عرض مشاركة واحدة
قديم 10-07-16, 04:46 PM   #10

miya orasini

نجم روايتي ومشرفة سابقة وعضوة فريق الكتابة للروايات الرومانسية

alkap ~
 
الصورة الرمزية miya orasini

? العضوٌ??? » 244480
?  التسِجيلٌ » May 2012
? مشَارَ?اتْي » 7,329
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » miya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond reputemiya orasini has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك carton
افتراضي

الفصل التاسع




وضعها محفوف بالمخاطر. رغم أن العداء المستحكم بينهما يكاد يزول، فهي لم ترغب في احلال الصداقة المتينة مكانه. فصداقته فد تكون أكثر تدميرا من عدائه السابق.
مر أسبوعان و أبيا تحاول تفادي جيلز فارو قدر الامكان. و عندما يتناول غداءه من وقت لآخر في المنزل، كانت تجلس الى الطاولة صماء بكماء، ثم تغادر فور انتهاء الوجبة. نشأت لديها حاسة سادسة تنبئها متى يكون موجودا في البيت أو يهم بالعودة اليه. و قبل أن يوقف سيارته في الخارج تهرع الى غرفتها الى أن تطلب رؤيتها الآنسة بيتمان أو يدعوها جرس الخدم بتناول طعامها.
أما جيلز فارو فجرب أكثرمن مرة التحدث اليها، كما لو كان يكفر عن فظاظته أثناء تلك الحفلة. و ما لبت أن لمس موقفها الجاف ازاءه فقرر تجاهلها. و لم تشعر بالحرية التامة الا عندما يكون خارج المنزل، فتجوب غرف الطابق الأرضي لتمتع انظارها بالرسوم و اللوحات الجميلة، و التحف و قطع الأثات النادرة، و تعود مرة تلو الأخرى للتمعن في المنمنمات التي تزين جدار غرفة الجلوس الخاصة.
كانت هذه الغرفة شبه مقفلة هذه الأيام، اذ أن الآنسة بيتمان اعتادت الجلوس تحت ظلال أشجار الحديقة أثناء النهار، و في غرفة الاستقبالأثناء الليل. لكن أبيا هامت عشقا بغرفة الجلوس الصغيرة، و بوساداتها المنتفخة، و سجادها الوثير و جدرانها المزخرفة، و التي تغطي المنمنمات احداها. قررت أن تنسخ احدى المنمنات و مضت الى الشارع الرئيسي بخثا عن الألوان المائية و أدوات الرسم.
و كان جيلز فارو في تلك الليلة يتعشى في الخارج، و بعد أن أنهت تناول طعامها مع الآنسة بيتمان توجهت الى غرفة الجلوس الصغيرة، و غطت احدى الطاولات الفخمة بقطعة قماش، ووضعت أدوات الرسم عليها.
اختارت الرسم المنمنم الذي تريد رسمه، و أنزلته بعناية ووضعته على طاولة أخرى بجانبها. أنها تملك القدرة على النسخ المتقن منذ فترة طويلة، و تساءلت لو تحول هذه الموهبة الى مهنة دائمة لها، و خاصة في ترميم الصور القديمة.
احنت رأسها و بدأت بالرسم تعض على لسانها الوردي بأسنانها البيضاء الدقيقة البيضاء، منكبة الوجه و الجسم على أداء مهمتها المحببة. بدأت ملامح الصورة تظهر بسرعة. و انتهت من التصميم في أقل من ساعة. تناولت فرشاة و غمستها في الطلاء الخاص. و ما أن وضعت مسحة من اللون على صفحة الورقة الملساء، حتى أطلقت تنهيدة فرح عارم، ثم جمدت الفرشاة في يدها لتذوق نكهة هذه اللحظة المنعشة. و عندئذ فقط، عندما رفعت رأسها عن الطاولة، رأت جيلز فارو.
أخذ قلبها يخفق باضطراب و كأنها سارق ضبط يرتكب جريمته، ألقت بفرشاتها فوق صندوق الطلاء، و همت بالنهوض. قال بهدوء:
-لا لزوم للخروج بسبب وجودي هنا.
-كنت أنوي التوقف في أية حال.
-هل أستطيع أن أرى ما الذي ترسمينه؟
لم تجد سبيلا الى رفض طلبه. قالت:
-لا تزال الورقة مبتلة، أفضل أن أتركها حيث هي.
هز برأسه و اتجه نحو الطاولة. تأمل في الرسم المنمنم ثم أنظر الى نسختها. علق:
-لم أدرك أنك فنانة.
-لست فنانة بل مجرد ناسخة.
انحنى قليلا:
-و ناسخة ممتازة. رسمت كل التفاصيل الدقيقة. هل صرفت وقتا طويلا عليها؟
باشرت الرسم بعد العشاء.
-انها تضارع الصورة الشمسية دقة.
لم يحركها اطراؤه، فاعتدل في وقفته و مشى صوب النافذة المطلة على طرف الحديقة المنعزل، سألها:
-هل بعت احدى النسخ؟
-أتبرع بها عادة بدون مقابل.
استدار ليحملق في وجهها بعينين متوهجتين:
-هل ترسمين هذه كهدية لعمتي؟
-كلا. لا أظن أن الآنسة بيتمان تهوى هذه الأشياء، خاصة اذا كانت تستطيع شراء الرسوم الأصلية.
و تابعت حديثها غاضبة، مدركة أنها ستندم على كل كلمة ستقولها:
-أخر سخة رسمتها كانت لوحة الفنان غينزبرو "الولد الأزرق" كانت اللوحة المفضلة لامرأة عجوز أساعدها في التبضع. رسمت لها لوحة زيتية كاملة، و تعمدت ذلك لمعرفتي أنها ستورثني كل ثروتها عندما يتوفاها الله. لو أخبرها بعد أنه لا يمكنها أن تورثني معاش تقاعدها لأنها ستستاء كثيرا، اذ أنها لا تملك أي شيء آخر.
ارتجف صوتها، ثم غرقت في الصمت، تتحسر ندما على ما قالته . لماذا حاولت تبرير ما تقوم به لجيلز فارو؟ و لماذا برأيه السلبي فيها؟
ردد جيلز صدى سؤالها:
-لماذا قلت لي كل هذا آنسة وست؟ لا أظن أنك تبالغين بموقفي منك.
-هذا صحيح. طالما أنك تزدري وجودي و لا تثق بي أردت أن أصفعك بالحقيقة المرة.
-أستطيع دائما أن أشك في كل ما تقولين. لا يمكن لأحد اختراع قصة عاطفي كهذه.
استشاطت غيظا، فدنت منه، و صاحت:
-هل ترى أن من واجبك تشويه سمعة مل انسان؟ أنت فظ الفؤاد كأنك قطعة من الجماد.
-نعم. و لهذا السبب يعصب عليك اصلاح وضعي.
-لا أنوي تبديد وقتي عليك. أنت أكره رجل عرفته !
و استدرات لتبتعد عنه، و لكن يده أمسكت كتفها وجذبتها نحوه.
-أحذرك من التطاول علي. ما زلت ضيفة في بيتي.
-لا تذكرني. لو لم أكن أحب عمتك كل هذا الحب لغادرت هذا المكان هذه الليلة.
-تقصدين أنك يئست من كسب ودي؟
توردت وجنتاها حياء، أدركت أنه يستمتع باحراجها على هذا النحو بعد أن أخنرق سرها الدفين.قال:
-اذن كنت على علم بمطامح عمتي عندما وظفتك ! لم أكن متأكدا، أما الآن فحصلت على الجواب منك.
بلعت أبيا ريقها بأسى:
-لم أعرف ما الذي تبينه عمتك الا بعد انتهاء الحفلة. لو فطنت منذ البداية لما قبلت العمل لديها بأي ثمن. لا أريد أن أضحي بنفسي على مذبح الأنانية و القسوة مهما كنت طيبة القلب.
جذبها نحو غاضبا:
-أنت لا تعرفين شيئا عني البثة !
-أعرف أنك تكتوي لوعة لأن فتاة حمقاء تصرفت معك بأسلوب أحمق، تعتقد أن كل امرأة ستتصرف بالأسولب نفسه.
قال باصرار:
-هذا ما يفعله معظمهن. لا هم لديهن سوى الحصول على أغنى رجل.
-ليس هذا صحيحا.
-حقا لماذا أنت هنا اذن؟ أم تتوقعين مني أن أصدق مدى استمتاعك بالعيش في الريف تسعة أشهر في السنة و العمل لدى امرأة تناهز الثمانينات من عمرها !
صاحت:
-هذا ما يداعب خيالي. ان العيش في دير الراهبات أفضل بكثير من العيش معك !
و بسرعة جنونية جذبها اليه و عانقها. قاومته محاولة التملص منه، لكنها كانت كعصفور صغير يعارك نسرا كاسرا. استمر يشدها بقوة الى أن استكانت قليلا.
لم يسبق لرجل أن عانقها على هذا النحو من قبل،و اشتعلت شرايينها بأحاسيس غريبة. هالها أن يكتشف حقيقة مشاعرها فراحت ترفسه، فطوقها أكثر. ظلت تعاركه الى أن أرخى يديه قليلا، ثم رفع رأسه. ظل يحدق في عينيها. بدت مقلتاه في تلك اللحظة كالبحر الهائج تتلاطم أمواجه ثم ترتطم بصخور الشاطئ و رماله الطهبية.
و لمست لمس اليد عاطفة جياشة تضج في جوارحه خالته لا يفهم معناها العميق حتى هذه اللحظة.
كانت عيناه ترويان ألف قصة و قصة، و تراءى في ذهنها منظر الشمس الغاربة و هي تلف الهضاب بذلك النور الأرجواني الساحر. ثم استعادت بعض وعيها. و كان رأسها يؤلمها، و جسمها يرتعش كورقة خريف ذابلة. مع ذلك، أحست أ،ها لم تعد تخشاه بعدأن هدأ روعه، و سيطر على أعصابه مرة أخرى. قال أخيرا:
-أنا آسف يا أبيا. لا مبرر لما فعلته لا مبرر لما فعلته اطلاقا.
أجابت بصوت أبح:
-أنا أتحمل المسؤولية أيضا نتيجة استفزازي لك.
-لنقل أننا أخطأنا نحن الاثنين !
ابتعدت عنه قليلا، فأمسك بها لتوه. سألها بقلق:
-هل سببت لك الأذى ؟ انك صغيرة...
قاطعته:
-أنا بخير. كل ما في الأمر أن أحدا لم يعانقني هكذا من قبل.
قهقه هلى نحو لا أثر للسخرية فيه:
-أنت بريئة جدا يا آبيا اصفعي وجهي اذا كنت مستاءة.
-ما الفائدة؟ ستعود الأمور الى سابق عهدها. و هذا وضع مخز لا معنى له.
استدارت و توجهت ال الطاولة حيث التقطت نسخة الرسم المنمنم. طلب منها قائلا:
-اتركيها مكانها. لن أدع أحد يمسها. و هكذا تعودين غدا لاستئناف العمل عليها.
-شكرا.
-لكن اقترح عليك العمل أثناء النهار لئلا ترهقي عينيك كثيرا.
أشارت قائلة:
-أنا أعمل مع عمتك أثناء النهار.
سألها:
-هل تحبين العمل معها؟
-بالكاد تنجز أي عمل الآن. ما زلت أقوم بدور المرافقة أكثر من أ] شيء آخر.
-انتظري حتى عودتك الى انكلترا. لن تجدي دقيقة من اراحة (و تجهم وجهه) أبيا، أريد الاعتذار ثانية...
قاطعته:
-لا ضرورة لذلك. أن أنك تخشى أن أطلع عمتك على الحقيقة ما جرى الليلة؟
-ربما شعرت بالغبطة الفائقة لو عرفت حقيقة ما جرى.
قالت أبيا تشتعل غيظا:
-اذن لن أبوح بحرف واحد.
و همت بفتح الباب، عندما تكلم ثانية:
-أنت تتحملين جزءا من المسؤولية يا أبيا. بذلت جهدك خلال الأسابيع الفائتة لإثارة مشاعري.
احتجت:
-قمت بعكس ذلك تماما. حاولت تفاديك بكل وسيلة ممكنة.
-تعمدت اثارتي عبر غيابك الواضح.
-ربما و لكن هذا ما جرى.
قالت بجرأة:
-اذن وجه اللوم الى ضميرك الذي يؤنبك. هذا ما جعلك تلمس اجتنابي لك. لو لم تدرك سوء تصرفك لما لاحظت سلوكي تجاهك. افتر ثغره عن ابتسامة باهتة:
-أرجوك كفي عن هذا الأسلوب في المستقبل. اته ليس ضروريا.
قالت باستخفاف:
-حسنا. ليلة سعيدة سيد فارو.
راحت تطوف في غرفة نومها متوترة الأعصاب، يؤرقها ذلك المشهد الذي دار بينها و بين جيلز و كأنه مجرد حلم مرهق. ظلت صورته مرتسمة في ذهنها، فازدادت هلعا، متمنية لو تستطيع النظر اليه بموضوعية باردة كأي شخص آخر. لم تكن تنوي المضي في كرهه، مثلما ترفض أن تكن له مودة ما. أن وضعا كهذا محفور بالأخطار.
لم تقلب المسألة أكثر من ذلك، و مشت نحو النافذة لجذب الستائر. رأت في الحديقة شبحا أسود يتراءى وراء الأشجار، و تبينت أنه جيلز فارو يعبر الممر الضيق الذي يلتف حول بركة السباحة. اذن هو الآخر قلق البال لا يستطيع النوم. أشعل سيكارا فأضاء وجهه الشاحب. ثم غمرته الظلمة ثانية. تنهدت وصعدت الى سريرها.
استيقظت مع أنوار فجر هندي ندي منعش. و ما ان حدقت في الفضاء الرمادي شبه الوردي حتى قفزت صورة جيلز فارو الى ذهنها. وجدت صعوبة في تعليل عناقه لها. دفعه غيظه الى ذلك في البداية بدون شك، و لكن عندما هدأ غضبه لم يحاول الهزء منها كعادته، بل تحدث معها و كأنه يراها للمرأة الأولى، و أعجبته رؤيتتها.
استحمت، ارتدت ملابسها و هبطت الى الحديقة. كان النسيم العليل يهب بخفة منعشة تزيل غشاوة الليل و همومه. قفزت فوق الأعشاب بمرح فتاة تزهو بنعومة التراب و زرقة السماء.
كانت تجلس على المصطبة في الساعة الثامنة لتناول طعام الفطور عندما انضم اليها جيلز فارو. لم يسبق له أن اهتم بالفطور فتساءلت أبيا ما اذا كان بدل عادته أم أنه في اجازة. علق قائلا:
-نهضت باكرا هذا الصباح.
-ان هذا الطقس الجميل يجرني من سريري جرا.
-هل ترقصين حول الحديقة لاستقبال نهار جديد؟
أجابت بهدوء:
-ارقص عندما أشعر بالسعادة، و أغني أيضا.
تمعج فمه:
-و هل هناك سبب معين لسعادتك هذا الصباح؟
قالت بلهجة جادة:
-ربما لأننا اصدقاء الآن. ليس أصدقاء فعليين، و لكننا على الأقل لم نعد أعداء.
-و هذا أسعدك الى حد الرقص؟
أطلقت زفرة عميقة.
-نعم. لا يسهل على المرء البقاء في بيت يشعر أنه غير مرغوب فيه.
صمت متجهم الوجه، مقطب الحاجبين، ثم قال أخيرا:
-لم أدرك أم مسلكي أزعجك الى هذا الحد. كان انطباعي عنك أ،ك لا تبالين برأي فيك. اهنئك على نجاحك في اخفاء مشاعرك.
-انه ليس تعليقا منطقيا، خاصة عندما يصدر عند سيد فاروز
ذكرها:
-اسمي جيلز.
توردت جنتاها ثم هزت رأسها:
-أظن أن عليك اعادة النظر في تقويمك لي.
توهج وجهه و كأنه يستمتع بكل كلمة تقولها، ورأت نفسها تنظر الى عينيه البراقتين، و تتمعن في قسمات وجهه الصارمة، تنبهت الى تحديقها المتواصل فدفعت كرسيها الى الوراء. قال بلهفة:
-أرجوكي لا تغادري. لم نعقد عهدا بيننا ليلة أمس.
استرخت أبيا في كرسيها ثانية، وراحتاها ترشحان عرقا. ان عقد أواصر الصداقة مع جيلز فارو لا يقل خطورة عن استعدائه. فكرت في أي شيء تقوله، ففشلت فشلا ذريعا. بدا أنه لا يعبأ بصمتها اذ شرع بالتهام تفاحة. سألته بعد تفكير طويل:
-هل كانت أمنيتك أن تصبح مهندسا نوويا؟
هل فاجأه السؤال؟ خالته يتلقاه بكل برودة و هو يقول:
-كنت أطمح أن أكون سائق قطار في البداية.
-و لكن ماذا بعد أن تجاوزت هذا الطموح بالذات؟
-قررت بعدئذ اقتفاء خطى والدي. كان يزاول مهنة نفسها. و هكذا تطور اهتمامي بالفيزياء النووية.
-و أنت الآن في مقدمة زملائك في هذا الحفل. لابد أنك فخور بنفسك.
قال بعد لحظة تأمل:
-أظن أنني أشعر بالفخر. و لكنه وضع يفسد الانسان حيث كل الناس يبجلونه في عله و يتوقع نشوء الحالة نفسها في حياته الخاصة.
هل كان يشير الى خطوبته الفاشلة و يبدي آسفه لتشبته برأيه؟
تكلم طارقا موضوعا جديدا:
-حديثيني عن نشأتك و خلفيتك أنت يا أبياظ
-ان خلفيتي عادية جدا. مات والدي و أنا طفلة صغيرة، فكدحت أمي الليل و النهار لاعالتنا. تركت المدرسة مبكرا ووجدت وظيفة. مع ذلك لم تتحسن أوضاعنا كثيرا. ثم فازت اختاي في مباراة للجمال فابتسم الحظ لنا بعد ذلك.
تنهدت منهية قصتها لتسمع وقع خطى العجوز تقترب منها.
أعلنت:
-هيا بنا يا أبيا. أريد الذهاب الى السوق. تعبت من الشغل. توسلت اليها أبيا:
-اذن دعيني أشتغل على الآلة الكاتبة قليلا. طال أمد عطلتي كثيرا.
حدجت الآنسة بيتمان ابن أخيها:
-خل سمعت في حياتك تضرعا كهذا؟ لا يا عزيزتي عزمت على التوجه الى السوق و أرفض أن أذهب وحيدة.
-سأجلب جزداني و أنضم اليك في اليسارة.
ألقت ابتسامة عابرة مودعة جيلز، و هرعت ال الداخل. سرها أن حديثها معه توقف عند ذلك الحد. رغم أن العداء المستحكم بينهما شهد نهايته، فهي لم ترغب في احلال الصداقة المتينة مكانه، اذ أ، صداقة جيلز فارو قد تتطور الى مرحلة أشد خطورة، و أكثر تدميرا لراحة بالها من عدائه السابق.
ابتاعت الآنسة بيتمان كل ما تحتاجه بحماستها المعهودة. و ما لبثت السيارة أن امتلأت بآنية النحاس، و حقائب الجلد، و أقمشة الحرير الزاهية.
و ما أن بلغت لاساعة الثانية عشرة حتى هد التعب أبيا فتمنت لو تعود الى المنزل، غير أن ربة عملها كانت لا تزال في بداية التسوق، مصرة على شراء هدية لكل واحد من أصدقائها العديدن. و اقترحت أن تشتري لأبيا شيئا ما، فرفضت هذه الأخيرة مدركة مدى سخائها و تبذيرها.
كانت الساعة الواحدة و النصف عندما وصلنا الى فندق تاج محل حيث قررت الآنسة بيتمان تناول الغذاء هناك. أوضحت لها و هي تقودها الى القاعة الرخامية:
-لم تشاهدي في بومباي سوى عدد ضئيل من المعالم، و يؤنبني ضميري نتيجة ذلك.
أتيحت الفرصة لأبيا عندما كانت في لندن لزيارة فنادق العاصمة الفخمة، و ذلك عند تسليمها بعض الكتب الثمينة الى زبائن معينين. لكنها لا تذكر أنها رأت قاعة تغص بالناس مثل هذه القاعة، و بجنسيات متعددة من العرب و الصينيين و الانجليز و الأستراليين و الأمريكيين.
سارت الآنية بيتمان عبر الردهة، و استدارت شمالا نحو رواق من القناطر حيث امتدت شتى أنواع الحوانيت.و ها هي امرأة طويلة هيفاء القوام تبرز من أحد الحوانيت، و كادت أن ترتطم بهما.
هتفت العجوز بفتور ظاهر:
-مرحبا فيكي. ما توقعت أن أراك هنا. ذكر جيلز أنك تردين الذهاب الى منطقة الطيور لقضاء بضعة أيام.
-ذهب زوجي بمفرده. ما أعجبتني فكرة الجلوس بصمت لمدة ساعات من أجل مراقبة ريش الطيور و أذنابها.
نظرت فيكي الى ساعة معصمها الماسية و كأنها توحي بموعد عاجل لديها، و أحنت العجوز رأسها و مضت في سبيلها. لحقت بها أبيا، و قد انطبعت صورة فيكي في ذهنها. كانت فيكي رائعة الجمال في ذلك الفستان الزهري، مما أبرز بشرتها السمراء الداكنة. و خيل لها أنها مزرية الملابس مقارنة بها، و تمنت لو تستطيع هي الأخرى لفت الأنظار اليها. و خاصة أنظار جيلز !
هتفت العجوز:
-ها قد وصلنا.
و توقفت أمام باب خشبي ضخم حفر عليه اسم: حجرة التنين. كان المكان مطعما صينيا، كما توقعت أبيا، و يفصل بالناس الى درجة الازدحام. تعجبت من ذوق العجوز في تناولها الطعام الصيني في الهند. و سرعان ما غيرت رأيها عندما طلبت ربة عملها الخبيرة وجبة متنوعة شهية، لم تذق مثلها في أي مطعم صيني ارتادته في لندن. كانت الآنسة بيتمان تحتسي الشاي عندما أخذت تستفيض في الحديث عن ثروتها الطائلة، و آمالها في انفاقها على أولاد جيلز.
قالت:
-لكنه رجل عنيد. أنا أحب الأطفال كثيرا. و هو لا يزال غارقا في آلام الماضي و تجربته المريرة مع فيكي. ليته يصغي الى و يتزوج ثانية.قفزت الى مخيلة أبيا صورة أطفال صغار يشبهون والدهم جيلز تماما، ويقفزون و يمرحون في غرفة الجلوس. كانت أبيا شاردة الذهن عندما أبدت العجوز رغبتها في صرف بعض الوقت وسط حديقة الرواق، و أشارت على أبيا بالتجول حول الفندق و اكتشاف معالمه. بدا الفندق عالما قائما بذاته يضم أكثر من سنة مطاعم، و تمتد تحت قناطره الحوانيت و الأحواض الصغيرة التي تسبح فيها الأسماك. و لفت انتباهها مقهى ذو طراز أمريكي يتنافر منظره مع بقية الهندسة المعمارية. فضلت مطعم التندوري حيث تضيئه أنوار خافتة. توقفت أمامه قليلا، فأشار عليها أحد الموظفين بالدخول و التجول في المطعم. قال:
-نرحب بك لتناول الغذاء أو العشاء ذات يزم هنا. نقدم الزبائن طبقا خاصا من دجاج التندوري.
أجابت أبيا:
-تذوقته ذات مرة في لندن.
- و لكن لا يستطيع أحد طهيه بطريقتنا الخاصة حيث نضعه في فرن تقليدي. أرجوك أن تأتي معي لأريك ما أقصده.مضى بها عبر المطعم، و المطبخ النظيف و الحديث حيث أحست بحر شديد. كم تكون درجة الحرارة في الصيف هنا، فكرت أبيا و هي تتبعه. وفتح الموظف فرنا مبنيا من القرميد ففاحت رائحة الدجاج المحمر، و لسعت وجهها حرارة النار القوية. قالت أبيا و هي تتراجع للوراء:
-يا للرائحة الزكية. هذا ما سأطلبه عندما أتى الى هنا.
تهللت أسارير الموظف، و عاد بها الى المطعم. و كانت تهم بالخروج عندما رأت الرجل و المرأة يجلسان على بعد أمتار منها. كان غارقين في الحديث فلم يتنبها الى وجودها كما تصورت. بدا الفستان الزهري متألقا بحريره الناعم، وفاتتها ملاحظة شعر جيلز ذا اللمعان الخاص. هذا هو اذن سبب بقاء فيكي في بومباي ! ضج صدرها بالغضب و القرف معا. كيف يسمح جيلز لنفسه التصرف بهذه الحماقة فيجري وراء امرأة خذلته منذ عدة سنوات، و تخدع زوجها للالتقاء به؟
هبطت أبيا السلم مسرعة الخطى، و أقفلت عائدة الى مكان العجوز، التي هتفت عندما رأتها:
-ما توقعت عودتك بهذه السرعة. أرجو أن كل شيء على ما يرام.
أومأت أبيا برأسها.
-رأيت كل شيء.
و كم كانت عبارتها دقيقة المعنى ! فكرت بأسى، متمنية لو تمحو صورة جيلز و تلك السيدة القيتة من ذهنها. لماذا تريد فيكيل وتن رؤيته ثانية؟ هل تريد اثبات مدى سيطرتها على مشاعرها، أم أن اجتماعهما مجرد لقاء عابر لعاشقين سابقين تربطهما صداقة عادية؟
علقت الآنسة بيتمان:
-ماهذا الصمت المفاجئ؟ هل ثمة ما يشغل بالك؟
أخفت أبيا حقيقة مشاعرها و هي تتبع ربة عملها الى السيارة:
-أعاني من صداع بسيط !
بدت شاردة الذهن و هي تحدق في الشارع المزدحم بسيارات الآجرة و الدرجات و طوابير الشحاتين المتدافعين حول النوافذ.
سألت نفسها:
-ماذا يهمني منظر جيلز فارو و فيكيل وتن يجلسان في مطعم معا؟ انها حياته الخاصة، و يستطيع أن يفعل ما يحلو بها. هذه مسألة لا تهمني اطلاقا !
لكنها كانت تكذب على نفسها، رن صوته في قرارة ذاتها. ان المسألة تهمها و تعتنيها. كانت تتوق شوقا للجلوس مكان فيكي. تمنت لو أن جيلز فارو ينظر اليها تلك النظرة الحنونة الملهمة. أطلقت زفرة عفوية، فوضعت العجوز يدها على ذراعها قلقة البال:
-هل أنت بخير يا عزيزتي؟ هل أجبرتك على التهام كمية كبيرة من الطعام؟
تلقفت قول العجوز قائلة:
-انه مجرد سوء هضم ليس أكثر.
-سأطلب لك بعض عصير الليمون و قليلا من السكر فور وصولنا الى البيت.
ضاعفت السيارة سرعتها متسلقة تلة ماليبار التي تنتشر فيها المنازل الكبيرة و البنايات المرتفعة تحيط بها حدائق عناء و الأشجار الباسقة. و أخيرا بلغتا نهاية الطريق. قالت أبيا بعجل:
-اذا كنت لا تريدين شيئا خاصا مني، فأفضل الاستلقاء في غرفتي بعض الوقت.
أجابت الآنسة بيتمان:
-لا بأس. ابقي في غرفتك قدر ما تشائين. أريد أن أكتب بمفردي.
شكرتها أبيا و مضت الى غرفتها.كانت تحتاج الى الخلوة لاستيعاب حقيقة ما أدركته، و لتكتشف كيفية معالجتها. يا له من شعور كأنه القضاء و القدر. لا مفر لها من مواجهة الواقع أن حب جيلز يتيمها. انها عاشقة.
كيف تم ذلك و متى؟ كانت تكن له الكره منذ مدة قصيرة ! لا شك أن عشقها مجرد نزوة عابرة، حدثت نفسها. ما الذي يجمع بينها و بين هذا الرجل؟ تمتمت و هي تستعيد صورة فيكي لوتن:
-كيف يسمح لنفسه التصرف بحماقة مرة تلو الأخرة، هل هو الحب؟ هل جيلز لا يختلف عن بقية الرجال؟
-و عندما توجهت لتناول العشاء في ذلك المساء، هالها أن تجد جيلز ينتظره في غرفة الطعام بكامل أناقته. بدا لها في ريعان الشباب، يفيض حيوية و ثقة بالنفس. خاطبها و هي تتقدم منه:
-ما هذه الرزانة؟
هزت بكتفيها و لم تجبه بشيء. تفرس في وجهها ثانية، و اقترب منها حاملا كوبا من العصير:
-أن عصير البرتقال مفيد و منعش.
امسكت الكوب بمضض. تراءى لها أنه ي اقبها عن كثب. أحست بالاحراج فاتجهت نحو الآنسة بيتمان لئلا يلاحظ اضطرابها اذا ما ظلت قربه. قالت العجوز:
-كنت أخبر جيلز عن رغبتي في السفر الى ارتجباد، و هي تبعد ساعة بالطائرة من هنا.
علقت أبيا شاردة الذهن:
-انه مكان مشهود بكهوفه.
-لا يوجد سوى كهف واحد. و ليست ارتجباد سوى قرية صغيرة تقوم فيها بعض الفنادق لاستقبال السياح الذين يزورونها لمشاهدة الكهف و الهياكل الصخرية (و استطردت العجوز) اذا كنت لا تمانعين، أود التوجه الى هنلك بعد غد. سيقوم جيلز بشراء التذاكر لنا.
اعترض:
-من الصعب الحصول على التذاكر هذه الأيام، اذ أن الفوضى تدب في خطوط السفر الداخلية.
أعلنت عمته بثقة:
-لن تعجز عن الحصول على أي شيء اذا أردت، فالحكزمة لا ترفض لك طلبا:
ابتسم:
-انك تبالغين في تقديري.
أجابت:
-أعرف ما هي قيمتك بالضبط. و آن لك أدراك ذلك.
تبادلا نظرات خفية كأنهما في حلبة مبارزة ذهنية. و فهمت أبيا أن عمته تعرف تناوله الغذاء مع خطيبته السابقة. اقترحت العجوز.
-لماذا لا تأتي معنا الى ارتجباد؟
-لدي أعمال كثيرة.
-أعرف. و لكن هل يوجد شيء عاجل؟
قال بفتور:
-سأحاول جهدي. ان قضاء بضعة أيام خارج بومباي فكرة مغرية.
استدارت أبيا لاخفاء وجهها، ووضعت كوبها فوق طاولة جانبية. لكن جيلز لحق بها، وسد طريقها قائلا:
-لماذا ما ألقيت علي التحية في المطعم بعد ظهر هذا اليوم؟ أصيبت بالدهشة، فانعقد لسانها. أضاف:
-ألم يعجبك منظري؟
-لم أدرك أنك رأيتني هناك:
تألقت عيناه:
-لست أعمى. هل أردت تجاهلي لاعتراضك على وجودي مع فيكي؟
-هذه مسألة لا تعنيني.
أحنى رأسه قليلا:
-بدون مبالغة. ما هو السبب؟
-لا يوجد أي سبب صدقني.
قطب حاجبيه و هو يدنو منها قليلا، سألها:
-هل أخبرت عمتي؟
-كلا. لا أريدها أن تشعر بخيبة الأمل.
حبس أنفاسه:
-تختارين كلماتك باتقان.
-أتمنى لو منت تتقن اختيار صديقاتك من النساء.
ندمت على تفوهها بهذه العبارة و كأنها تبوح بما يخالج فوائدها. لكن جيلز كان في ثورة من الغضب ففاته معنى كلماتها. قال متمهلا:
-لا يحق لك اصدار الأحكام على فيكي. ليس الحب كما تصوره الروايات العاطفية حيث يؤدي كل شخص دوره على أتم وجه، و يحفل العاشقان بالسعادة الأبدية. يرتكب الناس في الحياة العملية أخطاء كثيرة يدفعونه ثمنها غاليا.
سألته أبيا بفتور:
-هل تتحدث عن نفسك؟
-هل يهمك الجواب؟
-ليس الى حد كبير. ان مشاعرك مسألة تعنيك أنت.
قال بهدوء:
-اعتقدت أننا أصبحنا أصدقاء. و لا يلقي الأصدقاء الكلام على عواهنه و قبل التأكد من حقيقة الوضع.
أشاحت أبيا بوجهها:
-أنت لم تقتنع بصداقتنا. و أثق تماما أن رأيي لا أهمية له بالنسبة اليك.
قال بجفاف:
-انك تقللين من قدر نفسك.
هتفت العجوز:
-ما هذا اللغط يا جيلز؟
قال لتوه:
-نناقش الوضع السياسي.
علقت عمته:
-لن تستطيع الوصول الى أي حل.
أجاب جيلز:
-يمكن حل كل المسائل عندما تتوفر الارادة.
لاح في عينيه بريق خبيث. وجدت أبيا أن الوضع لا يستحق الدعابة و الاستخفاف. ابتعدت عنه و استلقت فوق مقعد طويل أدهشتها رغبة جيلز في معرفة رأيها، و سبب اجتنابها له في المطعم قررت أن يرمي الى اكتشاف ما اذا حدثت عمته حول الموضوع. سمرت نظرها على السجادة، محاولة تجاهل جيلز الذي أتى للجلوس بجانبها و هو يلوح برجله في الهواء. تمنت لم يرفض الذهاب معهما الى ارتجباد. ما استساغت فكرة قضاء عدة أيام في صحبته. أخذت تفكر في التخلف عن السفر اذا ما قرر الموافقة على اقتراح عمته سألها بعذوبة:
-ماذا يجول في ذهنك؟
أجابته مباشرة:
-لماذا تريد الذهاب الى ارتجباد؟ يلوح لي انك زرتها مرات عديدة.
-هذا صحيح. لكن آثارها تجذبني اليها باستمرار. علاوة على ذلك، احتاج الى بعض الراحة، و الابتعاد عن بومباي ز ضجيجها. و لا شك أن خيالك الخصب سيجد أسباب أخرى.
ردت:
-لا يوجد سوى سبب واحد. تريد الهرب من مغبة اغواء المرأة. قال كأنه يتعمد الاهانة:
-و ماذا لو كنت اندفع نحوها اندفاعا؟
توردت وجنتاها حياء، و رنت قهقهة في أذنيها فازدادت احراجا.
تابع:
-اذا كنت تريدين مقاومتي يا أبيا فاستخدمي سلاحا أقوى من الكلام الحاذق؟
-و ماذا تقترح؟
أخذ ينقل النظر بين شعرها الأملس، ووجهها الملائكي، وجسمها النحيل وقدميها. ثم قال:
-لديك أسلحة أشد فتكا يا أبيا وست، و براءتك تمنعك من استخدامها على محو فعال.
ردت بحدة:
-انها براءة أرفض التخلي عنها.
-انه رأي يدعو للأسف. عندما تينع الثمار يحين قطافها. لا فائذة من ذبولها فوق الأغصان. هذه جريمة لا تغتفر.
غرقت في صمت عميق. لمست لمس اليد أن خوض المعارك الكلامية معه لن يؤدي الى نتيجة. انه رجل مثقف يتقن التلاعب بالألفاظ، و ها هو يمارس مهارته أمامها. هل يحاول أن يغازلها بطريقته الخاصة، تساءلت أبيا. يا لها من طريقة معوجة ! أيا كان السبب، فهو حتما لا يبدو أنه يهيم عشقا بمظهرها الجذاب، و جمالها الخارق. انها تعرف حدودها. ربما كان يعبر عن شعور دفين، فيبدو مجرد رجل أحمق.
دلف خادم ليعلن وقت العشاء، فقفزت على قدميها و توجهت الى الطاولة قبل جيلز و عمته. قال ممازحا:
-يبدو أنك جائعة.
-سألتهم طعامي التهاما.
-أرجو أن تكتفي بالتهام الطعام !


تم الفصل التاسع


miya orasini غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس