هلوسات .... * مميزة & مكتملة* - الصفحة 239

ROSES LEAVES · 28-03-13, 09:29 PM

ونحن بالانتظار على نار

ما بقا فينا صبر أكتر من هيك

دنيازادة · 28-03-13, 09:44 PM

الفصل العشرين

إهداء إلى صديقتي الغالية ROSES LEAVES

الجزء الأول
جلست الصديقات حول سرير أطياف يحاولن أن يؤنسن حزنها في مصيبتها دون أن تجرؤ إحداهن على الإشارة من قريب أو بعيد بشأن انفصالها عن باسل. استطعن كتم فضولهن، فجرحها ما زال مفتوحاً على اتساعه..
فرقعت غيداء أصابعها وقد خطرت فكرة على بالها لم تتردد في طرحها:
- لنسافر ؟
حدقت بها العيون بدهشة، برناديت أول من استوعبت الاقتراح فهتفت :
- أجل لنسافر.. نحن بحاجة لتغيير الأجواء والتخلص من روتين حياتنا..
ابتسمت يارا بحماس :
- أنا معكم موافقة على السفر .. لا أظن أن عمر يعترض .. حتى لو فعل سأقنعه بطريقتي الخاصة ..
لوت غيداء شفتيها بامتعاض مصرحة :
- عكسي تماماً المدعو زوجي لن يهتم حتى لو سافرتُ إلى المريخ.. سأجعله يوماً يندم على ما يفعله بي.. ماذا عنكِ برنارديت؟.. ما زال زوجك في الدير يخضع للعلاج.

أومأت برناديت برأسها وبارقة أمل تشع من عينيها متمسكة بإيمانها :
- نعم قمت بزيارته بالأمس لقد تحسن كثيراً .. أشعر أن هذه المرة سينجح في التخلص من مرضه.. الأب مالك يبذل معه كل الجهود الممكنة لبدء حياة جديدة خالية من آفة الإدمان..

بقيت أطياف ساهمة بعيداً عن المشاركة في الأحاديث، ترقب بحنان حركات نسيم الذي راح يلهو بدميتها رفيقة طفولتها.. نسيم يشبه خاله علي كثيراً، له نفس العينين والجاذبية.. علـي .. كم كانت قاسية على حبهما أكثر من القدر نفسه..
لقد وعدها علي بأن يحبها مهما حدث، لكنه لم يفعل.. منظره مع ربى انطبع بذاكرتها.. يده التي لامست يوماً كفها وأذابت جليد حواسها باتت تحيط خصر أخرى!.. بدت لها ربى شابة خالية من الازدواجية والاضطرابات النفسية.. ربما الآن تسكن بين خفقات قلبه ويلقي على مسمعها أعذب الكلمات.
هل حاول الهروب من الألم بمواصلة الحياة في أحضان أنثى غيرها مثلما يفعل الرجال عادةً؟.. هكذا كتبت على لسان بسام في حكاية كرمى..
لا يمكنها لومه، كانت البادئة بتوجيه طعنة سكين الغدر بقلب حبهما عندما استسلمت لواقع اختلافهما الطائفي ومن ثم زواجها بـ باسل..
باسل الذي راهنت عليه ليحميها من غدر الزمن، ولم تكن تعلم أنها تزيد عذاباته وتخسره كرفيق تتحاور معه وتناقشه بعقلانية.

بدا لها المستقبل مريباً، استسلمت لانهيارها خوفاً من مواجهة واقع الوحدة القاتلة والعودة لقصر العائلة، هناك حيث المطلوب منها تنفيذ الأوامر والرضوخ بطاعة عمياء لكل ما يفرض عليها، لتعيش الضياع والتشرد الذي لا حدود له وتتغرب عن نفسها..

- أطياف ما رأيك إلى أين نسافر؟
أجفلت أطياف من صوت غيداء الذي قطع حبال أفكارها وأردفت :
- لنسافر إلى لبنان أتمنى حقاً أن أزور مغارة جعيته وأصعد بالتلفريك إلى قمم الجبال ؟
هزت يارا رأسها قائلة :
- لبنان باريس العرب حيث الجمال الباهر.. لكن الوضع الأمني الآن خطير إنفجارات واغتيالات وخطف.. بعد ولادتي نسيم لم يعد هناك مجال للمغامرة في الحياة.. أعلم أن المكتوب ليس منه هروب والأعمار بيد الله عز وجل لكن سفرنا إلى بيروت في هذا الوقت بالذات مجازفة.. حتى لو وافقت أنا لن أستطيع ولا في الأحلام إقناع عمر فإذا كانت عجائب الدنيا سبع فسيكون إقناع حبيبي عمر العجيبة الثامنة.. اسمعن لنسافر إلى شرم الشيخ..

- لا .. نحتاج لإراحة أعصابنا لا أن نوترها ونرفع ضغطنا بمنظر العشاق الذين يقضون شهر العسل أمام عيوننا فنتحسر على حظنا التعس.
لم تكد تنهي غيداء جملتها حتى سارعت برناديت قائلة :
- الشـام .. ما رأيك أطياف ؟.. أنتِ تحبين دمشق.. أمضيتِ بها سنوات دراستك الجامعية ولطالما حدثتنا عن جمال المنظر من قمة جبل قاسيون .

انشرحت أسارير أطياف ولاحت على شفتيها رسم ابتسامة عندما رددت "الشـام".. تابعت برناديت بحماس :
- نعم أطياف دمشق والغوطة .. بحر اللاذقية الأزرق وشاطئ رأس البسيط.. طرطوس وجزيرة أرواد.. أوليس هناك كتبتِ أول قصة؟
هزت أطياف رأسها ببطء إيجابا، طغت السعادة على وجوه الصديقات :
- سنقضي وقتاً ممتعاً .. لكنني لا أعرف كيف سأقدر على فراق ابني نسيم؟.
انتفضت أطياف عن صمتها بغتة، اعترضت بشدة وكأن أحداً قبض على روحها:
- لن نسافر أبداً إلا ونسيم معنا .

كل من حول أطياف شجعها على الرحيل، خالها منذر أكثر من شعر بالراحة لابتعادها عن مكان يقيم فيه باسل، فوجودهما على مقربة يؤذي كليهما ويمنعهما من تجاوز ما حدث.
لم تحتج أطياف لشرح أسباب طلاقها لعائلة أبيها، فلقد أشاعوا فوراً في الأوساط الارستقراطية أن الاختلاف السياسي، ومواقف باسل وتوجهاته المعارضة في الفترة الأخيرة أثرت على علاقتهم به، وجعلت الحياة الزوجية لابنتهم أطياف محال معه، ذلك أجبرهم على اتخاذ قرار الانفصال، وتصويب الخطأ الذي حدث بموافقتهم على هكذا زواج من الأساس..
سافرت أطياف مع صديقاتها ولم تجد من يبكي فراقها أو يفتقدها ..

***********************************

دمشق ونسائمها الرقيقة المعطرة برائحة الياسمين وزهر الرمان، جدرانها الرمادية لأبنيتها العريقة الممتدة في عمق التاريخ، وجبل قاسيون الشامخ الذي يطل على الشام جنة الأرض .. شام الدنيا التي تعانق السحب.
سارت أطياف على ضفاف نهر بردى تستعيد كيانها وتمسك زمام حياتها، وتنسى تلك الأيام القريبة التي مرّت بألم، تؤنسها أشعار نزار قباني ..
يا شام، إنّ جراحي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا
شردت فوق رصيف الدمع باحثةً عن الحنان، ولكن ما وجدت أبا ..
من جرّب الكيّ لا ينسـى مواجعه ومن رأى السُّم لا يشقى كمن شربا
حبل الفجيعـة ملتفٌ على عنقي من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا ؟

نجحت الصديقات بالتعامل مع أطياف لسبب بسيط، يجعلنها مشغولة دوماً بأمور تبعدها عن تأمل جروحها، لكن أوقاتها المليئة معهن بالنهار لم تمنع نوبات المرارة من مداهمتها كلما راقبت النجوم ليلاً وهي ممددة على الشاطئ الرملي لبحر اللاذقية فاقدة طاقة الحيوية فقلبها المتألم يحتاج إلى الزمن ليشفيه، أمواج البحر أخذت ترتطم بقدميها تدغدغها قبل أن تنسحب بهدوء.
غيداء انضمت إليها تقطع وحدتها قائلة:
- لا تدعي الألم يسيطر عليكِ .
جاء صوتها ممتلئاً بالغصات :
- لا بديل لي عنه .
- لا تفعلي مثلي يا أطياف .. لا تتركي الألم يدمركِ .. لا أعرف في الحقيقة ما إذا كان الألم أو حقارة زوجي شوّه أعماقي.. ما أدركه أني علقتُ بشبكة العنكبوت وتشربكت حياتي كلها .. هل تظنين أن الرجال الذين عرفتهم أحببتهم؟.. لا .. لم أحبهم بل غايتي منهم مصلحة أرضاء نفسي المهملة المكبوتة فأملئ فراغاً يكتنف حياتي العاطفية .. الألم الذي سببه إهمال زوجي جعلني أستلذ بالانتقام منه فهو يستحق الخيانة .

رغم دفء الجو شعرت أطياف بقشعريرة وهي تحدق في ظلام البحر دون أن ترف جفنيها.
- غيداء قد يكون زوجك يستحق الخيانة لكنك لا تستحقين أن تكوني خائنة.. أنتِ ما زلتِ شابة وجميلة يمكنك بدء حياة جديدة.

ابتسمت غيداء بسخرية مؤلمة :
- أبدأ من جديد !.. لن أخدع نفسي وأقول أن من يقترب مني من هؤلاء الرجال لا يبحثون بدورهم عن مصالح خاصة .. هذا زمن مادي لعين.. سأكون نسخة مكررة لوضع برناديت .. مالي الذي أتعب وأشقى به يذهب أمام عيني وأسكت مرغمة.. لا.. العشاق العابرون أرحم, فعندما يحاولون اقتناص بعض المكاسب بوقاحة يمكن وضع حد لهم.. في أسوء الأحوال أقطع علاقتي بذلك الشخص ببساطة وبعد أيام قليلة أنسى كل شيء عنه .. هل تعرفين لماذا؟.. لأن هذه العلاقات أساسها الأنانية وحب الذات.

- هذا خطير .. غيداء أنتِ تخطئين بحق نفسك كثيراً .
- حددتُ شخصيتي واخترتُ أن أكون انتهازية .. لقد دمغتني ظروفي ... حتى أبنائي أنجبتهم وأنا ما زلتُ في عالم الطفولة.. ما أن استوعبتُ معنى الأمومة وجدتُ أن لهم أجنحة يطيرون بها عندما تقوى.. في كل مساء يا أطياف أتأمل عمري وشبابي الضائع في ليالي باردة موحشة.. مشاعري انطفأت.. روحي أصابها الجفاف..

ربتت أطياف بيدها على كتف صديقتها، لم تعرف من قبل أن غيداء مشحونة بكل هذا الوجع والحقد نتيجة زواج فاشل مستمر لأجل المظاهر الإجتماعية الخارجية المزيفة.

*************************************
يتبـع >>>

دنيازادة · 28-03-13, 09:48 PM

الجزء الثاني

من سوق الحميدية المسقوف الممتلئ بأصناف متعددة من كل البضائع ابتاعت الصديقات الهدايا والتذكارات، استمتعن بتذوق بوظة "بكداش" اللذيذة التي تُعد بالطريقة اليدوية، على مرأى من الزبائن تدق بسواعد الرجال القوية وتعجن بالثلج الآتي من قمم جبال الشيخ.

استقرت أطياف بعد عودة صديقاتها إلى عمان في ضيافة عمة والدها، المرأة السبعينية رحبت بها بعلامات البهجة وأخذت تُذكر أطياف بسنوات إقامتها عندها أثناء دراستها في جامعة دمشق.
أثار التجاعيد المتراكمة على وجه العجوز لم تخفِ جمالها، قالت لها يوماً أنها لم تندم على هروبها قبل خمسين عاماً مع حبيبها الذي رفضته العائلة بسبب الفوارق الطبقية.
العائلة لم تحكم على العاشقة المتمردة بالقتل كما يحدث عادةً، لكنهم عاقبوها بالنبذ والتبرؤ، فلا يتم ذكر اسمها بتاتاً..
بعد قطيعة دامت خمسة وثلاثين عاماً جاء من يخبر جد أطياف أن أخته الوحيدة أصبحت أرملة.

أطياف تتذكر ذلك اليوم جيداً، لم تكن قد أكملت السادسة عشر من عمرها، فوجئت عندما أمرها جدها بحزم الحقائب والاستعداد للسفر معه. وكانت رحلتها الأولى للمدينة التي فتنتها.
رغم أن زيارتها لدمشق تكررت على مدى السنوات لم تفارقها يوماً حالة الانبهار كلما سارت بجانب قلعتها الصامدة العتيدة.

عند مقام القائد السيف صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وقفت أطياف متحسرة على ما يحدث للحضارة الشرقية، في زمن العصابات والعسكر الحرمية، حيث ترتكب أبشع الجرائم تحت غطاء الشعارات الكاذبة العذبة! ...

مئة يوم قضتها أطياف تلملم أشلاء قلبها الممزق، صلواتها هدّأت أعماقها الهائجة فأصبحت قادرة على تأمل أعماقها.
استيقظت ذات ليلة من عز النوم مسكونة بقوة غريبة، تشعر بنمنمة بأصابعها، أمسكت قلمها تكتب على بياض الأوراق لتطفو فوق الزمن.
استأنفت العيش بهوى الكتابة وزحمت الكلمات، تغرق بها لتنتشلها قبل أن تصبح أميرة الانهيارات.

**********************************

آخر ما توقعته أطياف عندما ذهبت لترد على جرس الباب ذات صباح أن تجد باسلاً واقفاً على العتبة المظللة بشجرة الياسمين .

