عرض مشاركة واحدة
قديم 28-12-15, 05:15 PM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



-

































الفصل الثالث عشر

































. .



















































- خالتي وفاء ؟


التقطتُ الطفل ذو اللثغة ، أرفعه عالياً .


- حبيب خالتك وفاء ..


مدَّ ذراعيه يدعوني لإنزاله ،

فأجلستُ الجسد الضئيلِ للغاية بقاعدةِ ساعدي .


- ماما تقول لك .. اعطي حمودي .. العصفور ..


تجاوبتُ معه مقلِّدة لثغته الظَّرِيفة :

- العصفور ؟ اسمه كناري حبيبي ..


التفتتُ للصَّوتِ الأنثوي الصَّادرِ من خلفي .

- كم مرة بأعلمك لا تقلدين كلجات الأولاد ؟


أطلقتُ ضحكةً ، أشاكِسها محاولة إثارة حنقها :

- دخيلك ، أقلها لاقين كبير يحكي معهم ..

ليت تعطونهم وجه ، على الجوالات والفصفص .


- ارحمينا يالأم المثالية .


سلَّمتُ الطفل لوالدته ، وأغلقتُ أنفي مشمئزة :

- ريحتك فصفص ، انتبهي تصرعين الولد .


رحتُ أسير بلا هدف ، وفي لحظات شرود لقيتُني أنحرف نحو المطبخ .


- جابك الله ، تعالي ماما كملي عني .. تعبت والله ..

خواتك متسدحات مع عيالهن وتاركنني أكرف ما يستحن ..




هذه زيارتي الثانية لأسرتي منذ عودتي إلى الخارجِ .. حيث جامعتي .

عودة إلى الدِّراسة من بعدِ عامينِ من الانقِطَاع .


يُحزِنني أن أهدرتُ الكثير من العمر ، مِن المفترض هذه سنة تخرُّجي .

ولو حسبنا العامينِ الضائعَين قبل الانتسابِ للجامِعة ..

لكنتُ الآن امرَأة عامِلة ، وَ موظَّفة لها هيبَتها .




انشغلتُ بالعمل الذي كلَّفتني والدتي ، وَ كَما العادة ...

لم أستطع منع عقلي من الانتقال لمكانٍ آخر ..



أنهيتُ عملي ، وَ رحتُ أجولُ المنزل برأسٍ فارغ ..

كَما لو حال عقلي إلى صفحةٍ بيضاء ..

خالية من أيّ أفكار .


صحوتُ على مروري بحُجرةٍ احتضنوا أطفالنا مع الألعاب والتلفاز ، كَحيلةٍ للتَّخلُّصِ من صخبهم وجلبتهم .


وجدتُني غريزياً أدلف إليهم ، حيث بعضهم على التلفاز ،

والبعض الآخر اجتمع على الجهاز اللوحي لرفيقهم .



انتقيتُ من بينهم طفلاً من مجموعة التلفاز لا يتجاوز السَّنتين والنِّصف ،

وغرقتُ معه بأريكةٍ أمام شاشة البلازما العريضة ، محتضنةً الطِّفل الذي لم يرفع بصره عن الشاشة .

ورحتُ مقلدةً إياه ، أتابع الرُّسوم المتحرِّكة ذات الألوانِ الفاقعة .. بشرودٍ أكثرَ منه تركيزاً .




- ليش ؟



تساءلتُ ، أخاطبُ الغاضِب الصَّغير الذي قام بشدِّ شعري .


أجابني بلثغةٍ تفوق الطِّفل سابقه :

- أيمن زعلان .


أعدتُ تركيزي إلى شاشة العرضِ أتساءل إن كان فيلمهم المعروض انتهى ؟


ثم قلتُ بلُطفٍ : ليش أيمن حبيبي زعلان ؟


أشارَ بعُبُوسٍ ، إلى طِفلٍ ما ..

الطِّفل الذي كان بأحضاني منذ دقائق .


فهِمتُ مغزى الولد الغيُّور ..

لم أتمالك عاطِفتي الجيَّاشة أمام سبَّابتِه اللَّطيفة الممدودة .


احتضنتُ يده الممتلئة .. أقبِّلها ، عضَّيتُها برِقَّة ..


إلا أنه قامَ برمي ضربة عشوائية بوجهي بيده الأخرى .


غمرتُهُ باحتضانٍ أُمُوميٍّ فائِض ..

دافنةً وجهي بصدرِه الغضّ ذو الرائحة العذبة ،

ما دعاهُ للضَّحكِ .. ظنَّاً أني أُداعِبَه .


رفعتُ رأسي بلهفةٍ لأُمتِّع عينيَّ بالغمَّازتينِ ..

اللتينِ كُلَّما برزت .. تُشعِرَانني بالحَنينِ ..

إلى مصدرِهِما الأَصلِي ..


قبَّلتُ كِلي الغمَّازتين ، بشغفٍ : أحبك حبيبي ..


ردَّ مُقلِّداً إيَّايَ :

- .. أحبك .. حبيبي ..



ضحِكتُ بحُبٍّ .



- كه .. كه .. كرتهي ..


- كهرمانتي ..


- كه .. كرنهتي ..


- كهرمانتي .




يبدو طفلي باتَ أكثرَ هوساً مني بشخصيَّةِ والدِه .



لا أعلم إن كَان مُدرِكاً لكَيف يعني كونَ الرَّجُل الذي أدمن رؤيته .. هوَ أبيه ،

لكنِّي لم أكُفَّ أبداً عن رغبتي بمُشاركَتِه إيَّاي بالإعجابِ بالرَّجُل الذي يكون والده .



اعتدنا نحن الاثنين دوماً ..

بلْ أدمَننا .. !


أدمننا ... مشاهدة صوره ، ومقاطع الفيديو الشقيَّة ،

ومقاطعه الصوتيَّة المُضحِكة بمخزونِ هاتفي .


حفظنا كُلَّ ما يقول في كُلِّ مقطع ..

صرنا نردِّد معه ونغطِّي على صوته ..

وكُلٌّ منَّا يتحدَّى الآخر ويتباهى بالحفظ ،

وقُدرتِه على تقليدِ نبرَة صوتِ (بطلِه) ..


أصبحنا نعرف مواقع ضحِكاته ..

في كُلِّ مرَّة نستمِع إليه ..

ينتظر طفلي ضِحكة والدِه المميَّزة ..

فيخِرَّ ضاحِكاً ، وأتبعه أنا بدوري ..





- وفاء وينك ، ما شاء الله مرتاحة ونحنا نكرف .


- واضح ، من شوي ماما بالمطبخ لحالها ..


- توني جايه لا تظلميني معهن !

وكان تحركتي ساعدتيها يا مهتمة ،

قومي بس تعالي ، لا تفشليني قدام حماتي .


- أنا ما أدري ايش يجيب حماتك ، الحمدلله ما جبتي قبيلة زوجك بكبرها .

هلا حبيبي ؟


أحنيتُ رأسي إلى صغيري الذي أعاقني عن الذَّهاب متشبِّثاً حالَ أعدتُه بين الأطفال .


- .. أيمن حليب .. ماما ..


حملتُه إليّ وخرجتُ به أتبع شقيقتي الكُبرى التي غادرت ساخِطة .. أو رُبَّما خائِفة ..

خائِفة من كَوني (مُطلَّقة) ، من كَوني قد أشعر بالحسدِ أو الغَيرة ... مِن السَّعيدات المتزوِّجات .










أُمسِكُ بكتابِ الواجب الخاصّ بطفلِ الرَّوضة المسكين ، الذي أتى به مُحمَّلاً خائفاً .

وقد انشغلتُ بعدِّ خانات الحرف الواحد الذي بلغ عددها الخمسون !



- يبونه يكتب الحرف خمسين مرة ؟


هتفتُ باستفظاعٍ ، لتردَّ عليَّ والدته الغافِلة :

- لا يا عمري عليها معلمتهم .. مدلعتهم .. طالبة بس عشرين خانة .


أدرتُ رأسي بفؤادٍ مُتوجِّع ، إلى الذي لم يُكمل الرابعة من عمره .


عقَّبتُ قائِلةً :

- تدرين هناك عندنا .. لو اكتشفوا معلمة روضة تمسِّك قلم لطفل لأجل يكتب ، راح تتعرض للمحاكمة .


- عندنا أجل .. ارحمينا يالإنجليزية ، على أي أساس تدخلونهم روضة ؟


- يعلمونهم الحياة الاجتماعية وتكوين الصداقات ، يتعلمون الكلام والتواصل .. والتعبير عن النفس والمشاعر ، يلعبون ..


قاطعتني بجهلٍ مَقِيت :

- يلعبون ؟ كان معد للروضات حاجة ، أغلقوا الروضات يا شعب !


- خليتي كل شيء قلته .. وركزتي على اللعب ؟

وليه مستصغرة اللعب ؟ اللعب أهميته ما تقل عن أهمية القراءة والكتابة ،

اللعب يساعد على النمو العقلي عند الطفل ، له دور مهم في الذكاء .


تدخَّلت شقيقتي الأخرى والتي بالطَّرفِ الآخر من المجلِس :

- دام على اللعب خلوهم في بيوتهم ، ليه فاتحين روضات ؟


- أنتم خليتوني أكمل ؟


- كملي يختي !


- يحرصون يعلمونهم العلوم عن طريق استكشاف البيئة ، يتعلمون كيفية المحافظة على الصحة والنظافة ...


- بس كذا ؟ خليهم بالبيت أحسن يختي ، هالأمور بإمكان أي وحدة تعلمها ولدها .


استأنفتُ حديثي غيرَ مباليةٍ بالمداخلة :

- كذلك يهيئونهم لأجواء المدرسة .. ويعلمونهم الفن .. يعلمونهم العدّ ، لكن ما يكتبون أبداً ولا يقرأون !

المعلمة فقط تقرأ والطفل مستمِع ! ...


عادت أم الطفل تتحجَّج بأعذارٍ خرقاء :

- يا ستي ، أنا وحدة أبي ولدي يدخل المدرسة .. مستعد كتابة قبل قراءة ، يكون أحسن واحد ، يرفع راس أمه .


- يا إيناس ! والله هالعمر حرام يمسك قلم ..

عضلات الطفل وجهازه العصبي ما اكتمل نموهم عشان يقدر يمسك قلم والا يقرأ ،

الطفل ما يكون مستعد لهالعمليات المعقدة إلا لو كمل ست سنوات .


- يا شيخة ، أنتي مبالغة في الموضوع .


عبَّرتُ حزينةً :

- هذا اللي تسوونه سلب لحقوق الطفل وحريته ..

الطفل وظيفته في هالعمر .. يلعب ، وياكل ، وينام ، فقط !


تمتمت بخفوت محذِّرة :

- اسكتي اسكتي .. حماتي رجعت ، لا أشوفك تفضحيني عندها .


قاطعَ ما أوشكتُ قوله مشاجرةً طفوليَّة صادرة من الصَّالة ، ميَّزتُ بها صراخ ابني الشَّقي .


قفزتُ مسرعةً إلى الخارج راميةً بتعليقاتهم السَّاخِرة عرضَ الحائِط :

- الحقي يالأم المثالية على الشيطوني ولدك بس ، هذا وتوه نقطة .

- الله يستر على أولادنا منه .. الله العالم طالع على مين ..



بالكاد تمكَّنتُ من حلِّ التشابك بين الطَّفلين مع شقيقتي والدة الطِّفل الآخر .


حملتُ طفلي الغاضب المحمرّ ولم يزل يصيح ويصرخ بعصبيَّة شديدة ،

يطالب بإفلاته ليكمل القضاء على الولد (حمودي) .


اعتذرتُ لشقيقتي متأسِّفةً عن بنيّ ،

ثُمَّ رحتُ بـ(شيطوني) الصَّغير إلى حجرتي الهادئة ،

وضعته على سريري .. وجلستُ بجانبه .


رمى بنفسه مستلقياً ، مُخبِّأً وجهه باللّحاف يرفضُ رؤيتي ،

قلَّدتُه أستلقي جانبه بهدوءٍ ، دون أحاول التَّقرُّب منه .



أخذتُ أعبث بخُصُلاتي القصِيرة .. التي لم أعتد عليها بعد ..


التفتتُ إلى صغيري المُدلَّل ..


قلِقت عليه من نفاذ الهواء ، خشيتُ الاختناق وَكدتُ أنتشله عن اللحاف ، أو أنادي عليه .

لكن خشيتُ منه المُعاندة ، ففكَّرتُ حتى وصلتُ إلى حيلةٍ .



أجزاءٌ من الثانية ..

وَابني مُستلقٍ فوق صدري ..


كنتُ قد بدأتُ في دندنةِ إحدى أغاني والده ..


وَ شيئاً فشيئاً بدأَ احمرار الوجه العابس في الزوال ..

وَ يعود الهدوء يغزو أنفاسه ..


بدأَ يُدندن معي .. ويُردِّد بكَلماتٍ طلسميَّة ..



انتهينا .. وَقد غمرَنا الاسترخاء ..




رحتُ أحتضنه ، أسأله بحُنوٍّ :


- أيمن .. الحلى حقنا جاهز ، يالله ناكل ؟


التمعت عيناه بابتسامة فرِحة :

- حلى حقي .. !


- صح .. الحلى حقك .. ! ناكل .. ؟


تخلَّص من احتضاني ، يقفز على السَّرير بانفعال .


- حمودي .. لا تاكل ! حمودي لا !


أسرعتُ بالجلوس خشية يسقط فوقي ، أو يقفز عليَّ بالخطأً .


- ماما .. حمودي لا ! لا تاكل !


أطعتُ سيِّدي الصَّغير مُجيبةً :

- حاضر ، حمودي ما ياكل .


فوثبَ عن السَّرير بانتصار

وأخذ يشدُّني من رسغي بحماسة

يدعوني إلى الذهاب معه لرؤية الحلى الجاهز ،

الذي أعددناهُ معاً ..



كان من السهولةِ تنفيذ أمر سيِّدي الصَّغير

بأن عمَّمتُ منع الحلو عن جميع الأطفال

كما نفعل بالعادة !


إلا أن طفلي الكَريم أتاني، يطلبُ الحلو

لأصدقائه الأقزام عدا .. حمودي .




- ! ... Sorry

الكلمة عند أيمن ، اطلبوا الإذن منه .


خاطبتُ والدة (حمودي) النَّاقِمة ممثِّلةً اللَّاحِيلة .


- أبوي أيمن ، تعال حبيبي .. تعال عند ماما نادية ، بأقول لك سرّ .


التفتنا جميعاً إلى أمي الشارعة الذراعين في استقبالٍ لصغيري الشَّقي .

تبعناه وهو يركض .. ثُمَّ يقفز عليها كَالطَّائِر ، وبأمي تعتصره وتغرقه بالقبُلات .

ثم توشوش له في أذُنه بكلماتٍ لم يسمعها سواه .



- شيخنا أيمن منح الإذن !


أعلنت والدتي نبأ السِّلمِ وهي ترفع بطلي القزم عالياً بفخرٍ .


صفَّقتُ له تشجيعاً :

- شاطر ولدي ، بطلي حبيبي ..



- بس .. بس .. بس واحد !

واحد !! كـذا !!


هتفَ مُطلِقاً شرطَهُ بعبوسٍ ، مُشيراً بإصبعه المنتصب بعصبيَّة .


- وفاء ، أيمن يقول ... بس واحد اعطي حمودي ، واحد بس .. طيب ؟


أجبتُ والدتي مقلدةً نبرتها التمثيليَّة :

- حاضر ماما ، واحد بس .


ثُمَّ قدَّمتُ الطبق الملوَّن إلى الطِّفل (حمودي) والذي أجادَ تأدية دور المسكينِ الحزين بجدارة .


تنبَّهتُ إلى طفلي الذي لم يرفع أنظاره عن منافسه .. كما لو ينتظر شيئاً .



- حمودي ؟ ايش مفروض تقول لأيمن .. ؟

أيمن أعطاك من الحلى حقه .. !


خاطبتُ الولدَ وأنا أدعو في نفسي أن يكونَ ولداً طيباً .


- شكراً !


هنا وجدتُ السَّعادة تملأ التقاسيم المحبَّبة إلى قلبي ..

بعدما حصل على ما كَان ينتظره ..


بُنَيَّ طيِّب القَلْبِ مِن الدَّاخِل ..

بِحاجَة فقَطْ إلى مَن يفهَمه ..


إنَّه مَظلُومٌ ..

مِثلُ أَبِيه ..


يُطلِقون عَليه بـِ(الشَّيطَان) ..

بينَمَا داخِلهُ مَلَاكٌ ..

لَا يَعلَمْهُ سِوَايَ ..






















* * *






















مضَت قرابة الثَّلاث سنواتٍ ..

ولم يحاول رؤية الأم التي أنجبَته والاطمئنان عليها بزيارة واحدة ،

غير زيارة العزاء لوالده المتوفَّى .


حرصَت على التواصلِ معه بين فترة وأخرى خشيةً عليه من القوقعة التي عزل نفسه بها ،

محاولةً جذب اهتمامه بآخر أخبارِ الأُنثى التي برعَت في الإيقاعِ بابنهم الغريب الأطوارِ في شباكِها .


تردَّدت كثيراً ... قبل نقلها لنبأ رزقهِ بمولوده الأول .. لمَّا اكتشفت أن الفتاة تنوي إخفاء الأمر ،

فلولا تواصلها مع والدتها .. لمَا كَانَ لها علمٌ بالأمر ، وما أكَّد شكوكها تصريح الأم عن رغبة الفتاة .



بدايةُ تواصلها مع الفتاة كَان بكَونِها همزة وصلٍ .. لإيصالِ معلومةٍ ما إلى والدتها ،

معلومةٌ بشأنِ طبيبٍ ما .. حتى الآن لم تجد جواباً عن فضولِها بشأنِه ، لا مِن ولدها الصَّامت ..

ولا مِن والدة الصَّبية ، التي شعرت بحرجٍ من الظهور أمامها كَجاهلةٍ بقضايا ابنها ..



لقد ارتكبت خطأً فادحاً في وصفِ الشابَّة بالضَّعيفةِ والهشّة ،

فما أبدته في ذلك اليوم من صلابة وقوَّة لا يمكن لأيُّما امرأةٍ أن تبديه ..

إلا في حالِ كانت مجرَّدة من المشاعر ..

لكنَّ هذه مُغرَمة بذاك المجنون !


ومع ذلك نادِمةً أشدَّ النَّدم ... على إثرِ إدراكها .. أن كَان يُفترض إبعاد الصبيَّة عن حدثٍ شديد كَمثلِ الذي وقع ،

فمهما بلغت صلابتها ، فمن الأكيد أن منظراً كَقبضِ مصَحَّة نفسيَّة على زوجها المجنون ، سيترك أثراً في نفسِها .


بدايةً قد فكَّرت في خطةٍ بإدارة نقاش هادئ مع الولد ، والمحاولة عن طريق الإقناع .

لم يعيقهم عن ذلك سوى الخشية من أذيَّته لزوجته ، وبالفعلِ !!

فالفتى لم يكفَّ عن التَّرديد والصُّراخ بـِ(سأقتلها) !


تهديداته الهستيريَّة كَانت على مسمعٍ منهما ...

حيث هي وَ الفتاة .. بالسيَّارة التي اعتمدوها حمايةً لها ،

إذ كَان الجميع في انتظار قدوم (المطلوب) من عمله .


راقبَتْ بقلبٍ ممزَّق كَيف الرِّجال يقيدون (بُنيّها) كمجرمٍ هارب ..


رأَتْ كَيف كَان يقاوم باستماتة وجنون ..


كيف يحاول شقيقه تهدئة هستيريَّته وجوزيَ بركلة ..

ما جعل الرِّجال يقسون عليه ويشدِّدون من قيده ..

بمنظرٍ صَعُبَ عليها الاستمرار بالمراقبة ،


فكيف بزوجته الغضَّة الصَّغيرة ..؟


لم يُرِحها بقدرِ ما أراحها اكتشافها أنَّ الفتاة سليمة الجسد .. ،

فلم تستطع منع نفسها من إخضاع الفتاة للفحصِ ..

فمسألة أن يكون الابن سبباً في الإيذاء بالآخرين ،

مسألةٌ صعبة للأُمِّ بشكلٍ لا يتصورَّه أحد .



الفتاة رغم الخجل الباديَ عليها ، إلا أنها كَانت حريصَةً على زيارةِ زوجها ..

رغم ما كَان يُبديه من جفاء ، إلا أنها حاربَت بمقابلةِ ذلك بلُطفٍ وتقبُّل ..


إلى أن أتى اليوم الذي كَان زيارتها الأخيرة ..

ليصعقها بخبرِ (الطَّلاق) ، طالباً منها إعادة الفتاة للمنزل ، ثُمَّ مرافقتها إلى الوطن .


لكِن دُهِشَتْ به يُجنُّ جنُونُه ، ويقلِبُ المكَان رأساً على عقِب ..

حينما أخبرَته بأن الفتاة فضَّلت العودة بمفردها .


وصل الأمر لتدخُّل أفراد هيئة التَّمريض ، ليُزيلوا أيَّ تعقُّلٍ باقٍ برأسِه ..

ما اضطَّرها إلى استدعاء شقيقه ، حيث تمكنا من تحريرِه بطريقةٍ ما .


غيرَ أنَّه اختفى ، ولم يحاول مدّها بأيِّ خبرٍ عن الصَّبية ..

انتظرت طويلاً ...


شعرَتْ وكَأنَّما المَخلُوقَينِ اختفيا عن العالمِ فجأةً ..

كَأنَّما انشقَّت الأرض وابتلعتهما ..


غابَا طويلاً لدرجة لم يكُن أمامها سوى العودة ..


إلى أن قامَ أخيراً بالرَّد على مكالماتها القلِقة ، عندما استقرَّت في البلاد .

مُطمئِناً إيَّاها بأنَّ فتاته بخيرٍ ، وقريباً ستكون بين أسرتها .


غير عالِمٍ بأنها لم تكن قلِقةً على الفتاة بقدرِه ..

فالفتاة بخيرٍ بالتأَّكيد ، عاقِلةٌ غِرارها لا خَوف عليها ..

(هُوَ) من يجدُر بأن يَخشى عليه المَرء ..






















* * *






















" ليش حبيبي تخاف منهم ؟ "


" .. هاه ؟ .. "


- ليش تخاف من الحشرات ..؟


- ... وفاء ...


- حبيب وفاء ..


- .. الكورة .. بالعارضة ..


" متعب جاوبني ، ليش تخاف من الحشرات ؟ "


" .. هاه ؟ .... ظهير أيسر ؟! "




تلك آخر محادثةً كَامِلة بيني وبين رجُلي ..

أقصِد أميريَ النائِم ..



كدتُ في تلك الفترة أنسى بأن رجُلي من النَّوعِ المتكلِّم في النَّوم ..

فنومه الذي تحوَّل إلى خفيف وقلِق حالَ دون الأحاديث النَّوميَّة ، وقلَّل من نسبتها بشكلٍ عالٍ ..

وإن حصلَ وبدأ في الكَلام استيقظ من فورِه ..



كنتُ أحمِل اعتقاداً بأنه يمكنني استخراج أسرارِه باستغلال ذلك ..

عن طريقِ جرِّه في الأحاديث وإلقاء أسئلة التَّحقيق ..

جاهِلةً بأن حديث النَّائم لا يحمل أّيّ معنىً أو مضمون ..



لجأتُ لهذه التقنية خاصَّتي لأوَّلِ مرَّةٍ .. في المرَّة الأولى من تنويمي له .


أذكر كيفَ انتظرته بصبرٍ أن يبدأ مرحلة الكَلام ..

حتى أبتدئ مهِمَّتي بالتَّحقيقِ معه في القضِيَّة التي كانت تؤرِّقني ..

ثُمَّ وكيفَ أُصِبتُ بالإحباط ، حين لم ألقَ إجاباتٍ سوى عباراتٍ لا صلة لها بأسئلتي التَّحقيقيَّة من أيّ ناحية ..





- ماما .. ماما .. كناري تعبان ..



التفتُّ إلى بُنيَّ ، ويداي منشغلتان بجلي الأطباق .


- كيف تعبان ؟


- تعبان .. تعبان .. كذا ..



راقبتُ الصَّغير يُمثِّل مُوَضِّحاً ..

يجلسُ على قدميه ساكناً ، ثُمَّ يفتح كفَّي ذراعيه المطوَّقان حوله ،

مباعداَ بين أصابعه دلالة على الرِّيشِ المنفوش .



- طيب حبيبي ، الحين جاية .. أخلص أول .


- لا ماما .. كناري أول! يموت!


- الصَّبر مفتاح الفرج ، والكناري تعبان بس .. ما بيموت .



لم تُفلِح محاولتي المطَمْئنة مع ابني العنيد ،

إذ أخذ يشدُّ المريلة المحيطة خصري يرغب بنزعها ،

فاستسلمتُ وقمتُ أشطف يداي من رغوةِ الصَّابون .



كنتُ قد لحِظت معاناة أنثى طائرِ الكناري منذ يومِ الأمس .

مِن أعراض الرِّيشِ المنفوش ، وسكون الجسد .. كما وصَفَ الطِّفل .

كُلُّ ذلك يدلُّ على مشكلةِ واحدة ، بيضةٌ عالِقة في بطنِ الأنثى تأبى الخروج .


كان شديد التركيزِ للغاية ، والعصبيَّة بادية على تقاسيمه النَّاعمَة .

فيما أحمِل بين كفيَّ أُنثى الكناري ذات اللونِ المُزدوج .


ألقى صغيري سؤاله القلِق في أنين .


- اصبر حبيبي .



كنتُ أستخدم مُحاولات الطوارئ التي تعلَّمتها من رجُلِي في هذه الحالات .


استمرَّيتُ بالتمسيدِ على بطن الأُنثى الطائر بالماءِ الدافئ ،

بينما أمامي قنينة زجاج مملوءة بالماءِ السَّاخن .


طلبتُ من الصَّغير مُجدَّداً رفع غطاء القنينة مع تنبيهٍ بالحذر ،

فنفَّذ الأمر بسُرعةٍ ، وعادَ البُخار يتصاعد من عنقِ الوعاء الشَّفاف .


فأخذتُ أُقرِّب بجسمِ الطائر من البُخار السَّاخن ثم أُبعده ،

وأكرِّر الفعل حتى اكتفيت .



مُجدّداً يُطلِق أنينه المتسائل ، لأُطمئنه بنفس الإجابة .



عدتُ آخذ حفناتٍ من الماء الدافئ أمسِّد البطن بيدي ،

وهذه المرَّة مع دفعٍ بسيط في انتقالٍ للمرحلة الأخيرة .


حتى تمَّ استخراج البيضةِ بنجاحٍ فكوفئتُ بالتَّصفيقِ ..

ثم بعناقٍ وقُبلةٍ لذيذة بعدما وضعتُ البيضة في العُشِّ واحتضنتها الأُنثى ..



كانت تجربة جديدة على صغيري ..

بدا قلِقاً مع قدرٍ كبيرٍ من الفضول ..

إلا أنه أبدى تعاوناً كبيراً وكان مستعدَّاً لتقديمِ أيّ مساعدة ..



بطلي الصَّغير .. !





















* * *





















" أنتي طالق "






لا أذكر شيئاً إثر هذه الجملة ، سوى أنني أفَقتُ وسط شوارع لندن .


كنتُ في زيارتي الخامِسة له .. تقريباً .


حقيقةً شعرتُ بأنَّه غير مرحَّب بي .

بدايةً منه .. وانتهاءً إلى والدته وعاملو المصحَّة .


لكن كنتُ أنعتُ نفسي بالغبيَّة ..

ألومُ نفسي قائِلةً .. كَيف أجرؤ وَأفكِّر هكذا تفكير ..؟


ذكَّرتُ نفسي بحجمي ، وَ معزَّتي في قلبه ..

أًقنِعُ نفسي بأني .. أدرك جيداً أنه يهيم بي عشقاً ..

أُقنِعُ نفسي بأنَّه لن يكرهني ..

ولن يتخلَّى عني ..


شجَّعني ذلك ..

ودفعني على الإصرارِ بالانتظام في زياراتي له .. ،

برفقةِ والدته .. والتي أجاهد بصعوبة ..

كَي أُزيح الخجل عني ..

لكَي أطلبها مرافقتها ..


كانت طيِّبة ..

وفَّرت لي شريحةً لهاتفي ..


شريحتي الجديدة جعلتني أكتشف

أني لا أعرف الكثير من الناس ..

جهات الاتصال بهاتفي لم يحوِ سوى ..

رقم طليقي ، ووالدته ..


حاولتُ تذكُّر رقم والدتي ..

رغبةً في زيادةِ الأفراد لديّ .


تساءلتُ ، لماذا لجأَ إلى محوِ الأرقام ...

بما أنه تخلَّص من شريحتي ؟

ألم يُفكِّر بأنِّي قد أحتاج تلك الأرقام يوماً ؟



يوماً كَاليومِ الَّذي تلا ...




" أنتي طالق ، لاعد نشوف خلقتك هنا .. أبثرتينا "





كانت جُملةً ..

بمثابةِ الفأس ..

الذي حطَّم بقايا صِلَتي بالواقِع ..




لا أذكر حقاً ، كم قضيتُ أجوبُ لندن .. لأني ببساطة لا أعلم .

فـ(عقلي) في تلك الفترة .. لم يكن بالذي يدرك الوقت ، أو المكَان .



في الواقع كنتُ شخصاً معتاداً على الهرب ، لكن لم أبتعد لِمرَّة عن منزلنا ..

وأعتقدهم اعتادوا ذلك مني ، لعلمهم بأنَّه سينتهي بي المطاف عائدة إليهم ..

لكن ذلك ... في حينِ كَان ملجَأي بيت عائلتي ..


لكن الآن أين ملجَأي ؟



لا أذكُر من تلك الأيَّام سِوى ...

أنِّي حرصتُ ليلاً ، البقاء بينَ أرجلِ المارَّة .. في الشَّوارعِ الرئيسيَّة ..

أتجنَّب النَّوم في الأزِقَّةِ والدَّهالِيزِ .. خوفاً من أفرادِ العِصَابات ..



كنتُ تائهة ، لا أعلم أين أنا ؟


لا أعلم أين تقع تلك المصحَّة ؟

في شرقِ لندن ، أم غربها ؟

أم في شمالها ؟ ...



أذكرُ أني حاولتُ استكشاف الطُّرُقات ، علَّ منزل (خالي) يكونُ بالقرب ..


حاولتُ استكشاف أسطح مهجورة ، علَّ أجد فيهم ملجأً مناسباً ..

لكِن أعاقني أحدهم .. فلذتُ بالفرار .. قبل أُلقَّبَ بالمُغتصَبة ..


أذكرُ كيف تتبَّعتُ مُشرَّدين أمثالي .. أملاً في الحصولِ على بقايا طعامهم ..

أذكرُ كيفَ تجرَّأتُ لِمرَّةٍ .. وتقدَّمتُ إلى أحدِهِم .. أُخبِرهُ بأنِّي جائِعة ..


قابلتُ الكثير من الأُناسِ يُقدِّمون لي الطَّعام ..

لكن أكتشِف دائماً بأنَّ طعامهم لا طعم له ، ولا ملمس ..

وَأحياناً أخرى يُصبح طعاماً بشريَّاً .. برائحة ، وطعمٍ ، وملمس ..

لكِن مهما تناولتُ منه .. تبقى أمعائي تعتصِر ألَمَاً .. وَ جُوعَاً ..


اضطُّررتُ بيع شريحة هاتفي ..

ثُمَّ هاتفي ذاته لأحدِ المُشرَّدين ..

بعدما يئستُ إيجاد بقايا طعامٍ ..


أرى المُشرَّدين أصحابي مُنعَمِين إلى جانبي ..

فكُلٍّ منهم يملك أغطيةً ، وحاجيات الإنسانِ الأساسيَّة ..

بينما لا أملك سوى عباءَتِي التي حوَّلتُها لغِطاءٍ ..



في آخرِ أيامي كنتُ قد وجدتُ أسرةً مُشرَّدة ..

مُكوَّنة من امرأة كبيرة في السِّن ، مع زوجٍ ..

اعتمدتُ على توسُّل الطَّعام منهما ..


رغم أن المرأة كَانت قاسيةً بعض الشَّيءِ في البدايَة ..

حين أتيتها المرَّة الأولى، أتوسَّلُ لُقمةً من وجبةِ غدائِهما ..

لكنِّي ظللتُ بالقربِ .. كنتُ أتضوَّرُ جُوعَاً ..

حتى عدتُ أقترب حينما نادت عليَّ ..

كانت امرأةً طيِّبة .. لكن زوجها قذِر ..


بعد ذلك وجدتُني أكتشِف بأنِّي مُجرِمة ..

قُبِضَ عليَّ أمام مرأىً من أُسرَتي الجدِيدة ..


حاولتُ أن أهدأ ..

أُقنِع نفسي بأنَّ رجال الشُّرطة طيِّبون ..

إنَّهم لحمايةِ الناس .. لا يُمكن أن يُؤذوا ..


حسناً ، رُبَّما يزجُّون بي في السِّجن ..

لكن سيكون أفضل من الشَّوارعِ غير الآمنة ..

كَذلك سيوفرون لي طعام .. و غطاء .. !



لكن أُفاجَأ بهم بعد إذٍ ، أنهم قادوني ..

إلى الرَّجُل الذي رمَى بي ..


جُلَّ ما احتلَّ تفكيري تلك البرهة ..

كَيف أمكنهم اكتشافي ؟


كَيف أمكنهم بين كُلِّ ذلك الازدحام ..

وكلُّ أولئك المُشرَّدون في شوارع لندن ؟



هل دسَّ أحدهم جهاز تعقٌّب بجسدى ؟




كنتُ أحاول إيجاد إجابة مُقنعة ،

بينما يضيق خِناقي على تطويقِ ذلك الرَّجُل ..

المذاقُ المالِح بفمي أعاقَ تفكيري العمِيق مراراً ..

وأجبرَ عقلي في النهاية على تساؤلٍ واحد ،

لماذا يبكي ؟


" تعرف بيت بابا ؟ "


ذلك كُلُّ ما فكَّرتُ به .. ملجأ ..


كنتُ قد نسيتُ بأنه يكره أنادي خالي بـِ(بابا) .

لا أدري إن غضِبَ أيضاً .. في ذلك الوقت ..

كنتُ مشتَّتة التَّفكِير .. مُضطَّرِبَته ..

لا أُجيد التَّركيز على التَّفاصيل ..


لكِن أذكُره كَان غاضِباً ..

بينما يُلبِسني عباءَتي ..

التي نسيتُ بأنَّها عباءَةً ..


بعدما قامَ بإطعامي وكسوتي ..

قد استعددتُ للذَّهابِ إلى خالي ..


لكن بي أجدُني ...

بدلاً مِن بيتِ خالي ..


صِرتُ على سريرٍ أبيَض ..

أتعرَّض للتعَّذيب ..


إبرٌ متوحِّشة تنهشنِي ..

كميَّاتُ حبوبٍ تزهقنِي ..


قاومتُ بِشرَاسَة ..

الأشباح البيضاءَ التي تسحقني ...


لكن ...

تفوَّقت عليَّ ..

الأشباح ..













* * *







لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس