عرض مشاركة واحدة
قديم 03-11-17, 08:56 AM   #6

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,438
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي



الفصل الثالث


استندت شهد بظهرها على سرير الواسع ......ترمي ثقلها عليه كما لو كانت أكثر أضعف من أن تتحمله على قدميها ...فحينما يتضخم القلب بألمه يضعف الجسد في قدرته ...و هي ما وجدت المنطق الموجز على البوح بما يتشرب من قدرتها النفسية و الجسدية حتى الخوار ..و يستنزف عنفوانها الأبي في عيش الحياة التي رغبت .....حتى لم يعد يتبقى منه إلا الخذل ليدفع صمت الكلمات المدفونة ...حيث مكمنها أن تعريها من القوة و الثبات في وجه عاصفة الوجع ....
شعرت بجسدها الغض النحيف يشتعل حرارة ....حين الغفلة منها في وقوعها عارية الروح أمام ندبتها المخزية ..عن غباء قدري تسلط بها .... راحت تؤنب نفسها بشفقة .....ربما ما كان عليها أن تقف مقابل وشم العار عليها ....لأنها إن تفعل و تتجرأ .. لا تجد سوى أن تقف مكتوفة اليدين تراقب انصهار تلك الغصات المختنقة في جوفها تحت نار الغضب المكتوم ....لتشعل بها النيران من الكبت و الحزن كأنما الحمم تتدفق عبر أوردتها .....تكويها تلك الجمرات على قلبها ..
رفعت أناملها الرقيقة المرتعشة نحو نحرها ....لتتحسس عروقها النابضة كما لو أنها تخنق بحبال لا مرئية تلتف حولها بكسل مخيف ....
حركة خفيفة من جانبها الأيمن خلفتها بسكونها المفاجئ تعض على شفتيها قهرا من العيون المتلصصة برهبة ... فأنزلت أناملها نحو طرفي روب الحمام....تعقده في حزمة صلبة .... صلابتها نادت و بشراسة روحها المقاتلة على العودة .....الندبات تخفي الكثير من الخيبات ....لكن ما يخفيها أمام العين في حقيقتها ..هي تستشعر نظرات الريم المشفقة التي تواريها عبر تشاغلها السخيف في تمثيله... بشعرها الغجري الفاتن في نعومته ....
لكم تظن ابنة عمها جدوى تمثيلها العاجز في تصنعه ...إنها أرق مما تتلبسه قسوة و برودة في تعاملها .... و شفافة أكثر مما هي تحاول إن تكونه غامضة خلف قيود الكلمات المهذبة ....ربما لأنها رأت عجيب من الأسرار الغالي كما لم تتصور .......أسرار قد تكون صعقت قدرات دهشتها القروية ...بأكثر مما لم تتجهز من معرفة ......فلم تتخيل أن تجد ببيت ابنة مخطئة بشرفها...تتواقح بما لا يليق مع عبثية ذنوبها ... ..ملامحها الرقيقة في نعومتها و البريئة في قسماتها ...لن تخفي تلك السمة المتقززة أو الغاضبة ...و هي التي مذ قاربتهم في مشاكلهم و صراعاتهم ... لم تجد سوى ذاك الغضب البارد يترسب إليها خلف شعور النفور ...قد جعلها تتمنع الرأي السديد و الوجهة النظر السليمة ....اتجاه العائلة التي كلفت لها حلم الدارسة ...إنها تبدو عنصرية نوعا ما ؟؟....
دائما ما تكون العنصرية الحقة في طبعها بعيدة كل البعد عن خلاف البشرية في الأجناس و الألوان ..فعليا تكون سمتها في كونها جدران اللامرئية تستهدف الشخص في طبعه و خلفيته الاجتماعية ..و ربما هي عنصرية مضادة من شخص نفسه مواجها لذاته ... فهذا أصعب ما تعاني منه شهد .....
فأن تجد نفسك في صراع عنصري ضد ذاتك الإنسانية ...هو أقسى ما تلاقيه .....تلك العنصرية التي تتناهب فيها كينونتنا الجسدية حيث اليمين قبل اليسار في اختيارنا ...و العقل قبل العاطفة التي تقمع ..و الفكر قبل الصورة حتى لو كانت أبلغ ..يعني أنك تعاني ثالوث عنصري عضوي تأصل فيك حين كنت تحارب طواحين الهواء لزلاتك ..
تنفست بعمق كبير يسمح بأكبر قدر ممكن من الثبات ...الانتكاس حاليا قد لن يفيد إلا سوءا ... ومن الأفضل لها على أن تحافظ على سلامتها الفكرية..... فما ينتظرها من واجبات مهمة أصعبْ ..خصوصا أنه عليها الوقوف جنب صديقتها في المرحلة الحرجة من حياتها... لن تنسى قط أن بريهان كانت خير سند لها في أزماتها السابقة و انتكاساتها النفسية ... بدون أن تسألها الحقيقة و تطالبها بتوضيحات صارمة ..تستقبل نوبات جنونها بصدر رحب واسع .... إنها تشعر نحوها بالامتنان حتى لو غلب على حرصها الشك في تصرفها ...الذي يبدو مريب في ثباته ..كما لو أنها مهمة لا جدال فيها ..تؤديها بعيدا عن المعاملة الحانية في إحساسها .....
بالنسبة لها بريهان شخص يقدم لك الكثير من غير أن ينتظر منك مقابل .. شخص ينجز ما يراها واجبا عليه دون أن يفرض قيوده ...لكن بالمقابل يأخذ ما يريد كذلك ..بالطريق التي تتناسب مع رغبته .....هي شخص لا يجد الحرج في القيود .....كما هي معطاءة في معاملتها ..شجعه في طلباتها ...
رفعت رأسها نحو الباب الزجاجي لشرفة الغرفة و تطلعت بظلام الليل الممتد الواسع أمامها ... الظلام لا يعني أبداً الخوف ... بالعودةِ إلى زمن ما من ماضيها تجد أن الظلام شكل لها بطريقة صعبة مريرة جزء من الأمان... و منذ ذلك الوقت لم تعد ترعبها قصص الليل الموحشة و تخاريف الصغر حول الجنيات المخيفة ....
استمعت راهبة لبداية ترنيمة زخات المطر الخافتة ...هي بها من روحانية ما يبعث الهدوء بداخل روحها.... أجراس المطر تهدأ صخب كيانها و ضجيجه المزعج . .. كيف لا وهي تؤمن بأن الطبيعة تبكي حزينة ...كما تبكي كل زواية معتمة من قلبنا ...بكل فصول حياتنا ....
لكم تحب الطبيعة الباكية في أمطارها ....أول مطر أنه يدفعها بالحنين إلى النقاء ..وآخره كأول البكاء الذي تشتهي ...يخنقها بالصمت و الكآبة ... يعملها أنه لا جدوى من الاحتماء بمظلة الكلمات ..حيث لا أمل أن يفهمها شخص يجيد الحضن .....وحده الصمت رفيقها أمام حضرته ...يطوقها بالطمأنينة و السكينة ....و يعدها بأن يحفظ تلك الأسرار خلف المياه الأمطار التي تجف ...يغسلها من أحقاد قلبها و سوداويته ..فيعود من جديد محمل بالنقاء البراق في جماله ...
من لياليه الجميلة في حدادها الرهيب ....ليلة من ديسمبر البادرة....عادة ما تكون في سابع و عشرين ...حيث تعبق رائحة الأرض الندية ..بعطر ترابي غامق في مسكيته ...و تنتشر سيموفينة الطبيعة التي تراقصه ...عن حياء أنثوي فتهدءا المساحات الشاسعة من أرضها ....هدوء الروح عند بارئها .....تراقب بوجل و خجل رقصة العاشقين في محرابهما ...
كم أحبت في صغرها الأغنية من فيلم كرتوني جميل بعنوان " الأميرة أنستا زيا" و لازلت تجد نفسها تستمع به ...و هي تتذكر دائما أن نصبت من ديسمبر شهر الأميرات الراقيات ...مغترة بجمالها الغريب في لونه ....
و من المضحك حقا أنها كانت تصرخ باعتراض في وجه فيحاء كلما قابلتها ....حزينة عن فرصة ولادتها في ديسمبر التي ضاعت ....
ازدادت قوة المطر و برق الرعد يزأر في وجه الطبيعية ..فحملت منشفة صغيرة و لفت بها شعرها الطويل لترمي نفسها جالسة منهكة بعد أخذها لحمام سريع غسلت فيه تعب نهارها المضني ....
ما يخزيها أنه يومها مر هباء في تعبه ..... قد لم تتمكن من تخطي أية مشكلة من يوميات حياتها المعقدة في تسليطها حول حياتها المراقب الذاتي و الحاكم المستبد ... ....إنها شخص اعتاد أن يحارب المستحيل حتى يحتفي بانتصاراته طول ليله الطويل ...إن لم تفعل شيء مبهر في سمعته قد لن تنام بعدها لأيام ...
إنه شبح الذاكرة المضادة حيث لا الرهبة من الظلام أو الأشباح بل من الذكريات التي تغافلك عن ألمك ...لتنقض عليك بتفاصيلها الرهيبة ..و تلك الخيبات المستترة خلف ظلال النسيان ......
رفعت يدها نحو نظرها تعدد السقطات بالتوالي ....أولها الطرد المجحف الذي لاقته من ذلك المدير الغريب في هيأته... حيث كان يوليها ظهره العريض ...مكتفيا بتمريرها الرهبة في حضرة أكبر رجال أعمال البلد
إنه عُمَر خَطَاب الصّاويْ ... الرجل الفخم و الفخور بنفسه كما سمعت ... صهر عائلة الساري العريقة المعروفة بتجارة القمح ....
ثانيها استفزاز ليديا السافر لها بسيرة علاقتها المتوترة مع أمها...بقد تجنت عليها في أمر غاية التعقيد ...ثالثها عودتها مجددا إلى قبول عن مضض بالسيدة أمال المثيرة للحنق في إلحاحها ...لطالما جزمت بقدرته على إفقادها الصواب و جعل منها كمفرقعة نارية تتفجر في وجه من يقابلها ..
كما أن أحداث الظهيرة كانت صادمة فهي لم تتوقع قط أن تعود إلى نفس المطار... حيث كان مروان يعتصم بها كلما مر بإحدى نوبات جنونه السابقة .... ورغم صعوبة نبشها لذكريات مريرة لكن وجود صديقتها أضفى بعض الطمأنينة على نفسيتها فهي حتما لم تتوجه لمطار بتلك سرعة لأنها اشتاقت لذكرى مروان ...
لكن على الأقل تمكنت من امتصاص غضب بريهان و حزنها .........صديقتها العتيدة لم تكن تحتاج لمصيبة كهذه.... من الرغم من شكوكها السابقة اتجاه والدتها التي أخفت مرضها لمدة أربع أعوام بدون أن تتحدث عن الكشف السلبي الذي أجرته .... متجاهلة الحاسة سادسة التي تملكها بريهان .....
تعترف شهد بأن بريهان لديها غريزة غريبة تمكنها من قراءة المستقبل و تخيله بصورة مبهمة فهي لم تنفك عن إبداء قلقها اتجاه أمها و حالتها الصحية لا و بل قالت لها مرة (يراودني إحساس قوي أنني سأفقد قريب لي ....غريب أنني أحس بشعور اليتم مرة أخرى بعد وفاة أبي ).......
كلامها يومها في كافتيريا الجامعة قد ألجم شهد و أصابها بالخرس التام.... و هي من اعتادت على استخفاف بقدرتها ..فأحيانا كانت تنعتها بالساحرة و تمد لها يدها ساخرة ( اقرئي لي حظي يا منجمة القرن الواحد و العشرين )...........و بالعودة لحالة خالة رؤى أخبرتها بريهان بأن والدتها قد قضت على كل فرص نجاتها و قللت نسبة نجاح العملية إلى ما يقرب الصفر ..
انزعاج صديقتها من والدتها و اعتبارها إخفاء المرض عنها مجرد استخفاف بها و انعدام ثقة.... حتى أنها أرجعت الأمر لقلة إيمانها و عدم قدرتها على تقبل القدر بخيره و شره.... أزعج كثيرا شهد التي تجد كل القدرة على تفهم سلوك خالة رؤى السديد ...
فحتى و إن كان في باطنه خداع لابنتها الوحيدة.... غطت به ضعف الشخصية في مواجهة المصائب بدفنها و تقبلها صمتا دون السعي لعلاج فعال و سريع .... لكن شهد اعتبرته شجاعة نادرة و معدن نقي مثلها في التضحية ...... .مكنت بريهان من تخطي مختلف أزماتها خصوصا بعد وفاة والدها.... فكيف كانت ستتمكن من تجاوز المحنة و أمها تشهر في وجها سوء صحتها ..لو فعلت حقا ذلك لما تمكنت من نجاح في حياتها الاجتماعية و العلمية .....
أحيانا تصرفاتنا الخاطئة في حق أشخاص ..و رفضنا لإظهار حقيقتنا أمامهم ... تكون مجنبة لكثير من الألم ... كعلاقة شهد بمروان لو أنها أخبرت والديها عن تاريخها المخزي معه....و أبعدت عنها تلك الضبابية في تورطها معه ... لاكتشفا في نهاية أنه ربما استحقت بجدارة ما تعرضت له على يده .....
فمحاولته لانتهاك عذريتها و اغتصابها....مرات كما تعرف عن غيرها .. واقع جسده خنوعها له و بخصها لثمنها الغالي.... في سبيل حصولها عليه....
بالنسبة لها آنذاك تجاوز الأمر مشاعرها بكثير ..بقدر ما أحبته بقدر ما اعتبرته تحدي يستفز غرورها الأنثوي و كيانها المستقل ..قط لم ترغب أن تتورط بتلك الطريقة في لعبته السخيفة ...لكن بمجرد أن رمت بيدق اللعبة بينها ..كأنما انفتحت أبواب الجحيم على مصراعيها ...و حينها فقط لم تعد تجد وقت لتفكر بمنطقية العلاقة المختلة في أساسها ... أمام وحشية أبداها مروان ما خبرته و لم تعرف لها مثيل .. ....الوجع إن كان غريبا ..يكون ممتع أكثر مما هو كونه مؤلم ...
لكن أحيانا نرتكب أخطاء لمجرد أننا نرغب في ذلك و هي كانت مدركة تماما لنوايا مروان ....و لنهاية تلك علاقة مريضة التي جمعتها بشخص حقق الكثير في حياته..... و قد فرض منطقه الغريب على الكثير من بنات أمثالها ...
ترى الآن بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات ...أنه من مضحك حقا معرفتها بمختلف علاقاته النسائية ...دون أن يشكل هذا عائق في انجرافها اللامتحفظ نحوه .... في نهاية اكتشفت أنه كان انتقائيا في ما يتعلق بصحبته النسائية ....و هي ما شكلت أبدا الخامة الأنثوية المناسبة ....
فقط هوسها به و دهشتها بكل جوانب حياته و شخصيته الغريبة بتناقضاتها ....قد جعلتها ترتكب الكثير من أخطاء في حق نفسها ...فسمحت بأكثر مما تسمح الحدود الرغبة أن يتخطى .....
أمام عنجهيته الفريدة في مراراتها ....راحت عن غباء تتعرى من كل حصونها القوية في ردعه .. فلم تملك أبدا حق الرفض اتجاه ما عاملها من دناءة ....
بعد ذلك سخطت إنسانيتها رفضا لمزيد من ألم .. فاختارت أن لا تعترف بماهية رجل آخر في حياتها.....قد نبذتهم جميعا كما يلفظ الجسد أنفاسه الأخيرة ...فهي ضعيفة أمام فكرة أن تجد مروان آخر يتخطى عتبة انعزالها ...و يقتحم حياتها البسيطة .......
ربما هي منافقة بعض الشيء في تظاهرها البارد ناحية الرجال .... فبقدر شوقها لإحساسها بقوامة رجل عليها وسلطته دون أن يخدش روحها و يألم كرامتها ...... بقدر ما تخاف من عدم استحقاقها لرجل أحلامها الذي رسمته في طفولتها ....
تذكرت يوم صرخت في وجه مروان بحدة بعد أن سخر منها فور عندما حدثته عن رجل أحلامها و الذي كان مغاير له تماما (أنا شهد الغالي ....تعرف ما معنى الغالي أنا لست سلعة ترميها لأنها لم تعجبك أو أنك مللتها ..ازدرائك لي و سخريتك مني لا تعكس سوى أنك لا تستحقني ...أنت لست بند لي و لا تمثل روحي .. إياك أن تفكر بملكيتك الحصرية لي لربما استحققت رجل أفضل منك ).....
فقبض على ذقنها بقوة و أرغمها على النظر إليه ..ماذا كانت ملامحه.... بشعة لغاية و كأن شيطان تلبسه فأحال ملامحه المليحة الى ما يشبه التوحش البري .. تقاسيم وجهه كانت بها سخرية مريرة و حقد دفين غلفته قسوة لم تكن تظهر عليه إلا نادرا ...بداخله وحش كانت شهد تخافه و تخاف أن توقظه ..هي فعلت حقا ذلك منذ أول مرة رآها عند محطة مترو ( أنت أصبحت منذ اليوم سلعة مستهلكة لن يضطر أي رجلُ أن يضع يده عليك حتى لو فعل لن تكوني أكثر من مجرد متعة فانية تزولُ نشوتها سريعا في اللحظة التي يرميك فيها دون أن يشعُر بذرة ندم ...لا تقاتليني بعد اليوم و لا تتبجحي بالفضيلة أمامي ففاقد الشيء لا يعطيه )
تقريره بموقعها بعد تجربتها الفاشلة معه...ضربة ما توقعت أن تقعدها للأبد ....جريحة الأنوثة أصبحت .....
بعدها تحولت لمجرد روح تائهة تحمل بين ثناياها جراح نازفة مضجرة بدماء طازجة لن تسمح لها أبدا بأن تشفى...... وجودها دليل دامغ على وجود هي شخصيا .. طالما هي تنزف و تؤلمها ..فهي حقا تتأكد بأنها تعيش ...باختصار الألم هو الزمن الذي يحكم عالمها ....
(أنت لا زمن لك غير الألم ..لن تتجرئي على وضعي في خانة الماضي لأنك لن تجدي مفردات لأي زمن قد تريدين وضعي به غير الألم و بالتالي تسبقيني معلقا دون أن ترميني وراء ظهرك ...سأكون الطرف الموازي لعالمك أو بالأحرى العملة الحقيقية لوجودك )...............
و شهد لن تتوقف كذلك عن لعق جراحها كأسد جريح بعيد عن مرأى الآخرين..... بدون أن تهدد قدسية حزنها و وحدتها الخانقة قد لا تريد فعلا أن تخرج من سجنها ..... لأنه قد زرع فيها خوف مواجهة نفسها ( في اليوم الذي أتركك فيه أعدك أنك بعدها لن تتمكني من رؤية وجهك في مرآة دون أن تشعري بالغثيان ..حتى لو استعدت مقدرتك و شجاعتك في مواجهة نفسك سترين فقط حينها روحك السوداء و دنيوية رغباتك الدفينة ..شعورك حتى لو تفوق علي لن يمنحك سوى كسر مرآتك حتى لا تضطري بعدها من تمييز نفسك ...ستكونين قضيتي الخاسرة )....
الكلمات التي بقيت ترن في أذنيها و محفوظة في أعماق قلبها رغم قسوتها .... لكنها لامست واقع تفرضه عقلية رجال حتى و إن لم يكن أغلبهم.... لكن لا كرامة لرجل في أنثى مستهلكة كما سماها مروان .....و بإخفائها جزء كبير من قصتها قد ضمنت على الأقل أن تعيش دون أن تفكر في قتل نفسها قهرا من وصمة العار التي ألحق ....
في نهاية حربها كسبت طهارة جسدها ...رغم سخافة مكاسبها لكن المادة هي آخر طوق نجاة حصلت عليه من مروان ( لا تظنني لم أكن قادر على إخضاعك... سهولة اغتصابك تكمن بسهولة تحريكي لأفكاري ....سأدع لك هذا الجسد الفارغ لتتمتعي به قليلا لن أحرمك من هذه الفرصة ..أعرف أنك يوما ما ستدفعين عمرك لتجربي إحساسك كأنثى أمام رجل ما ...قد تركت لك جسدك لتفهمي أنني في النهاية أجعل منك عاهرة روحيا ..و العهر الروحي أشد ألما من العهر الجسدي ..صدقيني بعدها لن تفكري أبدا بلغة جسد مرة أخرى ...جربي و تكتشفي فظاعة ما خلفته فيك من حطام ) .................................................. .........................
.................................................. .................................................. .................................................. ......
مذكراتي ....لشهد الغالي ....
لا أظن أن هناك من يملك شجاعة الارتجال في القرار و الصمود القوي في تحقيقه مثل والدة بريهان ....ما فعلته الخالة رؤى بإخفائها الكثير من الأسرار لم يكن فقط وليد العجز المقيد بالفقر و قلة حيلة في إيثارها بين النجاح لابنتها و الشفاء المفخخ من مرضها...
بل كان صفاء نفس و قدرات تبصيرية نفوذه في نظرتها .. اخترقت معالم روحي حينما سمعت القصة من بريهان الغاضبة ....ما كان يعني غضبها البارد... أو حتى ما مر الأمر على سمعي الخارجي فقط ..بل اجتاح بصيرتي فأحدث بها جلبة من التحقيق.......فهي لم تبد مقموعة بالدهشة و الغضب .... لحظتها همس لي صوت داخلي أنه تصرف كان تمام الصواب في قراره ....
فالكشف الذي أجرته رؤى في إحدى المستشفيات الحكومية قبيل شهران كما أدرك عن فطرة ....حقيقة أوقفت شعورهما المتضاد بين المعرفة و الضبابية لانتظاره... ....واحدة قلقة و مترقبة من ردة فعل ابنتها التي أصرت على استلام نتيجته ...و ثانية واعية حد الألم دون أن يفقدها الأمر توازنها ..
عني أنا بدت لي اليوم في المطار أكثر تماسك من قبل ..و لم تكن الصدمة ما دفعها نحوي باكية ...؟؟...
قد أعلمتا بالنتيجة قبلا بكثير ....و ليس ظهر اليوم كما قالت .......على أمل أن ينفي حقيقة مرض أمها لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ..فهي ما شفيت من مرض كانت صدمة جوابه أكثر من حتمية تكراره .... و أنا ما صدقت فخاخ كلماتها ......
....بقيت على صمتي واقفة بتصلب أضم الروب إلى جسدي كما أنه يسحب مني ....و راح يعاندني السؤال الملح الذي تفجر في أعماقي فور زرت خالة رؤى بعد أن ودعت والدي.....ترى حقا لو أن أمي كانت في مقامها ما ستكون رد فعلي ؟؟؟؟.....أمام قسوة السؤال في ازدواجية إجابته انتفضت من شرودي .... و رحت أتجول بعينين فارغة في رحاب الغرفة الواسعة و الرجفة تعبرني من رأسي حتى أخمص قدماي صغيرتان ......
لم أستسغ فكرة أن أتخيل نفسي أجيب عنه ...فلا إجابة قطعية سلمية أقول قد أجد ......مجرد افتراض يجعلني على حافة البكاء.....قهرا و ليس حزنا .. إن علاقتي بأمي سيئة الأحوال..و هي امرأة تنازلك بشرف حتى الرمق الأخير ...أحبها قوية صلبة و سأفقد ميزة منافستها مريضة إن كانت ....فخورة مثلها قد يقتلها القنوط من الضعف ......
إننا نبرع دائما في إيجاد سبل التعايش التي تضمن أن لا يدوس طرف آخر في كرامته ....فهي تحفظ كبريائها الأمومي في سلطته و أنا غموضي المحمي في التباسه و صمته ... ففوق معاناة الجذب و الشد ..لا أريد أن يدخل معركتنا فيصل حتمي كمرض السرطان ....
على عكسي تماما بريهان قريبة جدا من أمها و أنا شهدت على القرب الروحي و النفسي الذي تعيشانه ..بحق الله هي فور أن تحس نفسها معجبة بشخص ما تهرع لأمها لا و بل تقومان بتتبعه على مختلف صفحاته على مواقع التواصل و السخيف أنهما تتابعان بشغف أخباره و صوره و أحواله و تبحثان عن سيره بفضول ....كان ذاك قبل سنتين من الآن يحدث ....
مضحك حقا.... لكن يمكنني قول أن مأساة حياتهم في بحثهم المضني عن شقة تؤويهم فقرهم المدقع .... و انتفاء عائل مالي لهم قد قلصت قيود التي تفرضها عاطفة الأمومة من طرف الأم على ابنتها ..التقارب قد منع عنها تدمر دواخلهما الفكرية...في عدالة القدر و التصريف ......
من مروان عرفت أنه لا أقوى من شيئان قد يدمران نفسية الإنسان بالتدريج ....الفقر تحت درجات الصفر..و لا يعني هنا أن يكون ماليا ...فهناك فقر لاسم و الشرف و الجاه ..فقر الحب و الكره ..فقر الوصال و الهجر ...... و الثراء الفاحش دون إحساس بقيمة المال .....حينما لا يمنحك المال أكثر من أشياء مادية في فحواها ...مجوفة في عمقها .....
عائلة بريهان دائما ظروفهم كانت تدفعهم دفعا لتقرب من بعض بهذه الدرجة.... في نهاية مطاف هما لا يملكان سوى نفسيهما في هذا العالم .....إن أهملت طرف من نظري .......
(-شهد ألن تلبسي ملابسك.... البرد عليك عزيزتي دفئي نفسك )
لم يصدمني صوتها الرقيق في نعومته و الخافت في حذره المترقب ....إنها تفترسني كما الصقر في نظرته ....خلف قناع البراءة الذي يغلف مراقبتها الواعية ..عكس الدهشة القروية التي تبدي .......كمن يشهد على صمت ...تسجل ما يفوق أن تعرفه .....
ما جعلني أكثر حذر من أن أغافل بصعقة تعيدني للواقع أمامها ..إنها تحاول أن تجد لنفسها طريقا على حسابي ...فترسم خطا رقيقا متلفا للأعصاب تمشي عليه وفق ما رأته فيني و يجب أن تتجنبه ...لكنها عن جهل لا تدري ....أن الحياة إن قررت دفعها نحو المطبات عنيفة ..و تجاربها قاسية .....لن تكون لها رفاهية المقارنة .....غباء أن تجعلني مقياس خطر .....
فالتفت نحوها ببطىء رتيب ....أتفحصها بنهم شجع .....تشعرني تفاصيلها الهادئة في سكونها و النقية من مما يشوه روحي و جسدي ...بالغيرة المحرقة .... ريم فتاة طيبة جدا من النوع الذي تجده دائما يتحاشى وجوده بين الناس.....وجودها في منطقة الظل مختفية عن أنظار ...أراه تصرف غبي أكثر مما ذكي و سلمي .... كما أنها تتقبل ثورات أمي و نوباتها التحكمية بصدر رحب ..لكن ما يخيفني أي مشاعر تضمرها ..دون أن تجد طريقها للسطح ..........
...............
زفرت شهد طويلا و استلقت على سرير ترفع رجلاها عاليا على جدار الذي يستند عليه السرير و تدعكه شعرها المبلل بمنشفة زرقاء .... ... .... ....
-لا سأرتاح قليلا قضيت يوم مجهد كالعادة في الخارج.... لا أسمع صوت أمي ربما ذهبت لزيارة جدي
تحركت ريم لتجلس بجوار شهد و هي تربت على يديها ...و تطلعت بوجهها طويلا و كأنها تتفرس ملامحها الجميلة.... عينان واسعتان نجلاوين للغاية... بلونهما العسلي البارد في جموده ...... أنف صغير محدد به من الشموخ و البأس و عزة النفس .. شفاه صغيرة ممتلئة بلون أحمر داكن تناقض قمحية بشرتها الناعمة .. في الحقيقة ملامحها الدقيقة بخلاف عيناها الواسعة تمنحك شعور غير مريح ... فمن ينظر إليها للمرة الأولى يجد نفسه حذر منها ... و تحرك أجراس الخطر بداخل عقل أي كان من قابلها ...
تعترف ريم أنها في المرة الأولى حينما قابلت شهد قبل خمس سنوات أحست بالغيرة الشديدة منها في كونها فتاة مدللة و مائعة لدرجة فظيعة.... إنجاب الخالة فيحاء لتوأمين شهد و ورد في عمر صغير اضطرها لوضع شهد تحت رعايةِ جدتها منذ أن كانت رضيعة ....
....مما منحها رفاهية التحرر من القيود الأمومية ....
لم تعترف بأمومة فيحاء اتجاهها و كان من صعب ان تتخلى عن لقب "خالة فيحاء " مستفزة والدتها بفرض سيطرتها عليها ....و بعد محاولات عديدة من جميع أطراف العائلة في الجمع بين الخالة فيحاء و شهد أثمرت في النهاية.... و اضطرت نارية الطباع لتخلي عن تلك الرسمية اتجاه أمها... لكن ما إن خلعتها حتى استبدلتها بالعناد و العقوق اتجاهها....
. شهد إن أجبرت نفسها على ظهور بمنظر مؤدب أمام من لا يروقها في تفكيرها..... ما إن تخلعه حتى تعامله بصفاقة تامة و يبدو أنها لم تحمل أي مشاعر إتجاه فيحاء .... تمتمت ريم وهي تحدق بشهد
-نعم هي ذهبت أظنها ستبيت الليلة عند الجدة جدتك مريضة شهد ....أنت لم تزوريها منذ أشهر عديدة ألن تنتهي حملة الجفاء التي سلطتها على العائلة
......أبعدت شهد يد ريم عن بطنها بنزق و اعتدلت تنام مكورة على جانبها الأيمن ..ترد عليها بفتور ...
-أطفئي الأنوار أريد النوم ... أنا اليوم في حالة تسمح لي بقتل أي كائن حي يتنفس .....

