك لم تشيب جدرانه، بل ظل صامدًا في إباء وفخر لا يليق سوى بعائلة أل غانم، وهذا المنزل هو التعويض البخس الذي حصل عليه فراس بعدما حدث ما حدث
وكأن ملكيته لهذا الدار العريق سيعوض ما فقده
وليت ما فقده يُرد من جديد.. ليته.

كان فراس غارق في شروده الخاص واصابعه تتلاعب بالخيط المتين المُلتف حول معصمه، كان خيط أحمر من الصوف مجدول ببعضه كضفيرة عذراء خجوله، ولكن سُمرة كفه ناقضت الأحمر الناري ككل شيء في حياته.

وقبل أن يجرفه تياره الأعمى انتبه لما جعله يأتي من المصنع رأسًا إلى هنا.. لذا اعتدل في جلسته وهو يقطع تسبيح أميرة قائلاً...
-(ولد فايز سيصل اليوم... مع والدته)

تجعد وجه أميرة في غضب مكتوم وكساها الشحوب وهي تنتفض واقفة وقد شدت على خيط السبحة بجنون فتناثر الخرز أسفل قدميها تزامنًا مع صياحها الغاضب...
-(بنت السافلة لا تطأ منزلي ولا دقيقة واحدة، انتزع منها الطفل وألقها في الشارع كـ الكلاب الضالة التي تُشبهها)

كان وجهها ينطق بالجنون، تجاعيدها كخارطة كراهية مرسومة على ملامحها كي لا تنسى أو لا ينسى أحد ما حدث لهم.. عينيها الجميلتان تحولتا لمنافذ للنيران المندفعة كصواريخ حُره لا تدري وجهتها، وكراهيتها تلك لم تكن غريبة على جميع أفراد الأسرة، بل كان متأصلًا فيها وفي جدران دراهم.. حتى الأرض التي تقف عليها ارتوت بالدماء والفقد.. لذا لم يفزع فراس ولا فلك القادمة مع أم عبدو لتقدم القهوة

ساد صمت ثقيل قبل ان يقف فراس ويُنظر لوالدته نظرة حملت الحذر والهدوء، وامتزجت بخشونة كلماته وهو يغمغم...
-(الغضب لا يسبق أل غانم يا أم فراس، القانون يقف في صفها والطفل من حقها هي، لذا يجب التريث قبل التصرف، لا تكرري وصلة السُباب النابي الذي خرج منكِ في وفاة فايز، أميرة الغانم لا تُخرج كلمة غير محسوبة)

لكلماته تأثير السحر عليها، سحر غريب جعلها تتهالك على مقعدها تزم شفتيها في قهر واضح ويدها تعتصر جلبابها الأسود الحزين.. وتحدثت بنبرة مزجت الغضب والعتب والشوق لفقيدها وهي تردد بدموعٍ لا تبرح مقلتيها...
-(سامحك الله يا فايز، سامحك الله يا ولدي، وضعت اصبعي تحت ضرس الفاجرة، سامحك الله يا ولدي.. ذهبت لها بساقك أم جرتك بسحرها تلك المشعوذة.. حسبي الله ونعم الوكيل فيها.. حسبي الله في الظالمين ياولدي)

مكلومة، مقهورة، يؤرجها الألم وتأكلها نيران الفقد، لا شيء يداوي قلبها المقهور ولا دموع تغسل عينيها التي تأبى البكاء وصوتها يقاوم العويلَ
اقتربت منها فلك تجلس جوارها وتربت على كتفها برفق تمسح على أوجاعها بصوتها الواثق القوي..
-(سنأخذ الطفل يا أمي وسـ ينشأ بيننا، لن نفرط في ما تبقى من رائحة فايز، لذا تحكمي في غضبك كي نستطع السيطرة على الموقف)

همهم فراس يؤكد على كلمات شقيقته بأخرة خشنة مُسيطرة تحوي وعود لا تُخلف، وقسمٍ لا يقع أرضًا...
-(شدي زمام أوجاعك يا أم فراس، حفيدك سينام بين أحضانك وينشأ تحت كنفك، الصبر يا أم فراس الصبر)

كان الصبر هو طوق النجاة وعلامة النصر لأميرة الغانم
ولكنه كان مشنقة مشتعلة تنتظر مـرام، وعشماوي ينتظرها ليعقده حول عنقها بحزم الجلاد وصبر المُنتصر
وما كان عشماوي سوى فراس الغانم.. !

x x x x x x x x x x x x x x x x x ***
استيقظت باكرًا وهي تسمع صوت شقيقتها تتحدث عبر الهاتف بحماس شديد دون أن تنتبه لصوتها الذي ارتفع فجأة، اعتدلت في الفراش تمسح وجهها بإرهاق لم يختفِ بعد ولكنها أفضل حال من ليلة أمس
انتبهت من نعاسها وهي تنظر لشقيقتها التي قالت لمحدثتها عبر الهاتف....
-(من الذي أخبر المُنتج بما فعلته.. نعم نعم، ولكن ألم يقُل اي شيء مفيد، لا !!.. حسنًا يا ميمي سأتي و....)

انتبهت فجأة من نوبة حماسها وهي تتذكر سبب وجودها مع شقيقتها وسفرهما لعائلة زوجها الراحل، الادراك ضربها في مقتل وهي ترى فرصتها الذهبية تتسرب من بين يديها بسبب توقيتها الخاطئ
فتنهدت بسأم وتهدل كتفيها قبل أن تغمغم بصوت خائب مستسلم....
-(أنا لا أستطيع المجيئ يا ميمي فأنا سافرت ليلة أمس و..)

وكزتها مرام سريعًا لتنبهها ألا ترفض كما كانت تنوي، فكتمت الهاتم بيدها اليسرى وهي تنظر لشقيقتها نظر عابسة...
-(استيقظتي من صراخي المنفعل )

ردت مـرام مباشرة دون أن تحيد عن موضوعها الهام
-(لا ترفضي، أخبريها أنكِ قادمة.. سأوصلكِ للمدينة ونرى المنتج هذا ثم نسافر سويًا إلى تلك القرية)

بدى الرفض واضحًا على وجهها رغم لمعان الحماس في عينيها الشقيتان فغمغمت في خفوت متردد، ممتنع...
-(ولكن يا مـرام..)

-(لقد قلت ما عندي وانتهى الأمر، أنا لا أحب ما تريدينه، ولكن لن أمنعك عن فرصك الذهبية من وجهة نظرك)
تمتمت مـرام بكلماتها تلك بمنتهى الجدية والثبات، هي تعلم أن فاتن مولعة بالتمثيل وتتمنى ولو فرصة صغيرة كي تثبت نفسها وموهبتها، لم يخفى عليها حزنها يوم أمس حين أخبرتها بضياع الدور الصغير الذي كانت ستأخذه لولا ذاك المخرج الحقير الذي وضع كفه اللعينة على جزء حساس من جسدها، فلم يكن من فاتن إلا صفعة والصراخ في وجهه وسط كل العاملين ثم ركضت تعود للمنزل والدمع يجري على وجهها.

قد لا تملك أحلام ضخمة ولامعة كفاتن شقيقتها، ولكنها تعلم طعم اليأس والخسارة خاصة بعدما فُصلت من عملها الذي تعشقه، "التمريض" تلك المهنة السامية التي تُشكل جزء كبير من سعادتها واستقرارها النفسي، ورغم نظرة المجتمع الناقصة لتلك المهنة الفريدة من نوعها، إلا أنها كانت تقدسها وتعلم أنها جزء فعال من المجتمع، جزء لا يُبتر ولا يُهمَش بل يستحق التقدير والاحترام.

منعت نفسها ألا تبكي مره أخرى وهي تقف من الفراش وتربت على كتف شقيقتها السعيدة بمبادرتها تلك ..
-(هيا يا حبيبتي أخبريها أننا سنكون أمامها في ظرف ساعة ونصف أو أكثر)

حجم الامتنان الذي طغى على وجه فاتن يكفيها لسنواتٍ قادمة، فابتسمت أكثر حينما وقفت فاتن تعانقها بقوة تتمسك بها بكل طاقتها وكأنها كل ما تملك في الحياة وهي تهمس بمحبة وامتنان كبيران...
-(يا مـرام ياقلب الملائكة، أشكرك على مساندتكِ لي، لن أنسى أبدًا ما تفعلينه معي، لن أنسى إيمانك بي أنا بغض النظر عن بغضكِ لما أريد، لا حرمني الله منك يا مرمورة)

بادلتها مـرام عناقها وهي تتمسك بها من بطش الدنيا وارتفاع أحلامها، فاتن كفراشة جميلة يجذبها وهج النيران ولونها الأخاذ، ولكنها غافلة عن أن النيران تظل نيران حتى لو كان لهبها مُثير ويعد بدفيءٍ لا ينفذ
والفراشة ستحترق أجنحتها البديعة وتصبح رماد يُشابه رماد ما تأكله النيران.

لذا أبعدتها عن أحضانها وكوبت وجهها الرقيق قائلة بحزم لا يظهر إلا نادرًا، في العادة تكون وديعة وعطوفة كنسمة هواء ربيعية...
-(إحذري من أحلامك يا فاتن، لا تدعيها تدهس على مبادئك وما شببتِ عليه.. وتذكري يا حبيبتي، بنات أحمد مرفوعات الرأس دائمًا، وإن انحنت رؤوسنا سيكون السبب هو نظرنا لموضع خُطانا، هل فهمتني !! )

حركت فاتن رأسها بإيجاب ولازالت لمعة الحماس تمسح عينيها المليئة بالحب والأمل والحياة، فهمست بما يقبع في نفسها هي الأخرى...
-(وأنت يا مـرام لا تخشي عائلة زوجك، لن يكونوا قساة القلوب كما نظن، لن يفرطوا في من كانت زوجة وداعمة لولدهم الراحل، لو يعلمون مساندتك لفايز رحمه الله لكانوا ..)

قاطعتها مـرام بإيجاب وهي تبتعد عنها وتنأى بعينيها وخاطرها بعيدًا كي لا تستشف فاتن مدى الخوف والألم القابع في نفسها فقالت بهدوء...
-(لا بأس يا عزيزتي، هم عائلة زوجي في الأول والأخير، لن يفرطوا بي ولن أفرط بهم.. لا تشغلي عقلك بي أبدًا.. وأريدك أن تحادثي أبي وتصالحيه وتعتذري عما بدر منكِ،
أبي لا يستحق منكِ القسوة والجفاء يا فاتن)

تطاير حماسها وسعادتها بعيدًا وهي تتذكر والدها العنيد الذي يرفض أحلامها بكل قسوة، يرفض ما تتمنى ويقلل من شأن طموحها، لدرجة أنه صرخ في وجهها بعصبية واضحة وأخبرها أن لا أحد سيمرغ شرفه أكثر سواها؛ ومع الأسف يؤيد رأي شقيقتها الكبيرة مروة وزوجها سعيد الذي لا يكف عن حشر أنفه في حياتها، ولا يتوقف عن قول الترهات القذرة عن التمثيل والممثلين، يزيد من رفض أباها بكلماتها والشائعات الغير أخلاقية التي يروجها عن كل من تفكر في التمثيل.

لذا اضطرت الصراخ في وجهه ووجه مروة أن لا شأن لهما في حياتها وهذا ما لم يعجب والدها أبدًا، فانتهى بها الأمر تتبادل الصرخات الحادة مع والدها ونالت صفعة قاسية لطم بها وجهها، فما كان منها إلا مغادرته والاستقرار مع شقيقتها في المدينة بدلًا من تلك القرية البائسة التي تقتل أحلامها يوم بعد أخر.

ومر على مكوثها مع مرام أكثر من خمسة أشهر وهي تركض خلف تجارب الأداء، لم تحادث والدها بعدها، وكذالك هو لم يبادر بمصالحتها، بل تركها مهددًا أنه سيتبرأ منها نهائيًا لو جائته بأمرٍ مشين بسبب التمثيل والفن.. ورغم ذلك لم تتراجع أو تترك فرصتها، بل تمسكت بها وساعدتها مرام على الثقة في نفسها رغم رفضها الخفي لمهنة التمثيل، ولكن بخلاف الجميع
مـرام لا تبوح بما يؤلم غيرها، بل تحتفظ به في نفسها كي لا تضع بصمة مؤلمة في قلب أحدهم.

انتبهت على كلمات مـرام التي انتشلتها من شرودها قائلة وهي تحمل طفلها الذي استيقظ لتوه من نومته الطويلة...
-(هيا نظفي الفراش، واغتسلي إلى أن أحادث المحامي وأخبره أن طرأ شيء ما وسنضطر للعودة مره أخرى)

أطاعتها وبدأ بتنظيف الفراش الأنيق الذي جمع ثلاثتهم في وحشة الليل واحتوى قلقهم وإرهاقهم الواضح
أما مـرام فخرجت للردهة الطويلة وهي تُمسك هاتفها وتضغط على زر الاتصال وتضع الهاتف على أذنها قبل أن يصلها صوت المحامي وهو يردد بهدوء ورسمية...
-صباح الخير سيدة مـرام

أجابته بصوت هادئ مستقر يناقض انهيارها يوم أمس...
-(صباح النور يا أستاذ عبدالعزيز، اتصلت لأخبرك أنني لن أستطيع السفر اليوم، قد طرأ شيء هام جدًا ولابد من العودة الان، أرجوك أن تخبر السيد نُصير بإمتناني لمبيتنا في شقته ليلة أمس، واعتذر له بالنيابة عني فأنا...)

-(أنتِ ماذا يا مـرام، هل استيقظتِ من ضعفك المفاجئ وتريدين الهرب من مواجهة أسرة عائلة طفلك)

انتفضت حينما وصلها صوته العميق الذي يحمل بحة تثير رجفة طويلة في عامودها الفقري، لا تدري أين ذهبت رسميتها ومتى تسرب هدوئها وهي تسمع صوت نُصير بدلًا من عبدالعزيز.. كانت لازالت تتذكر مواجهتما يوم أمس والتهديد المبطن الذي مليء كلماته الناعمة، كانت تدري أن خلف الهدوء والبرود الناعم ما هو أسوء.. ولا تجد مبرر لهذا سوى أنه جزء من عائلة غانم.. والمفترض بها أن تخشى المجهول.. والمجهول هذا هو فراس ووالدته هم البندقية المصوبة لرأسها.

تمالكت نفسها وتمسكت بهاتفها قائلة...
-(سيد نُصير، لا داعي لحديثك هذا.. لقد طرأ أمر ما يحتم علينا العودة في الحال)

ران الصمت للحظات قبل أن يخرج صوته حازمًا ساخرًا لا يقبل أي نقاش او رجعة..
-(سأكون عندك خلال دقائق لأعلم ما السبب الجلل الذي يجعلك تخلفين موعد هام يخص مستقبل طفلك)

ارتبك موقفها أكثر وارتفع صوتها المتردد المنفعل وتقول..
-(سيد نُصير أنا قررت بالفعل أنا...)

للمره الثانية يقصف صوته كاصاروخ وجهته أذنها المسكينة وهو يردد بصوت فاتر...
-(ستزيدين وضعك سوء مع العائلة، عائلة الغانم لن تنتظرك يا مـرام، إما السفر اليوم، أو )

ترك كلمته الأخيرة معلقة في الهواء ولكن صدى تهديده ضرب جسدها قبل عقلها.. عاد يهددها مره أخرى، عاد يضغط على نقطة ضعفها الوحيدة.. ولدها براء
لذا صمتت وهي تضغط على أسنانها من فرط انفعالها، موضوعة بين مطرقة وسندان.. إما الاختيار بين فرصة شقيقتها أو التفاوض لوجود ولدها بين أحضانها

وضعت كفها على جبينها كي تتحكم في حرارة الغضب التي تركت أثرها على وجهها فقالت بصوتٍ حاد رانت فيه قلة الحيلة...
-(ولكن فاتن يجب أن تعود فورًا للمدينة، ستفلت منها فرصتها في تجربة الاداء لعملها، يجب أن أوصلها وأكون معها )

مضت دقيقة أو أكثر وهي تنتظر اجابته حتى كادت تأكل كفها من شدة الانفعال، فوصلها صوته وهو يكرر...
-(أمامي دقائق وأكون أمامكِ، حينها سنجد حل لفاتن وتجربة الأداء تلك، استغلي رقتي معك كي لا تهلكِ على يد فراس يا مـرام.)

أنهى كلماته وأُغلق الهاتف دون أن يصلها حرف واحد أخر
توقفت ساعة الزمن حولها، توقف الوقت والناس وكل شيء، ولكن ألمها لم يتوقف أو يختفى، بل كان يتكاثر وكأنه سرطان نهم يسابق الوقت ويتضاعف كـوحشٍ ثائر !.
كانت تقف على حافة الهاوية، إما الاستسلام للسقوط هربًا من النيران التي تلاحقها..او التمسك في حبل نجاته التالف، والوقت الذي قضته في التفكير كان دقيقة أو أقل
قبل أن تقرر مسار حياتها وسط العواصف النارية حولها.

مر الوقت ثقيلًا على مـرام التي تطعم ولدها بعقلٍ شارد وروح تائهة، بخلاف شقيقتها التي كانت كقطة على صفيحٍ ساخن.. تذهب وتجيئ وهي تُمسك هاتفها تحدق فيه بحماسٍ متوتر ولسانها يردد...
-(المُنتج اخبر ميمي أن تصور لي المشهد الذي سـ أُأديهx أمامه، وقال نصا انه ينتظرني ليرى أدائي بنفسه ويقرر سـ يعطيني الدور أم لا)

تنهدت بقوة واخذت شهيق ثم زفير وهي تغمض عينيها وتربت على صدرها برقة وتقول بعزيمة لا تُقهر...
-(ثقي بنفسك يا فاتن، ستأخذي الدور، وسـ تُبهريه بأدائك العظيم، فقط ركزي وتمالكِ نفسك وأحفظي النص.. اهدأي يا فاتن اهداي)

كانت ذاتها الكلمة التي ترددها مـرام في نفسها
-( اهدأي يا مـرام لا داعي للفزع، هم ليسوا وحوش بشرية، هم عائلة زوجك يا مـرام اهدأي )

انتفضت من أفكارها وقد ارتفع رنين ناعم من الباب أعقبه صوت ضغط ازرار ورنين فتح الباب، وما هي إلا ثوان وظهر أمامها عبدالعزيز وخلفه نُصير.. كانا رجُلان أنيقان قد خرجا توًا من مجلة ازياء بسبب بذلاتهم الرسمية الأنيقة.. ولكن اناقتهما أو طاقتهما الرجولية لم تترك أي أثر على مـرام الواجمة، او فاتن التي انفصلت عن العالم تمامًا ولازالت تقطع الصالة ذهاب ومجيئ وهي تحفظ المشهد الذي أُرسل لها.

ولكنها انتبهت حينما جلس نُصير على الاريكة واضعًا ساقx فوق أخرى وقد وجه حديثه وابتسامته الكسولة لفاتن وهو يردد....
-(صباح الخير يا نجمة، لم أندهش حينما علمت أنكِ تودين الظهور على الشاشة.. الجميلات مثلك يليق بهن كلمة نجمة.)

إطراء خطير توجه لفاتن كـ سهم مُنطلق مُحمل بطاقة تدفعا للابتسام بإشراق وانتشرت الحمرة في وجهها الخجول فتمتمت بخجل حمل ابتسامة كبيرة...
-(أشكرك سيد نُصير، مُجاملتك تُزيد من حماسي أكثر )

كانت صغيرة ناعمة تنطق بالحياة، كزهرة جورية تُضع كـ زينة جميلة، وتملك عطر نفاذ يُطيب النفس.. بخلاف شقيقتها التي تُشبه أوراق الخريف الجافة، لا ينقصها سوى السقوط أرضًا وتُدعس كي تنهار قطعها الجافة
لذا ألقى جملته الأخيرة لفاتن قبل أن يصب اهتمامه على تلك الصامتة فقال...
-(بالتوفيق ياعزيزتي، سيتكرم عبدالعزيز وسيوصلك لوجهتك، ثم يأتي بكِ للقرية إن أردتِ ولكن السيدة مـرام يجب أن تأتي معي للقرية في الحال، فـ العائلة تنتظرها )

تضاعف الخوف في قلبها وقفزت من جلستها تضم ولدها لصدرها بحماية قائلة بصوت مرتبك...
-(لن أدع اختي مفردها في شيء مهم كهذا، ثم أن يوم واحد اخر لا ضير فيه.. أليس كذالك يا استاذ عبدالعزيز)

تحدث عبدالعزيز الصامت بصوتٍ هادئ متزن وهو يصوب اهتمامه نحو مـرام المرتبكة فقال..
-(سيدة مرام، من الافضل أن تكوني اليوم في القرية، العائلة اجتمعت لاستقبالكِ أنتِ والطفل، سيُترجم غيابك على أنه استهتار ولا مبالاة..)

نظرت لفاتن المحتارة وهي تغمغم بتشتت واضح رغم محاولاتها للتماسك أمامهم.. ولكن خانها صوتها الضعيف وهي تغمغم ..
-(ولكن أختي..)

أخرج نُصير هاتفه وهو ينظر لفاتن بابتسامتة الناعمة ويردد...
-(اخبريني ما اسم المنتج يا عزيزتي.. وأنا سأوصي عليكِ وأيضًا رشدي أباظة معكِ وسيكون هو المسؤول عنكِ.. اليس كذالك يا زيزو)

كان نُصير يتلاعب بالجميع، هو يعلم صديقه حق المعرفة، ويدري أنه سيفعل أي شيء في سبيل أخذ مرام والطفل ووضعهما في يد فراس، كان الإصرار داخله أقوى وأكبر من الظروف التي تظهر على السطح فجأة
يدري أنه لن يهدأ أبدًا لذا كتم تنهيدة ضيقة وهو يحرك رأسه بإيجاب وينظر لفاتن التي تُلقيه بنظرات باردة حانقة..
-(لا تقلقي على شقيقتك يا أنسة مرام، سأكون معها إلى أن تنتهي من أعمالها.. لذا أرجو ألا يصيبكِ القلق ما دُمت معها )

خرج صوت فاتن مستنكرًا وهي تشعر وكأنها طفلة مُلقاه على عاتقه، فنظرت لشقيقتها تقول بحدة واضحة...
-(مـرام أنا لست صغيرة، أستطيع السفر وحدي لا مشكلة، وأن أردتي لن أذهب لتجربة الأداء و..)

قاطعها نُصير الذي تحدث برفضٍ هادئ وعينين تلمع كـ لمعان النجوم في السماء الحالكة.. أراد أن يدحض ما قالته فاتن فورًا...
-(وإن لم تنالي أنتِ الفرصة، من يستحقها غيرك يا عزيزتي، كفى تعقيد للأمور واذهبي مع عبد العزيز انه ألطف مما يبدو، فلا يخيفك تجعد وجهه بالعبوس، هيا يا عزيزتي لا تضيعي وقتكِ ووقتنا)

كانت كلمات نُصير هي القرار الأخير، فخلال دقائق كان فاتن في سيارة عبدالعزيز تجلس في المقعد المجاور له وهو يقود السيارة بسرعة معقولة بينما هي تراجع النص مرارًا دون أن تنظر له او توجه له كلمة واحدة وهو كذلك.

أما مـرام فكانت تجلس في المقعد الخلفي وطفلها بين أحضانها، يحاول ملاطفتها وجذب انتباهها لتلعب معه كما اعتاد، ولكنها كانت في حالة لا تسمح لها باللعب أو اللهو
أما في المقعد الأمامي كان يجلس السائق وجواره نُصير الذي رفع هاتفه وأكد موعد سفرهم وهو يحادث شخص ما.

كان الوقت يمر بأسرع مما توقعته، فـ دقائق قليلة ووصلت للمطار برفقته، وأخذت محلها جواره في الطائرة المتجه نحو مدينة من مدن الصعيد، وبعدها ستنتقل إلى القرية حيث منزل عائلة فايز

كان الساعات تمر دون أن تتحدث بحرف لنُصير، فكانت تمر باوقات صعيبة وتوتر غريب يمنعها من التنفس بانتظام، بخلاف حالته تمامًا.. كان يجري اتصالات عديدة تارة، ويبتسم لبراء ويُشاغله تارة أخرى
كان هادئ ومسترخي وحسدته هي على استرخائه ذاك، ومزجت مع حسدها حنق من شخصيته المستفزة التي تجعلها في قمة التوتر والانفعال، بينما هو كسحابة متلاعبة، تطوف في السماء بحرية وراحة.

تمنت لو أنها تملك القليل من ثقته تلك لتستطيع مجابهة والدة فايز، تود بعضًا من هدوئه كي تستقر معدتها التي تتلوى ألمًا منذ أن وضعت قدمها في سيارته.

حاولت التماسك وهي تتلو بعض أيات القران في نفسها لتبعث الطمأنينه لقلبها، عقلها يُفكر في ما ينتظرها، وخاطرها يعرض لها أسعد لحظات حياتها مع فايز، تضم ولدها لصدرها تحتوي حركته المفرطة كي تُذكر جسدها أنه ينتمي لها وقطعة منه.

والجسد لا يتخلى عن بعضه أبدًا ...
صدح صوت غير متفائل في عقلها وهو يُذكرها بالحقيقة القاسية، أن الجسد يتخلى عن بعضه في حالة واحدة فقط... البَتر.

حركت رأسها نافية وهي تضم براء لصدرها أكثر وتقبل راسه بعينين دامعتين وخوف واضح في صوتها الهامس..
-(أنت معي يا حبيبي، أمك لن تتركك، أموت فداك يا براء، أموت دونك يا حبيبي)

همسها وصل لنُصير الذي نظر لها للحظات قبل أن يسمع صوت المُضيفة وهي تخبر الرُكاب بهبوط الطائرة بعد خمس دقائق أو أقل، فتمسكت مـرام ببراء وضمته لصدرها وشعورها بأن الوقت يخونها بنذالة

بعد دقائق ستكون أمام عائلة الغانم، دقائق وتضع قدمها المرتجفة على أرض المنزل الذي لطالما كرهه فايز !
والمؤكد أنها أيضًا ستكرهه بسبب حدسها الذي يخبرها بقدوم شيء سيئ.. سيئ للغاية ..!!

وحالما نزلت من الطائرة مع نُصير الذي أمسك مرفقها يساعدها على النزول، فوجدت نفسها تُمسك في طرف سترته وتغمغم بصوت مرتجف وخوف يتضاعف وقبض على قلبها بعنف...
-(سيـد نُصير، من الظلم أن تأخذوا مني طفلي، أي شخص يرضى بفراق طفل رضيع عن والدته.. ضعني في محل شقيقتك واخبرني هل سترضى لها هذا الألم ! )

نظر لاصابعها التي تمسكت بسترته وكأنها غريق يائس يتمسك بقشته الأخيرة، فنظر لوجهها الشاحب للحظات ومرت عيناه الهادئة على عينيها الذابلة وفمها المرتجف كحال كافة جسدها، فقال بهدوء ذو مغزى بعد دقائق من الصمت...
-(لمـَ تقولين لي هذا الأن !! )

رطبت فمها للحظات وكفها ترتفع لتزيح خصلاتها التي انفلتت من عقدة شعرها الصارمة، فخرج صوتها ضعيف مهتز يقارب الانهيار...
-(أقول لكِ أن تنظري لي كشقيقة لك، ألتمس منك الحماية لي وطفلي، أرجوك لا تنتزع مني طفلي، وألا تدعهم يأخذونه، أرجوك يا سيد نُصير أرجوك )

هتفت بكلمتها الأخيرة وهي تحكم قبضتها على بذلته حتى ابيضت أصابعها، كانت يائسة، تائهة، ترجوا منه الحماية منه ومنهم، تطلب الأمان من جلادها، تلتمس الحماية من الرجل الذي سيوصلها للمقصلة كي تنال ما تستحقه... ترجو المستحيل من الواقع.

فما كان منه إلا أن سار خطوة بعيد عنها يفلت كفها عنه، معلنًا ولائه التام لعائلته ولإرادتهم.. يُناصرهم في رغبتهم
ويمهد طريقهم لأخذ الطفل منها.
وبنظرة واحدة من عينيه أن نُصير ينتمي لعائلة أل غانم قلبًا وقالبًا، ويُشبه كل ما فيهم من قسوة وظُلم.

x x x x x x x x x x x x x x x x xx **


وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-12-22, 03:37 AM   #6

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثالث

الفصل الثالث



xكانت ترتعد رغم حر القرية ورطوبتها العالية، وجهها الشاحب كان يكتم كل انفعالاتها ببراعة عجزت عن تفسيرها في تلك اللحظة، كل ما تعلمه أنها لن تفلت براء من يدها ولن تتخاذل أمامهم، لن تنهار أمام ألفاظ والدة فايز ولن تحترق بنيران كراهيتها الغير مبررة، ستتفاوض معهم وترحل بولدها بعدما تأخذ منهم عهدًا ألا يحاولوا تهديد استقرارها، وبالمقابل هي لن تمنع حفيدهم عنهم، بل سينشأ على حبهم رغم كراهيتهم لها، ستفعل ما يرضي الله في سمائه، وفايز في أرضه، ستفعل أي شيء لهم مقابل ألا يستمروا في تهديدها، وألا يستخدموا أساليبهم القاسية التي أخبرها فايز بها ذات يوم، ستدخل الدار تلقي التحية وتطلب منهم أن يدعوها وطفلها في حال سبيلهم، وستأتي لهم بالطفل حينما يشتاقوا له.
كانت ترتب الأفكار في عقلها وتُهدأ خفقاتها الجنونية التي كانت تصدح في أذنها تصمها عن أي صوتٍ أخر، فلم تنتبه لنُصير الذي توقف أمام بوابة حديدية ضخمة وأشار لها بالدخول وهو ينظر لوجهها نظراته الناعسة المخلوطة بهدوء وشيء آخر تجهله تمامًا.

ما أن عبرت البوابة، انقبض صدرها وهي تتذكر يوم وفاة فايز، ذلك اليوم الأليم الذي فارقت فيه حبيبها وزوجها، فارقته على حين غرة دون أي إنذار.
كل ما حدث أنها استيقظت صباحًا وتفاجئت بوجوده جوارها رغم علمها إنه يستيقظ باكرًا ويرحل لعمله ويحادثها بعدما تستيقظ هي، ولكن حينها كان نائم جوارها بسكونٍ تام وبلا حراك، ربتت على كتفه توقظه برقة متغاضية عن جدالهما يوم أمس ومبادرة بالصلح بدلًا منه، ولكنه لم يجيبها، ربتة بعد أخرى وصوتها يردد اسمه بقلق حقيقي حينما مسدت جبينه ووجدته بارد بلا دماء؛ حينها انتفضت فزعًا وصارت تقلبه يمين ويسار وتتفحص نبضه وتضرب على صدره ولكن قابلها الصمت والخواء، عينيه كانتا قد فارقتا الحياة، مُعلقة بوجهها وكأنه يودعها
صرخت ولطمت وجهها وألقت الماء في وجهه ليستيقظ ولكن لا صوت ولا استجابة، تعالى صُراخها وهي تمسك هاتفها تتصل بالإسعاف واجتمع الجيران عند باب شقتها على أثر صُراخها العالي، ولكن فايز لم يستقيم من الفراش، لم يستيقظ ويخبرها أنها مزحة ثقيلة يعاقبها بها على جدالهما، لم يعانقها ويخبرها أنها في أمانته ورعايته كما كان يخبرها في الماضي، بل كان صمته هو إعلان رحيله وبداية عذابها.
كرهت الصباح؛ لأنه فارقها فيه، وكرهت الليل؛ لأنه خالي منه، وما بين الصباح والمساء كان وقتها يمضي محسوب من دفتر عمرها.
ولكن الجزء الأصعب على فؤادها هو مجيئها للقرية كي يُدفن فيها بناءًا على رغبة عائلته، استقبلوها بالعويل والصراخ والاتهامات الموجعة، ألقتها والدته بكل ما يُدمي القلب ويخدش الحياء، ركلتها بكلماتها القاسية، وطعنتها بكراهيتها الغير مبررة.

اغدقتها بالكراهية في الوقت التي كانت تتمنى فيه لو ترتمي في أحضانها وتَشُم رائحة فايز على صدرها، عاملوها بالقسوة واتهموها بالفسق والجُرم والشعوذة لأنها تزوجت فايز؛ حينها لم تجد حل غير الهرب منهم، هربت بطفلها الساكن في أحشائها ولعقت جراحها بنفسها وعاشت على ذكرى زوجها وقد ظنت أنها خاتمة قصتها مع تلك العائلة.

نظرت للمنزل الضخم القابع أمامها، بناء كئيب ذو لون بُني، جُدرانه قديمة، بل عتيقة قد ترك الزمن عليها أثره رغم صلابتها، ورغم أنه بيت من البيوت التراثية التي لا تراها سوى في الأفلام الوثائقية، ولابد أن قيمته المالية تساوي الكثير والكثير من الأموال، إلا أنها كرهته منذ أن وطأته في وفاة فايز، كرهته حينها وحينما رحلت عنه وعن أهله تنفست الصعداء، وكرهته الآن لأنها عادت له مُجبرة ومُكبلة بتهديداتهم القاسية
ولكن ها هي الان، تقف على أرضهم، يفصلها عنهم باب خشبي عتيق تود ألا تجتازه وتهرب بعيدًا هي وطفلها
حدسها يعنفها أنها جائت لوكر الأفاعي بقدمها، وعقلها يهنئها على الخطوة الذكية التي حجبت عنها نيران الحب وأبواب جحيمهم، وكل ما فيها يناقض نفسه.

حتى الدمع في عينيها ناقض صلابة ملامحها التي رسمتها حالما قُبلت بالصمت حينما رجت مساعدة نُصير وأعلن رفضه بصمته، حينها علمت أنها وحيدة في حربها؛ لذا ستكون الحماية لنفسها ولطفلها، لن ترتجي أحد، ولن تنكسر أمام أحد، هي صاحبة القرار في حياتها.

انتبهت على صوت صرير الباب عند فتحه بعدما طرق نُصير بكفه القوية عليه وكأنه حارس يَطرق باب الجحيم قبل دخوله.
ابتلعت رمقها حينما فُتح الباب بواسطة امرأة واجمة كانت أول من ألقاها بنظرة نارية قاسية، ثم لانت نظرتها وصارت ناعمة كالحرير وهي تنظر لنُصير وتقول بأدبٍ حنون:
-(الحمد لله على سلامتك يا نُصير بيه، والله أظلمت القرية حينما سافرت. )

أهداها الآخر ابتسامة ناعمة ونظرته الناعسة وهو يغمغم بصوتٍ هادئ وكأنه لم يقطع ساعات سفر طويلة:
-(وهل أنا أم عبده لتُظلم القرية عند سفري ؟!
أود كوب قهوة ثقيلة جدًا من يديكِ لأنني أتوقع مجيئ صداع الرأس بعد لحظات.)

وصلها تلميحه المبطن الذي يحمل قُبح ما سيحدث معها، كما أنه وصل لأم عبده التي ألقت مـرام بنظرة إزداء واضحة لم تخفيها ولسانها ينفلت كـساطور الجزار:
-(أعانكم الله يا نُصير بيه، ولكنه صداع لابد منه، كفانا الله شرع الصداع وأذاه.)

تجاوزها نُصير ومـرام التي ابتلعت إهانتها دون أن تقول كلمة واحدة، كانت تتمسك بقناع الهدوء والصلابة، تُهيئ نفسها لمَة هو أسوء بكثير؛ لذا لن تُشغل نفسها بإهانة أم عبده، فهي كانت قريبة لقلب زوجها الراحل، ولطالما أخبرها بمدى حنانها وعطفها عليه وكأنه ولدها الذي لم تلده، ولأجل عيني فايز سـتسامحها على ما فعلته معها.

تبخر كل شيء في عقلها، وضمت ولدها النائم لصدرها أكثر حينما بصرت عائلة فايز أمامها.
كان المجلس يعج بوجودهم ولكن بلا صوت، الرجال يجلسون بصلابة وبَأسِ، والنساء يتململن في جلستهن ويلقين نحوها كرههن ولعناتهن كـترحيبٍ صامت.

كانوا كـالذئاب المتربصون بالفريسة، ينتظر كلًا منهم سكونها كي ينقضوا عليها ويقتلعوا كل ما فيها بكل ما فيهم من قسوة وغل وكراهية سوداء.
ومن بينهن برزت السيدة أميرة في لباسها الأسود ووجهها المتجعد بملامح تُخيف الأنس والجان، عينيها جمرات من جنهم ولهيبها من سعير.

تغلب صوت نُصير على الصمت الثقيل وهو يتجه نحو رجل ذو عينٍ واحدة، وعينه الأخرى أُقتلعت من محلها ومُسح أثرها وظل فراغها يُثير في النفس هلع حقيقي؛ فانكمشت مُـرام في نفسها حينما تحدث ذاك الرجل بلهجة قوية خشنة يفوح منها التهور والجنون:
-(طال انتظارك يا نُصير.)

ضحك نُصير بذهنٍ صاف وهو يبادله العناق وقد غض الطرف عن العداء الصامت الدائر بينها وبينهم وهو يغمغم بهدوء مثير:
-(الصبر مفتاح الفرج، ألم تسمع بتلك الحكمة يا فراس؟!)

توسعت عينيها بذهول خائف وهي تسمع اسم فراس الذي أُطلق على الرجل ذو العين الواحدة، فنبض قلبها برعب وهي تفكر بهلع، أنها كانت تخافه من الحديث عنه واسمه فقط.، والان بعدما رأته كادت معدتها تخونها وتخرج كل ما فيها أمامهم، ولكنها تماسكت ووضعت كفها سريعًا أمام فمها وهي تشيح وجهها عنه وتحاول ضبط أنفاسها المتسارعة، فسمعت صوت أميرة وهي تدمدم ببغضٍ حاد:
-(هل دخلتِ على كُفار يا امرأة؟
ألم يعلمك والدك أن تُلقي السلام حينما تدخلي مكان، أم أنكِ ورثتي أخلاق عمتك الفاجرة وأمك الفاسدة ؟!)

شحب وجهها وشعرت بأنفاسها تغادرها وهي تسمع سؤالها المُهين الذي جعل الدنيا تدور من حولها، من أين تعرف عمتها ووالدتها لتنعتهما بالفجر والفساد؟!
ولمَا تبدو واثقة مما تقوله وكأنها تقول حقيقة من حقائق الدنيا ؟!
ارتجف جسدها وكادت تفتح فمها لترد على إهانتها، ولكن صدح صوت الرجل ذو العين الواحدة وهو يردد جملته بتحذير ثقيل:
-(أم فـــراس.)

أغلقت أميرة فمها وجعدت كفها على عبائتها السوداء واكتفت بنظراتها الحادة الكارهة، فجاء صوت فراس عاليًا مره أخرى وهو ينظر لمـرام من رأسها لأخمص قدميها:
-(أم عـــبده.)

جائت أم عبده على صيحته العالية وامتثلت أمامه بطاعة مغمغمة:
-(نعم فراس بيه.)

ألقى نظرة على خصلاتها بغير رضا وهو يدمدم بصوتٍ جامد يحمل ما يكفي من النقد والانتقاص منها:
-(اجلبي لها وشاح أسود تضعه على رأسها لتحتشم؛ فهي ستجلس بيننا ولا يصح هذا.)
حينها خرج صوت مـرام مبحوح يحمل ما تشعر به وهي تمسد على خصلاتها المعقودة خلف رأسها قائلة:
-(أنا لست مُحجبة.)

جائتها إجابته قاسية منتقدة وهو يشيح عينيه عنها ويجلس على مقعده بثبات دون أن يبدي أي تعاطف مع حالتها المضطربة:
-(أنت هنا في قرية من قرى الصعيد, ولستِ في البندر لتتبجحي بكونك غير محجبة، دار أل غانم يسير وفق عادات وتقاليد، وقواعده لا تُكسر يا لستُ محجبة.)

ابتلعت إهانة آخرى، لم تجد القوة الكافية لتصدها؛ بل إنفلت من فمها تنهيدة مرتجفة وهي ترى أم عبده تقترب منه وبيدها وشاح أسود طويل تمده لها بملامح حادة ونظرة ضائقة، فمدت كفها البارد لتُمسكه منها ولكنها تراجعت للخلف سريعًا حينما اقتربت ام عبده لتأخذ براء من يدها وخرج صوتها تلقائيًا يحمل حدة وارتجاف:
-(ابتعدي عن طفلي.)

جملتها الفزعة كانت كـالبنزين الذي أشعل نيرانهم وخاصة أميرة التي خرج صوتها صارخ حاد:
-(طفلك هذا حفيدنا يا بنت الفاسقة يا فاجرة.)
أتمت كلماتها المُهينة واندفعت نحوها بجنون وقد فشلت كليًا في كبت غضبها وكراهيتها، كانت تنوي نزع الطفل من بين يديها ولكن ابتعدت مـرام سريعًا وقد خرج صوتها كالزئير المجروح حينما استشفت رغبتها والتقطت نظرة الشر على وجهها:
-(لا تحاولي انتزاع طفلي مني، أنا جئت هنا للتفاوض معكم، لا لتلقي الإهانة أو لتأخذوا ولدي مني هذا لا يرضي الله.)

