آخر 10 مشاركات
317 – صدى الذكريات - فانيسا جرانت - روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          فِتْنَة موريتي(103) للكاتبة:Katherine Garbera(الجزء2من سلسلة ميراث آل موريتي) كاملة (الكاتـب : Gege86 - )           »          العروس المنسية (16) للكاتبة: Michelle Reid *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          رواية كنتِ أنتِ.. وأنتِ لما تكوني أنتِ ما هو عادي *مكتملة* (الكاتـب : غِيْــمّ ~ - )           »          311- الميراث المتوحش - مارغريت بارغتير -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          468 - لهيب الظل - ريبيكا وينترز ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          جنون الرغبة (15) للكاتبة: Sarah Morgan *كاملة+روابط* (الكاتـب : مستكاوى - )           »          604 -الحب أولاً وأخيراً - ق.د.ن (الكاتـب : Just Faith - )           »          56 - لقاء فى الغروب - شريف شوقي (الكاتـب : MooNy87 - )           »          355 - ميراث العاشقين - كاى ثورب ( روايات أحلامي ) (الكاتـب : MooNy87 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

مشاهدة نتائج الإستطلاع: رأيك في الرواية يهمني
الرواية بشكل عام 0 0%
التناول 0 0%
اللغة 0 0%
الموضوع 0 0%
إستطلاع متعدد الإختيارات. المصوتون: 0. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-11-09, 02:55 AM   #1

السيد حنفي

? العضوٌ??? » 72242
?  التسِجيلٌ » Jan 2009
? مشَارَ?اتْي » 3
?  نُقآطِيْ » السيد حنفي is on a distinguished road
افتراضي { اللعنة } يعزفها السيد حنفي


اللـــعــــــــنــة






يعزفها
الـســــــيد حنـفـي









سيدة الضياء
هل أستطيع أن أواجه عينيك لأتلو عليك كلماتي
أم أتوارى خجلا من قسوة أيامي



الكل آيل إلى الدمار
إن ما يروى لك هو الباطل
فالبلاد تشتعل, والناس قد هلكوا


لديك وحي وبصيرة



وأسباب العدالة



لكنك بعثت الفوضى في البلاد

مع الفتن..
وليتك تذوقت بعض هذه المصائب..
إذن لقصصت خبرها بنفسك..


( آبي أور )

حكيم فرعوني
















في البدء كانت الكلمة التي أوجدت..

ثم كانت الكلمة التي جعلت لكل شئ نقيضه
ثم كنت أنا..
أنا المستحيل..
أنا الشيء
ونقيضه







في البدء رأيت الجبل وقد نبتت له يد فصافحني, ثم انتزع حجرا من تكوينه, وطلب مني أن أكتب عليه قصة, أو أنقشه زخرفا, أو أعزفه لحنا, أو أعيد تشكيله بما أحمل من رؤى..

حملته على ظهري دهرا.. نقشت عليه كل الأفكار, والفلسفات, والأديان, والعقائد التي تختلط في بلدتي بتناغم هستيري, عفن الرائحة..
ثم طفت الأرض.. شرقها وغربها, وكل جهاتها الأصلية, والفرعية.. مدنها, وقراها, شوارعها, وأزقتها.. قديم تاريخها, وعصورها البائدة, حاضرها وما يمثله, الآتي وما نجهله..
ضاع كل جهدي هباء, وأنا أبحث عن أي حقيقة أزين بها هذا الحجر, الذي اتخذ من السواد قتامته..
وكأن الحقيقة لفظ دال على غير مدلول..
أو كأن الأرض ابتلعت حقائقها كما ابتلعت طوفان نوح..
صار الحجر أكثر سوادا.. امتلأ بالشقوق والتجاويف, رعت عليه ال****ب, والأفاعي, والحرابي..
وحين وضعته في نهاية ترحالي, رأوه أهل البلدة.. أقسم حكماءهم أنه يمثل في تشكيله الأخير.. تاريخ الزيف الإنساني..
تقع هذه البلدة التي أوجدوا فيها جذوري منذ أمد بعيد, بين هذا الجبل الشاهق, الذي تنتهي عند حدوده دنيانا, وآخر معارفنا.. وبين بحر واسع المدى.. هائج تارة, ووديع أحيانا..
وتحت سماء لا تمطر إلا حين نبتهل إليها ونتوسل, ونذبح لها القرابين, وفوق أرض نستجدي الحياة فوقها.. فتقبلنا على الرغم منها..


***





في البدء حملتني أمي على كتفها, وليد لا يعي, ولا يكاد يبصر.. طافت بي حول شجرة عجوز, تقف واهنة بين البحر والجبل, وتسولت لي الحياة من بركتها..
وظلت طوال حياتها تعتقد أني ما عشت إلا ببركة هذه الشجرة.. وزرعت بداخلي حبها, وحب أغصانها, وأوراقها..
فقضيت أكثر أيامي جالسا تحت جذعها.. أتأمل البحر في صمته, وثورته, واضطرابه.. ناظرا إلى تلك السفن الماخرة في عبابه.. متعجب لهذا الرحيل المتواصل.. !



***

























اليوم عندما سافرت الشمس إلى مغيبها خلف الجبل, رأيت صخرة تنحدر من أعلاه بسرعة

هروب الزمن من بين أهداب الحياة..

تنحدر كدمعة تتساقط على خد امرأة عجوز, تبكي شبابا فر من بين أناملها, دون أن تحياه..
تنحدر, تتقاذفها نتوءات الجبل.. تتفتت جزيئاتها, انتهى كل شئ في لحظة.. ! ما أسرع نهاية الأشياء, ما أسرع أن يسود الصمت بعد الضجيج.. !
ويتوالى سقوط المرئيات من ذاكرتي, والتي كنت متيقنا من وجودها منذ لحظة.. !
فأتساءل عن حقيقة ما كان, وحقيقة ما هو كائن.. ؟ فيتشتت ذهني بين متناقضات الوجود القادرة على قتل أي وعي يتربص بها..
وكأن الحقيقة لفظ غير دال على أي مدلول..
أذكر أمي وهي تمسك كفي الصغير, وتعبر بي مسافات ما بين الشمس والقمر.. وتتوغل بي في بحار من رمال الصدقات, عبر مدارات مجهولة الهوية.. نبتاع من الألوان أنصافها, ونجلس تحت نصف ظل, نتقاسم جوعنا, ونبتسم للسماء التي تهطل علينا نصف الأسى..
والآن.. وبعد أن جمعت كل نصف من كل شئ.. تجتاحني الرغبة في تنظيفها, وإزالة ما تراكم عليها من ذكريات الألم, ولا أشعر أبدا أني فرغت من عملي, أو نظفت شيئا, أو محوت أي ذكرى لأي ألم.. بل تتشعب الآلام داخل نفسي, تنبت بتجويفي خواء هائل..
ويلفح الهواء وجهي كأنما يذكرني بوجوده.. فأرشه بقطرات الندى, تتساقط على الأرض, لتنبت تجويفا بحجم حياة أراها وقد فرغت من كل شئ, أتساءل عن وجودي.. لا أجدني, أهرول.. أهرول إلى غير هدف, وبدون جدوى.. حتى يسقطني الإعياء.. فأفقد كل نصف لكل شئ..
وأبحث عن يد أمي.. أريد أن يمتزج عرق كفي بكفها..
ولأن أمي تحمل الهم بيد, ويدها الأخرى تتسول بها عطف الحياة.. فلا أجد غير ثيابها البالية أتشبث بها..
وتجرجرني الحياة على أرض لا أسمع فيها غير الفحيح, والنعيب.. أسجد تقربا لإله الخوف.. أتمتم صلوات الارتجاف.. يغشاني النعاس.. فأحلم بكف الحبيبة تمسح دمعتي..
أشعر باحتياجي إلى حب لم أتذوقه.. لكني أتوهمه جيدا.. أحلم أن أضع رأسي على صدر دافئ, واستمتع بموسيقى كلمة حب تتراقص بين الشفاه.. أحلم بأمل تكتمل له معاني الجمال.. أحلم بتقهقر الخوف, بكينونتي تتحقق وقد نبت لي ظلا كامل, أحلم أن أحتويها بصدر طال افتقاره إليها, أحتضنها بكل ما مضى من زمني, أعتصرها بين أضلعي, أدخلها تجويفي.. وتنهال مشاعر الهوى تغلفها أحاسيس الدفء, يسمو خيالي إلى ما بعد الأفق..
وكأني أسمعها تغني.. !
صدى صوتها يرسل إلى النفس طرب الأمل, وجمال الألوان.. جبت الشاطئ والحياة آلاف المرات.. لم أجدها, ولم أدر من أين يأتي صوتها..
من فوق سماء الجمال ؟ أم من باطن خضم بحر البهاء.. ؟
يتناغم صوتها مع صوت ارتطام الأمواج برمال الشاطئ.. تتراقص أحجار الجبل.. وتهتز بانتشاء أغصان شجرتي, وتشب الأمواج متطلعة تبحث معي عن مصدر هذا الصوت.. هذا الحب..
الحب.. ؟
أي سحر تحمله هذه المفردة.. ؟
لكنك نسيت الحب من زمن.. ألقيت به بين أفخاذ العاهرات, وأحضان المومسات..
نعم.. لكن هذا الشجن المعطر بسحر صوتها, يعود بي إلى زمن الطهر, والأماني التي بعثرتها الأيام..
يتهادى صوتها, وكأنه يخرج من تجويفي.. تهتز له كل المعاني الجميلة المتبقية من صفة الإنسان الذي يسكنني قهرا, ويتوارى من قسوة زمن واسع الخطوات.. يهرول نحو هاوية مجهولة الأعماق..
جلست أسفل الشجرة.. تناولت أحد أغصانها.. أريد أن أشكل هذا الصوت.. هذا الشدو الهامس, المحمل بدفء الليالي الساهرات بتجويف زهرة تحت سنا البدر..
صوتها, ودلالات اليقين, وشفافية النفس التي لم تلوثها المعتقدات البالية الآخذة بناصيتنا رغم أنوفنا..
أشكل صوتها بجنون قلب قتله اليأس وهو يبحث عن حب يخترق برودة صدره..
أشكله ليلا طويلا.. قد تضيق به النفس حينا.. لكنه السامر الوحيد لغربة قلب يئن ألمه, ويشتكي وجع لمسات ضوء القمر..
ليل, وظلام مقيت.. ولا مفر من الركون إليه والاسترخاء فيه, وانتظار أول بزوغ لأول شعاع من أول شمس..
صوتها ميلاد جديد..
وكأني أسمعها تغني.. وما رأيتها, وما عرفتها, وما وجدتها.. ولكني سمعتها تغني.. فأسقط ساجدا في محراب لهوى مقدس.. أهمس لفضاء مقبل من أعلى الجبل, مسرعا يعتلي أمواج البحر, ويسترسل مع النظر إلى نهاية امتداد الأفق, ليرافق برعما وليد يغني للعشق لحن الصفاء.. أهمس..
- أحبك.. أ حـ بـ ك..........
يسخر مني الجبل, ويلقي على وجهي ترابا مخلوط بمياه البحر, الذي يقهقه من سذاجتي, ويشفق من مغبة خداعي..أصطبغ بالطين, وينغمس في الوحل صدى همسي.. تواسيني شجرتي.. أتناول الناي.. أبثه وحدتي وشجني, وجع غربة تسري في عروقي منذ زمن الأفول,
يتعالى شدوها, يسلبني ذكرى الأيام العفنة.. يرسم على الطين المصطبغ به وجهي قلبا مشطور, بين شطريه قلب صغير ينمو على صوت الموسيقى, ويملأه أمل للشوق, ورغبة للنقاء والتطهر.. قلب صغير يتولد من رهبة الفناء..
يمتزج صوتها مع شدو الناي..
يجذبني صوت البحر, يحتويني زبده بدفء ليالي الوصال, وتأخذني أمواجه إلى مكامن لضوء وردي..
يلمح الجبل دموعا تتوق لحب صادق, فيوسدني أحجاره الناعمة, ويسكنني كهف الضياء, وتتصارع الأماني الجميلة مع ذكريات أمس غافلني, وفر إلى مجهول يترقبني دوما, ليسلب مني آخر أحلام الهوى..
وألمح ثوبا كضوء النهار, يشع وردا, وألوان طيف ربيعي الرائحة.. يحثني الجبل على الاقتراب منه.. تهديني الأمواج زهرة بلون القلب المحمل بمشاعر الحب الصادق..
تهمس شجرتي بالدعاء..
اقتربت, وبلهفة الاحتواء ضممتها..
لم أجد على صدري سوى خرقة بالية.. تلونت بصوت الناي, أرسلها النهار ساخرا.......
وألمح على البعد اله الفناء يشير إلى ساعته, يخبرني بأن ما بقي من وجودي سوى لحظات.. أتمتم..
- حمدا أنك وهما.. حمدا أنك سراب..
وأستيقظ على همس لا أدري من أين يأتي..
- أيها البعيد إني أرقبك...
وكل ما يتسرب من بين أنامل الدهر العجوز, يتشكل بغايا تنخر عظام الأرض التي لا أدري كيف تستقر عليها قدمي..
- أيها البعيد إني أرقبك...
وكل ما يتساقط من شعيرات الحياة المسرعة خطاها إلى ما لا نهاية, يتحول إلى كوارث لا أستطيع أن أحملها في قلب يئن شوقا إلى متعة الحب وعذاب الهجر..
- أيها البعيد أني...........
- أيتها البعيدة أنى أيضا أرقبك..
ويرقبنا زمن تضيع بين مسافاته أمانينا, ويسقط من حسابات الأفلاك عمرا من ألم الترقب, وذكرى الآلام القديمة التي تطل من شرفات أيام تهرول إلى الفناء..
فانتشليني... إني أغرق في ذات تكويني, أغوص في ظلام نفسي, أتخبط بين حروف كلمة حب.. وأبحث عنك بين أطلال زمن مفقود, فأسقط بين دفتي تاريخ عفن, أقسمت يوما أن أدفنه بين طيات حروف مزركشة بالبؤس..
وتطلين من بين غمام الماضي..
أنت.. نعم أنت..
ثمة شئ توهمته عنك يوما.. شئ أجهل تكوينه البدائي..
شئ يطغى بخفقات دافئة كالموسيقى الحالمة, المنبعثة من شجن الناي, كأنه يلفنا بحنينه ورائحة الورد المتغلغلة بين جدائل أيام يعبقها هذا الضوء الوردي..
كنت أنا.. وتوهمتك أنت..
سأشكلك من خيال يمتزج برهافة الناي, وضوء القمر, وإيقاع الطبل, وألوان الطيف, وزخرفة أجنحة الفراشات..
سأخلق لك وجودا.. أشكله على أرض معلقة وسط فضاء غير محدود, وسننطلق وسط الأرجاء نعبث بالنسائم, ونغني الهوى تراتيل, ونقسم أحلامنا بين هوى نتوهمه, وحب نأمل له اكتمال التكوين..
ويختلس الزمان من العمر أكثره.. وتصير خطواتنا لها حسابات القيود..
نمعن النظر في المصير.. يلفنا الذبول.. نشعر بإرهاق اللحظات المتجولة في مدن التاريخ القديم.. نبحث عن لحظة صدق في حياة الزيف التي نعيشها بين الأماني والآمال, وجنون الرغبة, وحروف الشبق الغريزي, ولمسة المتعة المحرمة..
الحب وهم..ولكني سأشكل من الوهم حبا.. وسنعشق وهمنا, وستطأ أقدام الزمان رؤوسنا, وصدورنا, وستنطلق في السماء أفكارنا, وآمالنا, وأوهامنا, لتصير نجوما.. ينظر إليها عاشقان صغيران يحلمان بالهوى, يعيشان نفس الخداع, في وهم اللحظات المكبلة بالسراب..
لتظل الحقيقة مجرد لفظ.... لفظ مجرد............
وأنظر إلى الجبل الصامد أمام وجه الزمن المتقلب.. أجلس على أحجاره المستكينة في صمت.. وأتأمل البحر, أحاول اختراق أسراره بنظرات ترتد سريعا عند الاصطدام بأول موجة تضطرب على سطحه..
وهذا الخواء الذي يعم حياتي.. خواء بحجم هواء الكون..
وحين يبلغ الإرهاق مداه.. أستند على جزع شجرتي العجوز..
كثيرة فروعها, وكثير ما وهبتني من أغصانها ما أصنع منه تماثيل, دمى, آمال, أحلام, مشاعر, آلام..
وكأن هذه الشجرة التي باركتني وليدا, قد احتفظت بأغصانها لأعيد تشكيلها بكف رأى إرهاق الزمن وهو يتجول بين تجاعيد وجه صبي, لم ير من الحياة غير وجوه المتسولات, وأيدي المحسنين, ووجه أبي..
ذلك الوجه الذي يهطل ذكاء مر.. وقدرة فائقة على الخداع.. تتصارع على وجهه ملامح الطيبة مختلطة بجبروت السلطة.. فلا يملك من يراه إلا أن يحبه حتى الوله..
وأن يخشاه حتى الموت..
***






جاءت نجلاء.. فتاة لم أجد مفرا من أن أخلق لها في قلبي مكانا تستقر فيه, بعد أن دب اليأس في وجداني من العثور على حب أتخيله, ولا أجده....
- أتمكث هنا والقوم يستعدون لحفل السمر.. ؟
- كنت أنتظر غروب الشمس...........
- أعرف.. وبعد أن تغرب الشمس, تصعد إلى الربوة أعلىالجبل, ولا يراك أحد إلا وأنت تهبط في الصباح..
داعبت الدمى التي صنعتها اليوم من أغصان شجرتي.. قالت..
- أرني ماذا صنعت اليوم.. ؟
أعطيتها الدمى, نهضت متوجها إلى مكان السمر بجوار النهر, ونجلاء تسيرخلفي, تقلب الدمى باندهاش, لا تكاد تعي لها معنى..
رجال البلدة يلتفون حول جزع شجرة كبير, ملقى وسط كان متسع, أعدوه من زمن بعيد للسمر كل ليلة.. أوقدوا فيه النار, بينما جاءت النساء بالصواني الكبيرة على رؤوسهن, جلسن خلف الرجال..
كالعادة بدأت الأصوات همهمة. ثم تصاعدت إلى خليط من الضحكات, وصرخات الأبناء, ونقاش الرجال, و....و...... و....
ساد الصمت حين رأوا أبي والشيخ الطيالسي, مقبلان ليأخذا مكان الصدارة..
ويبدأ الحفل برقصة سعدية ( عاهرة البلدة ) كما تسميها أمي..
تدق الطبول تلهفا لاحتواء التواءات جسد سعدية, تطلع العيون إلى عريها الفاضح.. يقهقه أبي منتشيا, بينما تعلو لعنات النساء على الرجال الذين لا يغضون أبصارهم.. وعلى سعدية التي تستولي على ألباب الرجال بعريها..
وأنا أتحين الفرصة للصعود إلى ربوتي.. تلك الربوة التي لم يطأها أحد قبلي.. وكلما هجع السمار إلى مساكنهم, أصعد فوقها.. أتنسم الهواء المحمل برائحة اليود, وأزهو برأسي وهي تتوسط النجوم, وتسمو فوق ضباب الحياة..
وفي كل ليلة آخذ معي أجمل دمية صنعتها من أغصان الشجرة, أو من طمي النهر, وأصعد فوق ربوتي, أضعها فوق نجم من نجومي, وأطلق على النجم الاسم الذي اخترته لدميتي, وما أن أهبط في الصباح حتى أكون قد نسيت اسم الدمية, واسم النجم ومكانه..
فأهرع إلى شاطئ النهر, لأزاول عملي ثانية..
صنع دمية لكل نجم
بعد أن انتهت سعدية من رقصتها, أشار لي أبي.. تقدمت منه ببطء يمتزج بالخوف والرهبة..جلست بين يديه.. أمرني أن أقبل يد الشيخ الطيالسي.. قبلتها مرغما.. قال أبي..
- إياك أن تصعد فوق الربوة بعد الآن.. فقد سكنتها امرأة من نساء الجان, إن صعدت إليها ستفقدك عقلك..
- لا يا أبي أنني قد.............
- اسكت عن هذا الحديث وإلا........
خفت أن يلطمني فيؤلمني..والشيخ الطيالسي يلوك قطع اللحم بشراهة الكلاب الجائعة, ويرمقني بنظرات حادة..
تراجعت, جلست بين أخي ( على ) وأمي.. ونجلاء تنظر نحوي, تريد أن تستطلع الأمر.. انهمرت دموعي. ارتميت في حضن أمي أبكي..
- إنها ربوتي يا أمي.. إني أصنع الدمى للنجوم التي تعلوها, وأتوسد ثراها, وأحلم بما أشتهي.. وهذه المرأة التي يحكي عنها أبي قد خلقتها أنا.. دمية شكلتها من نسيم البحر, وضوء البدر.. كيف تحرمونني من حياة شكلتها لنفسي كما أريد.. لمن إذن سأصنع الدمى بعد الآن.. وأين سأحلم.. ؟
جرجرت آلامي إلى شاطئ النهر.. تبعني أخي وتوأمي ( على )
***







ثقيل هذا المساء الذي يعبر فوق رؤوسنا, وينهش الفراغ..
الرياح تتبعثر في كل اتجاه, تقتنص اللحظة, تجرجر من الذاكرة أحلاما متعثرة.. أصغى للفراغ المنساب نحو الصمت, أتعثر في حمى الحلم, أقابل ذاكرتي في مكان منعزل, تحت انهمار الضوء, أرى الحبيبة التي شكلتها من خيالي, وبكل مشاعري, تسير عند حافة البحر, تعدو الرياح بين أناملها, تحدق بإمعان في بئر الرغبات, وهلوسة الرعب..
يعلو الدخان فوق النجوم, يمتلئ جسدي ببؤس الصرخات, يتمدد بين الأشياء المهجورة, وبين جمرات النار.. تحترق صرخته حتى الرماد, يتفصد منه عرق الانقسام.. جزء منه يتوارى في الظلام, وجزء يعيش الحياة ارتعاشا.. وهي تنام تحت الغمام, تستيقظ في السكون, تتعمق نظراتها في الظلام..
ترتبك المشاعر داخل تجويفي الممتلئ فراغا, تتقهقر الأصوات, تخفت الكلمات.. كل الأجوبة ليست بداخلي, والأسئلة فرت من أحشائي, والسماء تتحدث لغة مبهمة.. فتتصارع الخطوط على كفي.. ترسم لنا لقاء بعد الموت..
تحلم عيناها بالنهاية..
أخبئ حزني بين حروف كتاب لن أقرأه, أفتش عن القمر, تزاحمني الظلال.. أهوى إلى قاع الذاكرة.. أبحث عنها, وعن القمر.........
وكأنها قد لملمت كل أشيائها من أمام ناظري, ومن داخل قلبي, ورحلت.....
ما عدت أذكر الأماكن التي كنا سنرتادها... ما عدت أذكر الكلمات التي كنا سنقولها, رائحتها, قبلتها, لون عينيها, اسمها.. من هي.. كيف شكلتها ؟ أين ذهبت؟ لماذا رحلت ؟
لا أذكر سوى ذلك الظل الأسود المرسوم بعناية على وجه قمر ينتظر الأفول..
***





انتبهت إلى صوت علي وهو يهزني ويصيح..
- انظر.. انظر......
ويشير إلى الربوة.. رأيت شبح امرأة يتوهج بضياء كثير الألوان.. يبني حجرة صغيرة, بعد برهة, اختفى الضياء داخل الحجرة التي شيدتها المرأة, واحتلت بها ربوتي.. هتف أخي بخوف..
- أتصدق الآن أن الربوة مسكونة بالجان.. ؟
- ..........................................
- أنظر كيف تلوح للنجوم, وتمارس سحرها.. ؟
- إنها تريد أن تسرق نجومي كما سرقت ربوتي..
- لقد سمعت الشيخ الطيالسي يحكي لأبي عنها، ويقول إن عندها كلابا شرسة تقتل من يقترب منها, وصقرا يفقأ عين من يحاول أن يقترب منها..
- لكن يا علي.. هل يستطيع الجان أن يتشكل بكل هذا الضياء الجميل.. لا أدري يا علي.. ؟ كما لا أدري على أي نجم سأضع الدمى التيأشكلها.. ولا أدري أين سأحلم بعد الآن..
تركته.. أسرعت إلى شجرتي.. ناداني الجبل.. توسدت أحجاره.. غفوت.. ؟ كلا لم أغفو.. لكني رأيتها تشير إلى حلقة المجذوبين الذين يلتفون حول شجرتي, يمارسون طقوسهم الراقصة..
ارتديت وجهي, تفحصت ملامحهم, اخترت من الفضاء مساحة للركض.. نظرت إلى كم الضياء المنبثق من وجهها..
أقايض عمري بمصاهرة النجوم بين عينيك..
يتفجر الليل رؤى, تشتد الرغبة في البوح, أمد أشرعة الحنين, أتلمس الوجع, أجالس انهياري خاشعا.. تتمزق خيوط الفكر تحت جناح الليل..
الرقصة اليوم صوفية....
الدف يراقص المريدين على مشارف المدن المستحيلة, يشتد الوجد, يتمسحون بأعتاب الغوث.. تتجلى الحروف بلغة العارفين.. يفيض الحنين..
يذكرونه, أذكرك, يرتلون أوردة الحنين للوصال, يدخلون في فيض التوحد..
أنشدك أغنية تتوهج حثيثا..
والناي يبارك الكلمات, يلامس الليل.. يصعد الجميع إلى السماء رقصا, وأغوص أنا بين ذكراك وصلا..
على باب الديوان السماوي, يصطفي الراقصين بالفيض النوراني, يبارك الدفوف والمزامير, وأصطلي أنا والناي بالصد العظيم..
تتأجج البدايات بلهيب الانتهاء المحتوم..أداعب الوقت بنغم الناي, وأبسط التراجع وسط محاولات التردد.. أعيش متنقلا بين ذاكرتين,الأولى تمتد في جذور طينية الملامح, والأخرى تشكل ضياء يخبو رويدا.. رويدا.. في ثقوب اللمس..
يتقدم الولي بالإشارات, يصنع وشما للمشاهدات تحت الجلد المطحون بترددات الرحيل..
سماع المراثي فوق الجبين يحاور قلق الحفيف, يتسرب نبع الرؤى من تحت أقدام المجذوبين, تنزاح الحكايا من عرق التشهي.. أسقط بين الفقد والمجاهدة, وبين الصدر والساقين يتجمع العري في كأس هزيل..
ابن الفارض, يسقيني خمره الإلهية.. أتجرع من العمر نهاياته.. تتراقص جموع المريدين على سماع القوال ومغازلات التشوق, ومكابدات الانتظار.. تهتز المعرفة القلبية, وأنوار الشموع.. أفر من تحت جلدي, أحفر من ملامحي التفاتة أخيرة للمعاني الخفية.. أرى النجوم شمعة, أرى وجهي شاهد قبر.. يصرخ الحلاج أنا الحق أرتل من الطقوس ألحانا للخصوبة, أطير محموما في أفق ديوان الأقطاب.. تتلقفني النجوم كالبكاء, تلقيني كالندى عار من الألوان..
تقتلني ذكرى الميلاد.. أجاهد لإخفاء ملامحي.. للشموع لهيب فرح, للشموع لهيب حرق..
أتوزع بين ابتسامة شكر, وبين دموع الأولياء الراقصين على أنوار الدفوف, ورنين الصاجات..
***








اخترقت أشعة الشمس ضبابية حلمي.. فر ليلي مذعورا إلى غير اتجاه..
جلست عند حافة البحر أداعب المياه بقدمي.. عصفور جميل فوق الربوة يغني.. حين نظرت إليه وابتسمت, حط على كتفي وقبل خدي, عاد ثانية إلى الربوة, صنع له أيكا, أسدل على بابه ريشة, ظل يغني, أومأت له برأسي..
- إلى اللقاء..
رجال البلدة ركبوا القوارب, وأبحروا للصيد.. نصف نساء البلدة نزحن للتسول من المدن المجاورة, نصفهن الآخر جلسن عند حافة النهر يغسلن الهموم, وصواني الأمس..
جلست عند الصخرة الكبيرة, التي تفصل بين دارنا ودار نجلاء..
نجلاء ذات العينين السوداويين, والوجه المنير, وبسمة الضياء.. حين جلست جواري قالت..
- بالأمس حلمت بك.. كأنك تطير مخترقا سحب التوهم, وحجب السماء, وبجوارك نجمة شديدة الضياء, ناعمة الملمس.. تجفل منك أن نظرت إليها, وتكاد أن تحرقك إن اقتربت منها..
في عيني نجلاء مزارع غريبة تنبت الأمل, وبين ذراعيها دفء الرحم.. أنهل من بين شفتيها ترياق الحياة.. نهضت..
- إلى أين أنت ذاهب.. ؟
- إلى شجرتي.. سأشكل من غصنها دمية جديدة.. لنجم جديدا..
- أريد أن أسمعك تشدو بالناي..
- في المساء يا نجلاء.. في المساء..
- أحبك.......
أرسلت لها قبلة هوائية, واتخذت مساري إلى ما بين البحر والجبل, حيث تقف شجرتي..
أشعة الشمس تمنع عيني من رؤية ربوتي.. سمعت العصفور يغني داخل أيكه, ابتسمت وهززت رأسي..
أمسكت غصنا من شجرتي.. سأشكل منه وجه أمي.. طرحتها السوداء, ملامح الانكسار مع تجاعيد الزمن تشكل صورة حقيقية للشقاء..
حين كنت وليدا ملفوف في أثمالي البالية, كانت تأخذني على كتفها, وتهبط بي إلى المدن المجاورة, لم تكن بحاجة لصناعة الدموع, ولا لأن تغطي وجهها بمسحة من الحزن المزين بآثار البؤس والفقر.. فقد كان يميزها عن باقي نساء البلدة ذلك الوجه الذي يحمل كل دلالات وأدوات مهنة التسول, وأبدا ما علمتني أمي أن أفتح كفي لإحسان العابرين, وكانت تقول لي:
- إن كفاك مرآة لما ترى وما تعي.. فلا يجب أن تخضعهما لغير ذلك..
فأحببت أن أنظر إلى كفي دوما, وتعلمت كيف أشكل الدمى من طمي النهر, ومن أغصان الشجرة وجذوعها, وأخلط الألوان لأرسم حياة أعيشها, أو حياة أبتغيها.. وصوت الناي يتغلغل في تشكيلاتي, يظلل رسما لا أعرف ملامحه, وجه يطغى على ذاكرتي, لا أستطيع تحديد تكويناته.. أشكله ضوء يختلط بترنيمات الناي..
***
















مالت أشعة الشمس إلى اللون الذهبي.. عاد الرجال من رحلتهم ليفرغوا أحمالهم.. النساء تحوطهم, الفرح يكسو الوجوه المتطلعة إلى ما تحمله القوارب.. وأنا أرقب سمكة صغيرة ملقاة على الأرض, لا يلتفت إليها أحد وهي تلفظ آخر أنفاسها، داستها الأقدام بلا مبالاة..
لماذا يقتلون الأسماك.. ؟
أخي علي يناديني, وضع على ظهري جوالا ملئ بجثث الأسماك.. أمرني بالذهاب إلى الدار.. حملي ثقيل.. قابلتني نجلاء حملت عني الجوال.. سرت جوارها.. سألتها..
- لماذا يقتلون الأسماك.. ؟
- كي نعيش..
- ولماذا نعيش.. ؟
- كي نقتل الأسماك..
ضحكت. أشرق وجهها بخليط عجيب من الجمال والبهاء.. سألتني عن الدمية التي صنعتها.. لفني الصمت, نظرت إلى الربوة.. اختفى شبح امرأة الأمس, والحجرة التي شيدتها..
- سأصعد فوق الربوة الآن..
- لا, أخاف عليك من امرأة الجان.. تسلبك عقلك..
- سأصعد قبل أن تأتي هي..
تركتها, عدوت أتسلق الجبل.. جلست في مأمني فوق ربوتي.. لم أجد للمرأة أثرا, ولا للحجرة التي شيدتها بالأمس.. قبعت أداعب الدمى التي صنعتها, وأنتظر قدوم الليل, وبزوغ نجومي, لأهدي كل نجم دمية..
***





حبست أنفاسي حين رأيت الشيخ الطيالسي, وامرأته يصعدان الجبل ليهبطا نحو البحيرة التي تقبع خلفنا.. !
على حافة البحيرة تضّجع نساء عازفات, تصدر من معازفهن موسيقى جنائزية, وعلى البعد منهن موقد كبير تتأجج فيه النيران, تضئ المكان بأسره..
خلف الموقد يقف حملة الجماجم, يرتدون ملابس حمراء, والجماجم ترتسم على صدورهم وظهورهم.. بأيديهم أوعية على هيئة جماجم, ومن خلفهم طائفة الكهان بأرديتهم السوداء, الموشاة بالذهب.. حالقون شعر رؤوسهم, وحواجبهم, ورموش أعينهم, بأيديهم المباخر.. ينشدون تراتيل مبهمة, يدورون حول دائرة مرسومة على الأرض, تتداخل فيها الألوان القاتمة, على هيئة مثلثات تتجمع رؤوسها عند منتصف الدائرة..
قرع شديد للطبول ينبعث من أرجاء الفضاء الممتد, يمتزج بموسيقى العازفات الجنائزية, والأشباح ترسم للمكان خلفية مفزعة..
في منتصف الدائرة ترقد طفلة صغيرة عارية الجسد.. القوم يتمايلون يمينا, يسارا ببطء..
تتداخل موسيقى العازفات مع الطبول بغير تنسيق, يزداد قرع الطبول, يزداد القوم تمايلا, يتقافزون في الهواء بشدة, تنبعث الصرخات من حناجر الرجال, تتضافر أصوات الموسيقى مع دوي الطبول وصرخات وصياح القوم..
مسخ شيطاني, حاد النظرات, له لحية مدببة, وقرون وأظلاف طويلة, وذيل أملس طويل مدبب الطرف, يمسك بيده شوكة أطول من قامته, ذات أطراف ثلاثة, شامخا رأسه المكلل بتاج تزينه رأس أفعى.. ذيله قائما كأنما يشير إلى السماء في تحد.. أطلق صيحة اهتزت لها الأرجاء, صمت على أثرها كل شئ..
الكهان واقفون رؤوسهم تتدلى على صدورهم, يتجمعون, يصنعون طريقا من أجسادهم التي رقدت على الأرض, يصل إلى منتصف الدائرة, حيث ترقد الطفلة الصغيرة عارية..
المسخ الشيطاني يقف عند أول الطريق المعبد بالبشر, يرفع كفيه حذو منكبيه, يقف على قدم واحدة, ثم يخطو على ظهور القوم, حتى يصل إلى منتصف الدائرة, يضع قدمه اليمنى على صدر الطفلة, يضغط بقوة, تنطلق صرخاتها في الفضاء الذي صار أكثر عتمة, يزأر.. ينهض القوم, يتحلقون في دائرة واسعة, يتقدم كبير الكهان.. رجل عملاق.. يركع أمام المسخ الشيطاني, الكهان وحملة الجماجم جلسوا على أيديهم..
كبير الكهان يحمل الطفلة على يديه, الشيطان يتناول سكينا مدلى من سروال الكاهن العملاق, يرشقه في قلب الطفلة, يندفع الدم عموديا, يتصل بالسماء.. تنجذب الطفلة لأعلى, حملة الجماجم يملأون أوعيتهم من دماء الطفلة التي اختفت في ظلمة السماء, يتجرعونه, يترنحون من أثر نشوة الشراب..
نظر الشيخ الطيالسي إلى امرأته, تحسس خديها, ضمها إلى صدره, همس لها..
- هؤلاء الكهان, وهذا المسخ الشيطاني المشوه, لو رأوا جمالك, وعرفوا أنك امرأتي سيقتلونني, ويستبقونك خليلة له.. لذا سنقول لهم إنك أختي.. إذا رضي عنا هذا الشيطان سيخلع علينا كنوزا لا حصر لها, سنملك الأرض وما عليها..
- ولكن هذا لا يرضي رب السماء.. !
- سنستغفره كالعادة فيما بعد.. المهم الآن وبشتى السبل أن نرضي رب هذا المكان.. هذا المسخ الذي يملك كل شئ..
- لكنه قتل الطفلة, تجرع دماءها.. انه لا يجفل من شئ..
- إن قتل الطفلة, وتلك المراسم التي رأيتينها, طقوسا خاصة بعيدهم.. فالليلة هي الليلة السوداء المقدسة عندهم, وفيها يستبيحون كل شئ, وفيها أيضا يجزل العطاء لمريديه.. لا تخافي, فأنا أعرف تماما ما سأفعله.. فقط قولي لهم أنك أختي..
- لكنه قزم مقزز, مسخ مشوه.. شيطان..
- وأنت فاتنة, وهذا ما يهم, أن يفتن هو بك, لا أن تفتني أنت به.. هيا.. هيا.. قبل أن ينتهوا من مراسمهم, وينفض السامر..
على باب غار يتوسط الجبل, رأى الشيخ رجلا يمسك كتابا بيده, ويضع نظارة سميكة على عينيه, يراقب ما يدور ويبتسم, ينظر إلى مراسم عبادة الشيطان, ويبتسم.. اقترب منه الشيخ, سأله:
- ماذا تفعل.. ؟
- ليس بأسوأ مما ستفعل..
لم تفارق الابتسامة وجه الرجل, اغتاظ الشيخ, دلف الرجل داخل الغار وهو يقهقه, أشار الشيخ لامرأته, واصل هبوطه إلى الوادي, وهي تتبعه..
الشيطان جالس على عرش بهيئة طاووس عائم فوق مياه البحيرة, أشار إلى كبير الكهان, اقترب, سجد تحت العرش طويلا حتى أذن له الشيطان بالحديث, قال بخشوع:
- فليأذن مولاي لأقدم بين يديه قرباني..
هز الشيطان قرنيه, استدار الكاهن, أشار بيده, هلت فتاة في مقتبل العمر, عارية تماما, تقدمت وجلة, سجدت تحت العرش, قال الكاهن تفاخرا:
- هذه يا مولاي فتاة بكر, في الرابعة عشر من عمرها, لم يمسها رجل من قبل, اسمح لي أن أقدم دماء بكارتها قربانا لجلالتكم..
انقلبت الفتاة على ظهرها, غمس الكاهن إصبعه في فرجها, انبجست الدماء, ملأ وعاء بشكل الجمجمة, قدمه للشيطان, احتساه متلذذا, ثم نظر إلى جسد الفتاة الغارقة في آلامها ودمائها, همس للكاهن:
- أشتاق لسماع موسيقى صراخها, تهفو روحي لرائحة الجسد المشوي, كما تعلم أن هذا أحب المشهيات إلى نفسي..
انحنى الكاهن بخشوع, أشار لمن خلفه, حملوا الفتاة, القوها في الموقد المتأجج, أطلقت صرخات تطلي الأفق بلون الفزع والألم, تصاعد الدخان من جسدها, صمتت صرخات الاحتراق, والشيطان يتشمم, يهز ذيله انتشاء..
عند سفح الجبل, الشيخ يحتضن امرأته, يطمئنها:
- ما ترينه لا يحدث لغير الفتيات البكرات, والأولاد المردة, والأطفال.. أما أنت سيكون لك شأن آخر, سترفلين في نعيم, ستملكين كل ما تبغين من نعيم الحياة, فقط لا تنسين, أنا أخوك, وأنت أختي.. هيا, هيا..
هبط الشيطان من على عرشه, اقترب من الموقد, بصق داخله, ازدادت النار اشتعالا, نهضت النساء العازفات, أحطن بالموقد, وبالشيطان, صدحت موسيقاهن, وارتفعت تراتيل الكهان, ثم تراقص الجميع بحركات مضطربة..
اخترق الشيخ وامرأته الجمع المتراقص, سجدا تحت قدمي الشيطان, أشار بيده, سكن الجميع, علت تمتمات الشيخ بالحمد والثناء, أمره الشيطان بالوقوف.. سأله:
- من أنت.. ؟
- أنا عبد يشتاق لتقبيل قدم مولاه, وهذه شقيقتي, ترغب في التطلع إلى محياك البهية..
امرأة الشيخ ترفع وجها مضطرب, الشيطان يطلق صفير الإعجاب, يهز ذيله منشيا..
- يا لك من فتنة رائعة, آه لو كنت بكرا..
التفت إلى كبير الكهان الذي اقترب منه خاضعا:
- أريد أن أختم مراسم هذا اليوم بهذا الجمال..
وأشار إلى امرأة الشيخ, حملها الكهان, نزعوا ما عليها من ثياب, وهي في استسلام الرعب, ونظراتها الهلعة تتوسل إلى الشيخ الذي غض طرفه عنها, ويتمتم بحمد الشيطان, الذي أخذ يلعق ذيله, ويهز قرنيه زهوا, ثم دنا منها, وأولج ذيله في فرجها.. أطلقت صرخات الألم, والشيطان يتأوه لذة, تغوص تأوهاته في صدرها كأسهم نارية, ينتشي, والشيخ ساجدا ما زال يتمتم بالحمد والثناء..
بعد برهة, نزع ذيله من فرجها, تركها في تأوهات الألم, جلس على عرشه منتشيا, هز قرنيه, نادى الشيخ الذي أتاه حبوا وركع تحت أقدام العرش..
- امرأتك عذبة, شهية..
- شقيقتي يا مولاي..
- يا ملعون.. أنا رب الدهاء والخداع, فهل تخدعني.. ؟ قل لي لماذا كذبت.. ؟
- الكذب يا مولاي فضيلة إنسانية, وهو تراث عظيم من ميراث الأجداد.. وكم من العظماء السابقين اتخذوا من الكذب سبيلا للسمو, وكمثل أحد الصالحين الذي ادعى أن زوجته هي أخته, وتزوجها أمام عينيه فرعون مصر, ووهبه الذهب والفضة والإماء والعبيد, فعلت أنا مثله.. أليس لنا في العارفين الأقدمين أسوة وقدوة يا مولاي..
ضحك الشيطان وهز ذيله حتى كاد أن يسقط من على عرشه, ثم قال:
- يا لك من ملعون.. والآن ماذا تريد.. ؟
- رضا مولاي..
- قد رضيت
- وإحسان مولاي..
- سأنصبك رئيسا على بلدتك, فتملك فيها كل شئ..
سجد الشيخ تحت قدميه, أشار الشيطان للمرأة أن تقترب, اقتربت وهي تلملم ما بقي على جسدها من ثياب.. قال لها:
- خذي شيخك الرئيس واغتسلا في بحيرتي المقدسة, ستكون لكما الغلبة دوما, ولن يستطيع أحد أن يمسكما بسوء أبدا..
بعد أن خرجا من البحيرة, تقدم منهما الكاهن الأكبر, أعطاهما أردية سوداء, أتما ارتدائها, تقدما من العرش, أشار الشيطان للكاهن, تقدم وخلفه رجلان, أحدهما يحمل تاجا مزينا بنجمة خماسية داخلها رأس كبش, وضعه على رأس المرأة, بينما أهداها الشيطان زهرة اللوتس الزرقاء, والرجل الآخر كان يحمل صولجانا ذهبيا, أعطاه للشيخ, وأهداه الشيطان صليبا مقلوبا.. وقال بعد أن هبط من على عرشه:
- ستكون أنت رئيس قومك.. بشر بطاعتي, وأنت ترتدي قناع الورع.. تحدث باسم الإله حتى يخشعوا, ثم تقتادهم رويدا, رويدا حتى يسجدوا لي.. كل الدماء مباحة, كل النساء سبايا, كل الأموال غنائم.. سيلتف حولك الكثيرون ممن يحبون ملأ ذواتهم وتضخيمها, أغدق عليهم أموالا, أحل لهم الأعراض, كن لهم دوما ملجأ ومأوى.. اجعل امرأتك لهم أرضا إن لزم الأمر, سأغدق عليكما بركاتي, وستدوم خيراتي ما دامت الألسن تلهث بالدعاء لي, والأعناق تنحني من خشيتي.. سأذلل لك طريق الحكم من حيث لا تدري.. لكن.. هناك ذلك الولد, عازف الناي الذي يصنع الدمى, هو معركتك الحقيقية.. فان الروح المتمردة التي تسكنه, وبحثه الدائم بين النجوم تارة, وفي التاريخ تارة, وتأملاته في ملامح القوم, وفي وجه السماء, ذلك يعطيه معرفة تشكل خطورة حقيقية على ملكك.. إن استطعت اقتله, قبل أن يقتلك..
- لمولاي الأمر من قبل ومن بعد..
أذن لهما الشيطان بالانصراف, تعالى صوت الشيخ بالأناشيد التي تمجده, سحب امرأته, صعدا الجبل, اقتربا من الغار, سمعا صوت الرجل ما زال يقهقه داخله..


***








من فوق ربوتي ذهلت لرؤية الصولجان بيد الشيخ, وتاج أنصار الشيطان على رأس امرأته.. !
كادت الرؤى أن تستغشى على ناظري.. هبطت من فوري حين رأيت مجموعة من مجاذيب الصوفية يتحلقون ليبدءوا رقصتهم..
الرقصة اليوم تختلس من الحضرة الصوفية رائحة حياة أخرى
السماء في متناول أيديهم, يتحولون إلى لون الفراشات, يعبرون من برزخ الذكريات, يعم المكان نور قدسي..
أطلق خلفي الصور القديمة, أختار لي اسما وهوية, أرتدي عمامة ولحية.. تتمرد بداخلي الأسئلة, أحجل فوق البلاد, أتأرجح بين مقابر الأشياء القديمة, أنفض عن وجهي آثار الخمر, وألوان الثياب البالية.. أجرجر قدمي في مهب الخطى باتجاه اليقين..
يبكي القلب وحدته, تسقط طفولتي بين جدران العزلة, وكؤوس النبيذ, ودخان السجائر.. أجمع أحزاني في سلة الهدوء, أصعد بين الذاكرين, يبتهلون إلى سلطان العاشقين, يرجونه أن يلغي ملامحي من مجالس الإنشاد, ومن ذاكرة المحبين..
تلفظني السماء, أهوى متخبطا بين المعاني الخفية, يخترقني سنا القمر, تحرقني الإشعاعات, تلطمني الدفوف, تسحقني أقدام الذاكرين, ينفيني ملوك الحضرة بين مقابر تنفر من ملامحي المطموسة..
متى يحين أوان التوحد
تعود المواقيت تميمة للتوحد على صدر الغوث, أحمل النجوى بين أضلع متكسرة, تضيق الليالي من مضاجعة السكارى, ورائحة الخمر..
أين صوت الناي, وهديل اليمام.. ؟
هل تنام الآلام والأوجاع على صوت الذاكرين, ودقات الدفوف.. ؟
أم تسكن الأسئلة في فيض فتوحات السماء.. ؟
أضنتني الرؤى, والعزف الموصول أضناني, هل أكف عن مداعبة أوتار الزمان؟ أم أكف عن عزف الناي ؟ أم أغض بصري لأرى ملامحك تتشكل جنينا داخل رحم أفكاري.. ؟
***
انتصف الليل بغتة, رام السكون.. بقيت وحدي والظلام أمام النهر الصغير.. امرأة الأمس تشيد حجرة على ربوتي ثانية ! امرأة من الجان هي كما يقولون, أم هي الوهم الذي شكلته من سنا القمر, ونغم الناي, وألوان الشفق, وأريج الزهور..؟ رأيتها تقتطف النجوم من نافذة حجرتها.. أسقطت الدمى التي كنت وضعتها فوق النجوم, هوت بجوار قدمي متكسرةباكية,مددت قدمي إلى مياه النهر السوداء, تجول بصري متحسرا بين أركان ربوتي, استقر على نافذة المرأة سارقة أنجمي, أمسكت الناي, عزفت على أشجان الليل, فقط لأواسي الدمى المتكسرة..
سمعت صوتا لموسيقى حالمة يتسلل من الربوة, وكأن صوتا هامسا يناديني.. !
نهضت, اتخذت طريقي صاعدا إلى ربوتي, وصوتها يدعوني, يهمس باسمي, تكاد نبضات قلبي أن تنغم أشعارا, وبدون وعي أو إرادة مني, أواصل الصعود مبهورا بصوتها الهامس كهدير أمواج الفرح..
على الربوة, طفت حول حجرتها أبحث عن باب لها.. لم أجد للحجرة بابا, وقد أوصدت نافذتها.. !!
وصوتها ما زال يناجي اسمي.. يتضافر همسها مع الموسيقى الحالمة المتسربة من حجرتها, تقترب منها النجوم وتتركني..
دققت برفق على جدران حجرتها.. سمعتها تضحك, كزهرة تتلوى انتشاء بين أحضان الربيع.. دققت ثانية.. همست:
- شيد لك حجرة في الجوار, نقتسم الربوة.. دع لي الغمام الأبيض, ولك النسيم, ودع للنجوم بيننا الاختيار..
أموت عشقا لهذا الصوت الساحر, ناديتها:
- أريد أن أراك..
- لقد راقبت خيالي وأنا أبني حجرتي, وغير متاح لك أو لغيرك أكثر من ذلك.. ولكني أخصك بالحديث لأني رأيتك كثيرا تصنع الدمى, وسمعتك كثيرا وأنت تعزف نغمات الناي..
- يقولون أن عندك كلاب شرسة تقتل من يقترب منك, وصقرا يفقأ عين من يحاول أن يراك..
- لا يوجد عندي سوى قطة.. تتوسد ذراعي حين أتوسد حلمي..
- أريد أن أراك..
- أنظر إلى النجوم.. توهمني هناك.. ثم احلم.. قد تجدني حلما لحب آفل, أو حلما لحضن دافئ.. تخيلني غدرا, انكسارا, وفاء, ابتساما.. أطلق العنان لخيالك, وبكفك المرآة شكل من إحساسك ومشاعرك معنى للحياة, وشكلني كما أردت أن تشكل الحب بالأمس.. شكلني.. حقيقة, وهما, خيالا, يقينا, مستحيلا.. شكلني بكل جمال الانطلاق, وبكل بشاعة القيود, بعبق الزهور, بصوت الناي, احلم أيها الفتى.. احلم..
تأملت الناي في يدي.. عزفت عليه لحنا للهوى.. قالت وكأنها تغنى للعشق:
- هناك.. فوق وجه الغمام, بجوار ذلك النجم المتطلع للانكسار, كنت أرسم بعضا من ملامحك, في طي علامة استفهام.. والبدر يسألني عن تلك الملامح الغير واضحة, لا أدري بما أجيبه.. والانتظار يقتل أجمل لحظاتي, لكني كنت على يقين أنك ستأتيني, على الرغم من أناملي العاجزة عن تشكيل كافة ملامحك.. وأسائل عنك الغمام السابح في سكونه, يداعبني بقطراته, يغسل وجهي من أمس تولى, وأبتهل للأقدار أن ترسلك لتشكلني وجودا, وكيانا.. لأعيشك.. أو ترسل حتى من يستطيع أن يشكل لي ملامحك على خدي, أو بين النجوم التي ترقبني طيلة ليلي.. ويسامرني القمر, أتوسل إليه أن يرسم لي تلك الملامح التي أعجز عن إيجادها, يواسيني عاجزا (تصوير الإحساس لا يستطيعه غير شاعر صادق, وفي تجوالي على مدار الزمان, رأيت الشعراء, ورأيت الصادقين, ودائما بينهم مسافة لا تسمح بالتلاقي ) ويلقي على وجهي ضياءه الفضي, يبهجني حينا, ثم أعود أترقب أن تأتيني, أن تلقاني, أن تشكلني.. بحثت عنك بين كل الألوان, ما وجدت لونا يشبهك.. لكني كنت أشعر بوجودك, وبأنك تبحث عني, وتريد أن تشكل من نغماتك وأغصانك ملامحي.. وأنا أبحث عنك بين مدارات الهوى حينا, وحينا بين الطرقات, وبين حروف كلمة حب صادقة..
اشتد غليان الهوى, أكاد أن أنفجر عشقا, هتفت:
- أريد أن أراك.. أريدك.. حقا أريدك......
- بل اقتنص لحظة صدق نعيشها مرة واحدة في عمر يذبل سريعا, وسريعا يأسره الفناء.. أنظر إلى النجوم, سترى فيضا من حب, ولهفة, وشوقا اختزنته طيلة عمري انتظارا لرؤياك............
صمتت, صمت الكون, انطلقت كالسهم في تجويف حلم رأيته يخطر على حافة السماء..
ربما رأيتك من قبل, أو تمنيت رؤياك, أو لمحت طرفا منك يتوارى ساعة الأصيل في ذيل شمس غاربة..
بحثت كثيرا عن امرأة يتسع صدرها لنبرات صوتي, باءت رحلتي بالفشل..
هل أنت من كنت أبحث عنها ؟ هل أنت حقا كيانا له وجود ؟ هل سنلتقي ؟ نعم.. أكيد سنلتقي, وسيفر كل منا إلى مخبأه, فأنت مرآة لي, وأنا مرآة لك, وما أقسى علينا أن نرى بشاعة حقيقتنا, وما أقسى أن لا نرى ذلك..
وسنلتقي.. وسيلعن كل منا تلك اللحظة التي آنس فيها لفكرة البحث عن معادل يرى فيه ذاته..
لا أدري.. إن تشكيل الحروف بطريقة التعبير عن ما يجول بالخاطر, أو ما يعتمل في القلب, تثير بداخلي تساؤلات عدة, وأكثر من علامة للتعجب..
فأنا لا أدري كيف تتحدثين, ماذا يدور بخلدك, بماذا تحلمين ؟ هل تعرفين لون عيني, طول قامتي, لون بشرتي ؟ قدرتي على الصمود تحت وطأة لمسة يدك لجسدي.. ؟
أنا لا أعرف لون عينيك ؟ ولا أعرف ما الذي جعل الربوة مكانا للتلاقي ؟
لا أعرف غير احتياجي لوجودك, ليس في حياتي, وقلبي وعقلي فقط.. ولكن في كينونتي, ووجودي.. ذلك الوجود المستحيل, الذي لن يتحقق, ولن أشعر به حتى أرى عينيك..
والآن.. أكاد أن أراك بصورة ضبابية, تمدين نحوي كفين متلاصقين, أضع وجهي بينهما, أبكي زمنا لم أعشه, ويمنعني كبرياء غبي, متأصل بين ثنايا جسدي الذي لم أألفه حتى الآن..
أراك ضبابية, قد تبعدين عن الحقيقة بمقدار وهم عشته دهرا, أراك.. أم لا أراك..؟
لقد فقدت القدرة على الإبصار, والإيحاء, والاستلهام.. فقدتك, وفي دروب النفس المعتمة, أجدك خلف باب حجري البناء, يذوب من تنهيدة قلب يائس, فتندك تحت حطامه أضلعي..
وأتلمسك.. أين أنت.. فقدتك... ؟
وأبحث...... عن أي شئ أبحث.. ؟عنك ؟ عني ؟ داخلي ؟ داخلك ؟
أبحث عن شئ أخاف أن أكشف هويته فيسحقني تحت أقدام من الرهبة, من الرغبة, من الموت الغبي الذي لا يخلف غير آهة ملتاعة, ونواحا يستطيل ليأخذ شكل شجرة وارفة, تظلل الحزن, نبت حياتنا, ثم نشعل فيه نيران مجالس السمر..
وآه.. آه.. آآآآآآآآآآآآآه
يا ليل طال واستطال في لجة بحر ثائر, يغمر النفس بأطياف من المنى المستحيلة.. كل ما تخبئ الأقدار لا يداني قلب امرأة تتخفى بثوب الوهم, وترتدي عذوبة السماء, ورقة الياسمين, ثم ترشق سهامها في قلب مبتلى, سجين أضلع متكسرة, لا يقوى على الفرار, أو الحياة المستحيلة..
لك الآن أن تغتالي كل الأحلام الوردية.. لا يهم.. فقد تحطمت من قبل على صخور المستحيل..
تعالي.. تعالي لنرقص رقصة صوفية فوق غبار الأوهام..
حين تتشابك الخطوط الأرضية, ينطرحون على الدفوف, تتدلى أرجلهم, تعابث الدقات الرتيبة..
أحمل أحلامي وصوت الناي..
تنير الشهب السماء, تصحو البيوت النائمة, ينزفون الحروف على الجدران, يطعمون الجرح برياح الجوع, يلهثون خلف صيد الكلمات في براري العشق..
أبحث عن النجوم لأستريح بين عينيك, وأغني للقمر, ينبض الموج, أذوب في أغاني البحر, والأوتار تضئ العمر, فأرقص مع الراقصين, وأذكرك مع الذاكرين..
أتناول الناي في هدأة الليل, أخاطب طيفك الساكن جزر الأفول, أكتب على جبينك أنشودة من أنين القناديل, تتجلى أنوار وجهك لجموع الذاكرين, تصافحين الضلوع, أنغمس في صدرك اسما, وحرفا, وأغنيات دفينة..
يعربد صدى دقات الدفوف في الأفق, تتبعثر أغاني العارفين, يستوضحون معنى الحرف, يصافحون النداء..
أفيق على حرق نغمات الناي, أرتمي على جدار المدى, أغزل من حروفك قصة, تحكي الزمان المنهزم فوق جثة الظلام..
تنطلق المنى بين دمدمات المنشدين, تخضب الليل بلهفة اللقاء, يرشفون ذاكرة الأيام, فتنفتح بوابات الوجد, وتتكبل ظلال البوح في دائرة الوهم, حتى ينسكب العطر في بحر الظمأ..
وأراك تراقصين وجها أشبه بوجهي, أتبعثر بين أغصان الحنين وليل الظنون, أتوه بين أقدام السنين, حتى تنام ارتجافاتي بين الشدو والأنين, لتشتهي اليقين في التماعات العيون..
تتوارى الأسرار في الصدور, تغوص النداءات في ماء وطين.. أرتكن في صمت إلى لحظات الوهم, يتردد صداك بين عمر رث وبين الموت, تتمزق آهاتك على أعتاب الوقت, أتجرد من حروفك المرمرية, أقفز في سراب عمر هش, ألملم أحلام المحال من فوق شمس تغفو, ومن خلف قمر يهوي الترحال..
تمزقني أضلع الصمت, تكبلني أصفاد الفجر, أتبخر في لون عينيك, وبين ثنايا حروفك..
تهزني أقدام الراقصين, يهزني الوجد..
***
وحدتي تمتطي نفسها, ليلي يبحث عن الحب.. وكلما نظرت إلى البحر تمنيت الرحيل, وكلما نظرت إلى السماء تمنيت السفر, وكلما نظرت إلى الربوة تمنيت أن أرى تلك المرأة, وكلما نظرت إلى نجلاء أرى الحب الذي لا يعرف سوى الارتواء, فتتصارع في نفسي مشاعر تهفو للسمو على حيوانية الجسد التي مللتها, واستسلم لها بضعف مقيت..
في مساء اليوم ضحكات السمار ترتفع كثيرا عن مستوى رؤوسهم, أمي تتوسط جلستها بين نجلاء وأمها, تربت على ظهر نجلاء بحنو, وتضاحك أمها..
الشيخ الطيالسي ينظر نحوي بعين ريب, وعين وعيد, ويلوك اللحم بشراهته المعهودة..
أخي على يلتهم جسد أم نجلاء..
وأنا أفر بعيني إلى الربوة, أراها تبني حجرتين, احداهما لها باب..
الشيخ الطيالسي يهمس في أذن أبي ويشير نحوي, أبي يصوب نظراته تجاهي, الغضب يكسو ملامحه, يناديني بصوته الجهوري, تتوقف دقات الطبلة, ورقصة سعدية, تهرول نحوه أمي, يدفعها بقوة, ترتمي على الأرض, أسعى إليه متخبطا في خطواتي.. يصرخ في وجهي:
- ألم أنذرك بعدم الصعود إلى الربوة.. ؟
أمي تنظر نحوي, تلطم خديها, نجلاء تتشبث بذراعي, تجذبني, تريد أن تفر بي.. لطمة أبي على وجهي تلقيني بين ذراعي نجلاء:
- آه يا نجلاء..........
أمي تولول:
- ابني سيجن.. عشقته الجنية واستلبت عقله..
ألعق دموع نجلاء, أذوب في رحيق من النشوة والألم.. أهرب من صفعات أبي المتوالية, إلى ربوتي..
صوت أمي يناديني.. لا يهم, وعيد أبي يحاصرني.. لا يهم, نظرات نجلاء ودموعها تطاردني, أتحسس آلامي وأهمس:
- آه يا نجلاء.. وجهي يؤلمني.. الصفعات تمزقني..
فوق الربوة جاءني صوتها همسا:
- قد أعددت لك حجرة بجوار حجرتي, ادخلها, ضمد آلامك, انظر إلى النجوم ومارس حلمك, وليتك تستطيع أن تشكل من النجوم أزهارا, أو قلوبا تمتلئ غراما, أو همسا حالما يحمل حروف الحب, ليتك تشكل من هذا الظلام ضياء ورديا نسكنه سويا, ونغني أنشودة للعشق..
قلت وأنا ما زلت أتحسس ألمي:
- آه يا حبيبة, لو تخلصت روحي من هذا الجسد الذي يشدها دائما إلى الأرض, بين هؤلاء البشر..
آه لو انطلقت هذه الروح لتعيش في رحابك, وتنعم بالحياة المطلقة بين ترددات أنفاسك لتشاركك الحلم, وتهدينها إلى عالم آخر, وزمن آخر, حتى إذا ما اكتملت المعاني التي تنشدينها, نبوح لفظ حب, ننعم بنظرة عشق, أو لمسة تشكل التاريخ البديل, وتصبغ الأيام بمزيج من اللون الوردي والأبيض..
يا حبيبة إني مثلك أحلم, وأنشد من الحب أطهره, وأنشد من الحب أكمله, وأنشدك أغنية.. أرتلها في صلوات عشقي, لعلني في نهاية الكون ألمح بريق عينيك يدعوني للإرتقاء فوق رغبات الجسد الممتلئ بشهوانية الحيوان الإنساني..
آه لو تعرفين عذاب الدموع وهي تترقرق على حواف العين, ثم تنزلق نيرانا تحرق كل ما يقابلها من تضاريس الوجه, وتتساقط على منابت الروح, تذيب القلب, وتشعل بغابات النفس تباريح الجوى, فأجدني وقد ضاقت بي الحياة, وصرت سجينا لأرض لا تعرف سوى الخوف, ولا تقبلني السماء بسفالة إنسانيتي, فأجثو على الأرض ألعن وجودي..
وأسمع لهاث قلبي المحتضر, وهو يترنم بأغنية الموت, ويعزف لحن الألم..
وأموت.. أموووت.. أموت كمدا داخل جسد لم يحن له أن يسمح لروحي بالتحرر..
في داخل الحجرة التي كانت قد أعدتها لي, وجدت نجمة واحدة ترقبني, وباقي النجوم ترقد بجوار نافذتها, وموسيقاها تعبئ فراغ الحياة حولنا.. تلمست زهرة بيضاء تنبت على مضجعي, تسللت نظراتي إلى الغمام المار تحت سمائنا, تضافرت آلامي وآمالي مع أحلامي.. ناديتها:
- يا أنت.. يا شئ لم أألفه.. خبريني بربك عن النجوم ما عادت تكترث بي..
- يا صانع الدمى, يا من شكلت بأناملي بعضا من ملامحك على صدر الغمام, يا من نقشت على كفيك أحلامي ودنياي, يا من كنت أنتظرك منذ زمن بدء الحلم.. أدعوك الآن لحلمك.. احلم تسمو, فتلملم النجوم بكفيك..
أغمضت عيني, تنفست بعمق, همست بالحلم:
إن تلاقينا, سواء بفعل القدر, أو نتيجة بحث كل منا عن معادل يرى فيه ذاته..
إن حدث وتلاقينا صدفة, وهذا جائز.. بموعد على غير اختيار أو توقع, وهذا جائز.. حينئذ هل ستعرفينني, وتعرفين إني ابحث عن كينونتي فيك, كما تبحثين أنت عن شئ أجهله, وربما تجهلينه أنت أيضا.. ؟
أنا لن أعرفك.. لأني وعلى الرغم من احتياجي إليك, ورغبتي في البوح بأشياء من عهد الصبا ماتت, وأشياء تلح على الذاكرة, أخشى أن تطفو فتقتل بداخلي آخر إحساس بجمال الزهرة, ونسمة الهواء, أكاد أخشى أن أعرفك.....
فأنت بالتأكيد ستعيدين ذكرى ألم ما نسيته أبدا, وأحاول دفنه تحت ركام النسيان.. وأنت تنبشين النسيان..
أنا لا أريدك.. على الرغم من بحثي الدءوب عنك..
لقد ظننت أني دفنت الهوى من زمن طويل, يوم شيعت جثمان أول حب, أول صدق, أول عاطفة اهتز لها وجداني, وتغلغلت في أحشائي..
أول من وهبتني ماء الحياة من شفتيها, وألبستني ثياب طهرها.. حتى إذا ما استجمعت الشوق بقلبي, رحلت, وضاعت كلماتي, وسارت حروفي على غير هدى, وتجاذبتني فنون الهوى الرخيص, في عالم لا يعرف عن الحب سوى الاشتهاء العفن..
- هل أحببتها حقا..
- أحببتها.. ؟ بكل ما خلق الله من حب أحببتها.. وها هي يداي تفتقدان ملمس شعرها, وها هو صدري يفتقر لاحتوائها..
وآه لو أجد الحروف القادرة على تشكيل لون عينيها, والآن.. وبعد رحيلها, أشعر بنيران الغربة تغتالني, وبرودة جسدي تخنق اشتياقي..
ليلنا الهادئ, موسيقى القبلات المنسابة من شفتينا, ابتساماتنا, نظراتنا, وآهة... آهة أطلقها الآن في ذكرى ألم الرحيل..
قالت لي يوما أنها ما عرفت لون عينيها إلا حين رأيتهما, وقالت أريد أن أغسل جوفك, سكبت في فمي حبا انهال من شفتيها, فسكنت آلام الزمن الغابر, وامتلأت شوقا وضياء, وحبا, وتطهرت من دناسة الماضي.. وقالت الآن سأغسل قدميك يا سيدي, وصبت عطرها, فأزاحت كل ما علق بخطواتي من ثرى الأيام الماضية.. وقالت هذه ثيابي, ارتديها فهي لك وجاء, ارتديتها, وحلقت بها في سماء النغم.. وقالت جوعان أنت, أطعمك قلبي فهو إلى جوفك يشتاق, التهمت من بين أناملها نغمات الناي.. حتى إذا ما شكلت مني إنسانا جديدا, رحلت.. وقفت على عتبات الرحيل أصرخ بكل ما أملك من حب, ومن ألم, خبريني بربك, هل كل من ذاق طعم الهوى, حتم عليه أن يتذوق طعم الفراق..
لم تجبني, ونسيت أن تلعق عيني حتى لا تدمع عند الفراق.. هرعت إلى شجرتي.. تأملت بحري, ذاك الذي صار بلا أسرار, بلا مياه, بدون شاطئ, حتى هجرته النوارس, لمحت على جزره نساء تنوح, وتلطمن رؤوسهن, وتشققن جيوبهن, وأنا أرقبهن من خلال دمعة تتوسل للانزلاق, وتخشى ابتلال أوراقي, وضياع حروف ترسم الهوى في نفس ضاقت بقيود الجسد, والأنوار الباهتة التي ترسم أشباحا يثير وجودها الكثير من مشاعر الخوف لاختراق حيز الكون, والفرار من كل شئ, إلى اللا شئ..
وتثور الرياح, كأنها تستاء لاستكانتي, ويهيل الجبل أتربته على رأسي, فأرتمي في حضن بحري.. تلفظني أمواجه على رمال كالجمرات..تنظر نحوي شجرتي باكية.. فأسير في الطرقات أجرجر هزيمة، وجرحا, وقلبا يتوق لعناق, ويهفو للامتلاء, ويأمل حتى للوهم..
وأتكور ملفوظا من الحياة, في حجرة لفظتها الدار إلى أقصاها, أتناول الناي, أنعي الجمال, والهوى..
وأذكرها, ويشتد بي الوجد حين أذكرها, وتصرعني الأماني, والأوهام, وذلك الحلم الذي تاه حين اعتلت الصواري أشرعة الرحيل, ولم تقل كلمة وداع, ولم يمهلها الرحيل أن تذرف دمعة للفراق..
كيف كنا..
كنا نمزق سكون الليل بهمسات رائعة الإيقاع..
شببنا سويا, أدركنا معا طور غليان المشاعر, وتدفق العواطف بلا حدود.. نهلنا من لذات الجسد حتى انتشينا, واستبحنا الارتواء..
أحببتها..
وطوفان المشاعر يجرفني إلى أرض النبت الأول, حيث أول لفظ حب أشرقت عليه الشمس, أول لمسة يد ترتجف لها الحياة, وأنهل من عطاياها لؤلؤة تفوح بثنا البدر, وبإشراق الروح في فضاءات لرؤى تترقب أول بزوغ لأول شعاع يرتمي في حضن زهرة تتفتح براعمها لتحتوي الحياة بعبير من الشوق, واللهفة لعناق يدوم حتى الذوبان..
ويصطرع الحنين بداخل نفس تواقة لتذوق ارتجافة شفاه تغني الحب في محراب الهوى, وصوت الناي يتغلغل في شغاف أرواحنا السابحة وسط أمواج الهوى, الثائرة بنا, وعلينا, ولنا..
بعد رحيلها, امحت كل زخارف الدنيا, صار النهار دميما, والليل قاسيا, وأطاحت بي عواصف الحياة, فأرتمي وحيدا, ألعن البقاء المقترن بالعجز..
وأفتقدها.. بين جبل وبحر, بين أمس ويوم, بين أرض وسماء, بين كل الدروب التي شهدت قصتنا..
قصتنا.. ؟
بدأت قصتنا حين كان الليل يمتطي حدود القلق, والعشق بلون الدماء.. كنت ألملم جمرات الخوف, وأحط رحالي على بوابة السماء, أدخلها كتابا, والصباح يستر عريه خلف أشعة الشمس..
أجادل فزعي وغرامي المستحيل, وأنثر حلمي على وجه الغمام, فيتراقص على أوتار اللحظات الغريقة, واللحن الشريد..
وتتعاقب أساطير الموتى, يتبعهم قوس قزح من خلف الجدران..
وفي ثنايا الشرود تتردى الألحان مطوية, وتهطل الذكرى على مضجعي تلك الوجوه التي تطاردني في حلمي, تخلق رعبا, وتمزقني تحت رحى السهد, فأجدل من الظلمات أوتارا تزدان بالضياء, واستقي النشوة من الشجو المتدفق من بين شفتي حبيبة تروي التلاق, أرشف من فيها الرحيق العذب, وتداعبني الأحلام الشبقية, فتحملني الرياح مشبوبا, تجدلني بسنا القمر..
كانت هي تغني الأحلام, وكنت أحكي لها النهر, والجبل, والبحر والشجر, ونمتطي سحب التشوق, لنرتوي بفرحة اللقاء, ونرشف الغرام ألحانا وورودا, ونغازل الأشعار, ونرسم على الأفق رقصات بدوية..
وحين تبسم شفتاها, يرسل الناي نغمات تحكي الهوى في أزقة البلدة..
هكذا بدأت قصتنا.. هكذا نقشتها في ذاكرة لا تعي سوى ملامحها..
كانت ترتدي ثوب الليل, وفي عينيها شوق يدعوني للذوبان, فأرسم حروفي ضياء, وأجمع الرؤى كلمات, وأشكل من الألوان غنوة على صدرها..
قصتنا بدأت مع تفتح الزهر لقبلات الندى الآتي من طهر السماء.. صغيرين كنا, نلهو بالأيام, نعبث بالأحلام..
كنت أجترها إلى مكمني أسفل الشجرة, بين الجبل والبحر, نعانق الأماني, ونسكن الآمال..
سألتها يوما.. أتحبين أن أبني عشنا فوق الجبل ؟ أم نعيش على ظهر قارب يترنح بنا فوق مياه البحر ؟
استرسلت نظراتها إلى السماء.. أشارت إلى النجوم, رسمت بأناملها عشا في الهواء.. قالت.. بيتي هناك, فوق.. قد أسست بنيانه من زهور الفل, وزينته بالرياحين, وأسكنته عصافيرا, أتوسد أجنحتها, وأرقبك, حتى إذا مللت هذه الأرض, سأكون في انتظارك.. فوق, عند مدار العشق حيث تنبت أمانينا ورودا لها رائحة الأحلام..
وأفقت من وهم الوجود حين انطفأ التوهج، وتلاشي النغم، وكف النبض..
رقصت بعنف وتمايلت حتى سقطت جدائلها في التابوت، ورحلت العروس إلى السماء...
قفزت لأعبر حدود الخوف.. عند أول خطوة في الطريق إلى الشمس, زينت جبيني بقبلة من شفتيها, ووضعت على رأسي كبرياء زهرة اللوتس, وعلى كفي بريق من رضابها.. وتوغلت في عمق العمق, لأضع علامات لموطئ قدمي, وأدفن الرؤى تحت نبض التراتيل..
وتتسع دوائر الظل ومسارب الألحان, وهي موؤدة في بريق من الوهم الصامت, وقد ضاعت زينات الصبا من ملامحها, وتمددت على ترانيم النغمات البطيئة, وانتهشتها أنياب الوجوه المتسربة من بين أوتار الكمان, عبثوا بجدائلها, فسقطت عطورها بعد رقصة الموت, وتلاشى رنين غناءها في ظلمة المدن الخراب..
وتتسلل الرؤى لترسم الآمال القديمة, فأشكل من الرغبة والرهبة ملامح ليل, وقمر, وعطر, وأناجيها بشجن الناي والأمل القديم..
تتخبط نداءاتي في ردهات الكتب العتيقة, تغوص في الثرى, فأتوارى خلف أنشودة قديمة, وأغزل ألحاني وأشعاري في ذيل سحابة هاربة إلى نهاية العالم, تمطرني على قبرها غزلا..
تتشمم رائحة حروفي، تتكور في مكمنها..
أتضرع للصمت، للموت، أتدثر بالتمائم.. ينتهكني عبث الوجود الراقد في تجويف الذاكرة.. انثر دمعي في ليل الصمت.. أمد لها يدي.. :
( اليوم ذكرى ميلادك...............)
وتطل ملامحها تحفر في قلبي أغنية الوداع، وتفرش على وجهي أردية الغيبوبة والفراق.. ولم تعد ملامحها تعزف لحن التعارف..
يغتالني الصمت، واللحن الموؤد في الذاكرة..
اهبط فراغ قبر اللغة.. ابحث عن حبيبة غائبة انغلقت عليها الحروف..
للوحدة صدى يرتدي قناع الصرخات..
احمل دهشتي ودغدغات صوتها، أغتسل بالأرق، أجرجر انكسار الخطي على طريق التلاشي.. وأشكل لها قبر بلون الموسيقى، ورائحة الحب، وعطر الكلمات، وتناسق الحروف، وأشكل لها عينين تنبعان النقاء..
وأشتاق أن أضم أريجها الي روحي لأتنسم منها عطر الحياة..
أه يا حبيبه.. أه من أهاتي ..
تلك التي أطلقها من تجاويف نفس محطمة، من اثر سطوة المنى.. وأمل اللقاء المستحيل..
أين أنت الآن...؟
أتراك تسبحين في خيالات منسوجة من وهم اللحظات التي كبلتها نظرات الغدر المنبثقة من عيون الليل..
أم تراك تنتظرين أن آتيك بزهرة لها عبق الحب، ولون الشعر، وسحر عينيك، ولهفة شوقي..؟
أم تراك تتوسدين أجنحة عصافيرك، وتسكنين بيتا في مدار العشق، وتنتظرين صعودي الذي تضن به الأقدار على..؟

