2- الــضحية والجــلاّد * *
لأول مرة منذ وصولهــــا إلى الفيلا تستيقظ وإحسـاس مثير مــن الترقب
استحمت بســرعة ثم ارتدت (( تي شيرت )) أبيــض اللون وجينزاً بنيــاً
وتناولت ثوب سباحة نظيفـاً وروبـاً قطنياً وضعتهما في منشفة كبيــرة في
حقيبة صغيرة من قماش (( الكانفا )) .
لم يكن لديهــــــا فكـــــرة عمــــا قد تشمله خطة سيرجيو في
ولكنها لن تسمح لنفسها بالارتبـاك إن اقترح عليها التوقف فـــي مكان مـا
للسباحة . . كانت تعرف أن فتاة مثلهـــا , لن تقلق بشأن ثـوب سباحة . .
وبكل تأكيــد لا تستطيع التفكير في فتاة من زمرتها القديمــة لا يمكــــن
تـكــــون سعــيــدة مبتهجـة , لعــرض جسدهـــا
أمـــــا سيرجيو دورباريو .
فــي الوقت المحـــدد وصــــل سيرجيو وذلك عندمــــا كـانت
الفطــور إلى الشرفة . . سمعت نادين صوت السيارة , فتقدمت إلـــى
الفيلا تفتحه , كان سيرجيو ينزل من سيارة مرسيدس قرمزية مكشوفة . .
فـي تلك اللحظـــــات وقبـل أن يراهـــا . بدا لهــــا
الأســـود الـــذي يرتديه يلف جسده وسروالـه الأسود يشــتد
وخصره لأنه كان منحنياً لتناول مفتاح سيارته , كانت ملابسه عـادية وهــي
غيـــر مصممة لجـــذب الانـتـباه , مـــع ذلك أحســـت
وقوته . شعرت بأنه كــان يراجع نفسه في أمــر مـا , فقد تغيــرت
فجأة من التجهم المتحفظ إلى الإعجاب الرجولي الصريح .
ما إن وصــل إليها حتى قال وهو يلف ذراعه حول كتفيها :
ـ لو كـنـت أعلـــم أنك تـبـديـن خــــلابة هكــــذا في
الصباح , لمـــــا أقنعـــني
شيء بالعودة إلى الفندق ليلة أمـــس .
أحنــى رأســــه يحجب عنهـــــا أشعة شـمــس
الصبــــاح فعانقهـــا . عندهــا
تساءلت عمــا إذا كـــان قـــد شم رائحة عطرهـــا كما شمت
كـــانت رائحته رائحة نظافــة ورجولـة , وأحـــست برغبة
تلمس وجهـــه الحليق وعنقــه . . لكنهــــا قالت بصـــوت
ـ الفطور جاهز . . وصـــلت في الوقت المنــاســب .
نظر إليهـــا نظرة مائلة مربكـــة , أرسلت نبضاتهــــــا سريعة في
ـ هـــذا أمـــر يعتمد على أشياء أخرى . . كنت أفضـــل أن
لأراك وأنت كالأميرة هاجعـــة في سبات عمــيق بانتظــار قبلة أمير
كـــــان مـن السخــف أن تـــحـس بالاختناق لمجــرد سمــاع
فــقـد سمعتهـــا فـــي الماضــي كثيراً ولـم تشعــر قـط بأيـة
يخــتلـف سيرجيو عـــن سواه ؟
حاولت بســـرعة أن تصـــرف هـــــذا التفكير عنهــــا
أحـســت بالســـرور لاعتنائهـــا بمــــائدة الطعام خاصـــة
إليهــا . كـــانت لفائف الخبـــز بالسكر والحليب ما تـــزال
متراصـــة كــــالذهب في السلة . أما صحن مربى المشمش الصغير فكان
صحن أخضــر اللون , كـــانت تقصــــد أن يشبه بلونـه أوراق
المقبض الأخضــر الشاحب التي يستخدمونها في الفيلا .
بعد مرور نصف ساعة وفيمــــا كـــــانت نادين تسكب القهـوة
سيرجيو للمرة الثانية فكرت في نفسهــا , أنهما يشبهـــان زوجــين
هادئين . كـــــان يستند إلى الخلف في كرسيه , مسترخيــاً ,
الـــتي تشـــرف عليهــا الشرفــة . وسألته وقد تضــــرج لونها
ـ ما هي خطتك بالضبط لهذا اليوم ؟ . . أعني , هل أحضر غداءً
ـ بكل تأكيد , إن لم يكن في الأمــر إزعاج . . مع أننـي أعترف , أن
الطعام هو أبعد شــيء عن تفكيري .
اعتذرت نادين تريد تنظيف الطاولة من الصحون الفارغة وكان أن
تركته وحيداً في الصالة الرئيسية .
لم تسمعه يصل إلى المطبخ , وكــادت توقع السكين الذي كانت
تفتح به الخبز المستطيل لتضع فيه الزبدة والمربى , حين ناداهــا :
التفتت إليه ولكن نظرة عينيه حيرتها . . كان يبدو مشغول البال ,
وكــأنما هناك ما يهُمه أكثــر من نزهة اليوم . . وأكمــل :
ـ ربما ليست الفكرة جيدة .
كان يعطيها ظهــره وهذا ما تشكره عليه لأنه حال دون أن يرى ألم
الإذلال في عينيها . . ما الذي يعنيه ؟ أيفكــر مجدداً في رغبته في قضاء
اليوم معها ؟ هل اكتشف أنها ليست تلك الفتاة التي ظنها حين قابلها في
تمكنت من السيطرة على صوتها ليكون هادئاً غير مكترث :
ـ كما تشاء . . مع أننـي ما كنت لأظن أن التردد عادة من عاداتك .
فجأة عادا غريبين . كانت تقصد من وراء كلماتها الأخيرة أن تلذع
وتؤلم , ورأت وجهه يتغير , وعرفت أنهما على وشك الخصــام وكأنما
غيمة سوداء مفاجئة اجتاحت السماء الزرقاء الصافية .
ـ واضح أن هذا ليس عادة ما عاداتك . . هل تتخذين دائماً آراء
متهورة بشأن الناس , أم بشــأن الرجال فقط ؟
كان رده ضربة مؤلمة لها ولكنها عجزت عن الاعتراف بأنهــا لم
تتجاوب من قبل مع أي رجــل كمــا تجاوبت معه .
عاد إلى الصالة , ولحقت نادين به , متأكدة أن اليوم قد افسده
أردف يقول : (( أظن أن من الأفضل إلغاء خطتنا لهذا اليوم )) .
توقف أمام صورة موضوعة في إطـار على الطاولــة , تظهر فيها نادين
مع أبيها , ومع أحد أصدقاء الأب القدامى . . اخذ ينظر إلى الصورة
بتركيز حيرهــا . وما استغربته أن عينيه وفمه اجتاحتهما الكآبة , فقالت
ـ إنه صديق قديم لأبــي . . إنه . . لقد مات السنة الماضية .
ارتجف صوتها , وعضت شفتها بقسوة . . لم تكــن تعرف الرجل
جيداً . مع أنه وأباها كانا صديقين لسنوات طويلـة . مع ذلك كانت تجد
من الألم التحدث عن موته , فقد كان ضحية عملية اختطاف , وموته
على يد مختطفيه كان العنوان الرئيســي في الأخبار . كانت نادين حتى
الآن تجد صعوبة في إبعاد الرعب المثير عن نفسها , ولكنها لم تخبر
والدها عن خوفها من أن تكون هي أيضاً ضحية اختطاف . وأقنعت
نفسها بخفة أن بعض الناس يخافون العناكب , أما هي فتخاف
كانت تشك أن مرد خوفها هذا يعود إلى موت أمهــا . . كانت فــــي
المدرسة الداخلية عندمــا ماتت , ولم تعرف بالأمر . ولكن وصول
غريبتين , عرفت فيما بعد أنهما سكرتيرة أبيها ومساعدته الشخصية ,
أبعدتاها عن المدرسة بدون أن تقدما تفسيراً ثم لم تلبثا أن أخبرتاها
بموت أمها وهذا الخبر ترك في نفسها جرحاً لم يندمل حتى الآن تماماً .
أجبرت نفسها على أن تردف :
ـ لقد اختطفه الإرهابيون .
بدا سيرجيو وكأنه يعني ما يقول ووجدت نادين نفسها , تعود لتحيا
حزن أبيها . ولكنها نفضت عنها هذا بسرعـة . . وقالت :
ـ آه , لا أدري . . أليس هذا ما يجول في خيال الجميع ؟
كان هذا كلاماً مقبولاً بين الزمرة التي عايشتها نادين , وطالما
استخدمت هذا التعبير لتدافع عن نفسها غير عابثة بالاستنتاج الذي قد
يكونه مرافقها عنها , لكنها الآن . . تهتم . وتمتمت بمرارة لو أنها لم
تتفوه بما قالت خاصة عندما رأت نظرة سيرجيو إليها . قالت وصوتها
وعيناها يساعدانها في التوسل ليفهمها , ويسامحها , مساحة لا تسمح
تغيرت ملامح وجهه , وطردت ابتسامة العبوس والمرارة القاسية
التي ظهرت عليه , والتوى فمه ساخراً :
ـ يبدو أننــي استيقظت هذا الصباح ومزاجــي ســــيء وربما السبب
غير معتاد على حرير الفندق . كم تحتاجين من وقت للاستعداد ؟
لم يشر إلى أنه منذ دقائق قليلة كان على وشك أن يلغي نزهتهما ,
ولكن الفرح الذي غمر نادين جعلها لا تذكر له ذلك بل وعدته :
وكانت عند قولها . فما هي إلا عشر دقائق حتى وقفت تراقب
بإثارة سيرجيو وهو يضع سلة الطعام في صندوق المرسيدس , ثم يفتح
كـــان الطـــــريق لهما وحدهمـــــا تقريــــباً , واسترخت
ظهـــر مقعدهـــــا مستمتعة بالنسيم العليل الذي يتلاعب بخصلات
وراحت تتنشق عبير الريف الهاجع تحت حرارة منتصف الصيف . . مرا
ببساتين الزيتون المعمرة سنيناً قديمة .
وصلا إلى أعلى التلال خلف منطقة الفيلا , فبان البحــر في البعيد
يلمع أزرق لازوردياً ويلتحم بالأفق . جلست نادين على الأرض
وركبتاها تحت ذقنها , تحس بحرارة الشمس وهي تلفح كتفيها . . منذ
نصف ساعة , أوقف سيرجيو السيارة بعيداً عن الطريق , في هذه البقعة
الجميلة المعزولة , وها هو الآن يستلقي إلى جانبها فوق العشب الطري
ينظر إلى السماء . حركت نسمة لطيفة الهواء الساخن حولهما . . كان
يجب أن تشعر بالراحة والسعادة بعد الوجبة التي تشاطراها ولكنها شعرت
بوضوح بكل حركاته حتى دون النظــر إليه .
كن قد انتزع قميصه وبنطلونه , وبقي بثوب السباحة الذي كان
يرتديه تحت ملابسه , ولامت نادين نفسها لأنها لم تحذُُ حذوه وترتدي
ثوب السباحة . أجبرت نفسها على عدم النظـر إليه وفكرت في أن
بإمكانها الذهاب إلى السيارة لتغيير ثيابها , فلا أحد سيراها . . وكأنه قرأ
ما تفكر فيه , فقــال متكاسلاً :
ـ لماذا لا تقصدين السيارة لتبدلي ملابســك ؟
إنها ترغب في هذا . . فلماذا تتراجع ؟ وما هذا الإحساس الغريب
الذي يجعلهــا مترددة في عرض نفسهــا أمام سيرجيو ؟
رفع نفسه على مرفقه ليتأملها .
ـ تبدين وكــأنك إحدى عذارى المسيحيين التي تفضل ثياب الأسود
على أحضان آسرك الروماني . . إنها تجربة جديدة من نوعها .
أبعدت عينيها عنه لئلا يقرأ فيهما صحة تخمينه فهي فعلاً ما تزال
طاهرة . لماذا , وهي التي لم تهتم بهذا من قبل , تحس بالرهبة أمامه ؟
ليتها تملك بعض الخبرة لتستطيع الرد . قست كلماته وهو يردف :
ـ لماذا تبدو البـراءة شركاً مغرياً للرجال متى شهدوها ؟ حين أنظــر
إليك يصعب علي أن أتصور أن رجلاً آخـر قد لمس قدك الرشيق . يا
إلهــي . . لا شك أننــي سـأفقد سيطرتــي على نفســي !
ضاعت وهو يميل إليها يأســرها بين ذراعيه :
ـ ثمة ما ينبئني بأننــي سأندم على هذا . لكننــي لا أستطيع التفكير إلا
بالألم الذي يخز في نفسي ويذكرني بأنني من البشر . . ماذا تتوسل مني
عيناك حين تنظرين إلي هكذا ؟ الإنقاذ . . . أم هذا ؟
عرفت نادين منذ رأتــه أول مرة , أنه رجل يعرف كل شيء عن
الجنس الآخــر . . لكن يبدو أنه أساء الحكم عليها , فضغط ذراعيه
القاسيتين عليها , والرغبة التي لم يحاول كبحهــا , أخافتها بدل أن
تثيراها . وجردها غضب داخلي من كل إحســاس أو إغواء .
ســألت نفسها بوهن وهي مجمدة بين ذراعيه . . لماذا تشعر
بالخوف من التغييرات التي تطرأ عليه ؟ فقاومت لتتحرر منه واجتاح
الذعـر عضلات جسدها أما عقلها وجسدها فكانا يصرخان لها بأنها
حمقاء لأنها سمحت له بالانفراد بها في عزلة تامة . ماذا تعرف عنه على
وكأنما أحس بمسار تفكيرها , فخفف فجأة من وطأة عناقه وتمتم
معتذراً في أذنها ثم راح يخفف من ذعرها بهمسات رقيقة .
ـ سامحيني (( كارا )) كنت متهوراً , لكن رغبتي فيك أقوى منــي .
رغم كلماته ورغم نظرة عينيه شعرت بأنه يلعب دوراً وكــأنه يتفوه
بكلمات لا يشعر بها , لكن هذا الشعور مات فور ولادته . . ربما
تصورت غضبه . . ربما كان سبب غضبه الرغبة , فهي لا تعرف الكثير
عن الأحاسيس التي تسير الرجال ومن الواضح أنه ليس بالرجل المعتاد
أخافتها استجابة جسدها له فحاولت الابتعاد , متمتمة :
ـ يجب أن نعــــود . . فــأنا . .
نظر سيرجيو إلى ساعته , ثم أعاد نظره إلى المنظر أمامهما وإلى
السماء المهجورة , والطريق المهجور . وقال بعذوبة :
حين مضت في اعتراضها , تجاهلها ومضى في عناقه لها , فعلقت
أنفاسها بموجة صادمة . وانسل اسمه من بين شفتيها :
ـ أعرف . . ولكنك جعلت المقاومة صعبة علي . . صعبة جداً .
كان وجهها قد أصبــح ببياض الورق . . أرادت أن تخلل أصابعها
في شعره , وتشده إلى ذراعيها ولكن الخجــل , وقلة الخبرة أبقياها
متباعدة حذرة . . وما هي إلا لحظات حتى وقف سيرجيو , يجذبها معه
لم يكن لديها الوقت للاعتراض . وفيما كانت تنتظره , أدركت أن
سمعه المرهف التقط صوت تقدم اللاندروفر الهابط من التلال
نحوهما . . وقف اللاند على مقربة منهما وقفز منه ثلاثة أشخــاص :
رجلين وفتاة وهم يرتدون الجينز والتي شيرت , ويحملون في أيديهم
رشاشات معلقة على أكتافهم , ومصوبة إليها .
أحست نادين أنها دخلت فجأة إلى كابوس , وراقبتهم بعجـــز
يقتربون منها . . من خلفها سمعت سيرجيو يتحرك , فأحست بالراحة
لأنها ليست وحدها , فالتفتت إليه تشهق باسمــه .
كانت الفتاة تلقي الأوامــر بكلمــات حادة اللكنة اخترقت ضباب
الرعب الذي غلف نادين . . فتمتمت باسمه مرة أخرى وكـأنه تعويذة
ضد الشر وراحت تتوسل إليه ولكن عينيها اتسعتا وكأنهما لا تصدقان ما
تريانه على وجهه من تعابير حجرية وما تسمعه من فمه :
ـ نفذي ما قـــالت لك نادين .
ألا يرى أنها لو غادرت السيارة لأصبحت أكثر عرضة للخطــر ؟
آلمتها ضحكة الفتاة الشرسة وهي ترى وجه نادين الشاحب المذعور
ـ انظروا إليها ! إنها لا تصدق حتى الآن . . لا بد أنك قمت بعمـــل
رائع في إقناعها بتقبلك سيرجيو . . إنها حتى هذه اللحظة لا ترى
الحقيقة الحمقاء الصغيرة ! . . سيرجيو شريكنــا وهو لن يساعدك .
نظرت نادين إلى وجهه القاسي وعرفت أن الأمر حقيقـــــي . أدار
رأسه , وعيناه الرماديتان تتفرسان في كل ذرة ضعيفة فيها , وعرفت
بوضوح مرعب , أن كل شيء كان مخططاً له , كل تفصيل ممل , كل
كلمة , كل مداعبة , وهي كالبلهاء وقعت في حبائله . . وليس هذا
فقط , بل أنها حاكت بكل غباء أحلاماً عاطفية بشأنه . . . أوهمت نفسها
بأن شيئاً نادراً , ثميناً , موجود بينهما . . . ودار رأسها وهي تتذكــر كيف
كانت قريبة جداً من تسليمه نفسها . . شكرت الله لأنه وفر عليها هذا
الإذلال النهائي ! تصورته , وهذه الفتاة الزيتونية البشرة ذات العينين
البنيتين , يضحكان على عذريتها الضائعة , وعلى ثقتها التي لم تكن في
محلها , مدت يدها مغشية البصر إلى مسكة الباب , لتنزل من السيارة
ولكنها تعثرت بصخرة ناتئة وكادت تقع لولا ذراعا سيرجيو ولكنها
دفعته عنها دليل كراهية مريرة . . تخبـــئ الألم المرير , تستخدم ألم
خداعه لها لتحويل الألم إلى غضب , تقول بصوت أجــش :
ضحكت الفتاة المسلحة للمرة الثانية بسخرية :
ـ آه . . سيرجيو . . لقد أفسدت عليها كل أحلامها الجميلة . ظنتك
تريدها لنفسها , ولكنك في الواقع لا تريد سوى مال أبيها . . ترى كم
من المال سيسارع لدفعه مقابل حريتها ؟ من الأفضل ألا يتأخر . . روما
تحتاج إلى دعم مالي سريع لشراء المعدات اللازمة .
صمتت فجأة تشهق ألماً بعد أن تقدم سيرجيو ليمسك بمعصميها
ويديرها لتواجهه , ويقول بصوت ثابت بارد :
ـ ولماذا ؟ ثمة طرق لمنع صديقتك الصغيرة من تكرار ما تسمعه ,
ولكن هل فقدت إخلاصك لقضيتنا يا صديقي ؟ هذا هو اليوم الثاني
هز كتفيه : (( لقد تأخرت )) .
لكن رده لم يعجبها , وانضم حاجباها الكثيفان في عبوس شديد ,
وقالت بصوت خطير تنظر إلى نادين :
ـ أخرتك هذه . . سيرجيو . .
ـ تأخرت في روما . . تذكري أننــي المسؤول هنا ليديا , وأنه من غير
المسموح لك أن تسألــــي عن تحركاتـــي . والآن اصطحبي الفتاة إلى
الآندروفر . . لقد قضينا وقتاً طويلاً هنا .
استقرت فوهة رشاش ليديا في أسفل فتحة قميص نادين , وقالت
ليديا متمتمة من بين أسنان بيضاء حادة :
ـ تعالي . . أنت جميلة ولكن رقيقة . . انظروا كيف ترتجف ! هــذا
الرشاش حساس جداً . . ارتجاف جسدك كاف لــ . .
قاطعها سيرجيو ببرود قاتل : (( لن تنفعنا ميتة )) .
كان قد تغير إلى حد كبير كادت معه لا تعرفه . فقد اختفت
الابتسامة الدافئــة والسحر السهل وحل محلهما الشر المخيف
والقسمات المحفورة حفراً .
لكن ليديا ســارعت لتوافقه الــرأي :
ـ لا نريدها ميتة ولكن والدها سيدفع فدية ابنته حتى وإن شوهناها
قليلاً . لقد أحسنت صنعاً باختيارهــا سيرجيو . . لقد قرأنا كثيراً في
الصحف عن نادين كلايتون , وعن علاقاتهــا ومال أبيهــا . .
ـ سمعنا أنك آتية إلى إيطاليا , فوضعنا خططاً دقيقة وحذرة , قال
سيرجيو إنه لا يصعب عليه كسب ثقتك . . فلديك ضعف أمام الرجال .
ـ توقفي عن إضاعة الوقت ليديا , اصحبوها إلى المزرعة . يجب
أن أعيد المرسيدس وعلي أن أراسل أباها بالتلكس , قد نرى النتائج
بسرعة . . والآن تذكري أن يظهر كل شيء طبيعياً حالما تصلون إلى
المزرعة خشية أن تكون مراقبة .
ارتفع حاجباه بسبب العداء في سؤال ليديا المتملك :
ـ لا أدري ! إن عودتــي وقف على موعد انتهاء الأمـــر .
سألته ليديا وهي تدفع بفوهة الرشاش نحو نادين :
ـ حافظي على الخطة فقط , وحذار الخشونة فلا جـدوى . .
ـ ألأنك لا تريد أن يفسد بشرتها الناعمة شــيء ؟
فجأة فهمت نادين أن ليديا تغار منها . . فما هي علاقة هذه الفتاة
به ؟ أهما عشيقان ؟ صدمها ما شعرت به من ألم ولكن أَلم يقتل اكتشافها
خدعة سيرجيو كل ما شعرت به نحوه وإلى الأبــد ؟
ـ لا تهمني بشرتها بل الثمن الذي ستضعه لها . كما عليك أن
تعرفي أن علينا أن نملك دليلاً قاطعاً على أنها ما تزال حية لأجل أبيها ,
ولهذا لا أريد أن تُمس شعرة من رأسها , على الأقل في الوقت الحالي .
سأقرر ما يلزم حين أعــــود .
نظر إلى ساعته الذهبية , وأحست نادين بالإعياء الجسدي لمجرد
التفكير في المال الذي يسعى إليه . لقد توقفت عن الوجود كآدمي
بالنسبة له , ولكن هل كانت موجودة بالنسبة له أصلاً ؟ ها قد أصبحت
ببساطة سلعة مميزة . . أما الكلمات التي تفوه بها قبل أن يتركها مع
ـ لا تحاولي فعل ما هو متهور . . لدى ليديا الأوامر بإطــلاق النار
عليك إن حاولت الفرار . إنما ليس الأمر أن تقتلك بل أن تجعل ساقيك
أقل جاذبية وذلك بأن تغدوا محطمتين .
صعُب على نادين كبح الذعر , فضحكة ليديا الشرسة أخفتها فقط
رعدة محرك المرسيدس , التي التمع طلاؤها البراق في الشمس قبل أن
تسلك الاتجاه الذي سلكته منذ وقت قصير .
كان هذا إحياء حقيقــي لأسوأ كوابيسها . . هبوط مباشر من الجنة
إلى الجحيم . . . صرخ بها كل عصب بذعر مجنون فقاومت رغبة في
الارتداد على عقبيها للفرار ولكنها تعلم أن فرارها سيكون دعوة سهلة
لرد ليديا الذي ستنفذه بكــــل سرور .
وفيما كانت واقفة تحت حرارة الشمس , أمسكــت الحقيقة الباردة
بكل مشاعرها الضعيفة . . الحب والرغبة سحقا سحقاً رهيباً , أمام رغبة
حارقة في الانتقام . ليس بسبب الاختطاف فحسب بل بسبب الطريقة
التي تم بها الاختطاف , وبسبب الطريقة التي استخدمها سيرجيو
للوصل إلى حياتها , وبسبب ضعفها وانكشاف مواقع تعرضها للخطر
أمامه . لقد استغلها ببرود , وجرأة , وستجعله يدفع الثمن غالباً حتى
ولو اقتضاها ذلك سفك آخــر قطرة دم من دمائها ! استحوذ عليها فجأة
ظمأ للانتقام , محا كل خوف وذعر من نفسها وأعطاها القوة لمواجهة
هذه الوجوه الباردة , ورشاشاتهم القاتلة .
والدها مليونير وهو سبب يبرر اصطيادهم لها , ولكن معظم ثرائه
مرتبط بأعماله , فهو وإن استطاع جمع الفدية المطلوبة , لن تخرج على
قيد الحياة . . فقد قرأت قدرها ومصيرها في عيني خاطفيها . . كم من
الضحايا عانت من الوضع ذاته ؟ وكم منهم أطلق سراحهم ؟ تذكرت
صديق والدها مثلاً . لقد اختطف وقتل . . وهي الآن تواجه خيارين : إما
الاستسلام للذعر الذي ينتشر في داخلها , أو الاحتفاظ بآخر ذرة من قوة
احتمالها لتزعزع ثقة خاطفيها بأنفسهم . إنها الغريزة نفسها التي جعلت
أباها يرتقي من حالته المغمورة نسبياً , إلى المركز الذي يترأسه الآن .
انتشرت في نفس نادين الحاجة القديمة للحياة والبقاء , وكان أن
اتخذت القرار , وهي تسلك الاتجاه الذي أشارت إليه ليديا بسلاحها ,
ولسان حالها يقول : البقاء حية أفضل انتقام . . ! وهذا ما ستتمسك به
فعليهــــا أن تعيش , وستقــــدم للعدالة كــــل من شارك في
الجريمة بحقها . . أما سيرجيو فسيكون الانتقام ألذ ما ستتجرعــه من
شراب , وراح عقلها يفكـــر بسرعة بحثاً عن وسيلة للهرب , متجــاهلة
صمت البندقيتين المصوبتين إلى ظهــرها .
نهاية الفصــل (( الثانـــي )) . . .