تفرست في ملامحه، ثمة وقار لم تدرك كنهه من قبل، كانت تراه أحياناً عبر شاشة التلفاز في النشرات الإخبارية والبرامج السياسية، يحذر بهدوء من المؤامرات والمكائد التي تحاك بالخفاء ضد الشعوب العربية وخطورة الأوضاع.
السؤال الذي لم تطرحه أجاب عليه بتوارد الخواطر.
- إقناع غيداء لم يكن سهلاً مطلقاً لكنها رضخت في نهاية الأمر وأعطتني عنوانكِ.. ما بيننا لا يزول بانتهاء عقد رسمي.. فأنتِ أعز إنسانة على قلبي.
فتحت الباب على اتساعه تدعوه للدخول، حاول باسل أن يجمع شتاته وشجاعته عندما ولج إلى غرفة المعيشة حيث الدفء الذي يوحي بجو من الإلفة، قال بثقة وعيناه تنظران في عيون أطياف التي راحت ترمقه بحياد:
- أرغب لو أملأ الدنيا بالغضب .. لو أتحول إلى بارود ينفجر فيعصف ويقتلع الأعداء الصهاينة والطغاة الذين يحرموننا السعادة.. لقد بلغت حسرتي حداً ساحقاً من الفجيعة.. كنتُ أظن أنني اعتدتُ بل أدمنتُ على الوجع.. لكن ثبت لي أن فصول حياتي التراجيدية مبدعة في ابتكار فظائع لا تنتهي.. حاولتُ بتفاؤلي تخفيف الألم دون جدوى فأنا أنزف أحزانا.. أصحو مرات عديدة من نومي ليلاً على وجع يندلع في جمجمتي بهيئة حمم ثائرة.. خلال أشهر زواجنا راجعتُ أطباء متخصصين بوضعي الصحي اتفقوا على أن حالتي نفسية.. وصفوا لي حبوباً وعقاقير زادت من عدد الأدوية التي يجب أن أتناولها كل يوم لأصبح نهباً للهواجس والهلوسات.. لستُ مستعداً لأن أطوف على أطباء جدد فإذا خسرتُ فحولتي لن أخسر نفسي.. باختصار أعددتُ حياتي وحضرتها من أجل مداواة جروحي على نحو ذاتي.

تحدث باسل بصراحة صدمت أطياف بقوة ، صعدت الدماء حارة إلى وجنتيها، ارتبكت وتلعثمت هامسة:
- آسفة أنا السبب .. لم أحاول أن .. أن ... الوقت ..

غصت بالكلمات المشتتة وانقطع صوتها ، تدرك في هذه اللحظة بالذات الحقيقة المرة، لو وضعها باسل في اختبار حقيقي لواجباتها الزوجية كانت قطعاً ستفشل، لا يمكنها أن تكون إلا لرجل واحد فقط مهما أنكرت ذلك.

قال باسل برقة عندما لاحظ ارتعاشها وتجمع الدموع في مقلتيها :
- لا تشعري بالذنب أطياف .. لا تكوني قاسية على نفسك وتحمليها فوق طاقتك.. ربما كان يجب أن نتزوج لنعرف أننا لا نصلح لحياة زوجية كاملة معاً.. العاطفة الروحية وحدها لا تنجح الزواج.. أطياف أنا لا أعرف ما حدث معك بالضبط وليس لي الحق بسؤالك لكن لا تكوني قاسية على قلبك..
- قلبـي !!..
- عندما تسمعين نداء القلب لَبّي ولا تخافي الحب .
أخذت تردد الكلمات وكأنها تسمعها لأول مرة .
- الحـب !!..
- للحب وجوه مختلفة .. لقد أحببتُ رغداً حباً عظيماً.. منذ فترة قريبة تقابلنا عندما أتت لحضور ندوة أقمتها..

امتزج فضول أطياف ودهشتها معاً، أنها المرة الأولى التي يحدثها باسل عن عواطفه:
- التقيت رغـداً !!
- كنتُ دائماً أسأل نفسي ماذا لو اجتمعت برغـد يوماً ؟.. ماذا ستكون مشاعري؟..
لم تتمكن أطياف من الصبر فسألته :
- وماذا اكتشـفت ؟
- الزمن لا يلغي الحب .. لو عشتُ ألف مرة سأعود لأحمل ذات المشاعر لرغد..
- ما زلت تحبها رغم أنها تخلت عنك في الماضي وجرحتك بشدة؟..

انتظرت بلهفة إجابته ، تعلقت بأمل أن الحب الحقيقي لا يوجد فقط في الروايات، كلمات باسل قد تعطيها الأمل باستمرار حب علي لها.

- كل تلك المصائب التي جعلت حياتنا تنحرف بشكل خطير وتبدل مصيرنا لم تمحِ الحب.. بعد سنوات طويلة من الفراق اكتشفتُ أن رغد أجمل بكثير من صورتها المطبوعة في ذاكرتي .

تنهدت بعمق قائلة بنبرة مشبعة بالحنين:
- الذين نحبهم فقط هم من نراهم جميلين دائماً .
- ذلك لم يمنع حبي لك أطياف لكن بطريقة أخرى مختلفة خالية من الشهوات.. حب يرفض أن تضحي بعمرك من أجلي.. ما كان يمكن لي أن أمنعك من حقك في حياة طبيعية.. لقد حُرمتي من قول كلمة أمي ولن أكون سبباً لحرمانك من حقك في الأمومة التي هي غاية كل امرأة .

ارتجف صوتها عندما همست بحزن :
- الأمومة تأتي من لحظة حب يعيشها زوجان وأنا لا أظن أني قد أتزوج يوماً .

ابتسم محاولاً أن يزيل توترها :
- بل ستتزوجين , لديك حياة بأكملها تنتظرك .. يوماً ما سيأتي رجل يرغمك على طاعة قلبكِ فلا تقاومي.. وحدها هزائم الحب انتصار..
- هل أعدت مع رغد عشق الماضي ؟..
- لم يكن لقاؤنا لإعادة الماضي.. كل منا اختار طريقه.. لديها عائلتها.. ولدي مهمات كثيرة.. لستُ نادماً على اختياري طريق النضال لأني أؤمن بحقنا وقضيتنا بالدفاع عن عروبتنا.. التغيير له ثمن ندفعه.. الأوطان تروى بدماء الشهداء وأغلى الأثمان..

اليوم وبعدما تخطت أطياف أزمتها تقدر وتحترم باسل أكثر من أي وقت آخر.

- شكراً أطياف لأنك تفهمتِ موقفي أخيراً .. لقد أردتُ الحضور قبل الآن لكني خفتُ عليك من ردة فعل عكسية .. تجرأتُ بعدما حصلتُ على هاتين البطاقتين ..

أخذت تتسع حدقتا عينيها الزمردية وهي تنظر إلى البطاقات بذهول :
- بطاقات حفلة فيروز الليلة !!!!
- هـل ترافقينني ؟
- لا أصدق !.. هل تدعوني حقا ًلحفلة فيروز ؟؟؟
- بل صدقي .
توالت نظراتها بين البطاقتين ووجه باسل المشرق، هتفت بانفعال وفرح:
- سأرى فيروز وأسمعها تغني أمامي مباشرة !!!.. حاولتُ جاهدة الحصول على بطاقة لحفلتها لكنها نفدت فور طرحها في الأسواق.. لا أصدق.. باسل أنت .. أنت رائع ولا أجد كلمات تعبر عن مدى سعادتي .

حالة من الانبهار عمّت وجوه آلاف الجماهير اللذين اكتظت بهم القاعة، فيما وقف المئات خارجاً دون أن يفقدوا الأمل بالاستماع للصوت الملائكي.
تعالت الهتافات والتهبت الأكف بالتصفيق الحار دون توقف عندما ظهرت فيروز بثوبها الأبيض كملاك يحرس الأحلام فوق مسرح المدينة، غنت للأفئدة الحزينة تواسي الجروح وتنثر الأمل " ايه فيه أمل أوقات يطلع من ملل وأوقات بيرجع من شي حنين لحظات بيخفف زعل.. "
مع الصوت العذب استحضرت أطياف خيالات وصور عاشتها مع حبيب قتلته بيديها مرات ومرات ..

*************************************
يتبــع >>>

دنيازادة · 28-03-13, 09:52 PM

الجزء الثالث

تنهدت أطياف بنشوة السعادة عندما خرجا من القاعة الكبرى، التفتت إلى باسل الذي بدا جذاباً، تأنق مرتدياً بدله رمادية وقميص أبيض من دون ربطة عنق:
- هذه ليلة تاريخية .. أجمل سهرة في حياتي.. باسل لقد حققت لي أمنية لطالما حلمتُ بها وسأذكرها حتى أخر لحظة في عمري.. أشكرك .. أشكرك من قلبي .

ابتسم لها بهدوء وسألها :
- أطياف هل سامحتني على الطريقة التي أنهيتُ بها زواجنا ؟

هزت رأسها بالنفي وأجابت بحزم وجدية :
- لا .

حبس أنفاسه عابساً ، تفرس في ملامحها التي لا تعبر عن شيء قائلاً:
- لا !!.. ما كنتُ أملك إلا تلك الطريقة لإنهاء عذابنا.

