ظــل الدم ينزف ببطء طـوال الطريق إلى البلدة الصغيرة . . كان
سيرجيو يقود السيارة بسرعة وحذر وفيما كانا يمران بالطريق الساحلي
أمام الفيلا , تذكرت نادين تلك المناسبة والمشاعر المعذبة التي
الآن ماتت تلك المشاعر الرقيقة كلها . فكرت مرتين أو ثلاث
مرات , في رمي نفسها من السيارة , ولكن الدم الذي نزفته أوهن
عزيمتها هذا دون ذكر ضغط أصابع سيرجيو التي اشتدت على
ذراعها . . أصبحت مقدمة قميصه الذي ترتديه مشبعة بالدماء ولكنهما
كانا قد وصلا إلى القرية الصغيرة المغبرة الطريق , المثالية في إيطاليتها
بشوارعها الضيقة , ومبانيها الطويلة , المليئة بالغسيل المنشور ,
وبالجدات الجالسات خارجاً وهن يراقبن الأطفال , بدون أن يزعجهن
غاص قلب نادين عندما دخلا إلى ما بدا لها أفقــر حي في البلدة ,
وتوقف سيرجيو خارج مبنى متداع طلاؤه . وقال لها :
ـ الطبيب روسيني كان أبرع جراح , ولكنه لسوء الحظ أدمن على
الكحول . سأخبره بأنك زوجتي وبأن جرحك حدث جراء خلاف
عائلي . ما زالت إيطاليا مجتمعاً يسيطر فيه الرجل , وعليه سيُعتبر ما
تقولينه هستيريا نسائية بحتة . أما الآن فيستحسن أن ترتدي هذا .
أعطاها سترة خفيفة الوزن , لونها كلون عينيه . حينما رآهـــا تكافح
من أجل الوقوف ساعدها على ارتداء السترة وعاملها وكأنها طفلة
صغيرة . . كانت باردة أكثر مما تحس , لذا رحبت بدفء السترة ,
خاصة عندما اكتشفت أن ما قاله لها عن الطبيب صحيح .
تعمد الإسراع بها أمام امرأة منتظرة , وشدها إليه بحيث شعرت
بالمسدس الذي يخفيه تحت سترته , وقاطع الطبيب الذي كان يتحدث
مع أحد مرضاه . أمام إصرار سيرجيو , أُدخلا إلى غرفة فحص رثة ,
وطلب من نادين نزع قميصها .
نظرت إلى سيرجيو نظرة ممعنة , فأدار ظهره أما الطبيب فــــراح
ـ همم . . إنه جرح نظيف , وهو غير عميق . ســـأعطيك بعض
المراهم وبعض الأقـــراص .
كتب الوصفة وأعطاها لـ سيرجيو ثم قال لـ نادين بمرح :
ـ في المرة القادمة , كونـي ألطف معه . هه ؟
توقعت من سيرجيو أن يعود بها مباشرة إلى المزرعة ولكنه ويا
للدهشــة , أوقف اللاندروفر خارج فندق صغير , وأمسك بذراعها وقادها
ـ سنبيت ليلتنــا هنا . وفي هذه الأثناء سنسجل الشريط لوالدك أما
غداً صباحاً فــأعود بك إلى الطبيب ليعاين جرحك .
ـ ألا تخاف أن أفر منك ؟ خــاصة وأنه ليس هناك أحد يحرسنــي
ـ وكيف يمكنك الفرار ؟ وليس معك مال أو جواز سفر . . إلى أين
ضحك , فأغاظتهــا برودته . وأكمــل : (( لا أظن هذا )) .
ربت على سترته بطريقة تكشف ما يخفيه ثم دخلا إلى الفندق وهو
ما يزال ممسكاً بذراعها . تقدم من الاستعلامات وسمعته يحجز غرفة
بسريرين وظلت هي جامدة وتفكيرها يدور في دوائر مرهقة مذعورة
سعياً إلى وسيلة لقلب الموقف لصالحها . . وسمعته يدون اسمها ثم
يسجل اسمها على أنها زوجته . نظرت إليه بسخط , تهمس بقسوة وهو
ـ لن أشاركك غرفة . . أكرهك !
رد بصوت ملؤه الملل ونفاذ الصبر :
ـ لا تكوني ساذجة . . وإياك أن تظنيني لينو !