أغلقت عيناها بقوة أمام نظرات ريم الدهشة متسمرة الجسد في مكانها ......لكنها كانت أكثر تشاغل من أن تتفهم و تقدر جفولها المريب .... قد حاولت أن تحجب الذكرى قاسية أبت إلا الظهور أمامها...خوفها من أن يفترسها الليل بشجونه قد حدث .....فلا أمان في زيف نسيان المستتر خلف قيود الذاكرة .......
شتمت بخوف حينما ...شعرت بالرجفة تخترق أوصالها....كما لو أنها صعقت بالذاكرة المضادة ...
كلما عبرتها تلك عينان بلون أزرق فيروي جليديتان في نظرتهما الباردة ....التي تبعث على مشاعر الرعب...كأنما تترسب نبضات عبر جسدها ...
نحن لا نخاف من الأذى الجسدي بقدر ما نخاف من الأذى الروحي ..... و عيناه الناطقتين عكس صمته .....تدمران الروح من غير أن يعتب .... تلك العيون الزرقاء البادرة حطمت أي شعلة لهب أضاءت عتمة كيانها ....و هي تعرف أنها لم تمنحها هبة الغفران ......
(أنت لن تطئي عتبة هذا المنزل بعد اليوم و لن تتجرئي على زيارة فرد فيه....من اللحظة و إلى آخر يوم لك في حياتك نحن لم نعد لك أهل....... أنت بعد و قبل كل شي شهد الغالي و أنا مللت من الاعتراف بك في قاموسي و ضمك إليه و أنت لا تنفكي تخرجين عن طوره ...اذهبي و إياك العودة .. لا أريد أن تتقاطع بنا الطرق مجددا.....)

................................................

جلست ريم على طرف سريرها تضم يداها بقوة إلى حجرها.....قد كانت مرتعشة الجسد و مخطوفة النفس ... هل سبق لرجل خطف أنفاسها معه ..بحضوره الطاغي و المربك ...و جنونه العنيف في صمته ....... ..

هي لم تشعر بهذا التهديد الروحي و النفسي طوال سنواتها العشرين ..بنظرته المحرقة تلك ....جعلها تشعر بالحرارة تشع من كل خلية بها......و حينما غادرها بصمت انقبض جسدها و كأن روحها تخرج من حلقها ..
بردْ .. برد شديد يجتاحها كورقة صغيرة في مهب ريح عاصفة ..... دقات قلبها ما زالت قوية سريعة علا ضجيجها مسامعها ... فلم تعد قادر على التركيز أكثر .... تريد أن تحكي أن تشرح .... تفضفض عن روحها لكن شهد أغلقت عليها جميع المنافذ بغضبها البارد ...
رفعت رجليها لصدرها و شردت بعيدا عن هذه الغرفة الى صباح اليوم ....
حيث كانت وحيدة في البيت بعد انصراف الكل إلى أعمالهم و مدارسهم.... و غياب خالة فيحاء اضطرها لتطوع و البقاء حتى لا يخلو مرة واحدة ...ربما ما تفعل هذا إلا امتنانا على سماحهم لها بإتمام دراستها الجامعية ...
من وقت باكر تشاغلت بأعمال المنزلية حتى لا يصيبها السأم و الملل سريعا..... نظفت الأرضيات و الأسطح و مسحت الغبار .. غسلت الملابس المتسخة و الأواني المستعملة..... رتبت الغرف التي كانت غارقة في فوضى عارمة....
ريم في بداية إقامتها في منزل عمها هاشم استغربت كثيرا بل و دهشت لنمطية عيش أبناء عمها ... رفاهية أغراضهم الشخصية و محتويات خزائنهم و مكتباتهم أشعرتها بالدونية عنهم و كأنها لا ترتقي أن تعيش معهم ... هي لم تكن تحلم بامتلاك شيء مما يتوفر لهم .. لطالما اعتمدت على الملابس الأساسية التي تقي من البرد و الحر .... و تغذت على ما يقيها الجوع و يكسبها صحة منيعة ضد الأمراض ..
هي لم تحلم أبدا بارتداء فستان سهرة و كعب عالي ماسي و خواتم براقة .... أو تضع العطور الراقية و كريمات بشرة أبدا لم تتعود على عالم براق كهذا...
كما أن لم تتخيل أن تملك يوما ما حقيبة تحوي بعض أدوات الزينة..لا و بل تجد الجرأة على طلي بها وجهها..... في مرات نادرة تتملكها شجاعة و تحثها غريزتها الأنثوية على فعل ذلك ....( عندما تجدين نفسك مكتئبة لا حل أفضل من زينة أمسكي فرشاة الماكياج و أطلقي العنان لأنوثتك ستجدين نفسك تتحرين من الضغوط كليا .... صورتك في مرآة إما ستعجبك حتى تغتري بنفسك ...أو ستضحكك حتى تندمي على اللحظة التي زينت فيها وجهك ... إنها إحدى أسلم الطرق لتعبير عن غضبك و حزنك دون أن تسببي أذى لنفسك ) ....
كانت إحدى نصائح شهد في البداية تشعرها بالنفور و الرفض ...و ظلت تصنفها من إحدى أسخف الأفكار التي قد تصدر عن فتاة مدللة مميعة ..لكن ما إن فعلتها مرة حتى أدركت أنه لا بأس في أن نعيش بعض الرفاهية..... فالقليل منها لا يضر على العكس يدفعك نحو الأمام ......
تطلعت إلى فستانها البيتي الرياضي وردي اللون لقد وقعت في غرامه منذ أول مرة رأت شهد تلبسه و طلبته منها ....ميزته أنه به قبعة ملتصقة تحميها من برد الشتاء .....
في الحقيقة ابنة عمها كانت في بداية إقامتها كريمة الروح ولم تبخل عليها بشيء ...متجاوزة التي صدمة التي ظهرت على محياها حينما فتحت خزانتها لتريها إياه ....لربما غلب التقزز على الدهشة ..لكن شهد راحت تفرد الفساتين و التنانير بعملية احترافية ...متشاغلة عن نظراتها المدققة بالألوان الحارة و القصات المثيرة ..... قد صدمتها بجرأة ملابسها البيتية من أقمصة شفافة و بنطلونات قصيرة لا تتجاوز طولها ربع فخذيها..
سماحة العم هاشم و فكره محرر لطالما أثارت غيرتها فوالدها لم يكن قط من ذلك النوع .. إنه قروي رجعي .. رباها على الطرق الأصعب قط لم يملك ربع حنان عمها مع بنتيه التوأم .. سيد هاشم الأخ النصف شقيق لوالدها .................................................. ..
.................................................. .............
التفت ريم نحو بهو الشقة الواسع تتأمله بفخر و اعتزاز ...فقد تجاوزت عقدتها اتجاه ثرائهم ذو البريق الخاطف ....خوفا من أن تفسده بجهلها و ثقافتها المحدودة في التزيين ... فقد وضعت ديكور جديد لصالون البيت و نثرت عطرا بيتيا خفيفا.....
كما طهت أكلات لذيذة و ساخنة ..فأيام ديسمبر باردة جدا في المدنية التي يعيش فيها عمها هاشم ...... لم تحتج لكثير من الوقت كما العادة في أن تجهز طاولة الأكل للأولاد..... قد اقترب موعد عودتهم من المدارس ..إنها ربة بيت ممتازة كما تصفها ورد دائما ...وهذا طبيعي من ناحيتها فهي فتاة ريفية تربت بين أحضان الطبيعة و المزارع و كبرت على نظام قروي صارم ..
وقفت في شرفة المطبخ تستمتع بضجيج المارة و صراخ أطفال مدراس بزيهم المدرسي و هم يعبرون بوابات مدارسهم نحو جانب الرصيف تباعا منظمين حسب الأعمار.... في مجموعات كثيرة بصخب و مرح كبير.... أجبر ريم على ابتسام من طفولتهم و براءة أحلامهم
كانت تراقبهم و هم يعبرون الطريق بخوف لا ينفك يروح و يأتي محله الفخر بمجرد وصولهم لجانب الآخر من الرصيف سالمين... البنات منهم جميلات أنيقات ببراءة تخطف الأنفاس و الصبيان تملئهم الثقة ....
ضمت جسدها بيديها معا .كما لو أنها تحميه من البرد..... بينما غطت القبعة الكبيرة نظرها تماما ... ....تغريها الصور المموهة الغامضة ..فتحب أن تبدو كذلك بهذا الفستان لذي يغطي كثيرا من جسدها المكتظ أنوثة ...الفوارق الجسمية و النفسية و الفكرية بينها و بين الغالي ... تدفعها جاهدة أن تكون وسطية في كل شيء .....و عملية جدا في تقبل ما يخالف طبيعتها الفكرية عنهم ...إيجاد المنطقة المعتدلة بينهم يحمي وجودها في بيت لم تعرف له تفسير ..
الكل مرحب بها على عكس ما تتوقع ... لكنهم لا يجدون حرج إقحامها دوامة مشاكلهم و جنونهم ...حياتهم من رغم رفاهيتها إلا أنهم لا يملكون من لذة السعادة شيئا ...قد تبكي الخالة فيحاء قليلا في الخفاء فتنهض بعدها بدقائق مسرعة نحو واجباتها الأمومية ...ورد تتجنب الجدال و الشجار ...مكتفية بمساحة الظل لشخصيتها التي تجبر الغير على تقبلها ....
شهد الغائب الحاضر عن البيت لا تدخل له إلا و صراخ المشاكل في انتظارها قبلا ...عمها هاشم رجل يخفي أكثر مما يبدي ....و أخيرا ذلك المغترب وائل ....

رفعت بأناملها طرف فنجان القهوة الساخنة ....نحو شفتيها في نية شربه ....لكن على حين غرة توقف في منتصف الطريق ...حينما اخترق سمعها صوت فخم في نبرته ...بكلمات عربية ثقيلة كسولة مفخخة بذبذبات الرجولة الطاغية ....
-أمسكت بك أيتها الخائنة شهد ...يا واشية هاشم ....
تسمرت مذهولة غير قادرة على الإلفتات نحوه ...لكنته العربية بدت عنيفة الحروف ...عصية النبرة ...أنيقة برجولته المستفزة عبثا ... ....كما لو أنه لا يقدر على نطقها إلا بذلك الكسل و الخمول ......فنسيت الكأس الساخن من دهشتها . ....
و ما إن تحركت عن سياج الشرفة قليلا....حتى تحصل على المسافة التي تلزم ......باغتتها الأحاسيس في استيطانها علني لروحها تباعا ....أحست بذراعان قويتان لغاية تجذبانها عاليا نحو ارتفاع مخيف ......ثم الجسد الرجولي القوي وراء ظهرها يستفز هشاشة جسدها و طراوته.....
.... إلى أن لفتها غمامة لا مرئية قد أجبرتها على الاستكانة... فالعطر المسكي النافذ من ساعديه قد بعثر حزمها في الاستدارة إليه و صقل وجهه بصفعة قوية ....

على حين غرة ...باغتتها رغبة شيطانية في المقتل ..حينما قررت أن تفعل به المثل....دون اعتبار لقواعد التعارف الأولى ..ما دام قد اختار عن سابق طريقة لا تليق .. ...فلم تفكر كثيرا قبل أن تسكب القهوة الساخنة على يديه معا .... ...
قد أرضتها كثيرا الصرخة الحانقة التي اخترقت أذنيها ..بهمس لفظ روسي ..استنتجت أنها شتيمة محترمة .....لكنها وجدته ينازلها عن شرف حينما أرخى قبضته عن جسدها في غفلة عنها ......لتجد نفسها تطير من ارتفاع شاهق نحو الأرضية الصلبة .....و وقع الكأس المسكين في معركتهما متكسرا إلى قطع كثيرة ..

وائل الغالي .... ..لمع إدراك خفي في أعماق ريم ....و ومضت ذاكرتها الرجولية في إنخطاف عبثي ...... في أول مرة زرات منزلهم قبل خمس سنوات مضت....قد التقت الشاب اليافع.... قوي الشكيمة مخملي الوسامة بملاحمه الرجولية عذبة..... إنه النسخة الكربونية من أختيه شهد و ورد ... يملك نفس عينان النجلاء الشهلاء الواسعة بلون عسلي بارد مزينة بحروف سوداء قاتمة و الأنف صغير شامخ ... الشفاه الصغيرة ممتلئة قليلا حمراء كالبطيخ البارد الطازج في أيام الصيف الحار ...نفس اللمحة الناعمة لتقاطيع الوجه ...جمال يقرع طبول الحذر بداخل من يصادفه..... قد يضطره لتأمله طويلا دون أن يجد نفسه يفهم روحانيته و تعبيراته ... هم لا يتمتعون أبدا بالبساطة التي تشربتها شخصية ريم بها طوال حياتها ...ما يحصلون عليه من اهتمام بين أوساطهم ..يفوق ما يدركه أي شخص عادي مثلها ..
لربما انتمائهم لأشهر عائلات المنطقة المعروفة عبر التاريخ بثرائها و نبلها و عراقتها و أصالتها ...فالغالي رمز كبير لا يندثر بسهولة بين عائلات هذه المدنية ...هم صفوة المجتمع النبيل الراقي ..
في السابق عهد الاشتراكي لاقتصاد البلاد في ستينات كانوا قد سيطروا على جميع الباخرات التجارية للميناء الدولي .. ..
لكن ريم لم تلاحظ أية ثراء فاحش ببيتهم الكبير نسيبا الذي يقع في منطقة عادية كما أنهم لا يأتون بأية صلة عن أقارب سيد هاشم لا ورد و لا شهد حكت لها عن عائلة الغالي .
لكنها لم تنتظر أبدا أن يتحدثوا أبدا تكفيها ملاحظتها لنمطية عيشهم و طبيعة تفكيرهم و شخصياتهم التي تخالف كثيرا ما عهدته ريم عن أهل قريتها و صديقات الجامعة هنا في هذه المدنية اللواتي وجدت في حديثهن عن حياتهن و عائلاتهن نفس البساطة التي عاشتها ......
لكن عائلة هاشم
طباعهم بها نعومة ممتزجة بثقة عالية و نبل يتجسد في أقل ردات فعلهم ..حديثهم ..طريقة جلوسهم ...و أشياء كثيرة لا تقودك سوى لفكرة واحدة أن هذه العائلة مختلفة .....
قطع صوت وائل تفكيرها العميق و تحليلاتها النفسية عنهم ...يزمجر غاضبا ... ...من غير أن تستدير نحوه ...
-تطورت قدراتك الدفاعية كثيرا يا شهد ..إلى أن أصبحت لا تجدين من سوء أن تحرقي يدي ...
و أضاف بمكر خداع في عرضه ...
-أنت لا يخيفك إلا شد شعرك الأثيث ...تعالي لتجربي قدرة قبضة أخيك
سرعتها في وقوفها مبتعدة عن مرمى يديه لم تساعدها ......فشهقت بخوف حينما أمسك بطرف قبعتها بقسوة لينزعها عنها ..
لم تكن لهما الفرصة في أن ينازلا بعضها عن جهل كما سبق ...و أن يقاوما ذلك إغراء المتخفي في تلقائية التخاطر الصامت .....فقد دوى صوت ورد بينهما كالصاعقة التي تسكت جنون المطر على الطبيعة
-ما الذي يحدث هنا ؟؟....
....تبادلا أخيرا نظرات الإدراك القاسية في معرفتها ...حينما تقابلت الأجساد و الأرواح في ساحة الشرفة ..تشهد على عبثية شهقة الحب الأولى و الإنخطاف الروحي بينهما ...ريم بقامتها القصيرة أمام ضخامة جسد وائل ....تلقائيتها الفكرية أمام حذره الطاعن في صفته ...قد نافسته في كراميلية شعره و عيناه بسوادها الأنيق في حزنه ...
كم بدت له مختلفة الأنوثة عن حياء لون عيناها الأسود الغامض في قتامته ...حينما أسدلت جفونها نحو الأرضية ...في مستقطع استرجعت به أنفاسها ....
أما هي بدا لها بري في وسامته بسمرته الخفيفة..و لفحة التعب على وجهه ... متوهج العينين كما لو ارتحل عبر العوالم و خبر الأسفار ..بحضوره المربك ...و صمته الموجع أمام نظراتها ....حتى إن أمرها لم يصدمه ...راح يتفحصها عن بطئ و تروي كما لو يقيس قوة خصمه ...
انسحقت أنفاسه تحت السواد المظلم الذي غطاه قماش السميك للقبعة ...توقع أن تباغته النظرة العسلية المحرقة و البشرة الذهبية في شحوبها ...و القوية عن إدراك نحوه ....فترك لها ساحة القتال خاوية به ..و انصرف عبر الباب الزجاجي مسرعا ..تاركا لها نظرات ورد القاسية ..................
.................................................. ........
....
تولت ريم الدهشة و عيناها شائعتان نحو وائل حتى توارى ....قد لم يستأذنها في جبنه المغيظ حين تركها عزلاء إلا من كبرياءها ...و الذي عادة ما تستخدمه إلا بشح في اللحظة المناسبة لفقدانها طاقة التحمل ...وقت ما تحتاج لشراسة الغاب في الدفاع عن ما يلحق بها من إهانات عن استصغار الناس لها في ضعفها .....
رفعت نظرها ببطىء مموه إلى الواقفة عند الباب تكتف ذراعيها لصدرها في طريقة هجومية بإباء ...فبهتت و كاد الدم يجمد في عروقها ..أمام نظرات ورد الذي تلبسها الخذل كبرنس ثمين في نوعه ....و إن لم تبديه كله بل بعضه ..حفاظا على هيبته و رفقا بعواطفها الساذجة عن انعدام خبرة ...و ربما ترفعا عن الميل إلى فخ الظن و الشكوك...مما سبق تساؤلها الاستعداد العارم في طرح الحقيقة ...
هو كل عائلة الغالي ....أقوياء هكذا في نظراتهم المقاتلة ....نبيلين في مشاعرهم قبل الحكم ...متواطئين في عنفهم المستتر خلف الجمود ...
لقد أصبحت تشعر بالعراء في بعد أفاقها ..لمن الحق أن يكون القرويون أمثالها رجعيين بدرجة التخلف حتى لو تقدموا علما ...... فتفضيل هاشم في اهتمامه بدراستها ... على بنتيه التي واحدة منها لا زلت ترسب في سنتها الجامعية الأولى و الأخرى مستقبلها مجهول في الهندسة ....لم يكن سوى تشجيع عن شفقة ....
تراجعت خطوات قليلة نحو مساحة من مسافة الأمان ...توجس في نفسها خيفة ...حينما قطعت ورد حضرة ارتجال الكلام في قلبها ...بجلاء عيناها الذي نسف أي قدرة شجاعة فيها ..فأوقفتها على رؤوس أصابعها رهبة....متسمرة عن دهشة غباء اجتاحتها .. كما لو كانت علامات الاستفهام تشكل حلقة حول رأسها ..قد بدت ساذجة أمام عنفوان ورد ....
...
انتقلت ورد من وضعية الهجوم في صمتها و ترصدها للريم إلى الدفاع الذاتي ...تتراجع نحو مسند الباب لتتكئ عليها ..فراحت تختبر قدراتها الفكرية و النفسية على تحمل زيف التمثيل و العبث ...لكن قد وجدتها في وجهها صفحة غاية الشفافية ..تناوبت عليها مشاعر عديدة ...شحوب عن خوف و جهل ....احمرار عن خجل أنثوي و حياء ...
فراحت تقارنها بشهد ...هي ليست بارعة كما أختها في إعطاء محدثها مساحة تضليلية تجعلك تشك و تراجع قوانين الكونية ..التي فطرت عليها الطبيعة البشرية .... فشهد تبدو كقصة خارجة عن المنطق في أسرارها العميقة التي تخفي ....امرأة عنيفة حد البذخ و سريعة العطب في آن واحد ...جبارة في مشاعرها و انتقائية في مشاعر التي تحس ...لا تسمح لأي كان اختراق مساحة العسلية الداكنة من عيناها التي تقاتل باستماتة ...
أما ريم شخص بسيط ...لا يجد متعته في أن يملك أسرار تخصه ....كثير التردد و عديم البديهة في المنطق المخالف للطبيعة ...لا تجيد أن تنظر ما رواء العيون من عوالم ..بل أصلا لا تحبذ التحديق بها ....تكتفي بخلق مساحة بعدية في تواصلها مع الغير ..قنوعة بالقدر الذي تملك و إن كان قليلا ...و لا تملك أي رغبة للمجازفة ...متصلبة الرأي في تغيير نمطيتها و فكرها ..حتى لو كانت على معرفة بضعفه ....تعيش حياتها في مراقبة الغير عبر جدار لا مرئي ..كي تضمن فقط أنها لن تقع في نفس الخطأ أو الفخ ...هي كما الطفيليات في عالم النبات ...تقتات من تجارب الغير و خبراتهم ..رافضة أن تجد لنفسها العالم الذي تحب ... بعيدة عن المشاكل بحذرها المرهق للأعصاب ....حتما لن تجيد أن تكون ندا لوائل في ضلالته ....
ضاقت عيناها في تحليل نفسي بعدي ...ناسية مرور الوقت طويلا أمام ريم ..التي أصبحت تتململ في وقفتها بحذر شديد....خشية أن تقتحم قدسية مساحة التأمل التي أخضعتها عليها وردد ....التي عن دون رحمة راحت تسبر أغوارها و تخترقها بهدوء رصين و غموض مستكين ...و هي تعرف جيدا نتيجة ما خرجت به ...قد لن تعجبها الأمور لو سألتها ..ففضلت البقاء صامتة هروبا من الحقيقة ....لكن ورد بدورها قطعت عليها كل طرق النجاة حينما دوى صوتها كدوي قصف في صرامته ...
-أنت لم تتعرفي على وائل ..أليس صحيح ما أقوله ..؟؟؟...
فهزت رأسها بالإيجاب بطريقة مثيرة للشفقة و هي تزدري ريقها بصعوبة ...إذن ورد كعادتها تخرج من قوقعتها الصلبة لتصدم غيرها بما تملكه من معرفة فطرية ...تأخذ كل الوقت لتحلل ثم تنقض على فريستها دون هوادة .....لكن حاسة سادسة لريم قلما تشتغل بداخلها .عرفت أن ابنة عمها لن تخذلها فيما استنتجت حتى لو كان قاسيا ...
و استمعت لها ...
-و هو الذي يتوعد شهد من مدة طويلة على وشاية به لأبي ...من حماسته ظنك هي ...لديه رغبة حانقة في خنقها ....و أنت أوقعك القدر في يديه ...
و أضافت بمكر مثير
-أليس هذا ما تودين قوله ..؟؟
فعادت ريم تهز رأسها بإيجاب متحمس كادت أن تخلع به مفاصل رقبتها
....ابتسمت ورد بطريقة مستفزة ....و هي تطلق ذراعيها عن صدرها ...للتوجه نحوها إلى أن وصلت جنبها تتأملها طويلا ...
ثم واصلت بنبرة غريبة .....
لكني أحذرك قبلا ...إياك أن تنجرفي وراء سلطته و إغداقه الرجولي في منحك مشاعر ما خبرتها ...إنه سلطان في الحب ..يجرفك برغبته كطوفان هادر ..حينما يأتيك معلنا استعداده لفتوحات تغذي غروره ..لكن قد يقتلك قهرا حينما يمضي عنك قطيعة ...ليستل منك طعم الحب المرير في حلاوته ...هو رجل لا يعرف منتصف الأشياء باذخ في ألمه و كبريائه ......
ضابط في الجيش لكن خارجه لا يخضع لأي ضابط ..مثله مثل شهد في شخصيته ...أصلا لا يهمه منا سواها ..يمكنك أن تقولي أنها هوسه أو عقدته الأخوية ...تعد عامل مفجر لمشاعره الرجولية ..يتأثر بها كثيرا كمرجع يقيس بها مدى أخوته و قوامته عليها ...إياك أن يزل لسانك أمامه عن علاقة شهد بمروان ..كما هو يحبها حد الجنون قد يقتلها حد السادية ..به وحش كاسر لا يخرج إلا في حمايته لشهد .....حتى إنه يتوهم حبه لبنات يجد طيفها يعبرهن ...
إن كان وارئك لا تلتفتي ناحيته ..و إن أمامك اعبري مقصدك دون أن تتباطىء خطواتك ..
و خرجت من نفس الممر الذي عبره وائل من جديد ..تاركة لريم جحيم الأسئلة .....التي لا جواب لها إلا بالتجربة ......
********
الدقائق الطويلة التي قضتها ريم واقفة دون حراك ...قد استنزفت ما تبقى من صمودها ...فسقطت واهنة القوى جاثية بحراكها الفكري ...و لدهشتها قد أثقلها ...... فهي لم تعد تستطيع الوقوف صلبة أكثر في وجه أسرارهم المخيفة ...
ربما ما كان الأمر إلا صدمة بما قالته ورد في كلمات موجزة رددتها على مسامعها ببرود و بساطة ..ثم انصرفت كما دخلت على حين غرة ..لتتركها لجحيم الأسئلة ...
لم تجفلها حقيقة وائل و شهد في ابتعادهما المريب عن العائلة ... أو شعورهما الأخوي المعقد في تكوينه ...أو الماضي المخزي لكل واحد منهما....مصرين على حمل وزر الاغتراب العائلي كعقاب ذاتي قاسي في سجونه ...بل تلك البساطة و المرونة التي استشفتها من ورد في تقريرها كأنما الأمر لا يهمها طالما لم يمسها ....أو ربما ما كانت هويتهما إلا استحقاق قدر لا أكثر ..لا فائدة ترجى من جداله ..... لتتحدث عنه كما لو أنه نشرة جوية ......قد تجد نفسها تشعر بالغضب الدفين تحت أنقاض تفهمها الباهت الملامح لعلاقته الأسرية الناشز .....
إن صدق حقا ما قالته ورد في أخيها ....عن عنفوانه الباذخ و قدره المبعثر بين الوطن و الاغتراب ..لن يكون إلا شبيه بشهد ....شخص يملك قضية تخصه وحده في معناها ..قضية قد تسرقه من نفسه و تعجزه عن مشاعر الحب الحقيقة ...
في سبيلها ينجرفون نحو الخطر الفكري في تطرفه بدون رادع ...و دون استفادة من كل ما تعلماه بالقسوة من هذا العالم .....
فشهد بغض النظر عن اضطرابها النفسي و حاجتها الماسة لعلاج قويم ...أحيانا تبدو أقوى مما تكون عليه أي امرأة اغتصبت كرامتها قبل جسدها ....فالشرف تعقيد فكري ديني و إنساني وسط مجتمع منغلق حد الحصار ....هي تعيش صامدة بين الحروب الثقافية و العرفية في وسطه ....في قتالها بنظراتها الملهمة و العميقة حد البحار و المحيطات في أسرارها ...
عنيفة في مشاعرها ..و ضائعة في قرارت حياتها الحتمية ...تعيش منتصف الأشياء الزمانية و المكانية ..بين الماضي و المستقبل ..بين العتمة و الضوء ...بين الوسط و الزاوية ...مقيدة بأغلال الذاكرة و النسيان ...
فحتى وائل في وسامته البرية الملامح ...و عنف المستتر خلف العسلية التي تتشربه ...يبدو رجلا لم يجتز في أعماقه طفولته ...
*****
كبحت ريم سيل أفكارها الهادر تتنفس بعمق قوي ..و هي تقف لتصلح ما فسد من هيأتها البيتية و بقية الغبار العالق إثر سقوطها جالسة ..لاعنة أصابع وائل العابثة بمكر الرجولة ...على ما ألحقه بها من فوضى مشاعر و أحاسيس لذيذة في غرابتها و تناقضها ...بين الوجل و الغضب ....الدهشة و الترقب ...مزيج أجاده رجل خبر الكثير و كسب .....
فلا أكثر خطرا من الرجال العابثون بصمتهم ..الغامضون في مشاعرهم الضبابية ..الحاسمون في قبضتهم على الأشياء التي تقع فريسة غرورهم الكبريائي ...مهما اختلفت قيمتها...
ثم لم تلبث تصعد الدرجات نحو غرفتها تدخلها .....لتصعقها لأصوات الخافتة قادمة من ملحق الغرفة ..الذي تعتكف بها شهد في نزلاتها الجنونية ...كما من المفروض أن تسميه ..؟؟.....لم تتوقعه قد يأتي إلى هنا ؟؟......المغترب عاد و بقوة لديك حصون البيت العتيد ...و قد تجرأ على محراب شهد ....فراحت تتساءل عن ردة فعلها اتجاه تطاوله على مساحتها الخاصة ..
لكن تجاوزت دهشتها بتجلد باهر ..في بادرة إيجابية نحو المرونة و الانسيابية أمام تعقيد عائلة الغالي ...لتفاجئها فورا الرغبة العارمة دون صبرا في التلصص على ما داخل الملحق و إن كان من شق الباب الموارب ....بها من الفضول ما يدفعها من غير تفكير لتتعرف على طبيعة تعاملهم ..لم يحصلها شرف جمعتهم كلهم .....فراحت تنفذ ما حدثها قلبه ..و خلف الشق حبست أنفاسها ....
لم يقع الرعب عليها كما العادة ..و لم ترتعش أناملها أو تبدو الحيرة عليها في وجهها ببلاهة ..حينما رأت وائل بقميصه الداخلي الملطخ دماءا ...و هو ينظفها ببراعة عن جرح كتفه الأيسر ...بينما تقف ورد جنبه شاحبة الوجه زائغة العينين و يبدو عليها الغثيان من رائحة الدماء ....
كان يلهث بتعب و العرق قد بلل جسمه كاملا ...فتساءلت بجزع عن ماهية الرجل الذي حملها قبل قليل بأقل جهد عضلي ...و قد رماها على الأرض كما لو تكون قشة .....فقط كمناغشة على حرقها ليده متعمدة ...
و فور أن تذكرت الحرق ومضت عيناه بألم أنثوي مسالم ..حينما أسكبت القهوة الساخنة عن عمد متعمد ....و تشفيها المرح الخبيث في نواياه بما ألحقته به .... فهي لم تعتد في حياتها على تلك الحيوية بتصرفاتها ...لطالما كانت مسالمة الأنوثة ..ذات جسد بارد وملامح هادئة ...مرحها بسيط مجاور للحزن أكثر منه للفرح ....لكأنه وضع يده على جرحها ....فعرف ما تخفيه و تضمره من كبت رهيب بداخلها ....
راقبته مهتمة و هي تراه رجل مجروح لاهث بألم ..أمام ورد الجامدة كمزهرية زينة لا أكثر ...بينما لم يسلم من لسانها اللاذع و هي تشير بطرف عينيها نحوه ..
-لم يكن عليك حملها ..إن كان جرحك حديث التقطيب طازج بالدماء..تهريجك فاشل كالعادة ....
فأجابها بنزق
-قد ظننتها شهد ...ما بالك ترميني بسهام شكوك ...من رغم أنني أقسمت لك على جهلي بها ...
أصدرت صوت مكتوم دليلا على تصديقها الكاذب له ....نحوه تشير
-صدقتك يا ولد أمك...ثم لما تشعر بالغضب كله اتجاه شهد ...لم تكن لها يد ف بمعرفة والدي للأمر ..لا شيء يخبئ يا فاشل ..
فأفلت القطن من يده يرميه بإهمال على جوانب السرير ..ثم أضاف بفتور ...
-كأنني ارتكبت جرم عظيم في حق كبرياء هاشم الغالي ...ما الذي فعلته بحق الله ..
استهجنت ملامح ورد و هي تحدق تقذف به الحمم من لسانها السليط ..
-طوال فترة غيابك الذي قاربت السنة ..كنت تأتي باستمرار أيها السافل إلى الوطن ..في فترات متقاربة لا تتجاوز الخمس عشر يوم ..و لم تخبر أي أحد فينا حتى يطمئن عليك .ناسيا أن لك عائلة تستحق منك اهتمامك الشحيح ...ثم أين أقمت إذا لم تزرنا منذ سنة ..أم أنك كعادتك لا تطيق صبرا على مجونك النسائي ...لقد أصبحت غربي مقرف....
حملق فيها بغيظ يكبح رغبته العارمة في صفعها ...ثم أردف على كلامها ..
-ربما لم تسألني أنت أولا ...عن سبب جرحي ..حينها فقط سأفكر كم أنا رجل نذل يترك عائلته معلق دون ّأن أسألهم ..ما يقرب السنة ...
-ثم تعرفين أنني لا أجبر أي فتاة على ما لا تريده ..أنت لا زلت صغيرة على مناقشتي في أمور كهذه ....انقلعي عني و إلا وشمت وجهك بصفعة ...
فرمت ورد علبة الإسعاف على الأرضية بقهر و صرخت فيه ..
-أتعلم أنت و شهد على حد سواء تحتاجان إلى إعادة تأهيل نفسي ...لقد دب الجنون بكما ...
سكن وائل أمام السيل الهادر من شظاياها الرصاصية ....و هي تهتف به بغل و حقد ....
-كفاكم عبثا و جنونا في بيتنا ...لا تدخلونه إلا وقت ما تشاءون و تخرج في اللحظة التي ترغبون بها في الاختفاء ....كل واحد منكم يعبر عن نقصه و ضعفه النفسي بتصرفاته القذرة و القاسية .....أنتما لم تكونا على قوامة منذ طفولتكما ... فأي لعنة حلت علينا بكم يا وائل ...
-أنتما شاهقين كسؤال لا يطاله جوابه ...تحرركما خارج عن إرادتنا ...منفصلين ي عالم خاص ....تصران على حمل ذلك القدر الكبير من الكراهية الغامضة نحو المجهول ...لا سبب منطقيا قد أجده في وصف فتى تغرب عن أهله سنوات عديدة من القطيعة ....و أخت لم يحصل لي شرف أن أراها على طبيعتها إلا مرات نادرة ...لم تغفر لوالدي تركها للأغراب كما تقول ..حتى بعودتها إلا هنا لا أجدها سوى ساقطة من شدة تعبها في نوم عميق ....
و أطلقت دموعها الغزيرة على نحو مخيف ....يشق نهرين على وجنتيها المتوهجتين ...لتسمك يداها ساعده تشده نحوها و هي تهمس بصوت لم تسمعه ريم ......
هل تكره والدي أنت آخر كما تفعل هي ....؟؟لدرجة أن تعذبه بجفائك و أنت ابنه بكر .. لقد أصبحت مجرد عابر سرير ...تمر نادرا علينا ..و لا تعود إلا بعد سنين ربما ...
توقفت أنفاسه قليلا و هو يغطس بوجهه نحو الأرض بخزي يضم رأسه نحو صدره بمهل حاني ...إلى أن همس لها
-لا تقولي كلام علي كهذا .. أنتم بقلبي دائما أينما كنت ..فقط وجعي أكبر مما أتحمله....أنا سأستقر من الآن فصاعدا هنا ....
و ما إن تحرك صوب الباب بخفوت حتى جمدت نظراته كما جسده على تلك العيون السوداء العاصفة قلقا ....بلونها الغائر و هي تطالعه خوفا ....
كم بدا له الوقت طويل و غير منطقي في وقوفه عاجز عن الإتيان بحركة ..مقيد من ظهره بجسد ورد الباكية و من الأمام بسواد عاتب ..به مزيج من الحزن و الذهول و الذعر و الغثيان ....مواجها رهطا من المشاعر ...فأحس فجأة بالمكان من حوله عاري الجدران بائس على نحو مثير للشفقة .......
*****
وقف مستندا بجسده على إطار الباب ..ليراقب تفاصيل ملامحها المسترخية تعبا ....قد كانت هيأتها النائمة مشابهة في صورة تلك الطفلة الخائفة و المرتجفة .....و هي لم تطأ عتبة باب نسيانه ..
هي ظلت عالقة في جلوسها الباكي جنب جدار في ذاكرته ....فلكم تعذبه مرآها غافية بألمها المستكين في تنفسها المتحشرج ....و جبينها التي تناثرت عليه حبات عرق ...
راح يتأملها متشنج الوجه و معذب القلب ....يتلهمها بنهم أخوي حميائي ....لم تتغير كثيرا عما كانت عليه .... يتساءل كثيرا كلما مثل أمامها .... بصوت داخلي قاسي النبرة...و عنيف المشاعر ... (إلى متى ستكبرين و تتخلصين من طفولتك المسلوبة ....قد لا زالت تعذب أخاك المسكين ...ارحميني برحمة الله يا شهد ...من أشباح الماضي هربا .....كفى بالله عليكي أن تبقي تلك الصغيرة التائهة و الغافلة ....)....
لكن صوت أنينها الخافت اخترق ذبذبات الهواء نحوه ....فأجفله عن شروده وهي تدمدم بكلمات غير مفهومة كما لو أنها مقيدة اللسان .. أمام منظرها وقع الرعب في قلبه متسائلا بجزع عن ماهية الأحلام التي تنغص عليها نومها ..فرجولته المجروحة لا زالت تصرخ غضبا و قهرا لها ...
بحق الله لقد اغتصبوا أخته ...و هو لم تكن له قوة إلا على البقاء ضعيف أمام تجبر القدر ..و ذليل أمام شرفه الذي طعن ...عاجزا لصراخ أخته الطفلة ......
قد لا زالت تصله تلك الأصوات الباكية منها حتى في غربته البعيدة ...صرخاتها المترجية ..و جزعها من أمر لم تكن لها دراية عنه ....عنفوانها المقتول غدرا الذي يتراءى له في بريق عيناها العسليتين ...طفولتها المسلوبة قهرا ..و عاطفتها الأنثوية المطعونة بحقد رجل لم يعرف للإنسانية طريق ...قد وئد عذريتها وردة قبل أن تزهر ...السافل الذي تجرأ على تلويث عرضه و اسمه ....
مروان قد وشمه بعار أبدي ..لن تتخطاها رجولته قبل أن يأتيه كما فعل ....و كز على أسنانه غيضا ممسكا بكتفه المصاب حقدا......
فعلى ضوء الأباجورة الشاحب ..أغلق الباب بهدوء يتقدم نحوها بتكاسل متثاقل الخطوات ....حتى أشرف عليها من علو ليراها بصورة واضحة ...شاحبة الوجه ..بشعرها المتناثر على وسادة قد بللها العرق من جبينها و رقبتها ....تنقبض جفونها كما لو كان بها ألم .....
أغمض عيناه حينما وصله الصوت من أعماقه المدفونة ....
-وائل أنا خائفة من هذا المكان المظلم ..ضمني لك أخي ..أنا لا أحب الظلام ....
فهمس و هو يقترب منها على نحو بطيء ترفع كفه يدها الموشومة بحرق قديم على معصمها ...قد غطاه بسوار من حلي الذهب نقش عليه اسمها ...
-...آه من وجعك يا أخت وائل ....
و جلس على حافة السرير متوجسا من استيقاظها....فقد تظنه شخصا آخر ..لن يحتمل في وقت هكذا صراخ آخر منها ...و جرح كتفه ينبض لوجع لا يطاق ...من أعماقه المظلمة ...فولا مقاومة الإبر المضاد لما تحمل أن يبقى واقفا بصمود حتى هذه اللحظة ....
لكن استشعارها كان أكثر حساسية لما فتحت عيناها تشهق بخوف هستيري نحوه ...تمسك قبضتها كتفه المصاب بملامح مرتعبة ..فلم يفكر كثيرا ليضمها إليه أخرساً عن الكلام إلا همسه المتألم كما لو يخرج من روحه مثقلا بنبرة الترجي الآسر في حزنه ...
-حبا بالله توقفي يا شهد ...أنا أخوك صغيرتي ..لن يسمك سوء ...
فأصدرت صوت كعواء حيوان جريح ..و عيناها ضائعتان بين ملامح لم يتعرفها عقلها الواعي ...لتضربه الحقيقة التي رمتها نحوه بها ورد ...عن ضرورة علاج شهد النفسي قبل أن يتأخر الأوان ...و هو غير مستوعب لإمكانية معرفتها بأمر قد دفن من بعيد الزمن بين صفحات النسيان ...فراح يمسك وجهها المصبب عرقا و هو يهمس ضاغطا على شفتيه ..
-أنا وائل ..انظري إلي فقط و تعرفيني ..هيا شهد ليس صعبا عليكي معرفتي ..أنت أختي .....
و راحت تهمهم بصوت غريب عليه ..بينما لا تزال أصابعها تنغرس بكتفه الذي عاد ينزف من جديد تحت وطأة أظافرها الطويلة التي اخترقت قماش قميصه الرقيق ...إلى أن استكانت بين أحضانه الهادرة بعنف و غضب ...لتظل نائمة بين ذراعيه ...حتى اخترق صوت الأذان الصمت المهيب للغرفة الشاحبة ..كما لو كان نداء ربه بأن الحق لا يهدر ....
******
تململت شهد في فراشها يمنيا و يسارا ... و صوت هاتفها لا ينفك عن الرنين إزعاجا .. قد لم تفتح عيناها مخافة ضياع النعاس منها....فلا مهام قتالية تنتظرها .....
وهي على علم بأنه لن تكفيها المشاغل التي تصر على خلقها ... وجودها العقلي و النفسي خارج أبعاد الزمن الحقيقي....مقيدة بين الخطوط الوهمية للماضي ..
حينما ينسج علينا الماضي القاسي بذكرياته ... غلالة من الوهم الروحي بآلامه و مخيباته .. ..يكون الألم أقسى من قدرتنا على النسيان ....
... قطع رنين الهاتف محاولتها الغرق في النوم من جديد... فاستدارت نحو حافة سرير تمد يدها لطاولة الزينة جانبها الأيمن لترفع الخط و تصرخ عاليا بصوت مبحوح إثر نومها العميق.....
-أي لعين أنت ... ألا تعرفون النوم ... ماذا تريد
أجابها صوت ليديا الحانق و هي تدمدم بأشياء لم تستوعب شهد معناها فهي كانت شبه نائمة
-البشر المهذبون العاديون يقولون صباح الخير .... لا يصبون لعناتهم على أول من يصادف خلقتهم
جلست بإعياء في سريرها تلهث تعبا من صراخها .... فتأففت بصوت مسموع وصل مسامع ليديا و ردت عليها تسخر منها.....
-هؤلاء البشر العاديون الذين تتحدثين عنه لا يزعجون غيرهم باتصالاتهم الغير المرغوبة فيها تماما.. على السادسة صباحا ....ثم ما تريدين مني.... ألم أفهمك البارحة أنني لم أعد أريد أن أرى خلقتك إلا على بعد كيلومترات عديدة بحيث لا أتمكن من تذكرك حتى .. لما لا تتركني و شأني مشكورة ....
شهقت ليديا بقوة من وقاحتها و تنفست عاليا ثم قالت باقتضاب سريع..... تتمنى لو تتخلص منها بأسرع طريقة ممكنة .....من الجيد أن سيد عمر لم يتكلف بالإشراف على تدريبها .. لو فعل لما خرجا الاثنان بدون أن يقتل أحدهما الآخر هو ببروده و هدوء أعصابه و ثقته الشديدة بنفسه و فخره وهي بناريتها و سلاطة لسانها و تبجحها المثير للحنق ..
شهد لم تعد تُحتمل البتة بتصرفاتها الفظة و عنجهيتها .. سكنت للحظات و أجابت باحترافية عملية اكتسبتها على مدى سنوات طويلة من مزاولاتها العمل في شركات الصاويَ..... منذ ما يقرب العشر سنين .....
فقد دخلتها عن اضطرار رغم أنها لم تفكر في استخدام شهاداتها العليا في إدارة الأعمال .... و لربما منصب السكرتيرة غير مناسب تماما.... لكن كونها شركة من أكثر البنى التحتية التي يعتمد عليها قطاع اقتصاد البلد ..
كما أن سيد عمر يمنحها الكثير من الامتيازات في العمل تتمكن من خلالها تطوير قدراتها و عرض أفكارها في سوق العمل و الدعاية

-لم أتصل حتما لأنني مشتاقة لوجهك العابس و كلماتك المسمومة ... ولسانك كالمنشار .. ما أنا إلا عبد مأمور ..لقد طلب مني سيد عمر خطاب الصاويَ الاتصال بك و إعلامك بقبولك في الدورة التكوينية ..أرجو أن تلتحقي اليوم على ساعة الثامنة تماما بمكتب رقم 300 الدور الخامس ....مع السلامة ...
و قطعت الاتصال في وجه شهد دون توديعها ....بينما بقت الأخيرة شبه متجمدة أمام الهاتف المواجه لها ..لكنها هزت كتفها ببساطة و لسان حالها يقول .. حسنا هي من تواقحت عليها تستحق منها هذا.. فهي عاملتها المثل البارحة .....
فعادت لنومها تغمض عيناها تبحث فيه عن سبيل لنعاس...... و هي تفكر في اتصال ليديا ..( لما عساها تتصل تلك المرأة المجنونة ؟؟)..

ثم لم تلبث تقفز على سريرها العريض واقفة بصراخ الفرحة..... بخبر ليديا لها....الذي استوعبته أخيرا .... فلطالما تمنت فرصة عمل بشركات الصاويَ ...
شركة تدر فرص ناجحة جدا لأصحاب الشهادات العالية و القدرات العالية في برمجيات الحواسيب المتطورة.... كما أنها لا تقل شئنا عنهم حتما ..فلطالما كان النجاح من مبادئها الصلبة التي لا تتغير....

أحد أهم أسباب إيذاء المستمر لمروان لها... نجاحها الباهر دون جهد منها و عبقريتها الفذة على عكسه ..علميا كان جد متواضع بلغ طريقه بشق الأنفس رغم ثراء عائلته ... وهو الذي قضى حياته يحصل على شهاداته المتواضعة بصعوبة بالغة ... فقد استغرق سبع سنوات ليتخرج من الجامعة بشهادة محاسب دون أن يستعملها .. فقط كان ناجح في فلسفته الغريبة و جنون أفكاره ........
تطلعت لصورتها تنفض شعرها البني اللون و متماوج بلفات كبيرة مختالة بصورتها في المرآة ..... ثم فكرت صارخة ( يجب أن أستحم..... و ألبس أجمل ملابسي... سأبدو كسيدة أعمال مجتمع راقي ...ألست أنا شهد الغالي و الغالي عائلة القرن العشرين ...) وصلت لباب الحمام فوجدته مغلق في وجهها كما العادة أن تبقيها وراءه انتظارا لورد ..فطرقت الباب و صاحت
-ورد أخرجي لدي موعد مهم و أنا أريد الاستحمام ...بسرعة قبل أن أرميك خارج الحمام ..
لكن ردت عليها ريم مرتبكة بصوت مخنوق تحت سيل مياه الباردة التي كانت تبرد حرارة جسمها المرتفعة و تهدأ روحها الثائرة التي ما انفكت ترتعش منذ وقعت عيناه صباح اليوم على الغريب .....
-إنها أنا ريم ... ورد لم تبت البارحة هنا امنحني عشر دقائق ...
-أسرعي ...خمس دقائق فقط و اج.....
لكن شهد قطعت كلامها ...بصياح صارخ أفزع ريم حتى اقشعر بدنها من الرهبة .... و هي التي هربت من وجوده صباح الفجر من الغرفة..... منظره و هو يحضن أخته الباكية أشعل بها جمر من المشاعر ..ما عرفت لها ذاك الإحساس الخانق في جوفها .. ...
شعورها بالغيرة الحاقدة تحرق أحشائها ....و بأنها أقل شأنا و حضا من شهد في كل ما لم تحصل عليه من تفهم أخوي..... و إغداق رجولي ارتعبت دواخلها رؤيته في وائل من رغم غربته عن أهله ....لم يزدها فوق نقصها ..إلا فجوة عميقة تتسع بداخلها ..و قد كانت ضريبة انتقالها من عالم إلى آخر مخالف لما تربت عليه و شبت به ...
قد لم تنم قط في حضن أحد من إخوتها في حياتها بالمرة..... فكيف لها أن تتقبل من يعامل أخته بتلك السماحة و يضهما في نومه بجانبه دون حرج أو اعتبار هذا إهانة لرجولته.... لو رأى هذا والدها لأرجعها للبيت دون عودة لهنا و سخر من وائل ناعته بالخانع لأخته ..... من الجيد أنها استيقظت من الفجر فهي لم تستطع النوم بجانبها البارحة دون أن تجد نفسها تتطلع بملامحها و تقارنها بوجه..... لكانت فقدت البقية المتبقية من عقلها........................................ .....

وجدت شهد نفسها معلقة بين السماء و الأرض مقلوبة رأسا على عقب وهي تتأرجح كقشة في مهب الريح .. رفعت أناملها تثبتها على فخدها .. و تطلعت بالجسد الرجولي القوي مقلوب لها بحنق .... لتعرف على الفور هويته المحببة إلى قلبها ..في غربيته البحتة و ضخامة جسده المريبة على وقعها في النفوس ....... إنه وائل الأحمق ...و في الواقع إنه أكثر الرجال حمقا في حزنه و جموده .....
راحت تتساءل بأمل عن اليوم الموعود الذي يعلن فيه اعتزاله الحمق الرجولي الساخر في مرارته و العقيم في نجاحه ..لكنها قطبت حاجبها بغضب حينما إتكىء بكتفه على بطنها و هي ملصقة على الحائط كالبهائم
قد أصبحت امرأة بالغة في العشرين من عمرها ومن العيب أن يحملها بتلك الطريقة ...لو رأتها ريم لأصابت بصدمة ثلاثية الأبعاد (نفسية و تربوية و عقلية ) هذا بغض النظر عن الردود و الكدمات الفكرية ...قد يضرب تصلبها في المقتل
....صرخت بأخيها حانقة
-كفى عبثا يا وائل ..أنا ليس لي ذنب فيما عرفه والدي ...
جواب وائل كان أنه قد ضحك عاليا باستفزاز و عنجهية ... و هو يسندها مقلوبة على الجدار بكتفه القوية التي غرسها في بطنها و خصرها مما عصرها تماما......حتما هو العقاب الذي يليق بها .....
أخفض بصره نحو وجهها المختنق و المحمر غضبا .... يضع يداه في جيوبه و يغني بصوت أبعد ما يكون عن الغناء منه النعيق ...فتأرجحت رجلاها على رأسه تضربه حتى تتحرر ....لكنه رد ساخرا منها و هو يضغط بكتفه عليها بقوة و يسحب شعرها من تحت يده الممسكة برأسها حتى لا يرتطم بالأرضية الصلبة القاسية
-حقا ..قد أصدقك فقط يا كاذبة ..لو تمنحني فكرة بسيطة عن الطريقة التي كشف فيها والدي أمري ... ثم أرفعي رجلاك ثقيلتان عن رأسي .. . إلا رميتك على رأسك .....
تكلمت بصعوبة بالغة بسبب هبوط الدم معكوس المجرى لوجودها مقلوبة
-أعفيني من هذا ..قلت أنني ليس لي يد في ذلك ....اسأل نفسك أنت كيف عرف لهوك و عبثك..لا تنسى أنه والدك ...ثم أخرج من غرفتي ريم قد تخرج في الحمام ..و لا أظنك قد تملك فكرة عن صدمتها إذا ما رأتك هنا ....
تصلبت جميع عضلات وائل و توقف نفسه يتخيل تلك الفتاة موجودة خلف باب ....تخرج له لتضربه بسهام النظرة السوداء المظللة بكثير من الألم الفطري ...و الدهشة العذرية في براءتها ... هو رجل قد حرص على انتقاء صحبته النسوية مطابقة تماما للسواد العميق بذاته ....لن يكون سهلا عليه أن يرى طهراً روحيا كمثل كيانها يمر دون أن يضع عليه ... توتر كتفه المسند لجسد شهد و اهتز بشدة حينما وصل لآخر أفكاره ..... فشعرت شهد بجفاف حلقه و هو يزدري ريقه بصعوبة ...
راقبته ساهما ناحية الباب المقابل له بفضول يشتعل بداخل رأسها ...إلى أن أقسمت بحدوث شيء بين و بين ريم ..جعله على هذا النحو من التردد الخائف بملامحه ... ... يبدو شاردا بأفكاره الصاخبة ..متخليا عن عباءة الرجل المتحكم بكل شيء حوله ......فسكنت تماما تحت وطأة جزعها من فكرة انجذابه نحو ريم ......
الى أن ابتعد بسرعة نحو الباب يغلقه بعنف تاركا أخته تنزلق على رأسها من أعلى الجدار نحو الأرض الصلبة بقوة .. مما أوجع رقبتها و كتفها الذي كاد أن يكسره ... .... ..
أطلقت شتيمة لاذعة و تقلبت على جسدها تشعر بالدوار يلفها ...تشتمه ( عديم الدم تركني أهوي دون أن يشعر بي ... نسي فور سماعه لوجود ريم ...أن هناك كائن بشري معلق بين يديه... ماذا أتوقع من ضابط في القوات الخاصة ..لربما ظن أنها لن تسقط مستخدمة قواها و ليونة جسدها .....عديم الرحمة و الحس ذاك)
فتحت ريم الباب داعية الله خروج ذلك الغريب.... لتصدم بوجود شهد مرمية على الأرضية ساكنة بدون حراك... فهرعت نحوها و الدم ينسحب من أطرافها تصرخ و تضرب صدرها شاهقة بعنف .....
-شهد أنت بخير؟؟ ..... حبيبتي ردي علي....
لكن ما ألجمها ...ضحك شهد الهستيري بصوت عالي و هي تتقلب على ظهرها ....لتظهر لها ملامح ريم القلقة و الشاحبة كجثة هامدة .. حاولت التوقف عن الضحك دون جدوى .. كيف لا وهي تتخيل وجه ريم حينما تفتح الباب على منظرهم المخزي هي و وائل المجنون و حركاته السخيفة ... توقفت نسبيا لتردف بصوت مختنق و عيناها تلمع بفرحة نادرة طرقت أبوابها ..
-بخير الحمد لله وصلت آمنة و الفضل لله ... لا تقلقي فقط قمت برحلة فضائية سريعة و عدت سالمة غانمة ...صحيح اليوم يجب أن أكون في قمة الجمال ابتعدي عني......
دفعتها تجري نحو الحمام و تغلقه بعنف ارتجت له العطور المكدسة على طاولة الزينة تاركة ريم تحدق في إثرها مصدومة .. تسمع صوت صراخها و حنقها ...لتشتم بأقذع الألفاظ ...و تجدها تضحك .. هل تأثير ذلك الغريب على البشر .....زفرت وهي تجلس على الأرضية الباردة تتنفس بغضب مكبوت من سحره عليها الغير مرغوب فيه أبدا ......
.................................................. .....................
.................................................. .........................
تأملت ريم شهد بانبهار في تنقلها برشاقة و خفة بين دولابها و طاولة الزينة ..تضع بعض اللمسات الأخيرة على وجهها .... و تنثر عطر خفيف على معصميها و رقبتها ..
كانت تبدو جميلة شهية للنظر بتنورتها السوداء الضيقة... في قصتها الجملية و قد انسدلت من تحت صدرها حتى كوعيها بشق خلفي صغير أظهر جمال ساقيها المغطاتين بجوارب شفافة جميلة .. و قميصها الحريري عسلي اللون..... انعكس بريقه على عيناها التي شعت فرحة اليوم بوميض مشتعل ....و تورد وجنتها الناعمة قمحية اللون ... الزينة التي وضعتها لم تؤثر أبدا في كلاسيكية تقاطيع وجهها و نبله ...
بينما كان الإكسسوار الوحيد الذي ارتدته.... سوار رقيق بسيط التصميم ..خط عليه اسمها بالفرنسية العريقة.... أحاط معصمها مع ساعة سوداء صغيرة عملية ...و حجاب بلون أبيض أظهر جمالية حواجبها المرسومة بدقة و جغرافية شفاهها الصغيرة الممتلئة... الواضحة الإغراء في أنوثتها .. لونتها بلون ترابي داكن .....
أدهشها أن تجعل من نفسها تبدو جميلة بطريقة غير مبتذلة ...دون تكلف أو زيف .... بدقة عالية الابتكار في استخدام زينتها البسيطة .. مظهرة الاختلاف الذي تتميز به عن باقي بنات جنسها ...
راقبتها تتجه نحو معطفها الأبيض القصير تلبسه على عجل .... و هي تضع هاتفها المتطور به ...ثم التفتت نحو حقيبتها السوداء الكبيرة و حملتها خارجة من الغرفة تخاطبها بثقة ....
-إياك أن تخبري فيحاء عن ماهية عملي ...أخبريها أنني في الجامعة ....
توقفت للحظة و استدارت مهددة ترفع أصبعها و هي تتوعدها
-ثم إياك إخبارها أنني أخذت مفاتيح سيارتها ...لدي عمل مهم بها ..كوني عاقلة و اذهبي لجامعتك دون إثارة مشاكل ...لا تفتحي الباب لوائل اطرديه فورا.....
و خرجت مسرعة تصفق الباب في وجهها دون أن ترى تصلب جسد ريم و تيبس أطرافها السفلية ..هكذا هي شهد في عادتها ... تسمم البدن و تفقد العقل و المنطق.... لربما عرفت ما جرى لها مع أخيها ... نبيهة للغاية تلتقطها في السماء ..لن تغفل عن الارتباك البادي على كليهما ....كما أنها تتمتع بالذكاء العاطفي و الإحساس العالي .. (فقط لو أنني أمتلك ربع ما تملكيه شهد )..فكرت ريم يائسة .............
.................................................. ..............................
.................................................. ...........................
أوصلت ليديا ابنها أيهم لباب الإعدادية تودعه راجية المولى أن لا يعود لها اليوم كذلك بملاحظة جانبية و تقرير من إحدى مدرساته .. إنه يزداد شغبا و عبثا هنا و هناك رغم أن نتائجه الدراسية تحسنت كليا و ارتفع لصف الناجحين في مدة قصيرة.....منذ التحاقه بدروس شهد الخصوصية
لكن على ما يبدو هي من زرعت فيه تلك الشيطنة بعد أن كان شخص هادئ للغاية و منطوي على نفسه كليا .. لقد كان يرسب باستمرار ولا يستطيع تركيز على حرف مما يتعلمه ... وحدها من فكت شفرته ...غادرت مدخل البوابة مستعجلة لتوقف تاكسي قبل أن يبدأ زحام المدينة فتتأخر عن حضور افتتاح الدورة التكوينية ... الذي سيحضره جميع العاملين بالشركة بالمكتب الكبير على شرف عمر خطاب صاويَ....
و تستغرب منه هذا بشدة ...فمنذ زمن بعيد لم يعلن عن رغبته في اجتماع جميع موظفيه و يلقي عليهم خطاب طويل.... نسخته البارحة و تكفلت بتعديله و تنسيقه يبدو أنه يخطط لأمر ما .. ...
تنبهت ليديا لبوق سيارة مزعج فرفعت رأسها لتلحظ سيارة مجنونة تتجه نحوها بسرعة كبيرة ... تيبست جميع أطرفها و انسحبت الدماء من عروقها فخلفتها شاحبة حتى الموت ..و همست بجزع (هذا السائق مخبول سيقتلني ...)
فكرت وهي ترفع يداها تغطي بها عيناها عن رؤية نهايتها على يد الجالس خلف كرسي القيادة ....أنه قد قطع الرصيف اتجاهها دون اعتبار لقوانين المرور ...لو أنجاها الله ستحرص على دخوله مدرسة المتخلفين لسواقة ....
حاولت أن تتجلد الصبر و تقفز بعيدا عن مرمى هدف السائق الجنوني .... لكنها فشلت و قد صرخت عاليا وهي تبكي مرتجفة بقوة ..... كم انتظرت بعدها ..للحظات طويلة .... لحظة ..لحظتين و هي تتخيل نفسها تطير على جانب الطريق مرمية مضجرة بالدماء النازفة... لينتهي بها الحال ميتة و يُتيمَ ابنها الوحيد أيهم .. من سيربي طفلها المشاغب هو لم يتجاوز الرابعة عشر و سيصبح بلا أمم .. رباه ..
فتحت عيناها بعد سمعت همهمات الناس الساخطة... لتجد مقدمة السيارة تتوقف على بعد إنش منها ... لقد كادت تصيبها في المقتل ..تنفست شاكرة لله و هي تقع على مؤخرتها بإهمال ...مما تسبب في اتساخ ثيابها الغالية الثمن التي حرصت على ارتدائها في المناسبات الخاصة لشركة

و من بين غمامة تفكيرها ... وجدت فتاة يافعة لم تتبين هويتها تخرج من باب السيارة تصفقه بقوة و هي تضحك عاليا بسماجة ... لم تصدق عيناها الباكيتين بأسى هيئة شهد الغالي الأنيقة ...تقف مستندة على باب السيارة بثقة و غرور كبير ...فكلمتها ساخرة ...
-هل تحتاج ..سيدة ليديا توصيلة سريعة تليق بمقامها .... إلى شركة الصاوي َ العتيدة ...؟؟؟
لم تصدق بساطة حديثها الساخر و ضحكها السمج بعدما كادت تتسبب لها في سكتة قلبية من فرط خوفها .....أخذت تتنفس بعمق و الدموع تشغي عينيها .. ....إلى أن تمالكت نفسها و صرخت ببكاء عنيف.....
-أي لعنة حلت علي صباح اليوم .....أنت شهد الغالي لن ترتاحي حتى تأتي بآخرتي ...ارحميني لي طفل في ثالثة عشر .. و زوج مريض بالسكري .....لدي عائلة يا عديمة الإحساس .....
ضحكت شهد مجددا و هي تهز كتفيها بعدم مبالاة .... لتقترب منها تساعدها على النهوض و ترفع حقيبتها التي وقعت غير قادرة على السيطرة على نفسها ....و غير آبهة لشتائم الناس المسلطة عليها ..كيف لها وهي أرعبت امرأة قديرة دون اعتبار لفرق السن بينهما .......
أدخلتها إلى السيارة و أغلقت بابها تتجه ناحية بابها ودخلت تغني فرحة ... فرمقتها ليديا بنظرة حانقة نارية و أبعدت وجهها ناحية زجاج تطالع البنيات و الأشجار المصطفة على طول الطريق من الجانبين حتى قطع صوت شهد مبحوح الخافت صمتها و أخرجها من دائرة تفكيرها حول فضائية الفتاة الجالسة بجانبها ...
-كيف كانت مفاجأتي لكي ..؟؟ جميلة و رائعة و خلابة مثلي تماما .. أي شخص رائع أكونه أنا ....
قطبت ليديا مستغربة من مدى انشراح شهد و فرحها و مرحها الغريبين عن أطوراها ... الفترة القصيرة التي عرفت فيها إياها لم تكن سوى عابسة و نارية و متأففة و ضجرة حتى من نسمة الهواء المارة ..
كانت تنفجر فيها دون أي مراعاة لفرق السن و المكانة و الأهمية الاجتماعية.... في كونها أم و ربة منزل و صاحبة واجبات كبيرة و مسؤوليات مهمة ....عكس شهد الطالبة الجامعية صغيرة السن و متحررة من جميع القيود ...حتى إنها مستقلة من الناحية مالية ...على حسب ما تعرف هي لا تأخذ قرش واحد من والدها ........
البريق الخافت في عينها و الألق السعيد لم تتوقع أن يضفي هذا الجمال عليها ..تبدو متوردة و جميلة جدا بطريقة خلاقة ...و كأنها قد تخلصت من قيود حملها الثقيل ....فتبدو كشخص حقق حريته في أن يكون مختلف ....هذه المرة لا سمات القلق و الحزن المتخفي خلف ناريتها ...لا تبدو و كأنها خارجة للتو من عالم الذهول و الفجيعة ....
ابتسمت ليديا بحنو و سعادة تجتاح كيانها... و هي تربت بكفها على يدها الممسكة بالمقود.... شاكرة لله على اللحظة المبجلة التي تشرفت برؤيتها ....لشهد وهي تشع مرحا و حيوية....متخيلة عن نظام الصارم في الغضب ...
-مغرورة حتى النخاع أنتي ... مفاجأة سعيدة منك..أنا في الواقع أكثر فرحا لقبولك في الدورة التدريبية ....لهذا سندع الحساب على ما فعلته بي لاحقا .....
أصدرت شهد حمحمة رجولية ... تدل على فخرها بنفسها و ركزت على القيادة صامتة ....فتلاعبت ليديا بحقيبتها لتخرج أدوات ماكياج و تشاغلت بإصلاح زينة وجهها بعدما تلطخ بالغبار و الوسخ جراء ..مفاجأة شهد على حسب قولها إن لم تخنها حاسة سمعها ...
قطبت متسائلة وهي تبحث عن قلم كحل ..تهمس بصوت داخلي (..غريب وضعته هنا صباحا لربما وقع مني أثناء سقوط حقيبتي...)
-شهد أجدك عندك كحل ..؟؟
التفت شهد نحوها لتحدق به بعيناها الواسعتين المكحلتين .... فبهرت ليديا و قالت تضع يدها على صدرها....
-عيناك آية في الجمال ..أنا لم أرك قط وضعت عليهما كحل ...مشاء الله ....
مما جعل الأخيرة ..تلتفت نحو الطريق مصدومة من إطرائها.. هي لم تتجرأ قط على تحديد عيناه بالكحل منذ سنوات ثلاث مضت ...و فرحة اليوم أنستها خوفها من سيرة الكحل ...
ضاقت بعيناها و غابت بذكراها للبعيد ... يوم أصرت على نفسها أن تبدو جميلة ناضجة في نظر مروان ..حتى توقف به السخرية البادرة التي كانت تخشاها كصقيع يتلف أطرافها ..ربما ما كان يتلف منها إلا الأنوثة الوليدة بها .....
فقررت أن تفاجئه بما لم يشغل نفسه في اكتشافه..أو تقصد أن يتخطاه عن عمد .. ..عدا تلك النظرات الكسولة التي كان يلقيها نحوها بإهمال مبعثر ....و كأنما لم يهمه منها إلا القضية التي تكفل بحملها ....و شحذها بما يتطلبها من همم ....قضية أن تكون عصية لوالدها ....
صباحا وقبل ذهابها لجامعتها بتذمر كعادتها في رفضها لأمر هاشم الذي لم تكن فيه لها قرار ...قررت أن تشغل مللها الدراسي بإحداث تغيير على مظهرها الخارجي ...في وقت بلغ تعلقها بمروان أوجه ....و هي مولعة بالطريقة التي كان يغذي بها تمردها و ثورتها ضد والدها ....بما كانت تحتاج إليه من خطابات مؤثرة غاية التعقيد في فلسفتها ....
...لم تجد من الزينة أكثر جمالا من كحل ثقيل ..اشترته في غمرة وحدة خانقة ... فوضعت كحلا عربيا ثقيلا على عيناها .... ..لقد كانت تبدو تحفة أنيقة ..جميلة و صاحبة نظرة نارية ..كيف لا و الكحل أضاف قوة خفية بها و أشعل ناريتها...
لم تمر على رواق من أروقة الجامعة إلا و سمعت غزل رجولي هنا وهنالك .. مضايقات تجاهلتها و تصفيرات بعض الشباب الطائش أرضت غرورها الأنثوي ....
قد انتظرت طويلا مروان في رواق جانبي ....هو كان دائما يتأخر عنها ..كأنما يملك كل وقته من غير أن يعتذر عن موعد مؤخر بكثير أو يؤجل لسبب يخصه .. ...إلى أن أطل عليها من بعيد ..متأنق إلى حد متكلف..بما يوحي حرصه المرضي ... على مظهر متألق يخفي عيوبا لا حصر لها به .....
فبعيدا عن الرومانسية الحالمة التي توهمت أنها تعيشها في جوه و حضوره الرجولي القاسي ....لطالما جزمت بأنه شخص يخفي أكثر مما يبدو عليه أن يتحدث ..لم تكن هي من تشغله بل كان يحرص على تجريد انتمائها من هوية الغالي الناقصة بها .....مشعلا بها رغبة هوجاء في التطرف العائلي .....
كان يقترب و هو مقطب يرمقها بنظرات نارية ..إلى وصل إليها يتبدلان صمت متواطئ...لم تعرف له نوايا ......و رفعت رأسها إليه تشع سعادة متلهفة لردة فعله ما إن يلحظ الفرق ...أو يغرقها بغزل مما سمعته من قبل مجيئه .... فهمت بإلقاء التحية متوردة الوجه .. ...
لتجد يده تقبض على ذراعها بقوة وهو يجرها خلفه جرا كما تساق البهيمة للذبح حاولت إيقافه ..لكن كان يبدو كالمغيب كليا عن ما حوله... عبر بها طريق آخر نحو الحمام الرجالي ...توقفت نظراتها لمرآه.....في حين أنه لم يتوقف له طريق يجرها دون هوادة ....
.رغم ممانعتها القوية ..قد أدخلها بقوة يجرها و هو يدفع الباب برجله فكاد أن يكسره بعنف مريب ...و حررها من يده لحظة خاطفة
وقفت لها تسمد معصمها المزرق ...حتى باغتتها صفعة مدوية في أرجاء الحمام ..لم تجفل من رغم صوتها المدوي أرجاء الحمام الخالي إلا منهما ...... إلا باليد الثقيلة تحط عليها بقوة دون رحمة فتخلف توهج محمر آلمها ...و قبل أن تستوعب ما يجري لها ..رفعت وجهها ناحيته لتفاجئ بالصفعة الثانية على جانب وجهها الآخر ...
شهقت عاليا بأنفاس عنيفة ...لتباغتها صفعة ثالثة فرابعة ..فخامسة على توالي دون أن تتمكن من تصدي لها ...كانت سرعته قوية و يده قاسية على تقاسيم وجهها الناعمة تضرب حصونها مرة بعد مرة ....
شعرت بالدوار يلفها و سقطت مستندة على ركبتيها تحت جسده الضخم القوي تلهث و تأن عاليا ..و الدماء قد غطت شفتيها و أنفها ....تشوشت الرؤية أمام عينيها و إمتلئت بالدموع .....متسائلة بدهشة عما آل إليه ما خططت له في مفاجئته....
من غمامة تفكيرها المشلول ....سمعت صوت مياه الحنفية حاولت له أن ترفع رأسها الثقيل لتتمكن من رؤية ما يفعله ......إلى أن رفعتها يده القاسية عاليا و أحكم قبضته على فكها ...فحاولت التملص بضعف من يديه.... لكنه كان الطرف الرابح بالعودة لتفوق الجسدي بينهما ..
هو كان رجل في رابعة و ثلاثين في عمره ..بينما تكون مجرد فتاة شابة يافعة في سابعة عشر من عمرها ....تطلعت بعينيه لترى النظرة القاسية بهما و الوحشية ...لم تستطع تبين المزيد إذ سرعان ما وجدت نفسها تغرق في حوض المغسلة كان يشد جسدها نحوها ... نظرا لفرق الطول و يحني رأسها نحو المغسلة يغرقها بمياه الحمام القذرة
لم تعلم كم قضت تحت المياه تحاول شد نفسها وهي تدفعه برجلها و تضربه بيدها الحرة .و الحقيقة تضربها في نيته بقتلها غرقا ......قاومت حتى نفذ الأكسجين منها و دخلت المياه المتسخة اللاذعة لجوفها و حلقها....بينما كان يصرخ هو بوحشية و اهتزاز ...لم تكن مهتمة بما يخالجه بل جل ما كانت تحاوله أن تتحرر من المياه التي أغرقتها ...
.حينما أصدرت صوت يدل على غرقها ...رفعها من حجابها عاليا يشده بقوة ....ما أن تلامست الهواء حتى أطلقت شهقة عالية و جسدها يهتز بقوة طلبا للأكسجين.... و ازدادت دقات قلبها سريعا بألم ...
نظرت بالمرآة انعكاس شكله المرعب و هو يضعها بين يدها و يقيدها بجسمه ....فحاولت الصراخ لتجد نفسها مرة أخرى في حوض المغسلة تغرق من جديد ..و قد كان يخرجها كل مرة و يعيد تغريقها حتى شربت ربع الماء .. عذبها بقوة و هو يضغط على نفسها و روحها ....و ضحك بقوة ليرفع رأسها يشده... بعدما انفلت الحجاب منها و وصلت يداه لشعرها البني الناعم ذو لفات كبيرة يقبض على فكها يصرخ فيها
-أنظري إلى نفسك في مرآة و أخبريني من هذه الفتاة ...
تطلعت شهد بالمرآة تبكي بقوة و تشهق غير قادرة على ضبط نفسها ....صدرها كان يضيق و حلقها يلتهب بعدما شربت كميات كبيرة من مياه المغسلة القذرة ...لكن وجدت القوة الداخلية تدفعها أن تفعل كما أمرها ...فهو شخص يدعوك لما لا يريدك أن تقوم بفعله ..بل و بقناعة مسبقة أنك لن تقدر عليه ..لهذا قررت أن تباغته كما باغت فرحتها و قتلها في الصميم ....فلم تكن مشغولة بملاحظة مدى السوء الذي وصلت إليه ..و مدى اختلاله في تعامله ...
تطلعت بالمرآة لتتصلب جميع تقاسيم وجهها ...و تراجعت نيتها القتالية قليلا ...فتهدل فمها بألم ..... وجدت فتاة مرتجفة حتى الصميم ... قد سال الكحل على وجنتيها و لطخهما و انتفخت عيناها ..بدت بشعة جدا ...بشاعة لم تخفي فجيعتها في اكتشاف ما وراء مروان من تعقيدات و رغبات غاية العنف .....
بشعرها مبلل مقيد بأصابع مروان القاسية ... لقد كانت صورة مثالية للبؤس و الدونية .... تبدو كالعاهرات المخيفات .. ...مقيدة مبللة و منتهكة من قبل رجل استحال لوحش كاسر دون أن تفهم السبب ...أغمضت عيناها تحجب الصورة عن عقلها و عضت شفتها المكدومة إثر صفعاته القاسية.... و الغضب يحل محل الذهول و الخوف ....
فصرخت عاليا ترفع أنفها بشموخ و فخر أذهل مروان و أفقده صوابها تماما و طير البقية المتبقية من عقله ...
-شهد الغالي .... إنها الغالي ما أرى ....شهد الغالي ...أنت لن تكسرني يا مروان ...مجنون متخلف ....
فأدراها نحوه بخشونة لينقض على شفتيها يقبلها بعنف و قسوة .... يحبس أنفاسها بطريقة أخرى .. و هو يشد شعرها ...في قسوة همجية يتخلله بأصابعه الطويلة و يمشطه بطوله الذي امتد حتى خاصرتها النحيفة ........
....قد لم توقفه إهتزازت جسد شهد العنيفة و الهلعة ...بل أخذ يغرس أسنانه في شفتيهما حتى أحست بالدماء الفاترة تسيل تلذع لسانها..رغبة في تطويعها ... ...لكن من أعماق روحها برزت غريزة أنثوية جامحة في حماية ذاتها .....فأخذت تضرب قبضتاها صدره بقوة و تدفع برجلاها جسده بعيدا عنها ...
حتى حررها يلهث و الرغبة تستعر به . في الفتك بها و قلتها ...... فاستل خنجر من جيب سرواله الجينز و قبض على شعرها ليقسمه على نصفين ...ليتركه مشوه مقصوص الأطراف .....أمام جمود شهد المتصلب و الشجاع ..قد بقت ساكنة منتهكة و مجروحة في وجهه....دون أن تطالها الرغبة في إظهار رعبها الكبير منه ...
لكنه غافلها عن عمد حينما أسدلت نظرها عنه نحو شعرها ...و رفع كفه ليهوي على وجنتها بالصفعة السادسة على وجنتها اليسرى .و هناك لم تكن لها أي ردة فعل ثانية لتلجمه بها من غير صمودها و انهيارها ......فسقطت فاقدة للوعي ..بين يداه مكدومة و الدماء تنزف من أنفها و شفتها ...تطلع بها طويلا و أجهش بالبكاء يضمها إليه بقوة ...... ..
عندما عادت لوعيها رمشت بعينيها مرات عديدة تتأكد من بقائها حية بعد تعنيف مروان لها ..تتحسس كفها شعرها .. ..ففوجئت بالحجاب يغطيه ...أدرات عينيها المرهقتين تكتشف وجودها بداخل سيارة مروان..... .. لتنتفض بقوة من مكانها نحو الباب بنية الهرب ..لكنه بقاءه ساكن محني رأسه على المقود .....في صمته لا حركة تصدر عنه.... سوى من أنفاسه الرتيبة ...جعلها تتوقف بتردد و يدها على مقبض الباب .....
قد أحست برغبة في فتح الباب و الهرب بعيدا بحيث لا يدركها بعد اليوم ... فالوحشية التي اكتشفتها فيه اليوم تمنحها ألف سبب لتبتعد عنه دون رجعة ..و عليها أن تقطع علاقتها بهذا الإنسان الهمجي ... و إلا دمرها روحيا كما فعل جسديا ..لكن وجدت نفسها تستبقيه لآخر لحظة في فكرها ..مدفوعة بفضول قاتل نحوه ...تلك الرغبة العبثية في فضولها هي سبب ما منحته له من إيذاء مجاني نحوها ..لن تتجرأ فيه على مطالبة نفسها أن لا تمنحه الغفران ......
قطع صوته المرتجف شرودها و صخب أفكارها
-لا تضعيه ...
قطبت شهد متسائلة و هي مشيح بوجهها .... لكنه ما انفك يعيدها على دفة الحوار معه .كأنما يلاعبها على نهايات الجنون و المنطق .....و قد كانت أبعد من أن تستوعب ما يهتف به في ارتجافها حتى أوصالها أن يرفع يده عليها مرة ثانية.... فسكتت تسمع ما يبرر الجنون التي شهدته عنه في حمام رجالي
-أن تحددي عيناك بكحل كالذي وضعته ..يعني أنك تقررين فتح قبوري المدفونة ....هناك أشباح بداخلها لن ترضي حقيقتك الإنسانية ....
أجابته وهي تلتف برأسها بعيدا عن مرمى جسده الضخم و الذي أصبح مخيف في صلابته و عنفه .... بعد أن كان يشكل لها هويته عن باقي أقرانه من الرجال.....
-أنا لا أعرف عن ما تنهاني إياه ...لكن إن فعلت حقا ما تخشاه ..هل ستعود لتنتهكني كما فعلت توا .....
رفع رأسه إليها لتضربها دموع عيناه في الصميم...قد ظهرت على حافة وجنتها المرتفعة نحو أقصى نظر في ابتعادها عنه ....فثقلت أنفاسه بصدره ...و اهتز الألم يتراقص بدمائه التي تغلغلت عروقه بحقد الوحشي المتراكب على مر الزمن ....
ذبذباته العنيفة التي استشعرتها من تأمله لها .....أدرات نظرها نحوه بتردد خائب ..لم تعد تجد به ما تتوقع بل ما لا تعرف ...فالمعرفة ليست ممتعة بالقدر نفسه دائما ......
لكن هالها منظره المبعثر ....ذقنه كانت داكنة و شعره الحريري الأسود متشعث ..بطريقة ذكرتها بصورتها في المرآة ..... شعور الخزي الذي تملكها لن تنساه يوما ما حيت ...قال بصوته الخشن و هو يمسكه من يدها بحنو
-أنا لن أفعل لأنك لم تسمحي لي بعد اليوم بفعل ذلك ... فقط ضميني و أنا أعدك بأنني لم ألمسك ....
.................................................. .......................
أفاقت شهد على صوت صراخ ليديا وهي تقبض عليها من مرفقها تهزها حتى تخرج من شرودها ...بملامح مرتعبة ....مشدودة كما أنها تتوقع شيء بشع ....فتذكرت قيادتها لسيارة أمها نحو الشركة ..لكأنها غابت أياما على الواقع ..
.أعاد صوت صراخ ليديا تركيزها المشتت بين الغفلة و الواقع .....فدققت النظر من جديد أمامها في مدخل منفق الشركة التحتي لصف السيارات .....كانت سيارة مسرعة بدرجة جنونية نحو أسفل البنية ..... و ليديا لا تكف عن العياط ذاته ..فرفعت رأسها نحو محدد السرعة .لتهمس صراخا بداخلها (. ماذا ..متى زادت السرعة بهذه الدرجة لقد تخطت 110 كلم /ساعة...).....
كرد فعل غريزي انعطفت بقوة عندما لاحظت سيارة من الأمام تكاد تصدم بها أثناء محاولتها لصف السيارة .... فدارت السيارة دورات عديدة حول نفسها بعنف..... أثناء محاولتها التحكم فيها .. .إلى استقرت في النهاية دون ضرر....
أخفضت رأسها على وقع ضجيج ...ضجيج قوي و صورة مروان ترتسم أمامها ...... فغابت في حالة اللاوعي بعيدا عن العالم .... لم تستمع لهتاف الجالسة بجانبها و هي تكبر و تشهد بصوت مرتفع ..
لم تستمع الصوت رجولي عالي من زجاج الباب المفتوح و هو يشتم بخفوت قريبا منها ....لم تشعر بضربات ليديا على وجهها تفيقها و هي تدمدم صائحة غاضبة......
-لقد كدت تقتليننا ..و تقتلين سيد عمر خطاب ..

تأملتها شهد كما لو أنها قالت نكتة سمجة ....طويلا لدرجة أن ارتكبت ليديا فوق جزعها و هي تلاحظ بها سمات الاهتزاز النفسية ...و يتناهى إلى مسامعها صوت صفق باب مجاور ...
إلى أن طلقت ضحكة مدوية لم تتناسب و الموقف اهتزت لها أسارير الجالسة جنبها ....و تضرب المقود بقبضتيها المتعرقتين بشدة ..كما لو بها مس ...بينما تراقبها ليديا بقلق متصاعد في داخلها ملتصقة جنب الباب .....
إلى أن هدأت للحظات قصيرة ..كما تسبق العاصفة الأجواء المتواطئة في صمتها ... لتنفجر بعدها في بكاء مرير ....
أبعدت ليديا وجهها نحو مقدمة المرفأ بعدما خرجت متعثرة الخطى ...فلمحت عمر قادم مسرع بخطوات رشيقة نحوهم يتفحصها من كل الجوانب قلقا مرعوبا من احتمالية تعرضها لضرر..... و هو يصرخ ..
-سيدة ليديا أنت بخير ...سلامتك لقد كدت تصطدمين بسيارتي منذ لحظة.....
رفعت ليديا وجهها الشاحب نحوه مقطبة بقوة و قالت بصوت مرتعش قوي.... تشير لسبابتها نحو الفتاة داخل السيارة لم يتبين عمر ملامحها فقد كانت تبكي بقوة و تشهق بصعوبة .....
-شهد الغالي ..إنها بداخل السيارة ....هي لا ترد علي
فور أن تناهى الاسم إلى مسامعه شحب عمر و هرع يجري نحوها كما لو تطارده شياطين العالم ..عارفا أنه لو مسها سوء قد يدفع ثمن متراكم ...ليس له فيه أي ذنب كما اقتضت العادة معه .....في تصاريف القدر الظالمة .... ففتح باب مقدمة السيارة يجذب الفتاة النحيفة النحيلة .....ليوقفها على طولها بعنف ارتدت له بفعل القصور الذاتي ..مما جعله يستنشق العطر النسائي الخفيف بجرعات كبيرة ...حركت به إحساس غامض بداخله..
بالنسبة لعمر طبعه الرجولي تجلى في أن يكره العطور الثقيلة النسائية....قد يراها مجرد زينة و واجهة براقة لا تعبر البتة عن المضمون ..فلطالما انزعج من عطر خطيبته و ميزه و لو عن بعد أمتار عديدة ..
الأنثى الراقية هي من تضع عطر خفيف يعبر عن روحها لا أن يضعها هي ..فتستحيل لمجرد قارورة عطر متنقلة ... .....
تطلع بوجهها للمرة الأولى دون أن يتوقع بنظرته الصدمة الإرتجاجية له .... فقد شلت حركته و أنفاسه العتيدة .....تلك العينان الباكيتان المتسعتان و أثارتا به كل مشاعر حمائية الجنونية .....و هو من عمل على ترويض نزعاته البطولية و الحمائية ...حتى لا تضعه موقف الضعيف ..كما فعل ....
...و مما زاد صدمته حينما خفض بصره عن تأثير عسلية عيناها إلى باقي جغرافية وجهها الجميلة المنحوتة بكلاسيكية ... القسمات المؤلفة في فم الرقيق المرتجف مزموم بحزم ... غطاه لون ترابي طابق بها البريق الخاطف .... يتناسب و بشرتها القمحية الصافية ... ...فانتفض على صوت مبحوح خافت به رنة خفية لم يسمعها قط بصوت امرأة قبل الآن من حياته .....
-لن أهدد حصون قبورك المظلمة ..لأنني لن أحدد عيناي بالكحل كما تكره ..لكن رجاءا لا تؤذني ....
كلماته المتقاطعة بشهيق و بكاء عالي قطب لها عمر ....متناثرة بين عينيها و شفتيها .... جعله الأمر يدرك أنها لا تعي ما تقوله و أنها في زمن ما من عقلها اللاواعي ... ... مغيبة تماما عن الوقع ..باهتزاز حدقتي عينيها و تشنج ملامحها بألم....
تنفس بعمق يشد عليها من ذراعيه ...و يحاول تلميم كلمات مهدئة لها ..لكنها غافلته برعب أشرأب به لما انقضت عليه تلف ذارعاها حول خصره و تتشبث بأحضانه باكية بقوة ...
لا يذكر كثيرا حينها ما جرى سوى أنه قد توقف تنفسه و قلبه لوهلة ... و عاد ليضرب كما توقف خطفا له بدقات متسارعة.. ..فأحس به يتضخم من سيل المشاعر التي تملكته ...و يعي أنها في منتصف صدره متعلقة به ...على أنظار ليديا المصعوقة دهشة فيهما ....
لم يتجاوز الوقت بقليل حينما رفع يديه بنية إبعادها ...في بادرة تهذيب منه أمام أنظار سكرتيرته الأكبر سنا ....لكن شهد أحست بذبذبات رغبته كما لو أنها حديث مموه فأخرست ضجيج أفكاره بعضة متوحشة ....أخفض لها رأسه نحوها ....
قد تألم بقوة عندما غرست أسنانها أعلى تجويف كتفه بقوة ...معرضا لموقف ما تخيل له درامية كالتي يعيشها ..عارفا بأنها لا تعي ما تفعله به ... فأمسك برأسها يسمده و هو يهمس لها بكلمات حانية ...يهدأ بها أعصابها النافرة ..
متغاضيا عما تعبث به و تمرغ وجهها بين طيات سترته الأنيقة يمينا ويسارا بطريقة أنثوية ناعمة .....و أناملها الجميلة تقبض على مقدمة سترته و هي تدمدم بكلمات خافتة ..
و أخيرا حينما أحس بها على حين غرة تهدأ كليا و تفلت كتفه من عضتها القوية .... بسكون تام من غير أنفاسها العنيفة و المتضاربة بين شهيق و زفير أقبض الألم على صدرها المتثاقل تحت عضلاته صدره ...أمسكت يده مؤخرة رقبتها بحزم لطيف .....و هو مستغرب لسهولة انقيادها به .
فرفع رأسها يكتشف غيابها عن الوعي ..و بجسدها النحيل يرتخي بين ذراعه و ركبتيها تنحني نحو الأسفل ..لم يفكر كثيرا قبل أن يحملها بين ذراعيه مرة واحدة بسهولة تامة ...مستغربا نحولها الشديد..و استدار نحو ليديا التي سقط فاهها من منظرهما معا ....يكبح بها أي رغبة في المساعدة ...قائلا باقتضاب عله يتخلص منها و فضولها..في وقت لن يملك فيه إجابة ....
-أنت غطي غيابي لدقائق لدينا ساعة قبل بدء الافتتاح ... سأستقل مصعد جانبي يوصلني نحو مكتبي مباشرة ...لا تخبري احد أنني وصلت
استدار مبتعدا عنها بخطوات سريعة و رشيقة ..تارك ورائه كائن فضائي دهش ...فور أن استعاد قدرته على الكلام حتى صاح بقوة
-بحق الله فليخبرني أحدكم ما يحدث هنا ..سيد عمر و شهد ...
.................................................. .................................................. .................................................. ....
وضع عمر شهد برفق فوق أريكته السوداء الواسعة على ظهرها ...و هو لا يزال تحت تأثير مراقبة تقاسيم وجهها النائمة بسلام بحبور ... فجلس بجوارها يمسح على وجنتها المبللة عطر رجالي خاص به ....
شاردا في أفكاره و همسه الداخلي (.. من أين نزلت عليه سليلة الغالي هذه الشهد صباح اليوم .. أبدا لم يتوقع أن تكون على قدر من الجمال و الهشاشة كما يراها ...في نعومة أنسته أن يبتعد بنفسه....)
أبدا لم يتوقع لقاء بهذا الشكل معها.....تخيله البارحة حينما كان نائما على نفس الأريكة ..لقاء عاديا بين أروقة شركته أو مكاتبه .. و أبدا لم يسأل عن الطريقة التي سيعرف بها شكل وجهها ..هو كان متقين من معرفته لها دون أن يبحث عنها ...منذ وقعت عيناه على خط يدها و أفكارها المبعثرة هنا و هناك من ورقة إجابتها ......
و بينما غفل عنها نحو كم سترته الذي أخذ يلمع بشيء ذهبي ....فتحت عيناها ببطئ شديد نحوه و هي ترفع رأسها عاليا بينما هو شارد عنها .. لم يتوقع ردة فعلها ولم يتمكن من رؤيتها ترتفع نحوه .. فاعلا المثل يحني رأسه اتجاهها ليصدم وجهه بجبهتها بقوة....
فتراجع واقفا ... يمسك بأنفه و جلست هي ساخطة تبرطم من بين أنفاسها .....نظر لها بقوة و هو يشتم سرا ما إن رآها تتآمر عليه تشير بيدها نحو الباب الكبير لمكتبه... لتخفي وجهها بين يديها .
-أخرج ...أريد الراحة من فضلك سيد عمر ....
قد وجد نفسه يبتسم بسخرية و يخرج من مكتبه مسرعا ...ممسكا بالسوار في قبضته .....



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس