الفصل الثاني

وقف أمام نافذة غرفة نومه يتأمل بزوغ الفجر معلناً انتهاء ساعات الليل البطيئة الثقيلة التي تبدو لهاشم جلال أحياناً دون آخر، الأغطية والوسائد المرمية على الأرض ومنفضة السجائر المليئة بالإعقاب المسحوقة قرب سريره خير دليل انه يعاني الأرق...
يحاول أن يغرق نفسه في العمل الصحفي ليعود إلى بيته في وقت متأخر حيثُ يأوي كل ليلة وحيداً في فراشه المزدوج وقد تلبّسه الموت العاطفي.

تسرب صوتها الصافي العذب لسمعه عبر أثير المذياع فتنهد بقوة بارتياح، لا يتخيل أن يأتي الصباح دون صوتها.. صوتها الناعم يبعث في نفسه شعوراً غريباً لا يوصف يتغلغل في خلاياه، نبرتها تشده بلهفة.. استرخت عضلات وجهه المشدودة متمتماً باسمها بشغف:
" نااااي.. نااااااااااي.. عشقتكِ للصوتِ الحنونِ وللشجا "

" يا صباح الورد الجوري .. أعزائي كتبتُ في أوراقي.. إلى كل من يشاركني عالم الأحزان، هناك حيث ترعد قلوبنا بالخوف فلا نهنأ بالنوم.. نصرخ في عتمة ليالي الوحدة ونهبط لقاع جحيم المعاناة غارقين بذكرياتنا، مفجوعين بألم ما زرعنا بأيدينا من أشواك في دروب مستقبلنا، فلا نرى إلا السواد المقيت..
لكن من قال أننا ملائكة معصومين عن ارتكاب الذنوب والخطايا نحن بشر ننجرف أحياناً وراء ملذات الحياة بأنانية، نحيد عن طريق الصواب.. لكن والحمد لله الخالق عز وجل ترك لنا باب التوبة لندقه ونطلب الغفران..
أعزائي دعونا في صباحنا هذا نسامح ونرحم من على الأرض ليرحمنا من في السماء.."

**********************************

أطلت ناي من البهو الخارجي للفندق الفخم، راقبها هاشم جلال الذي وصل قبل الموعد بعشر دقائق وأخذ يراجع الأوراق الموجودة في داخل ملف أسود وضعه جانباً عندما لمحها من بعيد، تجمدَّت عروقه حين شاهدها تدخل الشرفة بقدّها الميّاس تتهادى بمشيتها كعارضات الأزياء، تسمرت عيناه عليها وهي تتحدث إلى أحد العاملين، بدا واضحاً أنها تسأل عن الطاولة، رفعت عنقها بشموخ تنظر حيث أشار النادل، تحركت باتجاهه وشالها الحريري العنّابي الملتف حول رقبتها يتراقص على جنبيها بجاذبية مع نسمات الهواء، أشاح هاشم بوجهه وقد أبهره جمالها الذي جعل كل جسده في حالة استنفار، لم يتوقع أن تكون أجمل وأبهى في الواقع من صورها المنتشرة على أغلفة المجلات ولوحات الإعلانات في الطرقات.
أخذ يدخن سيجارته بعناية فائقة محاولاً التركيز على لقائه المرتقب معها.

انتصبت أمامه بأنوثتها الكاملة... ظل ساكناً لم يتحرك وقوفاً ليستقبلها، وجد نفسه شبه مقيد عندما تناهى له صوتها العذب الذي يعشقه.
- مساء الخير سيد عاصم .

بقيت واقفة تنتظر بابتسامة ساخرة وقد تذكرت كيف أن حضورها أربك أهم الرجال الذين التقت بهم.

بثقة أزاحت الكرسي تستعد للجلوس، لكنها في الحقيقة كانت تشعر أن رجليها لا تقويان على الوقوف أكثر.

نهض بقامته الفارعة يخفي ذهوله من حضورها الطاغي قائلاً:
- مساء الخير عذراً.. هل تسمحين لي؟

أشار إلى الكرسي الذي سحبه ودعاها إلى الجلوس وبداخله يؤنب نفسه هامساً في قلبه "كان يجب أن أصافحها".
جلس مكانه وبسرعة سألها:
- ماذا تشربين؟
- لا شيء شكراً.
صوبت عليه نظراتها تتفحصه، لم يكن سيء الشكل بل اعترفت لنفسها أنه رجل ثلاثيني وسيم وقمة في الأناقة..

- هل تدخنين؟
رفعت عينيها عن علبة السجائر التي فتحها أمامها، حدّقت به للحظات..
- أنا لا أدخن.. المذيعة عليها أن ترعى صوتها وتحميه.

علت فوق شفتيه ابتسامة ساخرة قائلاً بتهكم:
- هل المشروب يؤثر أيضاً على صوت المذيعة.

همّ أن يشعل سيجارته، لكن يده علقت في الهواء عندما أجابت:
- لا أشرب الكحول.. لا أدخن ولا أعاقر الخمر.. عشتُ حياتي أعرف كل شيء عن المجون لكني لا أتعرف عليه ولا أعترف به.

كبس هاشم على الولاعة الذهبية يشعل سيجارته وقد فهم ما تقصد بكلماتها الانتقامية حيث تتهمه بممارسة المجون وانحطاط الأخلاق.
- أخطأ من قال العبارة الشهيرة كوني جميلة واصمتي.

شَرِقَت بانفعال وراحت تسعل، لم تفهم مغزى كلماته، هل أراد المديح أم الإهانة؟..

تحرك بسرعة ورفع بيده كوب الماء قائلاً:
- من فضلك اشربي قليلاً.

رأته يقف منحنياً بكل قامته فأومأت بإحراج وتوتر مما أصابها ودعته للجلوس.
ظل للحظات صامتاً يتلهى بإطفاء سيجارته في المنفضة. متسائلاً " أين وقاره وثقل أفكاره وتراكم خبراته وشهاداته العلمية وتجاربه ؟؟؟ ماذا تفعل به هذه القاتلة؟!".

ارتشفت القليل من كأس الماء واستعادت جرأتها، مدت يدها ممسكة بأصابعها الرقيقة الناعمة ولاعته الذهبية الملقاة فوق الطاولة الفاصلة بينهما، ضغطت على زرَّ النار فلمع وهج اللهب مع بريق أظافرها المطلية بلون عنّابي، همست:

- هل كان عليك أن تعاملني بكل تلك القسوة في حملتك الإعلانية ضدي وتهديدي باتصالك الهاتفي منتحلاً اِسم عاصم لترغمني على قبول لقاءك؟

أرخت خدها على كفَّ يدها، بانت في مشهد جمالي خرافي، سمعته يقول:
- تجذبني الألغاز لأن مهمتي كشفها وتعرية الحقيقة.. لكني لم أنتحل اسم عاصم فكما تعلمين المشاهير ونجوم الأضواء يشتهرون بأسماء مستعارة حيث يستبدلون الاسم الذي يحملون بالوثائق الرسمية وأحيانا يصل بهم الأمر إلى نسيان الاسم الحقيقي يا آنسة جوري.

ارتدت بذهول إلى ظهر المقعد، استطاع أن يرسم بوجهها أمارات الارتياع والصدمة، سألته بحذر:
- ماذا تريد هاشم جلال؟.

وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة الحاسمة وسؤالها المتوقع، أجابها بجدية:
- اقرئي هذا الملف وقرري بنفسك.
رفع إليها الملف ذا الغلاف الأسود الحالك، ارتجفت يدها مترددة عندما أخذته منه ينتابها شعور بأن ما ستقرأ لن يرضيها.

اختفت الدماء من وجهها وهي تشهد بعينيها كابوس حياتها مع تقليبها الصفحات برعب فاق الحد، رفرفت رموشها بتوتر وزاغ بصرها، لم تعد ترى شيئاً سوى الماضي الراكض أمامها.. تسرب صوته يسألها بخبث:
- ما رأيك؟

خرج صوتها خافتاً مخنوقاً:
- كيف حصلت على هذه المعلومات؟

اعترتها رجفة من نظرة الازدراء بعينيه:
- ليست مجرد معلومات بل واقع ماضيك الوسخ.

ارتدت رأسها للوراء كأنها تلقت ضربة قوية، تمنت لو تبتعد أو تهرب بأقصى سرعة من هذا الكابوس.

راح عقلها يعمل مفتشاً عن طريقة تنقذ نفسها:
- ما دمت لم تنشر محتوى الملف الذي أجهل اسم من سربه لك فهذا يعني أنك تفاوض مقابل صمتك.. ماذا تريد ثمناً بديلاً عن سكوتك؟

همس بصوت خافت لكنه واضح وقوي:
- هذا المكان لا يناسب الحديث.. ما رأيك ان نكمل اللقاء في جناح خاص بالفندق.

" حقير .. وقح ذو نزوات حيوانية " عضت شفتيها بقوة حتى أدمتهما وذاقت طعم دمائها، كبحت نفسها من إلقاء أقبح النعوت والإهانات في وجهه.

عبّئت رئتيها بالهواء وضبطت أعصابها بقوة حتى لا تتصرف بأي حماقة تجعل منه أضحوكة فيما لو رشقت وجهه بكأس الشراب الذي أمامه على الطاولة.

ابتلعت ريقها بصعوبة ورمقت الملف الأسود بلمحة خاطفة، شحذت دهائها مفكرة سريعاً بالطريقة التي تعالج بها الموقف المتأزم...

رفعت وجهها بنظرة مفعمة بالأنوثة تسحر أشد الرجال، قالت بنعومة ملساء كاذبة:
- لدي موعد هام بعد قليل.. لنؤجل اللقاء للغد.

ابتسامة خفيفة لاحت على وجهه رافقت صوته الهادئ:
- كما تشائين ...

تنهدت بارتياح غير مصدقة ما تسمع، همت بالنهوض وقد ربحت جولة الوقت لتحلق في أول طائرة تتجه بها إلى كندا حيث يقيم أخوها وائل.
لكنها عادت وسقطت بانهيار فوق المقعد وقد فغرت فمها وتبخرت أمالها عندما تابع بهدوء مميت:
- غداً صباحاً سأرسل لك نسخة من الجريدة حيث ستزين صفحتها الرئيسية صورك الجميلة وأخبار فضائحك.

كل ما حولها تحول إلى خيالات، أمواج ضبابية غلفت ذهنها من خلالها شعرت بآلاف العيون تتأملها باحتقار، تشير لها بلوم واستنكار.
لو نشر هاشم جلال ما يحتويه الملف الأسود ستكون محط شماتة الكثيرين وتغرق في مستنقع الذل وملاحقة القانون ويلف حول رقبتها حبل المشنقة.

أغمضت عينيها بقوة تخفي ألمها، غمغمت بضعف واختناق تسأله:
- ما رقم الغرفة؟


********************************


أغلق هاشم باب غرفة الفندق بهدوء، استبد الجزع بكيان ناي، أشعل سيجارته بيد ثابتة، وأخذ يذرع الغرفة ذهاباً وإيابا ينظر إليها بعينين ضيقتين بازدراء كأنها حشرة. سألها ببرود مخفياً انزعاجه من منظرها المثير للشفقة:
- لِمَ تبكين الآن؟
لم تشاء الرد عليه، براكين الغضب انفجرت من عينيها بالدموع، انتصب أمامها كقلعة حجرية قائلاً بجفاء وقسوة:

- كيف يمكن لي أن أصدق دموعك وأنتِ أنثى تُجيدين توليف شخصيتك على قاعدة ما تراه مرغوباً لدى الرجال.

جرحتها كلماته في صميم قلبها، هذا الرجل الانتهازي الحقير الذي يدعي عشق صوتها يظنها ساقطة!.. ازدردت ريقها الجاف وتمتمت بسخرية مريرة:
- لا بأس نحن النساء علينا في كل مرة نصادق رجل أن نعتبرها المرة الأولى حرصاً على رغبات الرجل الشرقي الذي يفضل ذلك.

ضغطت أصابعه على سيجارته يكاد يحطمها، بدا مرتبك كما لو باغتته بما لم يتوقع:
- هل تقولين أنك... ؟ لا .. مستحيل..
أردف قائلاً باستهزاء:
- لن أصدقك فحياتك كلها مبنية على الأكاذيب.

أدركت أنه لن يتفهم وضعها لقد بنى حولها فكرة مقيتة وقاتمة من محتوى الملف الأسود، لكنها قررت أن تصمد أمامه:
- مليون ... سأعطيك مليون .
هذا ما انبثق عنه عقلها تلك اللحظة للخروج من المأزق، هي لا تملك المبلغ لكنها نطقت بالرقم دون وعي.
راقبها بهدوء عاقد الحاجبين:
- تملكين شيء أخر يقنعني. أوليس هكذا أصبحتِ من الأثرياء وجمعتِِ الملايين.

تمنت لو تغرز أظافرها في عينيه، أعجبتها فكرة اقتلاعهما من محجريهما عندما راح يعريها بنظراته الوقحة.


- لن انصاع لتنفيذ رغباتك الحيوانية ونزواتك القذرة.. إذا ظننت أنني قد أفرط في نفسي تكون مخطئا.

تلاقت نظراتهما بتحدٍ، أردفت وهي تكز على أسنانها بتصميم تتوعد:
- إذا اقتربت مني خطوة واحدة لن أتردد بارتكاب جريمة قتل ثانية.

حدّق بها بنظرة حائرة، دموعها تنهمر على وجنتيها وتجاهد في سبيل إيقافها، ترفع يدها المرتعشة وتمسحها سريعاً بذقن مرتفعة بشموخ وكبرياء..

كاد يرق قلبه لوضعها، لكنه وجد نفسه يقول:
- لستِ في موقع يتيح لك التهديد بقتلي.

همست بانكسار وضعف بعينين زائغتين محدقتين بالفراغ:
- لا أهدد بقتلك...

اندفعت بجنون بحذائها ذو الكعب العالي إلى النافذة العريضة، فتحت واجهتها بكل قوتها، هبت الرياح تُراقص الستائر وتتطاير بكل الاتجاهات، صاحت بيأس وهستيريا:
- سأقتل نفسي.

حاولت أن تصعد لحافة النافذة الواسعة وترمي جسدها من الطابق الخامس عشر لتسقط في الهاوية..

*********************************

نهاية الفصل الثاني
انتظر تعليقاتكم بشغف فلا تحرموني منها