امتقع وجهها بشدة وهو يحدجها بنظرة من رأسها إلى أخمص
قدميها . هي ما تزال ترتدي قميصه , وبنطلون الجينز , وكان شعرها
نظيفاً ولكنه يحيط بوجهها كيفما كان . ردت بغضب :
ـ لا . . أعتقد أنك تفضل ليديا !
ارتفع حـاجباه : (( صحيح ؟ لماذا ؟ )) .
تلعثمت برهة من الزمن ثم انطلقت تهمهم بكــلمات غير مفهومة .
ـ حسناً . . إنها . . إنها امرأتك . . أليست كذلك ؟
نظر إليهـــا وما أدهشها أنه توقف .
عاد بها إلى البهو ومنه إلى الخارج . . هناك وتحت أشعة الشمس
القوية غشي بصرها , فتعثرت , فالتفت أناملها تتمسك بساعده . .
ولكنها شعرت بأنها تمسك حديداً لا يلين ولا يلتوي أبداً .
حسبته غير رأيه , وقرر عدم المخاطرة بالبقاء في البلدة تلك
الليلة , ولكنه لم يرد عليها , واضطرت أن تزيد سرعتها لتلحق بخطواته
الواسعة , كانت قبضة أصــابعه حول ذراعها كالكماشة .
تجاوز مكان اللاندروفر , ودخل بها إلى جزء من البلدة لم تره من
قبل . . هي لم تزر بلدة مونتي فينو قط أثناء رحلتها إلى الفيلا لأنها تقع
في قلب البلاد وطالما فكرت أنها لا تستحق الزيارة . . ولكنها أدركت
الآن أن (( البيازا )) أي الساحل بكنيستها القديمة ومبانيها التي تعود
للعصور الوسطى كانت تستحق نظرة عن كثب . ولكن سيرجيو لم
يتوقف ليتأمل هندستها , بل توجه رأساً إلى محلات صغيرة تقع في
رواق مسقوف معتم , وتوقف خراج أحد المحلات .
كان في الواجهة فستان من الكتان البسيط , تفصيلته مذهلة وثمنه
معقول . ويا للدهشة , أدخلها إلى المحل , وتكلم مع الفتاة التي أتت
تخدمها وهي تتحدث الإنجليزية , وسمعته يقول إنهما سائحان جاءا إلى
ـ وقع لزوجتي حادثة وهي بحاجة إلى أن تبدل بلوزتها بأخرى .
راقبت نادين بصمت وذهول عدة ملابس تُعرض أمام سيرجيو ,
واعترفت مرغمة بأن ذوقه رفيع فقد اختار لها بلوزتين من الكتان
إحداهما زمردية اللون والأخرى بنفسجية وكلتاهما تناسبان لون
قالت الفتاة وهي تخرج تنورة بنفسجية :
ـ هاك تنورة تناسب هذه البلوزة .
وأخرج حفنة سمكية من أوراق اللير الإيطالي مبتسماً تلك
الابتسامة التي أسرت قلب نادين مرة .
فيمــــا كـــانت الفتاة تحضــــــر الفاتورة تحركت نادين
سيرجيو أحـس بما ستقدم عليه فأمسك ذراعها وبرقت عيناه تحذرانها .
ثم خرجا إلى الرصيف الحــار وكان أن ولت اللحظــة المناسبة , وولى
تمت عودتهما إلى الفندق بسرعة وكفاءة . . وفي غرفتها أخرج
سيرجيو صحيفة , وآلة التسجيل الصغيرة التي استخدمها من قبل . .
وقال يأمر نادين بخشونة بعدما أعطاها الصحيفة :
أرادت الرفض ولكن عدم فائدة الرفض طغى عليها بموجات كئيبة
ساخطة . . فأخذت تقرأ لمدة عشر دقائق قبل أن يوقفها سيرجيو ,
ويعيد الاستماع إلى الشريط , ثم ينتزعه من الآلة , ليضعه في مغلف :
ـ عظيم , قد يشجع هذا والدك على الإسراع . يكــاد ينفذ صبر
ـ في حين أن شيئاً لا يهز صلابة صبرك . . يدهشني أنك لم تطلب
بضع صرخات ألم ورعب للزيادة في التأثير .
أدهشها ظهور خطوط خفيفة من الاحمرار على وجهه . إذن فهو
يملك نقطة ضعف . فتحت فمها لتدق أكثر على النقطة الحساسة لديه
ولكنه رماها بالبلوزة والتنورة , مشيراً إلى حمام صغير .
ـ حينما تجهزي ناديني لأضع المرهم الذي وصفه الطبيب .
نظرت إليه نادين , وحرارة غريبة تطغى على بشرتها . . . كان
الجرح تحت الصدر مباشرة وهو يمتد في لحمها الطري حتى البطن . .
في داخلها ما ارتجف للتفكير بيدي سيرجيو وهما تلمسان بشرتها . .
ولكن حاجبيه ارتفعا بسخرية وازدراء وقال بصوت حاد خبيث :
ـ بالطبع تستطيعين هذا . ولكن هل ستدهنين الجرح فعلاً ؟ لا
أستبعد أن تتناسي لتقعي مريضة ويتم لك بذلك مراوغتنا , والهرب .
لم تستطع نادين الإنكار بأن الفكرة خطرت ببالها , و فضحتها
عيناها . فلو تركت نفسها تمرض وتموت , وطلب والدها برهاناً آخر
على أنها حية لحال موتها دون حصولهم على المال , على الأقــل ,
ـ هكذا , وبما أنني لا أثق بك , ســـأتأكد من إتمام المهمة بنفسي .
كانت قد دخلت إلى الحمام حين أضـــاف :
ـ ارتدي البلوزة والتنورة البنفسجيتين . . فأنا أذكر أن ساقيك
جذابتان هذا عدا أشياء أخرى مغرية وجذابة .
قررت نادين تجاهل طلبه وارتداء الملابس التي خلعتها ولكن
عندما خرجت من نعيم الدوش الدافئ والتقطت قميصه و وجدت أنه
يحمل بالإضافة إلى تلطخه بالدم , رائحة رجولته التي ما تزال تعشش
في القماش . فرمته عنها بسرعة , ونظرت إلى البلوزة البنفسجية التي
كانت تلتف حول الجسم والتي لها ياقة واسعة , وأرداف ضيقة . . كان
الجرح ظاهراً بفظاظة على بشرتها السمراء بفعل الشمس وكانت أطراف
شعرها المبلل المجزور , تنسدل بنعومة على وجهها فتزيد من استدارة
عندما خرجت إلى غرفة النوم و كانت ترتجف بفعل شعور صعُب
عليها تفسيره . كان سيرجيو مستلقياً على أحد السريرين , يقرأ
الصحيفة . فسارع للوقوف حين دخلت وراحت عيناه تتأملانها في هذه
ـ إنها تليق بك . إنما أظن أننا بغنى عنهما ما دام علي الاعتناء
مــد يــده بحــــزم إلى رباطــــات البلوزة , يحلهــــا
منعه . . واحترق وجهها بحرارة الدم المتصاعد , وتراجعت إلى الوراء .
تجاهل سيرجيو الحركة و وأمسك كتفها ليوقفها في مكانها ثم راح
يدهن المـــرهم فوق الجرح المؤلم . . هذه الأصــــــابع , التي لم تفعل
الآن سوى معاقبتها , كانت تريحها بشكل غريب , تنشر المرهم
الملطف على بشرتها الحارة . . وشعرت باسترخاء غريب .
التقطت الحدة في لفظ اسمهـا , ولكن الغرفة بدأت تميــد بها بشكــــــل
غريب . . أصابع سيرجيو وعيناه السوداوان القلقتان هما الحقيقة
الوحيدة التي تحس بها . . ثم احتجب كل شيء , سيرجيو والجرح
والغرفة , فقد هاجمتها دوامة من الدوار وانفتحت أمامها بحيرة سوداء
وكان أن تعثرت وراحت تغرق و تغوص ثم تعاود الطوفان بلذة فوق
كان أول ما وعته نادين حين فتحت عينيها غرابة ما يحيط بها . .
رفرفت عينيها أمام أشعة الشمس القوية , المتدفقة من النافذة ونظرت
ببطء حول الغرفة . . لا شك في أن كابوس اختطافها لم يكن سوى
كابوس ولكنه كان واقعياً جداً . . عبست لدى سماعها خرير المياه في
الحمام , ثم وقع نظرها على البلوزة والتنورة اللتين كانت ترتديهما
الليلة السابقة , وسرعان ما فهمت ما حدث . . لا تذكر أنها خــلعت
ملابسهــا . . وهذا يعني . .
تسمرت لأنها تعرف أنها شبه عارية تحت الغطاء وصاحت عن غير
ـ لقد أغمي عليك , وبدا لي من المؤسف أن تفسد ثيابك الرائعة .
وهي ليست المرة الأولى وأشك في أن تكون الأخيرة . . مع أن نسائي لا
جعلتها ضحكته ومعرفتها بأنها أسيرته تشعر بالغضب الشديد .
ـ أنا لست إحدى نسائك , وأعترض أن تصفني وكأننــي إحداهن .
تجهم وجه سيرجيو , وضاقت عيناه وهو يدفع كتفيه عن الباب ,
ويتقدم ببطء إلى السرير . . حاولت نادين إبعاد عينيها عن رشاقته
وقف قرب الـسرير ولما رأت الغضب البارد في عينيه ذعــرت :
ـ إذن أنت تعترفين ؟ لماذا . . عجباً ؟ لأنك لا تستطيعين التحكم بي
كما تتحكمين بالآخرين ؟ أم أن السبب أنني انتزعت الاستجــــابة التي لم
ـ أنت لم تنتزع منــي شيئاً !
خرجت كلمات الإنكار منها لا إرادياً , ولكنها شهقت عندمــــــا
شعرت بالسرير يتقلص تحت ثقله من جراء تثبيته ذراعيها على جانبي
السرير , قال لها وهو يتأمل وجهها المتورد : (( لا ؟ )) .
كانت سخريته وعدم تصديقه تطغيان على كلماته الهامسـة . .
انتفضت نادين حين انحى فوقها . وأدارت رأسها بجنون من جانب إلى
آخــر لتتخلص من عناقه الذي يريد منه أن يثبت كذبتها . ولكنها في
الواقع كانت تقاوم المشاعر التي صدمتها .
ـ توقفــي عن تمثيل دور العــذراء !
كانت الكلمات ساخرة أكثر منها غاضبة .
استجابت رغماً عنها لعناقه ولم تستطع فعل شــيء حيال الأمـــر . هذا
هو الثمن الذي ستدفعه بسبب افتقارها إلى التجربة . . المرأة التي تملك
تجربة سابقة لا تكون عرضة للخطر من مجرد لمسة صغيرة , كمـــــــا
لأننـي أكــرهك كثيراً . أكرهك وأحتقرك !
طغت التسلية على الغضب اللامع في عينيه , ولكن لم يكن لدى
نادين سوى لحظة واحدة لتتساءل عن سبب غضبه , كانت يداه
القاسيتان تمسكان برأسها بحيث أصبحت غير قادرة على الحراك
تأوهت من أعماق حنجرتها محتجة , تحاول دفعه عنها , ولكنه كان
أقوى منها . وأحست رغماً عنها بالاستجابة له في أعماقها .
فانسل اسمه من بين شفتيها برجاء , رجاء استغاثة ولكن لمــا
تصلب جسمه وتركهــا ببطء هز رفضه كيانها كله .
ـ الأفضــل أن ترتدي ثيابك . . يجب أن نعود إلى المزرعة .
كانت كلماته باردة وإشاحة وجهه عنها ضربة مؤلمة لها . أرادت
أن تغضـــــب وتصيــــــح . . أن . . أن مـــاذا ؟ وتعالـى
معدتها . . أي نوع من النساء هي ؟ وهي التي تباهت دائماً بقدرتها على
كبح مشاعرها وعلى رفض مشاعر الإثارة الرخيصة . . ومع ذلك , هي
هي , تعاني من أسوأ أنــواع الألم والإحـــباط مع رجــل تكرهه وتحتقره .
ما لذي يحدث لهــــا ؟ لقد قـــرأت قصصــاً عـن العلاقـة المثيرة التي
بين الخاطـــف والمخطـوف . . وربما هي الآن تعاني منها . . مع ذلك فهي
تكرهه . . ويجب أن تحتقــر نفسها لهــذا . . كانت مشاعرهـــــا
محبطة لأنه أعطاها ظهره ووقف يلتقط قميصه , ويرتديه .
ـ هاك . . خذي هذا وارتدي ملابسك .
استدارت في الــوقت المـناسب لتلتقط الثياب التي رمـــاها لهــا
وجهها قرمزياً من الخجل . أمسكت البلوزة وســارعــت إلى الحمام ,
حالما أدار ظهـــــره لها .
عندمــــا خرجت من الحمـــام , وجدت الفطــور في الغرفــة . .
القهوة لذيذة بالنسبة للطعام الذي يتناولانه في المزرعة , فشربت عدة
فناجين قبل أن تدرك بأن سيرجيو أنهى فطوره وهو ينتظرهــا . أرادت لا
إرادياً إطالة الوقت معه لأنها ارتجفت لمجرد التفكير في المزرعة وما
ـ تعالي . . يجب أن يعاينك الطبيب , وأنا أريد إرســـال الشريط إلى
أبيك . لقد نفذ حتى الآن كل ما طلبناه منه . . وأتمنى أن يستمر في هذا
نظر الطبيب إلى الجــــرح باستغراب , وقال لـ سيرجيو إنه يتماثل
للشفاء بشكــل سريع . كان سيرجيو قد أصر على مرافقتها إلى عيادة
الطبيب , قائلاً إن الطبيب لن يستغرب الأمــر فالرجــال الإيطــاليون
يكرهون ترك نسائهم مع الرجال , وسيفهم الطبيب لماذا لا أريد أن
يكون وحده مع زوجتـــي الجميلة .
آلمتها هذه الملاحظــة كثيراً كانت تعلم أنها تبدو غير جميلة بشعــرها
المشعث وبوجههـا الخالي من الزينة , لذا لا داعي إلى أن يذر الملح
حين غادرا عيادة الطبيب اقتادها نحو ساحة (( البييزا )) حيث اشترى
لها ملابس أخرى . راقبته نادين وأفكارها تتقاذفها بسبب الأحداث التي
أوصلته إلى وضعه الحالي . من الواضح أنه مثقف وذكي وقوي وقدرته
على السيطرة على العصابة دليل واضح على قوته وذكائه , وهذا بحد
ذاته ليس مهمة سهلة . إن رجلاً يملك صفة القيادة قادر على القيام
بأعمــال شرعية ناجحة . فلماذا اختار العيش خرجاً عن القانون ؟ أهو
تحدي الحياة والرغبة في العيش قرب الخطر ؟ أم أن المال هو ما يروق
له ؟ الجواب أمر قد يستحيل عليها معرفته . . أحست أنه يجرها إلى
مبنى صغير عرفت أنه مكتب البريد .
راقبته وهو يرسل الشريط إلى والدهــا , وامتلأت نفسهـــا بإحســاس
غامر من الحنين إلى بيتها ووطنهـــا . فترقرقت الدموع في عينيها ولم
تحاول منعها فانسلت قطرات منها على وجههــا .
تناولت المنديل منه لتجفف عينيها , في هذه الأثناء رأت شرطيين
يدخلان إلى البناء . كان سيرجيو قد تركها لتجفف دموعها فبدأت بتهور
تعدو إلى الأمام وآمالها منصبة على الوصول إلى الشرطيين .
كانت تسبق سيرجيو ببضع ثوان فظنت أن هذه الثواني كافية ولأنها
صغيرة الجسم اعتقدت أنها قادرة على التسلل بين الحاضرين , وهذا ما
لا يستطيعه . لكن , ما إن وصلت إلى الهدف حتى أحست بيديه تطبقان
عليها , وتشدانها إلى الخلف , حين استدارت لتواجهه بشدة كان وجهه
قناعاً بارداً من الغضب كــاد يفقدها توازنها .
نظـــــر الشرطيان إليهمــا , كمـا فعــل آخـــــــرون .
لتطلب العون , ولكنها صاحت ألماً حين تركت يد سيرجيو أثرها على
إنه للمرة الثانية يؤدبها جسدياً مع أن الألم هذه المــــرة لم يكن
كبيراً , فالصدمة كانت أقوى من رد فعلها فقد لاذت إلى الصمت . تكلم
سمعته يقول للشرطيين الفضوليين :
ـ إنها تقـــــابل رجــــلاً آخــر . . ابن عمــــــي لا غيره
بالأمــر , تنكــر مع أن جميع أبناء قريتي رأوها معه !
ضحك الشرطيان وعلقـــا على الأمــــر بكلام دفــــع
أزعجها مزاحهمـــا الوضيـــع ولكن إيطاليا بلد يحكـــمه الرجال فإن
هنا قادر على تأديب زوجته علناً بدون أن يفكــر أحد في التدخل .
كانت قبضته تؤلمها عندما راح يجرهــا إلى الخــــارج ولم يتوقف
حتى اتخذ طريقاً ظهر فيه اللاندروفر وقال لهــا :
ـ حاولي شيئاً كهذا ثانية , وستشعرين بوخـــز الرصاص , لا براحة
يدي . . يا إلهي ! إنك تتحدين صبري إلى أقصــى حد ! ماذا كنت
ـ كنت أحـــاول كسب أثمن ما في الوجود . حريتي . . .
ـ ألهذا لم تتزوجــي قط ؟ ألأن (( حريتك )) تعني الكثير لك ؟
ردت ساخرة , لتعوض كرامتها عن الضربة التي سددها إليها :
ـ ألست ساذجاً قليلاً ؟ إذا أراد المرء يستطيع أن يجــد حريته وحرية
رغباته فـي الزواج أيضـــاً .
ـ إذن , ربما لم تجدي من يرغب فيك , على أســــاس هذه الشروط ,
وأنت صاحبة السمعة المشبوهة . كمـــا يقال . . .
ـ صاحبة السمعة المشبوهة ؟ ألم تسمع بالمـســاواة النسائية ؟ قد لا
يرغب كل الرجال بالطاهرات من النساء , العديمات الخبرة .
ـ ربما لا يرغبون فيهن كـعشيقات أمــا كزوجــات فالأمــــر مختلف .
أغضبها غروره الذاتي , وأرادت أن تقـــول له إنها لم تتزوج بسبب
حلم سخيف يراودها وهو يتعلق ببحثها عن رجــل تحترمه وتشرفه ,
وتحبه , رجـــل يظهر فيها أنوثتها دون أن يسيطر عليها أو يخمد روحها
المتحفزة . . وها قد آمنت بأن لا وجود لمثل هذا الرجــل .
لم يحدث أثناء العودة إلى المــزرعة شيء يذكر مع أنها كلما اقتربا
من سجنها كانت تشعر بالرعب يتزايد وعندما بلغا وجهتهما غاب عن
تفكيرها كل شيء إلا الموت الوشيك حدوثه .
حياتها آمـنة ما دام والدها يسعى إلى جمع الفدية . . إنها واثقة من
هذا . . لكن ما إن يعرف الخاطفون بأنه سيدفعها حتى يتخلصوا منها
دونما رحمة . . فكيف يتركونها حية وهي قادرة على التعرف إليهم فيما
بعد ؟ لا شك في أنهم يعتقدونها بلهاء , خاصة سيرجيو الذي يسلي
نفسه بها ويتلاعب بـمشاعرها رغم علمه بمصيرها النهائي .
استقبلتهما ليديا بصمت غاضب . وكــان على فك لينو كــدمة شديدة
حية , وفي عينيه غضب وحـــشــي , حين نظر إليهما وهذا ما زاد من
مخاوف نادين . . وحده بيدرو لم يتغير .
كانت ليديا مشاكسة بضراوة , عيناها تتفرســـان باستمرار في وجه
نادين التي لا تعرف عما تفتش عنه في وجهها ولا تهتم . لا بد أنها
لاحظت البلوزة والتنورة اللتين ترتديهمــا وعندما رد عليها سيرجيو
بالإيجاب أضافت بعدائيــة :
ـ أتركتها تدخل المحل بمفردهــا ؟ ألم يكن في ما فعلته مخــاطرة ؟ أم
أن لديها عذراً للبقاء معنا لا نعرف عنه شيئاً ؟
تصاعد الدم إلى وجه نادين وقال سيرجيو بتشدق :
ـ لم تدخل إلى أي محل بدونــي , اشتريت الثياب لها , فما كانت
ترتديه كان ممزقاً وملوثاً بالدماء , فقررت استبدالها بثياب أخرى لئلا
تلفت أنظار الناس . فما من أحد يتساءل عن وجود شخصين غريبين في
إجازة ولكن رؤية رجل يرافق امرأة ترتدي أسمالاً بالية ملطخة بالدماء
لم يسعد هذا الرد ليديا ولكنها لم تستطع التفكير في انتقادات
أخرى تتغلب بها على منطق سيرجيو السليم . وما استطاعت نادين
أيضاً , فمنذ استيقظت هذا الصباح ساورتها مشاعر متشابكة متصارعة
لم تستطع السيطرة عليها . . كان في عيني سيرجيو هذا الصباح نظرة
غضب ممزوج بشيء آخــر . . . وكأنه إعجاب ممزوج باحتقـــار نفسي .
ولولا بعض الحكمة المتبقية لديها لافترضت أنه نادم على المشاركــة في
اختطافها . ولكنها ليست الضحية الأولى التي يتورط في اختطافها بهذه
الطريقة , ولا يمكنها أن تغتر بنفسها فتوهمها بأن مشاعره تجاههـــا
مختلفة عن مشاعره تجاه الآخرين .
جرت وجبة المساء بصمت فقد كانت ليديا طوال الوقت ترمق
سيرجيو ونادين بعينين غاضبتين مراقبتين . وكان سيرجيو يلاحظ
مشاعرها ولكنه تجاهل نظراتها الشرسة إليه , وتساءلت عن سبب
تصرفه هذا . خاصة وأن على الزعيم أن يحافظ على علاقة طيبة مع أفراد
العصابة . بعد الطعام لاحظت نادين أن ليديا توجهت إلى لينو مباشرة ,
كما لاحظت أنهما راحا يتحدثان بصوت خفيض أما سيرجيو فكان يقرأ
الصحيفة التي حملها من البلدة . أخذت نادين تنظف المائدة أمام أنظار
بعدما نظفت الصحــون , وبدأت تجففهــا , قال سيرجيو :
ـ دعي عنك هذا . . فلينه لينو و ليديا هذا العمل . كيف حــــال
جرحك ؟ أتتناولين الدواء ؟
هزت رأسها إيجابــاً , فالجرح كان يندمل بسرعة مذهلة . . ولكن
اهتمام سيرجيو الواضح أقلقها . لماذا يظهر مثل هذا الاهتمام الشديد
بصحتها ؟ أيحاول هدهدة مشاعرها وبعث اطمئنان زائف إليها لغرض ما
في نفسه ؟ أيشعر بالبهجة عندمــا يدفعها إلى الثقة به ؟
مرت أربعة أيام حين اكتشفت نادين أن مزاج خاطفيها بدأ بتغير
بشكل خطير . . فكلما ذكروا مبادئ منظمتهم كــانت كلماتهم تلذع
وتشجب حضارتها بقوة , حضارة أخذوا على عاتقهم أمــر تدميرها .
وذات صباح التفتت ليديا إلى سيرجيو تســأله بشراســة :
ـ لماذا لم نسمع شيئاً من أبيهــا حتى الآن ؟ لقد مر وقت كــاف . ربما
لا يحمل تهديدنا على محمل الجـد . لم نواجه قط مثل هذا التأخير .
ـ نحن نعيش في الحاضر , وأنت تعرفين أوامـــر رومــا . . أنــا
قـــاطعه بيدرو غاضبــاً :
ـ ليديا على حق . . ربما حان أن نسرع الأمـــور قليلاً . . لا يمكن
البقاء هنا آمنين وقتاً طويلاً .
قالت ليديا وكــأنها تقترح حلاً :
ـ أقترح أن نرســل لأبيها ما يذكره بأن ابنته عرضة للخطــر . ربمــا
يجب أن نذكـره برباط الدم بإرسالنـــا مــا هو ملموس أكثر من شريط
تسجيل . فقد دفعــــت عائلـة الصبـــي كــلارك فديتــه
صــــاح سيرجيو آمـــــــراً :
ـ كفى , لن أستمع إلى المزيد ! أنا المسؤول عن هذه العملية , وأنــا
من يقرر الخطوات التي سنتخذها . وعليكم أن تتبعوا أوامــري !
ســاد الصمت وهم يصغون إليه . . وتجمع غثيان خوف على مــعدة
نادين وهــي تفكـــر في تهديد ليديا .
كيف سيشوهونهــا ؟ ببـــتر أصبع أم أذن ؟ الفكرة بحد ذاتها دفعت
العرق البارد إلى جسمها , ولكنها رفضت الاستسلام للذعــر كما رفضت
أن ترضي غرور ليديا عندما ترى الذعــر على وجهها .
كانت تعلم بتفاصيل ما حدث لحفيد جاك كلارك , لأنهـــا قرأت
القصة كاملة في الجريدة وهي تذكر أن أباها علق على الأمــر مع أنها
كانت صغيرة يومذاك . وكان خـاطفوه قد قطعــوا أذنه وأرسلوها إلى
عائلته . . وقد افتدى وعــاش ! ليتها تستطيع الهرب ! ولكن كيف ؟
فالهرب مستحيل , ولكنها تتوق إليه وهو يسيطــر على كافة أفكارها .
شعرت الآن بالرعب من التهديد الذي أطلقته ليديا . . ومضت
الأيام وفي هذه الأثناء شـاهدت نادين ليديا ولينو مرتين يتحدثان أثناء
العمل , بهمــس منخفض . . أيخططـــان لتــجــاهــل أوامــر
ولاغتصاب سلطته ؟ كانت تحس بتغيير ما في ليديا فقد أصبحت قاسية
مع سيرجيو , وشعرت بأنه الوحيد الذي يحميها من حقد لينو لذا كانت
تشعر كلما اختفى سيرجيو عن الأنظــار بالقلق مما قد يحدث لها . . فهي
تستبعد أن تنفذ ليديا تهديدها فتقوم بتشويههــا رغم إرادة سيرجيو
الذي لن يقدر على فعل شيء بعدما ستنفذ المرأة رغبتها . حاولت ألا
تتصور عذاب أبيها حين يستلم مثل هذا الدليل على محنتها .
لم تستطع لمس وجبة المساء , وكانت حركاتها كسولة غير
مبالية . . . أحست أكثر من مرة بنظرات سيرجيو تنصب عليها , لكنها
رفضت النظر إليه . وعندما نهضت عن المائدة , فجأة , دفع كرسيه
بحركة خرقاء , فطـارت عيناها إليه فسمعته يقــول :
ـ بيدرو . . يبدو أن ضيفتنا تحتــاج إلى هواء نقــي . . تمشى معهــا
حتى النهــر ثم عد بهــا .
ـ ألن تصحبــهـا بنفسك ؟ لا تقــل لـي إنها صدتك ؟
انقلبت على ما يبدو , رغبة الإيطالية فيه إلى كراهية في وقت قصيــر
جداً . . أم أن ليديا , تخفــي مشاعرها الحقيقية بادعاء الازدراء ؟
كان الظلام قد حــل , ولكن الهواء الاستوائي كان ناعماً ودافئاً . .
لذا شعرت بالخوف من العودة إلى غرفتها الصغيرة . ولما فكرت في
الفرار وجدت أن ذلك مستحيل فبيدرو يمشي وراءها وهو على أتم
الاستعداد للانقــضاض عليها .
كان النهر أمامهــا مترقرقاً . فسارت نادين على ضفة النهر عدة
أمتار , ثم توقفت فجــأة لأنها لمحت سيرجيو يتقدم إليهما من الاتجاه
المقابل . يبدو أنه هو أيضاً كذلك , رغب في تنشق نسيم الليل العلي
ولكنه حر في أن يفعل هذا متى شاء , التوت شفتاها بمرارة لهذه
قال سيرجيو للرجـل الآخــر وهو يتوقف أمامهما :
ـ بيدرو , أريد منك أن تلقي نظرة على اللاندروفر . . فالمحرك
ـ ســأجربه الآن , وفي الصباح ألقي عليه نظرة أخرى .
ـ عظيم , لا نخاطر بالبقاء بدونه .
فيما كان بيدرو يتسلل مبتعداً في الظلمة وقفا وحدهما , وأحست
نادين بارتباك غريب . وراحت تنظــر إلى النهر ولكنهــا كانت تشعر
باستياء مرير بسبب لمسة يد سيرجيو الذي أشــار إلى أن وقت العودة قد
أزف . كــان المنزل السجن وراءها والنهـــر أمــامهـــا والحرية خلف
اجتاحتها رغبة غريزية تغلبت على كــل حذر وخوف . . وبدون أن
تفكــر هرعت نحو النهر , وليس في ذهنها خطة واعية متبلورة . . بل
فاجأت حركتهــا سيرجيو , وسمعته يشتم ويلعن بـــصوت ناعم
خلفها . ولكنها أصمت أذنيها عن صوت ملاحقها وحثت خطاهـا إلى
أقصى حد . سجنها القصري جعلها خفيفة الوزن , ولكن خفة وزنها لم
تجعلها تسبقه كثيراً . . لأن سيرجيو كــان قوياً وذا قدرة هــائلة تفتقر
رفضت الاستسلام حتى وهي تعلم مسبقاً عدم فائدة ما تفعــل ,
كانت تعذب جســدهــا إلى درجة كانت معها تصرخ احتجاجاً ولكنها لم
تكن تعبأ بشــيء حتى بالانهيار . . الفكرة الوحيدة التي كانت تضج في
رأسهــا هي الحاجة إلى الهرب والرغبة في أن تبتلعها الأرض لتصبح
جزءاً منهــــا . . جزءاً حـراً !
نهاية الفصل (( السادس )) . . .