قبل أن نبدأ في الإبحار في الفصل 17 لابد من أن أقف وأثني على جلد Sandybell 2012 التي تحملت مني ما لم يتحمله حجر .. وأنا أعلم أنها تضغط على نفسها وتتحمل نكدي لكي تدقق ليّ.. أقدر هذا الشيء وأطلب عفوكِ لأنني دبستكِ بهذه المهمة الملغمة .. وكذلكِ لأشكركِ على كل اقتراح وكل تنبيه .. وعلى كلمتكِ الخفيفة اللطيفة (حبت ) فهي تعمل السحر بي وترسم أوسع ابتسامة في قلبي قبل شفاهي .. فلكِ خالص الشكر والتقدير * يا جنيتي الحارسة * ^_*


والشكر موصول للجندي الخفي (bessaum) التي دوما ما تزودني بزاد الحماسة .. وتقدم لي اقتراحات قيمة .. وتناقشني لتنير بصري إلى نقاط أنا غفلت عنها ..فشكرا من بؤرة قلبي لكِ ^_*



والآن مع لحظة الانطلاق .. فهيا ..







(( الفصل السابع عشر ))






لكم أريد وبشدة أن أجلد نفسي بالكرباج كالدواب وأنا أتلمسه بتلك الطريقة التي جعلت معدتي تتقلب وكأنها في غسالة .. لكن الدور الموكل إليّ يجبرني على الدوس على شعوري المُشعل لغثياني والذي جعلني أطلب من هدى بأن تُخلي الجو لنا؛ أنا وناحري .. حتى أدسّ في رأسه المزيد من سموم التفرقة .. وأشعّ في ناظره كالماسة الصافية السّاعية لمساعدته ...
توقفت عن لمساتي الجريئة ... وعن طبع قبلاتي المثيرة .. وأرسلت له رسالة إغراء قرأها في عينيّ الباسمتين وأنا أكلّمه بصوت مغناج :
"انسى الأمر يا أمين .. فلقد طردتَ ذلك الخائن وانتهى الأمر... فأهدأ وارتخي بين يديّ"
أرخى رأسه إلى الخلف ليتناثر شعره الفوضوي دون هداية وكأن ريحا هوجاء مرت به ..وهو يقول بضعف الجبابرة :
" صحيح أنني طردت ذلك اللعين لكن ما يؤرقني أنه أنكر فعله .. ومن ثم من يضمن لي أنه لن ينشر الفيديو انتقاما مني "
أمسكت رأسه .. وجعلته يواجهني .. ونفخت ابتسامة على شفتيّ تدّعيان الشوقَ لرحيق شفتيه السّام ..مهدهدة له بكلامي الخاوي من أي حقيقة:
" لا تقلق من هذه الناحية فسعد جبان .. يعلم بأنك لن تتركه وشأنه إذا فعلها ونشر الشريط .. فاهدأ أمين .. ودعنا نعيش اللحظة "
حدج بي بريبة أربكتني ليقول بصوت ذا ذبذبات متشككة:
" بيسو لِمَ أنت ِ مهتمّة بي هكذا على غير عادتكِ ؟"
ازدردت ريقي والجزع يعربد بداخلي ..وأنا أحاول صفّ الكلمات على بساط لساني المرتعش خوفا:
" لأنني .. لأنني تعلمت الدرس ... طوال الأيام الماضية حين امتثلت لأوامرك لم تقصر بي ..لقد توصلت إلى قناعة مفادها أن تمردي لن يوصلني إلا إلى الجحيم ..جحيم أنا بغنًى عنه "
ليأخذ الصمت زمام الأمور ونظراته المسلّطة عليّ تشعرني بأنني مجرم تحت مجهر التحقيق ..
لأجرب عليه سلاح أنوثتي الذي علّمني إياه طوال السنوات السوداء التي زج فيها نفسه عنوةً في درب حياتي ...
وبالفعل نجح السحر على الساحر .. ورضخ لتعويذة إغوائي .. لكني لم أسعد بل زاد ميزان كرهي لذاتي كيسا آخر من اشمئزاز النفس ..
بعد أن غطّ الأسد في سباته .. سترت نفسي بجلباب النوم الحريري.. ومن ثم هرعت إلى الحمام مخبئي الذي التجئ إليه كلما ضاقت عليّ الدنيا بما رحبت ..فأغلق ورائي الباب ببطء حتى لا يستيقظ فأُحرم من لحظة انتقامي من نفسي ... ومن ثم أستند على الباب فأنزلق رويدا إلى الحضيض ..فأغرس أنيابي في ذراعي المكتسية بجلدها لا غير .. لأمتص كما مصاص الدماء دمائها الفاسدة .. لعل روحي تستكين .. فتوقف شن هجومها اللاذع على حالها ... والعين تسكب الدمع مدرارا ...
دقائق عشتها وكأنّي في الجحيم .. فهذه المرة هو لم يهاجمني كوحش مفترس .. بل أنا سلمت نفسي قربانا له بكل طواعية .. شعرت حينها و كأني أنْسَلِقُ على مقلاة شبت النار الحامية أسفلها ..
محاولتي قضم لحمي لم تفِبالغرض هذه المرة ... فأنا أريد أن أخرج الحمم المستعرة في صدري وأصبّها في أذن أحدهم ... ليقفز إلى ذهني اسم عاطف مُنجدي ... فأقف صالبةً طولي المترنّح .. وعلى رؤوس أصابعي اقتربت إلى حيث يقبع هاتفي النقال وهو الطاولة المسترخية بهدوء بجوار سريري الحاوي لجسد السبع .. سحبته بهدوء حابسةً النّفس .. فأعود بنفس الطريقة إلى حيث ملاذي ... فأقفل الباب من ورائي .. وأنسج بأصابعي الراجفة رقمه على الشاشة .. فيبدأ سلسلة رنينه التي على وقعِهنّ زاد رتم نبض قلبي علواً .. وما أن رنّ الرّنة الرابعة حتى جاءني صوته المتلهف:
" وأخيرا اتصلتِ .. يا الله كنت انتظر اتصالكِ بفارغ الصبر ..طمئنيني ما الذي حصل ؟"
لم يجبه إلا شهقة خذلتني فانزلقت من بين شفتيّ بدون أذن مني ..
ليصرخ بي والخوف يتوّج نفسه ملكاً على طبقة صوته:
" بيسو ما الذي جرى؟ لِمَ البكاء ؟!"
كان لا بد من أن أطلق كل ما في جعبتي بدون رادع.. فما عاد بدني يقوى على حبسها أكثر وراء أسواره الصدئة...
لأفرغ آهاتي في مسمعه والدمع ينزلق بكل خفة من مقلتي المجمرتين:
" لقد اضطررت لإعطائه جسدي .. جسدي بطواعية .. بطواعية "
ليقصّ جملتي نشيجي المتعالي..وأنا أمسك بحافة المغسلة طالبة منها أن تسندني من ذل السقوط في الهاوية ..
ليتلقفني صوته الهامس قبل الوقوع في بئر الأحزان:
" بيسو أتجيدين الغناء كأمي ؟"
نبست والتعجب يلعب بوتر صوتي:
" ماذا ؟!! أغني !!"
ليجيب بروح مرحة :
" نعم تغني ... فحسب علمي كل أمٍّ تمتلك موهبة الغناء .. تعلمين؛ حتى تهدهد أطفالها لكي يناموا .. ألم تكوني تغني لصغيريكِ ؟"
استنشقت نشيجي .. وأنا أرد عليه وومضة بهية طلة من صندوق الماضي تتراقص أمام ناظري الغاص بالدمع.. فتجعل الابتسامة تحتضن شفتي ّ:
" بلى .. خاصة وائل كان يرفض النوم إذا لم أغنِ له "
تسللت ضحكته كما النسمة الرشيقة عبر الأثير لتداعب طبلتيّ أذنيّ.. ليتبعها بصوت يتصنع فيه حماس الطفولة:
" إذا اعتبريني وائل وغنّي لي.. فأنا لم أذق النوم منذ ساعات وعلي أن أعود إلى المشفى بعد ثلاث ساعات .. لهذا غني لي لعل النوم يحن عليّ فيزورني "
تنامت هكتارات بسمتي على أرض شفتيّ .. وأنا أسايره في لعبته العارفة غايته منها ...
مسحت عبراتي برؤوس أصابعي وأنا أشق طريقي إلى الحوض.. فأمدد عليه جسدي المثخن بجراح الكراهية .. وأطلق العنان لصوتي ليعزف على أوتار الغناء ...لأنسلخ من بؤرة الحدث الخانق لروحي لدقائق سرقتها من خزانة الزمن البخيل ...
كيف قادتني قدميّ إلى عقر دار من خذلتها وأسقيتها من نفس الزمهرير الذي ذقته قبلها ...لا فكرة لدي ..لكن الذي كنت على يقين راسخ منه ... بأنني يجب أن أضع النقاط على الحروف .. فهذا أقل شيء يجب أن أعمله لها بعد أن طعنتها بسكين سامة اسمها الخيانة ...
أدخلتني الخادمة ذات الابتسامة الحانية والمقدرة عمرها في أواخر العشرينات إلى غرفة من سلبتها زوجها ليضج عقلي بصراخ قلبي المذعور .. فأبتلع ريقي الجاف قبل أن تحين لحظة اللقاء الأسطورية ... شادّةً قبضتيّ على حقيبة يدي التي لا يتجاوز حجمها كفي ..
يا ربااااااااااااااااااااااا ه .. لقد صُعقت بما كانت تخبئه لي تلك الغرفة .. حورية .. نعم حورية أول كلمة خطرت ببالي حين وقع بصري على تلك المرأة المستلقية على الفراش وبطنها البارز يتدثر بدفء الغطاء الحريري نبيذي اللون ..
لهول ما رأيت تخشبت على عتبة الباب ..وسؤال يجلجل في قوقعة عقلي الغارق في خمر الذهول:
(( كيف يترك هذا الحسن الخلاب ويذهب للذميمات أمثالي؟!!.. يا الله ))
لم أتمكن حتى من الرمش وأنا أمشط بديع خلقه بمقلتيّ ..
شعر غجري مجنون .. يسترخي على أكتافها بانسيابية لا يشوبه تجعد .. يحاول تقليد قرصي المَهَا بلونهما الليلي الصافي ..والأهداب الطوال تطوقهما كسلسال ...وأنف يتعالى بارتفاع رزين ليعتلي في نهايته عرش مدبب .. يحرسه من الأسفل حبتي الرمان .. السابحتين في بحيرة من اللبن بيضاوية الشكل ..
لم أذق طعم الأكسجين من لحظة وطأت قدميّ عتبة بابها ..
وكنت مستعدة لتمتع بصري بآية حسنها لآخر عمري .. لولا أنها سحبتني من سحرها الرباني بتساؤلها :
" عذرا .. قالت لي الخادمة بأنكِ صديقة لي .. لكن أنا لا أذكر بأنني رأيتكِ قبلا في حياتي "
صوتها .. صوتها كما صوت العندليب .. لقد شوهه الهاتف حين حادثتني ... سبحان الله ..
ليعود ذلك السؤال العقيم يدور في سجنه الذي لا مفر له منه:
((كيف يترك هذا الحسن الخلاب ويذهب للذميمات أمثالي؟!!.. يا الله ))
تطلب مني وقتا حتى أنتشل نفسي من دوامة الصدمة.. لأجيبها بصوت ذي طبقة غريبة لم أعهدها تخرج من جوفي قبلا:
" بالفعل أنتِ لم تريني قبلا .. لكن .. لكن "
لتموت الكلمات على لساني .. وأنا أدري أنني سوف أفتح عليها المواجع بكشف هويتي الحقيقة .. لكن عزمي على إكمال ما بدأته هو من دفعني للمضي قدما في حديثي بدون أن يردعني رادع.. فقلت بعد أن دججت رئتي بوقود الهواء:
" لكن سمعتي صوتي .. أنا .. أنا "
كان وخز العبرات المطالبة بالإعلان عن نفسها في ساحة عينيّ مؤلما ...لكن برغم ذلك وقفت لها بالمرصاد وأنا أكمل جملتي المبتورة :
" أنا من يزورها زوجكِ بدون علمكِ "
اختارت كلماتي بعناية رغبةً مني أن أخفف عليها وقع الصدمة ...
لكن محاولتي الفاشلة لم تجدِ نفعا ..
فقد اتسعت عيناها.. واصطبغت وجنتاها بلون الدم ..وبالمثل أنفها الذي تجعّدت قمته .. ومن قبله جبينها الفسيح اللاصق به بضع خصلات عابثة ..
لتضيق بعد برهة تلك العيون .. وتقدح شررا وقد أحتد صوتها الشجي ليصبح نشازً تحت جبروت الغضب:
" كيف تجروئين وتأتين إلى بيتي ؟"
رفعت يديّ أطبطب على غضبها كأنه جرو كشر عن أنيابه .. قائلة والتوتر يفتك بنبرات صوتي المتذبذبة الخطا:
" اهدئي.. لا داعي للغضب ... أنا فقط جئت لكي أطلب منكِ أن تسامحيني .. برغم معرفتي بأنني لا أستحقها ... وكذلك لأقول لكِ شيئا مهما.. لو كان أحداً قاله لي حين طلقني زوجي وانتزع مني أطفال.. لكنت ربما في حال غير هذه الحال المزرية "
لمحت بعض اللين في تقاسيم وجهها مما شجعني لأسترسل بالحديث آملة أن يضرب وترا حساسا في داخلها:
" هو لا يستحقكِ .. هو الخاسر الأكبر .. لأنه فرّط بدرّة نفيسة الكل يلهث للحصول عليها "
لأقوس شفتي بابتسامة .. قائلة:
" هذا كل ما لدي .. واعذريني على زيارتي بدون أذن مسبق "
لأوليها ظهري .. وقد انساب دمعي المنتفض من عينيّ... ضامّةً حقيبة يدي إلى صدري المضطرب الأنفاس ...حاثةً الخطا بكعبي الرشيق إلى طريق الرحيل ..
ليقيد ساقيّ المتعريتين صوتها الفائض حنقا:
" ما هذه الترهات التي قلتها لي ؟"
لأستدير إلى حيث تجلس متوجة على عرشها المتمثل في هيئة سرير الذي هجره ملكه ..فألوم نفسي وأنا أرى عينيها تتشوهان بالعبرات .. ووجهها يتغضن بسكرات البكاء..
لتنغص بحة البكاء نبرة صوتي وأنا أجيبها :
" إنها الحقيقة التي تستحقين أن تسمعيها .. ففؤاد أحمق .. كنت أعلم هذا منذ عرفته ... لكن الآن وحين رأيتُكِ.. تأكدت من ذلك .. كيف يترك ملكة جمال مثلكِ .. ويذهب لبشعة مثلي.. ليس من الخارج فقط .. بل من الداخل كذلك ؟!! "
انسحب خلسة الصوت .. وحل محله حديث العيون .. الصدومة ببعضها البعض ... لفترة لم أعرها بالا .. لتنطق أخيرا بعد أن هربت بعينيها الضائقتين.. بطريقة تدل على أن بركانا تفجر من وراء ضلوعها :
" كيف تعرفتِ عليه ؟"
استغربت سؤالها الذي لم يكن بالحسبان .. لكني سايرتها فأجبتها وإحساس بالإلفة يتسلل إلى قلبي .. ربما لأنني شعرت بأنها هي الأخرى نسخة طبق الأصل مني:
" كعادة كل من يدفع لكي يشتري امرأة .. لكن هو كان مختلفا .. أو ظننته مختلفا عن البقية يومها ..حيث أنه قضى ساعتين كاملتين يفجر غضبه العارم بوجهي ... والذي كان سببه أباه ... يبدو أنه تشاجر معه ذلك اليوم .. وأراد أحدا كي يمتص غضبه .. وكنت أنا في وجه المدفع .. أخذ يسبه ويشتمه ويقول بأنه مسح شخصيته .. وبأنه يعامله كطفل صغير .. ولا يعير كلامه بالا .. ودوما يفرض أوامره عليه وهو عليه السمع والطاعة ... أحسست حينها بأنه مظلوم .. مثلي .. لهذا تبلورت في عقلي فكرة .. أنه سوف يكون طوق النجاة لي .. أنه سوف يعينني على إيجاد أبنائي اللَذين حرمني رضوان منهما .. لهذا ماطلته ..وما جعلته يلمسني..وجعلت جسدي هي الورقة التي ألعب بها معه .."
لتردعني صرختها الذبيحة عن إكمال سرد قصة تعرّفي على فؤاد :
" هذا يكفــــــــــــــــــــــ ـــي"
لأنتبه لوجهها المتفشي به الوجع الذي أدخل وتدا حادا من اللوم في قلبي .. فأفطن إلى جرمي الذي لا يغتفر .. فكيف أغوص في حديثي إلى تفاصيل مقززة كهذه ... تفاصيل هي بغنى عنها ...
لأنكّس رأسي هامسةً باعتذاري:
" أنا آسفة .. لم أقصد أن أؤذيكِ "
التقطتُ نشيجها المقطّع لنياط أقسى القلوب .. يتبعه قولها المثقل بالعبرات:
" لم يحبني يوما .. ولن يحبني مهما فعلت .. فأنا ابنة عدوه اللدود ..الذي يلومه على موت والديه..وعلى فشله بالدراسة وعلى وزنه .. وعلى إرغامه على الزواج من ابنته التي لا يحبها ...والتي عملت المستحيل لكي يحبها .. حتى أنني صمت على كلامه الجارح لي ... وتغاضيت عن معاملته الجافة لي .. حتى أنني حاولت أن أحمل لعل وعسى يفكر بي .. أو حتى يعتبرني زوجة حتى.. أنا مستغنية عن أمنية أن أحتل جزء من قلبه .. لكن .. لكن .. كل ما أريده منه هو أن يحس بأنه شخص مرتبط .. ولست ابنة عدوه على حد قوله .. لسنوات حاولت وحاولت وحاولت لكن الله لم يكتب لي النجاح .. وأخيرا حملت ... لكن لم يتغير .. كما هو ... يتجاهلني .. بالكاد أراه ... وبالكاد حتى اسمع صوته ...حتى خبر أن ابنه مهدد بأن يموت في أي لحظة وهو لازال في أحشائي لم يهز شعرة برأسه ... طالبني الأطباء بالراحة التامة وأن ألتزم السرير معظم الوقت .. وألا أجهد نفسي ..وكيف لا أجهد نفسي ؟؟!! هذا مستحيل .. مستحيل .. وأنا ليل نهار أفكر بفؤاد .. أين هو .. هل أكل .. هل نام .. هل هو بخير ...هل هو ؟!!"
توقفها عن الكلام جعلني أرفع رأسي لأجد سهام عينيها تستهدف مقلتيّ.. لتصوم أجفاني عن الرمش .. وهي تعود تكشف أسرارها أمام غريمتها:
" هل هو يخونني مع امرأة غيري ؟ لقد وقعت بالخطأ الذي وقع فيه والدي .. كان يظن بزواجه مني سوف يعقل.. وأنا كذلك ظننت بأن حملي سيغيّر فيه شيئا.. وها هي النتيجة الفشل الذريع "
لترسم ابتسامة جريحة على شفتيها المرتعشتين والمهددتين بزوبعة عاتية من النحيب ..
قدمي لم تقوَ على حملي أمام كمّ الحزن الضارب عليّ بكل شراسة منها ...
((في هذه الدنيا أناس غيري يتعذبون.. أنا لست الوحيدة من تتعذب من جبروتها!!!))
صوت دوى كالمدفع في خلدي ...
وصورتها تشوشت على قرصي عينيّ الغاصين ببركتين من الملح اللاهب المسموم ..
تفكيري شُل تماما بعدها ..
فما كان مني إلا الجمود .. الذي فسرَتْه كما يبدو أنه إشارة مني أن تخرج ما تبقى من مكنون قلبها المتلوي على أشواك الأسى .. لهذا قالت بعد أن أفلتت تنهيدة قلة الحيلة.. لتتبعها دموعها المتسابقة على زيارة وجنتيها المفسد لعذوبتهما خدوش الألم :
" لا فائدة .. لا فائدة .. لقد استسلمت .. فؤاد لن يتغير ... سوف يستمر في كرهي ما دمت أحمل اسم مجدي .."
وهي تطمس وجهها بيديها الراجفتين هازةً رأسها بهستيرية المظلوم .. مظلوم أنفجر قلبه كمدا وحسرة ...حسرة على الماء الذي أنساب من بين يديها كما حالي أنا ..
ما وجدت نفسي إلا وأنا أجلس بجنبها وأضمها بقوة مادّةً لها يد العون الغائبة عن حياتي .. يدُ كُنت أنتظرها بفارغ الصبر طوال السنوات الخمس الذاهبة بلا راجعة من عمري ...وحين مُدت إليّ.. اشتعلت أنوار الأفراح في نفسي وكأن عرسا سوف يحيا فيها ..
لتستسلم هي لنداء حضني ..فتتقوس به وكأنها جنين في رحم أمه .. في تلك اللحظة التي غفل فيها الزمن عنا.. تجردنا من أدوارنا على مسرحه .. فتخلصت من دور الجلادة المقطع لأحشائي بسكين اللوم.. وهي تركت دور الضحية الثائرة على من ألحق بها الضرر ..
درجة بكائها بدأت تتدنى .. حتى مسحت جزئيا ...مما أنزل السكينة إلى قلبي .. ففكرت بأن أغير مجرى الأحداث بعرض موضوع جديد على الساحة الملغمة بما يوجع القلب من شوك ...
لهذا قلت وطيف ابتسامة مسلوبة الروح تطوف على شفاهي:
" كم يبلغ عمر حملكِ ؟"
سحبت نفسا مخنوقا بدخان العبرات وهي ترد عليّ:
" البارحة دخلت شهري الثامن "
لأصيح والحماسة تجرفني:
" إذا قريبا سوف يصير وليدكِ بين يديكِ "
أحسست برأسها النائم على صدري يهتز ناسجا الإيجاب ..
لأسبح بنظري إلى مكان يتجاوز الجدران الأربع لغرفتها .. فأهمس بصوت مبحوح والابتسامة الحالمة تتملكني:
" إنها المرحلة الأروع حين يخرج الطفل من أحشائكِ بعد معاناة مع انقباضات في الرحم وأسفل الظهر وألم بكامل الجسد والطلقات المتتالية تكونمؤلمة جدا جدا في الظهر.. ليهز هو الدنيا ببكاء الحياة المتسللة إلى جسده الغض ومعه أنتِ تشهقين شهقةالحياة.. تحسين النفس وقد نفذ من مخزون رئتيكِ.. وتذوقِين طعم الراحة بعد أن تسحبه الطبيبة منكِ ليكون همّكِ الأوحد أن تضمّيه إلى صدركِ .. لتنسي الألم المبرح الذي سببه لكِ والتعب الذي لازال يسكن بدنكِ.. وحين تناولكِ الطبيبة إياه .. تعيشِين حالة من عدم التصديق بأن هذا الشيء الصغير رافقكِ لتسعة أشهر في أحشائكِ يأكل حين تأكُلين ويشرب حين تشربين ويتنفس حين تتنفسين ويركل حين تغضبين معبرا عن غضبه هو الآخر .. وبنفس الوقت خائفة عليه من النسمة العابرة ..."
شعرت من حركتها تحت ذراعيّ وصوت أنفاسها المتهدج.. بأنها استساغت ما تسمعه ... لهذا أكملت الخطا في شق طريقي إلى ساعة جاء ملكيّ إلى عالم الأحياء والسعادة تتراقص على حلبة وجهي:
" أنا أعرف جيدا ما تشعرين به الآن .. فقد جربت هذا الشعور مرتين .. مرحلة الترقب للحظة ولادته .. خوف تعب .. وأحلام وردية تداعب مخيلتكِ ..وأنتِ تعُدين الدقائق والساعات والأيام والشهور تترقبين الساعة التي سوف يولد فيها .. وقبلها ببضع شهور .. بتحديد الشهر الرابع .. حين تحسين بحركته في أحشائكِ لأول مرة .. شعور يعجز اللسان عن وصفه ... شعور أن هناك منيتحرك بداخلكِ ..مجرد الشعور بأول حركة ونبضةفي الرحم .. أول نبضة شعور يتسم بصدمة.. وتجتاحكِ رغبة عارمة أن تخبري كل من حولكِ أن الجنين يتحرك وأن يتحسسوا بأنفسهم حركته المباغتة في بطنك ذلك الشقي "
تناغمت ضحكاتي مع كلامي.. لتشجيني بأجمل سنفونية داعبت قلبي الذي أضناه البعد عن الحبيبين:
" أما اللحظة التي تتلقين فيها خبر أنكِ حامل ياااااااااه ..تشعرين وكأن الدنيا لا تسعكِ منفرط السعادة.. أن تكونِ أم.. وأن هناك طفل ينمو في أحشائك.. طفل سيكون لكِ لوحدك.. ابنك أنتِ..تصبحين تخشين من أي شي قد يؤذيكِ حتى لا تفقديه ... تجربة مستعدة أن أكررها ملايين المرات .. لكن .. لكن "
لتخنقني العبرة وأنا أعود لواقع الحال المرير ...وقد طفرت دمعه يتيمة من حجرها ...ليخيم الهدوء النسبي على الغرفة من دون دعوة ...لتنسل من بين يديّ .. فتقابلني بعينين كبحر عميق لا قرار له .. فتكتفي بالنظر إليّ لبرهة صامته لتقول بعدها وابتسامة مترددة تنمو على ثغرها:
" ماذا عن المرحلة التي تلي الولادة؟ .. سمعت بأنها أصعب مرحلة .. فجميع النسوة تشتكِينَ من شقاوة أبنائهن التي تقودهن للجنون وتقطيع شعر الرأس"
لتسرق مني ضحكة وأنا في قمة حزني بكل بساطة ...وأنا أجيبها ودمعي الحزين يختلط رغما عنه بضحكاتي الخجولة:
" بالفعل ما سمعته صحيح .. لكن للأسف لم أصل لمرحلة تقطيع الرأس .. "
لتذوي الابتسامة وتهب ريح السموم فتجف على إثرها أفراحي الوليدة وتخلف وراءها شظايا الأسى على أرض سحنتي وأنا أكمل ببحة يعتصرها الوجع الداخلي:
" لأنه انتزعهما من حضني عنوة .. وبدون أن تهتز له شعرة "
تضارب المشاعر جعل وجهها يعكس ألف صورة وصوره على مرآته .. ليعاود الصمت يحتضننا .. فيدق ناقوس الرحيل في خلدي ...لهذا قمت على الفور .. مبتلعةً عبراتي الحامية ...ومن ثم قلت بصوت يقطر وجعا:
" يجب أن أرحل الآن .. أكرر اعتذاري مرة أخرى على كل المشاكل التي سببتها لكِِ .. وكذلك أريد أن أقول لكِ.. أن لا تستسلميِ ...عاودي المحاولة .. إذا لم يكن من أجلكِ .. فلأجل ابنكِ الذي بالتأكيد يريد أن يعيش بين والدين يغدقان عليه العطف والحنان.. وإذا أحببتِ أنا أريد أن أساعدكِ في أن يكون لكِ فؤاد.. لكِ وحدكِ ..وداعا "
ليمر بريق كالشفق من مقلتيها المتسعتين .. لتكون هذه علامة أن سهمي قد أصاب الهدف ..
لأمشي بساقين امتُصّتِ الحياة منهما.. فقد استنفذت كامل طاقتي في هذه المقابلة الضاجة بالمشاعر المتقلبة.. شاعرة بداخلي .. أن حجر عثرة واحد قد أنزاح من أمامي لأمضي بأكثر انسيابية في الدرب المؤدي إلى ولديّ..








وللحكاية بقية ...







وأشكر المستشارة *زهر البيلسان* على تقديم خبرتها ومعرفتها في مجال الأمومة لي بدون تأخير حين استنجدت بها ^__* فلقد أفادني كثيرا صدقا .. ويا رب يديم الجمعة الحلوة ونسمع الأخبار الطيبة من الكل ..قولوا آمــــــــــــين ^_^