عرض مشاركة واحدة
قديم 25-12-15, 08:30 AM   #9

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل السابع: عودة للسماء الرحبة


في ذلك اليوم، وبعد عدة أيام من موت الملك عبّاد ودفنه في مقابر الملوك التي تقع قريبة من القصر الملكي، ازدانت المدينة كاملة استعداداً للاحتفال الكبير الذي لم تشهد مثله منذ عقود.. حفل تنصيب زياد ملكاً على عرش مملكة بني فارس العريقة..
كان زياد قد أمر بتجهيز حفل باذخ شديد الفخامة، ودعا إليه عدداً كبيراً من ملوك وأمراء الممالك الموالية لمملكة بني فارس.. كانت (الزهراء) تبدو أجمل مما هي عليه في العادة أضعافاً مضاعفة، ورائحتها تزهو بمئات اللترات من العطور التي رشّت في جوانبها مع بداية ذلك النهار..
وقد ظهر زياد في قاعة العرش مرتدياً زيّاً ذهبي اللون بتطريزات تمثل الأسد وهو شعار هذه المملكة، وهو يزهو بثيابه وبالتاج الذي قام رئيس الوزراء بوضعه على رأسه في احتفالية خاصة وبالطقوس التي مارسها الملوك السابقون نفسها.. بينما تنافس الأمراء ومبعوثي الممالك الموالية لتهنئته والمباركة ببدء هذا العهد الجديد للمملكة.. ولم يكن أسعد من زياد، إلا الملكة سليمة التي جلست على كرسيها قرب كرسي العرش وهي تبتسم بفخر واعتزاز وكأن الاحتفال كان لها هي.. ولم يعكر صفوها إلا رؤية نوران التي وقفت في جانب القاعة دامعة العينين بعد أن بلغتها أنباء اختطاف رنيم عند وصولها للزهراء لحضور الاحتفال.. ما الذي يجعل تلك الحمقاء تبكي على فتاة مثل رنيم؟.. كان عليها أن تظهر سعادتها وحبورها في يوم كهذا..
وبعد عدة ساعات، وقد انفضت أغلب الجموع التي شهدت حفل التنصيب، اقترب الوزير حارث من زياد مهنئاً.. ثم بعد بعض التردد قال بصوت خفيض "مولاي.. ما الذي يمكننا إبلاغه للملك قصيّ بشأن ابنته التي اختفت من القصر؟"
لوّح زياد بيده قائلاً "غير مهم.. لا تقل له أي شيء.."
قال حارث بحيرة "كيف يمكنني ذلك؟.. لابد أن يعلم بما جرى فهي ابنته وهو قد أمّننا إياها.. لو علم بأن الهوت قد اختطفوها فسوف......."
قال زياد بحدة "أأنت مجنون؟.. أتريد أن تعلم الممالك كلها أن أولئك التافهين قد تمكنوا من التسلل للقصر واختطاف أميرة منه والهرب دون أن نتمكن من القبض عليهم؟.. ستسقط هيبة مملكتنا، وسنجد أن الممالك كلها قد أرسلت من يقتحم قصرنا هذا دون وجل.."
قال حارث بضيق وحيرة "أدرك ذلك طبعاً يا مولاي.. لكن مملكة بني غياث قد أرسلت مبعوثاً لتهنئتكم بجلوسكم على العرش.. ألن يثير اختفاء ابنة قصيّ من القصر ريبته؟"
تراجع زياد في كرسيه قائلاً بصرامة "لا عليك من هذا الأمر.. سأتولى أنا صياغة رسالة خاصة موجهة للملك قصيّ وسأرسلها مع مبعوثه.. وسأشرح فيها كل شيء.."
تساءل حارث بشيء من القلق "إذن، كيف ستفسر غياب الأميرة رنيم من قصركم يا مولاي؟"
ابتسم زياد ابتسامة ساخرة وقال "سأبلغه أن ابنته المصون قد هربت من القصر مع أحد الحرس.. هذا هو التفسير الوحيد الذي سيحفظ ماء وجهنا وسيجنّب المملكة مغبّة معرفته بالحقيقة.. هكذا، لن يسعى الملك خلف تلك الفتاة ولن يستنكر اختفاءها من القصر أو يتهمنا بالتهاون في حمايتها.."
لم يعترض حارث وهو مدرك أن ذلك لن يجدي نفعاً، بل انحنى مهنئاً للمرة الثانية، واستدار مبتعداً تاركاً زياد يبتسم ابتسامة واسعة وهو يتأمل أصابعه ذات الخواتم الذهبية التي لا تقدر بثمن.. لقد جاءته هجمة الهوت من حيث لا يحتسب، ومنحته أجمل تغيير تمناه في حياته.. تخلص من تلك الفتاة التافهة، وأصبح الملك في غمضة عين.. كيف يمكن للحياة أن تكون أفضل من هذا؟..


*********************
أمضت رنيم عدة أيام وهي تغادر مع آرجان قرب الفجر للعناية بالتنين.. في الواقع، لم يسمح لها آرجان إلا بالقيام بالقليل التافه من الأعمال، ولم يكن يعترض حتى عندما تتركه وتجول في المنطقة متفحصة بصمت.. بدأت تتآلف بعض الشيء مع التنين، الذي يطلق عليه آرجان اسم كاجا ويعني السماء بلغة الهوت، وبدأت تقترب منه دون خوف أو ذعر وهي تربت على رأسه وتمسح رقبته بشيء من الألفة.. على الأقل، في هذا الوقت القصير الذي تنشغل فيه بهذا العمل، ينشغل عقلها عن أفكاره البائسة وعن الحسرة والندم الذي يلاحقها في كل لحظة وحين.. ماذا لو أنها قبلت عرض كاينا في ذلك اليوم ورحلت قبل مغيب شمسه وقبل بدء تلك الليلة المشؤومة؟.. ماذا لو.......؟.. لكنها سرعان ما تطرح تلك الفكرة من عقلها وتحاول التفكير في أي أمر آخر..
ومع كل لحظة تمضي، تكتشف رنيم أن التنانين لا تختلف كثيراً عن أي حيوان أليف آخر.. لها مظهر مرعب، ولها تصرفات تثير ذعر الآخرين، لكنها تستجيب للطف البشر بسهولة تامة ويمكن كسبها بتفاحة صغيرة..
لاحظت أيضاً أن آرجان يشبه التنين الذي يملكه شبهاً تاماً.. له مظهر مرعب، ويثير ذعرها بصوته الخشن، لكنه يخفي لطفاً واهتماماً بها وبالآخرين خلف مظهره الجلف هذا.. لقد دأب على النهوض أبكر من المعتاد والخروج في هذا البرد القارس للعناية بالتنين لتستغل رنيم الفرصة للخروج من سجنها الخانق دون أن تواجه غضب أهل القرية.. وهي تشكر له مراعاته تلك رغم أنها لا تنسى أنه مختطفها.. لكن ما يهمها أنه لم يسيء إليها بقول أو فعل منذ اختطفها، وهذا يدل على أنه لا يحمل نوايا خبيثة تجاهها..
