ما إن قالت تيريسا في اليوم التالي إن الكوخ جاهز للانتقال إليه , حتى تنفست الصعداء
لم تكن تعرف ما إذا كان أندرو يتعمد تجاهلها لأنها هي تعمدت تجاهله كان قد غاب طوال اليوم في الأملاك
شعرت جوديت أن أندرو سيسر بانتقالها إلى الكوخ أكثر منها , لذلك حين عرضت تيريسا عليها إيصالها إلى الكوخ قبلت العرض
بسرور دون أن تذكر أي منهما أندرو , وكأنما اتفقتا بصمت على هذا
كان الكوخ جميلا من الخارج , فهو مسقوف بالقش الأبيض يقع بين القرية والقصر وهذا يعني أنها ليست مضطرة للسير
أما من الداخل فكان كامل الأثاث , ولو على طراز قديم قليلا , فله مطبخ صغير فيه كافة الأدوات , وغرفة جلوس أكبر منه بقليل
, وغرفتا نوم , وحمام في الطابق العلوي منه
ـ لا هاتف هنا , ولكن إذا أردت الاتصال بأحدهم فاستخدمي هاتفنا متى أردت أما هذه المدفأة التي تينها , فهي غير معطلة
ـ ستدهشك شدة برودة الكوخ في الليل لدينا في القصر تدفئة مركزية , لذا لم تلاحظي البرد , ولكن هناك مدفأة كهربائية
في المطبخ , يمكنك استخدامها عوضا عن الموقد
ـ لا سأحبها لأنني لم أملك يوما موقدا , ففي الشقة التي أقطن فيها تدفئة مركزية
ـ ولكن الحطب يرسل دخانا أهناك ما أستطيع القيام به ؟
ـ لقد كنت في غاية اللطف معي ودعي أندرو عوضا عني ـ لا تسمي هذا الانتقال وداعا , فأنت سترينه دون ريب
حينما تستخدمين المرسم في المنزل
صدمها الخبر الذي أطلعتها عليه تيريسا , وهو ذاك المتعلق بموت خطيبة أندرو في حادث سيارة لقد تألم ألما شديدا دون
ريب , ولكنه ألم ولى على ما يبدو , فليس ذاك العناق الحميم الذي رأته حينما دخلت الغرفة عليه وعلى بياتريس بعناق عابر
ـ سأعود الآن إذن اعلميني حينما تريدين أي شيء
ما أشد ما تختلف هذه الفتاة عن تلك التي استقبلتها حين وصلت وهي لن تدعي أنها مرتاحة للوضع الجديد
وضعت جوديت أغراضها القليلة بسرعة في الخزانة والأدراج , ثم انطلقت إلى القرية لشراء بعض الطعام قبل أن تغلق المحلات
أبوابها فقد أخبرتها تيريسا أن هناك مخزنا واحدا فيه الأطعمة غالية قليلا
قطعت المسافة الفاصلة بين الكوخ والقرية بغي عناء , فاشترت ما أرادت ثم انطلقت تسأل عن الطريق المؤدية إلى عيادة بيار
ليون , فقد أرادت أن تعرض عليه الأشعت ليعاينه ما إن وصل دورها في الدخول حتى حياها حرارة تشوبها بعض الرسمية
ـ مرحبا لقد عاد إذن ولقد نظفته تنظيفا رائعا
ـ أظن هذا مع أنني عانيت منه في قاعة الانتظار , فقد راح يزمجر على الرجل الذي دخل قبلنا
لقد أدهشها تصرفه وزمجرته على الرجل , فقد كانت تظن أنه لا يزمجر إلا على أندرو فإذا به يزمجر الآن
ـ أن الحيوانات تحب وتكره , ويبدو أنه لم يحبني
حاول رفع الكلب إلى طاولة الفحص , فكاد يتلقى عضة في يده :
ـ ربما يكره الرجال عامة يبدو لى بصحة جيدة ألديه شهية قوية ؟
ـ لا تطعميه أكثر مما يجب إن عمره على ما يبدو لا يتجاوز السنة والنصف , لذا هو بحاجة إلى كل الحقن اللازمة إنما
ـ هذا ما ظننته ولكن لا بد منها على ما أعتقد
قال لها بيار وهو يحقنه بالحقن اللازمة :
ـ إن انتظرتني قليلا أقلك ليس أمامي إلا معاينة قط السيدة غرين
ما هي إلا عشر دقائق حتى كانا في السيارة حيث راح الأشعت يزمجر سألها بيار أين تقيم فأخبرته
ـ اليوم بالذات أتعلم أن تيريسا خاب أملها لأنك لم تدخل إلى البيت يوم أوصلتني
عندما شعرت بتراجعه فهمت أنه يبادل تيريسا الاهتمام فلماذا لا يجتمعان معا ؟ عندئذ قالت بإصرار حتى تختبر ردة فعله :
ـ أنا واثقة أنها سترحب بزيارتك
ـ لا تقل هذا يا رجل ! إلى هذه الدرجة تثقلك الأعمال ؟
ـ أجل إنه موسم التوالد , وأنا مطلوب دائما
قررت جوديت بحكمة عدم الإلحاح , فثمة ما هو غير واضح لها , وهو أمر جرى بين الاثنين اللذين يرفضان على ما يبدو
ترى هل تقدم هي على التحدث إلى أندرو بهذا الموضوع ؟ لا لن تقدر , فكيف تفاتحه بموضوع شخصي كهذا بعدما
عندما أوقف سيارته أمام الكوخ قالت تدعوه إلى منزلها :
ـ ادخل لاحتساء القهوة أو الشاي
ترجل من السيارة , ثم فتح الباب الخلفي للكلب الذي قفز هاربا فسألها مازحا :
حمل معها مشترياتها , فابتسمت :
بما أن وقت العشاء اقترب وستعد لنفسها وجبة , فقد دعت بيار إلى هذه الوجبة بعد رفض متردد أقنعته بالبقاء , فتركته يستريح
في غرفة الجلوس حتى تطهو الطعام في المطبخ
حضرت السلطة مع اللحم المشوي ثم وضعت الفاكهة على الرغم من أن الوجبة لم تكن مثالا للطعام الشهي فقد تمتع بيار بها
وقال لها وهو يساعدها في التنظيف :
ـ بصراحة لقد سئمت من إعداد الطعام لنفسي
أحست جوديت بالراحة بعد هذه الوجبة فراحت تنعم بتغريد الطيور وتتمتع بصحبة بيار سألته بنعومة :
ـ لقد انتقلا إلى موطننا الأصلي في الجبال بعد تقاعد والدي
ـ رجاء لا تبدئي أنا آسف فليس الزواج لي
أتكون تيريسا هي الفتاة المناسبة لتقول له إنه بحاجة إلى زوجة وإنها هي الزوجة المناسبة ؟
إن تيريسا وقحة , لذا قد تقول ما تفكر فيه
ـ عرفت أن أندرو كان سيتزوج يوما
ـ أجل التفتت إليه بفضول , تعبس بشدة لأنها رأت الشحوب يعلو وجهه :
إذن , هذا موضوع حساس آخر لقد تلبد الجو بالمواضيع الحساسة منذ وصولها إلى هنا وهذا كثير على حياة ريفية
حاولت تغيير دفة الموضوع :
ـ هل سيصاب الأشعت بأية عوارض من جراء الحقن ؟
قال بعدما عاد إلى طبيعته :
ـ يجب ألا يصاب بشيء ولكن راقبيه على فكرة , لم أتعرف إليه في البداية
ـ كنت أعلم أن هناك كلب (كولي ) تحت ذلك المنظر الأشعت !
ـ يا للروعة ! يا لهذه العلاقة الحميمة !
دخل أندرو من الباب الخلفي المفتوح , وفمه يلتوي بسخرية فأحنى رأسه للبيطري :
ـ أتعرف أندرو أن غسيل الصحون هو أقل ما أفعله بعد الوجبة اللذيذة التي قدمتها لي جوديت
نظر أندرو إلى جوديت بحدة :
ـ أتود الانضمام إلينا في تناول القهوة ؟ إنما المؤسف أن المطبخ لن يتسع لنا نحن الثلاثة !
عظيم جدا مع أنني أخشى أنني المغادر , فلدي زيارة أقوم بها
ابتلعت جوديت ريقها , فهي لم تكن تريد من أحدهما أن يغادر , بل أرادت أن ينتقلا إلى خارج المطبخ الصغير , أما البقاء
على انفراد مع أندرو فآخر ما أرادته
حين خرج بيار قالت بهدوء :
ـ شكرا لم أكن أعلم أنك و بيار على علاقة حميمة
ـ لسنا كما تقول ! لقد أقلني من القرية فعرضت عليه العشاء
صبت القهوة , ثم حملتها إلى غرفة الجلوس وفكرت أنه حين سيدخلها أندرو سيطأطيء رأسه حتى يتجاوز بابها , فرأسه يكاد
يلامس السقف حين يقف مستقيما
تمدد باسترخاء في أحد المقاعد , وقال ساخرا :
ـ إن هذه الأكواخ أعدت لصغار الأجسام أتناسبك ؟
ماذا يفعل بحق الله ؟ وكيف يتصرف بشكل طبيعي فيما هي لا تشعر إلا بالقلق ؟
ـ عظيم بشأن ما جرى بالأمس
ـ لا أظنني أقبل أن تتطرق إلى هذا الموضوع
ـ بل الآن فأنا أعمل طوال النهار بحيث لا يبقى لي فراغ إلا الآن
كان أندرو مسترخيا وراء مقود السيارة و كأنه لا يرغب في الكلام , ولكن ما كانت تستغربه أنها تشعر وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد
لم يتجه في سيره إلى القصر , بل تجاوز القصر وانعطف إلى طريق ضيقة أوصلتهما إلى كوخ يشبه كوخها , خرج منه رجل في
متوسط العمر محييا وبرفقة الكلبين توم وتومي , فاغتبطت جوديت لأنها لم تصطحب الأشعت
ـ هذا ماريو ثاوث , مدير المزرعة
صافحت جوديت الرجل الذي اعتقدت يوما أن تيريسا مهتمة به وكان أندرو قد عرف عنه بأنه صديق حميم للعائلة ,
ـ وأنت لا بد جوديت صديقة زاك
ـ أريد أن أشكرك لإيجادك ذلك الحمل إنه مخلوق جميل من المؤسف أن يموت وحيدا هناك
ـ بكل تأكيد تعالي معي لأريك إياه
ـ لقد وجدت له أما تتبناه إذن أين هو ؟
توجهت إليه تنظر وهي لا تكاد تصدق إن هذا الجميل الصغير النائم قرب النعجة هو نفسه الذي وجدته بالأمس , قالت :
ـ أجل لدينا متاعب كثيرة مع الكلاب هذه السنة وقد كان الأسبوع الأخير أسوأ ما مر بنا
ـ هذه هي الطريقة الوحيدة أمامنا , فلا يجوز التسامح مع قاتل خراف هنا
صدمها المعنى الدرامي نفسيا ولكن أليس قتل الخراف قاسيا كقتل الكلاب ؟
كان أندرو ينتظرها مستندا إلى السيارة حين عادا :
ـ أرأيت تأمين الأهل سهل , أما تأمين الزوج فعكس ذلك
ـ شكرا ماريو لقد حسبت جوديت أن نواياي بشأن هذا الحمل شريرة
تذكرت لطفه ورقته مع المخلوق التعس , فأنكرت :
ـ أوه لا لم أفكر في هذا إطلاقا
ـ لا تسيئي به الظن , لقد كان له قطيع عندما كان صبيا , وقد مثل دور الأم البديلة أكثر من مرة لأكثر من حمل
لاحظت جوديت أن أندرو لم يسر بكشف هذا السر عن طفولته
ـ أجل كان يسهر طوال الليل ليطعمها وطوال النهار أيضا , واستمر على هذا سنوات
ـ أصبح عقلي أرجح من ذي قبل
نظر إليه ماريو والحب والاحترام في عينيه :
ـ ولكنني أذكر منذ وقت غير بعيد أنني شاهدتك تسهر الليل كله مع نعجة مريضة
ـ إن كنت تقنع جوديت بإنسانيتي فقد فشلت لأن جوديت تعتبر أنني تجاوزت أوان الإصلاح , وما محاولتي حماية زاك في
ضاقت عينا الرجل حينما رأى الاحمرار يغزو وجهها :
عبس أندرو في وجهه , ثم نظر بحدة إلى جوديت , ولم يلبث أن أشاح بوجهه بعيدا ثم فتح باب السيارة ليقول بحدة :
التفتت أليه تمعن النظر وهو يتحدث إلى ماريو قبل الانطلاق لقد وقعت في حب أندرو تورنتون , وقد عرف ماريو ثاوت
سرها الذي لم تدركه إلا الآن
تنحت عن طريق أندرو في اليومين التاليين , فتعمدت عدم الذهاب إلى القصر إلا بعد التأكد من خروجه وكانت حينها تحمل
صرة طعام لتتناول غداءها في المرسم الذي لا تغادره إلا بعد أن تتأكد من خروجه ثانية
إنها مجنونة دون شك وغبية لأنها سمحت لنفسها بالوقوع في حب رجل كهذا رغم أن هذا الحب قد بات جزءا أساسيا من
وجودها كالماء والهواء , يسخر من الألم الذي أحست به عندما تركها فرانسوا والغريب أنها لا تعرف إن كان يبادلها الحب ,
ومع ذلك تحبه وتريده بل تتمنى الآن لو يكون إلى جانبها
أفكار كهذه كانت جديدة عليها بل لقد أصبحت تكره أن تكون وحدها وهي المعتادة على الوحدة , بل إنها لم تعد قادرة
على تمضية الوقت في الرسم كما كانت تفعل
حالما دخل أندرو إلى المرسم بعد ظهر الخميس , بدأت يديها ترتجفان , فالتقطت قطعة قماش لتغطي ارتجافها
إنها تحبه فعلا وهي مضطرة للاعتراف بهذا وإن كارهة خائفة !
ـ أمسموح لي أن أرى التحف ؟
قالت هذا ثم دارت حول الحمالة لتريه جمال الرسمة التي لم تنته منها بعد
فقال بصوت ناعم , وكأنه ندم على سخريته منها :
ـ قالت تيريسا إنك رفضت دعوتها للانضمام إلينا على العشاء هذه الليلة
ـ يبدو أنها حارت في أسباب رفضك
أخفضت رأسها تنظر إلى يديها :
جعلتها لهجته الساخرة ترفع رأسها ثانية :
ـ لم أقصدكم حتى أبقى ضيفة عليكم
ضاقت عيناه فبدت شعلة كهرمانية في أعماق عينيه الخضراوين اللتين تسبران أغوار المحيط الأزرق أمامه :
ـ جوديت هل تحاولين تجنبي ؟
ـ بلى اللعنة عليك ! فذلك اليوم كدت
أردف دون أن يعير لما قالته اهتماما :
ـ لم تردعيني يومذاك بل رحت بعدما جرى تتجنبينني أجل أدركت هذا خاصة حينما قالت تيريسا إنها ليست دعوة
العشاء الأولى التي ترفضينها
ظهر تعبير غاضب على وجه جوديت :
ـ أظنك كاذبة جوديت إلا إذا كنت معتادة على ترك الرجال يعانقونك كما فعلت
وتحولت الشعلة الكهرمانية إلى نيران حمراء
ـ ثمة رجل واحد أسمح له بذلك وأنت على ما أظن تعرف من أعني
لم يرق لها إغضابه , ولكنه السبيل الوحيد للدفاع فلاذت إلى الصمت الذي أدانها في نظره , فشدد على سؤاله بجفاء :
ـ إذن سيسرك أن تعرفي أنه سيكون هنا يوم الأحد
استحوذ عليها الاطمئنان وصحبه احمرار مفاجىء في عينيها :
ارتد عنها إلى النافذة حانقا
ـ أجل تشير ردة فعلك إلى أنك مسرورة بالخبر
رد نظره إليها وقد تشددت الخطوط حول فمه :
ـ وهل أخبرته عما جرى بيننا ؟
فجأة أصبح سبب كرهه لرؤية أخيه واضحا أمامها :
ـ العناق الأول أم الثاني ؟
ـ لا ! اسمع أندرو ليس لدي الرغبة في الوقوف بينك وبين زاك
ـ ألا ترغبين ؟ ولكن الأوان فات جوديت أنت الآن حائل بيننا يصعب إبعاده , لذا كلما أسرعت بالرحيل عن المنزل كلما
وخرج كالعاصفة من الغرفة فوقفت مسمرة دون حراك , تعض شفتها العليا مانعة الدموع من الانهمار من عينيها إنه يريد منها
أن تغادر منزله في أسرع وقت ممكن وهي تريد الرحيل , تريد ترك المكان لئلا ترى أندرو مرة أخرى ولكن , هل سيزول
ألم حبها له ما إن تبتعد عنه وهل ستتوقف عن حبه ؟
التفتت إلى الباب حينما انفتح فإذا تيريسا داخله , فانزعجت لأنها لا ترغب أدنى رغبة في التحدث إلى أحد
هي تريد الوحدة لا لا لا تريد الوحدة ! آه بل إنها لا تعرف ما تريد ! ربما ما تحتاج إليه هو بعض راحة البال ,
ولكن من أين لها الراحة بعد الآن
ـ قال أندرو إنك ما زلت ترفضين تناول العشاء معنا
ونفخت أنفها في منديلها بصوت مرتفع , فهزت الفتاة رأسها :
ـ ألا تريدين حقا الانضمام إلينا للعشاء ؟
ـ أعرف أنه كان نكدا أكثر مما ينبغي في الآونة الأخيرة فهل نقل إليك بعضا من نكده ؟
سارت تيريسا إلى داخل الغرفة :
ـ عادت الكلاب تهاجم الخراف ثانية
ـ بلى مع أن الأمر غريب , فهو لم يحدث إلا منذ أسبوع أو أسبوعين فقط ربما هي كلاب شاردة والآن فلأتركك
أقلقتها فكرة ما وأزعجها حتى غاب عنها خروج الفتاة الأخرى
ثمة كلب شارد واحد تعرفه في المنطقة كلب شارد تعرف أنه يحب الخروج منفردا وهو لم يتواجد في المنطقة إلا منذ
حاولت إقناع نفسها باستحالة الفكرة متذكرة رقته مع الحمل , غير أنها لم تستطع صرف النظر عن الفكرة بسهولة
قد يكون الأشعت هو قاتل الخراف , وفي هذه الحالة سيقتلونه !