بقوة جبارة انتزعت منها براء الذي استيقظ صارخًا بسبب الأنامل القاسية التي اقتلعته من والدته، فتزامنت صرخته مع صرخة مـرام الفزعة حينما حاولت أخذ ولدها من جديد، ولكن أميرة وضعته في يد أم عبده وأشارت لها كي تأخذه وتبتعد، ولكن مـرام تحركت خلفها بسرعة كي تمنعها وهي تصرخ فيها بكل قوتها:
-(ولدي سيفزع بعيد عني، أعطني ولدي لأرحل به، براء يمرض حينما يصرخ هكذا أعيدي طفلــــــــي الآن.)
منعتها أميرة من السير خلف أم عبده وقبضت على مرفقها بقسوة عنيفة وتغرز أظافرها في جلدها وتضغط على نواجذها بحقد دفين وكلماتها تندفع من فمها كـالسُم الحي:
-( اصرخي قدر ما تريدين، الطفل لنا بالشرع والقانون والقوة والغصب، لا حيلة لكِ إلا الصراخ.)

حاولت مـرام أن تخلص مرفقها منها ودموعها تجري بفزع وانهيار على وجنتها الشاحبة وشهقاتها تندفع منها كشهقات الموت عند الغفلة، وحينما فشلت في انتزاع مرفقها تمسكت بها بكل يأسها وانهيارها، كلماتها تخرج فزعة أليمة:
-(أرجوكِ أعيدي براء، اقسم بالله ألا أحرمكم منه، ولكن أعيدي طفلي، هذا لا يرضي الله، أُقبل يديكِ إن أردتِ ولكن أعيدي لي ولدي براء.)

نفضتها أميرة بازدراء تُلقيها بعيد عنها دون ان تكترث بحالتها المنهارة:
(وهل يرضي الله أن تأخذي ولدي وتقتليه؟
أكان يرضي الله أن تدمروا عائلتي في الماضي وتقتلي ولدي الآن؟
أكان هذا يرضي الله يا مشعوذة يا حقيرة؟
جئتي لتتفاوضي ها، أنا سأحرق قلبك كما احترق قلبي، أقسم بالله أن أكويكِ بنار القهر والألم كما اكتويت أنا.)
كانت كلماتها عبارة عن طلاسم وأحجيات تجهل حلها, ولم تكترث بها من الأساس، كل ما تأبه به هو أن تاخذ ولدها وتهرب به بعيدًا، وتندم على مجيئها.

تحركت مره أخرى تسير حيث سارت أم عبده ولكنها أحكمت قبضتها على مرفقها مره أخرى وهي تصرخ فيها بحدة....
-(أين تحسبين نفسك ذاهبة، هل تظنينه دار أباكِ يا امرأة، قفي مكانك بأدبك أو...)

صدح صوت فراس بعنف هذه المره يزجر والدته بصوت ثقيل خشن:
-(كـــفي يا أمي وعودي لمقعدك ودعينا ننهي هذه المهزلة.)

أشار لشقيقته فلك التي اقتربت منه ومعها أوراق وقلم وضعتهم في كفه، فسار نحو مـرام الباكية وهو يمد لها الأوراق والقلم وعينه الواحدة تسدد نحوها نظرة قاسية وكلماته الأشد قسوة وسطوة تهبط على رأسها كالسوط قائلا....
-(والان كي لا نضيع مزيد من الوقت، خزي ووقعي على هذه الأوراق، وخذي المبلغ المُدون وارحلي عنا.. وتذكري أن ما ان توقعي هذه الأوراق تنسي عائلة غانم وتنسي كل شيء يخصنا، هل فهمتي)

نظرت للأوراق في يده ولازال صدرها يرتفع ويهبط في بكائها الذي لم ينضب، صوت نحيبها يخرج مقهور أليمًا، ودت لو تضرب وجهها وتشق ثيابها، أو تقفز على الأرض كالمجانين ليعيدو لها طفلها.
لم يكن عقلها يستوعب ما يحدث، لا يستوعب قسوتهم ولا جبروتهم الذي لم يكن له مثيل

وكذالك لم تستوعب هدوء نُصير الذي كان يجلس على أحد المقاعد وينظر لما يدور وكأنه يشاهد تمثيلية درامية تافهة، لا تصدق أن فايز جزء من هذه العائلة اللعينة، لا تصدق أنها وقعت في فخهم بكل سهولة وغباء.

أرادت أن تمسك الأوراق وتمزقها وتُلقيها في وجهه وتدعوا عليهم بكل أيات الدعاء على الظالمين، أرادت أن تخبرهم بمدى كرهها لهم في هذه اللحظة، وتندم على اللحظات التي أرادت أن تتفاوض معهم فيها
أرادت أن تفعل الكثير ولكن النتيجة ستكون قاسية، لن تأخذ ولدها منهم.. لذا رفعت كفها تمسح دموعها الغزيرة وهي تنظر لفراس برجاء ضعيف وتغمغم...
-(سيد فراس بالله عليك لا تفعلوا بي هذا، أنا كنت زوجة أخاك الاصغر، لم تروا مني شيء سيئ لتفعلوا بي هذا، ولا أدري أي سوء تفاهم يدفعكم لتقسوا عليّ بهذا الشكل... أنا ارجوك أن تعيد لي طفلي، اقسم بالله أنني لا أود أي مال، ولست طامعة بأي شيء حتى أنني لم أسألكم ميراث فايز ورحلت بهدوء، لذا أرجوك أن تعطيني بـراء فصراخه قبل قليل سيؤدي لمرضه، ولدي سريع المرض، أرجوك أن تتقي الله في ولا تحرمني من ولدي)

وقف نُصير بشكلٍ مفاجئ واقترب من فراس يُخفض كفه المُحملة بالأوراق قائلا بهدوء مُسيطر كمن يحادث طفل وهو ينظر له مليًا...
-(فراس لا داعي لاجتماعكم الان، طالما أن الطفل فزع وسيمرض كما تقول والدته، دعها ترتاح هي وطفلها أولاً وغدًا سيكون النقاش أفضل للجميع، فـ الوضع تحول لمهزلة كما قلت قبل قليل)

بادله فراس النظرات قبل أن يغمض عينه ويتأفأف مستغفرًا وصوته يصدح بقوة مستدعيًا أم عبده لتأتي بالطفل
فانتفضت أميرة مره أخرى تتحدث بصوتٍ عصبي موجهة حديثها لنُصير....
-(لا شأن لك يا ابن أختي، ولدي لا يُؤمر، ثم أن ليس هناك شيء ليتم النقاش فيه، الولد من حقنا ولتضرب هي رأسها في الحائط)

لم يوجه لها نُصير أي كلمة، بل لاح التقدير الهادئ على وجهه وهو يربت على كتف فراس قائلا له بهدوء تام كي يتخطى اتهام خالته...
-(لا أشك لحظة أنه سيفعل الصواب، ولكن الان أنا أرى من الأفضل أن يؤجل هذا النقاش...مصلحة الطفل وصحته أولاوية الجميع)

تحدث أميرة بعنف حاد...
-(من أنت لترى او لا ترى، هذا قرار ابني وحده و...)

قاطعها فراس بنبرة حادة مؤنبة...
-(أمـــي)

ثم نظر لأم عبدو التي أتت بالطفل الذي لازال يبكي بقوة وقد توهج وجهه من كثرة صراخة، وما أن رأى والدته الباكية، ارتفع ذراعيه يطالبها بحمله
فاتجهت مـرام سريعًا نحوه تخطفه من بين يدي أم عبده وتقربه لصدرها تعانقه وتربت على رأسه كي يهدأ، وقد عادت الروح لها بالرغم من استمرار شهقات بكائها ولمعان الدموع على وجهها

كانت حالتها سيئة للدرجة التي جعلت جسدها يرتجف بلا توقف وشحوبها يزداد أكثر.

فتنهد نُصير وهو ينظر لساعة معصمة مغمغمًا بجدية...
-(سأخذها لمنزلنا يا فراس لتبيت فيه ليلتها، وغدًا تستطيع متابعة النقاش بطريقة حضارية أكثر دون مشاكل.)

حرك فراس رأسه بإيجاب مما زاد عصبية أميرة، ولكن نُصير تجاهلها تمامًا وهو يتجه نحو مـرام ويمسك مرفقها لتسير معه نحو الخارج.. أطاعته وسارت معه وهي تحضن طفلها لقلبها وقد ظنت أنها ستُحرم منه للأبد لولا تدخله في النهاية وقد أنقذها لتوه من أسوء خيالاتها.

استقر في سيارته أمام عجلة القيادة وهي جواره لازالت تعانق براء وشهقاتها تخرج متقطعة وقد فقدت السيطرة عليها، رأت كفه يمتد لها بزجاجة ماء صغيرة وصوته العميق يغمغم...
-(اشربي)

مدت كفها المرتعش تحاول امساك الزجاجة، ولكنها انفلتت منها دون أن تجد القدرة على امساكها وقد خارت قواها كليًا

فأمسكها مره أخرى وفتح غطائها ويقول بهدوء...
-(اعطني الطفل وخذي لتشربي)

حركت رأسها نافية وأبت أن تترك ولدها، ومره أخرى انفجرت في نوبة بكاء عنيفة وجسدها ينتفض بضعف
كلما تذكرت ما حدث معها في الداخل، وأنها كادت تفقد طفلها تنهار ويتمزق قلبها ألمًا، لا شيء يُعادل ألم الخوف والرهبة، لا يشاء يجابه ألم الفقد .

فأعاد نُصير غلق زجاجة الماء ووضعها جانبًا وهو ينظر لها مليًا، يحاول سبر أغوراها وهو يغمغم بسؤاله الهادئ...
-(فايز لم يخبرك عن سبب كراهية عائلته لكِ ؟!)

حركت رأسها نافية دون أن تنطق بكلمة، فشهقاتها المتلاحقة منعتها من الحديث، والبكاء غلبها واستنزف طاقتها كليًا... كل ما استطاعت فعله هو دفن وجهها الباكي في كتف ولدها براء الذي هدأ من بكائه أخيرًا وانشغل في بكائها

أما الجالس جوارها فلم يرفع عينيه عنها، وقد أدرك في نفسه أن فايز وضعها في ورطة حقيقية لا فرار منها

x x x x x x x x x x x x x x x x x ***

x x x x x x x x x x x x x x x x x ***
طوال رحلة العودة للمدينة كانت تنظر للهاتف وتردد النص مرارًا وتكرار تحاول حفظه قبل وصولها كي لا ترتبك وتنسى النص أمام المُنتج الذي وضع على عاتقها ثقته وأمله, فـ ميمي أخبرتها أنه جادل المُخرج حولها لدرجة أنه المتحرش هدده بأنه سيترك الفيلم لو انضمت له ولو بدورٍ صامت, ولكن المنتج أظهر لا مبالاة كبيرة وأصر على حضورها فورا لتجربة الاداء

لذا ستفعل كل ما بوسعها لتحصل على الدور وتنال اعجاب المنتج بموهبتها, ونكاية في المخرج المتحرش الذي يشوه شمعة الفن بأساليبه الرخيصة, فكانت قد انتهت من حفظ ما أرسل لها وبدأت تُدرب نفسها على تمثيله.. فتجاهلت الجالس جوارها كليًا كما تجاهلها هو منذ قيادته السارة قبل نصف ساعة, ونظرت امامها وهي تتخيل وجود الممثل الأخر وتُهيئ لنفسها أنها داخل المشهد.
فجعدت جبينها وكورت ثغرها في تأثر وخرج صوتها ضعيف حزين يحمل نبرة الرجاء والألم...
-(أرجـــوك يا أبي لا اتكسر قلبي بعنادك, لا تفرق بيني وبين طارق.. انه حبـــي الوحيــد, ارجووك يا أبي لا تفرق بين قلوب عاشقة.. لا تقترف الإثم العظيم حول عالم العشق والمحبين.. وإن صممت على موقفك سأقتل نفسي وأكون شهيدة حبي الاليم)
كانت كلماتها تنطلق منها بمبالغة شديدة جعلت وجه عبدالعزيز يتجعد أثناء قيادته وقد غادره هدوئه الشارد بسبب تلك المعتوهة التي انطلقت تتغنى بكلماتها الغريبة التي رأها ألف مره في الأفلام القديمة.. ولكن تمثيلها المبالغ تفوق على الجميع في مدى سوئه وعدم اقناعه, ولكنه تجاهلها وتابع القيادة وقد كبح ردة فعله.

أما هي فتنهدت ورفعت كفها لجبينها وهي تهمس لنفسها بخفوت..
-(أشعر أنني غير مُقنعة بالمره.. أووف كيف سأعلم مستوى تمثيلي قبل أن يراني المخرج)
طالت صمتها وهي تفكر قبل أن تتسع حدقتيها وتلقي نظرة خاطفة على الجالس جوارها ويتابع قيادته بكل تركيزه, فحمحمت قبل أن تلتفت له في جليتها وتوليه كل انتباهها قائلة بهدوء مصطنع ناقد ازدرائها له قبل ساعة..
-(أستاذ عبدالعزيز)

لم يصلها أي اجابة منه بل تابع القيادة بوجهٍ منغلق تمامًا وكأنه لم يسمعها, أو انها لم تتحدث من الأساس
فعقدت جبينها وهي تقترب وتمد اصبعها لكتفه تلكزه مكرره بصوتٍ لحوح..
-(أستاااذ عبدالعزيز, أنا احادثك ألا تسمعني!)

أجابها بعد لحظات بهدوء شديد..
-(بل سمعتكِ)

اتسعت عينيها من صراحته في الاجابة، فعقدت جبينها بضيق واضح وهي تكرر...
-(إذًا لمَ لم تُجيبني!)

-(ظننت أن اسمي هو رشدي أباظة)
لم تكن كلماته تحمل لمحة من المزاح أو خفة الظل، بل كانت كمن يُلقي خبر اختفاء طائرة في مثلث برمودا.. ورغم ذلك تشقق وجهها بالاجبار تحاول أن تبتسم وتطلق ضحكة مرحة خرجت منها صفراء وهي تغمغم...
-(عسل يا أستاذ عبد العزيز عسل )

لم يبدي ردة فعل للمره الثانية ولم يحيد بعينيه عن الطريق، فشعرت أنها مضطرة تتحمل ثقل دمه وهدوئه المريب.. فهي تحتاج التمرن على المشهد وأن يبدي رأيه في تمثيلها كي تطمئن لمستواها في التمثيل

لذا نظرت امامها للحظات وهي تهمس لنفسها بصوت ضيق مغلوبة على أمرها...
-(هيا يا فاتن لا بأس، إن كان لكَ عند الكلب حاجه قُل له يا أستاذ، لا بأس يا فاتن)

حمحمت وهي تلتفت له بابتسامة مشرقة وعينين تشع بالحماس والحذر وتردد بصوت حاولت ترقيقه وتأديبه بكل طاقتها....
-(أستاذ عبد العزيز هل أستطيع طلب شيء!؟)

جائتها اجابته مختصرة هادئة
-(تفضلي)

-(أنا حفظت المشهد المُرسل لي، أود تمثيله أمامك وكأنك أنت أبي، وبعدما أنتهي تقول لي رأيك الصااادق، وأرجوك ألا تجاملني بكلمات رقيقة، قُل الصدق فقط.. اتفقنا )
ألقت كلماتها دفعة واحدة بمنتهى الجدية والثقة، وكانت تضغط على كلماتها الأخيرة لُثنيه عن أي مدحٍ زائف

كاد يضحك ساخرًا على جديتها، ود لو يخبرها رأيه الصريح قبل أن تقوم بإعادة ذاك المشهد الكارثي، ولكنه تنهد وهو يضرب بخفة على عجلة القيادة مُجيبًا على مطلبها...
-(حسنًا ابدأي)

أسدلت رأسها وتهدلت معها خصلاتها كمن يتحول من هيأته لهيئة أخرى، ثم رفعت وجهها له وقد امتلئت عينيها بالدمع الحزين وتجعد وجهها في حزنٍ وانكسار كاد يُصدقه ويُشيد بموهبتها... ولكن نبرتها المُبالغ فيها جعلته يصرف عن عن تلك الموهبة.. فصدح صوتها وهي تقول...
-(أرجـــوك يا أبي لا اتكسر قلبي بعنادك, لا تفرق بيني وبين طارق.. انه حبـــي الوحيــد, ارجووك يا أبي لا تفرق بين قلوب عاشقة.. لا تقترف الإثم العظيم حول عالم العشق والمحبين.. وإن صممت على موقفك سأقتل نفسي وأكون شهيدة حبي الأليم)

أنهت كلماتها وهي تتمسك بمرفقه وتحركه متأثرة بالكلمات الغريبة، فما كان منه إلا أن تنهد وهو يتمتم بنبرة خافتة ممتعضة...
-(اقتلي نفسكِ)

خرجت عن الشخصية وهي ترف أحد حاجبيها وتجعد جبينها مرددة..
-(ماذا، لم أفهم )

-(لو كنت والدك وأنتِ ابنتي تقولين هذا الكلام، فـ سأقول لكِ اقتلي نفسكِ أو اذهبي وتزوجيه لأتخلص من تلك المبالغة الدرامية.. لم أرى أداء أسوء من أدائك الان يا أنسة)

بهتت ملامحها فورًا وتهدل كتفها وقد ضربتها كلماته كصاعقة نسفت كل حماسها وأملها كعاصفة اقتلعت كل ما على الأرض وأطاحت ما في السماء.

ابتلعت رمقها ولازالت عيناها معلقة بوجهه الهادئ الذي لم يكلف نفسه ويُديره لها ليرى أثر كلماته المفتقرة للذوق عليها... ولكن لحظات وسمعته يقول بهدوء بعد أن توقف بالسيارة...
-(المبالغة تقتل كل شيء، وجهك معبر، ولكن ما ان تفتحي فمك يفسد كل شيء، لذا تحكمي بحس الدراما المبالغ به، والمشهد ذاته لم أرى أسوء منه... فـ لو كان جزء من الدور المعروض عليكِ أضمن لكِ انكِ ستكونين حديث الساعة
وانما حديث سخرية وتهكم ومادة دسمة للنقد... بالتوفيق)

انهى كلماته وهو يُشير لوجهتهم التي وصلوا لها أخيرًا، فنظرت حيث أشار ولازالت ملامحها واجمة من صراحته الوقحة ونقده الهدام، فلم توجه له كلمة واحدة وهي تهبط من السيارة وتتجه نحو المبنى المنشود

وقبل أن تدلف شعرت به يقف خلفها تمامًا، فـ التفتت له رافعة أحد حاجبيها بضيق واندفع لسانها يقول في حدة..
-(ماذا هل ستقول للمنتج أنني لا أملك الموهبة ومبالغ فيّ)

قابل حدتها بهدوء رغم التسلية التي بدأت تنمو داخله بسبب غضبها وتناقضها في كلماتها وأفعالها، فهي طالبته بالحقيقة لا غير، وحينما أخبرها الحقيقة غضبت واندفعت كطفلة متمردة

-(من المفترض أنني معك كما طلبتِ مني شقيقتك، لا شأن لي بعملك او موهبتك، فقط سأرافقك كـ حماية لكِ)

ضحكت ساخرة وهي تنفض شعرها الغزير خلف ظهرها وتقول...
-(ماذا هل غيرت مهنتك من محامي لحارس شخصي، عد لسيارتك يا رشدي أباظة أنا لا احتاجك)

همهم وهو ينظر حوله ويقول بنبرة هادئة...
-(حسنًا طالما عدنا لرشدي أباظة لنجد المنتج ونخبره عن شهيدة الحب والمبالغة الدرامية)

تمسكت بمرفقه سريعًا تمنعه وقد صدقت تهديده فسارعت تقول بانفعال متوتر...
-(أستاذ عبدالعزيز، أرجوك لا تفسد فرصتي الأولى.. لي أشهر أقفز بين تجارب الأداء والمسرح ومعهد التمثيل، أحاول انتزاع فرصتي دون واسطة او تنازلات أو شيء مشين.. أفعل كل ما في استطاعتي لأصل لحلمي وأثبت للجميع أنني قادرة على تحقيق أهدافي، تود أن تكون معي حسنًا تعالى معي، ولكن أرجوك لا تغدر بي)

نظر لها مليًا ولعينيها الواسعتان كالدُنيا، ذاتها العينين التي رأها حينما كانت خضراء اللون منتفخة الشعر، ولكنها الان كانت بديعة الخلقة، بهية الطلعة.. تملك في وجهها قبول غير مشروط، وحصرت في حدقتيها الواسعتين سحر غريب.

لم تكن بالنسبة له إلا فتاة تافهة طائشة تركض خلف الأضواء والشهرة، وحتى الان يرى هدفها تافه لا يرتقي لأن يكون مسار صحيح في الحياة.
ولكنها تبدو صادقة في رغبتها ومتفانية في تحقيق حلمها، كانت تدري مالذي تريده في الدنيا، وتعلم موطئ قدمها
وكل ما تريده هي فرصة..فرصة واحدة وتبدأ مسيرتها.

نظر حوله يبحث عن المنتج بعدما تمتم...
-(هيا لنجد المنتج، من حسن حظك أن نُصير له واسطة سينمائية لا تعوض)

لم تفهم حديثه ولكنها تبعته حتى وصلوا للمنتج وبدأت تجربة ادائها أمام المنتج وعبد العزيز وبعض أبطال العمل باستثناء المخرج الذي رفض الحضور ولازال يتمسك بتهديده حول ترك العمل.

-بعد ساعتين أو أكثر

نظرت للمطعم حولها بانبهار حقيقي قبل أن تميل على الطاولة وهي تنظر له بضيق واضح وتغمغم منتقده...
-(اعذرني يا أستاذ عبد العزيز، ولكنك مُسرف جدًا، كيف لك أن تأتي بي لمكان فاتورته تكلف راتب شهر )

أمسكت بشوكتها تغرزها في قطعة اللحم الموضوعة أمامها وتقطع منها بشوكتها كما يفعل عبدالعزيز الذي حدق فيها للحظات قبل أن يقول...
-(من أخبركِ أن الفاتورة تساوي راتبي !؟)

وضعت قطعة اللحم في فمها تمضغها بهدوء وتستطعم طعم الثوم والروز ماري بها وتتلذذ به قبل أن ترفع المنديل وتمسح فمها قائلة بدهاء وابتسامة مختالة
-(انا أتذكر قولك حينما قلت أنك تعيش في حارة شعبية، مع أنني خُدعت في مظهرك الأنيق أنك ابن ناس)

ترك شوكته وحدق بها بنظرة جعلتها تندفع سريعًا موضحة مقصدها..
-(أقصد ابن ذوات، كلنا ابناء ناس بالطبع، ولكن بذلتك الغالية وساعتك وطريقتك جعلتني أظن انك غني)

همهم وهو يريح ظهره لظهر المقعد ويحدق فيها مليًا، يتأمل سكناتها وحركاتها وهي تقطع اللحم وتأكله، تغمص عينيها عند أول قضمة ثم تفتحها منتشية كمن يتجرع الخمر.

كان جمالها ورقة ملامحها لا تتناسب مع أسلوبها أبدًا
وحينما انتبهت لنظراته، تحدث بهدوء ساخر...
-(وهل كوني لست ابن ذوات قلل من قيمتي !)

-(لا بالطبع، كلنا أولاد تسعة.. أبي يقول أن قيمتنا نأخذها من عقلنا وأفكارنا، المال ينزع القيمة في بعض الأحيان، ولكنه لا يعطي القيمة لذوي العقل الفارغ..وصدقني لو كنت ابن ذوات لما تساهلت معك وجئت لهذا المطعم الغالي الذي سنغسل صحونه بعد انتهاء وجبتنا)

خرجت منه ضحكة خافتة وهو يحرك رأسه نافيًا ويغمغم بنبره هادئة لانت جوانبها...
-(لا تقلقي أستطيع تدبر الفاتورة إن لم تطلبي شيء أخر)

ضحكت وهي تضع شوكتها وقد انتهت أخيرًا من تناول وجبتنا واستندت على الطاولة وهي تنظر لوجهه الذي أضائته الضحكة العابرة التي رسمها على ثغره للتو وقالت...
-(أنت لطيف يارجل كما قال السيد نُصير، ولكن عيبك الوحيد أنك صامت على الدوام، هل فرضوا رسوم على الحديث وأنا لا أعلم)

للمره الثانية يبتسم قبل أن يرفع الكوب لفمه يرتشف منه ويقول بعدها...
-(خير الكلام ما قل ودل يا فاتن)

لا تدري لما جرت قشعريرة طويلة في جسدها حينما تمتم باسمها وحدق في عينيها بتلك النظرة الهادئة.
لم تكن تسخر منه حينما أطلقت عليه رشدي أباظة
لم يكن يشبهه في الشكل، ولكنه كان يجابهه في الوسامة والشخصية وقوة الحضور، كان رجل ثقيل من الرجال الذينٰ لا يتلفتوا للشيء مرتين

بل يجذبوا رؤوس الفتيات لهم بكل بساطة
وعبدالعزيز كان رجل يتمتع بأشياء كثيرة تجعل أي فتاة تنجذب له، بخلاف وضعه الاجتماعي.

خرجت من شرودها وتحكمت في طوفان مشاعرها وهي تحمحم وتجلي صوتها وتقول باسمة...
-(أنت الان تعلم عني كل شيء، ولكن أنا لا أعلم سوى أنك عبدالعزيز وتعمل محامي وتعيش في حارة شعبية)

لم تخفى عنه لمعة عينيها التي طفت عليها فجأة، او الاحمرار الذي غزى وجنتيها، فنظر للكوب الموضوع على الطاولة أمامه للحظات قبل أن يرفع عينيه لها ويبتسم ابتسامة هادئة تميل للفتور...
-(انتِ محقة، اسمي عبدالعزيز رفال، أعمل محاميًا لعائلة غانم ولعائلة عريقة أخرى، عمري اثنين وثلاثون عام
ومخطوب على وشك الزواج)

انطفأت اللمعة التي احتلت عينيها وتحول التوهج لشحوب وماتت الابتسامة على ثغرها حينما سمعت كلماته الواضحة تمامًا.

كانت الرياح تجري بما تشتهي سُفنها، قررت الحياة أن تعطيها فرصة وتمنحها أحلامها البعيدة وأمنياتها الذهبية
ولكنها ضمت حلم جديد لقائمة أحلامها المستحيلة، حلم غير قابل للمشاركة..حلم ملك لأُخرى.

x x x x x x x x x x x x x x x x ***
كانت أميرة ترغي وتزبد في المجلس مع فراس بعدما رحل البقية، أما فلك فدخلت المطبخ وجلست أمام طاولة الطعام تحدق أمامها بصمت، بينما أم عبده تتابع تحضير طعام العشاء بوجهٍ شارد وحيرتها بادية في عينيها وهي تغمغم...
-(أيصدق الانسان عيناه أن الأقاويل، البنت تبدو مسكينة ولا يد لها بما حدث، ولكن أيمكن أن تكون تمثل الضعف أمامنا !؟)

تنهدت فلك وخرجت من شرودها وهي تمسد جبينها المتألم من الصراخ والعويل الذي حدث قبل قليل فتمتمت بصوت ثقيل خافت...
-(أكثر ما اغضبني هو الطفل، نُصير كان محق في تدخله، لولاه لـ زاد الوضع سوءًا)

مصمصمت ام عبده شفتيها وهي تحرك رأسها بإيجاب قائلة بضيق من شعورها المتعاطف نحو مرام..
-(قطع قلبي بكاء الطفل والله، حاولت تهدئته واللعب معه ولكنه كان يبكي ويصرخ يريد والدته، حمدت الله في نفسي حينما استدعاني السيد فراس، خفت على الطفل أن يفقد الوعي من كثرة صراخه... وأيضًا أشفقت عليها)

تجاهلت فلك الحديث كُليًا وهي تتنهد مطولاً وتقف متجه نحو المبرد تخرج زجاجة مياه لترطب حلقها الجاف قبل أن تقول...
-(وأين فيدرا من كل هذا الصراخ، غير معقول أنها لم تسمع أو تدري ما يحدث)

ارتبكت أم عبده وكادت تُسقط المعلقة الخشبية من يدها وهي تلتفت لفلك وتتحدث بصوتٍ خافت خشية من سماع أحدهم لما تقوله....
-(انها في الجناح الغربي، أخبرتني قبل ساعة أنها ستذهب للجناح الغربي وإن سألني أحد سواكِ اخبرهم أنها نائمة )

تغضن جبين فلك وأغلقت المبرد بقوة وقد تعكر ذهنها أكثر وانفلت منها تأفأف متعب وغاضب في الان ذاته وهي تهمس من بين أسنانها...
-(فراس أو أمي لو علموا بذهابها لن ينتهي اليوم على خير، اذهبي لها يا أم عبده وأخبريها أن المنزل لا تنقصه مشاحنات غاضبة، يكفينا ما فينا، وهدديها أنني أقول لو ذهبت للجناح مره أخرى سأخبر فراس بنفسي )

حركت ام عبده رأسها بطاعة ولكن تسمرت محلها وزاغت عيناها بشفقة وارتبكت الكلمات على لسانها وهي تغمغم..
-(ولكن سيدتي، السيد مريض جدًا و...)

-(أم عـــــبده)
قاطعتها فلك بحدة وبرقت عينيها بنظرة زاجرة جعلت أم عبدو تبتلع لسانها وتضع كفها على فمها سريعًا كعلامة على الصمت

وخرجت من المطبخ لتفعل ما أمرتها به فلك، كي تتجنب عواصف أل غانم وتأمن غضبهم
أما فلك فجلست أمام الطاولة مره أخرى ووضعت رأسها بين كفيها تحاول التفكير بهدوء فيما حدث قبل قليل
ولكن رنين هاتفها قطع شرودها وزاد من ألم رأسها حينما قرأت الاسم على شاشة الهاتف

تنهدت مطولاً تحاول ضبط أعصابها قبل أن تفتح الخط وتتحدث بنبرة فاترة خالية من الذوق...
-(نعم)

جائها صوته هادئ يحمل بين جوانبه اشتياق فاض من قلبه دون أي ضبط أو تحكم
-(اه لو أسمعها من فمك طائعة بدلًا من فاترة يا فلكي، ألم يشتاق قلبك القاسي لي ؟!)

أغمضت عينيها للحظات والحرارة تندفع لرأسها وتغطي عيناها فتزيد الألم... ألم لم يحتل رأسها فقط، بل بدأ يتسرب لقلبها الذي بدأ يتشقق وتصدع بسببه فقالت ببرود لا تشعر به...
-(اسمعني جيدًا، لو كنت أنت تستحل عرض غيرك فأنا لا أخون، فلك الغانم لا تُعامل كخطيئة، ولو كنت تراني في خسة عُهر فتياتك فذكرني أن أقتلع عينيكِ كي لا ترى أبدًا.. هل سمعتني )

ثم أغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة والضيق يتملك منها أكثر من ذي قبل، كل الأشياء حولها ادعوا للغضب، وهذا الرجل وحده يدفعها للجنون، يود لو تسير على نهجه في الحياة واستهتار مشاعره

ولكنها فلك أل غانم تَكسر ولا تنكسر.
x x x x x x x x x x x x x x x x xx ***


وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-12-22, 06:17 PM   #7

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي الفصل الرابع

الفصل الرابع

xجالسة على أريكة خشبية تحمل من أثر الزمان قوتها ونقوشها البديعة المحفورة في أطرافها باحترافية، كل ما كان حولها عتيق بأناقة؛ يجعل حزنها يختبئ بين جوانب صدرها، وبكائها قد توقف أخيرًا بعدما كادت تجف دموعها.

كانت تنظر حولها للمنزل الذي أوصلها له نُصير قبل ساعة، استقبلتهم امرأة كنسمة ربيع هادئة، أو كنفحة حارة في ليلة ممطرة حينما رأتها اقتربت منها وعانقتها وربتت على ظهرها بلطفٍ وخرج صوتها عطوف وهي تغمغم:
-(الحمد لله على سلامتكِ يا ابنتي، لما جسدها ينتفض بهذا الشكل يا نُصير؟!)

رأته يقبل امرأة وقورة تشع حنانًا ودفئ وحدثها بنبرة هادئة خالية من لمحاته الخبيثة ونظراته المتلاعبة:
-(إنه تأثير شقيقتك للأسف.)

تنهدت فاطمة وقد رُسم الأسى وشَعت الشفقة في نظراتها حينما ربتت على كتف مـرام الصامتة تمامًا بعد نوبة انهيارها، تعلم أن شقيقتها تكون قاسية لو أرادت، قادرة على نشر الفزع في القلوب حينما تمر نوبة غضب فتقتلع الأخضر واليابس بكل ما تمتلك من قسوة خشنة.
ولحظ مـرام السيئ إنها أكثر مخلوق تكرهه أميرة الغانم على وجه الأرض، ليست هي وحدها، بل تكرهها هي وعائلتها وكل شخص يحمل دمائهم.

خرجت من شرودها على صوت نُصير وهو يشير لمـرام بالجلوس ويوجه كلماته الهادئة لوالدته التي تُشبهه في هدوئه:
-(أرملة فايز ضيفة عندنا ،لن أوصيكِ يا أم نُصير.)

اندفعت تقول عاتبة وهي تنقل نظراتها بين مـرام والطفل:
-(أتوصيني يا نُصير ؟!
ثم أن أرملة فايز صاحبة الدار وليست ضيفة، اذهب لـدُنيا لتصالحها، فقد طال خصامك لها وذبلت عينيها من البكاء منذ أن سافرت.)

كانت مـرام هادئة ولا تصغي للحوار الدائر حولها، لم تركز اهتمامها على والدة نُصير التي استقبلتها بهدوء ودفئ يُخالف قسوة وحقد شقيقتها أميرة كما قال نُصير قبل لحظات، وكذلك لم تنتبه لنُصير الذي تمتم لها ببضع كلمات لم يصلوا لأذنها قبل أن يغادر للمدعوة دُنيا.

كان كل تفكيرها منصب في شيء واحد، كيف ستهرب من هنا مع ولدها؟
كيف ستغادر تلك القرية الظالم أهلها وتختفي عنهم ناجية هي وطفلها من حقدهم الدفين؟
فهي نجت قبل ساعة بسبب تدخل نُصير واستطاعت أخذ ولدها منهم بشكل مؤقت، ولكن لن تنجو منهم مره أخرى
فهي لا تثق بهم ولا بنُصير ولا حتى بعبد العزيز الذي نصحها بالمجيئ ووثقت به وأطاعته متناسية إنه محاميهم.

كاد يرحل ولكنها اندفعت واقفة تمنعه من الرحيل وقد خرج صوتها محشرج من أثر بكائها:
-(انتظر.)

التفت نُصير لها ينظر لها بهدوء دون أن يبدي ردة فعل على صيحتها تلك، فنظرت لفاطمة التي مدت كفها تطالبها بالطفل وعلى وجهها نظرة عطوفة مطمئنة جعلتها تمد لها براء بتردد شديد تخشى أن تفعل معها ما فعلته أميرة، ولكن وجهها البشوش والطمأنينة التي تنبعث منها جعلتها تعطيها الطفل قائلة:
-( لقد غفى، ضعيه في مكانٍ أمن و...)

قاطعتها فاطمة وهي تأخذ الطفل وتربت على ظهره بحنانٍ خبيرة قائلة:
-(لا أحتاج للنصح، الطفل متعب ويود الراحة، سأضعه في الغرفة الثالثة على يسارك في الممر.)

أنهت كلماتها وهي تسير بالطفل حيث الغرفة التي أشارت لها، ولم يتبقى في المجلس سوى مـرام ونُصير الذي جلس على أحد المقاعد واضعًا ساق فوق أخرى ويغمغم:
-(اسألي ما تشائين يا مـرام.)

ابتلعت رمقها وهي تكتف يديها لصدرها كي تحمي نفسها منه ومن ما ستسمعه منه بعض لحظات فقالت بصوت متردد مبحوح:
-(ما الذي لم يخبرني عنه فايز، وما سبب كراهية عائلته لي، أشعر ان هناك شيء مجهول لا أعلمه.)

حرك نُصير رأسه ببطئ وأنامله تطرق على يد المقعد طرقات رتيبة وكأنه يرتب أفكاره قبل أن يطرحها أمامها فتمتم بصوتٍ هادئ مُسيطر:
-(ما اسمك كاملًا يا مـرام؟)

-(اسمي مـرام أحمد عبد العظيم، ولكن ما دخل اسمي في سؤالي؟!)

تجاهل نُصير سؤالها ووقف عن جلسته يسير نحو النافذة المُطلة على حديقة داخلية متواضعة المساحة، فطافت عينيه على الأشجار الخضراء قبل أن يتسائل للمرة الثانية:
-(حينما تقدم فايز لخطبتك، ما الذي قاله عن عائلته؟
ألم يرفض والدك حينما سمع اسم أل غانم ؟!)

-(حينها لم يخبرنا فايز عن اسم عائلته، اكتفى بأن يقول أنه ينتمي لعائلة كبيرة وذكر اسم والده دون اسم العائلة، وأخبر والدي أنهم يرفضون زيجته من فتاة أقل منه اجتماعيًا، وبعد إلحاح طويل وافق والدي عليه بعدما ذهب للمشفى وسأل عنه بين الأطباء.)

فايز فعل كل شيء دون أن يخبرها بالحقيقة، تزوجها بالتضليل كي لا يرفض والدها نسبه حينما يعلم اسم عائلته، لطالما كان فايز داهية ذو تفكير عنيد، ذهب لأكثر عائلة تكرهها قبيلته وتزوج منها كي يغضبهم ويجعلهم يعضوا علىx أصابعهم من الندم، ونجح في هذا ولكن القدر وضع لمسته الأخيرة وكان قربان فايز هي مـرام وولدها.

خرج نُصير عن شروده وقد بدى حانق مما سمعه منها، وحانق مما سيقوله، ورغم ذلك وقف أمام مرام تمامًا وحدق فيها بنظرات هادئة وصوته ينبعث في قوة بسرد ما مضى:
-(والدك أحمد عبد العظيم كان موظف متواضع في أحد المصالح الحكومية في أحد القرى، وهي ذاتها القرية التي ولدتِ فيها أنت وشقيقتك الكبرى وحتى فاتن الصغيرة، ألا تتذكري نشأتكِ فيها؟
هنا في هذه القرية؟!)

جعدت جبينها للحظات تحاول استيعاب ما قاله وكلماته عن مهنة والدها ونشأتها، لم تكن تستوعب ما علاقتها أول علاقة والدها بما سألت عنه، ورغم ذلك تمتمت بصوت خفيض وغرقت في حيرتها:
-(أنا نشأت في قرية زراعية على أطراف المدينة وليس هنا.)

التف لها وبدى مدهوشًا للحظات من إجابتها ولكنه تجاوز دهشته وتمتم مرة أخرى يسألها بنبرة ذات مغزى:
-(أين عمتكِ شمس يا مـرام ووالدتك؟
ألا تذكرين عمتك شمس هي الأخرى؟!)

للمره الثانية منذ أن حضرت القرية تسمع شيء يخص والدتها وعمتها شمس، ما علاقة تلك العائلة بأسرتها كي يتمسكوا بالحديث عنهم لهذه الدرجة؟
تغلبت على فضولها وحاولت أن تتماسك أمام نظرات نُصير فهمست مرتبكة:
-(أمي توفيت في حادث سير قبل عشرون عام، وعمتى شمس تزوجت وسافرت خارج البلاد حينما كنت صغيرة.)

-(عمتك ووالدتك هما من افسدوا حياة عمي هادي وخالتي أميرة، وعمتكِ شمس هي من اقتلعت عين فِراس ثم هربت بعدما فضح أمر إنها على علاقة محرمة مع عمي هادي بمساعدة والدتكِ التي كانت تطمع في أموال عمي، ولكنها نالت جزائها حينما ركضت من الدار قبل أن تأتي الشرطة وتقبض عليها هي وعمتك، فصدمتها سيارة بينما عمتك لاذت بالفرار، ووالدكِ أخذكم وترك القرية تمامًا واختفى أثره، ترك الفوضى التي خلفتها شقيقته وزوجته وغادر.)

عمتها كانت على علاقة بوالد فايز و فقأت عين فِراس؟!
ووالدتها هي من ساعدت على التواصل بينهما؟!
وماتت اثناء هروبها؟!
مالذي تسمعه هذا؟!
وأي عقل ومنطق يتقبل ما سمعته توًا؟
حركت رأسها نافية وقد خرج صوتها مذهول:
-(أنا لا أفهم أي شيء مما تقوله، لا أفهم أي شيء.)

جهلها بكل هذا زاد من ضيق نُصير وهو يرى وضعها يتبدل، من جانية لمجني عليها فجأة، هي ضحية فايز الذي ألقاها في غيابة الجُب وضحية عمتها ووالدتها وحتى والدها، هي ضحية الجهل، وضحايا الجهل لا عزاء لهم.
تمتم بهدوء وقد بدأ صبره ينحصر عنه سريعًا فقال:
-(هاتفي والدك يا مـرام واسأليه ما علاقته بعائلة أل غانم هذا كل ما استطيع توضيحه.)

كاد يغادر بعدما فتح صفحتها السوداء وأطلعها على سر الكراهية، كاد يغادر ويتركها غارقة في ذهولها وقد ارتفعت غصة مسننة في حلقها جعلتها تتجه له وتمسك مرفقة تمنعه من المغادرة وهي تصيح بصوت مستنكر ضعيف:
-(انتظر، لا تتركني هكذا، حتى لو كان ما تقوله صحيح، لمَ تزوجني فايز دون أن يخبرني بكل هذا؟
أنا لا أفهم لمَ تزوجني من الأساس؟)

سؤال كانوا جميعًا يعلمون إجابته، يعلمون أن فايز لم يتزوجها إلا نكاية بهم، تزوجها كي يجرح كرامتهم كما أهانوا كرامته يومًا، وحينما أراد معاقبتهم تزوج ابنة العائلة التي أفسدت حياتهم ودمرت شقيقه فِراس تمامًا، لاح الضيق وتملكه العبوس وهو يردف بهدوء دون أي موارية أو مراعاة لحالتها:
-(فايز كان شاذ عن قاعدة العائلة، يخالفهم في كل شيء ويعاقبهم باختلافه عنهم، لن أندهش لو كان زواجه منكِ كي يغضب عائلته.)

انقبض قلبها بين ضلوعها وتركت مرفقة هامسة:
-(ولمَ يفعل هذا؟!)

-(فايز كان يود الزواج من فتاة بسيطة في القرية، والدها مزارع فقير ووالدتها تعمل في طاحونة، رفضت خالتي زيجته بكل قوتها ولكي تقتل أمله اقنعت عائلة الفتاة أن يزوجوها رجل من مُزارعينا منذ ذلك الحين وفايز يفعل كل شيء في مقدرته كي يغضبهم.)

-(كم كان عمره حينها؟)

جعد جبينه وهو يتذكر تلك الأحداث المشتعلة التي عاشتها قبيلة أل غانم بسبب فايز ورغبته بالزواج من ابنة المزارع، فتمتم حينما عد السنوات في عقله:
-(قبل خمس أو ستة سنوات.)

تمتمت شاحبة وقد زاغت عينيها في كل مكان:
-(كانت تدعى فرحة. )

حرك رأسه بإيجاب يؤكد الاسم الذي ألقته جزافًا، شعرت بالأرض تميد بها وأنفاسها تغادرها، بدأ الوعي يتلاعب بها ويلقيها للضياع تارة ويتمسك بها تارة ولكن أكثر ما ألم قلبها وجرحه هي الحقيقة المُرة، وعقلها يسترجع تلك اللحظات التي جمعتها بفايز حينما كان يُخطئ في اسمها ويقول " فرحة" بدلا من مـرام، وحينما تغضب منه وتسأله عن المدعوة فرحة، كان يضحك ويجيبها بثقة غير قابلة للتكذيب" أنتِ فرحتي، فلا أرى اسمك إلا فرحة، فرحة تملئ قلبي في كل دقيقة أقضيها معكِ."
تزوجها عناد ونكاية في أهله، تزوجها انتقامًا فألقاها في الهلاك دون أن يحسب للقدر حساب.

كانت تشعر بالدار تدور بها، فكادت تسقط أرضًا وتفرغ كل محتويات معدتها، ولكن ذراعيه حاوطتها يساعدها كي لا تسقط أرضًا فاقدة وعيها، خرج صوتها مبحوح مجروح وشعور الغدر يقتلها أكثر:
-(وأنا، ما ذنبي أنا؟!)

كان جلدها بارد كـقطعة ثلج تفوح منها البرودة، شحوبها ماثل شحوب الموتى وارتجافها تجاوز كل الحدود الطبيعية
كان يتمسك بجسدها الواهن وهو يعلم أنها ستسقط إن أفلتها، ولو سقطت لن تستطيع الوقوف مره أخرى، كان ابتلائها كبير، وما ينتظرها أكثر.

شعر بجفونها تُغلق وجسدها يثقل على ذراعيه وقد فقدت وعيها تمامًا أثر الصدمات التي تلقتها دفعة واحدة
فلم يملك سوى التحديق فيها مليًا وهو يغمغم بصوتٍ هادئ:
-(قدرك يا مـرام، لا فرار من قدرك.)

x x x x x x x x x x x x x x x xx ***
كانت رحلتهما للقرية مملة بخلاف الأوقات التي مرت عليهما مليئة بتعليقاتها وثرثرتها وشقاوتها التي لا تنتهي، ولكن منذ أن أخبرها بأنه "خاطب" ويستعد للزواج، منحته ابتسامة مذهولة وقد تموج وجهها في مشاعر عديدة وعلى رأسهم الخيبة، وللسخرية إنه كان يملك ذات الخيبة ولكنه أخفاها ببراعة، وكانت هي ممثلة فاشلة في محاولاتها للظهور غير مبالية ورسمية بتباعد لا يليق عليها. فكانت رحلتهم للمدينة صامتة تمامًا خالية من أي تعليق من جانبها وهو أيضًا لم يبادر بالحديث، فقد انشغل بالتواصل مع نُصير يستعلم منه عما حدث وهو يستخدم تشفير الحديث كي لا تفهم فاتن ما يقوله ولا تفزع على شقيقتها؛ لذا حاول الهدوء وهو يستمع لكلمات نُصير المختصرة حول ما حدث في منزل أل غانم، فتمالك نفسه وأخبره إنه في الطائرة وكلها ساعات قليلة ويكون في القرية هو وفاتن.

أغلق هاتفه وحدق في النافذة التي تجاوره ولا يظهر منها سوى سواد الليل وظلمته، لا شيء آخر سوى الظلام والقتامة، ورغم ذلك إلا أن عينيه لم تبرح تلك الظلمة وقد سبح عقله في عالم أخر، عالم بعيد لا يمت لواقعه بصلة.

الأفكار تتصارع في عقله مختلطة ببعضها، يفكر في عمله و في مـرام وطفلها وفيما ستراه من أل غانم، يفكر في عائلته وخصومته مع والده الذي باتت تشكل عائق سيئ في حياته وعمله، يفكر في زواجه الذي اقترب جدًا ولم يبقى سوى القليل ويتزوج فلك الغانم.

كانت همومه كثيرة وأفكاره أكثر، أغمض عينيه متنهدًا بهدوء وقد خرج عن شروده وهو يشعر بثقل رأسها على كتفه.
نظر بطرف عينيه ليرى رأسها غزير الشعر يستقر على كتفه وقد غلبها النوم رغمًا عنها.
لم يستطع رؤية وجهها بسبب شعرها الذي انسدل كـستار يحجب عنه ملامحها تمامًا، مد كفه ينزع المجلة المفتوحة في يدها بغير فائدة، فاغلقها ووضعها جانبًا دون أن تؤثر حركته في نومها، ولكن أثناء تحركه وانحنائه على رأسها تغضن جبينه للحظات وعقد حاجبيه أكثر وهو يستنشق الرائحة المنبعثة من شعرها فغمغم بصوتٍ واجم:
-(صبار؟!)

رائحة الصبار المُر تفوح من شعرها الناعم ذو الملمس الرائع، ولكن روعة شكله تناقضت مع الرائحة التي جعلته يبعد وجهه ويسند رأسه لظهر مقعده ويغمض عينيه وقد انفلتت ضحكة خافتة منه رغمًا عنه وهو يهمس:
-(يا الله، لا توجد رائحة أسوء من رائحة الصبار في شعرها.)

كانت فاتن تُشبه حاوية السحرة، لا تنفذ منها المفاجئات، مليئة بكل ما يدُهش، تارة تثير الضيق وتارة السخرية، تارة تضحكه وتارة تغضبه، وكل هذا حدث في يوم واحد، يوم واحد استطاع اختبار مشاعر عديدة كانت بطلتها فاتن الخضراء ذات رائحة الصبار.

ورغم ذلك يراها فتاة لطيفة طموحة تمتلك حس فكاهي مُبهر، لكنها متهورة غافلة، تركض خلف حلم التمثيل بعيون تغشاها غمامة وردية ستقودها للهلاك لا محالة.

فـرغم هدوء المنتج وعمليته، إلا إنه كان ينظر لها ببريق اعجاب لم يغفل عنه ولو لحظة، ولكنه لم يستطيع قول أي شيء لأن المنتج كان ملتزم بالتهذيب والاحترام العملي، لم تكن نظراته وقحة متحرشه ولكنه كان يحدق فيها بطريقة تتعدى كونها نظرة تقيمية لموهبتها، بل كانت نظرة تدل على مدى إعجابه باندفاعها وتعليقاتها الساخرة التي تنفلت منها دون ترتيب، وكان لمظهرها السبب الأكبر في تلك النظرة.

فاتن أمامها طريق مليئ بالعثرات والفخاخ، وإن لم تضع عينيها أوسط رأسها وتتحسس خطواتها بحذر، ستتحول لنسخة مكررة من مثيلاتها، وسينطفئ نجمها ويسطع آخر، ولكن سطوعه سيكون مؤقت ويختفي.

تنهد وقد عبس وجهه بضيق وهو ينظر لرأسها وعقله يسأله، أكان ينقصك هم إضافي فوق همومك؟
ألا يكفيك ما عندك وما ينتظرك؟ أيوجد مكان في عقلك للتفكير في فتاة حالمة ولا تربطك بها أي روابط اجتماعية أو شخصية؟!

وكانت الاجابة لا؛ لذا نحى تفكيره بها جانبًا وأعاد نظراته للنافذة مره أخرى يشرد بها كما كان قبل دقائق.

مرت ساعات السفر سريعة ولازالت فاتن نائمة بعمق، إلى أن تناهى لسمعها صوت المضيفة وهي تعلن عن ميعاد هبوط الطائرة؛ لذا فتحت عينيها الناعسة، وكادت تحرك رأسها ولكنها تأوهت بألم من تشنج عنقها المستند إلى المقعد.

ابعدت سترة سوداء كانت تغطيها وهي تحاول تحريك عنقها يمينًا ويسارًا كي تبعد عنها التشنج، فوصلها صوت عبد العزيز وهو يغمغم بهدوء:
-(انتظري دقيقة قبل تحريكها كي لا تكسري عنقك.)

نظرت له بطرف عينيها ولم يغادرها النعاس بعد وهي تغمغم بصوت محشرج من أثر نومتها الطويلة:
-(هل غفوت كثيرًا؟!)

رفع معصمه ينظر لساعته قبل أن يتمتم وهو يأخذ سترته التي كانت تغطيها:
-(غفوتِ لثلاث ساعات كاملة، على أي حال، لقد وصلنا للقرية، سأوصلك حيث شقيقتك، وترتاحي قدر ما تشائين.)

كان كفها لازال يتحسس عنقها تحاول فك التشنج الذي كاد يتنزع منها صيحة متألمة، أخر ما تذكره أنها غفت ووضعت رأسها على كتفه لتنام، ولكن حينما استيقظت وجدت رأسها مستند لظهر المقعد بدلا من كتفه.

بعد لحظات طويلة من محاولاتها لتمسد عضلاتها المشنجة، سمعت تنهيدة نافذة الصبر منه وهو يعتدل ويميل عليها ويضع كفيه حول عنقها، كانت أنامله قوية باردة، بعثت رعدة سريعة لجسدها وهي ترى وجهه يقابل وجهها وأنامله تتحسس عنقها بحركات سريعة ويحرك رأسها يمينًا ويسارًا يمرنها ببعض القوة؛ كي تستطيع تحريكها بسهولة.

كانت تدري أن ما يفعله الآن شيء عادي لا يدعو للخفقات العالية أو الشرود في وجهه أو حتى احتراق وجهها خجلًا، تدري أنه يساعدها بوجهٍ واجم لا يظهر عليه أي انفعالات، ولكنها لم تكن مثله، لم تكن عادية، بل كانت عينيها تطوف على وجهه، تنتقل من عينيه البُنية ذات الاتساع العادي، وتضم رموشه السوداء كحاجبيه العريضين، جبين عريض، وأنف دقيق، وجنتين قويتان ولحية خفيفة لها أيام دون حلاقة، فم غليظ وعنق اسمر أسفله صدر محجوب خلف قميصه الأبيض يخفي سلسال فضي رفيع.

كان التشنج في عنقها اختفى، ولكنها حينما رفعت عينيها لوجهه وجدته قد ضبطها بالجرم المشهود وهي تتأمله بعينين حالمتين لا ينبغي لها أن تنظر له بهما، كان وجهه واجم وفي عينيه نظرة لم تستطع تفسيرها، كما لم تفهم لما لازال كفيه موضوعان خلف عنقها وقد أخذ من حرارة جسدها واختفت برودة أنامله.

كانت تشعر أن هناك شيء غريب يحدث بينهما، بل كانت متأكدة مليون بالمئة أن قلبه يهدر كما قلبها، وأن وضعهما ذاك يشكل توتر وارتباك لا تنفيه وسيكون كاذب لو نفاه، هل هو متأثر بها كما هي متأثرة به في هذه اللحظة؟
أم إنها متعبة من أحداث يومها الطويلة وبدأت تتهئ الأشياء، وأيضًا الفراغ العاطفي الذي تشعر به يشكل عنصر من عناصر شعورها نحوه.

تنحنحت وهي تبتعد عنه وتبعد يديه عن عنقها وهي تهمس بصوت محشرج مرتبك:
-(اه، شكرًا لك، لقد اختفى التشنج و...)

قاطعها ابتعاده المفاجئ وهو يرتدي سترته فوق قميصه وقد استفاق من الحالة الصامتة التي كانت تتلبسه قبل لحظات وغمغم برسمية وتباعد:
-(الطائرة ستهبط الآن، أمامنا القليل لنصل لشقيقتك.)

وكانت تلك أخر كلمات وجهها لها إلى أن هبطا من الطائرة واتجهوا لسيارة سوداء أخذتهم حيث منزل نُصير كما سمعت عبدالعزيز يخبر السائق، مضت الدقائق سريعة وهي تراه يجلس جوار السائق ويحدق في الطريق من النافذة دون أن يلتفت لها أو يلقي عليها كلمة واحدة.

كانت تشعر أن هناك شيء خاطئ حدث ليتباعد بهذا الشكل، فجأة عاد كما كان في الصباح، رسمي متباعد وواجم، وقد عاد كما كان.
هل توهمت أحداث يومها؟
هل بالفعل تبادلا حديث طويل وكذلك تناولا الغداء سويًا؟
هل نامت على كتفه في الطائرة ومسد عنقها المتشنج حينما استيقظت؟
هل حدثته باسمه مجردًا من الألقاب وكذلك هو؟!
هل حدث كل هذا أم إنها سقطت في أوهام، صدح صوته فجأة حينما توقفت السيارة أمام أحد المنازل الكبيرة وهو يغمغم بهدوء رسمي وينظر لها بطرف عينيه قائلا:
-(آنسة فاتن لقد وصلنا، اتجهي للمنزل واخبري السيدة مرام إنني سأتصل بها بعد ساعة، عمتِ مساءًا.)

كلماته تلك جعلتها تدرك أن كل مافي ذاكرتها لم تكن إلا أوهام لا حقيقة لها، لربما ارهاق يومها دفعها لتؤلف أحداث رومانسية تؤنس رحلتها الصامتة معه؛ لذا حركت رأسها وغمغمت بوجوم يشبه وجومه:
-(شكرًا لك، فرصة سعيدة يا أستاذ عبد العزيز.)

انهت كلماتها وهي تهبط من السيارة وتصفع بابها بقوة قبل أن تسير خطوات واسعة غاضبة تتجه نحو المنزل المنشود، وداخلها تدرك أن عبدالعزيز يحدق في ظهرها ويفكر فيها في هذه اللحظة، وكان إدراكها صحيح.
x x x x x x x x x x x x x x x x ****
طرقت فاتن الباب بقبضة قوية غاصبة وهي تنفخ خديها بحنق وتتمنى لو تعود وتسدد عدة ركلات صلبة في معدة المحامي وتعاقبه على أسلوبه السخيف معها.

فُتح الباب وأنقذها من أفكارها وهي تنظر لفتاة تصغرها بعام أو أكثر، كانت الفتاة تحدق فيها بعينين واسعتين لمع فيها الفضول وهي ترفع سبابتها تشير لها متسائلة:
-(أنتِ فاتن شقيقة مرام؟)

حركت فاتن رأسها بإيجاب فسمحت لها الفتاة بالدخول وهي تغمغم بنبرة حانقة ملومة:
-(الحمد لله أنكِ جئتي، شقيقتك منذ أن أتت وهي لا تكف عن البكاء وهي تتمسك بطفلها وكأن أحدهم سيخطفه منها، رأسي كاد ينفجر منها.)

فجأة تبخر ضيق فاتن وحل الخوف مكانه وهي تنظر لظهر الفتاة، لقد نسيت مهاتفة شقيقتها طوال اليوم، وحينما تذكرت قبل صعود الطائرة وجدت أن هاتفها فارغ شحن، وانزعاجها من عبدالعزيز منعها من طلب الهاتف منه.

غفلت تمامًا عن شقيقتها في خضم انشغالها مع فرصتها ورحلتها مع عبد العزيز.
كيف لها أن تنسى شقيقتها؟
وما تمر به من تهديدات
كيف طاوعها قلبها وغفلت عنها كيف؟!

برد جسدها فجأة وشحب وجهها وهي تقزل سريعًا بقلق تستوقف الفتاة مرة أخري:
-(أين مـرام، أين هي الان؟)

أشارت للممر طويل يظهر في إحدي جوانب المنزل الواسع وهي تقول بضيق غير مُبرر:
-(في الغرفة الثالثة على يسارك.)

تحركت فاتن بسرعة بخطوات شبه راكضة؛ كي تصل لشقيقتها بسرعة، أما دُنيا فـكتفت يديها لصدرها الذي انتفخ بضيق واضح على ملامحها البريئة الفتية.
فشعرت بذراعِ قوية تحاوط كتفها ورائحته البديعة تخترق رئيتيها وقد وصلها صوته هادئ مسترخيًا:
-لمَ حادثتي فاتن بتلك الطريقة؟
آنتِ منزعجة من وجود مـرام هنا؟

جعدت دنيا وجهها بضيق ممزوج بشفقة فشلت في كبحها، ثم رفعت رأسها لنُصير تغمغم بصوت حاد وقد أخذها انفعالها وصعدت روح الحماية لنفسها:
-(لقد أحببتها في اللحظة الاولى هي والطفل، ولكنني سمعتها تتحدث بطريقة سيئة عن فِراس، حينها كرهت وجودها هنا، أنا غاضبة منها ومن أمي التي لم تزجرها وتعاقبها على كلماتها الظالمة لفراس.)

حدق نُصير في وجهها مطولًا وبرزت ابتسامة رقيقة على فمه وهو يشعث خصلاتها ويعاتبها بنبرة مزجت بين القوة واللين:
-(ألف مره أقول لكِ أن تضعي كلمة " أبيه" قبل اسمه، أما بخصوص مـرام فلن تغضبي منها وتأخذك الحِمية على فراس ولا تتدخلي في أي شيء، حسنًا.)

بدى التمرد واضح في عينيها الضيقتين فتمتمت بوجوم وهي تتخلص من ذراعه على كتفها وترفع وجهها له بترفع لا يليق بسنوات عمرها:
-(نُصير لا تغضبني منك ونحن تصالحنا قبل ساعات، كيف لا أتدخل وأنا أراها تتحدث بسوء عن فِراس وتصوره وكأنه وحش مفترس، ثم أن فِراس ذاته أخبرني أن أقول له فِراس دون أبيه، فأنا أخبرته أنني لا أحب أبيه تلك.)

صمتت للحظات قبل أن تجعد جبينها وتتوسع عينيها بحماس مخلوط بالأمل:
-(أستطيع أن اثبت لها أن رأيها عنه ظالم، سأتصل به وأخبره ألا يأخذ منها طفلها، وسيستمع لي ويدعها وشأنها، فِراس يملك قلب أبيض، هو ليس قاسٍ كما يظهر للجميع.)

تنهد نُصبر وهو يربت على وجنتها بحنان ويتمتم بصوت هادئ يهادنها برفق:
-(دُنيا لا تغضبيني منكِ وكوني عاقلة مع ضيفتنا، هي لا تكره فِراس ولكن بينهما خلاف واختلاف في أمرٍ ما، أعلم أن فِراس في مقامي عندك كأخ كبير، ولكن احترامًا لي وله لا تدخلي ولا تفعلي شيء يغضبنا.)

أنهى كلماته وطبع قبلة حانية على وجنتها وسار خارج المنزل حيث ينتظره عبد العزيز، أما دُنيا فـالتفتت تنظر في أثره بنظرات حزينة متمردة على ما قيل لها قبل لحظات، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تهمس بصوت غاضب حاد:
-(فِراس ليس شقيقي، بل هو ابن خالتي فـــراس لـيـس شقيقي.)

خرجت صيحتها للهواء دون أن يسمعها نُصير فزاد اكتئابها وخرجت تنهيدة ضيقة كادت تمزق صدرها، اندفعت نحو غرفتها ترتمي على فراشها وهي تحدق في السقف مليًا، تحاول شحن همتها قبل أن تعتدل في فراشها وتُمسك هاتفها تضرب عدة أرقام تحفظها عن ظهر قلب على الشاشة، ثم رفعته لأذنها للحظات قبل أن يصلها صوته الخشن، فاندفعت سريعًا تقول بصوتٍ مندفع ممزوج بارتباك:
-(فِراس أود أن أقابلك ولكن لا تخبر نُصير، هناك موضوع هام يجيب أن أحادثك فيه.)

x x x x x x x x x x x x x x xx ***
كانت فاتن تجلس جوار مـرام تمسح على كتفها وتهمس معتذرة للمرة التي لم تعد تحصيها، وهي تمسح عنها دمعها:
-(أنا أسفة إنني تركتك وحيدة في كل هذا يا مـرام، أنا اسفة جدًا، ليتني ما ذهبت وتركتكِ.)

رفعت مـرام تمسح عينيها التي صار جلدها ضعيف منتفخ من كثرة البكاء، وهمست بصوت متحشرج ضعيف:
-(لا عليكِ يا عزيزتي، عسى أن تكون تجربة أدائك جيدة؟)

-(كانت جيدة، أرجوكِ يا مـرام توقفي عن البكاء، وجهك صار منتفخ يا مـرام، سأبكي جوارك والله.)

وضعت وجهها بين كفيها وقد فشلت تمامًا في احتواء انفعالها، فخرج صوتها متألم مجروح وشهقاتها تقطع ما بين الجملة والأخرى:
-(أنا لا أبكي على ما حدث معي فقط يا فاتن، أنا ابكي على شيء أخر، شيء لا يد لي به، أبكي حزنًا من فايز وحزنًا عليه، ولو توقفت عن البكاء لهذا السبب، فأبكي على الأخر، لا تشغلي عقلك بي المهم أننا سنغادر القرية فجرًا دون أن يعلم أحد، يجب أن نغادر في أسرع وقت يا فاتن.)

قبضة قوية أمسكت قلب فاتن التي حاوطت شقيقتها سريعًا تعانقها وتهدأ انفعالها هامسة بجزع:
-(ما الذي حدث يا مـرام بدأت أشعر بالخوف؟)

-(ما حدث لا يخطر على البال يا فاتن، اشعر أنني أعيش في فيلم سينمائي حبكته صعبة، لا شيء بيدي أفعله سوى البكاء.)

-(أخبريني يا مـرام لا تخيفيني أكثر.)

قطع حديثهم صوت طرقات على باب الغرفة تبعها دخول فاطمة التي حضرت بنفسها للغرفة كي ترحب بفاتن في دراها وتغمغم بصوت هادئ ودود:
-(العشاء جاهز، وأولادي حضروا من أعمالهم، هيا لنتناول العشاء جميعًا يا فتيات.)

انحنت فاطمة تُمسك يد مـرام وتساعدها على الوقوف خاصة أن شحوبها كان يفزعها ويثير الشفقة عليها فقالت:
-(لن أقبل الرفض كاجابة، شقيقتك لم تتناول شيء منذ أن وصلت، وحمدت الله في نفسي أنكِ حضرتِ لتشجعيها، هيا يا مـرام دعي شقيقتك تغير ثيابها وتعالي معي لأعرفكِ على أولادي.)

سارت مـرام معها دون أن تمانع، دون أن تشعر وقد سُلبت من الارادة، قلبها ينزف وعقلها يكاد يجن، وبين هذا كله كانت تموت ألف مره ألمًا وغدرا.
x x x x x x x x x x x x x xx ****
سارت بخطواتٍ بطيئة نحو إستطبل الخيل وهي تتشح بسوادها تتخفى عن العيون كعادتها في كل مره تقصد خيلها الأصيل " جعفر " ذاك الحصان الأسود الذي يوفر لها ما لم يوفره لها أي شخص على وجه الأرض، ينتشلها من حزنها، ويفهم شكواها، يرفعها لسماء الحرية ويسمح لها أن تخرج من عالم الغانم وتدخل عالم آخر، عالم لا يحوي إلا جعفر وهو يركض بها ينهب الأرض بخطواته الواسعة ويجعل الهواء يضرب جسدها يُطهرها عن كل آثامها وذنوبها يطهرها من ذنب شعورها ويغمرها ببرودته كي تنسى جهنم نفسها وجهنم الغانم.

خرجت من شرودها واقتربت من جعفر الذي ما إن رأها شرع في صهيله الفرح، ولكنها اقتربت منه سريعًا تضع كفها على رأسه وتشير لفمها علامة للسكوت هامسة:
-(صه يا جعفر أُصمت كي لا يسمعنا أحد.)

خفض جعفر رأسه لها وهدأت فرحته وكأنه فهم كلماتها التي همست له بها محذرة، أما هي فظلت تمسح على رأسه وعنقه، تتأمل في سواده وكأنها ترى فيه خلاصها من ضيقها وألمها الآن، سواده يبعث في نفسها راحة غريبة.

ومهما بلغ سواد لون جعفر، لن يماثل قتامة الشعور في قلبها، تنهدت وهي تمسح على وجه الحصان وتحدق في عينيه الواسعة اللتان تترصد كل حركاتها وهمساتها خاصة حينما تمتمت بنبرة شاردة بعيدة:
-(ماذا الآن يا جعفر؟
ما الذي ينتظرنا؟)

فجأة تجمدت الدماء في عروقها وتوقف قلبها عن خفقاته وكأن الصاعقة ضربتها، لا ليست صاعقة، بل أنفاس حارة وصلت لعنقها عبر غطاء رأسها ولهبتها بحرارة مألوفة لجلدها، ابتلعت رمقها حينما وجدت حصانها يصدر صوت مبتهج ويحرك رأسه بترحابٍ تعلمه، ترحاب لا يصدر إلا لها، ولصاحبه، عنان أل غانم.

لحظات وشعرت بأنامله تقبض على كتفيها يُمسكها بطريقة حميمة ويلصق ظهرها في صدره ويميل على عنقها المغطى بوشاحها الأسود، يدفن وجهها فيه يستنشق عطرها العالق فيه وهو يهمس بصوتٍ أجش مشتاق:
-(فلكي، يا مداري ولوعتي، اشتقت لرائحة المسكِ فيكِ.)

حاولت الفكاك من بين يديه ولكنه كان أقوى منها، أقوى من إرادتها في الافلات منه، وأقوى من قلبها الذي أخذ يهدر بجنون ويقودها للهلاك، كان يضمها له أكثر ويتمسك بها أكثر وأكثر، فخرجت لهجتها العنيفة مهتزة بعض الشيء وهي تحاول الابتعاد زاجرة:
-(أبعد يديك عني يا عنان، لن يكفيني دمك لو رأنا أحد في هذا الوضع.)

كانت عنيفة بخلاف نعومة وطراوة جسدها بين يدية، عدائية وباردة على نقيض نبضاتها التي يشعر بها تهدر بحرارة وترحب به ترحيب العشاق.
تُهدده بكلماتها الخاوية التي تحمل عنف غير حقيقي، عنف تتلحف به كغطاء يحميها منه ومن نفسها.

إنها فلك، امرأته الشرسة الجبانة.

حررها أخيرًا من قوته بعدما أدارها له ليحدق في وجهها الغاضب وعينيها اللتان تبعثان له لهيب يكاد يحرقه من عنفه وقوته، ولكنه قابل غضبها بابتسامة كسولة مستفزة وهو يرفع أصابعه يتحسس وجنتها الساخنة هامسًا:
-(آمرأتي غاضبة ؟!)

صفعت كفه تبعدها عن وجهها وهي تهدر في وجهه بعنف لم تخفيه، وغضب لم تكتمه، وقد تحفز جسدها كله وكأنها تتحضر لحربٍ ضارية وهي تشدد على كلماتها الحادة:
-(لست امرأتك يا عنان، أنا امراة رجل أخر اسمه عبد العزيز رفال، إن كنت قد نسيت أنت، فـأنا سأذكرك دائمًا.)

تدري إنها تدفعه نحو الغضب والجنون، تدري إنها تلعب بالنيران التي ستحرقها بلا محالة، فلو كانت هي حادة نارية، فـعنان هو اللهيب على الأرض، غضبه جهنم وجنونه لا يشبه جنون البشر؛ لذا كادت تتنفس الصعداء وهو يتجاهل كلماتها متغاضيًا عنها ويكوب وجهها البهي الذي يحبه وهو يغمغم بذات النبرة الخافتة:
-(لا تغضبيني يا فلك، تعلمين أنكِ امرأتي أنا، كل ما فيكِ لي أنا، عينيك الحادتان خُلقت لأنظر فيهما وأعلم أن خلق الله بديع، وجنتيك وجدت لأمرر أناملي عليها واستشعر نعومتك.)

كان يرفق كلماته بلمسة لعينيها تارة ولوجنتها تارة، وعينيه تطوف على وجهها بنظراتٍ حملت كل معاني الحب والعناد، إلى أن توقفت نظراته على ثغرها المزموم هﻧهبغضب، ذاك الثغر الذي يُمثل له ثمالة لا يستفيق منها، وحتى لو استفاق تعاوده مره أخرى حينما يبصر عينيها.

أنزل إبهامه يمسح على ثغرها يجبرها على فك زمامه ويمسح على إحداهما هامسًا بتملك شديد:
-(حتى هذه الشفاة الضالة، خُلقت لأُقبلها مرارًا وتكرار، ولا أَمل منها ولا يرتوي عطشي لها، يا فلكي ومداري.)

يتلاعب بمشاعرها ويحكم قبضته على قلبها يُسيطر على انفعالها بجنونه، انفعال انتشلها لتبتعد عنه بكل قوتها وأنفاسها ترتفع بغضب أعمى وهي تسدد لصدره ضربة قوية لم تحركه ولكنها ألمته، وكلماتها الساخرة تندفع منها بتقزز لائم نظراتها المحتقرة:
-(اذهب وأشبع فتياتك قُبلاتك، أما أنا فلا تجرؤ على الحلم حتى.)

سار الخطوة التي تفصله عن جعفر وبدأ يتحسس رأسه بأنامل قوية بخلاف نعومته مع فلك، ولكن كلماته خرجت هادئة لا مبالية وهو يمنحها أبغض ابتساماته:
-(لا قُبلاتهن مائعة كالطعام بلا ملح، أما أنتِ فـأحيا على قبلتنا اليتيمة أتذكرينها يا فلكي؟)
ضغطت على نواجذها واندفع الغضب فيها أكثر ودمائها كست وجهها الواجم بسبب كلماته الوقحة المفتقرة للحياء فصدح صوتها باردًا يحمل الصدئ الذي شعرت به في حلقها الجاف:
-(جيد أنك لازلت تحتفظ بها في رأسك، كي تتذكر دائمًا إنك تجرأت ونظرت لامرأة رجل غيرك وتعديت على عرضه بوقاحتك.)

كادت تغادر الإسطبل ولكنه كان أسرع منها وقبض على مرفقها بعنف يجذبها له بكل قوته غير أبه بالألم الذي كتمته عنه وهي تنظر له بتحدي مخلوط بنفورها، فغمغم بصوتٍ حاد:
-(كرري إنك امرأة رجل آخر قدر ما تشائين يا فلك، ولكن دعي الأيام تثبت لكِ أنكِ لن تكوني امرأة لأحد غيري، وإن لم تكوني لي لن تكوني لغيري.)

جذبت مرفقها منه تحرره بكل قوتها بعدما رفعت سبابتها في وجهه وتلقي تحذيرها الحاد في وجهه دون أن تأبه لنظراته الغاضبة أو وجهه المتحفز وقد فاض كيلها منه ومن مطارداته:
-(اسمع يا عنان، كفاك جنون ونذالة، زفافي سيتم تحديده بعد أيام، أنصحك أن تبدأفي التأقلم على الواقع، أنا لست لك ولن أكون، وإن حاولت وضع إصبع واحد عليّ مره آخرى سأجعلك تتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعك ابتعد عني يا عنان هل سمعتني؟
ابتعد عني.)

قبل أن تلتفت وتتركه مره أخرى جذبها إليه من جديد يكوب وجهها بين كفيه القوية يقبض عليها بقوة ناعمة وهو يردد بسخرية سوداء لائمت غضبها:
-(لا يا عزيزتي لن أضع إصبع عليكِ، بل سأجدد الترياق فذكريات قُبلتنا الأخيرة بدأ يكسوها الضباب في عقلي.)

أتم جملته وألصق شفتيه بثغرها يقتنص منها قُبلة اجبارية قرر أن يأخذها منها عنوة ويثبت لها أن كل ما فيها له حتى لو اجتمع أهل الأرض على النكران، فلك له منذ الأمد، خُلقت لتكون امرأته وحده، وهو يدري أن جزء ما في نفسها متيقن إنها له، تنتمي له، منسوبة لاسمه، رحمها لأولاده وجسدها لأنامله، قلبها لحُبه وعقلها للتفكير فيه.
هي فلكه ومداره وحياته التي تتمرد عليه؛ ليموت.
رغم قوته في البداية إلا أن قبلاته تحولت لآخرى ناعمة رقيقة تنزع منها تجاوب لا تود منحه إياه، يراودها عن نفسها الضعيفة وهي ليست متحجرة لترفض رجلًا تحبه.
كادت تتمسك به وتبادله حبه بأخر ولكن يقظتها نبهتها أن عنان شيطان رجيم يسحبها لتتهالك، يسحب منها استجابة ضعيفة ليثبت لها أنها لا تختلف عنه في خطيئته، عقلها ذكرها بخطيبها عبد العزيز، ذكرها أنها فلك الغانم، ذكرها أنها ليست خطيئة ولا غانية.

فتحولت استجابتها الضعيفة لآخرى مجنونة وهي تغرز أسنانها بعنف في ثغره تفجر منه دماء حارة قبل أن تبتعد عنه بكل قوتها وتمسح أثر دمائه عن فمها بعنف وتتحدث من بين أنفاسها اللاهثة:
-(حقير.)

ألقتها في وجهه وخرجت سريعًا من الإسطبل وثوبها الأسود يهفهف خلفها ولم يتبقى خلفها سوى رائحة المسك التي التصقت به تذكره إنها كانت هنا معه وبين يديه.
فأخرج منديلها الأبيض الذي خاطته له يومًا وأهدته له على استحياء، قربه من شفته السفلية التي تورمت بفعل أسنانها ومسح الدماء عنها بهدوء وكأن شيء لم يكن، وبصعوبة ارتسمت ابتسامة ساخرة خلطت بين حنينه وغضبه.
التف للحصان الهادئ فربت على رأسه برفق هامسًا:
-(لا بأس يا جعفر، الصبر مفتاح الفرج، الصبر يا جعفر.)

أتم كلماته وهو يخرج ويسير على خطاها وبين كل دقيقة وآخرى يرفع منديلها ويجفف دمائه التي أحدثتها، وما بين منديلها الناعم وأسنانها الحادة.
كانت هي الداء والدواء.

نهاية الفصل


وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-12-22, 06:18 PM   #8

وسام اسامة

? العضوٌ??? » 490011
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 67
?  نُقآطِيْ » وسام اسامة is on a distinguished road
افتراضي الفصل الخامس

الغصن الخامس

في منزل نُصير أل غانم،

انتهى العشاء الذي كان كارثيًا بكل معنى الكلمة، فكانت مـرام هي الضيف المنبوذ على طاولتهم التي غاب عنها نُصير، رغم حرص السيدة فاطمة على جعل فاتن ومـرام في راحة وأُلفة، إلا أن أولادها قابلوا وجودهما بجفاء وصمت يكادان يصلانx للامبالاة ولم تكن مـرام في حالة تسمح لها بالحرج أو الحزن من جفائهم.

كانت في عالم الشرود واللاوعي، عقلها يسترجع كلمات نُصير وتربطه بالعلامات والدلائل، تقلب في دفتر الماضي وتُخرج منه الشواهد التي ناصرت أقاويل نُصير، وزادت من حدة الوحشة في قلبها.

تربط الخيوط ببعضها وتُكمل لوحتها الناقصة بأُحجياتٍ اختلطت بدم الخيانة والغدر، طُعنت غدرًا ألف مرة دون أن يُشفق عليها أح، وها هي تتلقى عقاب جهلها.

لم يتوقف عقلها عن التفكير حتى حينما أوت للفراش مع فاتن واضطرت لتمثيل النوم؛ كي لا تحاصرها فاتن بأسئلة لا قوة لها كي تُجيب عنها، فأغمضت عينيها الساخنتين وتركت عقلها يسترجع أول لقاء مع فايز «قبل ثلاثة أعوام».

-عـــودة لوقتٍ مــضـى،

تنفست الصعداء حينما انتهت من دوامها في المركز الطبي الذي انتسبت له فور انتهائها من دراسة التمريض، تستيقظ باكرًا لتباشر تدريبها في المركز ولا تعود إلا قرابة صلاة العشاء وما ان تصل لمنزلها وتتناول عشائها تسقط في نومٍ عميق حتى قِبيل صلاة الفجر، ويستمر يومها على هذا المنوال منذ أن انتهت من دراستها وبدأت تتدرب كي تمارس مهنتها.

ولكن بدى يومها مختلف بداية من المركز الطبي الذي كان رأسًا على عقب منذ وصولها وهي ترى الجميع يتحدثون عن طبيب " المدينة" المنتسب لمركزهم، ولم يكن كـأي طبيب قبله، بل طبيب شاب وسيم استطاع إدارة الرؤوس له وخاصة الممرضات، العازبات منهن، فـكان كل شيء حولها مُربك وغير مستقر كالعادة، انتهاءًا بوالدها الذي هاتفها قبل انتهاء موعد عملها يسألها متى ستعود للمنزل، وسألها لمَ لا تستأذن وتأتي قبل ساعة انصرافها؟!
ولكن اختفى تساؤلها وارتفع محله الدهشة حينما استقبلتها شقيقتها فاتن في مدخل بيتهم الصغير، وصارت تقفز بحماس مكتوب وهي تُمسك كفها وتغمغم:
-(مـــرااام، لن تصدقي من عندنا في الداخل، لا أصدق أن بلدتنا تُثمر أخيرً. ا)

جعدت جبينها المرهق وهي تخلع حقيبتها عن ظهرها وتتأوه بألم:
-(كفاكِ ثرثرة يا فاتن، أود أن اتناول عشائي وأرتاح.)

-(مـرام، أقول لكِ أن عندنا ضيف بالداخل، شـاب وسيم جدًا ويتحدث بذوق وأدب كأولاد الناس، وملابسه يا مرام أنيق بشكل لا يصدق، حتى أنه..)

قاطعتها مرام وهي تضع كفها على جبينها فجأة تتحسس حرارتها بوجهٍ هادئ وهي تهمس لشقيقتها بابتسامة ساخرة.
-(المذاكرة تفعل أكثر من هذا، اذهبي يا فاتن وارتاحي قليلًا، الدراسة قضت على الجزء النافع في عقلك.)

انتفضت فاتن تبعد كفها عنها بنبرة حادة دون أن يخفت حماسها:
-(يا ثقيلة الظل أقولك لكِ...)

قاطعها صوت والدها من الداخل وهو يهتف بصوت مرتفع:
-(مـرام هل وصلتِ يا عزيزتي!؟
-تعالي وسلمي على الطبيب الجديد في المركز الطبي.)

بدى الذهول على وجهها حينما سمعت كلمات والدها، ونقلت نظراتها لفاتن التي رفعت كتفيها في علامة على "ألم أخبركِ" فتابعت السير وهي تجذب مرفق فاتن هامسة بدهشة:
-(ما الذي يفعله الطبيب الجديد في منزلنا يا فاتن؟!
لقد تورم رأسي من كثرة الحديث عنه في المشفى.)

ضيقت فاتن عينيها كالمحقق كونان وهي تضع كفها على فمها وتغمغم بصوتٍ خفيض:
-(ما فهمته من استراق السمع لحديثه مع أبي أنه يود شراء المنزل الذي يجاورنا كي يحوله لعيادة خاصة ويود من أبي التوسط للعم أبو حليم؛ كي يقتنع ببيع المنزل.)

حركت رأسها بإدراك وهي تغمغم بفهم:
-(اه فهمت.)

كانت قد وصلت للباحة الخلفية حيث يجلس والدها مع ضيفهم، فألقت تحية هادئة رقيقة وهي تبتسم لوالدها:
-(السلام عليكم يا أبي.)

سمعت صوت والدها يرحب بها بفخر وابتسامة مُشرقة يحادث ضيفه:
-(عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هذه ابنتي الحبيبة مـرام، متدربة في المركز الطبي كما أخبرتك، كنت أتمنى أن تكون طبيبة ولكنها تعشق التمريض بشكل خاص.)

ثم نقل نظراته لمـرام التي اتجهت وجلست جواره بابتسامة خجل رقيقة:
-(هذا الدكتور فايز هادي يا مـرام الطبيب المنقول للمركز الطبي، أتعلمينه؟!)

حمحمت مرام قائلة بصوتٍ خفيض خجول وهي تسترق النظر للضيف الذي خطف أنفاسها برائحة عطره النفاذة:
-(لا لم أراه، سمعت عنه فقط.)

وصلها صوته الهادئ الودود وهو يغمغم:
-(فرصة سعيدة يا انسة مرام.)

رفعت عينيها له لتراه مباشرة، كانت الأقاويل تنطبق عليه تمامًا، شاب وسيم ذو طله مبهره وملامح تجذب النظر
يرتدي قميص أزرق وبنطال أبيض وعلى عينيه نظارة نظر حديثة الطراز تضفي عليه جاذبية، أشاحت وجهها عنه قائلة:
-( شكرًا لك.)

كانت نظراته معلقة بها طوال جلستهم، وفي كل مره تتلاقى دروبهم، في المركز الطبي أو زياراته الكثيرة لمنزل والدها، كانت عينيه تلاحقها ويخصها بابتساماته الرقيقة، يفرض نفسه عليها وبنتزع منها إعجابها به، كانت الخطوة الأولى خطوته دائمًا، لم تبادر معه بأي شيء، حتى حينما تقدم لخطبتها فجأة بعد شهرين فقط من عمله في المركز الطبي، طلبه لم يفاجئ كل من حولها فقط، بل كان مفاجئ لها هي شخصيًا، ولكنه برر طلبه السريع بإعجابه بها وبأخلاقها الحسنة، وحينما أخبرته مرتبكة:
-(أنت فاجأتني بطلبك يا دكتور، خاصة أنني لا أعلم أي شيء عنك أو عن عائلتك، لا أعلم ما هي حياتك في المدينة، أشعر أنك غامض جدًا، وأنا لا أحب الغموض أو التسرع.)

حينما أمسك كفها بقوة مما أجفلها ولكنه أحتوى تفاجئها قائلًا بنبرة هادئة تحمل ما يكفي من اللطف والرقة، والكثير من الاقناع:
-(كل ما تحتاجين معرفته سأقوله، أنا طبيب طموح يا مرام ولدت في المدينة ولي عائلة كبيرة ذات صيت ومال، ولكني لا أرى نفسي بينهم، تركت كل شيء خلفي وغادرت، وقبل أن أطلب يدك من والدك حادثتهم ولكنهم رفضوا زواجي من ممرضة بسيطة، ومهما حاولت اقناعهم لن أُفلح؛ لذا جئت وحدي وتقدمت.)

انزعجت من رفضهم الغير مبرر لها وتفكيرهم الطبقي القديم جدًا، تفكير منحصر في القرون القديمة ولا وجود له في العصر الحديث، ولكن فايز استطاع اقناعها أنهم أُناس عقلية قديمة جدًا، لا فائدة من المحاولة معهم، ولن يسمح لهم بتدمير سعادته؛ لذا سيتزوجها رغمًا عنهم، ورغم رفض والدها للزيجة الغير مباركة من أهله، ولكنه ظل يُصر عليهم لشهور طويلة حتى اقتنع والدها بعدما فعل محاولة أخيرة كي يتواصل مع عائلته، لذا تمت الزيجة دون أن يروا عائلته أو يحادثوهم ولو عبر الهاتف.
بدأ الحب ينمو في قلبها له، خاصة وأن فايز يُجيد أحاديث الغرام ومعاملتها برقة وعطف كبيران، لم تملك إلا أن تتبادله حبه الذي كان كـهبة السماء لها.
كانت موضع حسد من أهل القرية وزميلاتها في المركز، فهي مخطوبة لطبيب وسيم، ناجح، غني، كان فرصة ذهبية وحلم بعيد لفتاة مثلها.

تمت زيجتهما وانتقلت معه للمدينة وبدأت تحاول اقناعه أن يذهب بها لأسرته وهي ستتفاهم معهم وتنشئ بينهم جسر محبه وود وتثبت لهم أن الشخصية والمضمون أفضل من المال والطبقات، ولكن قابل فايز محاولاتها بالصد وأخذ يسرد لها أشياء تنفرها منهم:
( عائلتي غريبة الأطوار يا مـرام، لا شيء فيها بسيط يمر مرور الكرام، بل كل خطوة لهم بألف حساب، لا يعرفون للهزل طريق، ولا للرحمة باب، كل شيء يخضع وفق إرادتهم وكأن العالم سُخر لهم ولأوامرهم، لقد نجوت منهم بأعجوبة، كل صباح أحمد الله ألف مره أنني لم أشابههم في طباعهم القاسية.)

وكان دائمًا ينجح في تخويفها منهم، فخفتت محاولاتها للتقرب منهم، كان في داخلها صوت يلومها أنها لا تحاول الاصلاح بينهم وبينه، كانت تتمنى لو علاقته بهم جيدة كي يكونوا عائلة ثانية لها؛ كي تشاركهم حبهم لفايز ويشاركونها حياة هادئة مليئة بأجواء عائلية جميلة، ولكن كان حاضرها مختلف، مختلف تمامًا عن أمنياتها.

انتبهت من شرودها الطويل وهي تشعر بدموعها تكاد تخنقها، اعتدلت في الفراش تنظر لفاتن التي انغمست في نومٍ عميق وكذلك براء الذي لازال غافيًا بغض النظر عن استيقاظه المفزوع في الساعات الماضية، فما حدث في منزل أميرة الغانم ترك شيء سيئ في نفس ولدها وصار يستيقظ من نومته في فزع وصراخٍ عالي، انحنت تطبع قبلة طويلة على جبينه وهي تهمس بصوت متحشرج:
-(أنت الحقيقة الوحيدة في حياتي يا براء، حقيقتي الوحيدة ولن أتخلى عنك أبدًا يا حبيبي.)

قبضة قاسية اعتصرت قلبها حينما تذكرت فايز، الرجل الذي أحبته وتزوجته ورحل عنها في بداية طريقهما، رحل وتركها لكوارث أخفاها عنها واستدرجها بالغش والخداع، وهمها باسم الحب وصنع عالم وردي وأخبرها إنه عالمهما لتتفاجأ أنه عالم من ورق، أقل عاصفة ستنثره في الهواء دون أي مجهود، عالم وهمي خادع يخبئ به عالم أشد قسوة وعتمة، عالم أُدخلت فيه غدرًا وظلم، تنفست الصعداء تمنع نفسها من البكاء، لن تبكي الآن، عليها مهاتفت والدها أولاً وحينها سترسم طريقها وتعلم موطئ قدمها.

انتفضت تجلب هاتفها من حقيبتها وتفاجأت من عدد الاتصالات التي وردتها من والدها وجارتها وزميلاتها في العمل وكذلك المحامي عبدالعزيز، كانن الاتصالات الفائتة تتجاوز السبعون مكالمة لم ترد عليها، وبأصابع مرتجفة وقفت على رقم والدها وهي تسير خارج الغرفة كي لا توقظ براء أو فاتن، اتجهت للحديقة الخلفية للمنزل كي تُجري اتصالها الذي تأخر جدًا.
***
***
كان الليل قد انتصف في المضيفة الخاصة بشباب عائلة أل غانم، مضيفة أقامها فراس لتضم لقاءات عمله في القرية واجتماعه مع نُصير وعبد العزيز وعنان وباقي شباب العائلة.

وكانت الليلة هي ليلة اللقاء الموعود لرجال الغانم احتفالًا بعودة عنان من سفرته التي استغرقت بضعة أشهر خارج البلاد بسبب عمله كـرسام محترف يروج للوحاته في عدة بلدان ويشترك في معارض الفن.
اتفقت هوايته مع مهنته، ولكنها لم تتفق مع تقاليد عائلته ولا قريتهم، فـعائلة الغانم مشهورة بالصناعة والتجارة وامتلاكهم أراضي زراعية، فكان عنان هو الشاذ عن قاعدتهم، ليس بسبب اختلاف عمله فقط، بل واختلاف طِباعه وجنونه الذي يسبق عقله وخطواته، وأسلوب حياته التي تتنافى مع نشأتهم وعاداتهم، فلم يحصد من كِبار القبيلة سوى النبذ والهجر خاصة من والده الشيخ " ممدوح " الذي لم يتوقف عن إعلان غضبه عليه في كل مناسبة تجمعهم، ولكن علاقته بشباب العائلة كانت أفضل من علاقته بالبقية، فجمعته صداقة متينة مع فِراس ونُصير وسند وعبدالعزيز، ورغم قوة صداقتهم في الماضي إلا إنها اهتزت وامتلأت جدرانها بالتشققات والشروخ التي لم تخفى عليهم، وبدلًا من ترميمها تجاهلوا الوضع كليًا، وتركوا مراجل غضبه وجنونه متخفيان أسفل هدوئه وصمته.

كان المجلس قد اكتمل بسند وعبدالعزيز اللذان دخلا المجلس وتبادلا التحية مع فراس ونُصير وعنان، ولكن تحولت جلساتهم المُسلية في الماضي لأخرى مشحونة بغضب مكتوم وحدة لا تنفذ، فحينما مد عبدالعزيز كفه لعنان؛ كي يصافحه ويرحب بعودته، تلقف عنان كفه يصافحه بوجهٍ جامد لا أثر فيه للصداقة أو المودة وقد ألقى نظرة لخاتم الخطبة في إصبعه، فقبض على كفه بعنف وعينيه ترسلان شرارات الغضب عبر نظراته التي تقبلها عبدالعزيز بهدوء وهو يغمغم بلا مبالاة:
-(مرحبًا بعودتك يا عنان، كنا نظن أنك ستستقر في بلاد الأجانب وتنسى حياتك هنا.)

ترك عنان كفه ولم يحاول اصطناع البسمة أو الود وهو يغمغم بصوته الأجش الخفيض:
-(ولمن أترك أملاكي هنا؟
لا تقلق يا متر أنا لن أبرح هذه الأرض ما دام فيها ما يخصني.)

تبادلا النظرات النارية وكلا منهما يضغط على جرح الأخر وكأنهما في سباقٍ وجائزة الفائز هي فلك، تلك المرأة التي حولت صداقتهما القوية لعداء واضح قد ابتدأه عنان بكل ضراوة، فلم يملك عبدالعزيز إلا مبادلته حدته وغضبه مع اختلاف الأسباب، قطع نُصير صمتهم المشحون وهو يرفع كوب الشاي يرتشف منه بوجهٍ منبسط يخالف، وجوههم المُعكرة لأسباب منها ما توافق ومنها ما اختلف، فتنهد تنهيدة طويلة وخرج صوته يشوبه التسلية:
-(كم اشتقت لتلك المشاحنات الهزلية، والله إنكم أشد ظرافة وتسلية من النساء.)

ارتفعت ابتسامة ساخرة على فم عنان وهو يرفع أحد حاجبيه ويحدق في نُصير البارد كليًا ويحدجهم بنظرات تسلية امتزجت بالسخرية، فتبسم له ذات الابتسامة وصدح صوته الأجش ساخرًا وهو يقول:
-(وعلى ذكر النساء يا دنجوان، كيف استطعت اقناع عائلتنا العتيدة صاحبة العادات والتقاليد وخاصة الرجال منهم بخطبتك من الممثلة القديرة معبودة الجماهير، شهيرة؟!
أتذهب لدجال من خلف ظهري؟)

قابل استفزازه بضحكة خشنة زادت من غضب عنان، وانقلب السحر على الساحر حينما تمتم نُصير بنبرة رائقة لا يعكرها تلميح ولا يمحيها تهكم:
-(خبر الخطبة وصل لك أيضًا، لا تقلق يا عنان أنا لا أتبع سحر المشعوذين والدجل، أنا أستخدم سحر العقل والاقناع، حينما تضيق بك السُبل تعال لي وأنا أعلمك العقل يا ابن العم.)

تدخل سند في حديثهما الناري وهو يضحك ويتمتم بغيظ وحسد كاد يُخرجا عيناه من محجريهما فقال:
-(العائلة واتبعت سحر العقل، وبالنسبة لشهيرة كيف أوقعتها في حبائلك يا خبيث؟!
لا أصدق أن تلك الـ...)

كاد يصفها بالإثارة والجمال أو بتعبيرات نارية تليق بامرأة خرافية كـشهيرة ولكن حاجب نُصير الذي ارتفع بتحذير ساخر جعل سند يتنحنح ويبتسم بإحدي ابتساماته السمجة ويكمل بحذر:
-(النجمة الجميلة تلك خطيبتك.)

نظر عبدالعزيز لنُصير الصامت أمام حسد سند ويقابل حديثه بابتسامة صغيرة غير مكترثة، فقرر التدخل في الحديث؛ كي يزيد انفعال سند وغيظه فتمتم بهدوئه ورزانته المعتادة:
-(والله يا سند سألته ذات السؤال، فـلو رأيت كيف تحبه الفنانة وتعامله وكأنه هو النجم وليس هي لذُهلت مما يحدث، المرأة مجنونة به كليًا، وتفكر جديًا بالاعتزال.)

شهق سند وانتفض من جلسته متجهًا نحو نُصير يجلس جواره ويقبض على مرفقه منفعلا من حماسته وغيظه في آنٍ واحد فقال:
-(هل جننت يا نُصير؟
لا تدعها تعتزل إنها ثروة قومية، لا تكن أنانيًا ودعها تطل علينا بأعمالها الجميلة التي تجعلني آ...)

قاطعه فراس هذه المره وقد خرج صوته قويًا خشنًا يبعث في النفس رهبة:
-(تحشم يا سند، تلك المرأة تخص ابن عمك، لا تطاول على الأعراض كي لا يُرد في عِرضك.)

انكمش سند في نفسه بسبب فراس وكلماته الخشنة فلم يمنع نفسه من التمتمة الحانقة وهو يرفع كوب الشاب لفمه:
-(أي اعراض؟!
إنها فنانة مشهورة ومعجبيها من الرجال أكثر من النساء، هل أخبره أحد ان يقترن بامرأة مثلها؟)

تحدث فراس وهو يميل على سند ويغمغم بصوتٍ هادئ فاح منه تهديد لا تخطئه الأذن رغم برودته:
-(سند، كلمة أخرى وستكون أسنانك متراصة أمامك على الطاولة، هل تود أن تعيش بلا أسنان؟!)

كان تهديد فِراس الإنذار الوحيد الذي يلقيه قبل أن يشرع في تنفيذ ما قاله؛ لذا لو خرجت من فمه كلمة واحدة تخص شهيرة سيفقد أسنانه تمامًا؛ لذا تترك سند كوب الشاي وعاد حيث يجلس بعدما مرر إبهامه وسبابته على شفتيه في علامة للصمت.

فبدى المجلس كئيب لا يُشبه مجالسهم في الماضي، كلا منهم مشغول في أفكاره التي لا تهدأ، والصمت الذي يغلفهم لم يكن صمت يُذر بأي خير، بل كان صمت ما قبل العاصفة، سكوت يعقبه جنون ويغلفه التمرد.

قطع صمتهم هاتف فراس الذي أعلن عن قدوم رسالة، أخرج هاتفه من جلبابه القروي وحدق فيه للحظات قبل أن يتجعد جبينه بحدة وهو يقبض على هاتفه واقفًا:
-(سأغادر الآن، فليعود كل منكم لبيته طالما لا تطيقون النظر لبعضكم.)

لاحقه صوت نُصير وهو يتحدث خلفه:
-(أهناك شيء يا فراس؟)

ارتبك فراس للحظات قبل أن يحرك رأسه نافيًا ويغادر المجلس بخطوات واسعة وكأن الشياطين تلاحقه والنيران تكاد تحرق جلده من شدة الانفعال.

رفع هاتفه بعدما ابتعد عن المجلس تمامًا واتصل بأحد الارقام واضعًا الهاتف على أذنه وصوته يقصف كالبرق المجنون:
-(هل جُننتِ يا بنت؟
كيف تخرجين من دارك في هذه الساعة أي جنون هذا يقودك يا دُنيا؟!)

وصله صوتها المرتبك وهي تردد بشجاعة بائسة:
-(أنت رفضت أن نلتقي قبل ساعات، وحديثي لن يقبل التأجيل يا فراس، لو كان لي خاطر عندك لكنت قابلتني.)

بصرها من بعيد وهي تقف أسفل الشجرة الضخمة التي أخبرته إنها تقف اسفلها، كانت تتشح بالسواد فيما عدى وجهها النضر الذي ظهر لعينه رغم سواد الليل
أسرع الخطى نحوها يقف أمامها يحجب جسدها بجثته الضخمة وطوله المهيب، وصوته الخشن يردد موبخًا:
-(أمامي إلى الدار يا. بنت وأنا لي حديث أخر مع نُصير ليجد حلًا لجنونك هذا.)

كاد يتحرك ولكنها اقتربت منه خطوة وتمسكت بجلبابه تمنعه من المغادرة وهي تحدق في وجهه المهيب بعيون لامعة تحمل نظرة حالمة، وصوتها الخفيض يخرج متلهف:
-(لا تذهب يا فراس، هناك حديث لا يقبل التأجيل.)

كان بها شيء مختلف، هل تضع حمرة على ثغرها؟!
دُنيا الصغيرة تضع حمرة كالنساء؟!
توسعت عينه الواحدة وهو يبصر زينة وجهها التي أضفت نعومة وأظهرتها كا امرأة في مقتبل عمرها وليست فتاة في السابعة عشر من عمرها، فقبض على مرفقها بقوة وزجرها بذهول غاضب:
-(تضعين الزينة على وجهك يابنت، لمن تفعلي كل هذا يا دُنيا انطقي حالًا؟!)

تأوهت من قبضته القوية التي عصرت لحمها بقسوة فحاولت الفكاك منه وقد بدأت ثقتها تتزعزع ويتسرب الخوف لقلبها فهمست موجوعة:
-(فراس أنت تؤلمني.)

همسها الناعم الموجوع مع وجهها المتزين كان له تأثير سيئ غير مرغوب في نفسه، كان الغضب يتضاعف في نفسه ومن شيطانه وهو يرى تلك الصغيرة تتدثر في ثياب امرأة، تتقمص دور لا يناسبها الآن، هل تفعل هذا لأجل شاب ما؟!
هل تفعل كل هذا لتنال اعجابه؟! هل استطاع استغلالها؟!

اجتمعت الأفكار البغيضة في رأسه فضغط على نواجذه بقوة وهو يقبض أكثر على مرفقها:
-(هل أنتِ على علاقة بأحدهم يا بنت؟
تحدثي الآن وإلا..)

قاطعته بتهور وهي تتأوه بضعف وقد امتلئت عيونها بالدمع من ارتباكها وخوفها:
-(أنا لا أعلم أحد، أنا فعلت كل هذا لأجلك أنت، أنا أحبك أنت يا فراس.)

بدأت أنامله تنزلق من مرفقها وقد بدى الذهول والاستنكار على وجهه من الكلمات التي اندفعت من فمها بلا حساب، هذه النظرات التي تصوبها نحوه لم تكن نظرات أخويه بريئة، لم تكن اتصالاتها به بدافع القرابة وتقديرها له، هراء كل ما يحدث معه في هذه اللحظة هو هراء لا يتقبله عقل، ضرب بيده على الشجرة خلفها: فانتفضت فزعًا وهي ترى الغضب الذي ارتسم على وجهه، غضب مختلط برفض جعلها تتقدم منه خطوة وهي تقول بلهفة مرتجفة:
-(صدقني يا فراس أنا لا أبه بأي شيء سواك، لا أعطي بالا لقسوتك المزعومة أو لأقاويل الناس عنك، أو حتى عينك المصابة أنا أحبك وأرى فيك آ...)

قاطعها بخشونة وقسوة أنكرتها لتوها:
-(اخرسي حالًا يا دُنيا، اخرسي ولا أود سماعك تنطقين بتلك الكلمات مره أخرى، هيا أمامي لتعودي لدارك، وأنا لي حديث مع نُصير.)

شحب وجهها وتوسعت عينيها واندفع فيها دموع الألم والرفض، هل رفضها لتوه؟!
هل تجاهل اعترافها الذي تدربت عليه مرارًا وتكرارًا؟!
دعس على مشاعرها بمنتهى القسوة دون أن يأبه بشعورها.
تلاحقت أنفاسها في بكاء مكتوم وهي تلتفت له وتسأله بنبرة مجروحة:
-(هل رفضتني لتوك لأنني لست من العائلة؟!
لأنني لست من عائلة الغانم؟!)

جائها صوته خشن حاد:
-(تابعي طريقك يا بنت ولا تفتحي فمك بأي كلمة.)

رفضت أن تتحول من مدللته هو ونصير فجأة لأخرى تتلقى التقريع وتُعامل بتلك الطريقة الجافة، ليست دُنيا من تُعامل بقسوة، فوقفت محلها ترفض متابعة السير وهي تقول بصوتٍ غاضب وحدة مجنونة:
-(لن أتحرك من هنا قبل أن تخبرني سبب رفضك لي يا فراس لن أ...)

-(أبيه فراس يا بنت، أنا لا ألعب معكِ في باحة الدار.)

قسوته مزقت ما بقى من مشاعرها، كانت كأظافر حادة تخدش جدار قلبها وتُدميه، قسوة لن تنساها أبدًا وستكون ملعونة لو صمتت أمامها، فاندفع لسانها كالسيف الحاد تُدميه كما أدمى ذكرى حبها الأول:
-(أتعلم الجميع محقون، أنت رجل قاسي معقد نفسيًا وتتلذذ بإيلام غيرك، تفعل أشياء سيئة لا مبرر لها وتتلذذ بتعذيب غيرك، تُبكي الجميع لأنك لا تستطيع البكاء أليس كذلك؟!
تود انتزاع طفل من والدته بكل جبروت، والآن ترفضني لأنني لست من دمك، وستؤلم غيري وغيرها، أنا أكرهك يا فراس، أنت لا تستحق أن أحبك ولو لدقيقة واحدة.)

أنتهت كلماتها واندفعت بخطوات شبه راكضة تتجه نحو دارها، أما هو فكان يسير خلفها بخطوات ثابتة ولم تغب عن عينه ولو دقيقة، ولم يبدي تأثير كلماتها في نفسه، ولن يُبديه.
****
عاد لمنزله في وقتٍ متأخر، وقبل أن يتجاوز الحديقة ويدلف للدار، سمع صوت جعله يرهف السمع للحظات قبل أن يتحفز جسده وينخفض للجنزير الموضوع أرضًا يلفه على قبضته ويسير نحو مصدر الصوت بخطى حذرة متربصة كما النمر، فلم يبصر في عتمة الليل سوى ظهر يهتز بقوة وآنات متألمة مكتومة تخرج بين الثانية والأخرى من فم الجالسة في الحديقة وتتحدث في الهاتف بصوتها الباكي، اقترب خطوة منها ليسمع صوتها المُعذب وهي تقول من بين نشيجها:
-(آصدق القول يا أبي؟
-‏ هل فعلت عمتي شمس هذا؟ وهل ساعدتها أمي على شيء مشين كهذا؟
أرجوك أجبني.)

عقد جبينه حينما سمع صوت والدها يتحدث بنبرة متعبة لائمة يأبى قول الحقيقة الكاملة:
-(يا بنتي دعي الأموات في قبورهم ولا تفتحي في دفاتر قد أُغلقت ولا فائدة من فتحها.)

خرجت منه تنهيدة ثقيلة وبدأ ألم الرأس يضربه بقوة حينما سمع أسئلتها تلك، كان يدري أنها ستعلم يومًا ما خاصة وأن زوجها الراحل كان فرد من العائلة المعنية بأسئلتها، ضغط على نواجذه بحسرة وهو يتذكر فايز الذي خدعه وتحايل بكل الطرق كي يخفي عنه اسم عائلته وقريته، خدعه باسم عائلة وهمية واستطاع جعل الجميع يرددون كذبته كي يضبط حبكة كذبته ولا يشك في شيء، وابتلع الخدعة وسلمه ابنته بكل نفس راضية وبقلبٍ مطمئن إنه زوَج ابنته من طبيب غني ذو خلق رفيع وسيرة طيبة، ولكن موته جعل الحقيقة تطفو، وتنهي تلك الخدعة التي نسجها لهم فايز.

واكتشف الحقيقة المُره أن ابنته كانت زوجة لولد الغانم، تلك العائلة التي لا يجمعهم به سوى كل كراهية وبغض، ترك قريته وأرضه وعمله وهرب بأولاده؛ كي ينجو بهم، ولكن ذيول الماضي تأبى تركه سالمًا بعد مرور عشرون عامًا كاملة.

خرج من شروده وهو يبتلع رمقه ويتنهد بحسرة قائلًا:
(ولكن من أخبرك بهذه الأمور؟ ولمَا لم تأتي القرية إلا الآن؟
لقد حادثتني زميلتك في المشفى وأخبرتني أنكِ فُصلتِ من عملك، وهاتفت جارتك أم بهاء أخبرتني أنكِ خرجتِ أنتِ وفاتن ولم تعودا للشقة، أين أنتِ يا ابنتي؟)

رفعت مرام كفها تمسح ما يسيل من عينيها وأنفها وقد خرج صوتها مرتجف يحمل لوعة الألم وأشواكه:
-(علمت من أصحاب الشأن يا أبي، ولم آتي القرية لأنني أنازع كي احتفظ ببراء في حضني، عائلة الغانم يودون انتزاعه مني، لن أقول أين أنا إلا إذا أخبرتني الحقيقة كاملة الآن، هل كانت عمتي شمس على علاقة بوالد فايز واقتلعت عين ولده الكبير فِراس، وهل ساعدتها أمي طمعًا في المال؟)

طال صمت والدها فـارتفعت شهقاتها وهي تهمس بعذاب ودموعها تجري على وجهها المتعب:
-(أجبني يا أبي، هل ما أقوله حقيقي؟)

-(نعم.)
كلمة واحدة مُرة مُلطخة بالذل والعار خرجت من فم والدها، كلمة واحدة جعلتها تسمع صوت انكسار شيء ما داخلها، انكسار نفسها وتهشم عزتها وكرامتها
كلمة واحدة جعلتها تقبض على الهاتف وتنحنيx واضعة وجهها بين ركبتيها وقد انفلتت منها شهقة أليمة وهي تهمس:
-(ولمَا لم تسأل جيدًا عن فايز يا أبي؟!)

-(اقسم بالله يا ابنتي أنني سألت عنه في عمله، وفي المركز الطبي، وفي المكان الذي يسكن فيه في المدينة، الجميع أشادوا بأخلاقه ولم يذكروا اسم عائلته ورددوا الاسم الوهمي الذي اخترعه فايز سامحه الله، حتى بطاقته الشخصية لا تحوي اسم عائلته، لو كنت أعلم إنه من عائلة الغانم لكنت أخذتكم وهربت مرة أخرى و...)

أغلقت مـرام الهاتف ووضعته أرضًا وقد انهارت أعصابها كليًا، كل شيء حولها ينهار، الثوابت والذكريات وحتى نفسها، كل شيء ينهار أمام عينيها دون أن تجد القدرة على الصمود والمتابعة.
كيف ستقف في وجوههم وتدافع عن حقها في طفلها وهي مسلوبة الحق والكرامة؟ كيف ستحاربهم وهي الخاسرة بسبب ماضي تجهله وحاضر تم التلاعب فيه
كيف النجاة وسط كل هذا كيف؟!

سمعت صوت انزلاق معدني خلف ظهرها فانتفضت من جلستها سريعًا تنظر لنُصير الذي يحدق فيها بهدوء ونظرة أخرى لم تفهم بواطنها، وجرت عيناه على وجهها الغارق في دموعها وعينيها الغائرتان من كثرة الارهاق والبكاء، فخرج صوته هادئ غريب على سمعها وهو يغمغم:
-(لا ينتهى مخزون دموعك؟!
لو كانت الدموع سلاح جيد في الحروب لبكى كل أهل الأرض يا مـرام.)

رفعت كفها المرتجف تمسح الدموع عن وجهها وزاغت عيناها بعيد عنه قبل أن تغمغم بصوت مبحوح يحمل المرارة:
-(وهل بيدي ما أفعله الآن سوى البكاء، ستأخذون طفلي من حِضني لأسباب لا يد لي فيها، فما الذي أفعله هل أضحك وأرقص كالمجانين؟
أم أسلمه لكم عن طيب خاطر؟)

ضيق عينيه للحظات وهو يمشطها بنظراته، يتفحص خصلاتها المجموعة خلف رأسها بإهمال مرورًا بوجهها الشاحب الذي فقد بعض الوزن منذ أن رأها أول مره، جسدها المتشح بالسواد حدادًا إلى هذه اللحظة، وارتجافها الذي يعقب نوبات البكاء.
مـرام مثال للمرأة الضعيفة المتخاذلة التي يكره مثيلاتها
خالية الوفاض والحيلة، كنبته ضعيفة تواجه العواصف بهشاشتها وتمايل عودها، فيكون مصيرها الأخير بعد العاصفة هو اقتلاع جذرها الضعيف وجفافه.
فتمتم بصوتٍ خفيض بارد لا يحمل أي شفقة:
-(أنا لا أتحمل مثيلاتك يا مـرام.)

كانت إهانته المبطنة لها هي القشة التي قصمت ظهر البعير فخرج صوتها مندفع مقهور:
-(لم أطلب منك أن تحبني.)

-(ومن جاء على ذكر الحب يا مَرام؟!)
ألقى جملته الساخرة وكاد يلتفت ويتركها وحيدة في الحديقة تندب حظها تحت جنح الليل، ولكنها قبضت على مرفقه تمنعه من المغادرة وصوتها الحاد المرتجف بصله بوضوح:
-(ساعدني كي لا يأخذون طفلي، أنا لا ذنب لي في كل ما حدث في الماضي، بالله عليك هل تزر وازرة وزر أخرى؟!)

للمره الثانية تستنجد به وترجوا مساعدته، وللمره الثالثة تمسك بيده تتمسك بقوته كي يساعدها، تتمسك بالأمل وحدسها الذي يخبرها أن خلاصها بيد هذا الرجل ومثلما سلمها بيده لعائلة غانم، سيخلصها منهم أيضًا.

حينما طال صمته وجدت نفسها تلتفت كي تقف أمامه مباشرة وتحدق في وجهه الصارم بكل ما تملك من رجاء وقوة، بضعفها وحدتها، بكل تناقضتها واضطرابها تمسكت في سترته وهي تتحدث بأنفاسٍ لاهثة وعيون دامعة:
-(أنا لم أكن أعلم كل ما حدث، ولم أسعى خلف فايز لأجل ماله، بل لم أسعى له من الأساس، صدقني يا سيد نُصير لا نية لي للتلاعب، حتى أنني لم اسعى للبحث خلف ميراث فايز.)

كان يرى الصدق في بواطن عينيها، كان عارف بحركات الجسد ومعانيها؛ لذا كان يدرك حالتها في هذه اللحظة، محاولات بائسة للتماسك، استنكار لواقعها الذي انقلب وضعف من موقفها المُهين، نظر لأناملها المتشبثة بسترته بكل ما تملك من ضعف وحدة فقال بهدوء:
-(أصدقك يا مـرام، إلا لو أنكِ كنتِ تعلمين أن كل أملاك عمي هادي مدونة باسم فراس فقط، ولا فايز ولا أخوته يملكون شيء.)

توسعت حدقتيها للحظات قبل أن تحرك رأسها نافية بقوة تنفي ما قاله توًاة
-(بالطبع لم أكن أعلم، ولا يهمني من الأساس، أنا لست معدمة أملك عملي واستطيع توفير المال لرعاية طفلي، لن أمد يدي لكم وأطلب أي شيء حتى لو اضطررت أن أعمل ليلا ونهار كي أوفر له حياة جيدة.)

رفع يديه كي ينزع يديها عن سترته وهو يقبض عليهما بقوة ناعمة ويغمغم بنبرة ذات مغزى:
-(وكيف ستوفرين له التربية السليمة لو أنك عملتِ ليلا ونهار؟ ستوفرين المال ولكن لن توفري العناية والتربية.)

ابتلعت رمقها وهي تشعر برتجاف كفيها تحت قبضته الدافئة فقالت مضطربة:
-(ما الذي تقصده؟)

-(أقصد أنكِ لن تمسكِ العصا من المنتصف يا مَرام، وجودك وحده غير كافي، الطفل يحتاج عائلته.)

هتفت في لوعة وألم:
-(وعائلته ترفض وجودي جواره، براء أيضًا يحتاج وجودي جواره أنا والدته.)

كانت تطرق على الحديد وهو ساخن، تستغل التعاطف الذي يلمع تحت جفنيه، تتمسك بأخر قطرات الأمل فيها وتتبع حدسها لأخر لحظة.
رأته يتنهد للحظات ويمسح عنقه بهدوء مشغول، وقد بدى عليه التفكير والحيرة قبل أن يسير عدة خطوات حولها وكأنه يدرس خطواته قبل أخذ القرار.

طفت اللهفة على وجهها حينما سمعت صوته الفاتر وهو يخبرها بحزم مسيطر:
-(عودي لغرفتك وأيقظي شقيقتك، سنرحل عن القرية بعد ساعة، ولكن لأحذرك يا مـرام ستكون خطواتك خطرة، فلو أردتِ التراجع من الآن فـ )

سارعت تقول بتلقائية دون تفكير:
-(أنا أثق بك، ولن أتراجع)

شملها بنظرة سريعة يرى إشراقة الأمل التي طغت عليها للحظات وكأنها وجدت النور في نهاية النفق، كان يدري أنه أملها الوحيد، وهي هلاكه الأكيد.
فكان أمامه اختيار من اثنين، الوقوف جوارها والاطاحة بعائلته وقبيلته، أو التمسك باستقراره ومكانته في أرضه وبين عائلته.

صدح الصوت في نفسه وهو يحدق فيها مليًا، كان عليه ألا يضع رهانه الجديد على مُهرة واهنة لا تنقصها سوى رصاصة الرحمة لتتخلص من جنون أل غانم، وبدلاً من التفرج بتسلية كما اعتاد، وجد نفسه في مواجهة جنون عائلته.
خلال ساعة واحدة كانت مرام وصغيرها وفاتن في المطار برفقة نُصير وعبدالعزيز.. كان النعاس واضح على وجه عبدالعزيز الذي أخذ نُصير بعيدًا وتمتم بنبرة واجمة..
-(هل أنت واثق من تلك الخطوة يا نُصير)

كان الوجوم ضيفًا على وجه نُصير هو الأخر، ولكن بنظرة واحدة لمرام التي كانت تجلس على مقاعد الانتظار تضم طفلها لصدرها، تضع قبلاتها الناعمة على جبينه بين كل دقيقة وأخرى.. كانت تحتاجه، تحتاج مساعدته وحمايته

فتنفس الصعداء قبل أن يتمتم بهدوء..
-(أنا لا أتحرك بلا ثقة أو تفكير يا نُصير اطمئن وافعل ما اخبرتك به)

صمت عبدالعزيز أمام هدوء نُصير وهو يحدق فيه مليًا
لأول مره يشعر أنه لا يفهم نُصير، لا يفهم ما يفعله او ما يدور في عقله.. نظراته غامضة وأفعاله منغلقة لا تُشير لأي شيء
-(لمَ تفعل هذا كله يا نُصير، خاصة وأنت المُكلف بإعادة الطفل لعائلتك.. أنت أيضًا تضررت مما فعلته والدتها وعمتها..حتى أمر عمتها شمس و...)

قاطعه نُصير بملامح منغلقة وعيون جامدة ترفض البوح والوضوح...
-(أغلق حديثك يا عبدالعزيز )

-(إذًا أخبرني لمَ تفعل هذا فجأة)

ساد صمت ثقيل حتى ظن عبدالعزيز أنه لن يتلفى اجابة شافية ترضي فضوله وعقله.. ولكن كما العادة، نُصير يخلف توقعاته.. فوجده يضع أحد كفيه في جيب سترته وعينيه معلقة على مـرام التي كانت غارقة في شرودها الحزين

فخرج صوته محملا بسخرية مخلوطة بشرود ورواسب حدة لا يدري لها سبب...
( لا أدري يا عبدالعزيز، شيء ما داخـلي يدفعني لحمايتـها ونـزع الشـوك عن جلدها الناعم.. وصـوت عـقلي يُـحدثني سـاخـرًا، مـا شأنـك أنت بها وبأشـواكها، ما شأنـك بـحمايتـها وأنت تهديدها الأكـبر وهي هلاكـك لو تمردتَ... ما شأنك إن كانت أرضها متساوية أو طُرقها مـتعرجة.. وهل يأبه قاطع الأشـجار بسقـوط أوراقـهـا !؟)

تنهيدة ثقيلة خرجت من فم عبدالعزيز وهو يغمغم بوجوم ويربت على كتفه...
-(هم عائلتك يا نُصير وأنت أيضًا نلت من الظلم ما يكفي، ولكنها أيضًا لا ذنب لها.. لا ادري أتكرهها أم تشفق عليها أنا أشعر بحيرتك)

صدح صوت ساخر في نفس نُصير وهو يلقي نظرة واجمةx جمعت رواسب شعوره وغضبه وشفقته على مـرام ومنها ويغمغم في نفسه...
-(ليتها حيرة ياعبدالعزيز، ليتها حيرة)

كانت رحلة العودة لشقته في المدينة سريعة وغير شاقة، فقد استغرقت مرام في النوم وبين أحضانها براء، وكذالك فاتن التي كانت مرهقة بالقدر الذي يجعلها تقضي الرحلة في نومٍ طويل.

أما نُصير فكان شارد الذهن يرتب خطواته بهدوء وتريث كما اعتاد.. وفجأة وجد نفسه مسؤول عن حماية امرأة وطفلها من نفسه ومن عائلته.. كان الوضع مُربك وغير مفهوم.

مرت الساعات سريعة ووصلوا للمدينة بعدما استقلوا السيارة متجهين نحو الشقة التي حوتهم قبل أيام
وفي مشهد قد تكرر سابقًا، كان نُصير يصحبهم للشقة، ولكن كانت هذه المره كانت مرام أكثر هدوء ولا تخشاه كما كانت قبل يومان، وكان هو أكثر شرود وصمت وقد نحى العبث والسخرية جانبًا

وفاتن في عالم أخر غارقة في شرودها الناعس وتتسائل في نفسها عن سبب تجاهل عبدالعزيز لها وكأنه لا يعرفها.
ثلاثتهم غارقين في أفكارهم الخاصة.. وقد بدى تغير بسيط في نفوسهم منذ أخر مره كانوا بها في ذات البناية

كان الوضع هادئ إلى أن فتح نُصير باب الشقة فتسمر محله وكذلك فاتن ومرام وهم يروا امرأة جميلة تنام على أريكته بكل راحة ورقة، وردائها المنزلي الناعم يشكل اغراء جبار مع ملامحها صارخة الجمال

فلتت شهقة مبهورة من فاتن التي تحدثت بغير تصديق..
-(الممثلة شهيـــرة)

شهقتها جعلت المرأة تستيقظ من غفوتها وهي تحدق فيهم دون استيعاب إلى أن توقفت نظراتها الناعس الجميلة على نُصير الذي حدق فيها بحاجب قد ارتفع ضيقًا وسخرية وهو يسمعها تهمس بصوتها الأنثوي المبحوح...
-(نُصير، لقد جئت يا حبيبي)
****

نهاية الفصل


وسام اسامة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-12-22, 07:23 AM   #9

سناء يافي

? العضوٌ??? » 497803
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 447
?  نُقآطِيْ » سناء يافي is on a distinguished road
افتراضي غصونك تزهر عشقا

رواية واضح انها حلوة وانا قرأت لكي كذا رواية وكانو كتير حلوين اول مرة اشوفك بالمنتدي الف مبروك وبداية موفقة وشكرا

سناء يافي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-12-22, 10:10 PM   #10

زهرورة
عضو ذهبي

? العضوٌ??? » 292265
?  التسِجيلٌ » Mar 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,283
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » زهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

مبروووك روايتك مشوقة وبداية قوية منتظرين الاحداث وايش راح يصير لمرام وهل حتنتصر على العيلة الظالمة ..

زهرورة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
رواية غصونك تُزهر عشقًا، وهي الجزء الأول من سلسلة لعنة تسمى العشق، وهي ملحمة درامية عاطفية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:42 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.