بعد تلك الأيام، فإن آرجان قد تركها تعود للمنزل وحيدة دون رقابة بثقة تامة لم تتعجب لها.. فكما أدركت رنيم أن هربها مستحيل، كان آرجان واثقاً من ذلك ثقة تامة.. ولولا خشيته من رد فعل الهوت لرؤيتها لتركها تجول بحرية في القرية..
وبعد عودتها، فإنها تبقى طليقة في المنزل لكن وحيدة مع اختفاء آرجان أغلب ساعات النهار.. ومما علمته من كاينا أنه يغادر لقرى الهوت الأخرى بشكل شبه يومي دون أن تفصح لها عن سبب ذلك..
وفي أحد الأيام، وفيما كانت رنيم تهمّ بالعودة لمنزل آرجان قبل انبلاج الفجر بقليل، سمعته يقول للتنين "هيا بنا يا صاحبي.. علينا الرحيل باكراً هذه المرة فالطريق طويل.."
استدارت رنيم باهتمام ووقفت تراقبهما وآرجان يثبت السرج على ظهر التنين بإحكام ويضع الشكيمة المعدنية في فمه بعد شيء من الممانعة من جانب كاجا.. ولما انتبه آرجان لرنيم التي تراقبه عن كثب، تساءل بدهشة "ما الذي يبقيك هنا حتى الآن؟.."
فركت رنيم كفيها دون أن تجيبه.. فقال وهو يتأكد من ثبات السرج "أخبرتك ألا تكتمي ما برأسك من......"
اندفعت تقول قبل أن يتم حديثه "هل تسمح لي بالركوب معك في جولة قصيرة؟.."
قال آرجان بدهشة "لماذا؟.."
قالت بارتباك "أحب تجربة ذلك مرة أخرى.. في المرة الماضية أعجزني خوفي عن الاستمتاع بتجربة استثنائية كهذه.. وقد لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى.."
غمغم بابتسامة "ألا تخططين لأي أمر آخر؟.."
هتفت بإخلاص "قطعاً لا.."
ضحك آرجان لردها المنفعل، ثم قال "حسناً.. أعتقد أنك تستحقين ذلك.."
امتطى ظهر التنين المرتفع بكل مهارة، ثم انحنى ومد يده لها فتقدمت بعد شيء من التردد وتمسكت بيده لتجده يرفعها بكل سهولة.. وعوضاً عن أن يردفها خلفه، أجلسها أمامه ومد يده باللجام إليها قائلاً "ما رأيك بأن تتولي توجيه كاجا بنفسك؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهتفت "هل ستسمح لي بذلك؟"
لوّح بإصبعه مجيباً "لمرة واحدة فقط.."
أمسكت رنيم اللجام بيدين ترتجفان لشدة انفعالها، وشعرت بتململ التنين وهو يحرك جناحيه ويطوّح ذيله بانتظار أمر منها.. وقبل أن تتجرأ على جذب العنان والسماح للتنين بالطيران عالياً، فإنها مدت يدها وربتت على رقبته القريبة منها هامسة "سأكون تحت رحمتك في اللحظات القادمة.. فكن رفيقاً بي يا كاجا.. اتفقنا؟"
هز كاجا رأسه بقوة وهو يرفع بصره للسماء، عندها هزت رنيم اللجام ولكزت التنين في بطنه متبعة تعليمات آرجان.. وبخفة، إنما بقوة وسرعة، ارتفع كاجا نحو السماء مرفرفاً بجناحيه بقوة بينما تحاول رنيم توجيهه بشيء من الصعوبة.. لم تكن تستطيع الإمساك باللجام وتسيير التنين دون التشبث بالسرج، ولولا أن آرجان قام بتثبيتها بإمساك كتفها بيده، لسقطت من فوق ظهر التنين من اللحظة الأولى مع حركته العنيفة..
سمعت آرجان يقول لها "لو شعرتِ ببرد شديد أخبريني لكي أعيدك للأرض.."
لكنها لم تجبه وهي منشغلة بما تمر به.. ولشدة انفعالها فإنها شعرت بلهيب في أعماقها ولم تكد تشعر بالبرد القارس الذي لسع خديها.. كان التنين يرتفع بكل سلاسة وسرعة متجاوزاً قمة جبل قريب قبل أن يرتفع عالياً في دورة واسعة حول القرية معتمداً على الرياح القوية ومكتفياً برفة جناح بين فينة وأخرى.. نظرت رنيم للموقع الذي بدأ الظلام يهرب منه مع تزايد النور في الأفق، بينما التهبت الألوان بشدة في ذلك الموقع دليلاً على قرب شروق الشمس.. كانت الرياح القوية تحمل لها رائحة منعشة رغم برودتها الشديدة، وبينما مال التنين متفادياً بعض جوانب الجبل القريب، فإن رنيم أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر بالهواء يضرب خديها بقوة.. وبمعاونة صغيرة من آرجان الذي استمر في تعليمها كيفية التحكم بالتنين دون أن تسمح له بالطيران برعونة قد تسقطهما من على ظهره، فإن رنيم قادت التنين عبر القمم القريبة بشيء من الانطلاق رغم أن هذه هي محاولتها الأولى..
وبعد عدة دقائق من الطيران بكل حرية، فإن آرجان ربت على كتفها قائلاً "لنعد للأرض.. ستتجمدين من البرد.."
غمغمت رنيم بشيء من الإحباط "لن يحدث هذا.."
فقال وهو يشد عنان التنين "بل أنا من سيتجمد من البرد.. والآن، وجّهي التنين للهبوط واضغطي على بطنه بقدميك برفق.."
فعلت رنيم ما طلبه منها والتنين يهبط بهما بدورة واسعة حتى عاد لموقعه السابق في جانب من ذلك الجبل.. وبعد هبوطهم بسلاسة، بقيت رنيم في موقعها وهي تلهث بشدة وكأنها بذلت مجهوداً عنيفاً.. إنما كانت تلك مشاعر قوية غمرتها وجعلتها مشدوهة منفعلة بشدة بحيث عجزت عن التعبير عما تحسّ به في تلك اللحظات.. وإزاء صمتها، قال آرجان وهو يترجل "يبدو أن ما رأيته كان صدمة لك.. أتمنى ألا تراودك الكوابيس مع كل هذا الانفعال.."
وساعدها على الترجل بدورها، وفور أن لامست الأرض بدا أن العقدة التي كانت تربط لسانها قد انفكّت وهي تهتف "أأنت تمزح؟.. هذا أجمل من أي حلم حلمت به في حياتي.."
نظر لعينيها اللامعتين رافعاً حاجبيه بتعجب، بينما ابتسمت رنيم ابتسامة مشرقة وهي تقول بانفعال "أشكرك كثيراً على هذه الفرصة التي أتحتها لي.. رغم كل ما جرى، لن أنسى ما رأيته اليوم بقية حياتي.."
أدار آرجان بصره للتنين القريب هارباً من انفعالاتها الغامرة، ثم قال وقد انتبه لشروق الشمس الذي بدا واضحاً في الأفق "عليكِ الرحيل بسرعة.. أخشى أن يراك أحد الرجال ويحدث ما لا نرغب به.."
لم تعترض رنيم على ذلك وهي تستدير للتنين الذي أخذ يفتش عن مكافأته بعد رحلة كهذه.. فاقتربت منه رنيم دون وجل وأحاطت رأسه بذراعيها وهي تقول بابتسامة "شكراً لك يا كاجا.. أنت كائن رائع حقاً.."
دهش آرجان لرؤية كاجا مستسلماً لانفعالاتها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم وهي تبتعد خطوات "سأحضر لك مكافأتك في المرة القادمة.. فانتظرني.."
واستدارت مبتعدة بخطوات خفيفة غاب عنها ارتباكها المعهود وتوترها الدائم.. ربت آرجان على رأس كاجا الذي أخذ يزوم معترضاً على تجاهله، وراقب رنيم في ابتعادها مغمغماً "يبدو أننا قابلنا فتاة غير اعتيادية يا رفيقي.. إنها خيالية فوق ما يلزم.."
دفعه كاجا بشيء من الحنق لتجاهله حتى أسقطه في الجدول البارد القريب التي غمرته بمياهها الصقيعية مما جعل آرجان ينتفض بصدمة وهو يصيح "ما بك يا أحمق؟.. هل تريد قتلي؟"
أما رنيم، فقد سارت بخفة هابطة من ذلك الجانب من الجبل نحو منزل آرجان وابتسامة متسعة تتبدى على شفتيها.. شمّت الهواء البارد بعمق مستمتعة برائحة القرية القريبة، وتنهدت وهي ترفع بصرها للسماء.. من الصعب تصديق ما شعرت به وهي في الأعلى.. للمرة الأولى تشعر وتتيقن أن ذلك المكان الواسع هو موطنها.. هو المكان الذي لطالما حلمت به في خيالاتها وتمنت أن تكون فيه.. لو كان للبشر أن يعيشوا فوق الغيوم، فهي ستكون أول من يفعل ذلك بكل حماس.. وهي سعيدة لأنها قامت بهذه التجربة التي ستستعيد ذكراها بمتعة وحنين عند عودتها لذلك القصر البارد..
توقفت رنيم فجأة وهي تفكر بصمت.. تعود لذلك القصر؟.. لماذا؟.. ما الذي يجبرها على ذلك فعلاً؟.. عائلتها؟.. زوجها الذي لم تتزوجه بعد؟.. ما السبب الذي يجعلها تلحّ وتبكي للعودة لذلك القصر حقاً؟..
نفضت رنيم تلك الأفكار بشيء من القلق وهي تخطو خطوة نحو منزل آرجان، عندما توقفت من جديد لدى سماعها ذلك الأنين الخافت.. بدا خافتاً لدرجة أنها لم تسمعه إلا عندما توقفت عن السير.. تلفتت رنيم حولها بشيء من الدهشة، ثم سارت نحو ذلك الموقع الأقرب للصوت.. وهناك عند حافة عالية في ذلك المنحدر ومن فوق الصخور التي تميل بحدة نحو هاوية على شيء من الانخفاض، رأت رنيم ثوباً أزرق ملقىً على صخرة بارزة تعلو تلك الهاوية.. ولما دققت النظر فيه انتبهت لتلك اليدين اللتين برزتا من الثوب متشبثة بالصخرة وذلك الرأس بالشعر الأشقر الذي يصدر أنيناً خافتاً..
توترت رنيم لذلك المنظر وهي تصيح بصاحبه "أأنت بخير؟"
ثم انتبهت لحديثها بالعربية وهو ما لن يفهمه ذلك الصبي الذي لم يرفع رأسه تجاهها.. وقفت رنيم تتلفت بقلق شديد بحثاً عن آرجان، لكنه كان بعيداً عنها ولن يسمع نداءها لو فكرت بالاستعانة به.. كما أن الموقع حولها كان خالياً من أي بشري، فهل تترك الموقع وتذهب لمناداة آرجان؟.. لكنها لا تثق أن الصبي سيتمكن من الثبات على الصخرة لوقت طويل.. عندها غامرت رنيم بالشيء الوحيد الذي تستطيع فعله، فأسرعت تحلّ رباط ثوبها الذي كان على شيء من الطول وربطت طرفه في شجرة قريبة.. ثم حاولت أن تتدلى من الصخرة ونحو المنحدر ببطء متشبثة بالرباط.. أخذت تنقل خطواتها شيئاً فشيئاً ببطء شديد وقلق أشد.. لم تكن قد تجاوزت الصخرة بشكل مباشر عندما عجزت قدماها عن الثبات على الصخرة الملساء فانزلقت وهي تطلق صيحة فزع.. تشبثت بالرباط بكلتي يديها وهي تحاول الارتفاع من جديد دون نجاح يذكر، عندما شعرت بيد قوية وباردة كالصقيع ترفعها بسهولة حتى جلست على الأرض المستوية..
نظرت لآرجان الذي قال لها بحنق "ما الذي تفعلينه؟.. هل تنوين الانتحار؟"
غمغمت بشيء من الارتباك "هناك.. صبي.. في الأسفل.."
قال بضيق "لقد رأيته بالفعل.. لكن لمَ لمْ تناديني لأرفعه بنفسي؟.. سقوطك أنت سيكون أسوأ منه.."
قام بالهبوط بنفسه مستخدماً رباط ثوبها الذي لم يكن بالطول الكافي، لكن آرجان مد ذراعه الأخرى متشبثاً بالرباط بيد واحدة، وجذب الصبي من ملابسه حتى أحاطه بذراعه بقوة.. ثم هزه قائلاً "أيها الصبي.. أأنت مستيقظ؟.. تشبث بي كي أتمكن من الارتفاع بك للأعلى.."
ظل الصبي ساكناً للحظات، ولما هزه آرجان بشدة أكبر فتح الصبي عينيه، وقام بما طلبه أرجان وهو يتشبث بعنقه بكل ما يملك.. عندها عاد آرجان يرتفع حاملاً الصبي على ظهره وينقل خطواته بكل حذر حتى وصل لموضع رنيم التي حاولت مساعدته وجذبت الصبي من على ظهره..
وبينما جلس آرجان جانباً بشيء من التعب، فإن الصبي قد أغمض عينيه من جديد وبدا أنه قد غرق في غيبوبة ربما كانت ناتجة عن سقوطه العنيف.. نظرت رنيم لآرجان قائلة "شكراً لك.. كاد يلقى حتفه لو سقط في هذا المنحدر.."
انتبهت أن آرجان كان مغموراً بالمياه شديدة البرودة، فتساءلت بتعجب "هل ذهبت للاستحمام في هذا الجو الصقيعي؟"
قال آرجان بضيق وحنق "كفي عن هذه الملاحظات الساخرة.. سأذهب لاستبدال ملابسي.. يستحسن أن نحضر الصبي أيضاً للمنزل ولا يبقى في العراء.."
حمل الصبي عائداً للمنزل القريب مدمدماً "يبدو أن رحلة اليوم قد ألغيت مع كل هذا التأخير.."
تبعته رنيم بخطوات سريعة كاتمة ابتسامة وهي تراه يعطس باستمرار.. وفي المنزل، وضع آرجان الصبي على أحد المقاعد العريضة وسطه وغادر لاستبدال ملابسه بعد أن تجمدت أطرافه من البرد، بينما اقتربت رنيم مشفقة من الصبي وتفحصته محاولة معرفة إن كان قد أصيب بجرح خطير أو كسر في أحد عظامه.. لكنه كان سليماً مما جعلها تتنهد وتجلس بقربه بعد أن غطته بدثار جلبته من غرفتها..
بدا لها أن الصبي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بملامح بريئة وجسد ضئيل وقصير.. وبعد بعض الوقت، عندما فتح الصبي عيناه، قفز جالساً في موقعه قبل أن ينثني بألم ممسكاً خاصرته.. فقالت رنيم "اهدأ.. كانت سقطتك عنيفة وسيؤلمك جسدك لبعض الوقت.. لكنك خالٍ من أي كسور أو جراح والحمدلله.."
كانت واثقة أن ذلك الصبي لن يفهم ما تقوله، لكنها حاولت تطمينه بابتسامتها وبإشارة من يديها.. فنظر لها الفتى بتوجس، ثم قال "ما الذي فعلته بي؟"
رفعت رنيم حاجبيها وهي تسمعه يتحدث العربية بشيء من التشويه وإن كانت كلماته مفهومة.. فقالت بابتسامة "أنت تتحدث لغتي؟.. هذا رائع.. لكن، ما الذي تظن أنني فعلته بك؟.. لقد أنقذت حياتك.."
قطب الصبي بحدة وقال "أنقذت حياتي؟.. هراء.."
نظرت له بتعجب للغضب البادي على وجهه، ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت وبحدة أكبر "حتى لو أنقذت حياتي، فلا يمكنني شكرك أبداً.. أنت ستجلبين الوبال على قريتنا هذه.."
ضحكت رنيم لقوله وعلقت قائلة "ممن سمعت هذا القول؟.. لا تردد كل ما تسمعه كالببغاء.."
وربتت على رأسه عابثة بشعره قليلاً.. فلوح بذراعيه ليبعد يدها وهو يقول بحنق "أتهزئين بي؟"
لم تملك رنيم ابتسامتها وهي ترى تلك التصرفات المتكبرة من ذلك الصبي الضئيل، فسألته بلطف "ما هو اسمك؟.."
نظر لها بحدة تتجاوز عمره، ثم قال بكبرياء "الأسماء مقدسة لدى الهوت، لذلك لا يفشونها للغرباء بتاتاً.."
تظاهرت رنيم بالتفكير للحظة ثم قالت "هذا غريب.. أنا واثقة أن اسم كاينا هو اسمها الحقيقي.. كما أن آرجان لم يتردد في إخباري باسمه دون أن أسأله.."
نظر لها الصبي بمزيج الحدة والضيق، ثم قال باستنكار "أنا لست ضعيف الشخصية مثلهما.. لن أخبرك باسمي مهما حصل.."
سمعت رنيم في تلك اللحظة صوت طفلة تنادي "توما.. توما......"
بدا شيء من الغيظ على ملامح الصبي بينما تكرر النداء بإلحاح، مما أكد لرنيم أن الطفلة تنادي هذا الصبي بالتحديد.. ثم رأته يقفز واقفاً واستدار مغادراً بوجه محتقن محاولاً ألا يعرج في سيره بينما هتفت رنيم خلفه بابتسامة "إلى اللقاء يا توما.."
رأته يركض نحو طفلة لا تتعدى الخامسة من عمرها ووقف يجادلها بحنق، ثم لكمها على رأسها بيده المضمومة لكمة آلمتها وغادر وهي تتبعه باكية.. بينما ضحكت رنيم لتصرفاته وغمغمت بتعجب "حتى الأطفال يكرهون وجودي هنا؟.. يبدو أنني أتفوق على نفسي.."
كان لمثل تلك المحادثة أن تسبب ضيقاً في نفسها وكآبة شديدة في العادة، لكنها هذه المرة كانت رائقة المزاج وصدرها يفيض سعادة وحبوراً بحيث ترى كل شيء ممتعاً ويرسم الابتسامة على شفتيها.. تنهدت وهي تجلس على سريرها وتنظر عبر النافذة الضيقة في الغرفة للسماء التي بدأت تكتسب لوناً أزرقاً جميلاً.. ليت الحياة كانت جميلة كما رأتها من الأعلى.. ليت المصاعب والمشاكل التي تلاحقها بدت صغيرة ضئيلة بشكل تافه كما بدت منازل القرية من ذلك الارتفاع.. وليتها تملك الحرية والانطلاق اللذين شعرت بهما وهي على ظهر ذلك التنين الذي شقّ السماء بكل سلاسة ونعومة..


*********************
في اليوم التالي، وبعد أن عادت رنيم من العناية بالتنين وبقيت جالسة وحيدة في المنزل، شعرت بصوت خافت قرب باب المنزل دهشت له.. اقتربت من الباب وفتحته ظناً منها أنه آرجان وقد عاد بعد أن أتمّ ما عليه من مهام كالعادة، لكنها فوجئت بتوما الذي كان منحنياً يضع شيئاً في يده قرب عتبة المنزل.. ولما رآها استدار بسرعة هارباً، لكنها قبضت على عنق ثوبه بسرعة وقالت "إلى أين؟"
صاح توما وهو يقاومها "اتركيني.."
لكنه كان ضئيل الجسد بحيث لم يتمكن من الفكاك من قبضتها، بينما نظرت رنيم للإناء الذي وضعه توما قرب الباب وحوى بعض الخبز الساخن.. نظرت لتوما الغاضب بدهشة وقالت "أهذا لي؟.. أم لآرجان؟"
قال بحدة "لكما أنتما الإثنان.. أنا لا أحب أن أحمل جميلاً لأحد، وبهذا الإناء أكون قد رددت جميلك لإنقاذ حياتي.."
ابتسمت رنيم معلقة "حياتك تساوي بضع أقراص من الخبز؟.. هي حياة بخسة إذاً.."
وجذبته حاملة الإناء لداخل المنزل وهو يصيح معترضاً "أطلقيني.. ما الذي تبغينه بعد؟"
قالت بعد أن أغلقت الباب "اسمع.. أنا أبقى وحيدة معظم اليوم في المنزل.. ما رأيك بأن تجلس معي وتحدثني قليلاً؟"
قال بجفاء "لماذا؟.. ما الذي سأستفيده من البقاء مع غريبة مثلك؟"
قالت "سأحدثك عن (الزهراء) التي لم ترَ مثلها من قبل، وبالمقابل ستحدثني عن الهوت وعن هذه القرية.."
قال توما بحدة وسرعة "أنا لن أفعل ذلك.. الهوت لا يفشون أسرار القرية بتاتاً.."
جلست رنيم جانباً وقالت "لا بأس.. يكفي أن تستمع إليّ وأنا من سيتحدث.. ألا تحب أن تعرف شيئاً عن (الزهراء)؟"
غلب فضول توما حنقه، فسار بعد تردد حتى جلس على كرسي آخر وهو ينظر لها مضيقاً عينيه بجفاء.. لكن رنيم لم تعبأ بهذا وهي تحدثه عن كل ما رأته في (الزهراء) وعن جمال طرقاتها وبناياتها وقصورها.. كانت واثقة أن حديثاً كهذا سيجذب انتباه توما وسيُسقط الحواجز التي يضعها حول نفسه بسهولة.. لقد سئمت رنيم من البقاء وحيدة في هذا المنزل، وفضولها الذي لا يخفت عن الهوت لا يعبأ به آرجان الذي لا يجيب عن أغلب أسئلتها إلا بإجابات مقتضبة..
ورغم أن توما غادر في ذلك اليوم قائلاً بحدة أنه لن يعود مرة أخرى، فإن رنيم وجدته في اليوم التالي عائداً حاملاً بعض الفطائر بحجة أنها زائدة عن حاجة عائلته.. ابتسمت رنيم دون تعليق وهي تجذبه للمنزل وتجلس معه محاولة دفعه للحديث عن عائلته وعن القرية والتنانين الأخرى التي لم ترها رنيم.. وقد سألته باهتمام "كيف تعلمت الحديث باللغة العربية؟.. أغلب الهوت لا يعرفونها كما لاحظت عند قدومي.."
قطب توما وكأنه أهين بقولها هذا وقال بحدة "بل كل الهوت يعرفون التحدث بالعربية، لكنهم يأبون إلا التحدث بلغتهم.. نحن نفخر بلغتنا، نفخر بهويتنا، ولا ننوي بتاتاً الذوبان في مملكة بني فارس كما فعلت الشعوب الأخرى حتى ضاعت هويتها ونُسي تاريخها.."
قالت رنيم بابتسامة "هذا رائع.. مثابرتكم هذه أثارت إعجابي.. وماذا عن.....؟"
قال لها توما مضيّقاً عينيه "لمَ تكثرين من الأسئلة عن الهوت؟.. أأنت جاسوسة من الملك؟.. لابد أنه أرسلك لتقصّي أخبار الهوت تحضيراً لهجمة جديدة على قُرانا.. أليس كذلك؟"
ضحكت رنيم لقوله وعلقت "جاسوسة؟.. لم أكن لآتي لهذه القرى لو لم يختطفني آرجان بالقوة.. لكني أحب القراءة وقد قرأت الكثير من الكتب عن شعوب العالم.. قرأت كل ما يمكن قراءته، لكني لم أجد إلا قلة من المعلومات عن الهوت.. فهم لا يملكون تاريخاً مكتوباً ولا يشاركون خبراتهم وتاريخهم مع أحد، بل لا يخالطون أحداً بتاتاً مهما استدعت الحاجة لذلك إلا في نطاق ضيّق.."
قال توما باهتمام شديد "أأنت تعرفين القراءة؟"
هزت رأسها إيجاباً، فاعتدل في جلسته متسائلاً "وهل تعرفين الكتابة أيضاً؟"
قالت رنيم "القراءة والكتابة لا ينفصلان أبداً.."
عندها قفز توما قائلاً بلهفة "هل تعلمينني إياهما؟"
نظرت له رنيم بدهشة، لكنها فوجئت به يغادر الموقع راكضاً وهي تناديه دون أن يستجيب لندائها، ثم لم يلبث أن عاد حاملاً كتاباً أوراقه عتيقة وغلافه مهترئ.. فوضعه أمامها قائلاً بلهفة "علميني قراءة هذا الكتاب.."
تناولت رنيم الكتاب بدهشة متسائلة "من أين حصلت عليه؟"
أجابها "هازر قد ورث بعض الكتب من أبيه الذي كان يحب جمعها ويتقن القراءة والكتابة.. للأسف كان قد عميَ عندما بدأت أهتم بالكتب ولم أتمكن من التعلم على يديه.."
صمتت وتأملت غلافه فلم تتمكن من قراءة ما كتب عليه لشدة ما كانت مطموسة، ففتحته وتصفحته بشيء من الدهشة والاهتمام.. لقد افتقدت هذا الشعور منذ زمن.. افتقدت ملمس الأوراق ورائحتها، وافتقدت جمال الحروف المكتوبة وافتقدت ذلك العالم الذي تحلق إليه بخيالها.. كان الكتاب عن حروب القرن الأخير قبل توحد مملكة بني فارس.. وقد أدرجت فيه خرائط وخطط خاصة بتلك الحروب وبنتائجها وبما قادت إليه من قيام المملكة ومن توحد معظم أقطار القارة العظمى تحت لوائها..
انتبهت لنظرات توما المتلهفة وهو يراقبها، فقالت بابتسامة "عليك أن تكون صبوراً.. أريد قراءة هذا الكتاب هذه الليلة، وسأعلمك القراءة والكتابة منذ الغد.. اتفقنا؟"
قال بإلحاح "علميني البداية على الأقل.. أي حرف أو أي كلمة.. هذا ليس عدلاً.."
هزت رنيم رأسها موافقة، وفتحت أولى صفحات الكتاب وهي تشير للحروف وتشرح لتوما كيفية كتابتها وقراءتها في مواضع مختلفة من الكلمة.. لم يكن توما يملك دواة وريشة للكتابة، فاكتفت بشرح شفوي على أمل أن يستفيد من هذا رغم كل شيء.. كان شغف توما يتزايد مع كل لحظة تمضي، ولم ينتبه الإثنان إلى آرجان عند دخوله للمنزل حتى سمعاه يقول "يبدو أن توما قد أصبح أحد أفراد هذا المنزل.. ما الذي تفعله هنا كل يوم يا فتى؟"
قال توما بحنق وهو يشعر بأن آرجان يعامله بشيء من التصغير "ليس لك الحق في التدخل فيما يخصني.."
قال آرجان بتعجب "حتى لو كان ذلك في منزلي؟.."
ثم لوح بيده قائلاً "هيا غادر يا فتى.. لا أريد أحد أفراد عائلتك أن يبحث عنك ويكتشفوا أنك تختبئ في منزلي لتحادث الفتاة الغريبة.."
نظر له توما بغيظ، وقد كان مستمتعاً بتعلم قراءة الكتاب مع رنيم، لكنه غادر بصمت خشية أن يطرده آرجان ويمنعه من دخول المنزل، وترك الكتاب مع رنيم مع وعد بالعودة في يوم آخر..
ولما غادر نظر آرجان بتعجب لرنيم، فغمغمت بابتسامة "إنه فتىً طيب.."
علق آرجان وهو يضع ما يحمله بيده في جانب المنزل "لا تجعليه يقضي أوقاتاً طويله هنا، فأنا لا أريد أي مشاكل مع أهل القرية.."
قالت رنيم باعتراض "لكني وعدته بتعليمه القراءة والكتابة.. يبدو لي أن توما شغوف بالتعلم والقراءة، واحتفاظه بهذا الكتاب أكبر دليل على هذا.."
ثم غمغمت وهي تنظر للكتاب بين يديها "يذكرني هذا بأزمان قديمة جداً.. عندما كنت أتلهف لتعلم القراءة كي أتمكن من التسلل لمكتبة أبي الضخمة وأطالع الكتب التي تجذبني بأغلفتها الزاهية وعناوينها المذهبة.."
قال بسخرية "أزمانٍ قديمة؟.. من يسمعك يظنك تجاوزت المائة من عمرك.."
قالت مقطبة "لكني أكاد أبلغ العشرين من عمري.. وهذا عمر ليس بقليل.."
ضحك آرجان معلقاً "عشرين؟.. لازلتِ غرّة ساذجة.. أنت بحاجة لعشر سنوات على الأقل قبل أن تعدّي نفسك بالغة.."
فقالت بضيق "وكم عمرك أنت؟.. لا أظنك تكبرني بكثير.."
أجاب بابتسامة جانبية "لقد تجاوزت الرابعة والثلاثين.. وهو فارق كبير كما ترين.."
علقت بشيء من الحنق "هذا لا يبيح لك الاستهزاء بي.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لم أستهزئ بك بتاتاً.. إنما كانت تلك حقيقة.."
لم يهدئ ذلك ضيقها وهي تدير بصرها جانباً بصمت.. ثم تساءلت "لمَ تعيش وحيداً في هذا المنزل؟.. أين بقية أهلك؟.. ولمَ لست متزوجاً حتى الآن؟"
قال رافعاً حاجبيه "وما شأنك أنت؟.. هل تسألين هذه الأسئلة بحثاً عن وسيلة للفرار من قبضتي؟"
غمغمت وهي تدير بصرها جانباً "من يدري؟.."
فقال آرجان وهو يدلف غرفته "كما يحلو لك.. الأبواب مفتوحة لك في أي وقت.."
ابتسمت رنيم وهي مدركة أنها لن تفعل ذلك.. آرجان أيضاً يدرك أن رنيم لا تملك القدرة على الرحيل وحيدة، لذلك لم يعد يغلق بابها بالمفتاح كل ليلة.. ورغم تطاول الأيام، فإن رنيم لم تعد تسأله عما ينوي فعله بها، وعن نيته بإطلاق سراحها.. لم تعد تعبأ بعدّ الأيام للعودة للزهراء، ولم تعد تسأل عما جرى فيها..
غادرت للغرفة التي كانت محبسها في الأساس، لكنها أصبحت غرفتها نوعاً ما بعد أن طال وجودها في هذه القرية، وهذا المنزل، دون أن يكون لها سبيل للرحيل.. وفي هذه اللحظات، كانت رنيم ترحّب بالخلوة بشدة وبين يديها هذا الكتاب الذي أثار شغفها للقراءة من جديد.. وهي التي تعشق قراءة التاريخ بكل أشكاله الممكنة..


*********************
كم يوماً قضته رنيم سجينة في قرية الهوت، لا تكاد تخالط أحداً ولا ترى أحداً عدا الثلاثة الذين تعرفهم وهم كاينا وآرجان وتوما؟.. لا تعرف الجواب.. وبعد كل تلك الأوقات، نسيت رنيم أو تناست أمر عودتها للزهراء تماماً.. أصبح الموضوع لا يشغل تفكيرها ولا يسبب لها الضيق إلا اضطرارها للبقاء طوال اليوم في المنزل دون أن تخطو خطوة خارجه وحيدة.. والوقت الوحيد الذي أصبح متنفساً لها من هذا السجن هو في العناية بالتنين الذي لم تتخلّ عن القيام به كل فجر رغم أن آرجان حاول إقناعها بالكف عن ذلك.. لكن كيف تكف عن الخروج من هذا السجن واستنشاق رائحة الفجر في هذه الجبال الباردة والالتقاء بالتنين كاجا الذي أصبح مع مرور الوقت يقفز نحوها كلما رآها لينال جائزته التي تحملها معها في كل مرة..
ورغم أن آرجان كرر رفضه اصطحابها في جولاته في مرات ثانية، لكنها لم تتذمر وهي تكتفي بالعناية بالتنين بكل صبر..
وبعد تلك الأيام، بعد مضيّ ساعات قليلة على بدء ذلك النهار، وبينما كانت رنيم جالسة في المنزل بانتظار قدوم توما الذي دأب على الجلوس معها وتعلم الكتابة والقراءة منها بمثابرة، سمعت صوتاً يتحدث قرب الباب بنبرة أثارت انتباهها.. أدركت أن ذلك الصوت هو صوت آرجان، لكن الثاني كان صوت رجل آخر من أهل القرية.. ورغم أن رنيم حاولت الإنصات عبر الباب المغلق، لكنها لن تقدر على فهم لغة الهوت مهما حاولت.. على الرغم من أنها سعت لتعلمها من توما في الأيام الماضية مدفوعة برغبة غير مسبوقة لفهم حديثهم دون ترجمة، لكن الأمر لا يتعدى بضع عشرات من الكلمات وبعض الجمل البسيطة..
توجهت رنيم للنافذة القريبة وأطلّت عبرها محاولة ألا تظهر نفسها للرجل الغريب.. وهناك رأت آرجان يتحدث مع الغريب بسرعة وانفعال واضح.. بدا أن الموضوع هام جداً لآرجان وأثارلهفته بشدة، ولم يلبث الرجل بعدها أن ابتعد بينما اندفع آرجان للمنزل وفتح بابه بشيء من الضجة..
نظرت رنيم لوجهه المنفعل بدهشة، بينما بادلها آرجان النظرات بصمت وكأنه لا يعرف ما يقول.. وأخيراً زفر بشدة واقترب منها قائلاً "لديّ بعض الأخبار.."
سألته دون أن تملك قلقها "أهي تخصني؟.."
أدار آرجان بصره جانباً قائلاً "نوعاً ما.."
خفق قلب رنيم بقلق متزايد.. أهو خبر من (الزهراء)؟.. رأته يجلس جانباً مطرقاً قبل أن يقول "وصلتني أخبار شبه مؤكدة عن جايا.."
رفعت رنيم حاجبيها وقد زال قلقها هاتفة "حقاً؟.. هل عثروا عليها؟.. أين هي؟.."
أجاب آرجان "لقد هربت من (الزهراء) بالفعل كما قال ذلك الرجل، لكن عوضاً عن العودة لقرى الهوت فإنها شوهدت في ميناء (مارِج).."
نظرت له بحيرة، ففسر الأمر قائلاً "إنها مدينة تقع خلف سهول الأكاشي، في الجانب الغربي القصي من القارة العظمى.."
تساءلت بدهشة "ما الذي دعاها للذهاب إلى هناك؟.."
زفر آرجان مجيباً "ليتني أعرف ذلك.. لا يمكن أن يكون ذهابها لذلك المكان اعتباطاً.. لابد من سبب قوي.."
سألته من جديد "لكن كيف علمت أنها موجودة هناك؟.. وما الذي يؤكد لك أنها هي بالتحديد؟"
قال بشيء من الضيق "تلك قضية أخرى.."
وغمغم مطرقاً دون أن يلاقي عينيها بعينيه "هكذا ترين أنني أخطأت بما فعلته بك.. فجايا لم تكن في (الزهراء) بالفعل.."
صمتت رنيم دون أن تعلق أو تشعر بأسى لما جرى لها دون ذنب ودون سبب حقيقي.. وبعد أن طال الصمت بينهما، غمغمت رنيم "وما الذي ستفعله الآن؟"
نظر لها قائلاً بتوتر كبير "سألحق بها بالطبع.. بأسرع ما يمكنني.."
ونهض يجمع أغراضه ويدور في المنزل ليعدّ العدة لرحيله ويضع أغراضه في حقيبة جلدية، وتتضمن في الأغلب بعض الأسلحة اليدوية والخناجر، وما يلزمه لرحلة طويلة لا يعلم كم ستستغرقه.. وبعد بعض الصمت، غمغمت رنيم "ماذا عني؟"
نظر لها آرجان بصمت وتوتر للحظات، ثم قال "سأطلب من كاينا وأحد الرجال إعادتك لموقع قريب من (الزهراء)، فقد انتفى الغرض من إبقائك في هذه القرية.. لهذا العمل خطورة بالغة عليهما بعد هجومنا السابق على القصر، لكن ما باليد حيلة.."
صمتت رنيم دون أن تعلق على هذا القول.. أهي تريد الرحيل حقاً؟.. أهذا ما سيسعدها ويختم هذا الفصل الغريب من حياتها؟.. وكما قالت لها كاينا في أول يوم لها في القرية، ما الذي يجبرها على العودة لذلك السجن حقاً؟..
نظرت لآرجان بصمت من جديد وهو منهمك في ارتداء حذائه طويل الرقبة.. وكأنه انتبه لنظراتها دون أن يلتفت إليها فعلق قائلاً "أخبرتك سابقاً.. لو كان لديك ما تقولينه فقوليه الآن.. لا أحب اعتراضك الصامت هذا أبداً.."
ابتسمت رنيم بجانب فمها لتعليقه، ثم قالت وهي تدير بصرها جانباً "لماذا أعود؟"
نظر لها آرجان بدهشة، فقالت بعد لحظة صمت "حقاً.. هذا سؤال كان يدور بذهني منذ زمن.. لماذا أعود؟.. وما الذي أعنيه لسكان (الزهراء) ولمن في قصر الملك؟.. بل ما الذي يعنيه وجودي لأبي وأمي؟.. أيرغب أحدهم باستعادتي حقاً بعد فشلي في تحقيق ما أمِلوه مني؟"
ظل آرجان صامتاً للحظات بدهشة تامة، ثم وجدته يتقدم منها فيقف في مواجهتها قائلاً بحزم "ما الذي تريدين فعله إذاً؟.. أخبريني بما تريدينه وسأحققه لك ما دام في وسعي ذلك.."
تساءلت رنيم بدهشة "لمَ عليك فعل ذلك؟"
أجاب "ربما كنت مديناً لك بذلك.. لقد أفسدت حياتك باختطافي لك دون ذنب ارتكبتيه، فلم يكن لك دخل فيما حلّ بجايا.."
قالت رنيم ببساطة "ربما كان العكس هو الصحيح.. أنت لم تفسد حياتي، بل أصلحتها.."
صمت آرجان وهو يتأمل ملامحها بدهشة، بينما خفضت رنيم بصرها محاولة استجماع مشاعرها وشدّ عزمها.. كانت تعرف بالضبط ما تريده.. هو حلم لطالما حلمت به منذ استوعبت أبعاد حياتها التي كانت تراها كئيبة.. كانت واثقة من رغباتها، لكن لم تكن تملك الثقة الكافية لاتخاذ قرارات توافق تلك الرغبات.. وأبعدها عجزها عن مسار حياتها الذي لطالما تمنته..
كل ما تريده رنيم هو بعض الحرية.. أن تطير.. أن تحلق بلا قيود..
اختطاف آرجان لها قد خفف ضغط السلاسل التي كانت تقيد روحها، وبدأت رنيم تتململ بحثاً عن تلك الحرية المنشودة.. وها هي تقف أمامها وليس على رنيم سوى أن ترفع رأسها فتراها بكل وضوح..
رفعت رأسها تتطلع لآرجان الذي يراقبها بصمت، ثم قالت بهدوء "أريد الرحيل معك.."
صمت آرجان بصدمة للحظات، ثم قال بعدم فهم "ترحلين؟.. لأين؟"
ابتسمت رنيم مجيبة "حيثما ذهبْت.."
اتسعت عينا آرجان بدهشة وهو حائر في مغزى كلماتها.. ثم قال "أيتها الأميرة.. رحلة كالتي أنوي الذهاب فيها ليست ممتعة ولن تسير بالسلاسة التي تتوقعينها.. لا تقارنيها بتاتاً برحلة تقومين بها وسط حراسة مشددة وفي عربة مريحة في ربوع مملكة أبيك الآمنة.."
لم تعلق رنيم على مناداته لها بالأميرة في سخرية واضحة، لكنها قالت "أدرك كل ذلك.. وهذا بالتحديد ما أسعى إليه.. لا أريد أي شيء من حياتي السابقة.. ولست أطمح للحصول على متعة أو مغامرة أحكيها عند عودتي للقصر الآمن.."
تساءل آرجان بحيرة "إذن ما الذي تريدينه؟"
نهضت رنيم وواجهته بحزم للمرة الأولى في حياتها قائلة "أريد الرحيل.. أريد نسيان من أكون ونسيان الحياة التي عشتها حتى الآن.. أريد أن أكون جزءاً من هذا العالم الذي لم أره إلا من نافذة قصر أبي.. لست أملك وسيلة للترحال، وليس أمامي إلا الانضمام إليك في هذه الرحلة.. أنت ستبحث عن جايا وأنا سأحقق حلمي الوحيد.."
غمغم آرجان وهو يتراجع "أنت تهذين.."
وحمل حقيبته قائلاً "سأترك أمرك لكاينا.. وهي ستعود بك لقصر زوجك في الأيام القادمة.."
أسرعت رنيم واعترضت طريقه قائلة "ألم يقنعك قولي؟.. لا أريد العودة.. أفضل البقاء سجينة في هذا المنزل عن العودة لعالم قاسٍ لا يعبأ بي قيد شعرة.."
قطب آرجان بغير اقتناع، فأمسكت رنيم يديه بيديها قائلة بتوسل "لن أعطلك في هذه الرحلة أبداً.. أدرك أن قول هذا سهل، لكني سأفعل ما بوسعي لمعاونتك ولن أزعجك بتاتاً.. فلا ترفض هذا دون سبب"
قال آرجان باستنكار "دون سبب؟.. أنت لا تدركين ما أنت مقدمة عليه.."
ضربت رنيم الأرض بقدمها قائلة بحنق "أنت طلبت مني التعبير عما أريد قوله بصراحة.. فلماذا تستنكر ذلك الآن؟.. لا أريد العودة لذلك القصر.. ألا يمكنك فهم ذلك؟"
قال آرجان بحدة "وماذا عن زوجك؟.. ماذا عن حياتك؟.. ماذا عن ذلك النعيم الذي كنت ترفلين فيه؟"
قالت رنيم بانفعال شديد "زوجي نبذني قبل أن يتزوجني.. حياتي تلك كانت موتاً محتوماً.. وذلك النعيم كان كالأشواك في حلقي.. أنت لا تعرفني، ولا تعرف ما أريده حقاً.. لماذا لا تصدق أنني مختلفة عن كل أولئك الفتيات اللواتي يتلهفن لحياة القصور الزاهية؟.."
ظل آرجان يحدق في عينيها بحيرة ودهشة، بينما واجهته رنيم بحزم وانفعال واضحين.. كانت مصرّة، وموقنة أن هذا هو الخيار الأمثل الذي سيقودها في الطريق الذي لطالما تلهفت إليه.. جنون؟.. ربما.. لكن ما هي موقنة منه أن الجنون خيرٌ من البؤس..
قطع صمتهما صوت توما الذي دخل من الباب المفتوح بغفلة منهما قائلاً بحزم "سأذهب معكما.."
نظرا له بدهشة، ثم قالت رنيم "تذهب معنا؟.. لماذا؟"
قال توما "لا لسبب.. لكني أريد الذهاب.."
علق آرجان بضجر "هذا ما كان ينقصني.."
فقال توما بحدة "لا شأن لك.. سأذهب معكما سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك.."
اقتربت منه رنيم وأمسكت كتفيه قائلة "توما.. نحن لن نذهب لنلهو، ولن نعود بعد أيام قليلة.. هذه رحلة ستطول، ولا نعلم علامَ ستنتهي.."
قال توما بسخرية "كان آرجان يقنعك بالأمر ذاته.. لكنك لم تقتنعي.."
نظرت له رنيم بصمت وحيرة بينما قال آرجان بحزم "مستحيل.. لمْ أوافق على اصطحاب فتاة ولن أوافق بالتأكيد على اصطحاب طفل.."
احتقن وجه توما للإهانة، وقبل أن يجد رداً لاذعاً يرد به على آرجان، سمع الثلاثة صياحاً من بعيد، ولم يلبث أحد رجال القرية أن هرع إلى آرجان منفعلاً.. ولما لمح الرجل رنيم، بدت تقطيبة واضحة على وجهه وهو يقول لآرجان بلغة الهوت "آرجان.. إنهم الجنود......"
لم تغِبْ نظراته الكارهة عن عيني رنيم التي أدارت بصرها جانباً، بينما نظر آرجان وتوما للرجل بدهشة وهو يضيف بانفعال "جنود الملك عند حدود القرية.. لقد علمَ أرنيف بذلك قبل قليل.."
بدا شيء من القلق في عيني توما بينما قال آرجان بدهشة "أأنت واثق؟"
قال الرجل بحدة "واثق طبعاً.. لقد اشتبك معهم بضع رجال منا، بينما عاد أحدهم لينذر القرية.."
لم يتأخر آرجان في اللحاق بالرجل متجهين إلى موقع أرنيف، بينما قبضت رنيم على ذراع توما وهي تسأله بقلق "ما الأمر؟.. ما الذي أراده الرجل في مثل هذا الوقت؟"
نظر لها توما بشيء من التوتر، ثم قال "إنه يحذرنا من هجوم جنود الملك على القرية.. فرقة منهم تقترب من حدودها بالفعل.."
اتسعت عينا رنيم بدهشة ممتزجة بالاستنكار، ثم قالت بقلق "ما الذي جاء بهم لهذا الموقع؟.. أأنتم معتادون على هجمات الجنود على قريتكم؟"
هز توما رأسه نفياً، ثم نظر لعيني رنيم قائلاً "أغلب الظن أنهم جاؤوا لأجلك أنت.."
رغم أن هذا ما تمنته رنيم عندما تم اختطافها، لكن حدوثه في مثل هذا الوقت قد أصابها بصدمة شديدة.. أيمكن أن يكون الملك قد أرسل جنوده لاستعادتها؟.. لماذا الآن؟.. لمَ حدث هذا بعد أن اتخذت عزمها على نسيان حياتها السابقة والسير في طريق آخر تختاره بكل حرية؟..
لكن ما هي متأكدة منه أن الجنود لن يترفقوا في التعامل مع القرية وسكانها.. لابد أنهم سيسببون أشكالاً من الدمار ويقتلون عدداً من القرويين الذين لن يستسلموا بسهولة.. فما الذي يمكنها فعله لإيقاف هذا الأمر؟.. ما الذي يمكن لرنيم فعله لكي لا تعود لحياتها السابقة رغماً عنها؟..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس