عرض مشاركة واحدة
قديم 21-02-16, 03:35 PM   #78

mnsmas
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية mnsmas

? العضوٌ??? » 334157
?  التسِجيلٌ » Jan 2015
? مشَارَ?اتْي » 30
?  نُقآطِيْ » mnsmas is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثاني عشر

عودة الثعلب

فتحت الورقة ببطئ شديد .. لم تكن الرؤية واضحة لعيناي .. ربما كانت مشاعر الخوف تشع من يدي ضوءًا يستحيل الرؤية من خلاله .. أم أن كثرة البكاء قد أقام جدارًا مائيًا حاجزًا استحال ظهور الورقة من خلاله بشكل واضح .. لذلك جعلت ما تبقى من قوتي تحت إمرة حاسة النظر .. ربما فقط آنذاك بدأت في قراءة الورقة ببطئ و بصعوبة بالغة..
- " سيد لويس .. او ابني حسين .. ربما أردت أن أخبرك ما منعته عنك كثيرًا .. و لكن كان الوقت و الخوف يمنعاني كلما اقتربت لك به .. ربما قررت ان تكون هذه هي اللحظة التي يتحتم عليك معرفة كل شئ فيها .. ربما يجب أن تكون لحظة نهايتي هي البداية الجديدة لك .. بداية إستكمال مشواري الذي بدأته سابقًا ..بالتأكيد تريد أن تكتشف تفسيرًا لبعض الغموض الذي ساد حياتك منذ قدمت الينا .. نظراتك و افعالك كانت تدل على ذلك .. و ربما حان وقت كشف شئ من ذلك الغموض .. قصتك بدأت حينما طلب مني السيد مارك أن أجد له طفلًا ذكيًا ليكون له إبنًا و يرث ملكه العظيم .. السيد مارك كان يثق بي كثيرًا .. لذا أخبرني بسره الأكبر و خوفه الأعظم .. و ها انا أثق بك بني و سأخبرك بما أعلم .. السيد مارك و لحسن الحظ كان عقيم جنسيًا .. كل هذه الأموال و الأملاك ستذهب هباءًا بعد موته .. لا سندٌ ولا وريث يحمل الإسم بعد الممات .. ربما فكر كثيرًا في الأمر قبل أن يبوح به لي .. كانت الكلمات تسارع لتصل الى مسامعي آنذاك حين أخبرني أنه يريد أن يكون له ولد يرثه .. و أن جسده لا يعينه على ذلك .. عادت آنذاك لي ذكريات الطفولة في وطني .. درمصرنجا .. نعم وطني الذي احتله الدنجيون .. الذي دنسه قدومهم و دنسته أقدامهم .. السيد مارك يملك إرثًا عظيمًا كما تعلم .. ماذا اذا وقعت هذه الثروة في يد أحد أبناء وطني .. هل تتذكر وطنك يا حسين ؟ .. كيف سيؤثر هذا على العدو .. إن المال هو القوة التي يحتل بها العدو المكانة العظمى .. المال أولًا .. فماذا اذا امتلك وطننا مثل هذا المال ..
بعد طلب السيد مارك أن أجد له طفلًا مهما كلف الأمر و من أي مكان كان ..أقنعته أنه لا مفر الا من ديار العبيد حتى لا يتم كشف أمره من مغرضي -خبائث الإعلام- .. قمت بالبحث في كل ديار العبيد في البلدة .. علي ان أجد طفلًا ذكيًا دون الخمسة عشر عامًا من أبناء وطني .. عله يساعد وطنه اذا اتيحت له الفرصة و ذكَّرَه به رجل يموت .. كنت انت يا حسين ذلك الطفل .. لم أجد حينها طفلًا من ابناء وطني غيرك في تلك الديار فربما لم يمتلك القدرة على الهروب من أبناء وطنك الصغار الا انت .. كان لزامًا علي أن القي ذلك السؤال الذي سمعته هناك و لكن النتيجة واحدة .. كنت انت من سيتم اختيارك حتى لو كانت اجابتك خاطئة .. و لكن باجابتك الصحيحة كنت أنت ذلك الأمل .. أمل الوطن في التحرر .. أمل النجاة .. دوري في الحياة قد إنتهى بتحريرك و منحك النفوذ .. إنه دورك الأن .. ربما تجد من يساعدك هنا .. "
ملامح الدهشة احتلت وجهي و انا أقرأ هذه الورقة المليئة بما كنت أطمح اليه من إجابات و أسرار .. يكون الإنسان في حاجة الى الإجابات و حين تتجلى له يفضل لو أنه لم يعرفها .. هل كانت هذه حقيقة الحاج علي ؟!! .. هل كان يعمل كل تلك الفترة لصالح وطنه ؟! .. هل ينتظر مني أن أحرر وطنًا كاملًا بالمال فقط ! ..
كنت على وشك مغادرة المشفى في حيرة من الأمر و في غير تصديقٍ من الواقع .. حينها فقط لمحت ظهر تلك الورقة و مدون عليها عنوان ما .. ما يكون يا تراه ذلك العنوان ؟!! .. دفنت الورقة في جيوبي و انا أرى السيد مارك حزين الوجه على مرمى البصر .. هكذا انتهى ذلك اليوم الحزين .. بعد ان وارى الحاج علي التراب ..

في اليوم التالي استيقظت متأخرًا .. لحسن الحظ كان السائق في انتظاري في البهو .. بعد نصف ساعة كنت جاهزًا لأخبره بأن ينطلق .. كالعادة رفع السائق مكابح الأمان و تنهد تنهيدة سريعة قبل أن تنطلق السيارة في طريقها المعهود ..
الطريق .. كل انسان له طريقه المحدد .. يمشي في طريقه الى النهاية .. يواجه عوائق طريقه .. قد تتقاطع الطرق لتقابل بعضها بعضًا .. و لكنها حتمًا تتقاطع في نقطة و تنفصل مرة أخرى .. هكذا كانت حياة الحاج علي ..
بذكر الحاج علي تذكرت العنوان الذي اعطته لي كلماته في تلك الورقة .. لدي رغبة ملحة لأعرف الموجود بذلك العنوان .. اغتنمت الفرصة .. أخبرت السائق بأن يعدل مساره و يغير اتجاه عجلاته .. بالطبع لم أخبره بالعنوان .. بل أخبرته بأن يذهب الى سوق قريب من العنوان المدون في ظهر الورقة ..
في غضون دقائق وصلت السيارة للمكان المراد .. إنه حي من الأحياء الفقيرة في العاصمة .. حتى انني اظن اني رأيت ملامح السائق تحتلها الدهشة و الاستغراب .. ربما لم يعهد بي ولوج هذه الأماكن .. و لكني آمرته بانتظاري برهة من الوقت .. دخلت الى السوق .. حتى لا أثير الشكوك .. ثم خرجت من بابه الخلفي .. كل العيون تحدق بي .. ربما ظن اهالي القرية انه اخيرًا آتاهم أحد المسؤولين ليتفقد أحوال القرية الفقيرة و يصلح لهم أمورها .. فهم لم يعهدوا مرور رجل ذو بذلة أنيقة و مظهر أنيق عليهم .. لم أبالي بكل ذلك بل أخرجت الورقة لأتفقد العنوان مرة أخرى ..
إنه منزل صغير في ناصية الشارع .. ربما هو ليس شارع بالمعنى الحرفي له الا اذا اعتبرنا ان الشارع هو كل خط يصل بين نقطتين .. و لكن يمكن ان نسميه خط من الوحل الذي يحول البذل السوداء الى بنية اللون ..
اقتربت من المنزل .. يداي تتجه نحو دق الباب .. بعد ان فشلت عيناي في ايجاد جرس للمنزل .. قلبي يخفق بشدة .. ترى ماذا كان يخبئ عني الحاج علي طيلة هذا الوقت ..
شعرت بأحد ما يقترب من الباب .. خطوات تقترب و تعلوا صوتها و يد تقترب من فتح الباب .. الباب يفتح بصريره غير المعهود على مسامعي .. ربما كل شئ في هذا الحي أصبح غير معهود على أصحاب الأموال ..
انه نفس ذات الرجل في المشفى الذي فتح الباب لي .. اخرج رأسه في حذر ليرى ان كان هناك أحد يتبعني .. عندما تأكد أني وحدي أومأ لي بالدخول .. دخلت في هدوء .. لدي إثارة فعلًا لأعرف ماذا يحدث .. ما هذا المكان .. و خصوصا سر هذا الرجل ..
-" تفضل بالجلوس يا حسين .. انتظرناك طوال عشر سنوات و ها انت اخيرًا هنا " قالها الرجل بلغة عربية فصحى
نظرت سريعا الى محتويات المنزل .. ربما لا توجد محتويات غير بضعة كراسي من الخشب الخشن وضعت بجانب بعضها البعض .. جلست على احداها و انا اوجه نظري نحو الرجل بدون حديث .. ربما تداخلت الأسئلة داخل عقلي فعجز اللسان على إخراجها .. قبل ان تستقبل اذني حديثه لي
- "ربما تود أن تعرف من الأمر شيئًا .. انا معتز .. من درمصرنجا اذا كنت ما زلت تذكرها .. أتيت انا و صديقي الحاج علي الى بلباستر من سنين بعيدة جدًا .. أتينا باحثين عن عمل كحال الكثيرين "
بدا على وجهه التأثر قبل أن يستطرد - " لقد كان الحاج علي خير صديق لي .. و لكن ظروف العمل فرقتنا .. فهو وجد ضالته عند السيد مارك .. و لكني لم آبه بمثل هذه الأعمال .. كنت احب التجارة المربحة .. فعملت بها .. و ما اربحها من تجارة .. لقد عملت في تجارة السلاح .. او كما يسميها البعض تجارة الهلاك .. ربما هي ليست هلاك للشاري بقدرها هلاك للتاجر "
هنا كان لابد أن أقاطعه حال تذكري السائق المنتظر امام السوق فلا وقت للتفاهات الفلسفية
- " و ما علاقة هذا بالموضوع ؟!"
رد معتز بابتسامة خفيفة - " ربما انت الآن لويس الذي لا يتحمل الجلوس على مثل هذا الكرسي الخشن و يود الفرار "
حال سماعي لهذه الجملة جعلت ظهري يتمدد باستقامته على ظهر الكرسي الخشبي .. فانا حسين و سأظل حسين الدرمصرانجي حتى و ان قضيت فترة من عمري مجبرًا لويس المرفه .. كنت أود ان ابوح بغضب بكل ذلك في وجه معتز حتى يعلم اني مازلت حسينًا لا لويسًا و لكنه لم ينتظر انطلاق لساني فاستطرد
-" لم نلتقي انا و الحاج علي الى ان حدثت الكارثة .. الى ان أخذ الغزاة ما ليس لهم .. بحث عني الحاج علي يومها .. كان عنيدًا .. لم يهدأ الى أن وجدني .. فوجئت به .. حننت لذكريات الماضي معه .. و لكنه كان يحن لشئ اخر .. شئ اكثر قيمة .. كان حنينه موجه لوطنه المسلوب .. لم ننم يومها ونحن نتابع الأخبار و قد امتلئت قلوبنا بنار الحرقة و لهيب الحزن .. قررنا يومها اننا سندفع الغالي و النفيث في سبيل استعادة وطننا الحبيب .. وضعنا من الخطط الكثير .. كان دوري ان اكفر عن ذنوبي بتجنيد ابناء وطننا المقاومين بذلك السلاح المتين .. و كان دور الحاج علي رحمه الله .. هو انت يا حسين .. كان دوره ان يسيطر على رأس مال ينتفع به وطننا الحبيب .. "
اضطرب فكري وجاشت خواطري آنذاك .. اكان كل ذلك يُخَطَط و انا الهو بالمال كالصغار .. هل مازال ابناء الوطن المخلصين يساعدونه للنهوض من كل صوب و في كل حين .. الحزن على وفاة الحاج علي يزداد كلما عرفت مخبأ أسراره .. لم أدري ما علي قوله في تلك اللحظة .. ربما لم يستطع عقلي تحمل كشف المزيد من الأسرار ربما كل ما استطاع فعله هو ارسال الأوامر لجسدي يحثه فيها ان يرتفع من على الكرسي الخشبي غير المريح و يتحرك نحو الباب تاركًا المنزل البالي القديم .. و لكن أظن أن عقلي مازال لديه سؤال اخير لهذا الرجل الجالس هناك على الكرسي الخشبي ..
و قام لساني بالتنفيذ - " و لماذا لم يخبرني الحاج علي بكل ذلك ؟! "
ظهرت الابتسامة على وجه معتز قبل ان يرد -" أيستطيع الطفل الصغير حفظ أسرار الكبار ؟! .. الحاج علي انتقل الى رحمة الله .. و كان لزاما ان تعلم ان هناك خطط تدبر و مكايد تنظم و انت من يفترض ان يديرها"
لم ادري ما يتوجب عليه فعله آنذاك و لكنى اعلم ان السائق بالتأكيد قد ملل من انتظاره .. كل ما فعلته اني توجهت ناحية الباب و كان اخر ما سمعته قبل الخروج .. صوت معتز يقول -"أنتظر عودتك في القريب العاجل .. فقد اعددت لك مكانًا هنا" .. صرير الباب غير المعهود على مسامعي .. ثم صوت الباب يُغلَق بفعل يدي .. لأعود مرة أخرى للطريق الطيني الطويل الى السوق ثم لتلك السيارة النفيثة التي وقف الكبار قبل الصغار في ذلك الحي الفقير يرمقونها بنظرات الحقد المديد ..ركبت السيارة سريعًا ثم قلت للسائق بدون النظراليه
- " انطلق بنا الى المكتب الهندسي "
و لكن السائق لم يتحرك بل نظر الي نظرة استغراب
ربما سبب هذه النظرة هو ذلك الطين على بذلتي .. و لكن مع ذلك هناك سبب أكبر يجعله ينظر الي هذه النظرة .. كيف لم أنتبه لهذا الأمر .. لقد كنت أتحدث بالداخل مع معتز باللغة العربية .. و ربما حين خرجت كنت قد اعتدت الحديث بالعربية .. أو ربما حننت لها .. لا أعرف ماذا دهاني لأتحدث مع السائق بالعربية .. ربما ظن اني اتمتم بتعاويذ سحرية مثلا او ما شابه ..
كل ما فعلته آنذاك اني قلت له -"اتجه ناحية المكتب الهندسي "
و لكن هذه المرة بالطبع بالانجليزية

عند ذهابي في ذلك اليوم الى مكتبي استلقيت على الكرسي الجلدي المريح .. لا اعلم اي الهموم هي الاثقل على قلبي .. هموم النفس البشرية .. ام هموم العمل المتأخر .. بالطبع منظر الأوراق المتناثرة فوق المكتب يعطيني شعور بعدم الارتياح .. انها الاعمال التي تحتاج وقتك و مجهودك و ايمانك بانك تستطيع انجازها .. مثلها تماما مثل هزيمة دولة كاملة تنفيذًا لوصية رجل قد قضى نخبه .. فهي تحتاج وقتك و مجهودك و ايمانك باستطاعتك هزيمتهم بالاضافة الى التضحية بحياتك .. و في النهاية ربما لا يقف الحظ في صفك و تضحي بكل شئ دون فائدة ..

جلست على مكتبي تملأ رأسي الأفكار .. ربما تذكرت والدتي بعد كل هذا العمر .. كيف ستكون .. هل مازالت حية ترزق .. ام انقضى أجلها كحال الحاج علي و مِن قبله الرجل العجوز و والدي العزيز .. و ما بال أخي هناك .. هل انضم لأهالي المقاومة أم هرب كالجبناء .. ربما حان الوقت الأن لأقرر من سأكون .. او لأقرر باسم من سأكمل حياتي .. حسين أم لويس .. كل ما أملكه الأن من بطاقة هوية و رخصة قيادة و البطاقات البنكية باسم لويس مارك .. أظن انه لا شئ يثبت اني حسين غير عقلي و ذكرياتي .. التى أخشى من أنها بدأت فعلًا بالتلاشي بعض الشئ..
كان علي الاختيار مرة اخرى .. لكن هذه المرة ليس بعقل طفل صغير .. يسهل محو أخطائه .. انما بعقل شاب بالغ .. و بتخطيط حكيم .. و لكن يظل الاختيار ليس بالسهل .. هل وطن ضائع و ذكريات حقيقية .. ام موطن و رخاء خيالي ..
ربما فعلًا حان الوقت .. حان وقت الانتقام .. الانتقام الذي عاهدت نفسي عليه منذ مقتل العجوز .. لا أظن اني نسيته طيلة الفترة الماضية .. ربما حاول عقلي تناسيه .. لكن ها هو الأن يعرض المشهد الأليم بذكرياته المروعة كأنه بث مباشر بتصوير جهنمي .. ربما حان الوقت لتحديد موعد العودة .. عودة روح حسين لتحتل هذا الجسد مرة اخرى .. ربما هذا الموعد اقرب مما تتصورون .. فقط يحتاج بعض الخطوات المنظمة ..

في اليوم التالي وصلت رسالة الى السيد مارك على بريده الالكتروني من ايميل لويس مارك
- " مرحبا أبي
لقد خرجت في مهمة عمل .. لمعاينة الأرض المناسبة لبناء الفندق الجديد الذي كنا قد تحدثنا عنه سابقًا .. ربما يستغرق الأمر اسبوعًا .. و في الأغلب لن يكون رقم هاتفي متاح للإتصال .. لكن لا تقلق علي .. سأكون بخير .. سأحاول جاهدًا إيجاد وسيلة اتصال مناسبة لأتواصل معك .. سأشتاق اليك كثيرًا يا ابي .. لا تخف سأجعلك فخورًا بي حين عودتي
احبك يا أبي "
بالطبع كما لاحظتم كيف كانت حياة لويس مليئة بالمشاعر ناحية والده ... المشاعر المصطنعة البغيضة .. .. ربما كانت هناك في حياة لويس مشاعر اخرى أيضًا .. لكن هذه المرة المشاعر تنتمي الى الفئة الصادقة .. و هذا ما جعله لا يكتفي برسالة واحدة فقط .. بل كانت هناك رسالة أخرى .. أكثر حرارة من سابقتها
بالطبع استيقظت ايلين في الصباح .. كالعادة تجد فطورها قد تم تجهيزه و فرشه .. لا ينتظر الا إطلالتها المبهرة عليه .. كعادتها ايضا تتفقد بريدها الالكتروني كل صباح .. ربما تجد بعض الاعلانات الغريبة الكاذبة .. ربما تجد بعض رسائل النصب المحكمة فتحذفها .. و لكن هذا الصباح كانت هناك رسالة أخرى .. رسالة أهم من كل ذلك .. رسالة أكثر صدقًا من باقي الرسائل .. انها رسالة بعنوان - أحبك - مرسلة من لويس مارك .. كان نصها كالتالي
-" عزيزتي ايلين .. أحبك كثيرا
سألتيني من قبل هل أحببتك ؟!
ربما جوابي لن يكون جليًا الأن .. لكن هل يستطيع العاقل ان يكره الشمس التي انارت حياته .. او المصباح الذي انس وحدته .. حبيبتي ايلين .. حبي لك كان و سيظل صادقًا .. لأني احب شخصك .. نعم احبك انت يا ايلين .. ربما أتمنى الأن ان تكوني تبادليني نفس المشاعر .. ربما أتمنى أن تحبيني لشخصي لا لأني لويس صاحب الأموال و رجل الأعمال حتى لو تغير اسمي و تغيرت حالتي .. أتمنى أن يظل حبك لي صامدًا..
ربما سألتيني لماذا تأخرت خطوبتنا ؟!
انني أتعذب يومًا بعد يوم .. حرارة الشوق تحرقني .. يزداد لهيب الشوق كل يوم .. كل دقيقة تمر على شوقي كأنها حطب يساعده على الإشتعال .. بل و يمنحه من اللهيب ما كفاه .. ربما الأمر ليس بارادتي .. لكن أعدك سأمتلك ارادتي من جديد قريبًا جدًا .. عندها سأطلب منك الزواج .. أتمنى أن توافقي حينها .. ربما سيأتي ذلك اليوم الذي يجمعني بك .. حينها ستكونين أجمل عروس بفستانك الأبيض .. أو ربما هو حلم بداخلي و لن يتحقق برفضك لي .. لكن ما أعرفه هوانني أحببتك .. و قلبي سينبض بحبك الى لحظة سكونه ..
أود ان اخبرك اني سأغادر هذا الصباح في مهمة عمل ربما تستغرق اسبوعًا من الوقت .. و في الأغلب لن يكون رقم هاتفي متاح للإتصال .. لكن لا تقلقي علي .. سأكون بخير .. سأحاول جاهدًا ايجاد وسيلة اتصال مناسبة لأتواصل معك .. سأشتاق اليك كثيرا يا ايلين
تقبلي حرارة شوقي .. حبيبك .. "

في نفس اللحظة التي تم ارسال الرسائل فيها كنت قد أعطيت السائق اجازة اجبارية لمدة اسبوع و بدون خصم من راتبه - ما أسعده بهذا الخبر - و بالطبع لم انسى الحصول على مفاتيح السيارة .. بعد عشر دقائق كانت السيارة النفيثة تقف في الطريق الطيني .. امام المنزل المتواضع .. بداخلها ذلك الشاب العشريني الذي لم ينسى أن يحضر معه بعض حقائب السفر و اللوحات الهندسية .. للمرة الثانية في حياتي وقفت امام هذا الباب الهش .. برفق طرقت عليه .. حتى سمعت صوت الخطوات تقترب لتفتح الباب ..
وجه معتز المبتسم يدعوني للدخول .. هذه المرة لم يتأكد اذا كان هناك أحد يتبعني ام لا .. ربما بدأ يثق بي .. عشنا لحظات من الصمت قبل أن أقطعها بصوت مضطرب
-" من أين نبدأ الأن ؟! "
لم تتغير ابتسامته و هو يقول - " من الأسفل " و هو يشير باصبعه الى الأسفل
لم أفهم مقصده .. أومأت له بعدم الفهم .. و قبل أن يتحرك لساني وجدته يتحرك ناحية احد غرف المنزل .. بالطبع لم أنتظر حتى يخبرني بأن أتبعه .. كنت خلفه تماما .. أتمنى أن يكون عالمًا بما يفعل ..
توقف فجأة امام احد الصناديق .. اظن انه صندوق أسلحة من مظهره .. فهو صندوق من الخشب المتين محكم الغلق بقفل حديدي ..
وضع معتز يده في جيبه لفترة قبل ان يستخرج مفتاح صغير .. ثم ينهال به على القفل الحديدي ليفتحه ..
وقفت في دهشة شديدة لا أدري ماذا سيفعل هذا الرجل بنا .. و بغير تحكم في نفسي و بسخرية قلت له
-" ماذا تفعل .. أتظن اننا سنأخذ من هذا الصندوق ما نريد من السلاح ثم نتوجه ناحية الدنجيون و نهزم جيشًا بأكمله !! "
لم اسمع آنذاك ردًا منه و لكنه كان منهمك في فتح القفل .. و ربما اصدرضحكة خفيفة مكتومة ..
أخيرا تم فتح الصندوق .. تقدمت نحوه في بطئ .. انه ليس صندوق اسلحة في بيت تاجر سلاح كما توقعت .. انه مدخل لسرداب تحت الأرض .. او كما يلقبونه في افلام الرعب بالقبو و لكنه يختلف هنا .. انه ليس مرعبًا بل مضيئًا و منظمًا .. ربما تحت المنزل هو مكان أفضل من المنزل نفسه .. نزلت السلالم في دهشة و انا اتفقد المكان حتى اني نسيت وجود معتز معي الى ان سمعت صوته و هو يقول بصوت ساخر
-"ها ما رأيك في صندوق الأسلحة هذا ؟! .. انت الأن في مركز قيادة المقاومة في درمصرنجا "
نظرت حولي في دهشة تامة .. المكان عبار عن قسمين .. قسم به بعض الخرائط و اللوحات العسكرية و بعض الأسلحة .. و القسم الأخر فيه بعض الأجهزة الحديثة التي لم ارها من قبل .. بالطبع اخذت وقتا ارمق هذه الأجهزة الغريبة قبل ان يقاطعني صوت معتز
-" هذه الأجهزة هي أجهزة الجيش الدرمصرانجي .. كانت لتكون من نصيب العدو لولا اننا استطعنا انقاذها من منوال يده .. و جلبناها الى هنا .. هذه فائدة ان تكون مهرب و تاجر سلاح .. ان تمتلك القدرة على نقل ما تريد عبر الحدود دون ان يتم كشف الأمر .. مثلا هذا الجهاز هناك .. انها اداة اتصال سرية مشفرة .. تستطيع ان توصلنا بكل افراد المقاومة في درمصرنجا دون ان يكشفنا الأعداء"
شعرت ببعض السعادة و انا اسمع ذلك .. فمازالت هناك مقاومة و الأدهى من ذلك هناك مركز لقيادتها بعيدا عن منوال العدو
و ببعض السعادة سألته
-" و كم عدد افراد المقاومة تقريبا هناك ؟ "
-" سبعون او ثمانون تقريبا "
-" ماذا ؟!! .. سبعون او ثمانون ؟! .. كيف يستطيعون هزيمة جيش بتسليح عالى مكون من اكثر من خمسة الاف جندي ؟! "
-" على الأقل لسنا اثنان فقط "
كان عدد الافراد صادمًا بالنسبة لي .. ربما توقعت رقمًا أكبر .. فكيف لنا ان نهزمهم و عندهم التفوق في كل شئ .. عدديًا و معنويًا و سلاحيًا ..
طالت فترة الصمت .. بالطبع قضيتها في تفقد المكان و آلاته .. و قضاها معتز في متابعتي .. و اخيرًا قررت ان اقطع حبل الصمت بسؤال ينتظر عقلي له جوابًا ..
- " الأن نعلم وجود مقر للمقاومة تحت منزلك و انه يوجد سبعون فردًا مازالوا يقاومون الاحتلال في درمصرنجا .. اذا ما هي الخطوة التالية .. هل سنظل نتابع الوضع من هنا كالصحفيين ؟!! "
لم أكن أنظر آنذاك لمعتز .. و لكني لم اسمع جوابًا لبرهة من الوقت .. قبل ان استدير لأتأكد من وجوده .. داعب صوته أذناي بصوت منخفض ..
-" ربما علينا وضع الخطة .. صراحة لا أعلم .. لم اصل لهذه الخطوة في التخطيط مع الحاج علي .. ربما ما يدفعني للإكمال في ذلك الطريق فقط هو حبي لوطني و ايماني بإمكانية تحقيق النصر و العدل بعد كل تلك المعاناة .."
لم أكمل حينها استدارتي لأرى وجهه .. فضلت سكون الجسد لأمنح عقلي مزيدا من الطاقة للتفكير .. كان بوسعي أيضًا ان أسمع خطوات معتز تبتعد عني .. ربما أحس ببعض الضعف .. ربما قرر مغادرة القبو .. ربما قرر ايضا أن يستسلم و يتراجع عن مراده .. لا أعلم حقيقةً .. و لكن كل ما أعلمه انه أيقظ في مواطن الذكريات ..أشعل حرارة الوطن .. الهمني الحماس .. حماس حسين الصغير .. الحماس الذي طالما افتقده لويس .. ربما فعلًا نستطيع الانتصار .. لكننا بالطبع نحتاج الى التخطيط السليم و التنفيذ المتقن .. نحتاج لقوة الجسد وعبقرية العقل معا ..
تذكرت في تلك اللحظة مقولة العجوز الراحل .. "يموت العدل في عالم الظلام .. تعيش الثعالب و تموت الأغنام" .. بالفعل نحن الأن بحاجة لعقل ثعلب ماكر .. ثعلب قد حدد غنيمته و ينتظر تحديد طريقة الإنقضاض..
قضيت هذا اليوم تحت الأرض .. في هذا القبو .. ربما هو مركز نجاة مستقبلي لدولة بحالها ..ربما لا يجب على الانسان ان يحكم على الشئ من مظهره الاول .. مرت الساعات و انا مستغرق في التفكير .. تلجني الأفكار تارة و تغادر عقلي تارة أخرى .. الى أن خطرت ببالي هذه الفكرة .. بل هذه الخطة الجهنمية .. التي ربما تكون بداية النصر و نهاية المعاناة ..

إنها ليلة باردة .. حتى في قبو ذلك المنزل .. الاوراق متناثرة أمامي .. الأفكار تدور في رأسي .. معتز يدخل بين الحين و الأخر ليطمئن علي .. أظن اني رأيت الإبتسامة السعيدة على وجهه عندما شعر بعقلي يدور لإيجاد خطة ناجحة .. ربما عندها فقط وجدته يدخل علي بكل ما لذ و طاب من خيرات الطعام التي لم أظن وجودها في ذلك المنزل البالي في الحي الفقير .. في بعض الأحيان كانت تدق الأسئلة ابواب عقلي .. ربما انتظرت كثيرا ظهور معتز لذلك السبب .. فربما فقط هو من يمتلك القدرة على ايجاد اجابات لتلك الأسئلة..أذكر أيضًا دخول معتز علي متوتر العقل مرتعش الجسد .. بدت الكلمات تقاوم لتخرج .. ربما هناك شئ هام اراد ان يخبرني به .. طريقته في النظر الي .. ترقبه لما افعل كل ذلك كان دليلًا على وجود الكلمات الحبيسة .. ربما انتظرت سماع صوته .. ربما كان لديه بعض الأخبار المفيدة .. لكن الأمر لم يكن كذلك .. صوته الشاحب اخيرًا التقطته اذناي..
"أود أن اخبرك شيئًا ما يا حسين ..بل أنه يتحتم علي مصارحتك بذلك .. أتمنى أن لا يؤثرهذا فيك .."
حولت نظري ليقع عليه لأتفقده .. سكت هو برهة من الوقت سادت جسده فيها رعشة قبل ان يستطرد
"لقد بحث الحاج علي رحمه الله كثيرا لمعرفة احوال عائلتك في درمصرنجا ..كان يريد جلبهم الى بلباستر ليكونوا بجوارك .. ليذكروك بوطنك و يشعلوا فيك روح الفداء الوطني .. أظنه توصل لشئ .. ربما كانت الشهادة نصيبًا لعنائهم .. ربما هي أفضل بكثير من عذاب الدنيا في خيام اللاجئين .. "
بدأت افهم مقصده .. بدأت عيني تدمع لا اراديًا .. كنت اعلم التالي .. كنت فقط اود معرفة ماذا حدث و من فيهم الشهيد فقاطعته محاولًا اخفاء الضعف في نبرة صوتي
- " مـــن هـــ .. هل امي أم أخي ؟"
جاء الرد سريعا .. كان صادمًا الى حد كبير أيضًا
-" الأثنين .. لقد نالوا الشهادة .. هذا أقصى ...."
قاطعته سريعًا .. بالفعل كنت نجحت في استئصال نبرة الحزن والأسى من صوتي .. أومأت له بالسكوت و ربما الخروج .. انا لم أجلس و أبكي كما يتوقع هو .. عاهدت نفسي من قبل على الإنتقام .. على أن أجعل كل لحظة في حياتي .. جحيمًا لأعدائي .. شرعت أكمل تخطيطي و أنظم أفكاري .. هذا جم ما أتذكره في تلك الليلة ..


mnsmas غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس