8- ليلتهــــا الأخيــــرة * *
كانت نادين مستقلة على الفراش الضيق في غرفتها التي عمها
الظلام ولكنها كانت ترى نور القمر يتسلل من النافذة . استوت على
السرير , فعاد كل ما جرى إلى ذاكرتها . . وبدأت ترتجف وتبتلع ريقها
بصعوبة لترد الغثيان الذي ارتفع إلى حنجرتها التي بانت عليها
الكــدمات أقوى , وبلوزتها تتدلى ممزقة .
يا الله ! ارتجفت لمجرد التفكير في ما كان سيصيبها . استوت على
فراشها محتبية تلف ذراعيها حول ركبتيها وتضع ذقنها عليها . وترت
الطرقة الخفيفة على الباب أعصابها ولكنها لمحت وجه سيرجيو
المتجهم المطبق , فأدارت وجهها وهي ترتعد من شعورها بالغثيان من
جديد . ولكن مشاعرها انعكست في عينيها قبل أن تطبقهما مجدداً ,
لتخفي ما فيهما عن الرجل الواقف في الباب والحامل قصعة صغيرة في
يده , والمرهم في الأخرى .
نطق اسمها وكأنه ينادي مخلوقاً يعيش بعيداً عن حضارة الإنسان .
كان صوته متزناً , ناعمــاً عندما اقترب من السرير :
ـ لا بأس عليك أبداً . . لا أريد أذيتك . . أريد فقط أن أعاينك
لأتأكد من اندمـــــال جرحك . ســـأضع بعض المـــرهم على
أترين أنه لا يؤلم . . أليس كذلك ؟
وتركته يمسك ذراعها وراح يدلك الكدمات بالمرهم ولــكن
اندفعت الدموع إلى مآقيها واهتز جسدها كله . . فأنت بصوت
منخفض جعله ينحني لــسماع كلماتها المعذبة :
ـ لا تلمسني . . لا تقترب مني . . أحــس أننـي قذرة . . قذرة .
راحت تتأرجح من جانب إلى آخــر وعيناها مرهقتان مظلمتان . ومــد
سيرجيو يده إليها , ولكنهــا انكمشت وظلت ترتعــش .
ـ نادين . . لا بأس عليك . . أعدك بألا يلمـسك مرة أخرى . سيكون
كل شيء على ما يرام . تعالــي أريد أن آخذ هذه البلوزة , لتتمكنـي من
الاغتسال . ســـأحمل إليك بعض الماء وعندهــا ستشعرين بأنك أفضـــل
توجه إلى الباب , ولكــــن لم يظهر على نادين دليلاً يشــير إلى أنها
سمعته أو شاهدته . كانت ذراعاها النحيلتان مطبقتين حــول جسدهـــا
المتوتر ولسانهــا يكــرر :
وعندما عاد , كانت على حالهــا السابق فاقترب منها بصبر وكــأنه
يعامل طفلة فأبعد ذراعيها عن ركبتيها , ومد لها أطرافها المتشنجة ,
وأزال عنها البلوزة الممزقة . . انتفضت من لمسة يديه اللتين راحتا
تعالجان كدماتها ولكنها لم تحــاول تجنبه . وظلت أصــابعه تدلك بشرتها
بالمرهم , حتى بدأ التوتر يزول عنها تدريجياً . ولما أحــس بذلك توقف
وراحت عيناه تبحثان في وجههــا وهو يقول بلطف :
ـ أنت بخــير نادين . . لم يحدث شـــيء . . هو لم . .
ـ لم يغتصبني ؟ لكنه كــان يهم بهذا , ولم أستطع فعل ما يحول دون
ذلك . لم أشــعر إلا أننــي ســأموت .
راح صوته ويداه يهدهدانها وطفق لسان حاله يقول لها إن كل شيء
قد انتهى , ثم ضمها إليه كـطفلة صغيرة ولم يتركها إلا عندما اطمأن إلى
أنها بدأت تسترخــي . . أشــار إلى وعاء كبير على الأرض .
ـ حملت إليك الماء . سأتركك لتغتسلــي , ثم أعود بعد نصف
عندما خرج وقفت نادين مرتجفة , تغسـل نفسها ببطء . كانت بقايا
بلوزتها الممزقة تثير موجة إثر موجــة من الذكرى المرعبة , ولكنها
أبعدتها عنها وارتدت الأخــرى وفيما كانت تزررها وصــل سيرجيو حــاملاً
لم تكن ترغب في طعــام ولأنه أحــــــس برفضها قال :
ـ لن أتركك قبل اختفاء آخــر لقمة . . قالت ليديا إنك لم تــأكلـــي
كان صوتها يرتجف , والدموع تترقرق في مقلتيها .
وصلت ملعقة كبيرة من اللحم و المعكرونة إلى شفتيها ففتحت
ثغرها كطفلة مطيعة . ما إن بلعت أول لقمة حتى أدركت مدى
جوعها . . كان سيرجيو قد حمل إليها أيضاً القهوة , ولكنها حين
تذوقتها كشرت بسبب طعمها القوي .
ـ اشربيها , فهي ستخفف من وطــأة الصدمة , وتساعدك على النوم .
النوم . . ! كيف تنام وهي كلما أغمضت عينيها يطالعها وجه لينو ,
وتحس بيديه على جسدهـــا ؟ وضعت كوب القهوة من يدها بحذر مبالغ
ـ أعرف . . ولكن هذا كله سيمر وينتهي .
ـ وكيف تعرف ؟ أنت لم تتعرض لما تعرضت إليه . . كان الأمــر
كريهاً مقيتاً جعلنــــي أشعر أنني ملوثة . . ومدنسة . .
ـ نادين . . . ما حدث لم يكن غلطتك . إذا كانت غلطة أحــد فهــــي
غلطتي . . كنت أعرف أنه يرغب فيك ومع أن ليديا حــاولت إقناعي بأنك
تشجعينه , إلا أنني كنت أعرف أن هذا غير صحيح . فلا لــوم عليك
أبداً . . يجب أن تصدقي هذا .
ـ وكيف أستطيع ذلك , فلو اغتصبني لما صدقني أحــــد . سأشعــــر
كلما لمسني أحد بأنه هو من يلمســـني . لا أستطيع . .
ارتجفت ثانية بصمت ولكنها لم تلاحظ طريقة تجهم سيرجيو ولا
ـ لا تتركــني وحدي الليلة سيرجيو . . أرجوك لا تتركـــني وحدي , لا
أستطـــيع التحمــل . . أنا . .
التفت ذراعاه مجدداً حولها , ليجبرهــا على الاسترخــاء :
ـ لا بــأس عليك . . كل شيء على ما يرام . . سأبقى . . تعالي . .
استلقي وحــاولي الخلود إلى النوم . أعدك أن أكـــون هنا إذا احتجتني .
ونامت فعلاً , ولكــن جفنيها لم يغمضـــا إلا لعلمها بأن سيرجيو
يشاركهــا السرير الضيق , ويضمهــا إلى دفء ذراعيه بحيث لم يعد هناك
لم يكد السرير الضيق يتسع لهمــا . واستيقظت بعد فترة من الليل
فرأت أنها متقوقعة بين ذراعيه ورأسها مستقر على صدره وذراعاها
ـ سيرجيو . . أنت مستيقظ ؟
ـ أجــل . . هل أنت خــائفــة ؟
ـ لا أخــاف عندما تكون معــي . . لينو . .
انتزع ذراعيها عنه فارتجفت وطـاف بها الألم مجدداً , فــأمسكت
يداه بوجههــا وقال بعذوبة : نادين . . لا ترتجفـي . . فككت كلماته التوتر
في داخلهــا فبكت بكـاء العاجز عن التوقف أبداً . تركها تبكـــي وكانت
تشـعر بالراحــة بسبب دفء بشرته تحت خدهـا , وبسبب أصابعه التي
كــانت تبعد الدموع عن وجههــا .
لم تشعر بالخوف في أحضانه , ولا بالذعر حين مرر أصابعه على
شفتيها . . واستجابت له , لكنهـــا عادت فتشنجت لأنهـا تذكرت لينو
ووحشيته فحالت صورته بينها وبين الرجل الذي يضمها بين ذراعيه . .
وارتفع الغثيان من جديد وترقرقت راحتيها بالعرق البارد .
كان في نبرة صوته ندم وتفهم . فتركهــا ببطء .
من مكــان ما , وجدت الشجاعة على الاعتراض , وارتفعت ذراعاها
إلى كتفيه , وأكملت همســاً :
ـ لا . . لا تتركني سيرجيو . . عانقني , ألا ترى ؟ أنا لا أذكـــر إلا لينو
ولا أشم إلا رائحته النتنة ولا أسمع إلا صوته . أرجوك ؟ أرجوك لا أريد
أن يكــون الذكرى الوحيدة . . .
ـ نادين . . يا إلهي . . هل تعرفين ما تطلبينه مــني ؟
كانت كلماته المكبوتة تحمل عنفاً أرســل الألم من رأسهـــا إلى
أخمص قديمها , ولكنهــا رفضت اختبار ألم رفــض جديد . . فتمتمت
ـ ألست جذابة ؟ أم تراك لا تطيق لمســـي بعدما لمســني لينو . . .
سمعته يشتم متوتراً . ثم ضمها بين ذراعيه وسمعته يهمس بعذاب :
ـ لا تقولي هذا . . لست بحاجة لـي . . تريدين شخصاً يمحــو من
ذاكرتك صورة لينو , ولا يهم من يكــــون هذا الشخــص . إن كنت
ذرة من التعقل لـ . . يا إلهي . . أريدك أيضاً نادين . . ولكنك تجعلينني
أجد صعوبة في عــدم معانقتك واحتضانك .
لم ترد عليه . . كانت تعرف أنها تحتاجه لــيكون الترياق الــشافي
لنفسها من ذكرى تهجم لينو عليها . . كما تعرف أنه لن يــســــيء
معاملتها , مهما كان السبب , ومهما كانت مهمته في الحياة . أحست أنه
يفرض على نفسه سيطرة شديدة لا يعرف كم من الوقت هو قــادر على
الاحتفاظ بها . . ولم تكن تريد منه أن يفقد السيطرة , لأنها تريده صاحياً
واعياً لا يشغل باله قلة خبرتهــا . . أرادت أن يتحابا بسبب حاجة ورغبة
متبادلتين , أرادت أن تغرق في عذوبة الاستسلام وتنسى متى وأين وماذا
تسللت يداه إلى ظهرها , يرفعها إليه لتصبح مستلقية بين ذراعيه ,
وامتدت يداها إليه . كانت أشبه بطفلة صغيرة ترفض فتح غلاف هديتها
قبل الوقت المحدد , ثم أدركت أنها يمكن أن تفقد الهدية , فسعت
بحرارة للكشف عن جميع الهدايا دفعة واحدة .
تمتم سيرجيو في أذنها مرتجفــــاً :
ـ نادين ! ألديك فكــرة عما تفعلينه بي ؟ (( ديو )) يا الله لا بد أنني فقدت
صوابي . . ليتك تعرفين كم من الليالي أمضيهـــا وحـــدي وأنا أحلم بك
بين ذراعي كمــا أنت الآن .
كانت كلماته تعويذة سحرية أزالت جميع الشكوك التي تدور في
فجأة أحست به يتوتر وبجسده يستمر وبلسانه يهمس :
ـ لا أستطيع فعل هذا نادين .
ولأنها لم تكن المرة الأولى التي يرفضها فيها شعرت بأسى كبير
ولكنها مع ذلك قالت له عندما رأته يهم بالخروج .
ـ أرجوك , سيرجيو لا تتركني , إبق معي فقط ليس أكثر فلن
أطالبك بالمزيد ولكن لا تتركني لذكرى لينو . إبق معي فقط .
ـ حسناً , لن أرحــل فاهدئي أرجوك .
كانت متعبة ومهزومة وكئيبة فأخذت عيناها تغمضان ثم شعرت به
استيقظت مرة أخرى أثناء الليل خائفة من كابوس فتناهى إليها
صوت سيرجيو في صمت الليل يحثها على الاستيقاظ :
ـ لا بأس عليك . . إنه مجرد كابوس . . لينو ليس هنا . أم
اتخذتني مكانه في كوابيسك ؟
لم تتظاهر بعدم الفهم وتضرج وجهها لأنها تذكرت كيف توسلت
إليه بدون خجل أن يحبها . . ولقد كان على حق في رفضه. . وقالت :
(( لا تقل ذلك , رجـاء )) .
ـ أما زلت تتوقعين أن تميد بك الأرض ؟
أجفلتها سخريته ومع ذلك أردف :
ـ معي يا عزيزتي لقد اخترت الشريك غير المناسب .
ـ إنني بشر ألا ترين كم أتعذب لأبعد نفســــــي عنك ؟
أحست أن شيئاً يخنقها , وحينما وجدت القدرة على الكلام أخيراً ,
لم تكن ترى وجهه , ولكن كان هناك الكثير من التوتر في كلامه
عندما قال : (( هل لنا أن نترك هذا الموضوع ؟ )) .
عندما فتحت عينيها ثانية , أحست أن هناك أمراً مختلفاً . . عبست
تحاول أن تتذكر ماذا , ثم فهمت . . إنها وحدها في السرير , مدثرة
بالغطاء الذي دثرها به سيرجيو قبل أن يخرج .
قال تفكيرها السليم إن عليها الشعور بالخجل , أو على الأقـــل
الندم , بسبب ما كادت تقدم عليه البارحة لولا تراجع سيرجيو أخيراً .
ولكنها تمنت لو أنه لم يتراجع فـ سيرجيو هو حلمها الكبير . ولكن
تناهى إليها صوت غيب من الخارج , فهرعت إلى النافذة , تنظـــر
إلى الطبيعة حيث رأت طائرة هليوكوبتر في مثل هذا المكان النائــي يعني
شعرت بالتوتر والانفعال وسمعت في الأسفل جلبة . لا بــد أن
سيرجيو هناك . . ولا ريب أنه رأى الطائرة . ولكنها أحست الآن
إحساساً مختلفاً فلأول مرة تفكــر في أنهمـا في موقعين متقابلين , وأن
حريتها تعني فشله . لقد أوضحت ليديا ما يحدث للفاشلين . استولى
عليها خــوف رهيب , ولكنها نحته بعيداً .
انفتح الباب ودخــل يقول بشفتين مشدودتين وبلهجة قاطعة حــادة :
ـ عظيم . استيقظت سنغادر المكــان .
ـ شاهدتها إذن ؟ أجل . . ذكرتني ليديا أن بقاءنا هنا كانت فكرتــي .
وهي لا تكن لك مشاعر لطيفة هذا الصباح .
صمت ينظـــر إليها باهتمــــام متحفظ :
ـ إذن . . لقد عدت الآنسة كلايتون المتكبرة , بعدما أدركت أن
آلمها كلامه وشعرت بالخوف عليه . عندمــا اندفعت عبر الباب
لتخرج لامست ذراعها ذراعه العارية , فأرادت في لحظة ضعف التعلق
به والتوسل إليه حتى يرحل حالاً ما دام أمــامه متسع من الوقت . نظرت
إليه وترقرقت الدموع في مآقيها لأنها تعلم أن إنقاذها يعني سقطه .
ولكن تعابير وجهه حذرتها من التفوه بمــا تشعر , فنزلت لتواجه حقـد
ليديا المرير , وشـــر عيني لينو المتقدتين الذي كان يراقب السماء من
قضت الخطة المغادرة حالما يتناولون الطعام فهمت نادين مما
سمعت أن لديهم منزلاً آخــر حُضر قبل اختطافها وأنهم سيصحبونها
قالت ليديا وهي تسخر من سيرجيو :
ـ قــــلت لك إننا أطــلنا المقــــام هنـــا . . وحذرتك من أن
بنا . . لكن لا .. أنت تعرف أفــضــل منه . . أم تراك كنت تريد وقتاً أطول
لمعاشرتها ؟ فهــــل وجـــدت المتعة التي نشدتهـــا ؟ ولكن
ـ روما لن تعرف شيئاً قبل أن أقــــــــول لها أنا . . بيدرو اذهب إلى
الخارج وساعد لينو في تخضير اللاندروفر . . يبدو أن شيئاً ما قد
حدث . . فهــو يحاول تشغيله منذ وقت .
ظلـــوا يسمعــــــون هدير المحرك عدة دقائق ثــم ظــهر بيدرو
ـ لم يدر المحرك , والله أعلــم ما السبب . فالمحرك اللعين ينطفئ
ـ حسناً . . فلنستخدم السيارة الأخرى .
شعرت نادين رغم توتره البادي أنه لا يهتم حقاً إذا ما رحلوا أم لم
يرحلوا , وكانت هذه الفكرة التي عنت على بالها غريبة .
هز بيدرو كتفيه : (( فعلت ذلك ولم أفلــح )) .
عبس بيدرو فجأة واستدار ليفتح علبة السكـــر , ثم سأل ليديا : (( كم
كانت الكمية الموجودة هنا ؟ )) .
رأت نادين عينا الفتاة تتسعان وهي تنظر إلى علبة السكر , والتفت
بيدرو إلى سيرجيو , وقال بوحشية :
ـ صديقتك الصغيرة وضعت السكر في المقود ! لهذا لا يدور
ـ تعني أننا عالقون هنا ؟ حين يعودون سيلقون القبض علينا وكـــأننا
ـ هذا إن عــادوا . . فلسنا واثقين . .
ـ أوه . . لا . . لسنا واثقين . . لكننا قادرون على التخمين . . إنهم
الشرطة بدون شك ولن يعودوا بدون سلاح ولكن الفتاة مــا تزال معنا .
و (( دادي )) لا يرغب في استعادة ابنته مليئة بالثقوب . وهذا بالتأكــيد ما
سنفعله إن لم يعطنا المــال والــضمانة للخروج من البلاد .
فكرت نادين بقلب غائر في أن الجرذان أيضاً قد تكون خــطـــرة , فلا
بيدرو ولا لينو تجادلا مع ليديا , وما من شك لدى نادين أن الإيطالية
ستنفذ ما قالته بالضبط إذا دعت الحاجة . ولكنهم مخطئون في أمــر
قال سيرجيو لــ ليديا بحدة : (( أقفلي عليها باب غرفتهــا )) .
وتحرك فرأت أنه يحمل مسدساً , ولكن هذا المسدس ليس كسلاح
الباقين بل هو أفطس ذو منظر شرير . كسى جسدها طبقة خفيفة من
العرق . . يا الله . . إذا كان هذا هو معنى إنقاذها , فهي تفضل البقاء
ـ لا . . ستبقى معنا هنا بحيث نستطيع مراقبتها . . ليحذروا عندما
يطلقون النار علينا . . كم سيطول الوقت قبل وصولهم إلينا ؟
لاحظت نادين أنها مذعورة , ولم تستطع إلا أن تلاحظ كيف أنهم
جميعاً حتى لينو كــانوا يتجهون إلى سيرجيو طلباً للنصيحة والقيادة .
ـ هذا وقف على المدى الذي سيتقدمون به إلينا . . ربما ساعتين ,
هذا إذا عرفوا أننا هنا . . لذا علينا المباشرة بالاستعداد . . ليديا
اصطحبي معك نادين واحضري كل مؤونة الطعام فلا نعرف كم سنبقى
مسمرين هنا . لينو , بيدرو , أحضروا ما لدينا من ذخيرة .
رطبت ليديا شفيتها : (( ألن تحذر رومــا ؟ )) .
ـ وما الفائدة ؟ لا يمكنهم نجدتنا في الوقت المناسب . لا . . فنحن
لاحظت نادين أن سيرجيو يتمتع بالموقف في حين أن الآخرين
متوترون . أدركت فجأة أنهم كالطبل الأجوف , صوته عالٍ وداخله فارغ
فما إن ظهرت قوة تفوق قوتهم حتى انكشفوا على حقيقتهم .
كان سيرجيو مخطئاً في تقديره بالنسبة للوقت , فقد عادت الطائرة
بعد ساعة ونصف تماماً فراحت تدور حول المزرعة قبل أن تحط قرب
النهر بعيداً عن الأنظــار. . فقال بيدرو ساخطـاً :
ـ اللعنة . . إنهم بعيدون عن مرمى النيران ! ماذا سيفعلون ؟ هل
بدا سيرجيو غير متأثر : (( هــذا وقف . . ؟ )) .
ســألت ليديا بصوت حاد مذعور : (( على مــاذا ؟ )) .
ـ على ما إذا كانوا الشرطة الإيطالية لأنني أخشى أن يكــون السير
برادلي قد أقنع الحكومة البريطانية بأن من حق ابنته البريطانية الجنسية
ـ أتعني فرقة الإنقاذ الخــاصة ؟ لكن السلطــات الإيطالية لن توافق !
ـ أعتقد بعد مذبحة (( موريو )) أن السلطات الإيطالية ستكـــون شاكرة
الحكومة التي ستحمـــل الوضع المحرج عن عاتقها . . على أي حــال
أليس إسقاط الحكومة وإظهــار فشلها هدفاً من أهداف منظمتنا ؟
تساءلت نادين بحيرة عما إذا كان سيرجيو يدرك أنه بهذا يزيد من
مخــاوف رفاقه بدل تهدئتهم . . وكأنه يعرف كم ترعبهم مواجهة فرقة
الإنقاذ الخاصة , ويتعمد التلاعب بأعصابهم ولكنها بدون شك تتخـــيل
ـ سيرجيو . . هناك قرب بستان الزيتون . . انظـــر !
محت كلمات لينو المتوترة كـــل ما يتعلق بالسبب الذي يدفــــع
سيرجيو إلى هذا التصرف . وكان كــالآخرين اهتمامه منصب على
الأشباح المتحركة بين أشجــار الزيتون . مـــاذا سيفعلون ؟ الإيطاليون
يعمدون إلى اقتحام المبنى مهما كــان من بداخــله أما البريطانيون فيميلون
إلى الدبلوماسية قبل العنف .
تبين فيما بعد أن الوسيلة الأخيرة هي المعتمدة . . فقد تقدم رجــــل
يرتدي بذلة مموهة إلى المنزل يحمل مذياعاً يدوياً , ويحيط به رجلان
يحملان الرشاشات . . تكلم الرجل عبر المذياع بالإيطالية , طالباً من
الخاطفين إطلاق سراح نادين ولكن لينو رد عليهم بإطــلاق الرصاص .
وشاهدت نادين الرجال الثلاثة يرتمون أرضــاً , وفي اللحظة عينها كــان
سيرجيو يدفعها إلى الأرض قائلاً باقتضاب :
أخفض رأسه أيضاً فيما كانت طلقات رشـــاشه تصيب جـــدار
ثم فيما بعد لم تعد نادين تتذكـــر بوضوح ما حدث . كانت تعاني من
الخوف ومن حرارة لا تحتمل , أمـــا الغرفة فازداد توترها . كانت رشقات
متقطعة من النيران تذكرهم بأنهم لن ينجو من المبنى أحياء .
كم مضى من الوقت , لم تكـــن نادين واثقة . فقد بدا أن الزمن يجر
أقدامه الثقيلة , والخوف يستولي على كيانها , أما الموت فقد كان أقرب
لها من بندقية ليديا , وسكين لينو , ولن يتردد أحد منهما في إطلاق النار
كان سيرجو يستلقي إلى جانبها , يحرس إحدى النوافذ . حين
حــاولت التسلل إلى فوق , نحو غرفتها لتجتذب انتباه المنقذين , أطبقت
أصابعه على معصمها ولكن الإمساك بها لم يلهه عن هدفه .
صرخت ليديا بحـــدة في مرحلة مــا , بعدما تلقت توســلاً آخــر
ـ لن تأخذونا أحياء . . ولن تسترجعوا الفتاة . . سنقتلها أولاً !
بعد ذلك بدا أن الجو خــارجاً قد عمه السكون فصعد لينو إلى فوق
ليحقق من أي حركة خلف المنزل , لكن ما إن صعد حتى تصاعدت
الطلقات من الخارج تجذب اهتمام الآخرين إلى مهاجميهم .
كانت نادين تواجه الدرج منبطحة على وجهها وعضلاتها متشنجة ,
لكن خائفة من أن تصاب برصاصة طائشة إن تحركت . . . لذلك كانت
أول من شاهد الرجال الأربعة الذين برزوا من فوق بسلاحهم الكــامل
وبزتهم المموهة التي أثارت في نفسها الطمأنينة .
فيما بعد , لم تستطع أن تقول ماذا دهــاها , فهي عوضــاً عن البقاء
صامتة , دفعت ذراع سيرجيو , فالتفت بسرعة . . وفي اللحظة نفسها
ـ سيرجيو . . الفتاة . . اقتلها الآن !
وشاهدتها نادين ترفع سلاحها , فجلس سيرجيو وشــد نادين معه
في اللحظة عينها التي انفتح فيها الباب عنوة , وسمعته يتمتم :
ـ إلى الباب . . اركــضي . . بسرعة .
أطاعته مذهولة فقد شاهدت العزم في عيني ليديا , وتحـــرك سيرجيو
يرمي بنفسه بينها وبين البندقية , وسمعت نادين انفجاراً مدوياً , حملتها
قوته إلى الباب , ثم التقطها الرجال ذوو البزات المموهة وهم يؤكدون
لبعضهم بعضاً أنها سالمة .
كانت تصــيح منتحبة : (( سيرجيو . . سيرجيو . . )) حينما التفت
حول جسمها ذراعان حبيبتان وبرز أمامها وجه أبيها وهو يتطلع إليها ,
ـ آه . . يا فتاتي المسكينة !
كـــان غـريباً فعـلاً في ثيابه العسكرية , أكبـــر سنــاً وأكثر
تذكره , ثم تقدم رجـــل آخر وهــو الضابط على مـــا يبدو
منخفض أن يتركــا الرجال يقومون بالعمل الذي جـاؤوا من أجله . مشيراً
إلى اللاندروفر المنتظــر وساعدها والدها لتصعــد إليــه . . ولكنها تطلعت
من فــوق كتفهـــا إلى الوراء , كانت أصـــوات الطلقـــات النارية
أرجاء المنزل الذي أخــذ الدخان الكثيف يتصاعد منه .
قال لها والدهــا متجهماً . .
ـ لديهم أوامــر باعتقالهم ويجب أن يكونوا أحياء . لكن لــحسن
الحظ سيحاكمون في إيطاليا , وهذا يعني أن يحصلوا على حكم قاس
جداً . . ربما سجـن مؤبد . . على أقــل تقدير .
سجن مؤبد ؟ فكــرت نادين بـ سيرجيو وهو مسجون في زنزانة . . .
فالتوى شيء ما في داخلها . . لقد أنقذ حياتها , أفلا يعني ما فعله شيئاً ؟
التفتت إلى والدها , تريد أن تخبره ولكنه أصمتهــا وضمها إليه وهو
ـ يا حبيبتي المسكينــة ! لا أستطيع الانتظــار حتى أحملك إلى
المنزل . سنذهب معاً إلى مكــان ما وستكون لنا إجــازة جيدة نضع فيها
وافقت نادين مخدرة التفكــير . . ترفض أن تعترف أن قسمــاً مما
جرى لها في الأســر لن يُنسى بسهولة . إنها الآن حــرة وســالمة . . وعلى
هذا يجب أن تركز أفكــارها وتحاول النسيان , نسيان أي شيء آخـــر .
نهاية الفصــل (( الثامن )) . . .