الموضوع: سيزيف
عرض مشاركة واحدة
قديم 25-02-16, 06:21 PM   #9

seba seba

قلم برونزي برسائل أنثى

 
الصورة الرمزية seba seba

? العضوٌ??? » 342169
?  التسِجيلٌ » Apr 2015
? مشَارَ?اتْي » 43
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Syria
?  نُقآطِيْ » seba seba is on a distinguished road
?? ??? ~
My Mms ~
:sss4: سيزيــــــــــــف ** متميزة**

الجزء الثالث و الأخير

مرّت سبعة أشهر على واقعة كوخ "سليمان صادق" و طالت محاكمة السّفاح "محمود" و كثرت تفاصيلها، فأصيب الناس بالملل و فقدوا الإثارة و إنشغلوا عنها بأعمالهم. و عاد كل شئ إلى ماكان عليه، بينما أحدثت مآساة الكوخ تغييرا كبيرا في نفسي، إذ أدركت و لأول مرة بأنّ الحياة أقصر من أن أضيعها في الإستهتار و الفوضى.

كان أمامي الكثير لأتعلمه في مدرسة الحياة، بعد أن فوّت على نفسي فصولها لسنوات طويلة.

إستيقظت ذات يوم ربيعي، هادئ، فوجدت بأني قد فوّت عليّ أولى محاضرات الصباح، بسبب سهري لإنهاء كتاب في الليلة السابقة،
فالمطالعة أصبحت أحدى أهم هواياتي. بقيت في الفراش لبعض الوقت، ثم قررت أن أنزل لتناول الفطور و الخروج إلى الحديقة للإستمتاع بالطقس الخلاب.
أذكر يومها، بأنني لم أكد أقطع نصف الرواق المؤدي إلى حديقة القصر، حتى أقبلت إحدى مدبرات المنزل و سلمتني مفتاحا عتيقا قائلة:" لقد وجدت هذا المفتاح في جيب سترة السيد "سليمان" قبل أن أرسلها للتنظيف"

_" آه لابد بأنه قد نسيه..شكرا."

قلّبت المفتاح بين أناملي، و إستقرت عيناي على باب المكتبة الموصد، و ظننت بأن والدي لن يمانع في أن أستعير بعضا من كتبه القيمة.

أدرت المفتاح في القفل و فتحت الباب، فأصدر صريرا إقشعر له بدني، ربما بسبب كل ذلك الترقب الطويل قبل أن تتاح لي الفرصة في إكتشاف عالم أبي السري، الذي طالما أثار فضولي.

كانت المكتبة مذهلة، كما توقعت تماما، رصّفت كتبها ذات الأغلفة الجلدية الأنيقة و الكتابات المذهبة بعناية و ترتيب.
لم أقاوم رغبتي في تمريري أصابعي على المجلدات و أنا أستنشق عبقها المسكر، خليط غريب من الروائح المخدرة. و في وسط الغرفة الواسعة، إنتصب مكتب والدي، كان فوقه كتاب ذي غلاف أسود عتيق، و بقربه آلة عرض حائطية بدائية.
إقتربت منها و وضعت بعض الصور و ضغطت زر التشغيل، و في إنتظار أن تظهر الصور، تناولت الكتاب الغريب ذي الغلاف الداكن و فتحته.

لم تكد عيني تقع على الصفحات الأولى حتى وقف شعر رأسي من هول ما قرأت،
رميت الكتاب بسرعة و تراجعت بضع خطوات و عندها إنتبهت إلى الصور التي تتشكل على حائط المقابل، و تسمرت في مكاني مرتاعة، واضعة يدي على فمي لأكتم صرخة تتحشرش في حلقي.

يا إلاهي، إنني أحتفظ في ذاكرتي بكل تفاصيل تلك اللحظات العصيبة، عندما وقفت أطالع في رعب الصور، أذكر بأنني هرعت و أغلقت آلة العرض و أنا أكابد شعورا مميتا بالغثيان،
و إلتفت حولي على غير هدى، فإسترعى إنتباهي، كتاب ذو غلاف أسود على أحد الرفوف، فكتاب ثان و ثالث و رابع و خامس و...

سحبتها و تصفحتها مرتعشة و كانت كلها مذكرات تروي تفاصيل جرائم الكوخ..جرائم "سفاح النساء" و لكن بخطّ والدي!!

و عندما رفعت رأسي هذه المرّة، وجدت والدي واقفا عند باب المكتبة، يطالعني بنظرات مرعبة و أحد كتبه السوداء في يدي.
و بهدوء أغلق باب الغرفة و إتجه نحوي و لما إستقر عند الجهة المقابلة من المكتب قال:" أرى بأنك قد عرفتِ سري الصغير."

نظرت إلى وجهه و كأنني أراه للمرّة الأولى، و كأنه شخص آخر لا أعرفه، و تمتمت و قد خانني صوتي:" أ..أكنتَ..أنتَ....أنتَ من إرتكب كل هاته الفظائع المنكرة؟"
و إنهمرت دموعي أخيرا

"أنتَ سفاح النساء، ... ولكن العم "محمود".. يا إلاهي أي كابوس هذا؟!!"

_" للأسف هذا ليس كابوسا يا عزيزتي، أنا .."

قاطعته :" لما؟!!" و أخذ صوتي يعلو أكثر فأكثر و صرخت في وجهه:" لماذا؟ ما الذي أذنبنه هؤلاء النسوة في حقك!!.."
و فجأة إنتبهت و تذكرت ما حدث في الكوخ في ذلك الصيف،" و ماذا عن أمي، هل قتلتها هي الأخرى.. هل إكتشفت جرائمك، فأسكتها إلى الأبد؟؟؟"

_" لا، لا.. أقسم أن وفاة والدتك كان حادثا، لا علاقة لي به.."
و أخذ يقترب مني، فيما تراجعت محافظة على مسافة أقدام بيننا،
في تلك اللحظة إنتفى كل شئ يجمعنا، صلة الدّم، سنواتنا الطويلة معا كأب و إبنته،
كلها إندثرت بينما واصل "سليمان صادق" كلامه هامسا:" لم أكن موجودا عندما وقعت والدتك عن الدرج في ذلك اليوم، ألا تذكرين ذلك؟ لقد كنت في القرية أقتني بعض الأسمدة و المعدات للمزرعة..ما حدث في ذلك الكوخ، كان خطأ و قد مضى دون رجعة، أنا اليوم رجل سوي رمى كل الماضي وراء ظهره و يسعى إلى عيش حياة مستقيمة.."

_" خطأ؟!! وأي خطأ ذاك الذي يتسبب بمجزرة تزهق فيها أرواح 89 إمرأة؟ .. بل 90 روحا إذا ما إحتسبنا العم "محمود" الذي يحاكم الآن على جرائم لم يقترفها، جرائمك التي ستقوده إلى حبل المشنقة..أي وحش أنت..أي وحش أنت!!!"

_" هذا الوحش هو للأسف والدك يا سارة، فما الذي ستفعلينه حيال ذلك؟ هل ستهرعين إلى المخفر و تبلغين الشرطة بأن والدك هو الفاعل و ليس الشيخ "محمود"؟
.. هه، في الوقت الذي ستقضينه تروين تفاصيل إكتشافك هذا، سأكون قد أعدمت كل الأدلة التي تدينني، الصور، و المذكرات كما أعدمت كوخ المزرعة..
و عندها سيكون كلامك في مقابل كلامي و ترسانة محاميّ، من برأيك سيكسب في النهاية؟"

لزمت الصمت، فإقترب مني و سحب الكتاب الأسود من بين يدي فلم أقاومه، أغلقه و وضعه على الطاولة قائلا:" هب أنك نجحت و كنت المنتصرة، و خلّصتِ عنق ذلك الشيخ الخرف الذي لم تريه سوى في مناسبات معدودة من حبل المشنقة
و لففته حول عنق والدك الذي لم يبخل يوما في تلبية رغباتك و السهر على راحتك،
والدك الذي كان إسمه جواز سفرك لتحقيق أحلامك حتى المستحيلة منها..ما الذي سيحصل برأيك بعد ذلك؟

ستنتشر قصة بطولتك في الآفاق و ستتصدرين عناوين الصحف التي سيمجد صحافيوها المتسلقون موقف "سارة صادق" التي سلمت والدها إلى العدالة،
سيحبك الناس و سيطالعونك بإعجاب و سيتحدثون عن شجاعتك و دفاعك عن الحقّ...
و سيكون هذا إنجازك الوحيد بعيدا عن مساعدتي و علاقاتي و إسمي،
الشئ الوحيد الذي قمت به و ستبرعين فيه دون شك إلى درجة إذهال الجميع هو تدمير والدك و عائلتك و نفسك في نهاية المطاف.

ألم يخطر ببالك أن نشوة إنتصارك هذه ستختفي بأسرع مما تتوقعين،
عندما يظهر إنجاز حقيقي يسحب البساط من تحت قدميك، فينفّض الجميع من حولك و يطوي "بطولتك" النسيان،
و تعودين إلى الواقع، واقعك و حقيقتك ك"سارة سليمان صادق" بدون ألقاب البطولة و التبجيل، "سارة سليمان صادق" مجرد إبنة لسفاح، كان فيما مضى مليونيرا ذو نفوذ، و لكن إبنته المدللة و التي أحبها أكثر من نفسه حكمت عليه و على نفسها بالإعدام..
أنتِ تعلمين بأنّك ستعانين بقدر ما سأعاني أو أكثر حتى،
لأنه ما إن أتدلى من حبل المشنقة حتى تنتهي معاناتي إلى الأبد، و لكنّ معاناتك يا صغيرتي ستتواصل..
أتذكرين يا سارة، عندما تمّ إستجوابي من قبل الشرطة؟..
عندما بدأ الجميع من حولنا بتفادينا، أنا و أنتِ، لمجرّد الشك بأن لي يدا في جرائم الكوخ،
أتذكرين رفاق طفولتك و أصدقائك المقربين؟
أتذكرين كيف إبتعدوا عنك و لفظوك و كأنك وباء قاتل سيلوثهم،

ها قد بدأت تتذكرين يا عزيزتي، أرى ذلك الإحساس في عينيك يا صغيرتي.."

و أمسك والدي وجهي بين يديه و نظر في عيني قائلا:"و الآن هل ستكونين قادرة على التعايش مع هذا الإحساس المميت لبقية عمرك يا سارة؟.."

أخفضت رأسي و يدي والدي لا زالتا تطوقانه، و عينيه مثبتتان على شفتي، ينتظر بإهتمام ما سأقوله. فتمتمت دون أن أرفع رأسي و أنا أشهق:" و لكن ما ذنب العم "محمود"؟"

فإحتضنني والدي و همس في أذني:" و ما ذنبك أنتِ؟"

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي تحدثت فيها مع "سليمان صادق"، فلم يطل بي الأمر قبل أن أنهار تماما أمام شعوري بالذنب و التواطئ في إعدام عم "محمود" الذي لا أعلم إلى اليوم لما إعترف بأرتكابه لتلك الجرائم،
فتركتُ كل شئ خلفي و غادرتُ إلى أبعد مكان إستطعت الوصول إليه.

و لم أدرك حينها بأنني و لسوء حظّي قد حزمت الندم و الأرق الطويل و تأنيب الضمير متاعا في حقيبتي، في الوقت الذي كنت أناضل فيه للهروب من هاته الأحاسيس القاتمة التي تأكل روحي...

كنت محكومة بالعذاب و الألم تماما كسيزيف، أنوء تحت حمل صخرة الذنب الثقيلة، أدفع نفسي المتهالكة بصبر نحنو قمة النسيان، فتتدحرج الصخرة و تعيدني إلى نقطة البداية. .

قرأتُ في إحدى ليالي أرقي الطويلة كتابا، لا أذكر منه سوى جملة وحيدة تتردد في ذهني كلّ مساء و أنا أرتعد فرقا من حلول الظلام و ما يجلبه معه من كوابيس و خيالات لم تفلح الأدوية المهدئة و لا جلسات العلاج النفسي في تخفيفها،

و تقول تلك الجملة بأن "ضمير المذنب عدّوه" و قد بليتُ بأشرس الأعدّاء....


النهاية


seba seba غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس