اجتازا نقطة التفتيش ومكتب الجمارك من دون تأخير وتمكنا من الصعود الى الطائرة
خلال سفرهما من مكان الى آخر حاولت كاتلين ان تقنع نفسها بأن النهار الذي
كانت بدايته مثالية تمدد لتصبح نهايته جيدة.. وأن لازارو سيلتفت حتماً نحوها
ويبتسم لها وسيشعر بالرضا, لكن لازراو لم يبذل جهداً ليستغل الوقت, وبالكاد
تبادلا كلمات مقتضبة عندما حطت طائرتهما واجتازا مكتب الجمارك من جديد
ليخرجا من المطار ويواجها الصباح الشديد البرودة...
كان البرد قارساً جداً.. خرجت انفاسها من فمها كالغيوم البيضاء, واحست بأسنانها
تصطك بينما هما متوجهين نحو السيارة التي تنتظرهما.ريحانة
لكن على الرغم من مزاج لازراو السيئ والاضطراب الذي سببته لها مواجهتها مع
مالفوليو, لم تتمكن كاتلين من إخفاء ذهولها امام جمال مدينة روما , بينما السيارة
السوداء الفخمة تعبر المدينة الأثرية بسرعة فائقة, ارادت ان تطلب من السائق ان
يخفف السرعة قليلاً , لكنها عدلت عن ذلك عندما طالعها مشهد المدرج الروماني..
تململت كاتلين عند رؤية نظرات التحفظ في عيني لازراو.
الصقت كاتلين انفها بزجاج السيارة غير آبهة بمزاجه النكد او مزاجها العكر.. او
بمايحصل .. او بما يمكن ان تؤول اليه الأمور.. فهي الآن في روما ..روما الجميلة ..
التي تتميز بجمال حجرها وبشرها على حد سواء .. فتحت كاتلين النافذة ضاربة
واغمضت عينيها لتستمتع بالهواء البارد الذي لحفها ..لكن الاصوات التي تعالت من
حولها ارغمتها على فتحهما من جديد.. دراجات نارية صغيرة تشق طريقها بطريقة
متعرجة بين السيارات المزدحمة.. وسائقون يطلقون الشتائم.. لم تر كاتلين في حياتها
هذا الكم الهائل من الناس..
- اقفلي النافذة .. فالبرد شديد..
وضغطت على الزر لتغلق النافذة وتحجب ضجيج الشوارع ثم التفتت نحو لازراو
بتحد وقد قررت ان تعبر له عما يدور في خلدها:
- اخشى ان الطقس في الخارج اكثر دفئاً من الداخل.ريحانة
ادركت كاتلين وهي تترجل من السيارة ان ثمة فرق شاسع بين الفنادق ..فبعد ان
اجتازت الابواب الداورة المطلية باللون الذهبي وقفت مذهولة امام جمال البهو
الرئيسي لا تعرف ماإذا كان عليها ان تنظر الى الاعلى ام الى الأسفل, فقد كانت
الأعمدة الرخامية تمتد الى السقف الرائع ذي القبة العالية الذي تتدلى منه ثريا يوزاي
حجمها حجم الفناء الخارجي لمنزلها ..كانت الأرض المبلطة باللونين الأبيض والسود
مغطاة بقطع سمكية من السجاد المختار بعناية , وبدا واضحاً ان فندق رينالدي روما
هو الجوهرة التي تزن تاج مجموعة رينالدي.
لم تكن كاتلين الضحية الوحيدة لمزاج لازارو العكر.. فبعد ان استحمت على عجل
وارتدت ملابسها , سمعت طرقاً حاداً على باب غرفتها , ولم تكد تفتح الباب حتى
وجدت نفسها في دوامة العمل من جديد.
---------------------------
التقى لازراو خلال النهار بكافة الموظفين العاملين في الفندق , ووجد العديد من
الشوائب بدءاً من الطعام والشراب وصولاً الى الخدم الذين ارتدوا قمصاناً غير مثنية
راح يتجول في المكان وهو يدرك تماماً انه الآمر الناهي, مثيراً الرعب في قلوب
الجميع.. وعندما استقلت كاتلين اخيراً المصعد لتتوجه الى غرفتها ادركت انها المرة
الاولى التي تشعر فيها بهذا القدر من التعب منذ ان بدأت بالعمل مع لازراو, إنما
عليها ان تعترف بأن تعبها لم يقتصر على المستوى الجسدي وحسب.. فقسوته في
التعامل معها جرحتها في الصميم.
لم يكن الفندق يعتمد نظام البطاقات الممغنطة لفتح الابواب فاستخدمت كاتلين
مفتاحاً قديماً جداً لتفتح الباب وتدخل الى الغرفة ثم تقفل الباب وراءها على اطول
نهار عرفته في حياتها.. راحت عيناها المتعبتان تنتقلان في انحاء الغرفة:فقد كان
التضارب النابض بالحياة بين اللونين الحمر والذهبي يضفي على الغرفة المزينة بباقات
الورود مسحة مميزة.. وعلى الرغم من ان حجم السرير بدا كبيراً إلا انه لم يكن كافياً
لملء مساحة تلك الغرفة الفسيحة..
لم تتكبد كاتلين عناء تنظيف الزينة عن وجهها, فرمت ملابسها على الأرض ونظفت
اسنانها ثم اندست في سريرها محاولة ان تستجمع قواها لتطلب من موظف مكتب
الاستقبال ان يوقظها باكراً.
اطلقت تنهيدة عميقة عند سماعها طرقاً خفيفاً على باب غرفتها واختارت ان تتجاهل
قفزت مجفلة عندما سمعت صوت لازراو الرقيق...
رفعت اغطية السرير لتغطي نفسها وهي تكاد لا تصدق مدى وقاحته.
- لاتقل لي إنك تملك مفتاحاً لكافة ابواب الغرف في الفندق..
جلس قربها على السرير واجابها:
- لم تقفلي باب غرفتك جيداً..اسمعي..
هزت كاتلين رأسها رافضة ان تسمع مايريد قوله..
- أعلم انها الساعة السابعة واعلم انك حذرتني وقلت لي إنك ستكون شديد
الانشغال , ولديك الكثير لتفعله هذا المساء وتريد رؤية العديد من الاشخاص..
- لا اريد رؤية احد إلا شخص واحد ..
لم تبذل كاتلين اي جهد لتخفي نبرة التململ في صوتها...
- ألا يمكنك كاتلين ان تتدبر امورك من دوني .. لمرة واحدة فقط؟
ومد يده ليداعب خدها برقة فأدركت كاتلين على الفور انه لم يأتِ لرؤيتها بسبب
- لكنني لن اجد احداً بجمالك..
افلتت منها ضحكة عند سماعها جوابه فمال لازراو نحوها ليعانقها لكنها تراجعت الى
- حذار.. عاملتني بازدراء طيلة النهار....
- لا تنسي اننا كنا نعمل...
وراحت اصابعه تلامس وجهها بشوق ولهفة ..
- ليس فقط اثناء العمل ... تجاهلت وجودي..
وهمهم لازراو استنكاراً وهو يضيف:
- ارجوك ياكاتلين ..كان هذا النهار اشبه بكابوس لا ينتهي.
إنه هنا الآن ..لقد جاء يبحث عنها لأنه بحاجة اليها وهذا كاف لإرضاء غرورها ..
امسك وجهها بيديه وراح يتأملها فتقطعت انفاسها غضباً من نفسها وهي تمسك
-----------------------------------
هل يمكنها ان تفعل ذلك؟ هل يمكنها ان تكون المرأة التي تلهب مشاعره لتتحول الى
احست بالدموع تسيل غزيرة على خديها فيما لازراو يعانقها عناقاً محموماً واحس
بدموعها فرفع رأسها نحوه ليرى وجهها الشاحب , وشعرها المشعث... فأدرك بأنه
ألم يقسم بألا يعود اليها ثانية؟ وهاهي الآن بين ذراعيها...
كلا! وتصلب فك لازراو.. كان لا يزال يمسك بزمام الامور, وهو قادر على كشف
الاعيبها ..كان قادراً على فضح اكاذيبها في هذه اللحظة بالذات..
وراحت الكلمة نفسها تتردد في رأسه..
ربما كان احمقاً بعض الشيء لكنه قادر على التحكم بالأمور... ولن يسمح لنفسه بأن
ينسى وإن للحظة واحدة بأنه يعيش في جنة كاذبة ...
افكاره هذه جعلته يتراجع ويبتعد عنها , فهي في نهاية الأمر ابنه خالة روكسان المرأة
التي يكن لها كراهية بلا حدود, لا, لن يقع في الشرك الذي وقع فيه لوك, في شرك
العينين الزرقاوين, وهب واقفاً واتجه نحو الباب من دون ان يرمقها بنظرة.منتديات
رماها لازراو بابتسامة جافة بينما كانا يجلسان في قاعة الطعام , وقال لها وهو يرسل
طبقه الى الطاهي للمرة الثانية معرباً عن تذمره:
- في سبيل احتلال المراتب الاولى عليك ان تقدمي الأفضل في كل مرة.
كانت كاتلين منهمكة في تسجيل الملاحظات منذ الساعة الثامنة صباحاً, واحست
بصداع حاد عندما امطرها لازراو بالنتائج التي توصل اليها .. احست بالارتياح
الشديد عندما احضروا لهما الغذاء ..كانت قاعة الطعام في فندق رينالدي روما اشبه
بقطعة من الجنة..فقد كان الخدم يجرون عربة بعجلات, وقد وضع عليها مالذ وطاب
من الأطباق , وعصير الفاكهة والقهوة التي يمكن ان تساعدها على التخلص من ألم
الرأس ... وعلى الرغم من هذا كله, وجد مايشكو منه.
قضمت كاتلين قطعة من الحلوى , وقالت له:
- وكأنك تعرفين اكثر مني...
إن كلامه لاذع في بعض الحيان ! لكنها لم تجبه بل انتقلت الى موضوع آخر وسألت:
- سنتشارك هذا المساء في حفل السيد مانسيني أليس كذلك؟
- هذا صحيح..عليك ان تستعدي لهذا المساء ..فشعرك..
ورماها بنظرة فضولية جعلت خديها يتوهجان...
- لم اغسله هذا الصباح لأنني انوي ان اعقصه خلال الحفل... وإذا غسلته الان, فلن
- اشكرك على هذه المعلومة..
وظهر طيف ابتسامة على ثغره وهو يضيف:
- كنت انوي ان اقول لك إنك ستلفتين الأنظار هذا المساء ..إذ لا نرى الكثير من
كانت واثقة تمام الثقة من انه اراد ان يقول كلاماً آخر, غير انه ارتأى ان يصون
لسانه لئلا تشهر سلاحها في وجهه..
- اخترت احد الفساتين التي ارسلتها لي .. لا تقلق ..لن اخذلك ..حسناً, ماذا
سنفعل خلال الساعات المتبقة من النهار؟
- قلت لك....حسناً, ماذا سنفعل خلال الساعات المتبقية من النهار؟
- قلت لك.. عليك ان تهتمي بتصفيف شعرك وتبرجك..
- إنها الساعة الواحدة من بعد الظهر , لا احتاج الى ست ساعات للاستعداد
----------------------------------
- لكن حاجبيك يحتاجان الى تهذيب ايضاً.
اثارت ملاحظته الفظة غيظها فعلت الحمرة خديها.
- ستتعرفين هذا المساء الى اكثر الناس ثراء وجمالاً في روما .. لهذا السبب , انصحك
بأن تبدئي بالاستعداد منذ الآن ..اردت فقط ان انبهك الى الأمر..
احست كاتلين بالغثيان وتمنت لو تتقيأ الطعام الذي تناولته , لم تكن هذه المرة الاولى
التي تتساءل فيها عن مدى استعدادها لتحمل هذا كله.. وبقي عزاؤها الوحدي ان
النظارات الوردية اللون التي اغشت بصرها طوال السنوات الماضية, اصبحت اكثر
حدقت فيه متنية في سرها لو انه ليس مثالياً الى هذا الحد, محاولة ان تجد عيباً فيه...
وعندما باءت محاولاتها كلها بالفشل قررت ان تتصرف بحماقة وتختلق واحداً..
- بلى.. إنها حبة بازيلاء كبيرة في هذه البقعة بالذات..
ووضعت اصبعها على اسنانها مضيفة :
- لا اريدك ان تشعر بالحرج وانت تسيء معاملة موظفي الفندق.
انفجر لازراو ضاحكاً بصوت عالٍ رافضاً القيام بأي جهد للتأكد من كلامها ماأثار
انزعاجها وارتياحها في آن معاً لأن اسنانه نظيفة تماماً.. وعلى الرغم من محاولاتها
لضبط نفسها انفجرت ضاحكة بدورها.ريحانة
ظهرت على ثغره تلك الابتسامة الكسولة التي تشعل نيران اللهفة في داخلها وتجعلها
تلين مع انها اقسمت على ألا تفعل.
ردت كاتلين بالإيجاب لأن المقصود لم يكن ذلك الشيء الوهمي على اسنانه بل الغيمة
السوداء التي خيمت عليهما منذ الصباح .. واحست بالانتشاء تحت تأثير ابتسامته
كانت نبرة صوته غاية في الرقة واحست بأن نظراته تحذرها بأن تغادر المكان قبل ان
يعود الى المشاكسة من جديد.
- اتمنى لك ان تستمتعي بالساعات المتبقية من النهار..
ليتها حملت في تلك اللحظة حقيبة يدها وتوجهت الى جناحها ! لكن لازراو كان
يعاملها بلطف لم تعرف له مثيل وينظر اليها بطريقة سمرتها مكانها...
اجفلت كاتلين عند سماعها ذلك الصوت المألوف ولم تجد امامها سبيلاً سوى ان
تمكث مكانها فيما نهض لازراو من مكانه واخذ تلك المرأة الفاتنة بين ذراعيه, وقبلها
على الطريقة الايطالية , لكن كاتلين لمست في عناقه لها شيئاً من الحنان والعطف لم
تشعر به من قبل خاصة في تعامله معها.
- بونيتا ..اقدم لك مساعدتي الشخصية الجديدة..كاتلين بيل.. كاتلين .. هذه بونيتا
وابتسم لكاتلين فجأة واضاف :
- يالغبائي ! لابد انكما التقيتما من قبل.
قطبت كاتلين جبينها وحذت بونيتا حذوها ..
- أظن اننا تحدثنا على الهانف. أليس كذلك؟
----------------------------
أومأت كاتلين برأسها والتفتت نحو لازراو مردفة:
- لكن لابد انكما التقيتما اثناء المقابلة التي اجريتها لمنصب مسؤولة العلاقات
ظهر وميض خطير في عيني لازراو على الرغم من انه بقي يبتسم وتابع كلامه:
- آسف ياكاتلين .. اظن انني لم اعرفك عليها كما ينبغي. فبونيتا ليست زوجة
البيرتو مانسيني وحسب بل المسؤولة عن قسم العلاقات العامة ايضاً.. عند استلامها
هذه الوظيفة , تعرفت الى البيرتو وتزوجته.
- ولم اتخل يوماً عن وظيفتي..
وضحكت ضحكة خافتة قبل ان تلتفت نحوها قائلة:
- تقولين إنك اجريت مقابلة..
وتلاشت الكلمات وهي تحاول ان تتذكر كاتلين .
- لابد انها خضعت للمقابلة في سلسلة اخرى من الفنادق..
كان لازراو من خرق الصمت المرعب الذي خيم...
وعلى الرغم من انه خرق الصمت إلا انه لم يتمكن من محو الإرباك الذي حصل ..
فالكل يعلم تماماً انه لا يرتكب الأخطاء لاسيما في مايتعلق بشؤؤن عمله..
غادرت كاتلين المكان مترنحة وهي تكاد لا تصدق ان بونيتا هي بونيتا مانسيني ..
وحين التفتت نحوهما للمرة الأخيرة , رأته يحيط كتفيها بذراعه فيما اراحت المرأة
رأسها على صدره كتعبير عن مدى شوقها اليه.
------------------------------