***











حين أفقت من حلمي، وجدتني في العراء وحيدا فوق ربوتي..
أين ذهبت تلك المرأة التي تجتر ألآم الذكرى..؟
أسفل الجبل، رأيت المريدين، ومجاذيب الصوفية يصطفون جلوسا على الأرض.. هبطت إليهم ..
الرقصة ألآن على صمت الدفوف، انتظارا للتجليات والمشاهدات.
تتبدى الإشارات في أفق الديوان السلطاني..روائح العطن الأرضي تكبل قلوب المحبين..
ألأشواق تجتذب الإشراق, تتعانق الحروف، والأشباح مع الأشباه,تنسحق في منابت الروح مكامن الضياء, تدق الدفوف رنات الوهم، تتراسل الحواس..
يشرق عليهم وجه الغوث.. يقدمون له المكوث ( دماءنا مسكوبة في كؤوس فخارية.. ) يصطف المنشدون على هامش المتن، يرتلون أناشيد الإشراق, يتصارع ضمير الغائب مع الإشارات الفوقية, ينسل القطب من ظلمات الذكرى..
يتصاعد رنين الذكر، تتربع الأشباح على غبار الفتوحات، ترتعد ذاكرتي.. تنبثق من جدرانها ملامحك.. تبزغ زهرة اللوتس من بين نهديك بطعم الهوان.. أغزل من شراييني امرأة لا ترتدي ملامحك، تضجع على صخور العمر، وتداعب الحروف..
ربما يتبدل الوهم عشقا, ربما تتبدل الهمهمات, ربما تنكسر أعمدة البرق فوق سطح الخيال, لأرتوي من شذي الناي عشق الوجود..
تجرفني الحكايا إلى أروقة الروح, فأشدو بكلمات منمقة.. يبصقني الغبار على النهر, أواصل الرقص الصامت حتى يغيب الوجود عن الوجود..
خطواتي مثقلة على الأرض, يداعب الناي ظلي, أتلفت حولي لا أرى وجهك, أصرخ: لماذا تعبثين دوما بالرغبة في لحظات الدفء, وتطلقين في الليل ألوانا قزحية, تتقافز في جيوب القمر, تخرج الكآبات من ثغره الشبقي..
وأسأل عن سر النجمات التي تتوارى خلف سحب تعدو على صفحة العمر, وشجيرات الورد التي تداعب وجه الفراشات, تتفرسني وجوه العارفين, يفتشون في ذاكرتي عن ضبابية الليالي, يغتسلون في لجة وهمي..
أرسم على وجهك إمارات التذكر, يحاورني الصمت, تتمدد خطوط الكهولة على وجه فؤادي..
صرخات المنشدين تملأ فراغ الدروب, أتسرب بين جذور تنخر بدأب في ساعات الصحو, أتعثر في قيود البنايات..
يغفو البحر إذا أقبل الليل..
يتسلل الوهن إلى أعضائي, أتثاءب, أنزف الأغاني صديدا, ترتد الأناشيد إلى أشداق المنشدين, يتدثرون بالرايات وطقوس التأرجح, تعتصرهم الأشواق.. يجف الليل..
يخضعون لحكمة أفول وجهه.
***

















تحت شجرتي جاءتني أمي, يرتسم على وجهها خليط عجيب من الحسرة والسعادة.. جلست بجواري, أخذت رأسي على صدرها, شعرت بالألفة والاستسلام اللذيذ, قبلت جبيني, مسحت على رأسي بيديها:
- أحضرت لك ملابس جديدة جميلة, هيا لتغتسل وترتديها..
- لا أريد يا أمي.. لا أريد..
- هيا يا ولدي, فاليوم هو القداس الأكبر, واليوم أيضا سيتزوج أخوك علي ويجب أن تكون بجواره في أبهى زينتك..
- هل سيقيم في بيتنا بعد زواجه ؟
- لا.. سيقيم في بيت عروسه..
- لا أريده أن يفارقني يا أمي.. فهو صديقي الأوحد في هذه البلدة..
- لن يذهب بعيدا انه سيتزوج أم نجلاء, حبيبتك..
- لماذا يصفعني أبي دائما.. ؟
- انه فقط يخشى عليك من الجان الذي يسكن الربوة..
- هذه الربوة ملكي أنا, لم يصعد عليها أحد غيري, أما هذه المرأة.. فقد.. فقد شكلتها أنا, بمزيج من الوهم والخيال, عجنتها بالضياء ونغم الناي وشذا الصباح وأريج الزهر وأجمل الأشعار.. إنها تؤانس وحدتي, وتبني لي كل يوم سكن بجوار سكنها, تبدل ليلي ضياء, تشاركني الحلم..
- من هي يا ولدي؟
- لم أرها.. لكنها ليست ككل النساء, لها صوت السحر, وعذوبة السماء, ورقة الفراشات, ورهافة نغم الناي.. ملكت مني كل شئ, ووهبتني كل شئ..
-لهفي عليك يا ولدي.. ماذا ملكت منك؟ ماذا وهبتك؟
- لا أدري يا أمي.. لا أدري.. ولكني صرت أدور في فلكها, ووجدتها في لحظة تغوص بداخلي.. تسكنني..
- إنها من الجان, وأقسم.. كما قال الشيخ الطيالسي, وأخشى أن تكون قد سلبتك عقلك..
- يا أمي أنها العقل والحكمة والخيال والجمال.. إنها تسمو بروحي إلى عالم من الشفافية, بعيدا عن دنس الأرض التي نعيش عليها بدون تبرير..
- هيا.. هيا يا ولدي الشيخ الطيالسي يريد أن يراك..
- لا أريد الذهاب إليه.. لا أريد..
- ستأتي أن كنت حقا تحبني..
قبلت جبيني, جذبتني برفق, نهضت..
بهو بيت الشيخ الطيالسي مظلم, رغم الضياء الذي يعم الحياة خارجه.. أشعر بالخوف كلما دخلت هذا البيت الذي تكسو جدرانه جثثا لحيوانات محنطة, وعلى أرضه فراء الحيوانات المقتولة, ومن سقفه تتدلى جماجم مطموسة الهوية..
قابلتنا امرأة الشيخ, امرأة مثيرة لكل الرغبات الطينية, لم أستطع الهرب من نظراتها المتوغلة في ثنايا جسدي..
- دعيه هنا حتى يأتي الشيخ, سأراعيه أنا, واذهبي أنت لتلبية مطالب ابنك علي..
كانت تحادث أمي, وتغمز بطرف عينيها لي, مضت أمي وهي تنظر نحوي بإشفاق..
اقتربت امرأة الشيخ مني, تلاصقت بجسدي, طوقت عنقي بذراعيها, قبلت شفتي بدلالها الطاغي, ثارت كل غرائزي الطينية التي لم أستطع كبح جماحها, تشبثت بجسدها, هويت على ثدييها, اغترفت منهما كل دناسة البشر.. وما أن وصلت شهواتي إلى ذراها, حتى ابتعدت عني, هي هكذا دوما, لا تلتقي بي إلا حين تصلني إلى قمة الإشتهاء, ثم تتركني لأهوي وحدي..
أشارت لي أن أجلس, جلست تحت قدميها, مستندا برأسي على فخذيها العاريتين..
- ما شأنك مع امرأة الجان فوق الربوة.. ؟
- ليست من الجان..
- هل أحببتها ؟
انتفضت رعبا
- لا.. لا.. لم أحبها, ولم تحبني, ولم أخبرها بشئ عنك.. دعيها وشأنها, أنها خيال, وهم.. أنا لك.. جسدي طوع يمينك, كما ترغبين, وقت ما تشائين..
ابتسمت في تشف, زهو الانتصار يعلو وجهها..
- يبدو أنك وعيت الدرس جيدا, فما أن تحب ستموت من تحبها, كما ماتت (هناء) حبيبتك السابقة, ولئن بحت بما بيننا سأدمرك تماما, كما قلت لك من قبل.. أتذكر ؟
- نعم.. أذكر.. أذكر.......
وأبكي, وتنسكب دموع الضعف بتجويفي, ويدها تداعب مكامن ذكورتي.. وكيف لا وقد نبتت منذ طفولتي على كفيها..
وطوفان من العرق يغمر الجسدين الطينيين, نذوب في اشتهاء عفن, تتشبث الأيدي بكل جزء في الجسد, تتصل الأعضاء, نغوص في أنهار الدنس, حتى قذفنا قذارة إنسانيتنا..
لملمت أشلائي, خبأت ما بقي من ذكورتي في ثياب مبللة بآثار الاشتهاء, تركتها نائمة في ظل النشوة عارية, أوصدت الباب خلفي, وجدت الشيخ في مواجهتي, تفحص وجهي مليا, نظر إلى ثيابي المبللة, صفعني وأقسم أن يقتلني, هرول إلى بيته, ضرب الباب بقبضتيه..
مضيت أتحسس ألمي, ووعيده..
***

















في مكان السمر بجوار النهر, أحضروا جزع شجرة آخر, قد تهالك الجزع القديم من كثرة الاحتراق..
الرجال يجلسون في حلقات عدة, والنساء مكومات بملابس حريرية, تغطي وجوههن أصباغ متعددة الألوان, غريبة الشكل..
وقف الشيخ الطيالسي, يحمل بيده مصحفا اسود, رفع يده نحو السماء, تحدث كأنه يتلو صلاة..
- إن تبتلي وصلواتي ونسكي, نتيجة رؤيا مباركة رأيتها.. فقد رأيت أمير الظلام يقف أعلى الشجرة المباركة, وقدمه اليمنى تقطر الدماء, اقتربت منه مبتهجا, وبسطت كلتا يدي, جمعت قطرات الدم المقدس, وشربتها بإخلاص, ولما انتبهت, شعرت بأن روحا قوية اخترقت جسدي, واستولت على نفسي, وتجلت الأسرار أمام عيني, وأهدتني طيلسان الحكم, وأوصت بأن يطيع أهل البلدة أمري, وينتهجوا نهجي, ومن يأبى.. ستقع عليه لعنة الكتاب, ولعنة أمير الظلام, ولعنتي أشد وأبقى..
نهض أبي ثائرا مستندا على نبوته, صرخ في الشيخ كأنه يزأر..
- ما هذا يا طيالسي.. ؟ ماذا تقول.. ؟ أتريد أن تسلبني ملكي وسطوتي وأنا مازلت أحيا.. ؟ أنسيت أني قانون هذه البلدة..؟
غض الشيخ بصره عن أبي وثورته, قال كأنه يعتذر:
- لا يا سيدي ما نسيت.. لكني قصدت أنك قانون البلدة وحاميها, وما أنا سوى هاديا إلى حكمتك, واعظا بمشورتك..
هز أبي رأسه موافقا, متوجسا خبث الشيخ وغدره..
تقدم الشيخ من أبي, استسمحه أن يبدأ مراسم القداس.. أذن له أبي, وقف الرجال والنساء خلف الشيخ الذي أمسك بناقوس ذهبي, ساروا إلى غرفة مظلمة مجللة بالسواد, أنارت بعض جوانبها الشموع السوداء, بها مدفأة تعلوها نجمة خماسية, بداخلها صورة لرأس كبش, وبالقرب منها يوجد المذبح المغطى بقماش أسود, تنام عليه نجلاء عارية, يعلوها صليب مقلوب..
تقدم الشيخ أمام المذبح مرتديا معطفا أسود, وقلنسوة تغطي جزءا صغيرا من أعلى رأسه, عليها ينتصب قرنان صغيران..
أنشد تراتيلا بلغة مبهمة, ارتفعت موسيقى آلة الأرغن, بدء الجميع يدورون حول المذبح عكس ****ب الساعة, والشيخ يدور حول دائرة البشر في اتجاه معاكس..
قرع الناقوس تسع مرات, ثم أربع مرات, في اتجاه الجهات الأربع الأصلية, ثم توجه ناحية نجلاء, تناول كأسا كان قد وضعها بين نهديها, شرب خمره, ثم توجه إلى دائرة من الرجال المتشابكين الأيدي..
تقدم أخي علي وأم نجلاء من الشيخ, لعق شاربه وهو ينظر محملقا في وجهها, باركهما وأعلنهما زوجين..
ارتد الجميع إلى أرض السمر ليعلنوا أفراحهم, جاءت نجلاء ترتدي ثوبا أبيضا, عاري الصدر والكتفين, شعرها الأسود متهدل بعناية على ظهرها, دمعة بلون الكحل تخط على خدها الوردي, جلست جواري, قالت:
- أرأيت كيف سرق أخوك أمي مني وتزوجها ؟
كنت أنظر إلى المرأة التي لاحت فوق الربوة وهي تبني سكنها وسكني.. ونجلاء تبكي, تخشى سطوة أخي عليها بعد زواجه من أمها..
- سيصفعني كما يفعل أبوك معك..
قلت لها أن ثوبها جميل, لم تكف عن البكاء.. قبلت خدها, انتحبت, تركتها ونهضت إلى حلقة لبعض الرجال, كانوا يحكون عن الحجرتين المتجاورتين اللتين يبنيهما الجان فوق الربوة كل يوم بعد زوال الشمس, ويتجادلون كثيرا عن التجمع الغريب للنجوم فوق الربوة, البعض يقسم إنها ترسل نجومها لتسترق السمع, وتعلم أسرارهم, حتى تستطيع أن تسحرهم وتحولهم إلى مسوخ, تسخرهم لما تريد.. !
حالات من الفزع والخوف تجتاح نفوس الرجال, البعض يقسم أنه لولا وجود الشيخ الطيالسي بينهم لسحرتهم جميعا.. !
بينما يدور الحديث وسط النساء عن سعدية, التي ستفوز بمن تختاره من الرجال ليكون عشيقها الليلة..
سئمت أحاديثهم, ذهبت إلى ركن بعيد, جلست منفردا, أرسلت نظراتي إلى الربوة, ترى ما اسم تلك المرأة.. اسميها أنا.. نعم اسميها ( سيدة الضياء )..قد أتمت بناء حجرتي, وها هي تبدأ في بناء حجرتها, وتنظر إلى المريدين الذين تجمعوا عند الشجرة.. تسللت إليهم لأراقصهم..
كانت أشعة الوهم تتسلل من نوافذ الجاهلية الأولى..
يضحك اللات, ويسخر العزى, وينهض هبل, يستجمع ما بقي من ذاكرة سوق عكاظ, يتساءل عن المعلقات..
وامروء القيس يمتطي رنات الدفوف, يتصاعد مع غيوم البخار, يصارع أنفاس الراقصين...
وأنا أراقص طيفك على صيحات حرية الرأي, فتشرعين رماح الدجى, تبرزين أنيابك, تفتحين أبواب السجون, وأنا من زمنك الأول أخاف ظلامك..
أدور في حلقات الذكر مترنحا, أتكور في قاع كأس الفوديكا, تتجرعني الحضارات المنهزمة..
ورمحك ينزف الظلام, يمالئ كنوز العمائم المدهونة بزيف السلام.. أندس بين خلايا نعال الغزاة, الصديد يصبغ المقاصل, والرقاب ما زالت معلقة على مشانق دنشواي..
أبكي شهيد كربلاء, ألملم أحجار الكعبة من تحت أقدام نساء الخليفة, يطالعني وجه الحجاج الثقفي وقميص عثمان والمصاحف على أسنة الرماح..
أبحث عن خير أمة, أجدها في رحم السماء, لم تخرج بعد إلى الناس..
يتصاعد الزيف فوق العمائم, تتمزق رقاب الساجدين.. أصرخ: ما حارق الكعبة وهادم القدس إلا سواء, وكلهم يأتزرون باسم الإله..
أخرج ملفوظا من دبر التاريخ إلى سواد ملابس الكهان, يتربع على العرش طاووس ملك البلاد, ونساءه البغايا يتخللن المقدسات بالإفك المطموس في عالم الأساطير والخرافات..
وأنت ما زلت تفرين وسط صيحات الوحدة, والتوحيد, والسلام, والاستسلام..
تخفت دقات الدفوف, يفر المريدون إلى وهم الإشراق, يلفني الظلام.. أعود مهدودا إلى مجلس السمر..
***







كؤوس الخمر تدور على الرجال وتدور بهم, أصوات الطبول تصاحب التواءات جسد سعدية واهتزازاته المثيرة, تنظر إلى الرجال بشغف, وكل منهم يمني نفسه أن يكون عشيقها الليلة..
نجلاء تغني, وقد استبدلت دموعها بفرحة طفولية..
سعدية تقترب مني راقصة, تجلس على ركبتي, تهز نهديها بإغراء يذيب الحجر, تميل حتى تقبل شفتي, تتصاعد آهات الرجال, تجحظ عيون النساء, وأحترق أنا بنار الخجل..
ينهض أخي علي حاملا عروسه, يدلف بها إلى دارهما, يسحب كل رجل امرأته وأولاده, تقترب مني سعدية, تجرجرني إلى حجرتها.. قابلتنا أمي, استوقفتنا..
- دعي ابني يا عاهرة البلدة..
- من منا العاهرة ؟ أنا أبيع شهواتي في كل البلاد, وأنت تتسولين شهوات الرجال ونقودهم, أنسيت من أول عشيق أفرجت له فخذيك ؟ أم أذكرك به ؟
لطمتها أمي بشدة, حاولت أن تجذبني, تشبثت سعدية بيدي..
- دعي ابني..
- الليلة القداس الأكبر, وأنا اخترته, فهو من حقي الليلة حسب ما يقضي قانون زوجك..
سارت بي سعدية, بينما وقفت أمي يكسوها العجز..

***










استلقت على مخدعها عارية, نادتني, جلست على حافة الفراش قالت:
- أراك وقد وضعت زهرتك بجوف امرأة قبلي, لكنها لم تستطع أن تمتص رحيقك كما ينبغي, والليلة سأريك كيف تضاجع النساء حقا..
طوفان أنوثتها يغمرني, أتهدم بين ذراعيها, تنهل من جسدي وتروي شبقها, امتصتني, حتى إذا ما أرضت نهمها, تركتني متهدل الأوصال, أشعلت سيجارتها..استجمعت أشلاء جسدي بصعوبة, نظراتها تجوب سماء الحجرة, تنهدت بعمق..
- كل رجال البلدة كانوا يأملون أن يكونوا مكانك الليلة..
- أنا لا أحب ذلك..
- رغم أنك فحل مثل أبيك.. أتعرف أن أباك كان يضاجع كل ليلة عشرات النساء, وما من فتاة في البلدة بلغت المحيض إلا وباركها في فراشه بطريقته الخاصة, ولذا فكل نساء البلدة ما زلن يشتهينه, فالمرأة لا تنسى أبدا أول رجل ضاجعها, لكنه قد حرّم على نفسه أن يضاجع امرأة واحدة مرتين..
- هل تذوقت الحب يا سعدية.. ؟
ارتجفت كمن لفحته النار, نهضت, خبأت عريها تحت ملابس وملاءات, نظراتها تهرب من وجهي, ضممتها, استكانت كطفل يشتهي حضن أمه, أحسست دموعها تسيل على جسدي, وأنينها يعزف الوجع, لملمت بعضا من شجاعتها وقالت:
- الحب.. ؟ وهل في بلدتكم هذه يسمح بالحب.. ؟ أنظر إلى المرأة التي تلد بنتا, سرعان ما تخرم أذنيها, وتضع فيهما حلقة ذهبية, لتظل البنت طيلة عمرها يشدها بريق الذهب, وتدور في دائرته, وحين تقبل على الزواج, يكون الشرط الأول والأخير كيف سيكبلها العريس بأجمل القيود الذهبية.. عن أي حب تسأل ؟ حب الذهب بأنواعه المتعددة, الأصفر, والأسود, والأبيض, والحمر, و.... و.... و....
الحب ؟! في بلدتكم تتعلم الفتيات الحب من بركة أبوك, ويتعلم الفتيان الغرام بين أحضان الغانية امرأة الشيخ, التي تدعون أنها رمز للشرف والفضيلة.. هذا هو الحب المتعارف عليه عندكم..
أحببت.. ؟ نعم.. نعم أحببت, ذقت طعم الهوى, جميل كما الوهم, رائع كما الضوء المخلوط بالغناء الشجي.. نعم ذقته, وتنعمت به حينا, كما ذقته أنت مع ( هناء ).. لا تخف, فأنا كنت أراكما كل يوم عند الشجرة تتبادلان القبلات والغرام, وأتذكر حبيبي.. أعرف نهاية حبكما, ورأيت بنفسي امرأة الشيخ وهي تقطر السم في أذن ( هناء ) وهي نائمة, فلم تصح أبدا..أما أنا... آه يا ويلي.. أنا....
كنت وحبيبي في قارب نداعب أمواج البحر.. فتاة تهفو للحياة, وحبيبي يسمعني أجمل ألحان الهوى, ورذاذ الموج المصطدم بجانبي القارب يعلق على وجنتي, يلعقه حبيبي بلسانه الرطب, وقلبه يتفجر شوقا, أغيب في جمال النشوة, ونظراته ترسم على وجهي قلبا متيما..
أمسك كفه وأداعب شعيرات صدره بشفتي, تهتاج به الرغبة, يضمني, أضمه, يصير الوجود كله في قلبينا حبا وشوقا, ورغبة لا تنتهي..
وتبتسم الأمواج, يرشنا البحر بقطرات مياهه المالحة, نضحك, نعيش حياتنا ابتسامة, نتذوقها قبلة, نحياها حضنا ورغبة, وشوقا لا يدانيه شوق..
تساقطت دموعها على الفراش, رسمت شفتين علاهما الجفاف, ترتعشان من هول الماضي, وخوف مرتقب من غد مجهول.. واصلت حديثها:
جال حبيبي بنظراته على مياه البحر, سقطت نظراته, ابتلعها البحر, والبحر يبتسم لك ما دمت واقفا على شاطئه, أو قادرا على تحدي أمواجه, لكنه لا يرحم أبدا ما يسقط فيه, ضاعت منا الاتجاهات, لم أقو على تحريك دفة القارب..
تهنا في عرض بحر لا يخضع للمكفوفين, ولا للضعفاء.. بكيتخوفا ورعبا.. قال حبيبي انه سيهبط إلى البحر ليبحث عن نظراته وعينيه داخل خضم الأمواج, توسلت إليه قلت له إننا لا نبغي من الحياة سوى أن نعيش لحظة حب صادقة, متعتنا قبلة تعطر فم الزمان, ولحنا تتراقص على إيقاعه قلوبنا..
كان اليأس قد أحاط به, وملأه الإحباط قبل أن تصله توسلاتي, ألقى جسده في المياه, ابتلعه البحر بجبروته الطاغي, وسار بي القارب يتأرجح فوق أمواج تسخر من ضعفي, حتى تكسر القارب حين اصطدم بشاطئ هذه البلدة, ارتميت تحت الشجرة التي يزعمون أنها مباركة, ضنت علىّ الشجرة ببركتها, سرت في الطرقات أتسول لقيمات ترضي جوعا يمزق أحشائي, سخر أهل البلدة ممن تتسول في بلدة المتسولين..قبعت أسفل جدار أبكي جوعي وعجزي, وأئن على حبيب مضى, وذكرى أيام أعرف أنها لن تعود..
ذهبت إلى أبيك التمس منه العون, آواني في داره, أطعمني, وحين هجعت إلى مرقدي الذي أرشدني إليه, جاء ليباركني, وما كنت أعرف أن بركاته تعم كل النساء, حاولت التملص منه, فجسدي لم يمسه أحد غير حبيبي.. لكن أبوك كان يمتلك خبرة طويلة في كيفية إخضاع العذارى لهواه وشهواته.. استسلمت لشبقه لطاغي, ولم يرحم هو قهري وضعفي..
وفي لحظة وجدت جسدي ينتفض بارتعاشة غريبة, ممتعة, وأطلقت تأوهات الخدر اللذيذ, ورغبت في المزيد من هذه المتعة التي أتذوقها لأول مرة.. رفض.. وقال انه لا يأتي العاهرة سوى مرة واحدة..
أفقت من خدري على لفظ ( عاهرة ) أهذا ما صار إليه مآلي.. ؟
في صباح اليوم التالي أمرني أن أخرج مع نساء البلدة لأتسول, أول رجل قابلته دعاني إلى داره, استجبت له, أخذ من جسدي كل ما أراد, وروى شبقي بما أشتهي, ثم أعطاني نقودا كثيرة, حين أعطيتها لأبيك فرح كثيرا, وأعطاني لحما وزبدا ولبنا, وكوبا من النبيذ, وكافأني بأن خيرني أن أختار من رجال البلدة من أشاء ليكون عشيقي ليلة.. كان هذا قانونه الخاص, من تأتي بأعلى إيراد تختار من تهوى من الرجال ليمتعها ليلة القداس كل شهر.. استسلمت بفتور لمجريات الأمور, وتصاريف القدر.. كل يوم أجول في المدن المجاورة, أعاشر الرجال الذين يلقون على جسدي شهواتهم, أرضي شبقي منهم, وأعود لأبيك بوافر الربح النجس, ليعطيني لحما, ونبيذا, و... وأختار رجلا..
وصرت عاهرة.. لا يرتوي جسدي أبدا, ولا أستطيع أن أكتفي برجل واحد, وتعلمت كيف أرضي الرجال, لأستلب رحيقهم ونقودهم..
وكثيرا أذهب إلى البحر, أتوسل إليه أن يلفظ لي حبيبي, فيسخر مني, ويهزأ بي..
ويأسرني الشوق إلى حبيبي, كلماته، ألحانه, دقات قلبه على صدري.. أشتاق لسماع اسمي تهمس به شفتاه..
أتدري انه منذ أن وطأت قدمي أرض بلدكم لم يناديني أحد باسمي.. ولم يسألني أحد عنه.. ولم يعرفه أحد, فقد أطلق أبوك عليّ اسم سعدية لأني أجلب له الربح, سعده هو.. أما سعدي أنا, فقد ابتلعه البحر..
هل عرفت أني أحببت حقا, كما أحببت أنت..هيا.. هيا اذهب, فقد أعدت تشكيل آلامي بفرشاة سوداء كزمنك, اذهب, اصعد ربوتك, عش وهمك, حلمك الذي لن يتحقق..
تركتها متكورة على ذكرياتها, تعزف الأنين, وترسم الألم في خيال يفتقد صدق اللحظة..

***
صعدت فوق الربوة, دخلت مسكني, أطللت من الشرفة, ثمة ورود تتمايل بفعل النسيم, صار لي الآن نجمان يبتسمان, وضعت على أحدهما زهرة, وأسميته باسمها, ووعدت نجمي الآخر بهدية في الليلة المقبلة, تبسم شاكرا, اقترب نجمي الزهرة ولثم شفتي, ثم تراجع مستحييا خجولا..
خاطبت سيدة الضياء.. قلت لها إني افتقدتها كثيرا في نهاري, وقلت لها يجب أن تشرقي على الناس بوجهك, وقلت لها إن البشر في حاجة ليتعلموا منك معنى السمو, والشفافية..
ضحكت.. وأظن عيناها قد ذهبتا إلى أبعد من عالم المثل.. حيث ترقد روحها في استرخاء, بعيدا عن البشر, وأحلامهم الطينية.. ناديتها:
يا سيدة الضياء, يا من دخلت حياتي على غير موعد أو إرادة مني, أريد أن أنظر في عينيك, أريد أن أرى نبع الجمال الذي أسمع همساته الرائعة, أريد أن أحيا لحظات بين أهدابك.. هل تسمحين أن أدنو, أن أستمع لدقات قلبك وهي تشدو ؟
- أيها الغارق في طينك ألا تسمو ؟ أما زلت تبحث عن شفتين, وعينين, وقشعريرة لمسة يد ؟
المتعة الكبرى أن تمس روحي, أن تقبض على ذلك الشعاع الخفي الذي يملأني, أن ترى عيني وسط النجوم تبتسمان, أن تقبل شفتي وسط السحاب المتهادي, أن تمس يدي على وجه القمر.. احلم.. احلم يا صانع الدمى وعازف الناي.. اسمو بشفافيتك تملكني, احلم تراني..
- أريد أن أغوص بداخلك, أستشف مكامن تلك البهجة التي تملأني حين أرى طيفك, أو أسمع همسك..
- احلم.. أطلق بصرك إلى ما بعد المدى, ادخل بين تجاويف الكون, بين ثنايا الزمن.. احلم.. فالحلم رؤيا خاصة لمن يسمون بأرواحهم إلى ما فوق الرغبات الأرضية.. احلم.. احلم يا صانع الدمى..
بدون أن أدري تسللت روحي إلى منابت الأحلام, خرجت من الوجود, ودخلت الحلم:
{ تدثرت بالهوى لأظلل المشاعر بالنبض, وأخطك قصائد شعر أذيب فيها خيوط الشمس, وأمنحك من الخيال بعض الحكايا عن بدء التوغل في عمق الجرح, وأنسج من أوجاعي أمسيات كصدى نغمات الناي, حتى تسقط مساحات الشدو بين
خلايا جسد يبوح سر العشق للضياء..
وأتأمل الزمن وهو يداعب أغصان الوقت, جالس فوق ركامات الدهر, أدندن لحنا ينزف من مقلتي الحنين إلى تشكيل رائحة الفل بلون صباح يعيش داخلي..
تؤرقني تلك الشعارات التي تزخرف وجه التاريخ, أتكور في رحم الكلمات, لعلها تشكل من ملامحي وجه زائر لم تره كتب الزيف, وحين أعدو بين ردهات الاغتراب, تطاردني أشباح فراغ الراحلين, تستبيح كلماتي وتنسيق الحروف, فأنزف من شجر الحزن فضاء يخترق الليل, وألفظ سؤالي العتيق.. لماذا ؟.. يلقيني التاريخ من نافذته, تتكسر أفكاري, تتهشم خطواتي, فأستند على قلبي, وأطلق صفير الناي, ينعى غربة الورد الذي يغتسل بندى الكآبة وجهامة الصبح..
أتنفس تشكيلك الضوئي, أرسل زفيرا يختصر المسافة بين العشق, والحلم, والحياة, ثم.. أعود وحيدا إلى ليل الصمت, لأتدثر بالنغم الشاغر في لحظات الرغبة, وأتطلع إلى دفء الموت, أخشاه, أفر, أعاود بدء التكوين, تنكرني ذاتي, أدخل دائرة الوجد أبحث عنك, يهرب وجهك من تجويف ذاكرتي, يخرج من فرشاة الضوء, وأطرافك ترتعش بنار الأسطورة, فتطفو مع الحلم أغنية, وتصير السماء رمادية, وأنياب الثعابين تثقب جدار قلبي..
أتفقد السماوات, أشكل منها الحلم البديل, قبل أن تضيع الأمسيات في ليل يستند على الهزائم, وأشكل من جدائلك وطنا أسوق فيه إلى الليل قمرا, وحلما, ونجما, وأصعد شجرة الأحلام, أقضي نحبي كل مساء في موعد تائه بين أمسيات الحروف الناقصة تشكيلاتها, وأترك على ساحل الخوف قلبا يملأه شجن الناي, فيتراءى انكساري على صفحة النهر, يكتب وجعا تحت سماء تلتحف بالسكون الأبدي..
وأنقش ملامحك بسمرة الطمأنينة, وتفعيلة البقاء, وبالكتابات العتيقة, وأشكل من الأيام رائحة الموت, وأطرز وجهي بالنسيان, والشجن المؤبد, أتلمس ذاكرة الجدران, أعزف لحن التهجد, وأطفو فوق فتنة الليل, فتسلبني الأحلام عبر نافذتها, تلقيني متخبطا في وحدتي, أبصرهم يلقحون شفاههم بابتسامات متحجرة, نعم.. إنها نفس العيون التي تتراءى لها الحواديت في ظل عتمة تداعب الأشباح, والأساطير المملة..
أمسح تجاعيد الوهن, وألقي خرافة تنبت من سجع هجائهم, وهم يزاولون طقوسا غجرية, شيطانية, تتمخض لغة تهوي بي إلى الهلاك..
كيف أغادر هذا المدار ؟
هل أستطيع الرحيل على حافة الصباح ؟
أرفع يدي بالصمت, وبالطمي أعيد تشكيل وجه الزمن المزيف..
[ كل ما أبتغيه من الضياء, بعض الرؤى لتشكيل وجه امرأة تغزل من السنا أبيات شعر أتدثر فيها بالشوق ]
وكلما لملمت الألوان يقفز هواك, يبعثر تكويني, فأرنو إلى النجوم, أراها تصطفيك للقمر, فأطحن الحناء لأزركش بها وجه وحدتي, وأعدو محموما بعشقك خلف مساء تملأه أشباح ذكرى انشطرت فيها إيقاعات الليل, فتنبجس صور خلاياك في زمني, فلا أستطيع أن أشكل من ملامحك سوى ضوء شارد, وأطلق آهتي.. تخلف الآهة شقوقا تزعق في رئتي, وتلتهم آخر زهور عمري, وينكر القمر وجهي والنجوم..
[ ما عاد اسمي يشكل معنى بين حروف الهجاء.. ]
أقف حائرا بين حدين, حد الحياة, وحد الخلاص..
وحين ينفلت قوس قزح من عرق السماء, وتدور طيورك حول كعبة روحي, أهوي إلى لجة لهيبك, فينغمس القلب في نهر الحلم, يعلن عن جراحه, أرتاح على صدر الكلمات, أتقيأ الظلام, والأوجه الصفراء, وأشيد من زيف التاريخ خيمة تظلل الخرافات, لتأتيني القوافل بمكسور الأشعار, ولغط الحروف, والأجساد النحيلة, يقتفون آثار الزيف القديم, يبعثرون الهواء, وتبعثرهم الريح, حتى يأفلون في مدار الحروف الصماء..
وأنا أزين رؤاك بما تيسر من الضياء, وأغمر باللون الأبيض كف السماء, ينهمر رنين صوتك, أراك ترتدين بؤرة من ضوء خافت على جلد يئن تفاصيل نهار يحمل في أحشائه صدى أمسيات الخرافة, تلك التي لملمها من على شرفات بلدة تطل بحدقات جاحظة لرؤية هياكل تصطف على الجدران, تحكي الوهم في غيبوبة الخمر, وعيناك تجمعان دثار الحروف بصمت غريب, فتنزف النجوم على كفيك رثاء بحر لا تستطيع أن تلملمه الشطآن, ويرتسم العشق على شفتيك
منهزما, أثر سطوة الأفق الذي بدد زرقته في انكسار الوقت, فيجن ليلي بحثا عن صدى لرائحة الورد المسافر دوما, ولا يقر إلا لحزن ساقط من العراء على حافة الصمت..
[ ماذا ينتظر الليل من قمر يهرب داخل مدارات الاعتزال ]
أسقط موثوقا في خصوبة الدمع, أحترق على حافة الأحلام, تتبعثر الرؤى, أغوص في خجلي سكرانا, أدندن أغنية من نسج الصفو للبحر الذي يلتحف بالمدى, ويجالس السكينة..
أفتح في مسامات الهواء حكايا عن الغائبين, أرتوي بالصمت قبل أن يطمس الحضور وجهي, فلا أستطيع الوقوف في صحراء الوجد, وتضيع لحظة التفسير لاستثناء الحروف التي تتوارى خلف أسماء تتجمل بشعارات فوق متطلبات الحياة, فأشعل الغناء على أنامل زهرة بدل الريح إشراقها في صمت الاغتراب, لتنشق تحت الهزائم المتوالية, لكني لن أستطيع أن أروي من التاريخ غير صدأ الشعارات.. فهل في الوقت متسع لأروي عن طيف هاجر من هوان الروح إلى فضاء مزحوم بالأشباح ؟
أطل على حديقة الدمع في فراغ الأسئلة, لا أرى أحدا..
وجودي صار لا يأتلف بالمكان, ولا يستقر تحت قدمي سوى القيظ, والصرخة المطمورة, والفراغ........
يا عشقي المهزوم.. تمتصني رئتاك والمباح من الدمع, فأسافر على حدود الجراح, قد تجمعنا مرايا الألم, قبل أن تضيعي في زحام الأوهام, والأهواء, والحروف..
ألملم وجهك من كل الوجوه, ومن عتبات المساء, وأحاصر وجه الطرقات, أطرق باب الحلم القديم, يصدمني الدمع, أسقط في أفق الخوف, تغرب نجومي في المياه, تلهث الرؤى خلف العناق المر, ينطفئ في العروق اللهيب, وجذوة الاشتعال, أصعد من كهف الليل, من قاع الذاكرة, أرى طيفك يتمدد بين أضلعي, يبسط راحتيه كي أتنفس..
ويفتح الحلم المارق نافذة الحزن, تتهدمين على صدري, يمتزج الجسدان بوشوشة الضياء, وصراخ النار, أتكبل بوشاح ألمك, أتغرب في بحار الصمت المنتشي بالعشق حتى الموت, تتحول الرمال بكائية.. أكتبك.............
انفراط ضوء يهمس اسمي.
***








في هذا الوقت من كل عام,
في هذا الفصل الذي يتوسط الفصول الأربعة,
في هذا اليوم الزائد عن حاجة الزمن.
في هذه الساعة الساقطة من حسابات التوقيت, تنشق الأرض, تلفظ ساقا بطول كتفي, تتفتح بأعلاها زهرة سوداء بحجم رأسي, تنظر إلى الشمس وتبكي, تفر الشمس من نظراتها الجزعة إلى المغيب, تهطل الأمطار في غير موعدها, تذوب الزهرة رعبا من صدى صوت الرعد, ينحني الساق إلى شق أحدثه في الأرض, تدخله الزهرة بغير ارادتها, يصير الساق على هيئة قوس, يستعير من الشفق ألوانه, تظلم السماء والأرض, ينتهي على غير موعد سراب الرؤية..
جالس أنا تحت ركامات البشر, أفكر في غد بلا هوية, يهرول بلا جدوى خلف أمس مذعور بلا سبب..
يذكرني الغد بالرحيل, ويذكرني الأمس بالفراق المر, فتسقط من أيامي اللحظات المضيئة..
لملمت شتات من أطلال الحياة, جلست وحدي أنزف الجراح, وأعاود بدء الحنين..
تتخلل الرؤى أطياف تحجل على ذكرى أيام أدبرت, وحروف تشكل قصة لن تتم, أستر عري اللحظات بالابتهال للهوى, وأتوغل في عمق النفس, أجرجر ذيولا لهزيمة تعصف بكبرياء التحدي..
أتكور على استكانتي, تهزني حشرجة الموت, ألفظ مرارة الأيام, وتسكع الكلمات داخل مدار عمري.. آه يا زمن السخط..
لم يبق من الحياة سوى حرف ينعيني, وحرف يهيل التراب على جسدي, ونغمات تشكل مثوى لهوى قتلوه على مشارف الجدب..
أضيق بقيود الوهم, أكسر دموعي, أنطلق من نوافذ الكلمات إلى فضاء مزحوم بالرغبات, أتخبط بين حواجز النفس..
كيف للعمر أن ينجو من براثن الذكرى, كيف للأمل أن ينمو في جدب الروح.. ؟
عند نهاية الأفق كان طيفها يتشبث بآخر حروف اسمي, يصارع الليل, أفر إلى شعابها, تخترق الأشواك جذور روحي, يهطل دمعي, يؤرق النغم المختبئ من غدر الليل..
أغفو على صدر السهد, تأخذني الأحلام إلى أرض تنبت الألم, أرى طيفها يروي الهوى أنشودة, ويراقص الجراح, أحتضن دموعها, تهمس بلفظ حائر بين حروف الهجاء..
يشكل الفجر رؤى لغد يعني الرحيل, أبحث عن سبيل يؤدي إلى الموت, يشملني الهذيان, أسقط مجددا في غيبوبة الموت.
***




















انتهيت الآن من تشكيل أغصان شجرتي, حملتهم إليها, كان جزعها قد امتلأ بالبثور, تعلوه كميات هائلة من الطفيليات التي تركها الزمن المتوالي عليها..
هممت أن أعلق عليها ما شكلته من الأغصان.. ترددت.. هل تستطيع شجرة عجوز كهذه أن تحمل كل ما أتيت به من تشكيلات لغدر البشر وأمانيهم وأوهامهم.. ؟
لقد تشقق جزعها, نخرته الديدان, أكل عليه الزمان وشرب, ثم بال ما في جوفه من قذارة الإنسان, ومضى يقهقه سكرانا..
نكست رأسي خجلا من زمن أنتمي إليه مرغما, انزلقت بدون إرادتي أدمعي..
أنا وأنت أيتها الشجرة شريدان, قتلوا من قبل حبي الوحيد, وسيأتي الدور على جزعك ليشعلوا فيه نيران السمر.. آه لو نستطيع الفرار من سياج هذا الكون الرافض وجودنا..
سمعت أصوات العويل والصياح تتصاعد في أجواء البلدة, هرعت إليهم, أمي تتشح بالسواد, تهيل التراب على رأسها, تصيح:
- واااا علي.. وااا علي..........
تلتف حولها النائحات, يلطمن رؤوسهن, ويرسلن النواح يشق القلوب, يمزق الأعناق..
أبي يقف ساكنا, متهدما, يستند على عكازه في صمت عاجز, اقتربت منه:
- ماذا حدث لعلي يا أبي.. ؟
- لم يصح من نومه يا بني.. لم يصح عريسنا.. لم يصح أبدا..
- قتلوووووه ؟ قتلوا علي يا أبي ؟ هل أحب زوجته بصدق فقتلوه ؟ آآآآآه يا علي, ما كان لنا أبدا أن نعيش وسط قوم يحترفون قتل الحب, والجمال, قوم يعيشون من أجل القبح, ماذا كنا ننتظر يا علي من قوم سيدهم شيطان ملعون..
اقترب الشيخ الطيالسي وهو يغمغم, ونظراته تخشى الاقتراب من وجه أبي:
- اهدأ يا بني فكل حيّ مآله الموت..
لوحت بيدي في وجهه بقوة
- أنت قاتله, وربي لأقتلنك يوما, ولأذيقنك هول ما تقترف..
أبي نكس رأسه في صمت, والشيخ يرمقني بمزيج من الخوف والوعيد..
هرعت إلى شجرتي, ألقيت جسدي تحت جزعها, أطلقت صيحات الألم المكبوت في صدر يتمزق كلما تذكر أنه ينتمي إلى فصيلة الإنسان..
آآآ ه يا علي.. آآآه يا رفيق الصبا وتوأم مولدي, لقد كنت تفر دوما من الحب وتقول أنه مضيعة للوقت والعمر, هل صبوا في أذنيك السم لأنك شعرت بالحب لحظة ؟ هل قتلوك لأنك ذقت طعم الهوى ؟ قتلوك والله يا علي كما قتلوا هناء, وكما يقتلون جذوع الأشجار, وزهورنا الفواحة بعطر الوجود..
آآآه يا علي.. سأعيد تشكيل ملامحك من غصن شجرتي, هذا الغصن الصلد الأسمر الممتلئ بالبثور كوجهك..
أتذكر يا علي.. أتذكر تلك الفتاة التي قابلناها عند شاطئ النهر, كانت تستحم, وقد خلعت كل ملابسها, حين رأتنا دعتنا لمداعبة جسدها الغض, احتويناها سويا, تقبل أنت خدها الأيمن وأقبل أنا خدها الأيسر, تعبث أنت بنهدها الأيسر, وأعبث أنا بنهدها الأيمن, ولم نفكر أن نقتسم شفتيها.. وظللنا نداعبها حتى سقطت من أثر النشوة, وقوة الاشتهاء.. ضحكنا كثيرا, تركناها في الوحل, ومضينا نمرح وسط الحقول غير عابئين بهذا الطين الذي علق بأقدامنا..
آآآه يا علي كيف أشكلك ؟
بعيون الأمل التي كانت أبرز ما فيك ؟ أم برفضك للتسول وامتهانك للصيد ؟
أم أشكلك بهذه الضحكة التي كانت تثير حفيظة أبي في مجلس السمر, فيأمرنا بالصمت, نصمت, ونختلس النظر إلى الشيخ وهو يلتهم اللحم ويسيل المرق على لحيته فتصطبغ بالدهن, نضحك, وتسقط ضحكاتنا في داخلنا, حتى تمتلئ صدورنا بالضحكات, فتنطلق تشق أستار الظلام, وتمزق كلمات الرجال, وتنفذ, وتتفرق في كل الجهات, فتصمت الطبول, وتتوقف رقصة سعدية واهتزازات أردافها, ينهض أبي, يتوعدنا, نهرب ضاحكين إلى بحرنا, نخلع ملابسنا تحت جناح الظلام, ونرتمي في أحضان الموج, غير عابئين بأنثى الجان التي يقولون أنها تسكن أعماق البحر, أو من تحذيرات الشيخ من أمير الظلام الذي ينصب عرشه على الماء, ويجمع كل الشرور ليلقي بها على من ينتهك ليله..
آآآه يا علي.. كيف أشكلك يا توأم روحي ونصف قلبي..
أشكلك وأنت ترتقي ببصرك إلى عنان السماء سابحا على أنغام الناي الذي رجوتني أن أعزف عليه, لتحلم بين النجوم وترتقي بين السحاب..
أشكلك لحنا تهفو روحي لسماعه, لاحتوائه..
أشكلك معنى للحقيقة التي لم ندرك على أي شئ نطلق لفظها, وبحثنا في كل أرجاء التاريخ فما وجدنا غير الزور, والبهتان, والإفك العظيم..
أشكلك يا علي [ قلب دق للحب مرة واحدة, ثم احتضر.. ]
آآه جلست موجوعا, أرتل الأنين مع آيات الهوى المصبوغة بألوان الشفق, تحوطني النائحات, ألقم من ثديهن غذاء الكرب, فيشب جسدي محملا بالهم الأسود..
آه يا علي, وآه يا هناء.. يا حبي الأول, يا صدقي الأول..
كنت أرتمي بين ذراعيك, وأشعر بخرير الماء فوق رأسي, وأنصت إلى صوت الناي السابح بين نهديك, وذراعاك تحتوي روحي, كأنهما فرعان لنيل يحوطان اليابسة, يبثان فيها حياة تنبض وردا, تتنفس أشجارا..
وتسيل المياه من شفتيك شلال حياة ينزلق في فمي, وتصنعين من دمائي بحورا تمخر في عبابها الآمال, ومن عظامي سكن للأحلام التائهة, وظللنا ندور في حيز لا يسع سوى أجساد مضغوطة حتى الاختناق..
وتخترق أرواحنا أشباح تحيل أحلامنا إلى سراب, وهم مقيت, وأيادينا فارغة من تلك الأماني التي كانت تود أن تزين غد لا ندري لمن سيأتي..
وتسقطين قتيلة, ويسقط علي قتيل, وأسقط أنا بين سنوات الفقد, فيمتصني الشقاء, يمتصني, وتذبل حروفي, وتنطفئ الخفقات, فأسكب دموع اليأس من العثور على حب بعدك, أو العثور على قلب امرأة يستطيع الاحتفاظ بحبي مدة رشف كأس من الخمر..
انتبهت إلى وجود امرأة الشيخ تقف خلفي, صارعتني مشاعر القهر, هممت أن أقفز إليها, أشارت بيدها, جلست جواري, نظرت إلى شجرتي ساخرة:
- أما زالت تلك الشجرة تقف ها هنا.. لو قدر لها أن تتحدث لقالت الكثير من أسرار الكون, والحياة..
- ماذا تريدين ؟
- جئت أواسيك لموت أخاك..
- أنت قتلتيه..
- أنا لا أقتل.. أنا فقط أحب, وأعرف كيف أستمتع بوقتي كيفما أشاء..
- أنت ملعونة..
- ومن ذا الذي يستطيع أن ينزل لعنته عليّ ؟ ومن يحتمل أن أنزل لعنتي عليه.. يا بني أنت ما زلت صغيرا, وعنقك أضعف من أن يحمل رأسا بداخله كل هذه الهموم والأفكار.. هيا أريدك أن تشكل لي مثالا بكفك الذي يشبه المرآة كما يقولون, فهل ستشكلني من غصن الشجرة, أم من حجر صلد, أو من طمي النهر؟
- أشكلك.. ؟ أشكلك لعنة تهبط على الوادي فتحيله جدبا.. أشكلك خرابا يملأ النفوس المريضة بفتنتك, وتفر منك الأرواح الطاهرة, أشكلك من دماء العشاق الذين قتلتهم يداك..
نهضت ثائرة, أمسكت ملابسي بغضب, صرخت:
- ما بك.. ؟ تتحدث عن القتل وكأني أول قاتلة, سل أباك من أدخل فنون القتل إلى هذه البلدة ؟ سله كيف حكم هنا وصار هو القانون, سله.. واسأل هذا الشيخ الذي صار زوجي رغم أنفي, وصرت عشيقته بحكم الشرع.. سلهما من هو أول قاتل للحب ؟ من أدخل الفزع والحزن والكرب إلى هذه البلدة.. سلهما أيها الغر الذي لا يحسن سوى صنع بعض الدمى المشوهة, وعزف أنغام النشاز على ما تسميه نايا..
لقد كان لي حبيب, وكان أمهر من يصنع الدمى من سنا القمر وألوان الطيف..كان يعزف الهوى على أوتار القلوب ألحانا للعذوبة والنقاء.. أما أنت.. فأنت مجرد إنسان ضعيف يحيا أوهاما ساذجة, مع امرأة تحتل ربوة فقيرة مثلها, كل ما تمتلكان مناجاة لقمر هازئ منكما, ومداعبة لنجوم تسخر دائما من أحلامكما.. هيا, أغرب عن وجهي, فقد سئمتك, وسئمت شيخكم, وقوانينكم الرديئة..
ارتمت على رمال البحر تنتحب, وأنا أطوي صحف اللجوء إلى النجوم, وأتدثر بالصمت الضعيف, فيأتيني الغمام, أشكل عليه ملامح تبخر الحلم من كل الوجوه التي تشبهني..
وتزلزلني أغنية توارت خلف الصمت الذي تنتحر على ضفتيه أدمعي, أبحث عن وجه الجرح المتجدد, عن مرآة الحزن الأسود, المصلوب فوق جدران العجز, فيتخذ الحب طريقا محفوفا بعذابات التكوين..
ينشق القمر, تسقط من بين شقيه أحلامنا, تشعل نار التأرجح بين الصواب وافتضاح الهوى..
قناديل الشمس التي في دمي تنثر على حواف الحس نشيدا لهوى يشذ عن الركب, وتبني عشا يحوي القلب بكثير من الوجع..
يهتز الغناء, تلهو بأصداف الحروف, تدخل في دمي لتشكل من اللغة انفجارا, تلقيني في قاع بئر سحيق الأغوار..
من خلف أستار الغيم وأردية الظلام.. تنبثق من عينيها أشعة الغروب, فأتكسر بين زمني وزمن آخر يحاصرني بالقصيد, تتوارى عني حروفا تفككت من باقي الحكايا التي تنفث في الهوى سموم الألم, تراودني الشمس, فينطبع على وجهي وشم الانشطار, أتجرع مرارة المسافات, يتشكل الشقاء بملامح وجهي..
استباح نظرها انطلاقة إلى آخر المدى.. اجترت ذكراها:
- كنت صغيرة, أعيش ها هنا, في هذه البلدة التي يعمل أهلها بالصيد.. وكان أبي كبير الصيادين, يمتلك الكثير من القوارب, والشباك..
أحببت ابن عمي, وأحبني بكل جنون العشق, ومشاعر الهوى.. آه لو رأيت لون عينيه, وهذا الغرام الذي كان يقطر منهما, تلك النظرات التي كانت تسقطني صريعة بين ذراعيه, فيغمرني بأطياف من العشق لم يتذوقها إنسان قبلي..
بعد كل شروق للشمس تخرج النساء والفتيات لرعي الغنم, وفي الليل تبزغ النجوم, يهدينا القمر سناه الفضي, نلتحف الفضاء, ونتنسم عبير العشق.. نلهو ونغني ونرقص, وأهرب معه إلى هذه الشجرة, تحت جزعها, ها هنا.. يطارحني الغرام, ويسمعني أحلى أنغام العشق.. آه كأني أسمع الآن صوت قبلاته, وأتنسم عبيرها..
حتى ألقى إلينا البحر بأبيك والشيخ, قادمان من مجهول, تخفيا داخل غار وسط الجبل, أخذا يرقبا نساء البلدة وهن يمارسن رعي الغنم, وسنحت لأبيك الفرصة حين رأى أختي, فتاة حالمة, سقطت في هواه بسهولة..
كان أبوك يتميز بفتوة جبارة, وشباب فائر, وشبق عارم, استدرج أختي حتى حكت له كل ما يخص أهل البلد, وأوعز الشيخ إلى أبيك أن يجمعا سم الأفاعي وال****ب, ويتسللا كل ليلة إلى ديارنا, فيقطران السم في آذان وأفواه الرجال النائمين..
في كل نهار كان النحيب والعويل يتصاعد من ديار البلدة, وحل الخراب, عرفنا معنى الخوف وطعم الدموع, وألم الفراق..
لم ينج أحد من مكيدتهما, غير حبيبي وقليل من الرجال الذين كانوا في رحلة صيد, وهبط أبوك والشيخ إلى البلدة, أما أبوك فقد ارتدى ثياب الزعماء, ساعدته على ذلك قوته الغريبة, وأما الشيخ فقد ارتدى عمامة الحكمة, وأشاعا أنهما مرسلان إلى أهل هذه البلدة, وأن ما حل برجالها هو لعنة تلك الشجرة التي لم يقدم أحد إليها القرابين, فتزاحمت وفود النساء تقدمن الذبائح والأموال والذهب وكل ما يملكن إلى الشيخ وأباك..
الشيخ يكنز الأموال, وأبوك يداعب النساء بفحولته الجبارة,حتى أصدر قانونا يقضي بأن أي فتاة تبلغ المحيض يجب أن تأتيه حتى يباركها في فراشه..
وعاد الرجال الذين كانوا في رحلة الصيد ومعهم حبيبي الذي ثار على الشيخ وأباك, لكن ماذا كان يستطيع أن يفعل في مواجهة قوته الغاشمة.. كبله ثم ألقى به تحت الشجرة هذه, وجمع أهل البلدة كلهم, وخطب فيهم الشيخ أن هذا الرجل هو نبع اللعنة التي حلت بالبلدة, وأن حرقه هو السبيل للخلاص..أحرقاه, فخضع الرجال المتبقين على قيد الحياة, وتقربوا لأبيك وللشيخ رغبة في الحياة.. أي حياة بديلة عن الموت حرقا..
رأيت حبيبي مشتعلا, حولته النيران إلى كتلة من الرماد, ولم تفلح كل مياه البحر اللعين أن تطفئ جسده أو نيران قلبي..
وحين شكت أختي من إهمال أبوك لها طردها من البلدة, بعد أن قال لها أمام الجميع أنه لا يأتي العاهرة إلا مرة واحدة فقط..خرجت تجرجر أذيال عارها, ولم نعرف عنها شيئا حتى الآن..
ثم قسم أبوك النساء إلى نصفين, نصفهن يخرجن للتسول من البلدان المجاورة, والنصف الآخر ينظفن ديار وأزقة البلدة..
ذهبت إلى الشيخ أستسمحه أن يعفيني من هذا الجور, فقال أن بإمكاني أن أعيش كأميرة على كل النساء إن تزوجته..
وأنا موجوعة القلب, يقتلني اليأس والألم, ويدمرني الهلع من بطشهما, استسلمت لقدري, تزوجته, ساقوني إليه لأكون عشيقته بحكم الشرع.. شرع أبوك..
وعاهدت نفسي, مادمت أميرة هذه البلدة, فلن أدع فيها قلبا يهنأ بالحب, أو بالغرام الصادق..
وأخبرني الشيخ أن الحياة هي الملذات, والشهوات, والموت سيحرمنا منها, فلا بد من إغتنام الفرصة, والاٍستمتاع بهذه الحياة التي لا حياة بعدها, فالعذاب هنا, والنعيم هنا, وعلمني أن الخلود والقوة المطلقة تكمن في قلب من يحب بصدق, وأن الليلة السادسة للقمر الأسود هي الليلة المناسبة للبحث عن القوة في قلوب المحبين, وصادف ذلك ليلة أمس.. فلم أجد أمامي غير أخاك, حظه العاثر وضعني عند داره, سمعت تأوهات عروسه, اغتظت من اللذة التي ينعمان بها, انتظرت حتى انتهيا, ثم وضعت السم في أذنيه, أليس هذا ما علمنا أبوك أن نفعله ؟
فمن القاتل برأيك, الذي علمنا القتل, وقتل أحبابنا وأهلينا.. أم أنا ؟
هل عرفت الآن من هو أبوك, وهذا الشيخ المعتوه, إنهم كالخفافيش, لا يرون إلا في الظلام, ولا يتآمرون إلا تحت أجنحته, وهذا الشيخ فاسد العقيدة, غامض الفكرة والأسلوب, يثير حوله جوا من التقديس الكاذب, يخدع به البسطاء..
أتدري أيها الأبله لماذا تركت لك نجلاء ؟ فقط لأنها لا تعرف من الحب إلا ارواء غرائزها, وهي كباقي النساء, تريد أن تعيش في كنف رجل يكفيها هم التسول, ويخاصرها ليلا, وتنجب أطفالا منه أو من غيره لا يهم, فقط تزيد المجموع إنسان يعيش كما يعيشون, يتقربون إلى أبيك والشيخ ويخشون قوتهما, وينتظرون المنقذ أيا كان اسمه, المهدي, الشاطر حسن, أو أميرا يمتطي صهوة جواده الأبيض.. إنهم يتسولون الوهم, يرتقونه بخيالات مريضة, ويصدقون الزيف الذي يخترعونه, يعيشون مصدقين لرؤى غبية, ووجود يفتقر لأدنى أسباب وجوده...
اهتز كياني, وبداخلي تصارعت مشاعر الحب مع رؤية للكون تتضاءل, وتكاد أن تنمحي.. تبأور الظلام بتجويفي, ناديتها قبل أن تغيب:
يالك من امرأة جردت المعاني من دفئها, واستباحت قتل العواطف في محراب الهوى..
أيها الغجرية المشاعر, المشوهة التكوين, الحجرية القلب.. أتنتشين حين تطرق أسماعك صدى آهات تخرج من أعماق ذات تتمزق قتلا..؟
ومن هنا من تحت هذه الشجرة, أطلق صرختي لك, ولبلدتك, ولعالمك..
فأنت ما عرفت معنى للحب, وأن ما فوق أرضكم وهم, وما فوق سماءكم وهم, وأنت وكل ما حولك سراب..
صمتت كلماتي, غابت مع الشمس, سألت نفسي هل سمعتني تلك المرأة ؟
***








وفود المجاذيب تتجمع, والمريدون يلتفون حول الدفوف..
والرقصة اليوم على الواحدة والنصف صوفية
واشراقات التجلي تلوح في الأفق كشهاب يمرق بين عمرينا, أرتد إلى استباحات الروح لهشيم الصبا, وهم يستجيرون من شهوة الحرية بحرية الشهوات, وأنت تشتعلين رغبة في سماع مقامات المجاهدة في مجالس الإنشاد, وتنشدين الحب خديعة, فتسقط حياتي بين أطياف تتراءى في الأفق البعيد..
يهتف البسطامي سبحاني, ما أعظم شاني
والذكر المستوحش يزاول النزيف المقدس.. رتابة دقات الدفوف كشعاراتنا, صارت لا تعني شيئا, والناي أصابته اللعنة, صار متحشرجا, تتدلى من فتحاته أجسادا مسلوخة من فكرها, تقطر علقما, وكوابيسا, وهياما باللطمات..
تشملنا اللوثة, نصرخ, نقذف السنين بشهقات الحب المقتول, ويلتبس اللغز باللغز, وتتراقص المشاهدات على ضوء الشموع, يتجلى السر الأعظم, يتنزل العشق في قلوب الراقصين وجدا, وقطب الزمان يرقص كباليرينا يطير بين اشراقات العلم اللدني, ليدلف إلى عالم الأسرار من أجل معرفة الاسم الأعظم, ليتدبر إشكاليات أولياء الجوار في الشرق الأوسط, والأدنى, والأعلى, والأصغر, والأكبر...
وفي صخب الزحام يصطفي ما وراء الغيب للبحث عن أنف أبي الهول.. !
وأنت تمرحين على ظهر الكلمات, تبدلين الوقائع بالبسملات, تزينين العرائس بدم الشهيد, تعيشين عهد الفوات المر..
وجروحي لا تطيب, وطيب شذاك في تابوت الوداد, تنكسرين في طهر المعاني الخفية, والطيبات من الرزق..
وامرؤ القيس يزفر محموما, ويومه خمر, ويومك سكر, ويومهم عربدة وعهر, وأنا مقتول بين ترددات أنفاسك..
يشير الرفاعي نحوي, يهمس بالمعرفة النورانية ( قرب قلبك من الذاكرين, لعله ينتبه من الغفلة )
أنتظر أن تمطر السماء خواتيم الحياة, أو لحظة صدق, أو فضل كبرياء.. افتحي دفتر الصمت, افتحي سجل الهجر, أخرجي من أحشائي على سرير غرامنا, أنت النقطة تحت الباء, وكنت أنا الألف المنتصب.. من كسرني ؟ من لملمني من على واجهات الحوانيت المتراصة فوق شواطئ العزلة ؟ من أخذني من وسط الميادين ؟ من دمر في تكويني البهاء ؟ من وجدني نائما على شاطئ أحلامي فبعثرني كالمطر على أرض جرداء ؟ ومن أخفاك في جاهلية العزف المبتور من حفيف الشجر ؟
الخليفة يركب الجمل, تعتليه عمامة ترتكز عليها الكرة الأرضية, يتيه على المجذوبين والمريدين, يصطف الأولياء والأقطاب, يتجلى الغوث, فتتوهين من لمسة يد البركة بين نهديك, يبصق في فرجك الأماني الحبلى بأيام العشق..
ها أنت حبلى بالفجر من بصقة الظلام, فهل تتمخضين صفقة الموت.. ؟
وتعتنقني الدهشة من اللون الأخير للألم..
عند الباب العالي ابن رشد يتأبط شرا, تتسع خطوات الحلاج, ينظر تحت أقدام القوم, يشير إلى الإله المنغمس في بئر البترول, يشتد أنين الوتر, والعازفون يهرولون, يمزقون الكافر بلغة العصر الردئ, يهتف يا أنا, لا تجيبه الأنا, سوى جارية تكشف لسيدها الغوث عن كعبها, أبانت درها, وقالت هيت لك, قال ما شاء من شاء, وضاجعها في بيت شاعر ما زال يبحث عن تفعيلة يكبل بها نظرات زرقاء اليمامة, وأحزان الخنساء..
آآآه...قد أتى الغزاة إلى حدودنا, فافتحي فخذيك ليدخلوا أفواجا, وليخرجوا أو لا يخرجوا.. فكلما دخلك غاز لا يخرجه إلا غاز..
وأنا مطأطئ الرأس, أهمس سرا وطني حبيبي الوطن الـ....
أسوء ما يسوءني في العار أن يتوسطه حرف العين الذي أهواه..
العين بالعين.. ؟ هذا هراء.. يبدو أن النبيذ اليوم صوفي المذاق.
***




عند شاطئ النهر, أمي جالسة, متكورة على نفسها, دموعها سوداء, تشع حزنا وهوانا.. أخذتها على صدري:
- أما آن لك أن تفتحي حقيبة زمنك, لأعرف حقيقة زمني..؟
- إن الأرض تدور يا بني, تريد أن تفر من نظرات السماء, يكبلها الغلاف الجوي, وتئن مما تحمل على ظهرها من مخلوقات تخجل من صفاتهم..
- اهديني زمانك يا أمي.. أريد أن أعرف المصير, حدثيني عن ذكرى الألم القديم, الذي يتردد صداه عند مشارف كل عام جديد, فيتغلغل بين شعاب روحك, وتتأملين جراحك, وتبكين عمرا لم تعيشيه.. حدثيني عن تلك الشجرة التي نمت في وادي الجدب, بين جبلين أحجارهما الخوف والرجاء, عن ارتجافة شفتيك, وتلك النظرة المنكسرة في عينيك..
مسحت دموعها, غابت في زمانها لتروي:
- كنت صبية أصنع الدمى من طمي نهر يشبه كثيرا هذا النهر, في بلاد لا أدري الآن أين تكون.. وكان ابن الجيران يأتيني بالحلوى كل يوم ويقبلني, كان يملك الكثير من الحلوى, ومن القبلات أيضا..
في يوم صنعت دمية تشبه أبي كثيرا, فرحت بها, لعله إن رآها لا يضربني, فقد كان رجلا سكيرا, لا يقيم وزنا لأي شئ..
وضعتها بجواري وأنا أستحم, حضر أبي ثملا كعادته, حاولت أن أداري عريي من نظراته, أمسك بالدمية واقترب مني, قال إني نسيت أن أصنع لها عضوا, وأن هذا العضو هو الذي يفرق بين الرجال والنساء..
وأخرج عضو رجولته, وأمرني أن أمسكه كي أعرف كيف أصنع مثله للدمى, خفت من سكره وبطشه, أمسكته ببلاهة, وأمسكني بشراسة, شعرت بالألم يلج في فرجي, حاولت الصراخ صفعني, هدني الرعب, كنت أظنه يريد أن يضربني, وما كنت أدري أنه يريد أن يقذف بداخلي لعنة ما حملها أحد قبلي..
استسلمت لما لا أعرف, وحين انتهى مني, بصق في وجهي وذهب, لملمت حطامي وخرجت, جلست عند النهر أبكي ألمي, جاءني ابن الجيران, ما استطعت أن أحكي له خيبتي, اقترب ليقبلني, فزعت منه, ألقيت الدمية, وحملت لعنة أبي ومضيت, تتناقلني الدروب من تيه إلى تيه..
وفي الوادي خلف هذا الجبل, وجدت عملاقين مصلوبين على الهواء, توسلت اليهما أن يرشداني ماذا أفعل, أشارا إلى بئر خالية من المياه, تجلس على حافتها امرأة عجوز, ترتدي السواد من الرأس حتى القدم, اقتربت منها, رأيت وجهها جمجمة خالية من أية ملامح سوى الفزع, هممت أن أهرب منها, غير إني اصطدمت بشئ فسقطت على الأرض..
نهضت المرأة, اقتربت مني وهي تتلو تعاويذ غريبة مبهمة, شعرت بالاستسلام لها, بعد أن تفحصتني قالت إني أحمل في تجويفي لعنة كانت تنتظرها من زمن بعيد..
ضغطت على بطني بشدة, تأوهت, والألم يمزق أحشائي, أطلقت الصرخات من جوفي, فتلقفت وليدي على يديها, لم يكن يبكي كالأطفال, وضعته المرأة بين يدي العملاقين, ثم ألقت به في البئر, لم أشعر بالحزن عليه, بل لم أشعر أبدا أنه ابني، ثم اتخذت طريقا آخر إلى تيه آخر..
سرت حتى رأيت كائنا له رأس صقر وذيل تمساح, يسير وسط صحراء رمالها شقراء, يسوق أمامه عشرات من النساء العرايا, تحوطهن قرودا برؤوس كلاب, وخلفهن رجال بملابس سوداء موشاة برسوم كالجماجم الذهبية, يحملون قاربا خشبيا مزينا برؤوس منزوعة من أجسادها, وفوق القارب هيكلا خشبيا لم أستطع أن أتبين ملامحه..
حين رآني ذو الرأس الصقرية, أرسل قروده الكلبية, مزقوا ثيابي كلها, حتى بدوت عارية, ذائبة في الرعب, ثم جرجروني لأسير مع قطيع النساء العاريات, حتى وصلنا إلى عرش الطاووس عند بحيرتهم المقدسة, حيث رأيت المرأة العجوز ذات الرأس الجمجمة وبجوارها قزم مشوه كأنه مسخ, عرفت أنه وليدي, اللعنة التي أهداني إياها أبي..
أمرني القزم بالسجود قبل أن أحاول إخباره بأني أمه, سجدت وسجدت كل النساء تحت قدميه, أشار إلى الكاهن, فأتى بحمار وحشي, ثم اختار من النساء أجملهن, كبلها الكهان, أرقدوها أسفل الحمار, ودعوا الحمار لمعاشرتها, أخذت تصرخ المرأة من ذل الجماع الوحشي, وحين أتت انتفاضة الشهوة للحمار, رفع القزم سيفه واجتز رأس الحمار, اندفع الدم شلالا حارا, غمر المرأة أسفله, وسحبوني لأستحم بالدماء الحارة, وأنا أصرخ, وأشهق, وأدعوا الموت أن يخطفني, لكنه يأبى..
تقدم كبير الكهان مننا, وأشار أن نسير خلفه, تلفت حولي, اختفى كل شئ في لحظة, حتى معالم المكان ذاتها, ولم يبق غيري والمرأة التي جامعها الحمار, وكبير الكهان, سرنا خلفه, حتى وجدنا قاربا يتأرجح على الهواء, صعدنا عليه لا أعرف كيف, استقبلتنا أربعة صقور خضراء, أظهرن حفاوة بالغة بالكاهن الذي أطلق إشارة للمسير, سار القارب تحمله الرياح, حتى هبطنا واديا مليئا بالأشجار والزهور, وفي وسطه بئر تجلس حوله نساء كثيرات عاريات, ما أن رآهن الكاهن حتى صاح, فوقعن من فورهن ساجدات, طارت الصقور الأربعة في اتجاه الأركان الأربعة للأرض..
هبط الكاهن من القارب, صنعت له النساء طريقا بأجسادهن حتى البئر, كان يطأهن بوحشية, فيتأوهن بنشوة, خلع ملابسه, ألقى جسده في البئر, خرجت منه نيران شديدة كادت أن تحرقنا..
جريت ذعرا, سقطت المرأة المسكينة, التفت حولها النساء العاريات, التهمت كل واحدة جزءا من جسدها بتلذذ, وأنا أختبئ خلف شجرة, وأذرف دموع الرعب, حتى ما بقي من المرأة سوى بضعة عظام, وشئ من الدماء ابتلعه الثرى, ثم جلست النساء تمارسن طقوس الجنس الجماعي..
خرج الكاهن من البئر, بحث عني وهو يزأر غيظا, انكمشت في مكمني خلف الشجرة, وحين رحلت الشمس, سرت أتخبط بين الأشجار, حتى وجدتني على حافة نهر صغير..
كان القمر نصف بدر, أو نصف ظلام.. حين أرسل أشعته الباهتة, رأيت على الشاطئ المواجه رجلا يقف ويدعوني أن أسرع بالعبور إليه, هبطت مترددة إلى المياه, حملتني إليه بود, ارتميت بين ذراعيه, وجدته ملاذا ومأوى.. ضمني إليه حتى استعذبت أمره, حملني إلى داره, عرفت معه الحب الذي يسمو بالإنسان, ويملأ الروح بالضياء, لم يترك جزءا في جسدي إلا وقد أسبغ عليه نشوة ومتعة حتى كدت أن أنسى كل ما مر بي..
حتى سألني: من أوقعك في جزيرة الأسرار, سألته عنها, قال إنها جزيرة تقع وسط حقل القرابين التي تقدم إلى القزم الملك اللعنة, البجع يحلق تحت سمائها طوال النهار. وفي الليل تتحول البجعات إلى نساء يتغذين على لحوم النساء اللاتي يأتي بهن كبير الكهان, وقد أعطى البجع لهذا الكاهن شجرة الحياة, وهي شجرة على هيئة جسد امرأة لها ألف ذراع, تنبت كل يوم في كل ذراع طفلا, يأكلهم الكاهن كل يوم, ويرتوي من ثدييها ما شاء فلا يفنى أبدا..
مضى زمن جميل علينا ونحن ننعم بالهوى, نسيت الخوف والألم..
حتى كان يوما, كنت أتجول على شاطئ النهر, رآني الكاهن, تذكرني, أرسل صقوره الخضراء, أحاطوا بي, حملوني إليه, وقفت أمامه كتلة من الرعب, توسلت إليه أن يطلقني, سخر, أصدر أوامره للصقور, مزقوا ملابسي, واقعني بعنف مرير, شعرت بعامود النيران يخترقني للمرة الثانية, ظللت أصرخ حتى رآني حبيبي, أطلق سهامه نحو الصقور فأسقطها, تركني الكاهن وانتصب ينظر إليه متوعدا, هرولت إلى النهر, عبرته سريعا, احتضنني حبيبي, والكاهن على الجانب الآخر يزأر ويتوعد بالانتقام..
حين أظلم الليل, كانت نساء الكاهن يحطن بجزيرتنا من كل جانب, يبحثون عنا تحت كل حجر, وفي كل جحر..
فررنا من هذا الخوف حتى نهاية الكون, حيث ينمحي الأفق, وتختفي الأرض, وموضع القدم لا بديل له في الأمام..
في هذا الموضع يا بني ليس لكإلا أن تثبّت أقدامك في موضعها الكائنة عليه, أو ترتد القهقرى لتعيش في أزمانك الوضيعة, وتعاود قراءة تاريخ سفك الدماء, وأساطير الدهاء الإنساني..
وقفت جواره, أمسك كفي, شعرت بارتجافاته, قال انه ظمآن, اجتذبت حلمة ثدي كانت تتدلى من آخر جزء في آخر سماء تظلل آخر جزء من الأرض, ملأت فمي, وسكبت ما فيه بين شفتيه, انزلقت قطرات المياه من فمي تملأ تجويفه بأمل كالضوء الوردي, احتواني بذراعيه, تلاصقنا بحمى الانتشاء, قلت له: يجب أن نفر خارج سياج هذا الكون الرافض وجودنا, نخرج بعيدا عن مدار الخوف, لنسبح في مدار العشق, نترك لهم هذه الأرض, ورائحتها العطنة, وهذا الظلام الذي يسكن جنباتها, هيا.. هيا يا حبيبي نصنع لنا تاريخا بديل, وزمنا آخر.. ها نحن عند نهاية الكون, خطوة واحدة, موضع قدم واحد, ونخترق الحاجز بين عالمهم, وبين العالم الذي نأمله, حينئذ سنتوحد في نسيج من الحب الأبدي, فأكون أنا أنت، وتكون أنت أنا, أناديك يا أنا, وتجيبني يا أنا.. هيا.. سأدع لك الفضل في أول خطوة خارج حيز الأرض, وحين تستقر قدمك على موضع, مد لي يدك, وانتشلني, ضمني بقوة إلى صدرك, سأتحول إلى شعاع ينفذ بين ضلوعك, يستقر بجوار قلبك, سأهمس داخلك أجمل أغاني العشق, وأصدق كلمات الغرام..
وخطى حبيبي أولى خطواته خارج مدار الأرض, وبسرعة البرق لملمت حروف الأشعار, عجنتها بهمساته وكل حبي وشوقي, شكلت من العجين أرضا بحجم قدمه, وضعتها أسفله, استقرت عليها قدمه خارج نطاق الأرض, وحين هم أن ينقل قدمه الأخرى شكلت من قلبي موضعا آخر لقدمه الأخرى, استقر حبيبي خارج الكون, في مدار لا يحوي غيره, علت الابتسامة وجهه, وهو يشير إلى وهج فضي في بعد متناهي, قال: هذه دارنا, تقبع في مدار العشق, تنتظر أن يملأها حبنا الصادق, هيا.. هيا يا حبيبتي.. تعالي في صدري..
مد يده لينتشلني, استمهلته برهة, لآخذ آخر ميراث لنا من أرض البشر, زهرة بلون حبيبي ورائحته, ونايا لنتراقص على شجنه, ويحكي قصتنا..
مددت يدي إلى ساق الزهرة, جذبتني يد قوية, عم الظلام بغتة كل شئ, شعرت باختراق لكل منافذ جسدي, ضاعت صرخاتي بين حروف الرعب, وتحت أقدام التوسل..
وعلى ضوء موقد النيران المقدسة, كان القزم الشيطان, يقهقه بعد أن صلبني على جزع شجرة, وأخبرني أنه أرسل حبيبي ليخلق زمنا بديلا وحده, وسط فضاء لا متناهي, لا يحتويعلى غير الفناء الأبدي, والهلاك المحتم, والسقوط المرعب..
ثم أمر الكهان الذين حملوني, وألقوا بجسدي في مياه البحر, حيث ألقاني بدوره ها هنا, تحت جزع هذه الشجرة..
هذا البحر يا بني يلقي بكل سيئات الكون تحت هذه الشجرة, وبداخل هذه البلدة التي أشاع فيها أبوك الفجور, وأشاع فيها الشيخ عبادة آلهة من نسج خياله المريض, ووهمه العفن..
وبعد كل ما عشته من قهر, وجدت في هذه البلدة سلطة أباك, خفت من بطشه, فاستسلمت لرغبته أن أكون زوجته..
ما حكيته لك يا ولدي صيغة مبسطة لزمن القهر, الذي لن ينتهي إلا بتدمير هذه البلدة, وجفاف هذا الوادي, وضياع كل شئ.. كل شئ..
حين صمتت أمي, أطبقت بيدي على طمي النهر محاولا تشكيل وجها بلون الانتهاك, أو نقش صورة لوجه وليد يحمل للعالم الكثير من علامات الاستفهام..
اهتزت أمامي كل المرئيات, لم أستطع أن أرسم أو أشكل أي شئ.. أي شئ..
***









تلفت حولي أين ذهبت حلقة الذكر والمريدين والمجاذيب ؟
هل أستطيع أن أرقص وحدي رقصة صوفية ذاتية الألم, وأقرأ طالع الأيام وسافلها.. ؟
لكن من سيدق على الدفوف ؟ ومن سينشد تراتيل الاضطراب؟ ومن سيساوم الأقطاب عن هوس اللذة, وأوار عشق الذات ؟ أين أرباب العدل ؟
كانوا دوما يدورون في حلقات الذكر الوهمية, تظللهم سماوات سبع, في نهارات سبع, تهتز أردافهم في قداسة التدبر..
ينفث القلب دخان سجائره في سماء الضباب, تشتعل السماء بنيران الغزاة, ودماء اليمام, وأنت ما زلت تشكلين ملامح وجه غبي على صدر الغمام..
كنت أظنك حبلى بالمسرات, كنت أظنك مرفأ أستظل بمودته من شمس المواريث..
ترتعش أطرافك على أوتار الكمان, يرتفع غنائك, فيتسابق شعراء المقاهي لتقديم شهادات مزيفة عن عمرهم الآفل في طي التهميش, ينسحبون من تحت أنقاض الحياة, زهورا متبلة بالقطران, وبالشعر المهزوم.. يغوصون في أنفسهم حتى الاختناق..
***










تطلعت إلى الربوة, رأيت سيدة الضياء تغني في شرفتها, صعدت إليها, وآلامي تتسلل من ثقب في أعلى حنجرتي, تمر بتجاويف خرقاء, دهاليز نتنة, ودروب متشابكة, شائكة, قاتلة..
الآن صار الهوى لا يعني شيئا, بعد أن ضاعت المعاني في دروب الاستهلاك اليومي لكل الألوان والأنغام, والآلام..
وسط الغيوم لمحت جدائلها تمرح مع النسيم, قفزت أنهار الخوف وشلالات التردد, حاولت أن أقبض على جدائلها, فهوت يدي بقسوة الأيام تلطمني, لعنت السراب الذي يملأ حياتي..
دققت بقبضة يدي على جدران حجرتها, سمعت همساتها تناجي القمر, ناديتها:
الآن أرغب أن أنثر في تجويفك بذور النقاء, لعلك تنبتين شيئا يتخذ من لون الورد شعارا, لكن فرارك في أحلامك, واستكانتك كسهم في جعبته كائن, وأحلام الهوى التي تطلقينها, تتخبط بين شعوب وحضارات بائدة، فتسقط من علوها, تشج رأسي المبلل, تنثر عليه الخزي الذي يمزق الروح, فأفقد أي شعور, وكل إحساس إلا بالامتهان..
هل لك ذاكرة.. ؟
لا تسأمين من أسئلتي تلك التي تحاول استكناه تلك الشفافية الوهمية التي تطرز ضبا بيتك..
هل تعين ماذا يدور في شوارع بلدتنا ؟
بعيدا عن هذا الضوء الذي تلملمينه من نجوم وأقمار شتى, بعيدا عن شجو صوتك, ورنين همسك الذي يتوغل في نفسي فيعيد لها شيئا من توازنها..
هل أشدو لك ترنيمات الوجع التي غنتها لي أمي بالأمس, أم أرتل لك آيات الهوى المقتول بسم أفعى, اقتلعوا من تكوينها كل إحساس بالجمال, وهذا كفي المرآة الذي لم يستطع أن يشكل أي حقيقة في الكون بعد ما عرف أن الحقيقة لفظ دال على تطور الوهم البشري..
في شوارع البلدة, وحواريها, وأزقتها, صوت لناي مكسور, ينعق بحمى الألم المتفشي بين نفوس ترعى الهم, تنام بين أحضانه, وحين يصحو تحمله إلى المدن لتتسول به هما أكبر..
بأي شئ أحلم الآن.. ؟
حين تضيع الأماني وسط خيالات الوهم في دنيا أحلامها مستحيلة, بعد سقوط رموز الحب والجمال في المستنقعات, لتتصاعد رائحة العفن من كل جنبات الحياة.. فهل ينبغي لي أن أحلم.. ؟
ارجعي النظر إلى وجوه أهل البلدة, تلك الوجوه التي تحاكي كل ما نشعر به من خزي وآلام ولدتنا, وجعلتنا نتبوأ منهجا لإضفاء الزيف على الوهم, وفرض فلسفة غبية, نجمل بها حياتنا تسمى التوازن العقلي....
مجرد شعار نخدع به الأبرياء, ونداري به سوءاتنا في زمن يفضح الفقير, ويحني قامته لأصحاب الشعارات التي نستقي منها تفاعلات مزيفة للحب, والخير, والجمال, مع كل هذا القبح الذي تنطوي عليه نفوسنا..
دعينا نتكاشف, ونطلق البوح بكل أسرارنا, دعينا نتحرر من قيد ذلك الجسد المحمل بأعضاء لا أدري لها جدوى.. آه لو تعرفين لذة الانطلاق خارج هذا الجسد, وعربدة الروح في الأجواء المطلقة..
لقد سرقت لحظة من الزمان, وعلوت فوق نبت الطين, إلى فضاء الفضاء, حيث اللا حدود, اللا متناهي, حيث تقبع نقطة من ضوء, كأنها نقطة ارتكاز أو انطلاق الضياء..
وكأني رأيتك هناك, ترتدين ثوبا زجاجيا على لا جسد, ووجهك ليس فيه سوى الحب الذي يسمو فوق متطلبات الجسد الطيني, منحتينني حريتي, وقلت لي: تمنى وانطلق, وتمنيت أن أسعى في دروب الهوى, وأسبح في ضوء المنى, وانطلقت, وتعثرت, وسقطت.. بكامل حريتي سقطت, وضحكت مني, ومن ظلال القيود التي ما زالت تمارس ضغوطها على معصمي, حتى جذبني الجسد الطيني إلى ظلماته, لأعود ثانية أبحث عنك في رحلة عقيمة, داخل متاهات خلقت لنا, وخلقتنا..
والآن.. أستطيع أن أحكي لك عني..
حين كنت في التاسعة من عمري الشقي, كنت أسمع كل رجال القرية يتندرون بجمال امرأة الشيخ الطيالسي, وكلما ذهبت إليها لأي أمر, أراها ترتدي ثيابا تشف جسدا أبيضا مخلوط باحمرار طفيف, فأهيم بنظراتي على جسدها الجميل, لاحظت هي نظراتي الفاحصة لغياهب جسدها.. نادتني, ضمتني إلى صدرها الشبه عاري, وقالت أني أذكرها بشبق أبي, وعنفوانه..
شعرت بحرارتها, ووهج يتأجج في جسدي الصغير, خلعت ما عليها من ثياب, وجردتني من ثيابي, داعبت أجزاء شهوتي بشفتيها.. ثم.. ثم استلقت على ظهرها, علمتني كيف أكون رجلا..
بعد هذا اليوم لم أستطع أن ألعب مع أي فتاة غير لعبتي مع تلك المرأة, حتى ابنتها, والتي كانت أجمل منها, كانت تمتص ذكورتي بشراهة..
أدمنتها, وأدمنت أمها.. كنت أشعر أني أنتقم من عهر الشيخ الذي يزاوله مع نساء البلدة بعهري مع زوجته وابنته..
ولما رأيت كل رجال البلدة يضاجعون نساء بعضهم بالتبادل, أدمنت كل نساء البلدة وبناتها.. أما النساء فقد فرحن بالرجل الجديد, ذو الشبق القوي, والشهوة المتقدة التي لا تهدأ.. وأما الفتيات فقد كن يحلمن بيدي وهي تغزو مكامن شهواتهن..
ومرت سنوات وأنا أزاول لعبتي في تكتم تام, كل فتاة تريدني أن أداعب أشيائها, وكل امرأة تريد أن تستعيد ذكريات شبابها معي, ولم أبخل عليهن بشئ أبدا..
كنت أشعر برجولتي وأنا منكفئ على صدورهن..
حتى جاءت إلى بلدتنا امرأة جديدة, معها ابنتها التي فاقت كل نساء البلدة وبناتها جمالا وفتنة, بعينيها الخضراوتين, وشعرها الذهبي المسترسل على ظهرها بلمعة براقة تخطف الألباب, ولأول مرة أشعر فيها بخفقات قلبي, ولأول مرة أهيم في جمال عيون فتاة دون أن أمس منها شئ..
تحادثنا عن كل شئ في الوجود.. في الشعر, الموسيقى, جمال البحر والجبل والنهر, جمال كل شئ, لكني خجلت أن أحدثها عن جمال عينيها..
ويوما ذهبت إليها, وجدت الشيخ يضاجع أمها, ثم يضاجعها.. سمعت تأوهات نشوتها, رأيت تشبثها بفحولته..
عرفت أني أخطأت.. فما كان يجب أن أرتدي قناع الخجل, فالنساء هن النساء في كل وقت وكل مكان لا يبغين سوى المضاجعة, والاشتهاء..
فما جدوى نظرات العشق المتساقطة من عيني على بلورات وجهها, دون أن أثير غرائزها ؟ وعدوت أبحث عن وهمي.. أهناك حقا ما يسمى بالحب ؟ فان لم يوجد سأشكله.. نعم أستطيع أن أشكل حبا طاهرا, أستظل بظله, أستأنس بوجوده, يهبني الدفء الذي أشتاق إليه..
فشكلت بالطهر والنقاء فتاة, واختزنت في جوفها كل آهات المحبين, وكل هوى احتواه الكون..
أحببتها, عشتها كل برهة, كل طرفة عين, وبكل تكويني, بكل الأفكار, والأوهام, والأحلام, والكلمات, والأشعار, وقصص المحبين, ولوحات الجمال, وتماثيل الحب, والحرية, والدمار, والاغتصاب, بكل بشاعة الإنسان, وبكل جمال الكون وقبحه, شكلتها بكف مدربة على صناعة الجمال..
حين رآها الشيخ, ألقاها في نيرانه المقدسة, تقربا لإله لا نعرف عنه شيئا غير الدمار..
لتنطفئ الشموع, وينتهي قداس الحب, وأعود مهزوما إلى قبيلة البشر المهزومين..
وتنتهب ليالي الشوق فكري, فأجوب بلاد الأوهام, أبحث عن معاني وردية لأحلام الصبا.. فأتذكرها بين أحضان الشيخ يلتهمها, وتلتهم منه شبقها, أناديها على صفحات الغيب:
- يا أنت, يا صانعة الهوى.. أتدرين ما الهوى.. ؟
الهوى ليس ما بك ولا به, ليس كما تظنين أنه اصطباغ الشفاه بالتلاحم الشبقي, الهوى ذاك الذي يحتويني ويحتويك بظلال مضيئة بألوان الورد, وعبق الموسيقى, وجرس الكلمات اللاهثات لتصوير عالم الشفافية, الهوى ضوء هادئ يرتقي بنفس ضاقت من قيود الليل, والعتمة, ومسامرة الأشباح..
فأين منك هوى تلهث خلفه القلوب, وترتجف له الشفاه, وتشتاق دموع العين لأن ترويه بلهفة الاحتواء..
وأجتاح مدن الخيال المتشرذمة, ألملم شتات نفس ضالة, فأراها تتجرد من حبي مع أثمالها المبللة بطعم الملح, فتكويني لحظات الحب الخادع, ويرهقني التجوال في مدن السراب, فأعود إلى ذاكرتي, حيث انمحى كل شئ كان قائما بيننا, وذاك الذي كنا نتوهمه, ونشعر به وهو يسمو بنا إلى عالم تكسوه همسات المحبين, وابتسامات العشاق..
فلترحل.. قد أخطأ قلبي الصواب, قد أخطأ شعري اختيار بحور الهوى, فتلفظ كلمة حب في وجه امرأة لا تعني بغير السراب, ولا تنادم سوى الحروف العرجاء التي تهب الإنسان صفة الامتهان..
ثم التقيت بها بعد ذا.. حادثتني, وحادثتها عن كل شئ, إلا عن حبي القديم, وعينيها الخضراوتين, وحين توقفت أمام منزلها, دعتني للدخول, لم أستسلم لإغرائها, تركتها ومضيت..
نظرت إلى دروب بلدتي المتهالكة.. كل السبل أمامي تؤدي إلى قلب ينهار..
أقسم بعينيك, أن أبذر في جوف النساء بذور مقتي, لتنبت معاولا للهدم, وسبلا للخراب.. وأكون أنا الذي أروي شبق العاهرات, أنشل أسرار الكون من فروجهن, أغوص في دهاليزهن النتنة..
أما أنت.. سأدعك تحترقين بنيران غريزتك وشهوتك, ولن أتفل بين فخذيك برغبة اشتاقت إليك حينا, ثم كفرت بجمال عينيك..
وقابلت افروديت, ألقت التفاحة الذهبية تحت قدمي, ركلتها, أمسكت خصرها, وضممتها, تركت لها شفتي, فانتهلت, اشتاقت فتشبثت, وتعرت..
أجلستها على مكامن ذكورتي, سمع الكون تأوهات لذتها, تلاحقت أنفاسها, وصراخها.. اشتعلت, وحين خبت وجدتها رمادا منثورا على نصفي الأسفل, نفضته, وانزويت تحت شجرتي, أبحث عن خجلي القديم, الذي ظننته يوما فضيلة إنسانية..
ثم أدمنت مطالعة الوجوه.. والوجوه في بلدتي متعددة..
وجوه سمراء, شديدة سواد العين, والشعر ليل, كوجه أمي, الأرض الطيبة تتغلغل بين تجاعيده..
ووجوه شقراء, تشعرني بهمجية الاستعمار, دليلا قاسي على زنا هذه الأرض..
اختلاف الوجوه, الضاحكة, والمبتسمة خجلا من زمانها, الوجوه القاتلة, والمقتولة, ووجوه المتسولات, وصانعي الألم, وجوه تكسوها الألوان المستوردة, ووجوه يكسوها عبء الحياة, وظلمها.. وجه الجلاد, وجه القاضي, والشهود, والمحكوم عليه, أو له........
تتعدد الوجوه, لتشكل في النهاية لوحة بشرية, أسطورة يصيغها بسحره بودلير, ويصورها بجنونه سلفادور دالي, وأحاول أنا قراءتها, لا أستطيع, فأنظر إلى المرآة, أرى وجهي نصفان, نصفا أسمر, ونصفا أشقر, أصرخ فزعا.. إلى من أنتمي أنا.. ولا مجيب.. لا رد, يعود صدى صوتي محملا بالخيبة........
حتى رأيت وجه الصدق والنقاء, وجه لم تلوثه المعتقدات البالية, أو العلاقات القذرة, وكأنه غاب عن الدنيا حتى نضج, وجه هناء.. طهر ما اعتدت عليه بين البشر, عرفت منها سر علاقة الحب بالموسيقى وشدو الناي, رأيت براعم الهوى تتفتح, وشممت شذاها, عشت الهوى ثملا بين أحضانها, علمتني عشق الزهور, وسنا القمر..
الحب كان معها فرحة طفولية, أيام عشتها بكامل سعادتي, فكيف أنساها, لقد أنستني كل هموم الدنيا بكل آلامي وأوجاعي.. لم أدر أين وكيف كنا, وهل كان معنا أم علينا الزمان.. كان حبها رحلة هادئة على أجنحة النسيم, رأيت معها الحياة بسمة وليد, داعبنا الكون كله بلهونا, وغنائنا.. كنا نوزع هوانا على أطراف الزهر فينتشي ويغني للحب..
ثم رحلت هناء.. قتلتها يد أفعى الشيخ, كما قتلت علي..
وما عاد في الحياة هناء..
والآن يا سيدة الضياء.. يا من تسكنين ربوتي, وتداعبين أنجمي, وتشقين أستار الماضي, وتجترين ذكرى ألم ما نسيته, وما نسيني.. أنا لا أمانع أن أهبك جزءا من حياتي أهملته منذ عامي الأول في حياة غريبة الأطوار, جزء لا يتجزأ من مسيرة الحب الذي ينبت من دموع طفل ضل الطريق, أو من آهات شيخ لفظته الحياة, أو من دموع أم عجوز صنعت لطفلها ريشة من شعرها الأبيض, ليرسم صورة جديدة للحياة, فألقى ريشتها, ومضى يقهقه من سذاجة الأم العجوز وشعيراتها البيضاء..
إن رأيتك سأهبك جزءا من حب ضائع, غادر, لا ألقي له بالا, بعد أن استباح لنفسه صدرا أجوف يغوص في سفالته, ويتمتع بشراهة دنسه..
وقد لا أهبك شيئا.. فكل ما عندي قديم أهلكته الأيام..
قد استلبك, وأمارس معك لعبة الأيام القذرة, القادرة على امتصاص أي رحيق للضوء, أو للدماء المنهمرة من أوردة القلب إلى أطراف جسد مسجى..
سمعت وقع دموعها على الأرض, رأيت شعاع الشمس يحاول اختراق الغيوم, نقلت خطواتي هابطا من الربوة إلى البلدة, حيث تتلاشى الأحلام.
***













بعد موت أخي علي, أمي ترقد مريضة, تشكو آلاما مبرحة, نجلاء جاءتها بلبن الماعز, النساء جلسن حولها صامتات, متوشحات بالسواد..
يقولون أن الشيخ الطيالسي سيأتي ليرقيها..
جلست عند الباب أنتظر قدرا محتوما, جلست نجلاء جواري, الهم يطبق على صدرها, وعلى وجهها يرتسم الغضب..
- أين كنت بالأمس ؟
- عند النجوم.. فوق ربوتي..
- يقولون انك تعشق أنثى الجان..
- ليست من الجان, بل هي جمال لا أدري له وصفا..
- وأنا......... ؟
- أنت جمال آخر..
- أو كلما رأيت امرأة جميلة عشقتها ؟
- قلت لك إنها جمال ليس كجمال النساء, كتلة من الضياء حقا, لا.. لا أدري لها وصفا..
- يوم أن تزوجت أمي بأخيك, قالوا لي لا تنامين معهما في الدار, ذهبت للنوم في فراشك, انتظرت أن تأتيني, تحسست أنفاسك, رائحتك.. لكنك لم تأت, وحين ألم بي اليأس من حضورك, ولم أستطع النوم, تسللت إلى دارنا, سمعت أمي تطلق آهات ارتعشت لها أوصالي, نظرت من فرجة الباب, رأيت التلاصق الحميم, والعرق الغزير, وهما يغنيان أجمل آهات الغرام, حينها تمنيتك, اشتقتك..
- مات علي يا نجلاء, والآن أمي على وشك الموت, ولا أدري ماذا أفعل, أحتاجها.. لئن ماتت فلن يبق لي شئ في الحياة..
- وأنا.......... ؟
- يا نجلاء أمي تربتي, جذوري الطينية, وأنت حبيبتي, وفوق الربوة برعم من نور..
- رغم إني لا أدري ماذا تقول, إلا أني أحبك, وأشعر بحبك لي, تزوجني أكن لك الأم والزوجة والضياء الذي تبتغيه, اصعد فوق ربوتي مرة, ستجدني قلبا يأويك بين شغافه, وفي عيني ستجد ضياء بلون حقول القمح, ونور زهور القطن.. هل تذكر أول قبلة تذوقتها من شفتيك, سقطت مغشيا عليّ من النشوة, واللذة, والاشتهاء.. لم أشعر بغير البهاء يتسلل إلى روحي..
الشيخ الطيالسي يهرول نحو دارنا, نهضت مسرعا, ألقى تحية مقتضبة ودلف إلى حجرة أمي, دخلت خلفه تاركا نجلاء..
خرجت النساء من الحجرة, أحضرت نجلاء دلو مملوء بالماء الدافئ, أمي تصرخ, آلامها مبرحة, يتمزق قلبي, تبكي روحي..
الشيخ الطيالسي يتفل في المياه, يرشها على وجه أمي, يتمتم تعويذاته المبهمة, تفزع أمي, تصرخ, تستعيذ, أهرول نحو الشيخ, أدفعه بقوة, يسقط صارخا, يصطدم رأسه بالجدار, يهرع إليه أبي, يساعده على النهوض..
تتوالى صفعاته على وجهي, وركلاته على كل جسدي, عصاه تهوي على رأسي.. أسقط, أسقط, أذهب في غيبوبة الألم....
أراها فوق الربوة تطيح بكل شئ..
شاطئ هادئ, خالي من البشر, من العدم, من الرمال, من المياه, من الحجر, من الحياة.. أجلس على مشارفه أصطاد الأمل بحبل سري, ما زال مرتبطا بتجويف أم تريد الرحيل دون وداع وبكل ألم..
ويصطادني الوهم, يصطادني البكاء, وغصة الحلق, ودمعة تتوه وسط تجاعيد وجه صبي تكاهل من حمل هموم الحق والقبح وحروب المستحيلات الآخذة بناصية البشر إلى حافة هاوية نحاذر من زمن الاقتراب منها..
أين أنت.. ؟ أريد أن أراك.........
أم أني فقدت القدرة على تذوق فن الرؤيا.. ؟ وقد كنت بارعا في استبصار الغيب المدمج بصروف للدهر غبية..
أتعرفين.. لو أحببتك لفقدتك.. فأنا ما فقدت إلا ما أحب..
والآن.. ثمة شئ أجهل تكوينه البدائي, يدفعني للبحث عن هوية تميزك عن الملائكة, وعن الشياطين, وعن الجسد نبت الطين..
أريد أن أحكي لك الكثير والكثير.. عن حب قديم, أو جديد, عن ارتجافة أول قبلة, وأول لمسة يد على جسد امرأة, عن أول عيون أراها تعبق الكون برائحة الضياء, وذلك الوجه الذي يخبو نوره في طيات الذهن الآفل عن الوجود..
أو أحكي عن شيخ داعر, يتوحد بجسد وفكر الشياطين, أو عن أب يجيد الصفعات, وفنون الألم..
أم أحكي عن أخ مقتول بعار الانتشاء والحب المباح, وأم تموت الآن بين أيديهم, وهم يمزقون فيها كل جميل..
أين أنت.. أريد أن أراك.. أن أحكي لك عن كل شئ.. كل شئ..
آه يا أنا.. أهكذا تتناقلني الدروب وحيدا, أذهب وحدي, أجلس وحدي, وأعود في النهاية بلا معين, خالي الوفاض, مهموم على الدوام, متغلغل في أعماق ذاتي, متقوقع في دهاليز نفسي المعتمة..
كل شئ حولي له جذور, أرض نبت منها, تاريخ يتكئ عليه, وأنا.. ؟ ماذا أنا..؟ هباء أهالوا عليه سرابا فصار لا شئ, الأمل وهم ليس من حقي أن أحلم به..
نعم هكذا خلت حياتي من كل شئ.. كل شئ..
أحلم بلا شئ, ولا أحقق شيئا, في دنيا خالية من الأشياء..........
آآآ ه.......
الجسد المنهك, والقلب الموجوع, والشقاء الذي يجز الرقاب..
لقد حان الوقت لألقي بكل شئ بين دفتي كتاب لن يقرأه أحد, فالجمع كل منهم مشغول بكتاب غيري.. غيري أنا خاصة..


***










انتبهت إلى الشيخ ما زال جالسا بجوار أمي, أبي ينظر نحوي كأنه ينظر إلى جيفة نتنة, وأنا منزوي في ركن بأقصى الحجرة, ونجلاء تضع رأسي على فخذها, دموعها تتساقط على وجهي..
- آآآه يا نجلاء..
الشيخ يهمس في أذن أبي, ينهضا, يقتربا, أفزع, أحاول النهوض, لا أستطيع, الشيخ يربت على كتفي, أبي يهدئ من روعي, أنظر إلى نجلاء متسائلا, الشيخ يحدثني:
- ستتزوج من نجلاء الليلة.. هذه رغبة أمك.. لعلها تخلصك من لعنة الروح التي ألمت بك فوق الربوة, وكانت سببا في مرض أمك
- إن تزوجت نجلاء, أمي تعيش.. ؟
- نعم..
- سأتزوجها الآن..
نهضت نجلاء هرولت إلى دارهم, الشيخ يقبل جبيني, أبي يعلو وجهه فرح مخلوط بالإشفاق, وأنا لا أعي شيئا مما يحدث..
أمي تناديني, أجثو عند قدميها, أقبل يديها وجبينها..
- أحبك يا أمي..
- مبارك زواجك يا بني..
- أريدك أن تعيشي يا أمي..
- غدا تفرح بأبنائك يا بني..
أبي يدعوني للنهوض, أسير معه, يسير بجوارنا الشيخ الذي يتحدث مع أبي ويقهقه لا أدري لماذا..
أنظر إلى الربوة, تشع ضياء, والشمس ما زالت في كبد السماء..
- ستغتسل في داري..
قالها الشيخ.. دخلنا داره، أشعر وأنا أطأ جلود الحيوانات المقتولة, المفروشة على الأرض, كأني أطأ جلدي..
ابنة الشيخ ترمقني بنظرات أعرفها جيدا, امرأة الشيخ تهلل لخبر زواجي, تغمز بعينيها وتقول:
- دعوه لي, سأجعل منه عريسا لن تنساه نجلاء أبدا.. وتضحك, والشيخ يضحك, وأبي يضحك, وابنة الشيخ تبتسم, وتحل مشابك ملابسها من على صدرها خلسة، تشير إلى نهديها, يضطرب جسدي..
أبي قال أنه سيذهب ليأمر بإقامة الأفراح..
الشيخ قال أنه ذاهب ليأتيني بثياب جديدة..
امرأة الشيخ قالت إنها ستعد لي سبيل الاغتسال..
ابنة الشيخ اقتربت، وأقسمت أن تعلمني كيف يكون الزواج، وأحاطت بي، وجدت بين شفتيها ملاذا من جمر أصبوا إليه حينا، تشبثت بجسدي، أفرغت في جعبتها أسهمي، تأوهت، ألقيت داخلها ماء الجسد الطيني..
امرأة الشيخ جذبتني، ارتميت على صدرها، تتشبث، أدفن في جسدها شبقي، تتأوه، أسكب عليها ماء الاشتهاء..
ارتميت على ظهري منهكا، المرأة وابنتها تمتصان مني رحيق الحياة، أتخاذل، أنظر من فرجة تطل على الربوة.. أسمع دقات دفوف المريدين تعلن بدء رقصتهم, أنادي سيدة الضياء من خلف غيبوبة التخاذل:
تعالي يا سيدتي، نهذي معهم، نغني أناشيدهم المصابة بالجوى، وشعارات الشجب والاستنكار، ونرسل الأشواق إلى اللحم المتعري من فضائل الأمور..
تعالي نهدي الأطفال أحصنة خشبية، يصعدون بها فوق زيف الحضارة، ليشهروا سيوفا من ومض الكلمات, ويغنون:
أمجاد يا......... أمجاد يا.........
ليصمت الدف في صدور الهائمين، تتوقف صلواتهم الراقصة، تعلو زغاريد الجواري, تنهق الكمنجات، يتوارى صوت الناي، تشملني غيبوبة الغياب، وغياب الدم يهزني، والقوم متمددون بالأصفار في حوانيت الخمر، والعهر يتمدد فوق العمائم، وأولياء الجوار يخطئون الحساب..
وحين ينتصب محتوى اسمي واسمك، تتشكل أنهار السراب، وتغيم الرؤيا بالمحال، ويسيل المداد على الجداريات، يتدلى من السراج، يسقط على رأس رابعة العدوية، تلسعها نغمات الناي..
تنكفئ الشمس على قفاهم، وهم راكعون أمام البحر الميت، والطفل الميت..
يغفو المنشدون، تنقسم الرقصة بين أوتار جسدين يزاولان حمى الانتشاء، تهفو الرقصة إلى ساعات المكاشفة، تختلط بوحي التنفس، وثورة البراكين، ورنات الخلخال، واصطكاك الأسنان..
الفزع يمزق رقاب العدل، فخواتيم آياتك لهو، ويختلط يمينك مع يسارك في لعبة المصالح الدولارية..
تتخطفني الأنشودة، أقبع على الألوان المائية، أغرق في بكارات الفتيات..
تخلو شوارعك إلا من رياح الخماسين، تتخلل أسطحك، فتحظرين التجوال في أزقة الأوردة..
الدم نجس وحرام تجرعه..
أستيقظ مشلولا، أسأل سيدي القطب، هل إسالة الدم بالبارود توجب البسملة ؟
تخرج نواجذه إلى طبق الفت، ينهش لحمنا ويتمتم: بسم الله أوله وآخره............
أبحث عن فنار للظلمات التي تقايض الزهر بخديعتنا، فأراك تستلبين العشاق، وتطلقين العصافير إلى وجهة غير حضارتنا، أرشف مجدنا، زيفنا القديم، وأراقص مجاذيب الهذيان الصوفي، أعلو إلى ذرى العورة، ترجني حجارة طفل لم يتعلم رقصة الحجلة..
آآه.. ما هذا الألم الذي يشمل كل جسدي، ما هذا الذي يحدث، أريد أن أمزق كل الأوراق، أكسر تلك الأقلام، أشق ستائر الغيب، أرى ما وراء الحجب..
صعدت فوق الربوة، جلست تحت نافذتها، همست لها:
حين يكتمل بدر القمر، انتظري حتى يتوسط غمامتنا البيضاء، ثم مدي يديك عن آخرهما، قد تبرئين جرحا، قد تمسحين دمعا، قد تعيدين بهجة لروح هائمة شاردة، تبحث عن دفء اللحظة، فتتساقط النجوم بين كفيك، ودعي ابتسامة البدر تنير الطريق للشعراء..
يا سيدة الضياء، ما أنا وأنت سوى امتداد لظل داسته سنابك خيل المحاربين الغزاة، فصرنا رمزا لهزيمة فرضتها علينا حياة لا ندري كيف نرفض أن نعيشها..
وقد نكون امتدادا لصهيل خيل داعبت عنقه يد فارس فانتشى..
أو نكون امتدادا لعاصفة رعدية هبطت من عنان السماء لتحرق واديا، فاستعذبت أنت الحياة على الأرض، ونبتت منك زهرة بلون الحلم الجميل، ومضيت أنا أغوص في بحار الإثم
***


نجلاء ترفل في ثوبها الأبيض، الحياء يكسو وجهها، تشع ضياء كسنا البدر.. جلست جوارها، أهل البلدة في صخبهم يمرحون، أصوات الطبول والمزامير، وسعدية ترقص بانتشاء، أمي تقف بجواري، وتداعب خصلات شعري، ابنة الشيخ ترمقني بعينين تخترقان جسدي..
نظراتي تتسلل إلى الربوة، أرى سيدة الضياء تقف خلف نافذتها كأنها تغني، لا أستطيع تحديد ملامح وجهها.. تقترب النجوم من نافذتها وتخر راكعة، يدنو منها القمر، يقبل جبينها، تشير نحوي، أنهض، تلتف حولها غيوم بيضاء، تختفي، وتختفي الربوة والحجرتان..
نجلاء تتشبث بذراعي، ننهض، نتوجه إلى دارنا، أهل البلدة يطوفون حولنا حاملين المشاعل، ترتفع في الفضاء أغانيهم، وزغاريد النساء، سعدية تتلوى بعنف، وأبي يتجرع الخمر ويداعب النساء بعصاه..
عند باب الدار، لمحت الغيوم وقد انقشعت عن الربوة، صدحت موسيقاها الحالمة، وصوتها يغني للعشق، أنساب من وسط الجمع الصاخب، أصعد إليها، أهل البلدة يتوقفون عن الغناء والرقص، نجلاء تهرول داخل الدار باكية، خلفها أمي، الشيخ وأبي يتوعداني إن لم أعد..
وأنا أنظر إلى أعلى الربوة، صوتها يسحبني إلى ملكوت تسبح فيه روحي، دخلت سكني فوق الربوة، نظرت إلى حجرتها، سألتها:
- من أنت.. ؟ وكيف استحوذت على كل وجداني دون أن أراك.. ؟ وكيف تكون لك القدرة على امتلاك كل هذا الضياء، فتخر لك النجوم ساجدة، ويقبلك القمر.. ؟ وكيف تتسللين إلى أحلامي ؟ ولماذا تختبئين داخل الغمام، وخلف جدران حجرتك؟ خبريني عن وجودك وكيف توثق بوجودي؟ وهل تلاقينا في زمن غابر، أم سنلتقي في غد آفل؟ خرجت من سكني، أبحث بشغف عن أي باب أدلف إليها منه، انشق جدار حجرتها.. رأيتها............
كتلة من ضياء تتوسد أحلامها، تلتحف أوراق الورد، تداعب النجوم التي تحوم حول رأسها..
اقتربت، وكأني أذوب في أشعة سناها، يسقط قلبي بين يديها، تقبله، أرتمي على صدرها، يجتاحني شعور بالامتلاء، لا أبغي من الحياة شيئا بعد الآن..
وكأن قبلاتها على وجهي وعنقي قصائد شعر تغنى بالحب للحب، وكأن لمساتها عبق زهور الياسمين حين تعانق روائح الفل، خلتني أسبح معها في نسيج من سنا القمر، وأهتف..
أحبك.. أحبك.. أ حـ بـ ك.........
وتف الكلمات في حلقي، لا أستطيع مجاوزة المدى الذي يفصل بين الروح والجسد، يقنع هتافي بلفظ حب خافت، نتهادى وسط أمواج ناعمة، نسبح على النسائم، نلهو بالأنجم، وأهتف أحبك، أحبك، أحبك.........
قبلت جبيني، قالت:
- اهبط إلى نجلاء، أغدق عليها قدرا من الحب، وفي لحظة ما ستحتويني بكل الحب الذي تختزنه، وسأحتويك بكل الحب الذي تمنيته.. حتى تأتي هذه اللحظة، اهبط لعروسك..
هبطت مترددا..
في دارنا، نجلاء تجلس بفستان عرسها باكية، بجوارها تجلس أمي تربت على كتفيها وتواسيها، حين رأتني ارتمت على صدري، قبلت كل ما صادفها من جسدي..
- لماذا تركتني ؟
- ما تركتك أبدا، لكني أبحث عن مكامن للضوء، لعلها تغير من تلك النفس المظلمة..
- اجلس، هذا فراشنا، قد أعدوه لنا، هذه هي ليلتنا التي وعدتني بها، وقلت لي انك ستشعرني بسعادة لم أشعر بها من قبل، أليس هذا وعدك لي.. ؟
احتوتني بذراعيها، في عينيها حياة أخرى، كأن جذوري تمتد عبر سنوات من عمر البشرية، تنبت من ينابيع حب، والهوى يحتويها، تلفنا زهور العشق، تهتف للبقاء، لليالي النغم، وسريالية الحلم الجميل..
نجلاء مزيج رائع من الطين الممتزج بماء نهرنا، أتذوق شفتيها، فأذوب في رحيق النشوة، وأتوه بين عينيها، أشم عبيرها كرائحة أرضي وسمائي، ابتسامتها حياة، أعيشها واقعا ملموسا، أحسها، أشعرها، أضمها.. نجلاء تتوغل في داخلي كما الوهم، كالحلم، أضمها دفئا وحبا، واصحبها في دروب الهوى أتغنى بها، وأغني لها، وتغني هي لحياة تبتغيها، تشدو لآت لا تدري كنهه، وتترنم لراحل لا تحب ذكراه..
أخذت نجلاء بفستان عرسها، صعدنا الربوة..
كانت سيدة الضياء قد أعدت لنا مخدعا من الزهور، وزينت السكن بالنجوم، وأضاءته بسنا القمر، وصوت غناءها يغمرنا بالحب.. خرجنا إليها، كانت قد فتحت بابا لحجرتها، دلفنا منه، رأيناها مستلقية على عرش من الضوء الوردي، وقطتها تتوسد ذراعها، والنجوم حول رأسها كأطياف المنى..
جلست جوارها أتأملها، نجلاء انبهرت مما تراه، أمسكت كفها تقبله، سيدة الضياء تهمس في أذني:
- يا صانع الدمى، إن مت لا تقم سرادقا لعزائي، أقم لي أمسية شعرية، أطلق أعزب ألحان الناي، ومن طمي النهر اصنع دمية بشكل الحب، فتكون شاهد قبري، واكتب أسفلها.. أنا بالحب أحيا يا رفاق..
دعتني للاقتراب أكثر، اقتربت، قالت:
- أدخل، باعد بين الرئتين، تجد قلبي يسار..
نظرت في عيني نجلاء، قبلت جبينها، خرجت، هبطت إلى أرض البلدة..
اقتربت من سيدة الضياء، دخلت صدرها، اتخذت طريقي يسارا، جلست في قلبها، احتواني العشق..
وكأنها تغازل الضوء، فينغزل كلمات تدثرني بها، تشدو بأنغام الهوى فأنتشي، ترسم على وجه القمر صورة قلبين متعانقين..
تتوسد ذراعي، تغفو، أقبلها برفق، يحرك الانتشاء شفتيها، أضمها إلى صدري، نسبح سويا في مدار الهوى، نمتطي حلم الحب، نرشف متعة الاشتياق..
بعد برهة قالت:
- يا صانع الدمى، يا من توغلت بين مسام جلدي، وسكنت خلايا دمي، أخرج مني.. أخرج برفق ولا تمزقني، كفاني تمزيقا..
خرجت من صدرها، استقررت على أرض الحجرة، سألتها:
- ما بالك كنت تلقين الدمى من فوق النجوم إلى ما تحت أقدام القوم..؟
- من زمن بعيد، كنت أرقبك وأنت تصنع الدمى من طمي النهر، ومن أغصان شجرتك، كانت جميلة وقوية، وحين أكملت تشكيلها تركتها على شاطئ النهر وذهبت..
هبطت أنا وأخذتها، دخلت غارا وسط الجبل الذي يشرف على بلدتكم، ووهبتها من روحي حتى دبت فيها الحياة، وحين التقت عيناي بعينيها، شعرت بالخوف، حاولت الابتعاد عنها، نهضت الدمى، ولأنها من الطين، فقد انجذبت لجزء طيني بداخلي كنت أدخره لك.. مزقت بداخلي كل الضياء الذي قضيت عمري في لملمته من على وجه النجوم والقمر، والتهمت الجزء الطيني الذي حافظت عليه دهرا، كنت أريد أن أنبتك فيه، أو تصنع منه دمية أشكل ملامحها معك، نصنع منها مثالا لامتزاج الطين بالضياء..
أغمضت عيني خجلا مما صنعت يداي، أخذت رأسي برفق على صدرها..
- آخر ما عندي من ضياء اقتسمته بينك، وبين أحرف بطاقة دعوتي، لحضورك حفل تأبيني..
اهتززت بشدة، أفقت لم أجدها, ولم أجد حجرتها أو سكني.. الربوة خالية إلا من ورقة بردي مكتوب عليها
{يا صانع الدمى، اعزف نايك.. أيها الراقد في زمني البعيد، هل تأتي يوما لتصبح سيدي..}
رأيت الغمام يحملها مدبرا بعيدا عني، ركعت على الأرض أناجيها:
لماذا تخشين الاقتراب ؟ أنا من يتمناك، وأمنيتي كانت تسبح في عمق المدى تبحث عنك، وأنت تتوارين في سنا القمر، وتمتطين الغمام، وأنا أرقبك، وأنهل ما يتساقط من لحظك، وأسعد به، وحين وجدتك، ودعوتن للدخول بين رئتيك، وقبعت في قلبك، أمرتني أن أخرج منك إلى عالم أبغضه.. فماذا أفعل بالحياة بدونك، ماذا أفعل لقلبي المسكين، كيف أوقف نبضاته ؟ الآن تبغين الرحيل ؟ تريدين أن تعودي وحيدة ؟ أنا قد مللت العزلة، والرحيل والترحال، وسهر الليالي المملة فوق الربوة وحدي أبحث عن لا شئ بلا جدوى..
أريد أن أتوسد ذراعيك مثل قطتك، أو أضع رأسي على وسادة بجوار رأسك، وأنظر إلى عينيك، لأرى جمال الكون ينبع من بين أهدابك..
سكب الغمام أدمعه على الأرض، داسته أقدام الأغبياء..
هل كان يريد أن ينعي حبي الذي لم يحيا سوى لحظات من عمر الزمن ؟ أم كان يريد غسل قلبي من الضياء الذي ملأه ؟
أنا لن تنعي دموع الغمام حبي، فحبي لا يموت.. ولن تستطيع الأمطار غسل قلبي لأن ما به أطهر من المطر..
فدعوني وحبي يا كل المخلوقين والمخلوقات، دعوني أحيا أو أشقى به، فلن يضيركم من حبي شيئا، وأعاهدكم على الصمت، أعاهدكم على السكون كالحجر، ودعوا قلبي ينبض برفق، ويرتل اسمها..
اسمها.. أحب الأسماء.. اسمها نشيد الهوى.. اسمها زينات الحياة.. أرتله، أغنيه، أتلوه في صلوات عشقي، وأزرف عليه الدمع لعله يرتوي، فيطرح أملا للبقاء..
وكأني أراك تلملمين أشيائي المبعثرة، وبتجويف روحي تضعين شمعة خبا نورها، فأسقط بين يديك جسدا مهملا، يتناثر حبي أشلاء، فتأخذين من دمي كل المنى، تنثرينها كلمات لا تقوى على الثورة، لا خيار سوى الاستسلام, وكم تمنيت الاستسلام بين شفتيك، لأنهل من عبق الحب ما يرويني, وأتناثر، وتلملمين أجزائي من شتات الجهات، وأسقط في بحار الضياع، وأتوه في دروب المستحيل، وأنت تمارسين لعبة الإصغاء، والابتسام، هل أنت كالسنين التي لم ترحم دموعي، ولم تحن يوما على قلبي، حتى نسيت طعم الحب.. ؟
هبطت من وسط الغمام، تمثلت أماميا بشفافية الضوء، وانسيابية الموج الهادئ:
- يا صانع الدمى، إني أشفق عليك من روحي التي تهفو لامتلاكك، وتكبيلك بحب يرقى ولا يرقى عليه..
احتويتها بين أضلعي برفق، همست لها:
- يا سيدة الضياء، أنت هيامي الذي جبت الأرض أبحث عنه.. زمنا طويل أبحث تحت أهداب الحياة عن معنى للحياة، وسر جمال الضوء، حتى وجدتك.. لأجد أن الحياة في عينيك لها معنى الحب، وأن سر جمال الضوء أنه مستمد من تكوينك، من وجودك العبقري.. ما أنا يا سيدة الضياء سوى راهب في معبد العشق، لا أبغي غير الحب، ولا أنتظر من معبودتي غير أن تدعني أحبها في سلام.. فهل تسمحين بذلك يا سيدة الضياء والنجوم والقمر.. ؟
***











زهور عباد الشمس تنكس رأسها عند الغروب.. هي لا ترى أروع ما في الشمس، لا تراها وهي ترتدي ثوبها الذهبي، لا تتلمس أشعتها الحانية، لا ترى قوس قزح، ولون الشفق الذي تصبغه بغروبها..
هي لا ترى ذلك لخوفها من قدوم الليل والظلام، كل الجمال يضيع ما دمنا ننتظر الخوف..
تنساب مياه النهر كأنها تنزلق على أرض حريرية، أغترف حفنة من طميه الأسود، كيف يتشكل من هذا السواد جمالا يضاف إلى جمال الطبيعة ؟ أريد أن أشكل دمية لها شكل المشاعر التي تضطرم داخلي، ولا أعرف ملامحها، كيف أصنع دمية تثير الإحساس بطعم قبلة صدق من شفاه تحب؟
وسط تأملاتي سمعت صرخات متوالية، التفت إلى مصدرها، رأيت أمي تشق جيبها لتعلن حجم الفجيعة، الهلع يدمر قسمات وجهها، تلطم رأسها ووجهها، تتسارع إليها نساء البلدة، العويل والصراخ يهتز له الأفق، اقتحمت دارنا، وجدت أبي يرقد ميتا، انطفأت نظراته الكاشفة لما في النفوس، تهاوى جبروته تحت وطأة الموت، استراحت قسمات وجهه، فبدا وديعا مبتسما، وبرغم كل جبروته، وآلام جسدي من ركلاته، وجروح نفسي من صفعاته، إلا إنني شعرت الآن أني عاري الظهر، واني حقا سأفتقده..
- نام ولم يصح يا ولدي.. نام ولم يصح.....
عويل أمي وأنينها، والنساء تلتف حولها، ترتدين ملابس زرقاء، وأغطية للرأس زرقاء.. ونجلاء تحمل إناء نحاسي، يمتلئ نصفه بالمياه، تضعه بين يدي أمي التي تفرغ فيه مسحوق أزرق، تذيبه بيديها المتجعدتين، تنتشر الزرقة، يربو الماء من دمعها السيل، ترفع يديها إلى وجهها، تصبغه، يصير أزرقا..
- الحزن اليوم أزرق اللون..
تتبادر أيدي النساء إلى الصبغة الزرقاء، يطلين وجوههن بالحزن..
عند شجرتي، لا أعرف كيف أبكي على أبي، لا أدري أين ذهبت دموعي..
هل أستطيع أن أشكل ملامحك يا أبي ؟ ومن أي شئ أشكلك..؟
أهداني الجبل حجرا صلدا، تناولته لأشكل الوجه الذي رحل، هذا الرجل الذي جمع كل الأضداد في جوفه، هابه الرجال لجبروته، وعشقته النساء لملاطفته وشبقه، وخضعت الأصوات لحكمته وشراسته، والتف حوله الأطفال لعطفه ! يهدد ويعد ويتوعد في آن واحد.. قوي صلد، ورقيق كالزهر..
كان يمسك طبلته الشهيرة، ويجلس وسط نادي السمر، يلاعب بأنامله رقها، فتخرج إيقاع ترقص له القلوب، ثم يشدو، فترق له الأفئدة، وتهيم على محياه أعين النساء، وخنجره يلمع في جانب حزامه، وسيفه يتدلى من الجانب الآخر..
قالت لي أمي: ما عرفت امرأة متعة الفراش إلا معه، وما عرف الخوف طريقه إلى أهل البلدة إلا من نظراته..
وقالت أمي: لا أظن أن أباك كانت تستطيع امرأة أن تحمله في جوفها تسعة أشهر، أو أن يكون من نبت نطفة رجل، واني لأظنه هجين من الملائكة والشياطين، والأنس..
جلست معه يوما، كان يحتسي الخمر منفردا، قلت له:
- أليست الخمر بول الشيطان، كما تقول، فلماذا تشربها ؟
كان ثملا، نظر إلى وجهي بعينين نصف مغمضتين وقال:
- أتدري كيف أصنع الخمر ؟ اسمعني إذن..
إني أختار أجمل بنت، وآمرها أن تجمع ثمار العنب والبلح وهي عارية، ثم تضعها في سلة كبيرة، ثم آمر أمك أن تجلس على الثمار عارية مدة تسعة أشهر متواصلة، تغوط وتتبول كما تشاء..
ثم أحضر سبعة فتيات أبكار، يستلقين عراة، فأضع ثمار البلح في فروجهن، وأغطي أجسادهن بالعنب، يظللن هكذا ثلاثة أيام، وبعد ذا يضعن الثمار في دلو كبير مثقوب أسفله، ومن تحته دلو آخر..
ثم تأتي كل نساء البلدة، يقفن صفا واحدا أمام الدلو وهن عراة أيضا، وفي مقدمتهن سعدية بالطبع، فيقفزن بالتبادل على الثمر في الدلو ويرقصن، تعتصر الثمرات تحت أقدام النساء الراقصات.. ثم يعبئن المعصور في زجاجات، ويحكمن إغلاقها، ثم أتركها حتى تختمر، فإذا ما تم اختمارها جيدا، ألقيها في البحر، لأني أجد دائما أن الشيخ الطيالسي قد أحضر لي هذه الخمر المعتقة التي أحتسيها الآن..
ويضحك أبي، وأضحك معه..
سألته يوما عن ميلاده.. قال:
- أنا لا أعرف من ولدتني، ومن ذلك الرجل الذي وضع نطفته بتجويف امرأة لتنبتني، كل ماأعرفهأني وجدت نفسي أعيش مع امرأة على هامش الكون، وقالت لي أنها وجدتني وليد في حضن امرأة مفصولة الرأس، أرضع من نهديها الدماء، وأسناني مكتملة، وأسير على قدمين قويتين، وحين حاولت انتزاعي من حضن المرأة، عضضت يدها، فجزعت مني, وهرعت إلى بيتها، وحين عادت في اليوم التالي، وجدتني التهم آخر جزء من جسد المرأة المفصولة الرأس، واستعانت بعشرات الرجال للامساك بي وتقييدي..
ثم أخذت تطعمني وتسقيني وتتقرب إلي بعد أن وضعتني في قص حديدي، حتى نسيت مذاق اللحم البشري واطمأنت المرأة، فأخرجتني من القفص بعد أن بلغت من العمر خمس سنوات..
عشت في كنف تلك المرأة التي كانت تخرج كل صباح وتعود في المساء محملة بأطايب الطعام، نأكل كما نشاء، ثم أضاجعها حتى الصباح، ولم أكن بلغت من العمر أكثر من خمس سنوات..
ومرت سنوات لا أعرف عددها، عرفت أنها كانت تخرج للتسول، وتعود في المساء لمضاجعتي، ورأيتها يوما تكتنز أموالا كثيرة، حين خرجت، أخذت كل ما وجدته من مال، وخرجت من دارها، لأرى الدنيا، وأعرف تضاريس الحياة..
سافرت في كل الأنحاء،عرفت أشياء كثيرة، ربما أكثر مما ينبغي، ورافقني من أول يوم هذا الشيخ الطيالسي، كان مجرد رجل قابلته وهو يؤدي بعض الرقصات الصوفية في أحد الموالد..
راقت له فكرة الترحال حين عرضت عليه الأمر، وحين أخبرت أنه سيأكل ويعيش دون أن يتحمل أية أعباء..
تدارسنا الأديان، والتاريخ، والفلسفات، ركبنا السحاب والبحار، وجبنا الأرض بجميع جهاتها، وفي نهاية الطواف، تحطمت سفينتنا وسط هذا البحر اللعين، الذي ألقى بنا على شاطئ هذه البلدة..
مكثنا ليالي طويلة نراقب أهلها، فلن نهبط إليها لنعيش كالرعاع، حتى وجدنا أن شيخ الصيادين يزرع المخدرات، ويروجها من خلال قواربه، أما أهل البلدة فلا هم لهم إلا الصيد، والطعام، والنساء..
قتلنا شيخ المخدرات وأتباعه، وكما يسجد أهل الشرق لحكامهم فقد سجدوا لنا بدون عناء.. ألقينا لهم ذهب المعز، ورفعا على رقابهم سيفه، فدانت لنا البلدة بأسرها..
وحينما ملكت زمام الحكم, وضعت القوانين التي تتلاءم مع هؤلاء الخراف، وجعلت المنشدين يتغنون بفضلي وكرمي، ويحكون عني الأساطير، حتى صارت كالحقيقة, وصرت أنا نفسي أشك في زيفها من كثرة ترديدها, وهكذا حكمتهم بالخوف والرجاء..
- أي قلب يحتويه تجويفك يا أبي, تسرق, تقتل, تزني, ترتكب كل الفواحش والمنكرات, وتنام قرير العين!!
- يا بني إنما جعل المال ليسرقه العظماء, اقرأ التاريخ جيدا لتعرف أن الكثير ممن تجلهم, وتعظمهم كانوا سارقين, لصوص كما تسميهم أنت.. ولو حاولت أن تحصيهم لن تستطيع لكثرتهم, ولعظمتهم أيضا.. أما عن القتل, فالقتل صفة حيوانية بحتة, والإنسان حيوان، القتل هو السبيل الوحيد للبقاء, والا فلماذا نقتل الأغنام, والطيور, والأسماك, ولا نراعي مشاعرها, وآلامها, رغم أن الفرق بينها وبين الإنسان هو فقط طريقة تعبيرها عن الألم, فما الفرق بين قتل إنسان يهدد بقاؤه بقائي, وبين قتل حيوان كي أعيش قبل الموت جوعا ؟ أما عن الزنا, فأنا لم أزن قط..واني لأقتل نفسي إن واقعت امرأة ولم تنتشي, وتطالبني بالمزيد, حقيقة الزنايا بني هو الإضرار, فان واقعت امرأة ولم تنتشي منك وتكتفي بك هذا هو الزنا حقا, لأنك بذا قد أضررت بها ضررا لن تغفره لك, هناك فرق بين اقتسام المتعة الجسدية, وبين اغتصاب المتعة لطرف واحد دون مراعاة حجة الطرف الآخر..
- ما هذا الجبروت يا أبي.. ؟
- جبروت.. ؟ اسمع مني إذن هذه الطرفة.. كان سكان إحدى القرى على مشارف إحدى الغابات, قد ضاقوا من كثرة النمل, وقرروا حرق كل بيوت النمل التي على حدود الغابة, وفعلوا ذلك.. في اليوم التالي هاجمتهم ال****ب والثعابين, وقتلت منهم الكثير, وفي اليوم الثالث هاجمتهم الأسود والنمور, وقتلت منهم كثير, وفي اليوم الرابع داهمتهم الفيلة فدكت عليهم ديارهم وقتلت الباقي منهم..
ذلك أن النمل كان يحجز عنهم ال****ب والثعابين, والتي كانت بدورها تحجز النمور والأسود التي كانت تحجز أيضا الفيلة..
فأنا يا ولدي بجبروتي الذي تتحدث عنه مجرد نملة, وأهل البلدة يعلمون هذا جيدا, فيحتملون لدغاتي البسيطة, لأنهم يعلمون إني أمنع عنهم شرا متربص بهم من زمن بعيد ويتحين الفرصة للانقضاض عليهم, شر لا يعرف الرحمة, الدمار غايته, الهلاك أعظم أمانيه..
- الشيخ الطيالسي يريد قتلك..
- الشيخ الطيالسي يريد قتلي منذ أن رآني أحمل الأموال, أعرف.. وهو أيضا يعرف أنه لا يستطيع ذلك إلا إذا استعان بقوة شيطانية..
- من أنت يا أبي.. ؟
اضطرب أبي من وقع سؤالي, ضاعت من رأسه نشوة الخمر, حاول أن يداري علامات الفزع التي ارتسمت على وجهه, صرخ بقوته المعهودة:
- أنا.. ؟ ماذا.. ؟ آآه.. أي وحي أبله استلهمت منه هذا السؤال, آه آه, انك تعجزني أيها الولد, أغرب, أخرج من هنا..
- أريد أن أعرفك يا أبي.. ؟
- تعرفني ؟ تعرفني لتشكلني إذن ؟ ومن يعرف ذاته يا أحمق.. أين العصا ؟ من يعرف حقيقة نفسه أيها الأخرق, أين السوط ؟ من يستطيع أن يعلم ما تحت الثرى أو ما فوق السماء حتى يعرف حقيقة ما بداخله, أين السيف ؟ اقترب يا ولد, أرني كفيك.. من زمن بعيد وأنا أعرف أنك ستشكلني يوما بما لا أرغب أن يعلمه أحدا عني, سأقطع هذين الكفين..
- قد أشكلك يا أبي بنظراتي فوق صفحات الأفق, أو على أمواج البحر, وقد أرسمك بخيال يتغلغل في تجويفك..
- إذن سأقتلك..
- حينئذ ستجدني في العالم الآخر حين تأتي, ولابد أنك آتي, وبيدي دمية تشبهك, وعلى ملامحها سأضع ذلك الفزع الذي رأيته الآن يرتسم على وجهك..
رفع سيفه, هرول خلفي, لذت بالجبل حتى هدأت ثورته..
والآن, ها أنا أشكل ملامحك يا أبي من حجر الجبل, وأرسمك علامة استفهام بحجم الحياة, وعلى جبينك ووجنتيك ألف علامة للتعجب..
عند الشجرة كان المريدون والدراويش والمجاذيب يرقصونرقصة صوفية جدا,
تطوي المقدس, وتفرد الخرائط الغبية من زمن المستحيلات, وتهطل الأسئلة مغموسة بالدم والحجارة, والسؤال الحائر منذ البدء.. من أولى بالثأر لدم عثمان ؟
أيقتل معاوية عليا والمسلمين ؟ أم يقتل علي معاوية والمسلمين ؟
وتضطرب تلاوتي بين الأسئلة والجنون, ونعوش الشهداء تتهادى في أوردة الولي الغوث, وأمعاؤه المليئة بالهمبورجر وبالتين والزيتون, وما زال ينتشي من حكايات الحرافيش..
هيا.. هيا نلعب الشطرنج على الطريقة الصوفية..
البيادق تصطف أولا لتموت أولا.. وعلى إيقاع الدف والصاجات وألحان السماء يترنح الأولياء, ينشد المجاذيب والقوال يطرح الذات من الذات, والإرادة من الإرادة..
يأتيني الربيع من عمق عينيك يمتطي ضوء القمر, يغني قصيدة غرام, تهزنا الأمواج, فنرقص على رنين المطر..
وقطب الزمان مزهوا بالفيلين, ينظر إليه الوزير بريب, الرخ مستكين في موضعه, ينتظر إشارة البدء لاقتحام شعاب النفس المدمرة..
آه نسيت.. ماذا تختارين من اللونين.. ؟
الأسود.. ؟ نعم لونك المفضل, لون حزنك وأيامك.. ولماذا تتركين لي دوما اللون الأبيض ؟ لون الاستسلام, راية العار, لون الكفن..
هيا إذن نرقص في الحارات والشوارع المزدحمة بقصص الحب, والمنازل المتهدمة, وتماثيل الوعود القديمة..
تلتصق خطواتنا بظلال التوابيت, ورائحة البخور.. تختلط صفوف العارفين في ظل الصمت, ينسحق تحت أقدام الراقصين الأمل, فنطوي جراح السهد على قمة الليل, نجرجر الخطوات المقهورة على وجه المدى..
صدى الخوف يواري ملامح العمر, نمتطي تشققات الدروب والأماني المجهدة, نصرخ في البيداء بأصداء النحيب, تتعثر الرقصات فوق الوجوه المتبلة بالابتهال, سحائب الدخان تغمرنا بتكاسل مرير, تنطلق الأغاني حروفا متكسرة, تتخبط في سراديب المجون وأمسيات الجدب, يسقط العمر في اليباب, والخوف, والسكات..
تنشطر ليالي النغم ما بين رنات الدف وشدو الناي, ترتسم على وجهك ملامح ترتجف من نظرات الأولياء والمجاذيب..
يصيحون حييييييي....... مدااااااااااااد................
أسقط في المدن المنغلقة, أندفن في مهاوي الصمت, تنكفئ الذات على جرحها, ينفتح المساء كهواجس الرغبات..
أحتفل بالصمت الخاشع على شاطئ النهر وحيدا, أستعيد شجو الناي وضياء الشعر..
كنقطة ارتكاز في دائرة الغياب الذي يطبق على صدري كأنه كابوس طاغي, أجدك تلملمين بقايا الموت من الجفون المثقلة بالسكون, وتجوبين المدارات بضفائر جزتها يد اليأس..
أصطدم بجلبة الأناشيد التي تختلط بالخطوط المقهورة, يصطدم التجلي بالظلام, تحتلني المجازات, تهجرني ملامحي, يرتسم في الردهات نزيف اللعنات..
أمتطي نسج المزامير، أعود إلى حلقة الذكر, أجدك تتأهبين للرحيل, وفي عينيك تبكي النجوم..
يتبدد حلمي في الدجى, يتساقط من خلال أناملي, تنبت الأغاني ألحانا من حروف الشوق, تنتشر كأجنحة الضباب, أتبعثر في الظلام, تضل الأناشيد سبلها بين متاهات المراوغة..
أعزف الناي, يسكب أشواقه أنينا مبتلى بالحب..
يعلن الليل فتنته, تداعب النجوم الشهب, يتراقص الأقطاب خلف حجب العجب, مخالب الكهنوت تمزق رقاب الساجدين, تدور الرحى تطحن الألحان ونغمات الناي..
تنتهب المرارة مضجعي, تنجدل الظلمات غلائلا للردى, تهز أناتي الورد, أكتب على وجه الأفق:
اللعنة والحب وجهان للون حبيبتي
تحملني الإرتعاشات إلى نار المذبح, يتدفق الرعب في لحظات انشقاق القمر, تمتزج دقات الدفوف بعراك دخان البخور, يعتصرني الترتيل والعويل والصراخ, أتوه في زحام الأطياف, ينهار ما بين الجسد والكلمة, يخرج المنشدون من أهازيج التأمل, يتوحدون مع صمت الليل, ننتظر سويا رائحة الشمس..
***













بعد موت أبي, سيطر الوجوم على كل الوجوه, انفضت مجالس السمر, مظاهر الحزن تعم كل منازل البلدة..
أمي ترقد مريضة, بجوارها تجلس نجلاء تنتحب, وأنا شارد في الحياة, لا أدري إلى أين المسير..
اقتربت من فراش أمي, حين رأتني مدت يدها, قبلتها بكل شغف, انزلقت دموعي تتوسل للقدر أن يدع لي أمي..
قالت والوهن يشكل حروف كلماتها:
- الشيخ قتل أباك, كما قتل أخاك, ويريد قتلك..
- ما لي حيلة به يا أمي..
- خذ الحذر..
غابت عن الوعي, تحولت إلى جثة تتنفس, جلست أسفل فراشها أتأملها..
من لي بعدك يا أمي..
خرجت إلى النهر,أتأمل سريانه, غير آبه هو بم يحدث..
سدت أماميا كل السبل..
أرنو إلى الربوة, على الرغم من ن الصباح ما زال في أول بشائره, والشمس تغمر المكان بضيائها الوهاج, إلا أن سكني ما زال قائما بجوار سيدة الضياء..
هممت أن أصعد إليها, رأيت نجلاء تشير نحوي وتبكي, ونساء البلدة يسرعن للدخول إلى دارنا, عدوت إلى نجلاء, لم تستطع الحديث, أشارت إلى حجرة أمي..
النساء يصبغن وجوههن باللون الأزرق, وأمي مسجاة على فراشها..
مادت الأرض من تحت قدمي، فقدت توازني, كأن جسدي يحتضن الهاوية.. صرخت:
آه يا أمي, يا زمن الوجع, لم يبق بعد رحيلك سوى صوت الناي الذي ينعي للكون كل شئ جميل..لم يبق غير دمعة من نبت الألم, كنت أرحل في عينيك وأستدفئ بصدرك, لماذا ترحلين ؟ قلت لك وأنت على فراش الرحيل لا ترحلي, فبعدك لن أجد صدرا يحتويني..
لم تنظر تجاهي, عيناها متحجرتين, دامعتين, تنظران إلى البعيد الغير منظور..
أتسمعينني يا أمي.. ؟
شفتاها منفرجتين, يداها باردتين, جسدها يتأهب للرحيل..
أرجوك لا ترحلي..
لم تأبه لتوسلاتي, واتخذت للرحيل سبيلا, وأنا أنعي الدفء والاحتواء, ولا أملك غير بعض الدموع الغبية, التي تروي كبرياء الزمن, وسخط الأقدار..
كنت أسبح في تجويفها مطمأنا, أتراقص على دقات قلبها, وكلما اشتقت لرؤية الحياة أنظر من داخلها, أرى عيون حبيبتي, أجمل من عيون الليل..
وحين صرخت أمي من ألم وجودي بداخلها, حضرت القابلة, مدت يدها تريد انتزاعي, ركلتها, هرولت المرأة, نهضت أمي انزلقت من أحشائها متشبثا بالحبل السري, ومرت أعوام كثيرة, وأمي تغزل من حبلها السري سروالا أرتديه, وكلما أردت الانطلاق خارج حدود البلدة, جذبتني أمي من حبلها السري, فأرتد إليها, إلى حضنها, دفئها, وأغني على إيقاع نبض قلبها..
الآن توقفت النبضات, سكن في جسدها كل شئ, حملتها, عند القبر, انزلقت من يدي, جذبني الحبل السري فانتبهت, وجدت الشيخ الطيالسي يلف الحبل السري حول رقبتي, تشده أمي من قبرها, تشدني.. ينقطع الحبل, تنزلق من تجويفه آمالي وأحلامي مبعثرة, تنساب على الأرض, تنبت شجرة صبار, أحملها بوهن, أضعها على قبر أمي, يتحول جسدي إلى قطرة ماء, تنسكب على أوراق شجرة الصبار..
الشيخ يرفع صولجانه, يتوعدني..
أفر إلى شجرتي, تشفق من عجزي, تهديني أحد أغصانها, أتكئ عليه, أعود إلى قبر أمي, أرى تجويفا أعلى قبرها لم يكن موجودا من قبل.. بعد برهة خرجت منه رأس رجل عجوز, ابتسم مرتبكا حين رآني, خرج من القبر يحمل كفنا ! سألني :
- ماذا تفعل هنا ؟
- ماذا تفعل أنت داخل القبر ؟
- أبحث عن رزقي..
- أي رزق تعني ؟
- تلك اللفائف التي يدثرون بها الأموات..
- هل سرقت كفن أمي ؟
- ليست سرقة يا ولدي أنها هدية الأموات لي, وان كانت هذه أمك فقل لأبيك أنه بخيل جدا, هذا الكفن لن يأتي بخير, كفن فقير جدا..
- أتعني أن أمي عارية الآن في قبرها ؟
- هذا جسدها فقط يا بني, أما أمك فهي فوق, فوق السماء, مع الصديقين والشهداء.........
- أمي الآن عارية..........
- اسمع يا بني...........
- لا أسمع غير أن أمي الآن عارية في قبرها..
ضربته بغصن الشجرة على رأسه, سقط على الأرض, تواصلت ضرباتي على رأسه, انبجست الدماء في كل اتجاه, هشمت كل الأفكار التي في رأسه, تركت جسده ينتفض كما يشاء, هبطت إلى أمي في قبرها, ألقيت على جسدها الكفن, ابتسمت, قبلت جبينها, ثم خرجت..
أمسكت غصن الشجرة الذي قتلت به الرجل, سأشكلك أيها القبيح, بدمامة وجهك, وأنيابك التي تبرز منها قطع اللحم المنزوعة من أجسادنا, وتلك اليد السوداء التي تنتهك حرماتنا..
أشكلك أيها الدنئ بأسلحة الدمار, تحوطك صيحات الرعب المنبثقة من أجساد نهشت حياءها, ونصلك اللامع يمزق الألحان, يشوه الجمال, يزيد على الموت ألم الاغتصاب..
أشكلك أيها السارق لآخر أحلامنا بصورة آكلي لحوم البشر, ثم ألقيك إلى النيران, لتحيلك مسخ أكثر تشوها, ولن تستطيع النار أن تطهرك, لأن نجاستك أقوى من النار..
***











حملت همومي وآلامي, صعدت أعلى الربوة, دخلت حجرة سيدة الضياء, سألتني عن أحلام الأمس..
حكيت لها عن رحيل أمي وأبي, وهيمنة الشيخ على أهل البلدة, وارتداء شبابها ملابس غريبة قصيرة, ولحى تخفي جمال وجوههم, والمسخ الشيطاني الذي يجوب شوارع البلدة, يضع أقفاصا حديدية على كل نواصيها, والكهان يمزقون الأزهار, يقتلون الأغاني, يغنون التراتيل المبهمة..
وأنا لا أستطيع الحلم, ولا أدري أين نجلاء..
أخذت رأسي على صدرها, أحسست كأني أغوص في تجويفها, أعيشها حلما, أرتمي على وهج ابتسامتها, تعابث شعيرات صدري بلعابها وسحر شفتيها, تمسك كفي, تطبع عليه قبلتها, ترسم عليه حلما, وتزينه بالقمر والنجوم والليل الطويل.. همست بموسيقى صوتها وسحره:
- كنت نبتة صغيرة, أدور بين رحى الحياة, تتقاذفني الأيام بين هوامشها, أهرب من جحور اليأس, وليل الجوع, إلى ظلام أكثر اغترابا..
وكنت أرقبك دوما, وأتأمل رحابة سماواتك, أرى بذور العشق تنزف الهوى بين كفيك, فأتمدد على نغمات نايك, وأستبيح من خفقات قلبك وهج ابتسامة, وارسم على وجه الغمام أمنيات أزخرفها بلقائك وبشوقي إليك..
لقد ولدت يوم رأيت في عينيك الغد مغلفا بالنهار, حين رأيتك تغرد الشوق على خد السماء, وتسبح في صفاء المطر..
وظللت أرنو للنجوم, أرقب ملامحك التي تتشكل من صوت الناي, فأشتاقك, أهفو لأن أعيش معك أحلاما تتجسد فيها أحلى لحظات العشق, ما بين ارتجاف الشفاه, والعناق الذي يدوم حتى الذوبان..
وخشيت أن أهبط أرض بلدتكم فتضيع خطواتي في دنيا لا أرغب أن أعيشها, بين بشر لا يعرفون قيمة الحب وجماله.. خشيت أن أسقط تحت أقدام المهرولين إلى اللاشئ, الذين يرسمون ملامح الخوف على شاطئ الحياة, ولا يرون غير العدم, فاستكنت بين ضفائر السنا أرقبك, وجعلت قلبي لك سكن, دفء يحتويك لتتوسد بداخله عشقا ما خلق لغيرك, وأعزف اسمك لحنا تطرب له السماء..
شعرت بارتجافة قوية, ورأيت سيدة الضياء يتملكها الفزع, تصلبت نظراتها على باب الحجرة, حيث رأيت الشيخ الطيالسي يقف وبيده الصولجان, وجواره الشيطان بذيله الأملس, وقرونه المشهرة لأعلى, وبيده شوكته ذات الثلاثة أطراف, خلفهما الكاهن العملاق بردائه الأحمر..
أشار الشيطان إلى سيدة الضياء, هرول نحوها العملاق, انطلقت من النافذة, سبحت في اتجاه النجوم, حملتها أشعة القمر, التحفت بالغمام حتى توارت عن أعينهم, فوقفوا حائرين..
ألقوا أغلالهم على جسدي, سحلوني خلفهم, هدموا حجرتها وسكني, فرت النجوم مذعورة, اختنق القمر.. صرخت في وجوههم:
- أهكذا قتلتم الحسين ؟
ضربة قوية على رأسي, صفعاتهم وركلاتهم تهدم جسدي, عيناي تجوبان الأفق بحثا عن سيدة الضياء, تصطدم نظراتي بالظلام وبوجوه الكهان..
دوائر ضوئية تبرق في عيني, تتهاوى الأرض أسفل مني, أسقط.. أسقط.. أ سـ قـ طـ........... في التاريخ القديم..
عطش الحسين فدعا بكوب ماء, وضعه على فمه, رماه الشيخ بسهم حال بينه وبين شرب الماء.. ثم شرع سيفه فاتقاه الحسين بيده, أسرع السيف يمزق شريف يده, ثم حمل عليه الشيخ, طعن سيد شباب أهل الجنة.. فهوى... الحسين هوى.. ثم كبا.. فقام, فكبا..ثم.. كبكبا..............
ولم يرجف الشيخ وهو يجتز شريف الرأس, ولم ترتعد يداه, شلت يد الملعون..
وسار الشيخ إلى الكعبة, هدم أحجارها, رماها بنيران كفره, قتل صحابة رسول الله, مثل بجثثهم.. ورأى وليدا, اختطفه من حضن أمه, حمله من قدميه لطم به جدران الكعبة المتهدمة, طارت رأس الوليد.. سقطت بين أيدينا, وظل جسده هناك, بين الرأس والجسد شعاع من الضوء كأنه الدماء..
الوليد كان هنا بالأمس, كان يلقم الأمل من ثدي أمه, قطعوا ثديها, قتلوها..
وعين الطفل تعرفهم, فيخلعون عينيه, وشفاه الوليد تبتسم, يمزقون شفتيه, ويعطونا مزيد من النبيذ, نشرب, نسكر, نصفق للألعاب السحرية..
ألقوا بي على حافة النهر, انغمس وجهي في طميه, رائحة العفن تنتشر من بيوت البلدة, أحاول أن أبصر طرفا من سيدة الضياء في الأفق, يعميني الإجهاد, أتحسس آلامي..
الشيخ والشيطان والكهان يبتعدون, يلفهم الظلام, أصرخ:
هيا.. تعالوا اقتلوني, مزقوني أشلاء, اجعلوني مضغة في أفواه كلابكم, أخرجوني من حيز الوجود البغيض, قد ضاع دمي بينكم, فما بال روحي لا تنطلق بعيدا عنكم, ما هذا الشئ المزعوم الذي يربطني بوجودكم الغبي, فلتسقط الأقنعة البلهاء للبشرية المزيفة, لتروا كم البشاعة التي أنتم عليها..
تعثرت في أصفادي حين هممت أن أدخل داري, في الدار الخراب لم أجد أثرا لنجلاء, تعثرت في صندوق خشبي قديم, تبينته, كان صندوق أبي الذي يحوي طبلته..
أبي الذي قتلته يد الشيخ والشيطان والكهنة, كما قتلوا أخي وأمي.. قتلوهم لتصمت إيقاعات الحياة, وليلتف الجميع حول الشيخ وشيطانه بصمت وخشوع, يتلقون منهم طرق عبادة الزيف, يتجرعون منهم الوهم..
تناولت الطبلة, نقرت عليها بأطراف أناملي المتكسرة, تك ضم تك تك تك.............
ولتهتز أرداف الحياة, ويتمايل الزمن اللدود, وتتسع دائرة الموت ليصير مركزها خط الاستواء, وحديها قطبي جليد..
وتتشابك خطوط الطول مع خطوط العرض في نسيج عنكبوتي, يحوطني بأصفاده السامة, يخرج من أعماقي الطفل القديم, يجر خلفه أقدام الخيبة والهزيمة المغطاة بوهم الحياة..
تك ضم تك ضم تك تك تك.................
قلب يحمل بين شغافه أنشودة احتضار, صدر يفتقر للاحتواء..
تقذفني السنين في دروب التيه العظيم, أسقط فوق كتب التاريخ العقيم..
جرحي الغائر ينز الصديد, تتكالب عليه هوامش الأحياء, تغوص في دهاليز جمجمتي, تتناثر حولي الروائح النتنة القادمة من غياهب حضارات لم تقو على الصمود في مواجهة زمن يحمل على أرضه من يدمرون كل جميل..
لحظة أن انطلقت أناملي على الطبلة, أعلنت العصيان على كل المعتقدات البالية, واشتد سعير الألحان، هبت كل الأوتار تحت زعامة لحن هارب من طيات الحياة..
حملت طبلتي تحت إبطي, ومضيت أغني اللحن الحزين, وحذائي ينقر حروف المستقبل, ضم ضم ضم ضم...........
***
أدور في شوارع البلدة وأزقتها, جثث الأطفال وأوراق الورد تختلط بالدماء والطين, رائحة الموت تخرج من نوافذ وأبواب الديار, الدخان في الهواء يخنق ما بقي من الأمل..
وجدت نجلاء متكومة بثياب مهترئة أسفل جدار متهالك, جلست بجانبها, حين شعرت بوجودي, رفعت رأسها تتفحصني، وعلى وجهها آثار الدماء, نظرت إلى عيني طويلا, لامست وجهي بيديها, تحسستني كأنما تتيقن من وجودي, ارتمت على صدري, وأجهشت بالبكاء..
بحثت عن القمر, لم أجده, كأنه اختبأ في باطن الأرض, فرت السماوات من نظراتي, أدور, أدور, أبحث, أنقب, أتساءل عن معنى الوجود, وأهمية وجوده...
أحطم كل الأشياء, أصب لعناتي على الأرض, أرسلها إلى..........؟؟؟
عيناها السوداء تصبان دمعا اسود.. تمتمت:
- لماذا تركتني ؟
تنفست بعمق وكأني أسترد الحياة، قلت:
- وضعوا أصفادهم على كل جسدي, طفقوا يصفعونني, ثم اقتادوني إلى شاطئ النهر, ألقوا بي عاجزا عن فعل أي شئ, وبعد زمن أفقت على صوت تكسير الأصفاد, وبعد جهد أبصرت رجلا يبتسم في ود, تعجبت, هل يوجد في زمني رجلا مازال يبتسم ؟ ربت الرجل على كتفي, وسرعان ما اختفى, دخلت البلدة, رأيت الأرض اليباب وقد تشققت, وترعى عليها الأفاعي وال****ب, فررت في كل الاتجاهات, كل الأبواب والنوافذ مغلقة, تنصت.. لم أسمع غير فحيح الأفاعي, ونعيب البوم..
هرعت إلى النهر, وجدت جثث أهل البلدة تطفو على مياهه, بحثت عنك كثيرا في البلدان المجاورة, حاملا الناي وطبلة أبي, أدق من أجل النهار, فيأتيني الليل, وأعزف من أجل الليل فأنام كمدا, بعد أن اختلطت المواقيت والأزمان..
رفعت وجهها الذابل تكسوه بقع الدماء, في عينيها معنى بغيض للانكسار, تتوه على ملامح وجهها بقايا الجمال القديم, قالت بصوت خفوت:
- كسر الكهان باب منزلنا, سألوني عنك, قلت لهم أنك امتطيت أول ضوء للقمر ورحلت, لم يصدقوني, بحثوا عنك في كل مكان, وجردوني من ملابسي, ثم اقتادوني إلى الشيخ الطيالسي الذي كان يقف بجوار شيطان قزم ذو وجه كالمسخ, شئ كمثل ذاك الذي قرأناه في كتب التاريخ القديم وهو يحرق المكتبات ويهدم المقدسات, ويقتل صحابة الأنبياء ويمثل بجثثهم..
كنت عارية تماما, افترس الشيخ عريي بنظراته الوقحة, ألقوني على ظهري, باعدوا بين فخذي, تقدم الشيخ ووضع وجهه بين فخذي, تشمم فرجي كأنه يبحث عنك, ثم رفع وجهه بعد برهة وصرخ: اضربوا الزانية.. حاولت أن أقول أي شئ, لم يمهلوني فرصة, انهالوا على جسدي بأرجلهم وأيديهم وعصيهم, ثم تركوني وذهبوا, لا أدري إلى أين أو لماذا ؟
حاولت أن ألملم أشلائي, وأستر عري جسدي بثياب أهداها لي رجل ذو بسمة وضّاءة, كمثل هذا الذي كسر أصفادك, ربت الرجل على كتفي، ساعدني على النهوض وسرعان ما اختفى..
عدت أدراجي إلى البلدة, وجدت النوافذ والأبواب قد انتزعت, تعثرت كثيرا في جثث الأطفال الغارقة في دمائها, تكسرت نظراتي وهي تجوب على جدران المنازل المتهدمة, خنقتني روائح الموت المنبعثة من كل أركان البلدة, صرخت بكل ما تبقى لي من صوت.. لم يجبني سوى نعيب البوم.
أنها لحظة البوح والنوح والأنين.. تلك اللحظة الفارقة بين تهاوي الجسد, ومحاولة التشبث بالسراب, تلك اللحظة التي تتوسط الوعي الآفل والهذيان..
متوزع أنا بين أقطاب الأرض, تتجاذبني الجهات الأربع, تمزقني, أصرخ, أصرخ, وتضيع صرخاتي هباء كالحياة..
اقتربت نجلاء متهدمة الفكر والجسد والنظرات, أمسكت كفي قبلت جبيني, قالت:
- أنا لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر مما احتملت, قتلني الجوع والضرب والإعياء وانتهاك جسدي وروحي, وروائح القتل والدمار والدماء.. أرجوك لا تغضب من كلماتي واسمعني جيدا..
تعالى نرحل من هنا.. هذه الأرض لم تعد لنا وما عادت تحبنا, هناك بلاد أخرى, كثيرة الناس, كثيرة المباني, لن يسألنا أحد من أين أتينا, أو ماذا نريد, هناك نستطيع أن ننام دون أن يوقظنا ضجيج الشيخ, أو لعنة قرينه الشيطان.
هيا أيها الضعيف الباكي المتكئ على أحلام باهتة, غز السير في وهم الطرق المنتهية فيها الخطوات إلى الهاوية, ادفع من دمك فاتورة حساب الدنيا الوهمية, ادفع ثمنا لكل شئ, موجود, غير موجود, سيان, فان كان موجودا ستدفع وهمك الباقي عربونا لمجرد وجودك, وان كان غير موجود فيكفيك أنك مارست حلم الانتهاء..
هيا دعهم يمارسون عليك الوهم وألعابهم المزيفة باسم السماء تارة, وباسم كل المعتقدات المنبثقة من أساطير الوهم البشري تارة أخرى..
انتبهت على صراخها, وهي تهز كتفي:
أفق.. أفق.. من أبسط حقوقي أن لا أراك مفصول الرأس, مقطع الأوصال, مبقور البطن, أو مصلوبا على جزع الشجرة التي مارسنا تحت ظلها أحلى لحظات الحب..
صدقني كل شئ قابل للتفاوض وللتنازل وللمساومات, ألم تقرأ التاريخ, ألم تخبرني أنت نفسك عن المثل العليا وهي تتهاوى على موائد المفاوضات والمساومات..
قل لي أيها البائس, لأي شئ أريقت دماء أهل البلدة, كما أريقت من قبل دماء أهل الكوفة والبصرة ومكة, ودم الحسين, والكثير الكثير, لماذا زهقت تلك الأرواح, لماذا تدور رحى الخراب تدمر البلاد, وتنتهك النفوس, وترمل النساء وتثكل الأمهات منذ بدء التاريخ الإنساني القذر..
أجبني ؟ أم أنك مثلهم تخاف أن تعرف, أو تبوح بما تيقنت منه, وسكن حقيقة إدراكك, تحت دعوى المسكوت عنه فتغطيه بوهم اللحى المصبوغة بألوان الجهل, أو بعمامة يعلوها الزيف والخرافة..
أنا سأقولها لك, وللدنيا, وللتاريخ, سأنقشها على كل حجر, سأصنع منها دمية مفصولة الرأس, مقطوعة الذراعين, منغمسة في دمائها, تبكي ضياء لن تراه, سأقولها في كل حين, ولكل زمان, أن هؤلاء القتلة هم الذين يعرفون من أين تؤكل كتف الشاه, يعرفون المسار الذي تتأرجح على طينه الحياة, فيحكمون خطواتهم على الأرض, ويدعون لنا الانزلاق..
وأنا لا أطلب منك غير الفرار قبل أن يقتلوننا كما قتلوا صحابة الرسول وخلفاؤه..
يا حبيبي وزوجي, يا أيها الحالم بالضياء, وسنا البدر, قد ضاع الضياء وفرت سيدته, وحياتنا رخيصة عندهم, لا تساوي شيئا, ولا يلقون لها بالا, كلمة منهم تحيينا أو تقتلنا.. والآن كلمة منك.. ترحل معي, ونعيش كسائر البشر في ظل النسيان, تحت ركامات التجاهل, أو تصمت أنت وأقول أنا كلمتي..
فأنا أريد أن أعيش, أعيش بأي طريقة, حسب ما يريد أي منهج, فقط أريد أن أعيش دون الشعور بالخوف من معترك غير متكافئ أبدا مع قوى شيطانية لا تعرف الرحمة, ولم تسمع عن العدل..
هيا, هيا معي, نحاول أن نحيا تحت أي ظل, داخل أي جسد, بأي لون.. هيا نتوارى عن أعينهم, ندع لهم الدنيا, ليأخذوا أجمل ما في الحياة, لعلهم يتركون لنا مجرد أنفاس تضطرب في صدورنا, تكون دليلا على أننا ما زلنا أحياء, وقد نستطيع يوما أن نحلم سويا بالامتلاء.
نظرت في عينيها طويلا, قد ضاعت كل مقاييس الحب والجمال.. تمتمت:
- يكفي ضياع أحدنا..
- ولماذا تختار الضياع.. ؟
- لأني ما زلت مرتبطا بربوتي, وبهذه الأرض, وبالقدر, ولا تسأليني عن سر هذا الارتباط, فأنا لا أدري له تفسيرا.. اذهبي أنت, قد تجدي ما تريدين في مكان آخر, وسأجدك يوما ما.. حتما سأجدك..
رحلت تجرجر خلفها أملا برائحة الإحباط, ولون أشباح الظلام..
***


















عند شاطئ البحر, اختفت طيور النورس, هدير الأمواج كموسيقى جنائزية, شجرتي تقف واهنة, صامتة, سقطت كل أغصانها, بدت كعجوز, شاهدة على حركة الكون, وحيدة تحاكي غربتي في بلد ترعى فيها السيوف تحت أجنحة الظلام..
هل أستطيع أن أشكل هذا الجزع المتراكم عليه تاريخ الكون, سفك الدماء, عناق العشاق, صليل السيوف, كلمات الغزل, صوت القبلات, أم أشكله كوجه الحبيبة, شعرها المصبوغ بالحناء, عينيها البنيتين, شفتيها المكتنزتين, صدرها الدافئ..
سألبسها ثيابا من نغم الناي, وأقلدها سوارا من أشعار الليل..
أتممت تشكيل شجرتي, بدت كعروس في ليلة زفافها علمت توا بموت عريسها, تقدمت مني باكية, قبلت كفي, رسمت عليه ربوة, وبحرا وجبلا ووجه سيدة الضياء, ثم غسلته بندى أوراق الزهر, احتوتني ورقصنا على إيقاع النسيم الذي هب ليحتفل بنا كشكل أخير للحياة..
توقفت, طبعت قبلة كالهمس على شفتي, أشارت وداعا, اختفت بين الأمواج

***











بين البحر والجبل داس الظلام كل مكان, لحظة ضعف تثقل كاهلي, أسمع صوت الشيخ والشيطان يقهقهان، أسقط في بؤرة الرعب, يحاصرني الكهان, ينهالوا بعصيهم على جسدي, يسيل دمي على الرمال, يرسم خريطة للعالم الجديد..
اقتادوني بالركلات إلى مكان مظلم, أوصدوا خلفي أبوابا حديدية, جلست على الأرض.. كأني نبت غريب على هذه الأرض, مجتث, ليس لقدمي موضعا تستقر عليه, فقدت جذوري فتلاعبت بي الرياح كيف ما شاءت..
تبينت في الظلام وجوها كثيرة, تتحدث بلا مبالاة, تقدم مني أحدهم:
- لماذا لا تتحدث.. هل أنت متعب ؟
في عيني دمعة تترقرق من زمن بعيد, لم أستطع طردها, كبرت حتى صارت عينا ثالثة, وكبرت حتى صارت جسدا ملتصق بجسدي, ثم توارت خجلا وتوحدت مع خلايا جسدي..
- يا بني مالك لا تتحدث ؟
- لعله أخرس, أو أصم..
- بل هو معتوه, جاءوا به هنا كأداة تعذيب لنا..
يسخرون ويضحكون.. وجوههم لا تختلف عن وجوه الكهان, نفس كم الجهل, وحجم اللحى الغبية التي يتخللها الجهل والظلام القاتل, كأنهم من نسل ذاك الشيطان, آلمني كتفي حين وكزني أحدهم وهو يقول:
- هل عذبوك أنت أيضا.. تحدث والا قتلتك..
في عينيه رأيت البطالمة يحتلوننا ثلاثة قرون ولا يخجل من وجوده, والرومان يستعمروننا سبعة قرون ولا يستحي من قتلي, أولاد أي مستعمر أنتم ؟ وهذه الأرض التي ولدتم عليها, ولدت من هي.. ؟
- هيا, هيا لتغني ما دمت تحمل طبلة ونايا..
أسلمت رأسيا للنوم, غير آبها به..
إلا رفسة هائلة في وجهي انتفضت على أثرها مذعورا متألما كأشد ما يكون الألم, التصقت بالجدار, وهو يواصل رفساته على كل جسدي المسكين, ويصيح:
- انهض يا أبله.. أتنام جواري أيضا..
كان بعضهم يضحك بصوت مرتفع, والبعض الآخر منهمك في التهام قطع اللحم النتن..
حين رأيت لحيته تذكرت فرعون ولحيته المقدسة بضلالات الوهم, وعدم تورعه من أن يدفع بابنته لممارسة البغاء لقاء حجر يكمل به بناء هرمه الأكبر..
اقترب رجل مبتسم, باعد بيني وبين من يضربني, هدأ من روعي, ربت على كتفي..
وجهه الهادئ المبتسم كأني أعرفه من زمن, ابتسم بود ودعاني للنهوض, أحاط جسدي بعباءته, احتضنني بشدة, كأنه يحملني, اتجه بي ناحية الجدار بسرعة هائلة, نفذنا من الجدار كما ينفذ الضوء من الزجاج, وفي لحظة وجدتني أجلس جواره تحت الجبل, نظرت إلى وجهه الهادئ وابتسامته الغير مبالية لشئ.. سألته:
- من أنت ؟ رأيتك من قبل.. نعم رأيتك.. وأنت تقف عند باب الغار الذي يتوسط الجبل, تنظر إلى الشيخ وامرأته وتبتسم, وكلما حان موعد مراسم قربان المسخ الشيطاني أسمعك تضحك, ثم رأيتك تكسر أصفادي يوما, وروت لي نجلاء عن مساعدتك لها, وها أنت تخرجني من السجن, وتخترق بي الجدار كما الوهم..
( بعد أن كان الرجل ينصت إلى صانع الدمى, تركه والتفت نحوي أنا, أبحرت في ذاكرتي كثيرا لأتذكره, كأني أعرفه جيدا, أو كأنه أنا, أنا المؤلف.. لكن ملامحه تختلف كثيرا عن ملامحي..
فهو أسمر, له شارب كثيف, طويل القامة, عيناه تجحظان قليلا, يضع نظارة سميكة على عينيه..
أما ملامحي أنا.......... أنا............. !!!
صدقوني لم أعد أذكر مما تتكون ملامحي.. فقد شوهتها كتب التاريخ القديم والحديث وواقع أيامي, ضاعت ملامحي مع الأرض المسلوبة, والأعراض المنتهكة, والأرواح التي تزهق كل ساعة بدون تبرير..
لم يدعني الرجل كثيرا في حيرتي حتى خاطبني:
- ألا تدري من أنا ؟ أنا القارئ, وقد دخلت روايتك لأتابعها عن كثب, وكان لا بد من أن أحرر صانع الدمى من سجنه, وأساعد نجلاء ليستكملا دورهما في هذه الدورة الحياتية, وللأسف لم أستطع اللحاق بسيدة الضياء لأعيدها إلى الربوة, وبهذه المناسبة فأنت لم تذكر الكثير من التاريخ الإنساني القبيح, فكم من أعلام وأسماء لامعة تنحني لها الجباه, ويضعونها فوق مراتب التبجيل والقداسة, وهي لا تستحق غير ضرب النعال, وأظنك تعرف الكثير عن هذا التاريخ الذي نخجل من ذكره..
صمت القارئ, وشاركته الصمت, فهم ينذروننا دائما, إما الصمت, أو التورية, أو حد السيف الذي يختبئ تحت عمامات الجهل, يهدد رقابنا وحياتنا, مأتزرا باسم الدين الذي يجهلون ملامحه..
انتبهت إلى صانع الدمى وهو يحادث نفسه.. )
- كنت أرغب أن أحكي له عن اللذين حرقوا بلدتي, دمروا ديارها, هدموا الربوة, قتلوا طيور النورس, حرقوا الأشجار والنخيل.. ففرت منهم الألحان, واختلطت الألوان برماد نيران القرابين.. قتلوا أخي, وأبي, وأمي, شردوا نجلاء, فصارت تحط رحالها كل يوم في بلد لا تقبلها, وسيدة الضياء التي فرت من ظلماتنا, وتركتنا لا نعي شيئا مما يحدث وما سيحدث.. أين ذهب ذلك الرجل الذي أومض بشئ يشبه الأمل الذي نسيت لونه..
انتبهت إلى الشمس وهي تريد السقوط خلفي وتتمهل لسبب لا أدريه, رأيت الرجل قد انتصب أمامي ثانية, نظر في عيني طويلا, ثم قال بهدوء:
- لماذا تلك البقعة من الأرض التي تريد أن تفنى في سبيلها, وأنت في الحقيقة مجتث من فوقها.. يا صانع الدمى السماء على اتساعها لها لون واحد, الأحرى بك أن تواصل البحث عن سيدة الضياء, الأحرى أن تجدها وتسكن قلبها, فهي الشئ الوحيد الذي يهفو للتطهر في عالمنا القذر.. انهض.. فالقوم قادمون لا محالة.. قد يقتلونك, أو يأسرونك مرة أخرى..
- وأنت يا سيدي.. ؟
- لا تبالي.. فأنا أرقبهم جيدا منذ بدء التاريخ, اذهب أنت الآن .. فقط تذكر أنك اذا نظرت خلفك ووجدت المسافة التي بينك وبين زمنك كما هي فاعلم أنك متوقف, وإذا رأيت المسافة تقل فاعلم أنك تتقهقر..
شعرت بهم يعدون خلفي, ضاعفت سرعتي, أسابق الريح والزمن.. ناديت:
أدركيني يا سيدة الضياء.. إن القتل غاية أمانيهم, قتلوا من قبل سعد بن عبادة وزعموا أن الجن قتلته, هدموا الكعبة بالنيران وزعموا أنهم ينصرون الإسلام, ذبحوا المسلمين وقالوا هذا في سبيل الله..
أدركيني.. إنهم يظنون أنهم داخلون الجنة عوما في دمائنا ما داموا يطلقون لحى الجهل والغباء..
عند مدخل البلدة نظرت خلفي لم أجدهم.. ارتميت على الأرض, لعلني أستطيع أن أسرق أنفاسا من فم الزمان..
***




















أمسكت الطبلة, صفعتها, كل شئ في هذه الحياة يستطيع أن يصفعني, وأنا لا أصفع غير هذه الطبلة..
صفعتها, أخذت تتك وتضم.. توالت عليها يدي بالصفعات, وتوالت تكاتها, وتباعدت ضماتها..
تأملتها جيدا.. هذه الطبلة تحتاج إلى رتم جديد, ليس من المفروض أبدا أن تظل طوال عمرها تعتمد على الصفعات لتخرج إيقاعاتها, وتصدر مجرد تك وضم.. هل أستطيع أن أصعد بها السلم الموسيقي لأطلقها إلى آفاق أرحب ؟ هل أستطيع أن أجعل لها سلما موسيقيا خاصا بها ؟ لما لا أحررها ؟ لما لا أسقط من تاريخها الصفع المتوالي ؟ ...
بأطراف أناملي داعبت رقها, أصدرت موسيقى راقصة, واصلت مداعبتي وواصلت موسيقاها, تراقص الجبل والبحر انتشى, وتشكلت من زبده امرأة تقطر جمالا, وتنبت زهور اللوتس تحت قدميها, تفرد أشرعة من أوراق البردي, مكتوب عليها مشاعر الحب البدائية, اقتربت مني عارية, تضع زهور اللوتس على مثلث عفتها, همست:
- أريد أن أرقص..
داعبت رق الطبلة, أصدرت إيقاعا مقترنا بنشوة موسيقية كهمس القبلات على شفتي بكر, انتشت, تراقصت على أطراف الزهر..
ضممت براعمها إلى صدري, التحفنا بأوراق البردي, انطلقنا إلى حدود مسافات الهروب, هبطنا من مركب الشمس على أرض رملية, جافة, متشققة, لا يوجد بها أثر لأي حياة, سألتها , فأجابت:
- كان رب الخير يبسط يديه على هذا الوادي, الذي كانت تنبت فيه أجمل ألوان أزهار اللوتس, وأحلى أشجار الفاكهة, وفي كل ليلة كان يأتي رب الموسيقى ومعه الناي والطبلة, والحوريات عازفات الأرغن, والمنشدات والراقصات, فتملأ الأفق الإيقاعات الساحرة, ويصدح غناء ربة الوادي, وأزهارنا تفوح ضياء وعطرا..
نرقص ونغني, ويدور علينا اله الحب, فيسقينا من خمره حتى ننتشي, ويضمنا العشق حتى تخرج علينا الشمس بأشعتها الوردية, فنعود إلى ديارنا, بينما يظل رب الخير يزاول أعماله بابتداع مزيج جديد من الألوان والعطور والضياء والموسيقى, مع طريقة جديدة للابتهاج واللهو والعشق, استعدادا لليلة قادمة..
كنا نعيش حلما رائع التكوين امتد آلاف السنين..
حتى كان اليوم الذي جاء فيه من عالمكم شيخ كبير ذو لحية بغيضة, يرتدي قناع الورع والوقار, قابل ربة الوادي وهي تتجول في أروقة حدائقها, أخذته إلى رب الخير لينعم عليه بشئ, وسرعان ما تحول الشيخ إلى ثعبان جني عملاق, ابتلع رب الخير, وامتطى ظهر كلب ذئبي له سرعة البرق واختفى..
هرولنا إلى الربة اللبؤة سيدة رسل الموت, بحثنا عنه في كل حياة وفي كل موت, لم نعثر له على أثر.. ضاع رب الخير من على ظهر الأرض.. اجدب الوادي, هاجرت كل الأرباب إلى أمير الظلام تقربا, وخوفا.. وقبعنا نحن مع سيدة الوادي في سراديب المومياوات ننتظر, وطال الانتظار حتى جاءت امرأة إلى سيدة رسل الموت, وعلمت بما حدث, فقالت أن لها ابنا يعزف ألحان الناي, وعنده إيقاعا ساحر خلاب, يصنع الدمى بكفه المرآة من طمي النهر, وأغصان الشجر, ومن الغمام, وأشعة الشمس والقمر فيطاول بها النجوم, يعشق الأحلام وسيدة الضياء..
ظننا أنك تستطيع أن تعيد الأمسيات الجميلة, فأرسلتني إليك ربة الوادي الآن, حين سمعت مداعبتك لرق الطبلة بأطراف أناملك, وخرجت منها تلك الموسيقى التي تشبه حياء العذارى, فربما تكون روح رب الخير قد سكنت جسدك..
دبت ارتعاشة في أطراف أناملي, مررت بهم كالنسيم على حواف رق الطبلة، لفظت موسيقى كتغريد العندليب, هطلت الأمطار, أنبتت الأرض ورودا تتراقص, سبحت الأنغام على خد النسيم..
على البعد رأيت عرشا تحمله الزهور, ربة الوادي كهالة من نور تمتطيه, تقترب, أتحقق من ملامحها, هالني أن أراها كامرأة الشيخ الطيالسي, بل هي.. هي.....
إيزيس.. ؟ امرأة الشيخ ؟ المرأة التي بذرت فيها مياه عفني ؟ يجعلون منها رمزا للطهارة والفضيلة !!
فما هي الفضيلة ؟ أتكون شيئا كنا نتوهم وجوده، أتكون شيئا فقط نتمنى أن يكون ؟
ارتجفت, تراجعت, ونظراتي لا تغيب عن امرأة الشيخ التي ترتدي هيئة إيزيس, وتعتلي عرشها, اصطدمت بمسخ مشوه, غزير الشعر, مقطب الجبين، يرتدي باروكة من الريش, يغطي جسده بجلد أسد عملاق, ولسانه يتدلى من فمه, حين هممت بالهرب لمحت سيدة الضياء تهبط من غمامتها البيضاء, ارتمت بين ذراعي, اختلطت دموعنا.. قالت بصوت مرتعش:
- لقد رأيت المسخ الشيطاني يضاجع هذه المرأة, ثم سمعتهم يتآمرون على قتلنا.
التفت إلى العرش, رأيته خاليا إلا من زهرة اللوتس, وعلى الأرض بقايا عظام لحطام المومياوات من زمن الأفول.. قلت لها:
- هيا, هيا نفر من زمن الموت, وحضارة الأجداث.
عند مشارف البلدة, تمهلنا في الدخول خوفا أن ترصدنا عيون الكهان, ثم رأينا الأرض وقد جفت, رائحة العطن تنتشر في جنباتها..
تلك الأرض التي لفظتنا خارج رحمها, لندور في غير مدارنا, نتخبط بين آفاق لا تريدنا, أو نغوص في دهاليز نتنة, تنغلق أرحامها على رؤوسنا, لتخبو آمالنا تحت وطأة البغي العفن..
سيدة الضياء اتخذت طريقها إلى الربوة, وأنا أتأمل البلدة الخراب, أسير متخبطا بين أزقتها, أبحث عن مأوى نظيف لم أجده في تاريخنا القديم, ولا أستطيع أن أأمله في مستقبل قريب أو بعيد..
إننا نعيش بين شقي رحى, أسفلنا سيف بطش لا يرحم, يلهو بكرامتنا, يسرق قوتنا, يقتل فينا الأحلام ويمزق الضياء..
ومن فوقنا غباء ملتحي, يرتدي لباس الأفيون القديم, يغتال الجمال, ينتهك حرماتنا باسم المعتقدات البالية, يبيح لنفسه نساءنا سبايا, وأموالنا غنيمة حرب لم نكن طرفا فيها..
أين نذهب ؟ حتى الموت صار ضنينا علينا, ولئن متنا فلن تجد أجسادنا مأوى في هذا الثرى اللعين..
فليظل إذن هذا الوهج النابض في جسدي, يمد يدي بمقدرة خاصة لحمل الناي ومداعبة الطبلة وصنع الدمى, لعلني أضيف إلى الظلام شدوا خاصا, يرصعه بشعاع يولد الأمل, ينمو في عين طفل لم ير تلك الوجوه, فترتسم على شفتيه بسمة نسيت مذاقها من زمن بعيد..
تسللت إلى داري, تهدمت أركانه, دخلته اللعنة من كل باب, صدى الأنين ما زال يهدر ويهز جدرانه المحطمة..
دلفت إلى الحجرة التي كنت أدس فيها دمى ذكرياتي, وضعت الطبلة جانبا, نفضت الأتربة عن دمية كنت قد شكلتها لحبيبة من عهد الصبا, ذات عينين خضراوين بلون أوراق الشجر, ترى ماذا كان اسمها ؟ كيف نسيته ؟ كان اسمها له معنى الطهارة والنقاء والعفاف, كم كنت أحبها, وأتنسم الغبار من تحت قدميها, حتى وجدتني يوما في جوفها غريب, وتحت أهدابها مهزوم قتيل, مزقت أشعاري التي كتبتها عنها, فقد كانت حروفا عرجاء, كلمات ممزقة الأوصال, أذابتها في كوب ماء, تجرعتها في الصباح, تبولتها في المساء..
آآآه.. حقا ما عاد الكلام يجدينا, ويل للشعر, وويل للشعراء, ما كان ضر المتنبي لو سكت عن الكلام ؟ فلينفض سوق عكاظ, لن يشفع الشعر لمن فقد ليلاه..
أمسكت عصا أبي، كسرت كل الدمى, حطمت كل الرموز كل الأشياء, سأرسم لوحة جديدة, ربما تكون أخيرة..
تناولت الفرشاة, لا.. سأرسمها بالناي, سأشكلها لوحة للضياء مقترنا بالنغم, القمر وسناه الفضي, والنجوم تتراقص حول رأس سيدة الضياء, أراقص أهدابها, وأغني لعينيها البنيتين, وبأطراف أناملي أداعب رق الطبلة, تسمو مشاعرنا, تتراقص الفرشاة والألوان, تصبغ اللوحة البيضاء بألوان العشق..
تتداخل الألوان الداكنة, تهديها الريح غبارا, يصبغ هامشيها بالسواد, يخترقها لون قاتم, بصوت القهر, يجسد هياكل القبور اللون الرمادي, لون الموت, تعتم الألوان, غيبوبة عشق تشمل الجسد النابض, يقفز إلى اللوحة قلب ينهار, يرتكز على صخرة, الصخرة باللامركزية تتكئ على عود هش, تضطرب الصورة, قلب آخر, قلوب كثيرة تحتضن القلب الذي يحتضر, قلب يهبط, تتمركز عليه الصخرة, الدقات الموسيقية تختلط بصوت الناي, تعزف عدودة وترسم دموع العشق, تكتب حروف السنين المهملة..
في قلب الصورة ترتسم نجلاء, كأنها داخل محراب تطلق البخور, تمد يدها تقبض على قلبي, تنتزعه, تهديه للشيخ وللشيطان, ينظران نحوي بسخرية, يقفزان من اللوحة, ينتصبان أمامي, أتناول الطبلة والناي وأهرب خارج الدار, يطاردني أصحاب اللحى والكهان والشيخ والشيطان, أعدو بين الأزقة, أدلف البيوت الخاوية من أصحابها, أغوص في سراديبها تطاردني الجرذان والأفاعي والخفافيش, أمرق إلى النهر, أقف مجهدا مستسلما, أتناول الناي, أنفخ فيه ما بقي لي من حياة..
أداعب طبلتي بحب, يقتربون, يصنعون من الناي سهما, أنتصب أمامهم متحديا, أداعب طبلتي فتصدر أجمل أنغامها, يتراقصون, والناي في أيديهم ينعي العالم القديم والجديد, ينتبهون, يرشقون الناي السهم في قلبي الوحيد..
أسقط في النهر, تتصاعد من مياهه فقاقيع بلون دمي, تسقط لوحتي فوق جثتي, تختلط الألوان, تذوب معالمها, واللون الأبيض تقتله كل الألوان................

***
عادت نجلاء إلى البلدة بعد أن ضاقت بها كل السبل, أمسك بها الكهان, أدخلوها مكانا محاط بالسحر الأسود, شعاع أحمر يلف المكان بشراسة الذئب, وتعطش النمر للدماء, انتصب الشيخ أمامها, أشار إليها, نهضت, بدأت تتجرد من ثيابها, تدنو منه وتبتعد, تتراقص كذبيحة على إيقاع شحذ النصال, كأنها تؤدي عبادة العربدة, ارتمت تحت قدميه منهكة عارية..
ثريا من الجماجم البشرية تتدلى على رؤوسهم, ينطلق من أفواهها فحيح يمتزج بصفير مزعج, أعينها تلمع بضوء ممتزج بالدماء, على الأرض تسقط ابتسامات ضلت شفاه أصحابها, ومقاعد من عظام تهاوت جلودها خجلا..
نظر الشيخ إلى جسدها العاري, تأفف من تأوهاتها, ارتمت على صدره, حاولت أن تشدو بأغان شبقية, ركلها بقدمه, صرخ:
- رغم الحمى الشبقية تغزو جسدي, إلا أن جسدك هذا لا يعنيني, قد عاث فيه زوجك زمنا, وأنا لا أنتشي من جسد عبث به ذلك الحقير..
أخذ يجول في أنحاء المكان, يمسك لحيته متفكرا, ونجلاء تنتحب, وتلملم أطراف الخيبة تستر بها عريها, قال بغضب:
- لقد استهلك زوجك كل نساء البلدة, حتى زوجتي وابنتي, تماما كما كان يفعل أبوه, لم يدعا لي شيئا هذان الملعونان, لقد كنت أشم رائحتهما في فروج كل النساء, كان يسحرهما بالدمى والتصاوير والألحان..
- لقد مات..
- بل قتلته, وقتلت أمه, وأباه, وكل من يمت إليه بقرابة أو نسب, لم يبق سواك, وتلك المرأة التي فوق الربوة, والتي مازالت تشكل ملامحه على الغمام, من سنا البدر, وتبني له كل يوم سكنا.. سأقتلها, سأدمر تلك الربوة, سأنسف من تاريخها الضياء والنجوم والقمر..
من تجويف جمجمة عملاقة خرج الشيطان القزم, سجدت له الجماجم تسبح بحمده, ملأت الأفق أناشيد تمجده, افترشت اللحى الأرض تحت قدميه, وطأها بكبرياء طاووس, هرول نحوه الشيخ, قبل الأرض بين قدميه, نظر الشيطان نحو نجلاء, غاصت رعبا في عريها, قهقه بعنف تقدم منها, أمسك بشعرها, جذبها بقوة, ارتجفت, ارتمت تحت قدميه, غمس أصبعه في فرجها, امتصه بتلذذ, همس لها:
- سأنتظرك الليلة عند المذبح..
دوت قهقهته في أرجاء المكان, همس في أذن الشيخ, هز رأسه, تمتم ساجدا, دلف الشيطان في فم الجمجمة العملاقة, والأناشيد تمجده, وتملأ الأفق, نظر إليها الشيخ.. قال لها:
- الملك يريد أن تقدمي إليه قربانا..
- أي ملك ؟ وأي قربان ؟
- طاووس ملك, أمير الظلام, الذي أنعم علينا بقوتنا وبأسنا..
- ولكنه ملعون..
خر على الأرض راكعا, رفع وجهه بخشوع:
- النعم بين يديه, يسبغ بها على من يشاء, كيفما يريد..
- ولكنه ملعون..
- أرواحنا تحت نصاله, كل الأسماء اسمه, وهو لا اسم له, كل النعوت نعته, وهو لا نعت له, شقاؤنا رهن إشارته, ونعيمنا بين يديه
- هذا القزم, هذا الشيطان ؟
- إلهك, والهي, أمير الظلام, أعطاه الإله الأكبر مفاتيح العلم والحكمة, وترك له الكون يتصرف فيه كيفما شاء..
- يا سيدي..............
- سيدي وسيدك أمير الظلام..
أمسك بشعرها بكل عنف, والغضب يبرز من على قسمات وجهه:
- يجب أن تؤمني به, حتى يهبك الحياة..
هوت الأرض تحت قدميها, انزلقت دموع العجز بين نهديها, نكست رأسا يعلوه ذل الحياة, أحضر الشيخ كأسا من عظام جمجمة, استل خنجره, غرسه في ذراعها, ملأ الكأس من دمائها, تركها وسط آلامها, تجرع الدم بتلذذ, ثم جرجرها خلفه, انساقت وأمل الحياة يداعبها..
حين مرا بجوار البحر رأت زهرة تنبت من تجويف صخرة, تنهدت, داعبتها ذكرى قديمة لخيال طيف كان يبثها الغرام عند هذه الصخرة, كم أشتاق لصوت الناي, وإيقاع الطبل.. كنت أستمع إلى رناتها كأنها جنين بداخلي يعزف على أوتار قلبي, وحين تشتد يد حبيبي, يعزف عليها إيقاعا سريعا قويا, أشعر بها كالمضاجعة العنيفة, أخافها لكني أحبها, لم يكن في الكون سوانا, حين لمس يدي أول مرة جفلت منه حياء, وتمنيت لو ضمني, فضمني, تشبثت به حملني, أدخلني بين ضلوعه, تناغمت دقات قلبينا مع صوت الناي, وصوت قبلاتنا كأغنية تغردها الطيور, وتشدو بها الحياة, وانتشينا, وأسبغ الحب ظلاله علينا, اقتطف وردة تنبت من تجويف صخرة, وضعها في ذؤابتي, وجرينا, وضحكنا, وحين توقفنا نظر إلى البدر المنير وقال كذاك البدر مصيرنا, لم أعي ما كان يقول, لم أكن أدري أن الأفول سيأتي دوره علينا, ظللنا نسقط, نسقط.. حتى صارت حياتنا كسفينة تمخر في عباب الوهم, شراعها من الخيال, ربانها فكرة ضلت السبيل, أصابتنا لعنة الشيخ والشيطان والكهنة واللحى والعمائم, قتلت فينا الآمال, أطفأت بريق الحياة, وها هم يواصلون ذبحنا تقربا لإله ملعون من رب السماء, لا يملك غير مفاتيح اللعنات, وخزائن الألم, وأبواب الظلام..
توقفا أمام كهف أسفل الجبل, عند مدخله يقف كلب بحجم الخيل, له أربعة رؤوس, أشار له الشيخ فتنحى عن الطريق, قال لها:
- هذا الكلب يسمح بالدخول إلى الكهف, ولا يسمح بالخروج منه إلا ليا ولمولانا ولعباده, فماذا ترغبين.. ؟
رفعت وجهها الذابل, تفحصت الشيخ مليا, قالت كأنها تبكي:
- الآن تخيرني ؟ بعد كل ما ضاع تخيرني ؟ وماذا أختار ؟ الموت خارج الكهف له نفس رائحة الموت داخله.. سأدخل, لعلني أرى شيئا جدير بالموت, خبرني يا شيخ, هل يوجد مكانا في دنياك أو آخرتك خالي من العذاب ؟ حتى الجنة دخلها الشيطان في تجويف أفعى, أليس هذا أكثر عذابا وألما ؟ هيا يا شيخ سر على لعنة مولاك..
سارا في ممر طويل مظلم, أوقد الشيخ شموعا سوداء طويلة, انعكس شعاعها على مياه البحيرة المقدسة, في نهاية الممر طلب الشيخ من نجلاء أن تتجرد من ملابسها لتغتسل في مياه البحيرة قبل الدخول إلى المعبد, استجابت بدون تردد, أحضر لها الشيخ قميصا أسود مرسوم عليه جمجمة حمراء, ثم اتجه إلى المبخرة, أشعل فيها النيران, انطلق الدخان يشكل مخلوقات وهمية بتموجاته المختلفة..
تقدم إلى قدس الأقداس, نزع الخاتم الطيني من على الباب الخشبي, دفع المزلاج, فتح الباب على مصراعيه, ظهر ثعبان كبير, كثيف الشعر, له رأسين, احدهما ذو لحية غزيرة الشعر, مشعثة, يعلوها تاج أبيض مرسوم عليه رأس لبؤة, ورأسه الأخرى يتدلى من فمه لسانا مشقوق نصفين, يقطر موتا, يعلوه تاج أسود مرسوم عليه حيوانا يشبه الكلب بأذن مفلطحة قائمة, وذيل مستقيم يرتفع لأعلى, له يدان وقدمان كالبشر, يتسلح بدرع وحربة وفأس قتال, تضئ عيونه الشموع, ويخرج من أنفه دخان البخور, لا يبدي حراكا كأنه تمثالا من البرونز..
تقدم منه الشيخ, ركع أمامه مبتهلا, ونجلاء تجول بعينيها على جدران المعبد, تتأمل الصلبان المعلقة المشقوقة نصفين ومصطبغة بالدماء, تشكل لوحة للزيف بكل مقاييس الزمان, شرد ذهنها:
- كل آلهتهم ثلاثة ؟ سخمت وبتاح ونفرتم كانوا ثالوثا مقدسا, خنوم وساتت وعنقت كانوا ثالوثا مقدسا, إيزيس وأوزوريس وحورس كانوا ثالوثا مقدسا.. عنت الوجوه لكل أشكال الصلبان, المعقوفة والمقلوبة والقائمة, ركعوا لكل أشكال التثليث, إلا ثالوث الحب والخير والجمال..
في صدر المعبد بجوار المذبح, رأت الشيطان واقفا وبيده شوكته, أعلاها لسان لهب, أسفلها ثلاث نصال, أعلاها حرق, أسفلها قتل وتمزيق..
ابتسم وأشار إلى نجلاء, تقدمت غير مبالية لشئ, أجلسها, أمسك كتفيها برفق, همس:
- كل ما عليك فقط أن تستلقي على ظهرك, أما أنا فبعد أن أنزع ثيابك, سأضع إصبعي السبابة تحت ذقنك, وأتحسس خلف أذنيك برفق, ثم أمس كالنسيم نحرك حتى تستطيعي أن تتنفسي كما أرغب, ثم أداعب نهديك أعيد إليهما بكارتهما، فيمتلئان بنبض الحياة, ثم أستقر غير غافي على سرتك..تلك الصرة التي صنعتها لأبيك آدم حين ضربته عليها لأتبين إن كان أجوفا أم مصمتا, ثم أورثكم إياها, وبعد ذا وبكفي أتلمس بطنك لعلها تنبت من يبشر بطاعتي, حتى أصل إلى فرجك.. تنفتح عنده كل الرؤى, فأخرج من جوفك قذارة إنسانيتك, وأملأك هواء من زفيري, وأبدل عظامك بشعاع من شموعى السوداء, وأبدل جلدك بشفافية الشهوات, وألبسك حلة من فكري, ثم أخرج بك إلى مجمع الخالدين, فآمرهم أن يجعلونك ربة, ولك أن تختاري أي رمز لتكوني ربة له, وتختارين لك اسما أو نعتا مناسبا, فالناس تسجد لأي رب ما داموا يستطيعون أن يعيشوا في وهم فكرته, وبما أنك سترتدين فكري فسيعبدونني فيك, هيا.. اليوم يومك أنت, وكل ما ترغبين فيه سيكون بين يديك, وكل ما عليك فقط أن تستلقي على ظهرك في استرخاء تام.
صمت عن حديثه, هز ذيله وقرنيه, نظر إليها بعين متقدة, ونجلاء تفكر مليا, نهضت واتجهت إليه سجدت أمامه ثم قالت بهمس:
- سيدي, سأرقد على ظهري, سأدعك تمارس كل الطقوس التي ترغبها على جسدي, سأهبك عقلي وروحي وقلبي وفكري..
ابتسم الشيطان, دار بقرنيه, قال وعينيه تدوران في محجريهما:
- آه أيتها الفاتنة اللعوب, هذا ما كنت أصبو إليه منك, فماذا تطلبين لقاء ما تعرضين, فانك سرعان ما تخليت عن حذرك وخوفك.. ؟
أشارت إلى الشيخ بتحد, تراجع مذعورا يعبث بلحيته, وعيناه تزوغان في أرجاء المعبد, قالت:
- هذا الشيخ يجب أن يقتل, ما عاد له جدوى, قد صارت أساليبه عقيمة, لقد روى الأرض بالدماء حتى تشبعت.. يا عظيمنا هناك طرق كثيرة للدمار والهلاك, بغير أن نريق الدماء, أنت ذو بأس شديد, لكن يجب أن ترفع شعار العفو والرحمة بجوار الجبروت, حتى يعبدك الناس حبا وخوفا, عشقا ورهبة.. أقتله, أقتله يا مولاي, إذا كان لي طلب مجاب عندك فأقتله.. قد صارت دعوته بالية صدقني, أريد أن أغتسل بدمائه, فأكون خالصة لك, أقتله يا مولاي, أقتله.
وتركع تحت قدميه مبتهلة, والشيطان ينقل ناظريه بين نجلاء والشيخ الذي تقدم إليه ساجدا, وقد اعتلى وجهه الخشوع, قال متوسلا:
- سيدي أنا عبدك, أنا من حمل دعوتك منذ البدء وحتى الآن, أنا من يقتل لأجلك أي دين, وأي نبي.. أنا رمزك يا مولاي, لم أخن عهدك لحظة, ولا تكاسلت عن نصرة دعوتك برهة, أنا من يتسلل داخل النفوس لتدين بطاعتك, وتتحدث بلسانك, لقد زرعت بينهم الجهل, وروجت للأساطير حتى ما عادوا يستطيعون أن يفرقوا بينها وبين دينهم, لقد جعلتهم يعبدون الكلب والخنزير والعجل والنار والأحجار والملوك, وكل ما أردت أنت أن يعبدوا.. بوجه الورع, وباللحية النقية نشرت تعاليمك حتى دانت الأرض بطاعتك, وصرت أنت الحاكم الأوحد, والمتصرف الوحيد في حياة البشر..
أما هذه المرأة فما هي إلا داعرة, كانت عشيقة لعازف الناي صانع الدمى, وما زالت روحها تتشبع بصوت الناي ورنات الطبل, تتطلع لامتلاك النجوم والقمر, تماما مثل المرأة التي فوق الربوة.. إنها تحاول خداعك يا مولاي, تريد أن تهلكني انتقاما لعشيقها, ولأنها تعلم أني ظلك على الأرض, يا مولاي إنما جئتك بها لنلهو بتعذيبها, لتطعمها كلابك المخلصة, أو تلقيها في النار وتستمتع برائحة شواء جسدها, أحب المشهيات إليك سيدي.
الشيطان ينظر إليهما, يهز ذيله وقرنيه, صعد إلى عرشه الطاووس, جلس في مواجهتهما, أشار لهما أن يجلسا.. قال:
- يبدو أني بمواجهة من يضارعني دهاء ومكرا, وأنا الآن بحاجة إليكما معا, سأقسم الأرض بينكما, أنت أيها الشيخ ستكون ربا للشرق, ولن تعاني كثيرا, فأهل الشرق كما تعلم يسجدون سريعا لأي كائن يعتلي عرشا أو منبرا..
أما أنت أيتها الفاتنة اللعوب, فان لك من السحر والجمال ما يؤهلك لأن تكوني ربة للغرب, ترتدين الثوب الأبيض, وتحملين المشعل بيد, وبيدك الأخرى دستورا للحكم, سيعبدك كل أهل الأرض ظنا أنك تنيرين الطرق بمشعلك, والحقيقة أنك تحرقين به من يحاول الاقتراب بسوء من دعوتي..
الشيخ ونجلاء ينظر كل منهما إلى الآخر بتحد, تقدمت نجلاء من العرش, سألها الشيطان:
- أتحبين أن تقدمي شيئا بين يدي ؟
انطلقت نظراتها إلى أبعد مدى, ركعت على ركبتيها, تكلمت وكأنها تحلم:
- كان حلمي أن أرتدي فستانا من أشعة الشمس, أبيضا كالندى, مزينا بورود الحب, أجرجر ذيله على أرض الخيال, وبجواري حبيبا صورته تملأ كياني, نبحر في دروب الهوى, يلفنا الليل بسره الهادئ, نرشف كؤوس الهوى حتى نرتوي, وأنامله تقبل الطبلة بوله فينتشي الكون, تكاتها قبلة عاشق, ضماتها دفء حضن الحب, ليته معنا الآن يسمعك ألحانه, أو يلقيها تحت قدميك قربانا.
تقدم الشيخ بخطى سريعة, أشار إلى نجلاء وهو يقول:
- أرأيت يا مولاي, هذه الملعونة تريد أن تخدعك لتعيد إليها عشيقها الملعون.
ضحك الشيطان كثيرا, ثم قال للشيخ:
- أيها المعتوه, لم أكن أعلم أنك بهذه السذاجة, إن ما تفعله هذه اللعوب يريني قدرتها الفائقة على الخداع, فحاذر منها, قد تخدعك يوما, وتطيح بمملكتك, وقد يتبعها كل مريديك, وحينئذ سأستمتع برائحة جسدك وهي تحرقه قربانا لي..
***




أفتح عيني بوهن, الزهور تحيط بي من كل جانب, العطور تملأ المكان, النجوم تزين السماء والقمر يبتسم, النسيم يداعب خصلات شعر سيدة الضياء..
إرتجافة عشق احتوت جسدي حين أحسست بيدها تمسك كفي, مالت على جبيني تقبله, تشبثت بها, ضممتها, لعقت شفتي, جلست تبحر في عيني, سألتها عما حدث, قالت:
- كنت أرقبك وأنت تفر من الشيخ والشيطان وأتباعهما, بيدك الناي والطبلة, وحين صنعوا من الناي سهما ورشقوه في قلبك, هبطت إليك وانتشلتك من مياه النهر, أحضرتك إلى هنا, على ربوتك, داويتك ببلسم من معصور العشق والحب مخلوطا بماء الورد وضياء القمر وصوت الناي ونسيم الربيع, وضعت هذا الخليط بين شفتي, ثم... ثم... ثم قبلتك بشوق جارف, بكل الحب الذي كنت أختزنه لك منذ البدء, برء الجرح, زال الألم, وها أنت تضئ سكنك وربوتك.
ضممتها بشوق من يتشبث بالحياة.. ثم سألتها عن نجلاء, قالت:
- بعد أن دمر الشيخ وأتباعه البلدة وديارها, فر من وجههم من استطاع, ومن لم يستطع قتلوه, أو أطلق لحيته وصار من أتباعهم.. لم يبق غير نجلاء, كلما فرت من البلدة عاودت الرجوع مرة أخرى..
- وأين هي الآن ؟
- في معبد الشيطان, تتدارس مع الملاعين هذا السحر الأسود, يريدون أن يحكموا العالم بظلامهم..
- يجب أن أذهب إليهم, نجلاء لا تستطيع فعل ما يريدون..
- وماذا ستفعل معهم وأنت لا تتقن القتال.. واني أشعر بهم سيصعدون إلينا قريبا..
- لابد وأن أحاول إنقاذها بغض النظر عن حجم استطاعتي..
- نجلاء لا أدري هل صارت بالفعل شيطانية المذهب مثلهم ؟ هل استطاعوا أن ينتزعوا كل الجمال والضياء من روحها ؟ إن حدث هذا بالفعل, فلا جدوى.. سيتبدل حلمها, ولن تحلم بغير الدمار والهلاك وستكون أنت أول قتلاها, خذ الحذر, اسمعها صوت الناي, لعله ينبت داخلها الحب الذي يحاولون قتله, فان كان الضياء ما زال يسكنها سترتمي بين ذراعيك باكية, وستشعر أنت باستجابتها لندائك.. والآن سأخرج أنا لأتفقد نجومي, وأعزف موسيقى الحلم الجديد.
انطلقت, توارت داخل غيمتها البيضاء, خرجت أنظر إلى البحيرة المقدسة, وموقد النار المشتعلة دوما..
الكهان يصطفون بأرديتهم الحمراء, والنساء العازفات في سكونهن, ومعازفهن مطروحات بجوارهن في انتظار أن يخرج إليهن الشيطان, ليبدأن مراسمهن الطقوسية, وتقديم القرابين الشيطانية..
ترى أين أنت الآن يا نجلاء ؟ ماذا يفعلون بك ؟ وماذا تفعلين بنفسك ؟ آه يا نجلاء قد كنت دائما ثائرة المشاعر, تتشكلين تارة حلما, وتارة لغزا يعلق بنفس ممزقة فيزيد من آلام غربتها..
آه يا نجلاء, لقد كان إنباتنا في تربة الحياة من ساق واحدة, كنت أنت الزهرة, وأنا أوراقها, ارتوينا بماء الغضب, هزتنا رياح السخط, ثم قطفتنا اليد الغاشمة, فألقت بي تحت الأقدام, وجف أريجك, وجرفتنا الرياح, فتهنا في طريق موحش وهناك افترقنا..
واسترجع الزمن البعيد, وقت لم يكن على الأرض بشرا ولا حيوانا, وكان اللون الأبيض ملكا متوجا على كل الألوان, حتى جاءت من ترفع اللون الأسود شعارا لحياة, وتفرض سطوته على كل جمال, لتصير إيزيس أخرى, إيزيس غجرية, تبحث عن كيفية قتل الخير قربانا لرب الظلام..
والآن النهاية تفرض سطوتها على كل خير, فلا يبقى غير خيال مريض وظيفته إحياء ليالي السمر بمزيج من الكلمات التي تلقى جزافا على أسماع لا تعي ولا تسمع, لتتقيح ثقوب الروح, ويتناثر الشوق تحت أقدام الظلام الجاثم على ترهلات العمر, ويتواصل سقوطنا في بحار الهوى القانط من قلوبهم, فلا نشم سوى أريج الزهور التي تتميز بالعطر النتن, كالقلب المنزوع من الروح المظلمة
تناولت الناي, حاولت أن أعزف عليه ألحاني, خرجت الأنغام نشازا, متنافرة, متفرقة, إبتلعها الظلام..

***






جلس الشيطان على عرشه يروي قصته لنجلاء والشيخ اللذين جلسا تحت العرش:
- حملتني أمي لعنة من أبيها, ووضعتني لعنة في بئر بلا مياه تحرسه امرأة عجوز تساقط جلد وجهها من كثرة لعنات الدهر التي أصابتها..
بجوار البئر كان يوجد عملاقين مصلوبين, كانا قد هبطا من السماء, وقد حلت عليهما اللعنة الكبرى فباتا مصلوبين أبد الدهر, يستنزلان اللعنة على تلك اللحظة التي هبطا فيها إلى الأرض..
أخذتني المرأة العجوز من البئر, صدرها ممتلئ بالأشواك, لم أعرف الدفء الذي تتغنون به, ولم أرضع من ثدييها سوى النار, وضعتني تحت أقدام العملاقين, حين رأوني شملهما الرعب من كم اللعنة التي تكسوني, حبوت تحت أقدامهما, صاحا خوفا وهلعا, وألقيا في جوفي بكل أسرارهما, حتى صرت أبذر الحبوب على الأرض وآمرها أن تنبت فتنبت, أطير في الهواء فتخضع لي الطيور بأشكالها, أغوص تحت البحار فتدين لي وحوش البحر بالطاعة العمياء, ألهو مع الثعابين والأفاعي كما أشاء, حتى أحببت أفعى رقطاء, كنت ألعق من فيها أجمل سما تذوقته, أدخل بين أنيابها وأتنعم بملمس جلدها الحريري, أحس العملاقان بحبي للأفعى, قالا لي أنه لن تكتمل قوتي إلا بذبح تلك الأفعى, ذبحتها ولم أبال بتوسلاتها, ثم جاءت المرأة العجوز وشقت صدري, أخرجت قلبي, إجتزت منه جزءا صغيرا جدا, حين سألتها عنه قالت: إنه الحب وهو ليس لك انه للضعفاء والواهمين, وبخروج هذا الشئ من جسدك فلن يقهرك شيئا, وسيسجد من خشيتك كل من يحب الحياة..
توقف نمو جسدي عند مرحلة السنة الأولى من مولدي, لكني تعلمت أسرار الكون من المرأة العجوز, وطرق إستبصار الغيب والسحر بأنواعه من العملاقين, وخرجت إلى البشر بجسد طفل وعلم كل شئ عن أي شئ, فملكت الثروة والقوة بدهائي وعلمي الغير محدود, وظللت أنزل لعناتي على من أشاء وقت ما أشاء حتى دان بعبادتي أكثر أهل الأرض, خوفا من بطشي, وطمعا في الاقتراب مني..
انتهى الشيطان من اجترار ذكرياته, ابتسم الشيخ, وركع على الأرض يسبح بحمد مولاه, بينما نجلاء شاردة, تنصت إلى نغمات الناي الخافتة, تلك النغمات التي تعرفها جيدا, نعم.. إنه لحن الحبيب حين كان يود أن يناديها, فتهرع إليه, تعرف أنه كان ينتظرها هناك تحت جزع الشجرة, يستقبلها بشوقه الجارف فاتحا ذراعيه, يغمرها بقبلاته, يسمعها أنغام الغرام, يرتقي بها فوق عالم من النشوة الحالمة..
- نعم إنه الحبيب, لست واهمة.. إنه يناديني, ينتظرني في المكان الذي شهد قصة غرامنا, كنت أعلم انه لا يستطيع أن يموت ويتركني وحدي وسط هذه الحياة..
نهضت, سارت نحو باب المعبد, صرخ الشيطان:
- أين أنت ذاهبة ؟
- زوجي يناديني, هل تسمع صوت الناي, هذا اللحن كان يسميه حبيبي { لقاء } اشتقت إليه وإلى أنغامه..
- من يدخل هنا لا يستطيع الخروج إلا بعد أن يدين بعبادتي, وأنا لم أمارس طقوسي معك حتى الآن..
- لكني لا أستطيع أن أشارك مع قوم يقتلون, ويصنعون من الكلاب آلهة, لقد جبت الأرض أنشد ابتسامة وسط هذا الركام الأسود, شئ يستحق أن أحيا من أجله.. لكن يبدو أن ظهر الأيام أحدب, فكلما حملت هما إنزلق على رؤوسنا, فتحبس أحلامنا في الصدور طوال الحياة, لا.. لن أشارك أبدا في العبث بأماني الناس وأحلامهم وعقائدهم.. سأذهب إلى زوجي, سنسبح سويا على أنغام الناي..
- يبدو أنك واهمة, كما أن بداخلك شيئا يجب إنتزاعه..
أشار بيده, هرول نحوها الكهان, وضعوها على صليب خشبي, ثبتوا أطرافها بالمسامير, أطلقوا عليها أفعى طائرة تلهو بجسدها كما تشاء, والشيطان يهز ذيله منتشيا بصراخها المتوالي, والشيخ يحادثه بدهاء:
- سيدي, والمرأة التي فوق الربوة ؟
- سيكون لي معها شأنا.. هو الخاتمة لكل شئ..
***



سيدة الضياء تجلس جواري واجمة, أعبث في شعيراتها بأناملي, تتوسد صدري, أشعر بسخونة دمعها, أقبل جبينها, أسألها:
- ما بالك حبيبتي ؟
أشارت إلى الإنشطار العظيم للقمر, واختفاء النجوم, والظلام الذي أحاط بكل الكون, كأنها بداية النهاية أو نهاية البداية, حاولنا الهرب إلى أي اتجاه, وجدنا الشيطان والشيخ وأصحاب اللحى والكهان يسدون علينا كل المنافذ والسبل, أطبقوا علينا من كل جانب, قيدونا, جرجرونا إلى معبدهم, وأصوات الضحكات تنبعث من الشيطان والشيخ تملأ الأفق بالصدى البغيض..
عند الغار الذي يتوسط الجبل ظهر { القارئ } مازال يبتسم واضعا نظارته على عينيه, مشيرا بأوراق كثيرة تملأ كفيه, رآه الشيخ سدد إليه سهما أرداه قتيلا, فتناثرت أوراقه, حملتها الرياح إلى النسيان..
عند البحيرة المقدسة, نهضت النساء العازفات, خرجت موسيقاهن جنائزية..
داخل المعبد, رأيت نجلاء مصلوبة, مبقورة البطن تتدلى أمعاؤها على الأرض, ووجهها يشع ضياء..
علقوني على صليب بجوار نجلاء, وسيدة الضياء تتلفت حولها كأنها تستغيث, ابتسمت لها حين رأيت الشيطان يشير إلى الأفعى ذات الأجنحة, شقت بطني, التهمت أجزاء جسدي, ولم أنسى أن أودع سيدة الضياء بقبلة كانت تشتاق إلى شفتيها, حتى اغتالتني غيبوبة الموت..


***






اقترب الكهان من سيدة الضياء, نظرت نحوي متوسلة, أدركت مدى ضعفي حين أحسست بدموعي تنزلق دون أن أستطيع فعل أي شئ..
علقوها على صليب بجوار نجلاء وصانع الدمى, شحذوا خناجرهم, إرتفع صوتها يخاطبني:
- أنت أيها الكاتب النذل, مالك تجلس هكذا ساكنا, بينما هم يذبحوننا بدون مبرر, أين صفات الإنسانية التي تتشدق بها في المنتديات, أين حب الجمال الذي تتحدث عنه, ماذا فعلت في قلبك الموسيقى التي تدعي أنك تعشقها, هل أصبحت شيطاني المذهب مثلهم, هل ألغوا من تاريخك الضياء والجمال ؟ ألا تستطيع أن تكتبنا عبيرا يفوح من زهرة, موسيقى تملأ الحياة بأغنية عشق ؟ ألا تستطيع أن تكتبنا حتى بالزور والبهتان الذي كتبوا به تاريخك؟ توقف بقلمك أيها الكاتب, كف لعناتك عنا, تقدم لإنقاذنا, افعل شيئا في حياتك لا تخجل من ذكره, أنصر الحق ليكون لك مفخرة تعيش بها.. و...... و......
ذبحوها, غطت دماءها أرض المعبد, غمس الشيخ يده في الدم, خضب به لحيته, وفوق عرش الطاووس جلس الشيطان يهز ذيله ويقهقه من ضعفي..
آآآه يا زمن الخوف, قربانا قدموهم لإله الظلام..
سأقتلهم.. تقدمت بخطى مضطربة, الأفعى ذات الأجنحة تدور في فضاء المعبد, تبحث عن فريسة جديدة, حين نظرت في عيني, تهالكت رعبا, لم أجد مفرا من أن أغوص داخل نفسي المعتمة.



الســـيد حـنـفي

الســويـس





التعديل الأخير تم بواسطة جرح الذات ; 28-12-10 الساعة 02:03 AM
السيد حنفي غير متواجد حالياً  
قديم 01-12-09, 10:50 PM   #2

السيد حنفي

? العضوٌ??? » 72242
?  التسِجيلٌ » Jan 2009
? مشَارَ?اتْي » 3
?  نُقآطِيْ » السيد حنفي is on a distinguished road
افتراضي

اييييييييه يا أهل المنتدى الكرام
ما من أحد بيقرأ هنا روايات
كيف والمنتدى خاص بالروايات
ورواده من عشاق الروايات
نظرة لله يا عشاق الكلمات


السيد حنفي غير متواجد حالياً  
قديم 06-05-11, 09:25 PM   #3

taman

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية taman

? العضوٌ??? » 62057
?  التسِجيلٌ » Nov 2008
? مشَارَ?اتْي » 6,430
?  نُقآطِيْ » taman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اسلوبك رائع فى الكتابة ...لكن القسم مختص بالمنقول
سأنقلة الى قصص من وحى الاعضاء واتمنى ان يجد التشجيع الذى يستحقة
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .


taman غير متواجد حالياً  
التوقيع











موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:29 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.