أطبق الصمت بينهما، تظاهرت أطياف بالتفكير، قالت أخيراً بمراوغه:
- أسامحك في حالة واحدة فقط .
- ما هي ؟

ردت بوداعة :
- إذا أعدتني إلى المنزل سيراً على الأقدام .
- تمزحين دون شك !.. هل تعرفين كم المسافة بعيدة ؟

رفعت رأسها بعناد وهزت كتفيها بلا مبالاة، سيطر عليها شعور المرح:
- هذا شرطي .
- وإذا تعبتِِ ؟
- اعترف أنك أنت من سيتعب أولاً .. لا أريد لهذه الليلة أن تنتهي.

غرقا بضحكات عالية، بدت سماء دمشق فسيحة مرصعة بالنجوم المتلألئة، الطرقات شبه خالية من المارة، سارا في جميع الاتجاهات معلنين حبهما لمدينة الياسمين..

أخذا يطويان الحارات غير عابئين بالوقت، يتجولان بين جروحهما دون أن يعرف من منهما يواسي الأخر.
- رغم معرفتي أنك تملكين عزيمة ومقاومة قوية مختبئة بأعماقك خشيتُ عليك الاستسلام للحزن.. لقد واجهتي صدمات بما فيه الكفاية.. لكنك نجحتِ في تخطي الكثير من المصائب.. انتصرتِ أطياف!.
- الكاتبة التي تسكنني أنقذتني.
- أنتِ مميزة .

كانت أطياف سعيدة لأنها تصالحت مع باسل وتمشي بقربه بوئام، وقد رجعا يتحدثان بعفوية وبساطة كما اعتادا.
- أنا إنسانة عادية جداً .. هل تعرف أن الألم وحده هو من جعلني كاتبة؟.. اكتشفت أنه ليس هناك أمر لا يمكن احتماله.. الحياة ثقيلة ومع هذا ما سبيلي إلا أن أحياها لأن الموت يرفضني.. لم أعد أؤمن بالأمل كثيرا لكني لستُ بائسة أعيش الفشل ثم أتجاوزه لأنه جزء من رحلة الحياة.. هل تذكر يوم أصابني الحجر في حاجبي لن أنسى ذلك الشعور لحظة الإصابة.. ما زلتُ حتى اليوم أحمل علامة تذكرني كيف أني لم أتوجع حينها بل دهشت من سيل الدماء على وجهي لتسقط قطرات فوق الأرض.. شعرت بالشفقة على نفسي.. حاولتُ التماسك فلقد خجلتُ من أن يراني أحد أتوجع وأبكي.. ذلك السلوك لم يفارقني يوماً وعندما كبرتُ عرفتُ لِمَ انتابني ذلك الإحساس, لأنني ببساطة لن أكون قادرة على استعراض جراحي أمام الآخرين, فمثلي لا تبكي إلا وحيدة دون مواساة حتى ولو أني أموت.. لقد قررت أن لا أنتظر شيئاً من الحياة.. ولن أحيط نفسي بترسانة تحميني من الصدمات.. ويبدو أن القدر كافأني أخيراً وأهداني أجمل المواعيد والأوقات..

أطلقت أنفاسها وعبأت رئتيها بهواء دمشق النقي قبل أن تتابع بوحها وباسل يصغي لها كصديق باهتمامه وحنانه الأخوي :
- لم أكن يوماً راضية عن الواقع الذي أعيشه منذ طفولتي البائسة كأني في مسرحية هزلية تافهة وأنا عاجزة عن الانسجام معها.. كنتُ أحلم أن يتبدل كل ما حولي بشكل ما.. لكن لا شيء يتغير.. علاقتي مع قريباتي وبنات أعمامي ليست وثيقة.. كان يغيظني بشدة, عندما نتقاتل كأي أطفال, انضمام الشقيقات لبعضهن ليلعبن معاً أو يحتمين بأمهاتهن فأبقى وحيدة أعدّ الأشجار التي تحيط القصر.. هذا أتعسني بل كسر قلبي الصغير ووضع حاجزاً ما بيني وبينهم.. لم أشفَ من تعاستي إلا عندما وقعت عيني على رفوف كتبك في غرفة السطح.. أحببتُ تلك الكتب من النظرة الأولى.. كتبك يا باسل أخذتني لمتعة إكتشاف عوالم أبعد من عالمي الصغير المرتبط بجدران قصر جدي.. انفتحت أمامي دنيـا الفضول والدهشة.. هربت لكتبك أفكر أحلل أسافر لمدن وعصور.. أتنقل بين الموانئ وأطوف في السماء بلا أجنحة..

علت الابتسامة وجه باسل لطريقة أطياف الجذابة في حديثها متابعاً حركاتها حيث راحت تدور حول نفسها بفرح، بدت أميرة بفستانها الحرير الفيروزي الطويل الذي تمايلت أطرافة، صاحت بحرية :
- أحبك يا دمشق .. أحبك يا أجمل وأبهى المدائن .. فيك تصالحتُ مع نفسي والتقيتُ بأحبابي.. كل حجر فيك يروي حكاية وأنا أعشق كتابة الحكايات.. لن ترعبني بعد اليوم لافتة ممنوع المرور..

تعالت ضحكات باسل من كل قلبه كما لم يفعل يوماً، شاركته أطياف الضحك كأنها عادت طفلة بلا قيود، بعض المارة أخذوا يبتسمون لهما بمرح..

التفتت أطياف إلى باسل عندما أخرج من جيب سترته ميدالية كريستال على شكل قلم فضي صغير تدلى منها مفتاح قائلاً:
- هذا لكِ .
- مفتاح غرفة السطح !..
- أجل .. لك كامل الحق والحرية للتصرف بكل الأشياء فيها.

توقفت عن السير، تجمدت بذعر في مكانها، سألته بحذر:
- إلى أين ؟..
- بيروت .. سألتقي زملائي الأسرى الذين تم تحريرهم مؤخراً.. وأقوم ببعض التحقيقات الصحفية بشأن الإعداد لأسطول الحرية الذي سينطلق لرفع الحصار عن أهلنا في غزة ونحمل لهم مواد إغاثة ومساعدات إنسانية..

ازدردت أطياف ريقها ، باحثة عن جواب أكثر دقة:
- ستشارك في رحلة قافلة الحرية ؟
- نعم سأكون ضمن 750 شخصية دولية ناشطة في مجال حقوق الإنسان في أكبر حملة لكسر الحصار الصهيوني.. ستنطلق السفن من موانئ دول مختلفة وتكون نقطة الالتقاء قبرص قبل أن نتوجه إلى قطاع غزة مباشرة.

أرادت أطياف أن تقول شيئاً لكنها عدلت عن رأيها واكتفت بالصمت الذي وجدته أبلغ من أي كلام، باسل رجل مناضل لن يستسلم يوماً أو يقف مكتوف اليدين بل سيواجه الظلم ويحاربه في كل مكان.

حاولت إخفاء قلقها عندما مدت يدها وأخذت منه المفتاح، وضعته بحرص داخل حقيبتها الصغيرة. عادا للمشي في دهاليز المدينة القديمة التي تحفظ أطياف أزقتها وأقواس نصرها.. يتحدثان بصفاء كأنهما يخاطبان أرواحهما بوشوشة بوح .

مع الدقائق الأولى من الفجر عبرا بوابة الجامع الأموي الكبير.
عند ضريح مرقد ريحانة الجنة رأس الحسين رضي الله عنه حفيد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقفا باسل وأطياف أمام المقام الطاهر حيث تتزاحم الملائكة.. للمكان سحر غير مرئي وحضور لا يمكن تفسيره، رائحة أعواد البخور فاحت في الأجواء..اشتدت أصابع أطياف حول السياج الحديدي الأخضر..

قالت لباسل وهما يغادران عندما سألها عن كلماتها التي لمحها تهمس بها، بأنها سوف تبقيها سراً تبوح به لنفسها فقط، رغم فضوله لم يلح عليها لتبقى كلماتها أفقاً مغلقاً عليه، مرت لحظات تشابكت فيها عيونهما بوصال روحي، لمح بوجهها ابتسامة غامضة، رفعت أطياف رأسها إلى سماء دمشق داعية الله أن يستجيب أمنيتها فيشفي باسل ويمنحه الصحة والعافية.

بدا كل شيء حولهما مشبعاً بالندى الصباحي عندما وصلا إلى عتبة البيت. سألته بقلق:
- أتعبتـك ؟
- حلمتُ خمسة عشر عاماً بهذا التعب .. أن أمشي بلا نهاية وحققتِ لي حلمي يا أطياف.

ابتسمت له بحنان ، سألته بصوت يختنق بالعبرات:
- متى تسافر ؟
- بعد ساعة .
- هل سأراك في القريب ؟
- ربمـا .. إذا أراد الله سبحانه ذلك .
- إني أحب الله عز وجل وألجأ إليه دائماً وأبداً وفي كل الأوقات.. لهذا أثق أني سأراك.
- اعتني بنفسك أطياف واتبعي قلبك .. لا تحاولي أن تكوني مثالية وعقلانية دائماً نحن بشر نرتكب الحماقات..
- باسل كن متأكداً كلما استيقظت من نومك أن في هذا الكون من يفكر بك ويهتم لأمرك.. لن أقول وداعاً بل إلى لقاء قريب.
- سنبقى على تواصل هاتفي... إلى اللقاء .
- بأمان الله ورعايته .

ابتسم لها وهو يضع يديه في جيبي سرواله، لاحقته أطياف بعينين تطوفان بالدمع، ترقب غيابه متكئة على الباب تغني" وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان .. وحدهن .. بيقطفوا وراق الزمان.. بيسكروا الغابة.. وبيضلهن متل الشتي يدقوا على بوابي.. "

********************************

تناهى لعلي فور دخوله البيت حديث يارا وأمه، لم يكن بمزاج يحتمل ثرثرتهما، أراد الانزواء في غرفته، لكنه توقف منصتاً عندما سمع اسم صاحبته ترافقه كطيفه في ليله و نهاره بكل جبروتها.

- لا أمي لم نستطع فهم شيء من أطياف طوال سفرنا .
- حزنتُ كثيراً على ما حدث لها لكن لعل طلاقها خيراً ويعوضها الله سبحانه وتعالى بما هو أفضل.. كيف صحتها الآن ؟
- أهاتفها يومياً وأطمئن عليها أتمنى أن لا تهمل أخذ الدواء الذي وصفه لها الطبيب فجسمها ضعيف وما زالت تعاني من فقر الدم..

تصلب علي بوقفته فيما عمل عقله بنشاط على تحليل ما سمع، إذن أطياف انفصلت عن زوجها وأجهضت جنينها !!...

استعاد ألم طعناتها لقلبه، وتقلبه في فراشه كل ليلة بأرق رهيب لا آخر له..

- أطياف أيتها المستبدة القاتلة بلا رحمة .. لو كان التلاعب بالحب جريمة يعاقب عليها القانون فأنتِ تستحقين أشد عقوبة تنالها خائنة مثلك.. لشدة ما أحببتك كرهتك.. لن تهربي مني بعد الآن.. كل الطرق ستقودك لي...

تأججت بقلبه نيران تلتهب، غضب عارم وحشي مدمر ..

نهاية الفصل العشرين

لا تجعلوني أنتظر آراءكم طويلاً .. قراءة ممتعة

دمتم في حفظ الله ورعايته

دنيازادة · 28-03-13, 09:57 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن :
13 ( الأعضاء 5 والزوار 8)
‏دنيازادة, ‏كفى, ‏رنيـــــم, ‏صاحبة التامور الذهبى

مساء الورد
منورين اعزائي اتمنى ان يعجبكم الفصل

أحلامها · 28-03-13, 10:07 PM

روعة روعة روعة
حوار باسل واطياف في منتهى الرقي
رغم اني كنت في صف باسل
الا ان الطريقة التي انهيتي بها علاقتهما راقية الى ابعد الحدود
كم انت رائعة يا دنيازادة
التقط انفاسي واعود

أحلامها · 28-03-13, 10:09 PM

اخبرتك سابقا عن احد الفصول بانه قمة الرواية
هذا الفصل هو قمة ثانية للرائعتك
بانتظار القادم بشووووق كبير ياغاليتي

دنيازادة · 28-03-13, 10:13 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحلامها

روعة روعة روعة
حوار باسل واطياف في منتهى الرقي
رغم اني كنت في صف باسل
الا ان الطريقة التي انهيتي بها علاقتهما راقية الى ابعد الحدود
كم انت رائعة يا دنيازادة
التقط انفاسي واعود

تسلميلي يا رب نورتي غاليتي
اسعدني كثيراً حضورك وتفاعلك انتظر رأيك بشوق
دمتي في حفظ الله ورعايته

ROSES LEAVES · 28-03-13, 10:13 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 7 والزوار 8) ‏ROSES LEAVES, ‏أحلامها, ‏كفى, ‏رنيـــــم, ‏صاحبة التامور الذهبى
مسا الورد دندن
الفصل إلي أنا؟!!
هييييييييييه وطبعا أحلى فصل
يا الله شو انبسطت فيه

أنشودة الندى · 28-03-13, 10:14 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 7 والزوار 8) ‏sandybell2012*, ‏ROSES LEAVES+, ‏أحلامها+, ‏كفى, ‏رنيـــــم, ‏صاحبة التامور الذهبى

مساكم مبارك بالصلاة ع النبي
^_^

مشاهدة نتائج الإستطلاع: أعزائي يهمني رأيكم بروايتي هلوسـات من حيث الأسلوب ، الأفكار ، الأحداث ؟
جـيـــدة	46	86.79%
متوسطة	7	13.21%
سـيئة	0	0%
المصوتون: 53. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع أرسل هذا الموضوع إلى صديق
انواع عرض الموضوع
العرض العادي الانتقال إلى العرض المتطور الانتقال إلى العرض الشجري