عرض مشاركة واحدة
قديم 04-01-16, 11:26 PM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-

































الفصل الرابع عشر

































. .




















































المرَّة الرابِعة أتفقَّد بها حقيبة السَّفر .


ربَّاه .. أهو دور الوسواس القهري ؟


لكِن بكُلِّ مرَّة أتذكَّر شيئاً !


أوشكْتُ نسيان نِصف حياتي ،

لا أيمَن ...،


بل النِّصف
الآخر ..


ذِكريَاتُ الإنسانِ الذي أعادني للحياة - بفضلِ الله - ،

المخلوقُ الوحيد الذي ناشدَ من أجلِ عافيتِي ..


ابتدأتُ بإنهاكٍ وللمرَّةِ العاشرة أعُدّ القطعِ الخمس من ذَّاكِرات الحاسُوب .


التفتتُ إلى فلذة كبدي ، بعدما شعرتُ بحركته .

ثُمَّ سارعتُ في النُّهوضِ إليه ..

أُعيدُ صغيري النَّائِم الجالِس إلى الوسادة .


أتمنَّى تكون مجرد اضطِّرابات نوميَّة عرَضية ، زائِلة .

وإلا سأُضطرّ إلى إخضاعه لفحصٍ وعِلاجٍ ،

قبل يتطورَّ الأمر ويصل لمرحلةِ أبيه .



" تحب وفاء ؟ "

لمْ أكفّ عن سؤالِه .


التحسُّن الوحيد الذي مِن وراءِ دوائه ،

صارَ ينام بعُمق في أيامنا الأخيرة .




صامِتْ ..

صامِتٌ كَانَ كُلَّ الوقت ..


رسميّ ، رسميٌّ جداً ..

لم يكُن (مِتعب) أبداً ..


كنتُ أُثرثِر طوال الوقت ،

لأُقابَل بالتجاهُلِ التـامّ ..



لم تُدار بيننا محادثة واحدة .



إما كنتُ أثرثر مع نفسي ، أو ...

إما يُطلِق أوامر جافة لا تقبل النِّقاش .



سابِقاً ...،

يخنِقُني .. !

يخنِقُني كَانَ من تودُّدِه المُبالغ ،

والتلطُّف والالتِصاق الزَّائِد عن الحدِّ .


ثُمَّ ...

وَ كَأنَّ الأدوار قُلِبتْ ، ...

صِرتُ من أُحاصِره .. حدَّ الاختِناقْ !




أعتقِدُه كَانَ لا يزال غاضِب ..




عِشنا أياماً طويلة في الشَّقة المفروشةِ الرَّديئة تِلكْ ..

عِشنا أياماً طويلة كَـ .. أحتار ماذا أسميِّ العلاقة ؟


كُنَّا كُلّ شيء .. كُلّ أنواع العِلاقات ..

عدا أن كُنَّا زوج وزوجة ..

لم نعِش يوماً كَأزواجٍ ..


عشنا كَغرباء ..

عشنا كَأصدقاء (صامِتون) ..

عشنا كَجيرانٍ مُتزاوِرُون ..

عشنا كَأعداء مُتهادِنون ..


شعرتُه مبتعداً عني بأميالٍ .


يُصبِحُ عصبيَّاً في أوقاتٍ كثيرة ،

مع أنَّه مُلتزِم بدوائِه حسبما أتذكَّر ..


أعترِف أن كنتُ السَّبب في عصبيَّتِه .. بعضِ الأحيان ،

لكن لا يُنفي أنَّه يكُون بلا مُبرِّر في أحيانٍ أخرى ..

شعرتُ به ظلمَنِي في أحيانٍ كثيرة ..


نوباتُه الاكتئابيَّة تضاعفت ،

لكِن تغيَّرت في هيئَتها .




ورُغم كُلّ ذلك؛ ...

رُغم كُلّ القسوة وَ الجفاء ،

لم يمنع مِن يكُونَ لي كَالأُم الحنون ..

كُلَّما احتجتُ إليه .. يهرع إليَّ ..

يغمُرُني بدفئِه ، يُحِيطُني بعطفِه ..


كَعهدي بـِه


،






" بأذبحها !!! بأذبحها !!! وينها !!!! "



لا تنفكّ صدى كَلِماته الدَّموِيَّة عن التَّردُّدِ برأسي ،.




ندِمتْ ...

لمتُ نفسي كثيراً ..

لمتُ تفكيري المحدود ..

لمتُ دماغي الخرِب ..



لم أتقبَّل فكرة مجيء رجال المصحَّة ؛


لم أتقبَّل ..

منظر ( رجُلي ) يُقاد بكُلِّ تلك الوحشيَّة ..


حبيبي .. كَانَ مذعوراً ..


الوحوش ، لقد أخافوه !


مشهدٌ .. نزَف له قلبي دمَاً ..

كُلَّما عبَرَ ذاكِرتي ..


تمنَّيتُ لو أطلِق ساقاي للِّريح .. وأحتضِنه ..

أُطمْئِنه .. أُهدِّئه .. أطبطِب عليه ..


أصرُخ في وجوههم القاسية ..

اتركوه ... !!

اتركوا زوجي وشأنه ..!

اتركوا حبيبي وشأنه .!



كَانَ بإمكَانهم اللُّجوء إلى أسلوبِ التَّفاهُم ..


أعتقِد ( رجُلي ) عاقِلٌ بما فيه الكفاية ،

ليكون له القدرة على الفهمِ والتَّفاهُم !


مُغفَّلون !


يُفترض أن اعتمدتُ على نفسي ؛

لو ركلتُ الخجلَ اللَّعين !


لو أخذتُه في حوارٍ يصل بنا للسَّلام ..


لو قلتُ له :


( يا زوجي الحبيب ..

ألا تشعر أنَّك تعاني من أمرٍ غريب ؟ )


لو قلتُ له :


( يا صديقي الغالي ..

أرغب بأن أطمئنَّ عليك .. هلَّا فعلت من أجلي ؟ )


لو قلتُ له :


( يا جنَّتي أنتْ ..

يُتعِبني أراك تُعاني .. هلَّا تأكَّدتَ مِن أنَّك بِخَير ؟ )



بل كَان يُمكنني مُصَارحته !؛

ورمي رأسِه بالحقيقة المُرَّة بكُلِّ قسوة !


( يا حبيبي .. أنتَ مجنون ! ،

هلَّا عرضتَ نفسك على طبيبٍ نفسيّ .. مِن أجلي ؟ ) !!


اُقسِمُ أنَّه سيتقبَّلها بصدرٍ رحِب .. !


سيدرُس مُلاحظتي ،

ثُمَّ سيُنفِّذها بلا تردُّد !


( رجُلي ) وَ أعرِفُه ..

( رجُلي ) رجُلٌ عاقِل ،

أعرِفُهُ جيِّداً ..


رجُلٌ منطقِي ، عقلانيّ .. وحكيمٌ في الحقيقة ؛ ..

ولو أنَّ له بعض النُّزعات الجنونيَّة .!



هل ما تزالُ غاضِباً منِّي ،

يا ( رجُلي ) ؟


هل ما يزالُ قلبُك الطَّيِّب

قادِر على العفوِ عن حماقاتي ،

يا ( رجُلي ) ؟



أنا آسِفة ..

آسِفة يا ( رجُلي ) ..

كَهرمانتُك آسِفة ..























* * *























رمى بحلقةِ المفاتيح على الأريكةِ السَّوداء المُهترِئة ،

واستعدّ ليبتدئ برحلةِ البحث اليوميَّة ، والتي صارت روتيناً نهاريَّاً .


غدا يدور في الحُجُرات الهادِئة ،

يبحث خلف الأبواب .

يفتح الدواليب باباً .. باباً .


تأكَّد من محتوى غسَّالة الثياب في طريقِه إلى المطبخ .

لا يوجد بابٌ للمطبخ ، وُفَّرَ عليه تعب لحظة .


توجَّه إلى الخزائن ذات الخدوش والدِّهان المُتقشِّر .

وباشرَ فتح الأدراج السُّفليَّة بترتيبٍ عشوائي ،

ليُقابِله الفراغ ... ؟


رفع رأسه إلى الأعلى ، مبهوتاً .


اسـتـقـامَ واقِـفـاً .


هذه القِطَّة .. !

ليسَ ببعيدٍ ويجِدها يوماً مُختبئة في إبريقِ الشَّاي !


شنَّ هجومه على الأدراج العُلويَّة المُعلَّقة ..

وتراخى وخمد حالما تراءتْ أمامه .


بدَت قِطَّةً حقيقيَّة ، لا ينقُصها سوى الفرو ..

كَانَ الملل ظاهراً عليها .


تأخَّر هذه الظَّهيرة ، يبدو انتظرَت طويلاً .


مدَّت ذراعيها نحوه ، مُعلِنةً انتهاء لعبة البحثِ والاختباء .

فاستهلَّ ينتزِعها من الحيِّز الضَّيق ، جاذِباً بجسدِ القِطَّة إلى الخارِج .



- تأخرت .. جسمي يعورني .. المكان قاسي ..


ما إنْ حطَّها على قدميها ، بدرَت عنها قفزات لحُوحَة فيما تشُدَّه إليها .. فقدْ تذكَّرَت قُبلتها الاستِقباليَّة .



- ليه تأخرت ؟ بسرعة اشبك الغاز .. جيعان ؟

ما بتصبر كثير حبيبي ، بأطبخ بسرعة ..



يظهر أنَّ فصامها تحول إلى الصِّنفِ العاطفي .


تعتقِد الآنَ أنَّها جُولييت .. !

تعتقِد أنَّها واقِعة في الحُبّ ... !


" حبيبي .. "

كَم تقتله بهذه الكَلمة في اللَّحظةِ ألف مرَّة ..

كَلمة أكبر مما يحتمله منها قلبه الضعيفُ أمامها ..

فضلاً عن الحالات الرُّومانسيَّة الفظِيعة التي تغزوها، ..

رُومانسيَّة هائِلة .. لا تُحتمَل .



وضعَ ملعقة الطَّعام إلى جانب طبقهِ الذي فرغَ منه .


أعاقته عن شربِ الماء ، تقرِّب ملعقتها إلى فمه بلهفة :

- آخر لقمة حبيبي ..


أخذَ رشفة من الماء ، ثم تناول الملعقة من يدها ، وضعها بهدوءٍ بالطَّبق الفارغ .


وقبل تتمكَّن الهرَب التقطها ، يُقرِّب طبق الدجاج .

ثُمَّ ابتدأَ يحشو فمها بقطعِ الدجاج ، يتبعها بجرُعاتٍ من اللَّبن .


ولم يُفلِتها حتى تأكَّد من أن معدتها تعبَّأت بمُكَوِّني اللَّبن والدجاج ،

... بالإضافةِ إلى البحارِ المَالحة .


لم تستسلِم ، أيُّ إصرارٍ تملِك ؟


استقبلَ ملعقتها هذه المرَّة ، يستلِم اللُّقمة المُصِرَّة ..

لترتسِمَ ابتسامة ساحِرة مخترقةً طُرُقات الدُّموع ..



أصبحت نباتيَّة فجأة .


تدَّعي أنها قرَّرَت المُساهمة في الحفاظ على البيئة وحماية الحيوانات .

والأمرُّ وَالأدهى ، تُعلِّل إهمالها نظافتها بالحرص على استهلاك المياه ،

لم تتوقَّف عن الإصرارِ في إقناعِه بأن يجلِبَ لها (تُراب) ...

من أجلِ التَّيمُّم للصَّلاة ، توفيراً للماء !


عِراكٌ أسبوعي ، من أجل دفعها للاغتسال .. تخشى لمس الماء كَأنَّه عفريتٌ سيلتهمُها .


ثرثرت كثيراً عن مشروعها القادم لحماية البيئة والحيوانات ، تستغرِق أوقات طويلة في إنجازِ

مستنداتٍ نصِّية على جهازها الحاسُوب ، جرَّب قراءتها مرَّةً ، ولم تُشجِّعه تلك المرَّة على التَّكرار ..

سطورٌ غير مترابطة ، لا هدف منها ، معظمها يخرج عن الموضوع الرئيسي ،

عوضاً عن العنوان الكبير الذي ليس بأفضل حالٍ .



- تحركي ، مابي تأخير .


أصدر أمره بينما ترفع الأطباق تعيدها إلى المطبخ .

تتحرَّك بتلكُّوء ، بدَت تنتظِر شيئاً منه .



اليوم يوافق موعد الجلسة العلاجيَّة .

لمْ يواجه صعوبة كبيرة في إقناعِها مرافقتهِ إلى المعالجِ الجديد ،

فقد كان من السُّهولةِ استغلال جانبها الرُّومنسيّ الجديد في التَّحايُل .


مضى شهرين .. مُذ انتشالِها من مُحيطِ المواد الكيميائيَّة .


كان جسدها صامداً أمام الأدوية ، يأبى الاستجابة سوى للمنوِّمات .

يبدوهُ اكتفى .


ليس لديه فكرة إن كان هذا ما يحصل مع كُلّ انتكاسة ،

وهل يُكلِّفه الانتظار طويلاً لتأخذ الأدوية مفعولها ؟


إذا كَانت انتكاستها الأخيرة حادَّة بالنِّسبةِ لسوابقها .. كَما أطلعته أسرتها ؛

إذن ... كَيف يجب وَ يصِفَ هذه الانتكاسة ؟!


كانت صعبة التعامل ، شديدة العصبيَّة والهياج ، سريعة الغضب والثَّوَران ،

تجنّ وتصرخ وتنهار .. كُلَّما وقعت عينها على أيٍّ من جماعة التَّمريض .


في كل زيارةٍ ... تختبئ أسفل كنزته أو معطفه .. لكَي يحملها معه ..




طال انتظاره حتى لأوشك الدخول في غفوة .


- بنت !!! وينك ؟!!



أتاه الرَّد في الصَّوتِ المكتوم من داخل الحجرة المغلقة :

- أنا جاهزة ، تعال متعب ...



تأفَّف ينهض ليرى فيمَ تحتاجه ، واضعاً هاتفه بجيبه بيدٍ حاملاً مفاتيحه بالأخرى .



دفعَ باب الحجرة متغضِّن الجبين .



ما إن وقع نظره عليها استشاطَ غضباً ، واحتدمَ غيظاً .

وأخذ يتلفَّت حوله ثائِراً ، باحثاً عن مطلبِه :

- أنتي يبي لك عصا !!


هبَّت تثِب عن السَّرير بجزعٍ تجرُّ معها الغطاء العريض ،

بينما راحَ يبحث عن الأداةِ المطلوبة في دولاب الثِّياب .


صرخَت عالياً بذعر حين همَّ بالاقترابِ بمُقلتيه الحمراوَين .

يضرب بعلَّاقة الثياب المعدنيَّة على الحافة الخشبية للسرير بقوَّة تصمُّ الآذان .

مقترناً بصوته المُدوِّي الهادِر :

- بتلبسين والا لأ !!!!


انهمَّت على قطع الملابس المُلقاة أرضاً تنتفِض كالمُتكهرِبة ،

تشرع بالارتداء بينما تسترقّ نظرات متلصِّصة خائفة إليه .


استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، واستغفر ربه ..


رمى العلاقة بالأرضية بقوةٍ سبَّبت إعاقة أبديَّة للضحيَّة المعدنيَّة ،

ثم خرج ليُسبِّب زلزالاً مؤقتاً إثر صفقه الباب .


أَهي تحاول حثه على استعادتها ،

أم هي ليسَ أكثر من نزوة فُصاميَّة ؟


يعيد هذا التساؤل في قرارةِ نفسه ... في كُلِّ مرَّة تُبدر عن تلك الطَّائِشة

تِلكُم المُحاولات الإغرائيَّة ، التي لا يراها أكثر من شقاوة طِفليَّة .


خرجت إليه بعباءتها المُماثِلة للونِ شعرها الذي تقوم بجمع خصُلاتِه بعصبيَّة .


- بسم الله ، انتبهي !



بحقِّ الله ..!

ألا يُباع كذلِك دواءً لمرضِ المشية المتعثِّرة ؟!

يومٌ ما ستُصيبه بسكتةٍ قلبيَّة من عثراتها المُخيفة .

طِفلُه في بطنها يستنجِد من تلك الارتجاجات والزَّلازل !


سحبت يدها من قبضتِه بعبُوسٍ مُضحِك ، مُشيحةً عنه راسِمةً الاشمِئزاز على محيَّاها .

لتتعثَّر مجدَّداً ما إن رفعت بصرها عن الطَّريق ، بينما تقوم بلف الحجاب حول رأسها .


- نزلني ، نزلني ..

ما أبيك ، أكرهك !




اكتشاف الحمل ؛ كانَ صدمة ! ...

صدمة كَادت تودي بحُرِّية صَغيرته ،! ..


عاشَ صِراعاً لم يقيسه من قبل ..

يُريدها له ، يُريد الطِّفل ..

وَ يُريد إنقاذها من قفصه ..


لولا نصيحة الطبيب باجراء الكشفِ الاحتياطيّ قبل الخضوع للأدوية ،

لكَانت رحلت عنه تارِكَةً إيَّاه غافِلاً عن الذي تركَه بأحشائها .


نوى الامتناع عن الأدوية خوفاً ، واستخدم عقله هذه المرَّة يُجرِّب استشارة الطَّبيب .


ويا ليته لم يُعمِل عقله !.

الطَّبيب ضاعفَ من قلقه عوضاً عن طمأَنتِه .


نصح أولاً بالأدوية ، لكن عرض استبدالها بنوعيَّاتٍ مناسبة للحمل .

وزاده شدَّةً على شدتِه .. بملاحظته التي لم يكن لها داعٍ ، قائِلاً ؛

المرض النَّفسي أو الذّهاني بحدِّ ذاتهم السَّبب الأكبر في احتماليَّة تشوهات الجنين أو وفاته ،

في حينِ أن العقاقير لا تزيد تأثيراتها الجانبيَّة على الجنين عن 5% !


في النِّهايةِ أعطاه خياراً بعد أن تمكَّن بمكره وخبثه من زرع لبِّ الخوف ، بأن بإمكَانه

الامتناع عن الدواء مؤقتاً أثناء فترة الحمل لو رغِب ، ويُشترط العودة إليه حفاظاً ،

ومنعاً من ظهور أي اتجاهات عدوانية ضد الجنين مثل رفضه والتخلص منه ،

إلا أنه نبَّه بإيقاف الدواء في الأشهرِ الأخيرة من الحمل .


وكأيِّ عامِّيٍ مسكينٍ غافلٍ أدَّى مفعول الكَلام المُخدِّر للطَّبيب تأثيره عليه .


إلى أن أتى الوقت الذي حسمَ أمرَه فجأة ، ولجأَ إلى القطع الكُّلي والمفاجئ عن الأدوية ،

ضارباً بنصائح الطبيب عرض الحائِط .

وتحضَّرَ للسَّفر ، من أجلِ التَّوجه مع صغيرته إلى مُعالجهم المصيريَّ ، ويبتدئ الشُّروع بالعلاج النَّفسي الخالِص ..

بعيداً عن سُمومِ العقاقير وَ الكيماويَّات .



الهدوءُ مُسيطِرٌ على غرفةِ الانتظار .


غارِقٌ في التَّفكِير ...


أخرجته من تأمُّلاته نغمتها الخاصَّة .

امتدَّت يده إلى جيبه ، يُخرِج الهاتف .


إنَّه في انتظارِ متى ترضخ ، وتستسلم للمُعالِج ؟

رغم مرور شهرين ، حوَت ستّ عشر جلسة .

ما فتئ رأسها الصُّلب مُتيبِّساً .

تُقابِل كُلّ كلمةٍ ، يُلقيها عليها الرَّجل العجوز .. بتحدٍّ واستِصغار .



عِلاجٌ معرفيّ سُلوكيّ .. ،


لم يشجِّعه المسمَّى كثيراً حالَ تلقَّاه سمعه .

أوحى له المصطلح المُركَّب .. بمجرَّد تقويمٍ سطحيّ يهتم بالسُّلوكيات .


غيرَ أنَّ هذا الإيحاء لم يصُدَّه عن البحثِ وجمع المعلومات .


ليكتشف بأنه يتضمَّن علاجاً عميقاً يسوِّي من الباطنِ قبل الظَّاهر .

وفعَّال مع اضطراباتٍ عِدَّة كالاكتئاب والرّهاب الاجتماعي ،

ومع الوسواس القهريّ وأصناف الفوبيا ، ولمرضى السَّرطان .


ولم يثِر حماسته إلا النسب المرتفعة في نتائج العلاج للفُصام .

ما دفعه للعزمِ على الإقدام ، لكِن لم يمنع ذلك من محاولات التَّشاؤم بإعاقة الطريق .

حتى هذه اللَّحظة .. التخوُّف يُرافِقه .. يخشى أنَّه رسمَ آمالاً عنها فوق ما تستحِق .



التفتَ إليها في تساؤلٍ .


كانت إحدى رسائلها الطَّلاسميَّة ، لكنَّها خالية من الترجمة .

بالعادة كانت تبعث الترجمة مع رسائل لغتها (التراميديقيَّة) !


(اللُّغة التراميديقيَّة) .. !

لغةٌ من إبداعِ صغيرتِه الفضائيَّة .


ظلَّ يحدِّق بالكَهرمانتَين المُعلَّقَين به ، طالباً ترجمة لرُموزِها .


" ... أبي متعب ... "





حرَّك بقايا القهوة السَّوداء في قعر الكُوب ، في سرحانٍ .


عدَّت ثلاث أعوامٍ على تلك الأيام الغريبة الأجواء ..


وَ مهما مضَت من أعوامٍ وقرونٍ ..


سيظلّ يتذكَّر ...

ويظلَّ كَيانه يتمزَّق ..


على ذكرى اللِّقاء المُؤلِم ..

كَأنَّه حصلَ بالأمسِ ..


كُلَّما تذكَّر الهيئة التي أحضروها بها رجال الشُّرطة ..

كُلَّما تذكَّر وصفهم .. لِكَيفَ وجدوها متطفِّلة على عائلة مشرَّدة ..


كُلَّما تذكَّر كيف كانت تلتهم الطعام الذي ابتاعه لها .. تلتهم التهاماً .. بملء يديها الاثنين ..

كُلَّما تذكَّر كيف كانت مُثلجة من البرد .. تُحاول الاستدفاء بعباءتها الرَّقيقة ..


تمنَّى لو مات ودُفِن قبل يُفكِّر أن يقسو عليها .




أحضروها إليه ..

كَمثلِ طفلٍ متشرِّدٍ ضائِع .


مُتَّسِخة .. مُلطَّخة بالتُّراب ..


عباءتها الملوَّثة تتدلَّى من عنقها كَوشاحٍ ،

تجمعها حول كَتفيها ويديها مِن البرد .



" تعرف بيت بابا ؟ "

كَانَ أول ما نطقت .


أشعرته معها ... كَما لو لم يكن له وجود بحياتها قطّ .

أشعرته ... كَما لو هو أجنبي ، رجل غريب عنها .




أخذ نفساً عميقاً ..

يتنشَّق معه روائح أصناف القهوة ، الذي اكتظَّ بها المكَان الخافت الإضاءَة .







" .... وينه .... وينه .... ويـ ... ـنـه .... "


مُستلقيةً على بطنها قُرب باب الحجرة .

أسدل عليها الحزنُ ستاره كَمن وقعت عليه مُصيبةً .


رفعَ من مستوى صوتِ التِّلفاز يحجب صوتها الذي نبَّه عرق الصُّداع برأسِه .


أهوَ يرفع من مستوى صوتها ، أم التلفاز ؟

هل تنافِسُ صوت مُعلِّق المباراة ؟



" ... متعب ... وينه .. ها ..؟.. وين راح ! ... "



خلقت في نفسه الذُّعر وهي تزحف نحوه كالأفعى .

وجهها مختبئ خلف ستار الشعر الغزير ،

بدت معه شبح امرأة .. قادِمةً من فيلمٍ مُرعبٍ خرجت لهُ من التلفاز .



" ... حبيبي ، وينه .. ها ...؟ وين حطيته .. ها ؟ .. Baby ...؟ "


كانت تبحث عن ذاكِرةٍ ما ، مدَّعية أنها تحفظ بها كافَّة صوره ومقاطعه ،

التي سبق وبعثها كرسائل على هاتفها القديم .



- Baby ؟

.. اعترف ..

أنت سرقته ، صح ؟


يُقسِمُ أنَّه لم يلمسْه !

بل إنَّه لا يعرِف شيئاً عنه .. لا يعرِف حتى هيئته !


ارتمَت من جديد على البلاط .. عند قدميه ، تئِنُّ .. وتُهمهِم مع ذاتِها .


- والله .. والله أخذته .. بيدي هذه .. حطيته بالشنطة ..

والله متعب .. والله .. وينه .. وين .. وين .. وينه ..؟


أجفلته وهي تتَّخذ من قدمِه وِسادة ، وانطلقَت صيحة البُكاء المُزعِجة .

أصابها عن غير قصدٍ ، عندما حاول انتشال قدميه من أسفلِ رأسِها .


كيف يُخرِس هذا الفم الآن بحقِّ الله ؟


تتحلَّى بصوتِ بُكاءٍ .. يُضاهِي علوّ صفارات إنذارِ السِّجن .. المعلنة عن هروبٍ .


ما إن تمكَّن من الوصول لأسماعها .. الضَّجيج العالي الصَّادرِ من هاتفه ،

قُطِعَ بُكاؤها ، وَ قامت إليهِ بِلهفةٍ ..

تُلصِق وجهها بشاشته ، تغسِله بوديانِ دموعها المُستفِيضة .


تابعت الفيديو بفرحةٍ حتَّى آخرِ ثانية .


- ارسل .. ارسل ..

كمان .. أبي كمان ..


حاولت أكثر من مرَّة خطف هاتفه من يده ،

ترغب بالبحثِ معه عن المزيدِ مِن مُتعلَّقاتِه .


بعد الانتهاء من مُهمَّته التي كلَّفته دقائِق ليست بقليلة من وقتِه ،

بقيت تُلِحُّ عليه تُطالِبه أن يأتي لها بعشرِ قطعٍ من الذاكِرات .


فسارعَ بالموافقة تطلُّعاً إلى التَّملُّص من احتكاكِها الخانِق .

وكَانت مُكَافأته عناقُ شُكرٍ أوشك يقطع تنفُّسه :



" متعب .. أحبك "




أيامٌ لا تصفها سوى مُفردة (مَجنُونة) .

أيامٌ غريبة ، بطابعٍ خاصّ .


هل تتذكَّر هذه الأيام الآن ؟

هل تحسَّرت نادِمةً ، خجَلاً ؟

هل تمنَّت الانتحار ؟



لم يتعدَّى استمرارهما عن الثلاث أشهرٍ .

خشيَ عليها من نفسِه .. خشيَ إفقادها حُرِّيتها .

فلا يرغب بتكرارِ استغلال غياب عقلها .


كَان ينوي اغتنام فترة عدَّة الطَّلاق إلى آخر رمقٍ .. إلى تضع حملها !


كَان يرغب بمرافقتها لأكبر عددٍ من الجلسات ، لكِن ...

كَيف يمكن لمرءٍ أن يظلَّ صامِداً .. أمام حلوى .. دون التهامٍ ؟


أمكَنه مرافقتها ثلاث أشهرٍ متتالية ، حوَت حوالي أربع وعشرون جلسة .

قرَّر بعدها إعادتها إلى أسرتها ، مع تخطيطٍ لإكمالِ العلاج برفقة والدتها .


تمكَّن مِن التَّخلُّصِ منها بحِيلةٍ ..

لاقى آثارها على هاتفه الذي أحرقته بتهديداتِها وإلحاحاتِها الغاضِبة .


حتى لم يرى أمامه حلاً للارتياح ، سِوَى عن طريقِ استبدالِ رقم الهاتف .























* * *























عانيتُ لأُشغِلَ تفكيري باللَّعِب مع صغيري .

وقد أبعدتُ هاتفي إلى أبعدِ زاوية ؛ لكَي

أرتاح من فحصِه كُلّ دقيقة وأخرى .



متوتِّرة ، مشدودة الأعصاب .

أقدمتُ على خطوة لا أصدق أني قدرتُ عليها .

طلبتُ رقمـ(ـه) مِن والدتِه !



- كذا لا .. ماما !


تداركتُ أُبعِد السَّيارة التي أُحاوِل تركيبها على بناء المكعَّبات .


لكن يبدو أني ألهمتُ طفلي بفِكرة .


انهمَّ يقوم بهدمِ البرج الذي قمنا ببنائِه .

ثُمَّ شرَعَ يُعيد البناء بهِمَّة ، بهيكلٍ مُغاير .

يبدو على مُهندِسي الصَّغير أنَّه يصنع موقفاً للسَّيارات .


تمنَّيتُ كثيراً لَوْ والده يعلم عنه ..

سيُحِبُّه كثيراً .. كثيراً ..

سيفخر بهِ كثيراً .. كثيراً ..


تخيَّلتُني مِراراً ..

أُرسِلُ له صور طفلِه ..

أو إلى والدته ، فتُعيد توجيهها إليه ..


لا ، قبل تحقيق هذه الأحلام ، يتوجَّب جَسُّ النَّبْض !


يتوجَّب أن ينوي إرجاعي ...

لأجلي ..!

لا من أجلِ الطفِّل !


بلى ، طِفلي بحاجة إلى أب ..

لكن لا أتخيَّل أفرِض نفسي عليه ..


سأجُسّ نبض قلبه ..

إن ما برح على ما تركتُه عليه ..

شرعتُ له ذراعايَ عن أقصاهما ..


وإن لمحتُ ..

صدَّاً ..


أخشَى يكُون الودَاع الأخِير ..




كَيفَ حالُه الآن ؟



ما انفكَّ بائِساً .. ؟

مُكتئِباً ... ؟

صامِتاً ... ؟



هل أضحى مُعافىً ؟

باقٍ على دوائه ؟

أقلعَ عن السَّجائِر اللَّعينة ..؟


لم يسبق وفاتحته موضوع سمومِه تلك ..

لا أدري إن اعتقدني بلهاء لدرجةِ .. أن لا أُميِّز روائِح السَّجائِر ؟


أُقدِّر احترامه وجودِي ..

لمْ يحصُل وَ لمحتُ عبوة السُّموم ، لمْ يحصُل وأخرجَ سِيجارةً أمامي .

ولو أنِّي لمحتُه بضع مرَّاتٍ .. عن بُعدٍ .. في ساحةِ الجامِعة .


اشتقتُ إليها ..

أيَّامُنا القديمة في الجامِعة ..

أشعرُ بالحنين ~


في ذلك الحين .. ؛

لمْ أرَهُ أكثرَ مِن مُراهِق ..

مُراهِقٌ في الثَّلاثِين ..



كَيفَ يبدو الآن ؟

هل غيَّرتهُ السِّنين ؟


بدَت لي ثلاثُونَ سَنَةٍ ..

لا ثلاثُ أعوَامٍ ..


هل حالَ نحيلاً ..

أم صارَ مملُوءًا ؟


سُحنتُه الحِنطيَّة الجذَّابة ..

هل أصبحَت أفتح لوناً ..

أم ازدادَت سُمْرةً ؟


هل بانَ الشَّيب في رأسِه ؟!



" شيب !!

متعب !!

GOD ... !!!

صرت شايب ..؟!

متعب شايب !!! "



في إحدى أيامِنا الأخيرة .. (المُحرِجة) ..

قد اكتشفتُ .. بينما أعبثُ بكُومةِ شعرهِ الفاحِم السَّواد ..

شُعيراتٍ بيضاء صغيرة .. مُختبِئة بخَجَلٍ ..


لم يُعِرني اهتماماً .. رُبَّما لم يُصدِّقني ..

أو رُبَّما اعتقدَه أحد أوْهامي ..

أو رُبَّما كَانَ وهْماً حقَّاً ؟



السُّؤال الأهم الآن .


هل يتذكَّرُني ؟

هل يُفكِّرُ بي .. ؟



سُحقاً ،!

تلك الوالدة ، لم تُعني نفسها لِتُطلعني أيِّ أخبارٍ عنه .



ماذا لو تزوَّج ! ،


حسناً ، الأمرُ يسيرٌ ..

بإمكَآني الظُّهور أمآم زوجتِه (القبِيحة) .. بمظهرِ آلعشِيقة السِّرية ..،

بذلِك يخرَب عُشَّهمآ السَّعيد ~


أو ، بحلٍّ أسهلْ ..

أَقومُ بزيآرتِها ، برِفقةِ سِلآحٍ أبيضَ نآعمٍ ..

وَ برِقَّةٍ .. أُنهِي عَليهآ ~

ثُمَّ يأتِي دَوْر اللَّطيفُون صِغآرُها .. إنْ وُجِدوآ ~



- ماما .. شوف .. ماما ..


- اوه ، بطلي أيمن .. !















* * *





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس