عرض مشاركة واحدة
قديم 28-05-15, 10:45 AM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





الجزء التاسع






كانت تتنفس باضطراب و هي تزيح المناديل الورقية البيضاء برفق لتظهر بقايا الكراس المتفحمة... تجمعت الدموع في عينيها من جديد و هي تحاول أن لا تتفتت قطع الورق بين أصابعها قبل أن تطالع ما فيها من كلمات متناثرة يحيطها السواد و قد صار حبرها ضبابيا بمفعول الحرارة... لم تجد أثرا للصفحات الأولى التي رأتها في المرة الماضية. تنهدت في حزن، فقد كان الكراس بين يديها، و كان بإمكانها أن تقرأ كل شيء... كل شيء، دون أن يحس فراس أو يعلم!

عضت على شفتها السفلى في أسى... هل ندمت؟ لا... فهي في نهاية المطاف لم تفعل إلا أن طبقت مبادئها التي رباها عليها والدها و غرسها في نفسها... كم من المواقف أشعرتها بأن مبادئها تلك أكل عليها الدهر و شرب و لم يعد لها مكان في المجتمع الحديث المتحضر! و هذا موقف آخر... هزت رأسها في عنف لتطرد تلك الأفكار السخيفة... لا، لن يزعزع ثقتها...

حارت عيناها بين الكلمات المبعثرة التي ترقص على الورق أمامها... و لا جملة كاملة! استمرت في تقليب الصفحات، و الألم يعتصر قلبها، و الأمل يتراجع في داخلها. لكنها أخيرا عثرت على صفحة نصف محترقة! فلننظر إلى النصف الملآن من الكأس... بقي النصف السليم من الصفحة... التهمت عيناها الكلمات التهاما، كأنها تخاف أن تتبخر هي الأخرى... أنهت الأسطر القليلة و هي تلهث. لبثت تطالعها و الصدمة جلية على ملامحها... عادت لتقرأها بتأن و هدوء... و هي تتمعن في كل كلمة و كل حرف... و هي تحس بأنفاسها توشك على الانقطاع من وقع ما قرأت... و دقات قلبها تضرب صدرها بعنف...

"... لست مضطرا إلى تحمل أخطائي و لا إلى تحمل مسؤولية زلاتي... أفضل مائة مرة أن تعاملني أمام الناس كما تظن أنني أستحق، على أن أتحمل لطفك و دفاعك المزيف أمام خالي و بقية أفراد العائلة... لكن معك حق، فشخص مثلي لا أمل له في الحياة... كان يجب أن أموت معها، ليتها لم ترحل و تتركني وحيدة..."

رفعت عينيها في دهشة... ما الذي فعلته يا حنان حتى يعاقبك فراس... عقابا يخفي حقيقته عن العيون؟ و ماذا عن شبح الموت الذي تناجيه حنان في رسائلها؟ لا شك أنها تتحدث عن وفاة نجاة، والدتهما...
عادت إلى الكراس الصغير، و بأصابع مرتجفة، قلبت الصفحة...

"... أعلم أنك تحتقرني، بل تكرهني... و لا تحتمل حتى النظر في وجهي. لكنني لم أعد أحتمل إهاناتك المستمرة و نظراتك السامة التي تطالعني بها كلما صرنا بمفردنا... ليتك تضربني، على الأقل كنت لأرى علامات على جسدي تثبت لي قسوتك و دناءتك... بل ليتك أنهيت معاناتي في تلك الليلة، ليت قبضتك التي اعتصرت عنقي أخمدت أنفاسي مرة واحدة و إلى الأبد. لماذا أبقيت على حياتي؟ لتقتلني كل يوم ألف مرة؟ الحياة معك بهذا الشكل عذاب لا يطاق، بل لم أتوقع أن مثل هذا العذاب قد يوجد..."

ألا تزال تخاطب فراس في رسالتها؟ هو نفسه... "عزيزي فراس"، و "أنا ممتنة لك"؟ حياتها معه عذاب؟ حياتهما معا التي لم تستمر سوى أشهر قليلة!!! أي نوع من الأزواج كانا؟ إهانات و نظرات سامة... و ماذا بعد؟ رأت ليلى شريط الأحداث يتقدم بسرعة أمام عينيها... عذاب حنان... قسوة فراس... الضحية... و الجلاد... توالت المشاهد أمام عينيها كأنها شهدتها، أو ربما كانت ترى نفسها مكان حنان، تحس ما أحسته، و تطالع فراس بعينين خامدتين، قد ودعتا الحياة... لماذا، يا فراس... لماذا؟ توقف الشريط عند مشهد النهاية... انهيار، يأس، انتحار... أم تراه غير ذلك؟ عادت إليها شكوك سحر... أخذت فرائصها ترتعد، و سالت دموعها على وجنتيها دون وعي منها...

كل تلك الأفكار التي هاجمت عقلها في لحظة واحدة كانت أقوى مما تستطيع احتماله، هي، ليلى القوية... ليلى الصامدة، التي عاشت الطفولة و المراهقة شبه وحيدة و تعلمت أن تحبس دموعها و تبتلعها... راحت تبكي بحرقة، و أخذت أنفاسها تتسارع، و علت شهقاتها لتملأ فراغ الغرفة... التي كانت زرقاء... الغرفة التي شهدت المأساة... مأساة توأمها التي لم تعرفها! لم تكن قد استوعبت بعد أنها قد انتحرت، حتى وجدت نفسها هنا... و هنا فقط، في مسرح الأحداث، تحركت أشياء في داخلها... طفت الصدمة من جديد على السطح، حين تخيلت نفسها مكانها... بل حين استوعب عقلها بشاعة مصيرها... كانت في البداية تعاين الأحداث كأنها لا تعنيها، كقصة غريبة، عن شخص غريب، ترويها شفاه غريبة... لكنها الآن معنية أكثر من أي لحظة مضت... إنها الآن هنا... أصبحت مسؤولة دون أن تدري عن كشف الحقيقة... فأين المفر؟

لكن ما أرعبها و عبث بنسق دقات قلبها، هو شكها، الذي بات يقينا، بأن لفراس يدا فيما حصل لحنان! سواء كان ذلك بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فهو الذي دفعها إلى الانهيار... يقتلها في اليوم ألف مرة؟ فراس الذي كانت بالأمس تعطف عليه و ترغب في مواساته... ماذا صارت تحس تجاهه الآن؟ تذكرت نظراته النارية القاسية... تجهمه، عبوسه و غضبه... كان يعاملها بتلك الطريقة طوال الوقت... و هي زوجته؟!

"... حين أفكر بأن حياتنا معا قد تستمر طويلا، يصيبني الغثيان! ليتك فقط تفي بوعدك و تريحني من هذا العناء... لم يعد هناك الكثير، و قريبا... قريبا أخرج من هذا الكابوس..."

أحست بدوار يلم بها، يعصف بدماغها... أراحت رأسها على خلفية السرير... لا تستطيع أن تركز، التفكير يرهقها، يتلف أعصابها... لا تريد أن تصل إلى نتائج مرعبة... كيف غابت تلك الحقائق عن الجميع، و كيف نامت المأساة بين طيات المفكرة المفقودة طول السنين الماضية، لتأتي هي بصدفة...لا، بل بتقدير القادر... لتكشف الستار...

اكتئاب الحمل؟!! أطلقت ضحكة صغيرة ساخرة... من تراه صاحب الكذبة السخيفة؟ هل هو أنت... فراس؟

لكن هناك حلقة مفقودة... كلام حنان لا يزال غامضا... ماهي الأسباب التي أدت إلى تدهور العلاقة بينهما إلى تلك الدرجة؟ بل كيف كانت العلاقة قبل زواجهما؟ و ماهي الظروف إلى أدت بهما إلى الزواج؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات... و فورا!

عادت لتبحث من جديد بين قطع الرماد... تبحث عن دافع، تفسير، تبرير منطقي لما حصل... فراس كان بلا شك على علم بما ورد في الكراس، لذلك حاول التخلص منه، رماه في المحرقة... طريقة الإعدام في القرون الوسطى! أراد إعدام الدليل... الشاهد الوحيد على قيد الحياة على ماضيه الأسود مع حنان... لم يكن يريدها أن تدخل الغرفة منذ البداية... كان خائفا من الحقيقة، خائفا من أن تعثر على دليل يدينه، خاصة و هو يعلم بوجود هذا الدليل... لكنه لا يعلم أين أخفته يد حنان الصغيرة عن العيون...

كانت الأفكار التي تدور في رأسها كلها سوداء... و المفكرة التي بين يديها سوداء... و أصابعها تلطخت بالفحم الأسود... رفعت رأسها، فاصطدمت بصورتها التي انعكست على المرآة المقابلة... كانت هالات سوداء، ظهرت فجأة، تحيط بعينيها. هالها شكلها... ملامحها غائرة، و العرق يملأ وجهها... تابعت قراءتها في صفحة أخرى، نجا جزء منها من المحرقة :

"لم أحس يوما بالانتماء... إلى عائلة... عائلة تغمرني بحنانها و أشعر بالدفء بين أفرادها... و كان حلمي بالزواج هو حلم كل فتاة مراهقة في سني، الفارس الشهم على فرس أبيض، حب و سعادة و شهر عسل... لكن الحقيقة كانت مختلفة كل الاختلاف... لا عائلة، لا حب... و حتى شهر العسل حرمتني منه! و لكنني لا ألقي باللائمة عليك، فأنا التي وافقت على جميع شروطك، و ظننت أنني الرابحة في الصفقة! ظننت أنني قد..."

وقفت ليلى أمام الجملة المبتورة، التي احترقت نهايتها، في حيرة، تحاول أن تصل إلى ما وراءها... صفقة؟ شروط؟ بينهما عقد... لكن يبدو أنه عقد من نوع آخر!! بدأت الصورة تتضح في ذهنها، نوعا ما... صورة الزواج الغريب الذي جمع أختها بابن خالها... مصالح مشتركة... ثم؟
يبدو أن أحد الطرفين أخل ببند من بنود العقد! ابتسمت في سخرية و في حلقها طعم مرارة... الزواج، العقد... الرباط المقدس... لم يكن سوى مهزلة... ترددت في رأسها نصوص القانون التي درستها وحفظتها عن ظهر قلب طوال السنين الماضية... العقود... "القانون لا يحمي المغفلين!"... هل كانت حنان مغفلة؟

"... أمامك خياران... أن تقتلني، أو أن تتركني أقتل نفسي... لكنني في كلتا الحالتين أحملك المسؤولية... و سأترك كل الأدلة ضدك! لست أطلب إذنك، و لكنني أتمنى أن أرى وجهك بعد رحيلي... بعد أن أكون قد حققت خطتي وحدي، و تمردت على رغباتك... فلست نادمة على شيء بقدر ما أنا نادمة على انصياعي لك..."

لم تعد تحتمل، تشويش طغى على أفكارها... انقطع الإرسال... أراحت رأسها على الوسادة و هي تحس بتعب عقلي و نفسي و جسدي في آن... أرسلت تنهيدة حرى، و ارتخت عضلاتها... متعبة... لم تدر كم مر عليها من الوقت و هي في تلك الوضعية، تصارع الهواجس و الكوابيس...

فجأة، ارتفعت دقات عميقة... لم تكن في رأسها، بل على باب الغرفة. بالكاد استطاعت أن ترفع رأسها قليلا و تهمس بصوت شبه مسموع : من هناك؟

سمعت أصواتا و لغطا في الخارج، ثم فتح الباب و اقتربت منها الأقدام. سارعت إليها منال و هي تهتف في قلق :
ـ ليلى هل أنت بخير؟

هزتها من كتفيها و تلمست وجهها المبلل بالعرق و هتفت من جديد :
ـ أنت محمومة! يجب أن يراك طبيب... سارة أرجوك، استدعي فراس فورا...

ما إن سمعت اسمه حتى فتحت عينيها رغم الضعف الذي سرى في أوصالها و هتفت في رعب :
ـ لا... لا أريد!

توقفت سارة في تردد، فحثتها منال على الذهاب بنظرة من عينيها و إشارة برأسها، ثم التفتت إلى ليلى و هي تهمس في حنان :
ـ لا تكوني طفلة... أنت لا تخافين من الحقن، أليس كذلك؟

كانت تريد أن تصرخ... لا أريد طبيبا، لا أريد فراس! أرجوكم، لا تدعوه يقترب مني... لكن كلماتها بقيت محبوسة في حلقها... تحركت شفتاها ببطء، لكن صوتها لم يكن مسموعا... خارت قواها دفعة واحدة، فأغمضت عينيها و غابت عن العالم للحظات... لم تعد تشعر بشيء مما حولها... لكن الأصوات تتسلل إلى عقلها متداخلة و باهتة... ثم ظهر صوته ضبابيا و هو يهتف : "هل هي بخير؟ ..."
و ماهي إلا لحظات حتى راحت في نوم عميق...



حين استيقظت، كانت بمفردها في الغرفة... رفعت ذراعها في إعياء و تحسست جبينها. كانت لا تزال تحس بالدوار، لكن وجهها لم يعد ملتهبا... تذكرت ما حصل، منال و سارة في الغرفة... ثم...لا!!! فراس كان هنا! نعم كان هنا، إنها متأكدة... أحست بوجوده حولها رغم إغمائها، أنفاسه تبعث التوتر في الجو... استقامت في جلستها فجأة، و تلفتت حولها في ذعر... الكراس! أين هو؟ كان إلى جانبها حين أغمي عليها... دارت حول نفسها، قطعت الغرفة جيئة و ذهابا و هي تلقي بالأشياء حولها في جنون، تفتح الأدراج و تغلقها، تقلب اللحافات و قطع الملابس، تنحني لتلقي نظرة تحت قطع الأثاث... تمسك برأسها في ألم، و تعيد جولتها في الغرفة و أنفاسها تتردد بضعف في صدرها... لا تزال مريضة... تحس بوخزة الحقنة في ذراعها...

لا!!! مستحيل! لم يعد هنا... اختفى! حتى المناديل الورقية التي كانت تلفه اختفت هي الأخرى... بلا أدنى أثر! اختفى الدليل الأخير، ألقى به في محرقة أخرى ذاك... ذاك... ذاك الحقير! لم تكن الكلمة في قاموسها قبل اليوم، لم تجد في نفسها حاجة لاستعمالها. لكن اليوم... اليوم تشعر بالغضب يتطاير من جميع خلايا جسدها... كأن مشاعرها زجت داخل بوتقة تصهرها و تعيد تشكيلها... لم تكن تعرف الغضب و لا الكراهية... لكنها اليوم بركان ثائر... كأن حنان قذفت بحمم كلماتها إلى صدرها... و صارت تغلي في عروقها مشاعرها اليائسة و حقدها الدفين على فراس...

ألقت بنفسها على السرير ثانية و أخفت وجهها بين كفيها... لعل الدموع تطفئ لهيب بركان صدرها...
تناولت الهاتف بيدين مرتجفتين، حين جاءها الرد هتفت بصوت مخنوق من العبرة :
ـ سحر... النجدة!



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس