-
الفصل الثامن عشر
. . .
صلبةٌ كالصخر ..
تأبی اﻻعتراف ..
يفترض أن يكون شهر العسلِ
أيــامُ سعدٍ ..
لكنها تجاهد في جعله أيام نكدٍ ..
أتكون مازوخية ؟ ...
تستحثُّ عذابه ... ؟!
بمقدورها اﻻستسلام له بيُسرٍ تام
واﻻعتراف له !
يعِدُ بأنه سيبني لها الجنة ..
وسيغرقها في النعيم ..
ما عليها إﻻ اﻻستسلام !
- .. أيمن .. أيمن ... أيمن .. ولدي ...
دلف الحجرة شبه المعتمة .
ليقع نظره علی ذات الحالة المزرية ، المستلقية في اﻷرض .
- ! Hello, sweety
وانطلقت بالهتاف الباكي ما ميزت وجوده :
- أيمن ... أيمن يبكي .. متعب ..
أيمن يبكي يا متعب ... أيمن يبكي !
انخفض إلی جسدها المنهار ، يربت بلطف :
- أيمن نايم ، توني مكلم جدته .
- ﻻ .. ﻻ ... أيمن يبكي ..
أسمع صوته .. حبيبي أيمن ..
يبكي ...
انتشلها عن البلاط البارد ، في نبرة مؤنبة :
- كم مرة بأعلمك ما تجلسين باﻷرض ؟
كانت في وضع ﻻ يسمح لها بسماعه أو فهم شيء ،
بين بحر هذيانها وشهقاتها العالية .
قام برقة بتمديدها علی السرير الوثير .
نفس عن زفرة مغمومة ...
سيقانها متجمدة ، كمن وضِعت في البرادة .
أخذ في تدثيرها بغطاء البطانية الثقيل .
- أيمن ..
- أيمن بخير .
- .. أيمن ...
- شوفي وش جايب لك اليوم حبيبتي !
قال بهمسٍ ملهوف ، بينما يشعل اﻹنارة المجاورة للسرير .
- أيمن يبي أمه ..
رفعها قليلاً يجلسها ، لكي تتمكن من رؤية هديته الجديدة .
ثم وضع بين أكفافها المدفونة أسفل الغطاء ،
علبة سوداء تبدو عليها الفخامة .
- خمني ، وش يكون هالمرة ؟
- .. أيمن ..
- ﻻ ، مب أيمن .
- ولدي ... أيمن ..
فتح لها الصندوق الأسود ، فانجلی عن طقم أقراطٍ دائرية من اﻷلماس .
همسَ بعاطِفة شاعريَّة :
- أميرتي ، ما يليق بها إﻻ اﻷلماس .
وقع الغطاء عن أكتافها المثلجة حين تحركت تناشد اﻻبتعاد .
فانتزع معطفه الضخم الذي اكتسب حرارة جسده الناري ،
ليقوم بتدفئتها به .
ثم سمی بالله ، يلتقط إحدی القُرطَين .
- أيمن ...
- أصير لك أيمن يا بعدي ..
قال بتغزُّلٍ فيما يزيح طبقة الشعر القصير عن اﻷذنِ الصغيرة المختبئة .
وقع اختياره على القُرط من بين سائر القطع ...
ﻹيمانه ويقينه بأنه سيظهرها بأجمل ما تكون ..
ستظهرها كأميرة أنيقة وفاتنة .
- ليه ما يدخل طيب ؟!
تساءل حائراً ، متألِّماُ ، من أنينها المتوجِّع .
لم يسبق وأن فكر في مدی صعوبة ارتداء اﻷقراط لدی النساء !
إذن هذا ما ينطبق المثل القائل لديهن ؛
- اللي تبي الجمال لازم تتعب !
- هاه ؟
- اوه .. آسف آسف ...
استسلم لما تحول أنين اﻷلم إلی بكاءٍ جديد .
حاول التخفيف عنها بدعكٍ رقيق لشحمة أذنها الصغيرة للغاية .
كان يرغب وبشدة في رؤيتها بالقُرطَين المرصَّعين باﻷلماس .
لبث ينظر إليها في حزنٍ وخيبة أمل .
أمسك بكل قُرطٍ على حدَة ، ورفعهما يضعهما علی أذنيها ،
محاولة في تحقيقِ جُزءٍ من أمنيته البسيطة .
التمَعت عيناه ببريقِ اﻻفتتان واﻹعجاب :
- وفاء ... أنت ملاك .. !
همس مسحورا .
أخرج هاتفه بعجلة ، وفي ثانية واحدة صفعت إضاءة الفلاش وجهها .
زحف إلی جوارها ، يريها صورتها الساحرة بيدٍ مرتعشة .
لكنها التفتت إليه تستعطفه بنظراتها الراجية :
- .. أيمن ...
- أحبك ..
- أيمن ..
عانقها بقبلة حارة أحالت أنفاسه إلی نار ملتهبة ..
لكنه انتشل نفسه بسرعة من بحرها العذب
قبل يغرق حتی قاعه .
ثم اعتدل يحيطها بذراعه ، يتكلم بجدية وهدوء :
- خلينا نعقد اتفاق ، وش رأيك ؟
- أيمن ؟
- لو نفذتي اﻻتفاق بحذافيره ، أيمن بيكون لك في غضون أسبوعين .
عارضت بتحريك رأسها بقوة : الحين ... بكرة !!
فهز رأسه بمثيلٍ مسرحيّ ، لكن يظهر رفضاً قاطعاً :
- No ,
آسف .
تنفيذك للاتفاق لحاله
يكلفك أسبوعين .
- أبي أيمن !!
- موافقة يعني ؟
- ﻻ ، أبي أيمن الحين !
- إذن ، تصبحين علی خير .
واضطجع في استرخاءٍ خالص ، مغلقاً عيونه بساعده الصلب .
ودَّ مساعدتها ، فأبَت .
فعل ما عليه ، وهي حُرة .
حسنٌ ، لعلَّه أفضل .
فهو غير مستعدٌّ بعد بالتخلِّي عنها
للمغرورِ الذي يُدعی ( أيمن ) .
- موافقة ..
- انتهی العرض ، حظ أوفر .
- موافقة !!!!
رفع ذراعه عن وجهه ، يوبخ بنظرة باردة :
- ليه تصارخين ؟
- موافقة .
- موافقة علی وشو ؟
نظرته حائرة : علی العرض .
- أي عرض ؟
- اﻻتفاق !!
- أي اتفاق ، علی ايش اتفقنا ؟
هتفت : ما أدري ، ما تكلمت !!!
- زين قلنا لك غلق عرض اﻻتفاق .
- ﻻ ، ما انتهی !!!!
- مصرة ؟
- بسرعة !!
- وش اللي بسرعة ؟!
- اﻻتفاق !!!
- ما تبين تعرفين أول علی ايش ينص اﻻتفاق ؟
ارتبكت ، تشعر بأنه يخفي نوايا غير طيبة .
فتمنعت عن اﻻستفهام .
تحرك يستوي جالساً مطلقاً تنهيدة كسلٍ تمثيليّة .
ثم قام بمواجهتها وجهاً لوجه ، يرفع اصبعاً أمام نظرها :
- لفترة أسبوعين ، تكونين زوجة مطيعة ، ومحبة .
قاطعته : أسبوعين كثير !!
وأردف متجاهلاً ، مؤكداً عليها : وركزي علی محبة .
قالت بتقطيب : مطيعة .
فأضاف بتحدٍّ حازِم : ومحبة !
- مطيعة بس !
- يهمني محبة أكثر من مطيعة .
- ﻻ ، مطيعة بس !!!
قفز من علی السرير .
راح ثم عاد بورقة شيك ، مرفقة بقلم .
وجلس متربعاً مقابلها .
- ادفعوا بموجب هذا الشيك ﻷمر ؛ السيد متعب بطل كهرمانته وفاء .
اعترضت تمسك يده عن الكتابة : والسيدة وفاء !
فرفع إليها رأساً مغروراً :
- تقارنين نفسك بمتعب ، يا صاحبة أيمن الدلوع ؟
وأكمل الكتابة ، ثم انتقل للسطر التالي .
- مبلغ وقدره ؛ زوجة محبة قبل مطيعة . والتاريخ أربعين
.. أمزح ، ثلاث عشر من ديسمبر ، امسكي وقعي .
ناولها القلم ، فتساءلت وبصرها يبحث في أرجاء الورقة :
- وين ؟
فقام بالتأشير لها إلی الزاوية اليمنی .
لكن أسرع باختطاف الورقة قبل أن تخط عليه بنقطة حبر .
- كذا يلغی الشيك حبيبتي ، ضروري ما يحتوي علی شخبطة وحدة .
الشقيَّة ، كانت تنوي الشطب علی كلمة ( مُحِبَّة ) ..
من سطر المبلغ المطلوب !
أعاد الشيك إليها ، حامياً للأسطر العليا بكفِّه .
فنفذت التوقيع مستسلِمةً خائِبة .
شمخَ بأنفه ، يُطلق أمره القاطِع :
- يالله الحين ، نبدأ أول خطوة من اﻻتفاق .
تعالي راضيني وبوسي راسي .
- هذا مو اتفاقنا !!
- ايش ؟
- ما اتفقنا تذلني !
- تسمينه ذل .. يوم المرأة تحب راس زوجها ؟!
هذا أنا أحب راسك كل يوم !
ضعف موقفها عقب كلماته المراوغة ، واستمتع برؤية
الصراع يلفها وهي تضم ذراعيها إليها بحيرة وانكسار .
تبدو أسفل معطفه العملاق
كمثل عصفورة غارقة ...
في كومة جبلية من القماش .
قام بتسهيل المهمة عليها ، وهو يتلقفها بين يديه ..
وحاول كسر حاجز خجلها ، بلثمَةٍ رقيقة وحنونة علی خدها ..
ثم شقت وجهه ابتسامةُ بهجةً وسعادة ...
بالقُبلة الخجولة علی خده التي اخترقته كالسَّهم ..
أول قُبلة من ( وفاء ) العاقلة ،
والمتبصِّرة !
وما أجملُها من قُبلة .. !
وما أعظمُها بَراءة .. !
عبَّرَ في طرَبٍ :
- ولو إني بغيتها علی الراس ، بس يالله معذورة .
فيه أمل تتكرر ؟
اﻵن فقط يلاحظ قبضتيها اللتين تخفيان شيءٌ ما .
- وش مخبية ؟
نفت برأسها تحارب ظنونه : بردانة بس ..
جال بنظره حولهما ، باحثاً عن قطعتي اﻷلماس التي رمی
بهما بإهمال ، ولم يجد أثر غير الصندوق اﻷسود الفارغ .
- وفاء ، أنتي ما بطلتي سرقة ؟
- حقي !!!
نظر لها بحيرة ، وقال في استدراك :
- ايه ، صح حقك !
فسأل مرتبكاً :
- زين ليه محسستني إنك سارقة ! ليه مخبيته ؟
- ﻻ ، أنت رميتهم ، خفت يضيعون .
وترددت قبل أن تسأل متصنعة عدم الاكتراث :
- بكم اشتريته ؟
تفرَّسَ في وجهها ، يدرُس نواياها .
- تحبين أفيدك بمعلومة ، حبيبتي ؟
من ثم ابتدأ بلا تمهُّلٍ في الردع لأفكارها التخطيطيَّة :
- اﻷلماس مب مثل الذهب ، تبيعينه .. ما يجيب لك فوق ربع القيمة .
وختم معلومته بابتسامة استفزازية .
- ما قلت كم سعره ؟
لحَّنَ بخبث :
- تبين سعره بالدولار ، والا بالريال السعودي ،
والا بالباوند ، واﻻ باليورو ؟
- أي شيء !
- طيب ، ﻻ تعصبين .
تنحنح بتغطرس أحس به معها تودُّ لو أن تقتلع رأسه .
- حاصل ربع قيمته بالكثير ألفين ريال سعودي .
يقابله حدود ثلاثمائة دولار .. أو باوند .
أبهرته بجرأتها بالاعتراف ، وهي تعيد إليه قطعتي
المجوهرات تضعهما في راحتي كفيه بهدوء :
- تفضل ، اشبع فيهم .
إذن تلك اللصة ؛ كانت تخطط للبيع بالفعل !
تظلُّ خالية من أي حسٍّ بالتقدير والعرفان ...
راقبها بضيقٍ ، وهي تضطَّجِع في استرخاء .
طوال حياته يعتقد بهوس اﻹناث بالمجوهرات ، واﻷلماس بالتحديد !
لكن أنثاهُ النادرة تخرق هذه النظرية ؛ وياليتها بالنظرية الوحيدة !
- أبي أسمع صوته ..
تناول الصندوق المكعب الشكل ، يعيد قرطي اﻷلماس .
ثم اضطجع هو اﻵخر ، بلا ردٍّ علی سؤالها الرَّاجِي .
إنَّها ﻻ تملك أدنی حسٍّ بالخجَلِ من أنانيَّتها .
. . .
- طيب ، وين يقعد اﻹمبراطور ؟
قام بتعديل النقاب لها ، وإخفاء حاجبيها الظاهرين .
ﻻ تزال قليلة الخبرة في ارتداء النقاب .
تزال تبدو مثل هندية .. ترتدي نقاباً .
هندية ؟ كلا ؛ لا تليق ببشرتِها الشَّاحبة .
لعل " كشميرية " يليقُ بها أكثر !
- وين كرسي اﻻمبراطور !!
أخرجته من تأملاته بسؤالها اﻻستطلاعي المُصِرّ .
فمد بذراعه ، يقوم بالتأشير لها كاذباً ، مُدَّعٍ المعرفة ،
إلی موقع عرش اﻻمبراطور الوهمي ؛ ...
علی مدرجات ساحة ( الكولوسيوم ) .
- اﻻمبراطور هو جاب فكرة الكالشوم ؟ .. الكولشيم .. ال .. الكالو ....
ابتسم يقوم بالتصحيح لها برقة : اسمه كولوسيوم ، حبيبتي .
تلذذ باحمرار كفيها المنقبضَين ، وهي تدافع مهاجمة :
- أعرف !!!
بس دايما أنسی وأكلج عند هذا ال ....
جاوب علی السؤال !
فتح فمه يوشك علی إجابةٍ متحذلِقة أخرى .
لكنها سبقته تتفاخر بمعلوماتها الضئيلة بحماس :
- تدري ؟! سلالة اﻷسود حقتهم .. باقي منهم عشرة حبات
في العالم ، عشرة حبات بس ! وشفت بعيني واحد منهم !!
- الحين تعرفين هالمعلومات ، وﻻ تعرفين تنطقين اسم مكان معروف ؟
ميَّز تكشيرتها أسفل الغطاء :
- قلت لك كلجة !
أخافته وهي تلتصق بسور البناء تتقصد إدارة ظهرها له .
أمسك بها يفصل قليلاً بينها وبين السُّور
المشرف علی القاع العميق ، والمليءِ
باﻷخاديد الحجرية المخيفة .
من يراها اﻵن ، لن يصدق أنها كانت في يومٍ ما ...
تخشی اﻹطلال من علی النافذة .
- يالله نمشي ؟
- .. بأكلم أيمن ....
- وفاء تذكرين ؟ معد سويتي لي دونات غير مرة وحدة .
كنت أنتظرك ترجعين تسوينه .
أفصح معرباً ، بينما مارَّان بكُشكٍ لبيع القهوة ، والدونات .
حولت من اهتمامها إليه ، بنبرة متحيرة :
- بس ما أعجبك الدونات حقي .
- من قال لك ؟ أعجبني بالذات المصفوق بالسكر .
- ما أعجبك الشوكولاتة حقتي .
تلاعب متغزلاً :
- وأنا فيه شيء ما يعجبني من يدين كهرمانتي ..
عبَّرت حزينة : لو ما أعجبتك أكلة مني ، ما تتكلم .
- عشان ما أعجبتني الشوكولاتة ، تحرميني من الدونات بكبره ؟
عادت تدَّعي اللامبالاة ، معرِضةً عنه .
ألقی نظرة طويلة مفكِّرة ، علی الكشك الشبه خالي ،
ناشراً حوله رائحة القهوة ، والشوكولاتة الشهية .
- ما خطر لك يوم تستعينين بشوكولاتة جاهزة ؟
- لما أسوي شيء ، أحب كل شيء منه يكون بايديني .
أﻻنَ نبرته ، يُغريها بنعومة :
- خلي عندك ليونة حبيبتي ، ﻻ تخلين طريقة ﻷجل كسب زوجك !
لفحته بنظرة سخرية حارقة .
لكنها لم تزحزح الرغبة التي قفزته
وتربعت عرش قراراته في الدقائق الحالية .
وشوشَ في أذنها :
- قدامنا شوكولاتة جاهزة !
سألت متفاجئة :
نشتري شوكولاتة ، بدون دونات !
- Yes !
- تتوقع يوافق ؟
- متی قلت لك إنا بنكلمه ؟
- نسرق !
- ﻻ حبيبتي ، كذا ما أسمح !
هذا يسمی اﻻستعانة بالإمدادات .
وقفت متردِّدة .
أسفل الشقّ الزجاجي .
في الجهة الخلفية من الكُشك .
أطلت إلی رفيقِ السُّوء بقلق ، موشكة علی اﻻنسحاب .
لكنه رفع اصبعاً منذرة أمام شفتيه يشير بالصمت .
أمسكت بمعطفه تجذبه كي تفرغ إليه ما يكتنفها ، موشوِشةً :
- عبايتي بتفضحني متعب ، اللون اﻷسود ملفت .
إﻻ أنه أخذها من خصرها ، يرفعها في تمهل وحذر .
إلی تمكنت من الوصول إلی الفتحة الصغيرة المحيطة بالكشك ،
ولمحت الرجل الغافل تحت طرفي السماعة التي تسد أذنيه .
دنت بالكأس الورقي ، إلی نافورة الشوكولاتة .
تسرع بيدين مرتجفتين بإغراق الكأس
الذي قام بتوفيره لها بين الشلالات البنية اللون .
كانت تنتفض رعبا بين يديه وكأنها مقدمة علی جريمة قتل ،
... ﻻ بـِ علی لعبة سرقةٍ طفولية عابثة !
أشارت إلى إنجازها المهمة ، بركلة قوية موجعة في منتصف بطنه .
- يالله ، نهرب .
همست له ﻻهِثة ...
وقد لوث السَّائل الشهي كفوفها الصغيرة بالكامل .
وزَّعت النظرات حولهما ؛
... تتفقَّد مستوی اﻷمان .
- وش تسوي ؟ بننكشف ، بسرعة !
قالت تردعه بنبرة شارفت علی البكاء .
في الحين الذي انشغل بالتهام يديها ، وكاد
يسكب السائل من الكأس ﻷكثر من مرة .
ثم قام بإنزالها بعدما فرك وجهه الملطخ بعباءتها .
- هاتي الكاس ، أنتي للحين ما تعلمتي المشي .
أخاف تضيعين تعبنا بسقطة .
قال بتلكُّؤ شديدٍ وثقة مُفرطة ، أودت بكُلٍّ أمَلٍ رسمته للنَّجاة .
- متعب ؟ شكل الشرطة بتقفطنا قبل أسوي لك الدونات .
اختارا كرسياً في إحدی الحدائق القريبة ، يلتقطان به أنفاسهما ،
ويعيدان اﻻسترخاء إلی أجسادهما المتوترة .
والكأس الثمين يقبع إلی جوارهما في حرص .
وتكفَّل المكان الساكن الفارغ في مدِّ بدنيهما من هدوئه ،
من بعدما إرهاق المهمة المنهكة ذهنياً ونفسياً ، قبل جسدياً .
ومكثَ اﻻثنان غارقين في صمتٍ مخدٍّرٍ ..
أوشكَ أن يثقل من أجفانهما ويأخذهما
إلی عالم اﻷحلام أمام العامة .
لولا النغمة التي صعدت ، فدسَّ يده بجيبه .
كان هاتفها الذي يرن .
لقد نسيَ إطفاءه في هذا الصباح ،
بعدما نقل إليه عدد من الوسائط .
تراجع عن إخراج الهاتف أمام ناظريها .
- هات جوالي !
- متی بتسوين الدونات ، يا كهرمانتي ؟
- أبي جوالي ، يمكن ماما تدق !
أصدر عن تنهيدة ، وانسحب ليخرجه بنية اﻹغلاق النهائي .
تيبَّس ، متصلباً .
وبقي يحدق ....
لكن بيدها التي حجبت الشاشة ،
عن ناظريه ، هلعاً .
- شيلي يدك .
- هات جوالي ..
- قلت شيلي يدك .
اعتصر رسغها بقسوة فتزيحها رغماً .
ويعود ذلك اﻻسم بالتراقص بجرأة أمام مرأی بصره .
لم يحاول أبداً تفقد هاتفها .
بل لم يفكر مطلقاً بذلك الفعل القبيح ؛
من عظم ثقته بها !
انتظر في هدوء .
إلی أن توقف الرنين .
فاختفی اﻻسم الذي سيلحقه الموت
من بعدما انتهائه من التي تقعد جواره .
حان موعدها مع الموت بلا شك !
لطالما أحس ... بأن نهايتها ستكون علی يده ،
.... امتد اﻷمد بهم ، أو قصر .
أحاطها بذراعه ، يستحثها علی النهوض .
- وين رايحين ؟
سألت بصوت مرتعش .
- راجعين غرفتنا ، حبيبتي .
تشبَّثت بعنقه تطلبه الرَّحمَة :
- صدقني متعب ... كلم ماما .. اسأل ماما ...
أصلا ما أبيه ... ما أحبه ، والله .. والله متعب ...
يلهث كالثور الجامح ، الهائج .
يشدُّ علی الحزام الجلدي ، ويعتصِره ،
بقبضةٍ حلَّلت مادته .
جنون الغضب الذي نال منه
في تضاعفٍ علی إثرِ اعترافها ،
عِوضاً أن يتلاشی .
- .. متعب ...
- صه !
جاهد للتحرك والجلوس ،
لعلَّ يهدئ من غليان صدره .
قدرته علی اﻻستيعاب خارت .
ماذا قالت ؟
يزوجونها ؟
الخاسِئون ،
كانوا ينوون تزويجها !
كيف يجرؤون ؟
كيف يتحدونه ؟
يتحدوا ( متعب ) ؟!
من يجرؤ ويتحدی ( متعب ) ،
فعقابه أشد من القتل !
جذبت انتباهه ، المُعلَّقة به .
ماذا تحاول فعله هذه الخائنة ؟
هل تتوقع إخماد غضبه ،
بهذه اﻷفعال اليائسة ؟
لا فائدة ،
لا فائدة !
مُقدِمٌ الآن على قتلكِ ..
فأوقفي محاولاتك ِ البائسة ..
لكن ...
مهلاً ...
توقفي عن ذلك ..
أوقفي ذلك ...
الراحة تتسللُ إليه رُغماً !
وعيونُها أجمَلُ راحة !
هذه السَّاحِرة ..
إنها سَاحِرة بالتأكيد ..
سَاحِرة بلا شكٍّ ..
ﻻ يود أن يستسلم ، كلَّا ...
كان ينوي قتلَها !
لن يستسلِم لها ..
عليه قتلُها ..
وحالاً !
أغمض عينيه ، يغمرُ وجهه في عنُقِها المُريح ..
يستشعرُ أناملها الرَّقِيقة بين خصلاته ...
... وبراحة يدِها اﻷخری الناعمَة ، تُمسِّد ظهره الغاضِب ..
يجب أن تعاقب علی ممارستها السِّحر ؛
فالسِّحر مُحرَّم !
أهو متأكِّدٌ ؛ من أنه ﻻ يعيش حُلماً اﻵن ؟
إنَّها ، تحتضِنه ... !
في حاجةٍ إلی قرصة .
فليقرصه أحدهم !
حضنها مخدِّر .. رائحتها الزكية تلُفّ برأسه ..
هل هي مخلوقة من ( المخدِّرات ) ؟
سمحَ لنفسه بالغوصِ في أحضانِها ..
وعيش لحظاته ، ولو كان حُلماً ...
فهو أجمل حُلُم ،
وﻻ يتمنی يستيقظ أبداً ..
ﻻ يريد العَودة إلی الواقِع
ﻻ يريد ( وفاء ) القاسِية
ﻻ يريد ( وفاء ) المكابِرة
ﻻ يريد ( وفاء ) المتغطرِسة
إنَّه يريد ( وفاء ) هذه ..
يريد هذه الـ( وفاء ) ..
التي تحيطه اﻵن ..
برِقَّتِها ..
وحنانِها ...
تحتوي حناناً عظيماً ..
أين كانت تخبِّئه ،
طوال ذلك الوقت ؟
- متعب .. ؟
يالنُعومَة صوتها ، يالدفئِه ..
- ممكن أكلم أيمن ؟
أرسلَ نظراتٍ حاقِدة ناريَّة .
إلی الجسد الطريحِ باﻷرض ،
... ويتلوَّی توجُّعاً .
- أصله ما منك فايدة ، قومي اختفي من قدامي !
روحي سوي لي شاي !
لن تتركَ عادةَ التفنُّن في مضايقتِه ، وإثارة غضبِه .
TBC
. . .