صُعقت جو وبقيت صامتة لعدة دقائق , ولكن أفكارها كانت
تتسارع وهي تتذكر محادثاتها المتعددة مع السيدة أديل هاستينغ ,
والدته ... إن كان فعلاً من يدعي أنه هو !
والصفة التي تستطيع نعت السيدة هاستينغ بها هي أنها متحدثة من
الدرجة الأولى . وغالباً ما أتت السيدة على ذكر طفلة تدعى روزي في
أحاديثها , ولكنها لم تستطع معرفة ابنة من هـي .
كما أن اسم ابنها غافن طغى على الأحاديث , فأخبرتها أديل
هاستينغ أن ابنها رائع . صحيح أنه متسلط قليلاً ويحب القيام بالأمور
على طريقته الخاصة و لكنه مقتدر تماماً ويستطيع القيام بكل ما يصمم
عليه , وهذا أمر ضروري لكـــي يتمكن من إدارة إمبراطورية آل هاستينغ
الشاسعة التي ورثها عن أبيه ...
أجرت جو بعض الأبحاث عن العائلة واكتشفت أنها فعلاً سلالة
عريقة . كان غافن هاستينغ الأول رائداً , وقام حفيده , والد غافن ,
بتوسيع ممتلكات الأسرة واقتناء المواشي . كما أنه تزوج أديل ديلاني
وهي ابنة بارون فذ . توقفت جو في بحثها عند هذا الحد , فهي سترسم
لوحة تمثل أديل وليس سواها .
ولكن كيف يُعقل أن أديل لم تخبر ابنها الرائع , المتسلط ـــ وهذا الأمر
تصدقه تماماً ـــ بشأن اللوحة ؟
وكيف يُعقل أن السيدة هاستينغ ليست في كين كان ؟
ومن جهة أخرى , إن كان فعلاً من يقول إنه هو , فهذا يفسر ثيابه
الغالية وساعته ولهجته المثقفة , رغم أنه بدا لها غريباً ألا يعرف بشــأن
نظرت إلى خاطفها لتطرح عليه السؤال , ولكن غايفن هاستينغ الرابع
استندت جو إلى وسادتها , غارقة في التفكير . كان الضوء المنبعث من
الموقد أقوى الآن ولم تكن مضطرة للتحديق كثيراً لتميز قسمات وجهه ,
وتلاحظ أنه يبدو أصغر سناً , يناهز الرابعة والثلاثين من العمر تقريباً .
إلا أن النوم لم يسلب شيئاً من وسامته , مع أنه خفف عجرفته إلى حد
كبير . كانت بشرته مائلة قليلاً إلى السمرة وحاجباه الداكنان أقل شراً .
أما فمه ذو الابتسامة الشيطانية , الساحرة , الوقحة ـــ وهذا أقل ما
يمكنها أن تقول فيه ـــ فكان مسترخياً .
لم يكن لديها شك في أن غافن هاستينغ جذاب جداً , و لكنها سرعان
ما ذكرت نفسها بأنه بغيض أيضاً . ويمكنه أن يكون فظيعاً , متعجرفاً وإن
كانت تلاحقه عصابة خاطفين .. ثم مازال عليها أن تثبت له بأنها
ليست عشيقة أي زعيم عصابة أو ما شابه .
ربما يصدقها إذا رسمته ؟ ليس الآن طبعاً ولكن عند أول فرصة
سوف تفعل ذلك . أما بالنسبة لعملية اختطافها معه ...
استسلم دماغها المنهك عند هذا الحد وغطت في النوم .
لم يكن لديها أدنى فكرة كم مضى من الوقت عندما استيقظت بحفــلة
على صوت شبيه بقرع الطبول . جلست واضعة يدها على حلقها الجاف
فشعرت بذراع أحدهم تطوقها وصوت يطمئنها : (( إنه المطر, خبر
بدأت تستعيد وعيها : (( من ... ماذا .. ؟ المطر ! يبدو كصوت
ـ هذا بسبب السقف المعدنـي .
ارتجفت جو . لم يكن هناك أي أثر للناس في الموقد كان الطقس بارداً
جداً . سألته : (( لِمَ تقول إن الخبر سار ؟ )).
ـ سيصعب عليهم المطر العثور علينا , إن كانوا لا يزالون
يبحثون .. لست أدري إن كنت تشعرين مثلي ولكنني أتجمد من البرد .
ـ لدي فكرة أفضل . استندي علي آنسة لوكاس .. أظن أنك
تجاهلت جو السؤال وطرحت عليه سؤالاً آخــر : (( لماذا ؟ )).
ـ لكي نشعر بالدفء , سنضع كلا الغطاءين فوقنـــــــا .
ووجدت جو نفسها مستندة إلى الخلف بين ذراعيه .
ـ لقد شككتُ بأننا سنصل إلى هنـــا .
ابتلعت ريقها بصعوبة , فقال في شعرها : (( نيتك سيئة جوزي . هل
تكرهين الرجال لسبب ما ؟ ألهذا السبب تساورك الشكوك ؟ )).
ـ أظن أن مشاركة السرير مع شخص غريب أمر يجعلها عرضة
للشكوك ., ناهيك عن كل الأمور الباقية . ففي النهاية , أنت من بدأ
ـ ولكن عليك أن تقري بأن الــسرير أصبح أكثر دفئاً .
بالفعل ! وأكثر أماناً أيضاً . ربما لأنها تعرف من هو فعلاً الآن ,
وتعلم أنها إلى جانب الأخيار ! صحيح أنه لا يزال هناك شك كبير ولكنه
نتيجة سلسلة مصادفات لا تصدق !
أمر وحيد كانت واثقة منه هو أنها لم تمر ببوابة كين كان الرئيسية . ما
فتحت فمها لا لتسأل هذا فقط , إنما أسئلة كثيرة أخرى : هل لديه
فكرة عن هوية خاطفيه المحتملين ؟ كيف أفلت منهم ؟ ... ولكن تنفسه
العميق البطيء , واسترخاء ذراعه حول وسطها أنبأها بأنه غط في النوم
ابتسمت رغماً عنها . كان فيه الكثير من الإغراء , لكن إذا كان
صحيحاً ما لمح إليه من أن نساء كثيرات يجدنه جذاباً , فمن الأكثر أماناً
وتساءلت فجأة في سرها : أي نوع من النساء يجذبنه ؟ الـــجميلات ؟
حتماً . المثيرات ؟ بالتأكيد . جوان لوكاس ؟
تحركت فجأة وأبعدت نفسها عنه لتنام على السرير الآخر , وهي
تحاول مع ذلك مشاركته الغطاء .. لكنه لم يتحرك على الإطلاق .
كان الفجر على وشك البزوغ عندما تململ غافن هاستينغ في فراشة ,
وإذا به يقطب حاجبيه فجأة . كان خده مستنداً على شعر أحدهم , وشعر
حريري ناعم تفوح منه رائحة .. رائحة ماذا ؟
ولسبب ما تراءت في مخيلته علبة شامبو مزينة برسوم التفاح
والإجاص ومملوءة بسائل أخضر . تذكر أنه رأى علبة مماثلة بين
أغراض جوان الشخصية , كما لمح أيضاً أداة حلاقة زهرية اللون .
وفرك ذقنه مفكــراً أنه حتى شفرة حلاقة زهرية ستكون ممتازة بالنسبة
لشخص لم يحلق ذقنه منذ يومين .
وإذا بذهنه يشرد مجدداً ويتجه نحو المرأة النائمة بهدوء بين ذراعيه .
كان جسمها ناعماً دافئاً .. ففضل أن يخرج نفسه من هذا الوضع .
ولكن عندما حاول إزاحة جو لوكاس عنه , همهمت معترضة ودفنت
أضاءت التسلية عينيه , سوف تكرهينني عندما أخبرك بهذا
(( جوزي )) ... وإذا تعاليت مجدداً , كما أتوقع أن تفعلي , فلن أستطيع
ماتت التسلية عندما حدق بالجميلة النائمة بين ذراعيه . فلم تكن
رائحة شعرها وحدها تداعب حواسه إنما بشرتها الناعمة وجسدها
سلخ نفسه عن تلك الأفكار الجانحة بجهد بالغ . من هي بحق السماء ؟
ليس هذا فقط ! كم من مرة ومرة لجأ إلى النساء لينسى , وإذا به يجدهن
مجرد مسكن لأوجاعه , وليس الدواء الناجح .
نهض من السرير وتمطى بقوة . وعندما استدار , كانت جو قد فتحت
ـ صباح الخير آنسة لوكاس . آن الأوان الآن لنعود إلى مشكلتنا .
بقيت جو مطولاً مكانها ثم جلست فجأة وراحت تسرح شعرها
سألها بشيء من السخرية : (( هل نمت جيداً ؟ )) .
ـ أظن .. أظن ذلك . لا أذكر .
ـ أظنك نمت جيداً .. أكثر مما تتصورين .
بقي واقفاً مكانه ينظر بوقاحة , بينما بدت هي مرتبكة تماماً . ثم
غير الموضوع كلياً : (( ربما لم تلاحظــي , ولكنها لا تزال تمطر ما تشائين بينما
كررت بغير ثقة : (( أفعل ما أشاء ؟ )).
ـ ربما تريدين أن تغيري ملابسك أو تسخنــي بعض الماء أو ربما
تتأملــي نفسك إذا كان هذا ما تفضلين فعله في مثل هذه الساعة من
ضاقت عيناها وعلم أن لا شيء سيسعدها الآن أكثر من لكمه على
وجهه . إلا أنها التزمت الصمت ونهضت من السرير .
شيء ما جعله يشفق عليها , فناولها معطفها قائلاً : (( خذي, ارتدي
أخذته منه رافضة النظر في عينيه حتى عندما أنزل لها حقائبها
بعد ذلك بربع ساعة , كانت جو بمفردها محتجزة داخل الكوخ ,
ولكنه كان قد أشعل النار ووضع إبريق القهوة على الموقد , بالإضافة إلى
وعاء كبير من الماء للاغتسال .
شعرت جو بحال أفضل بكثير بعد أن اغتسلت وارتدت طقمها
الرمادي , وسرحت شعرها وربطته إلى الخلف ثم أعدت لنفسها فنجاناً
تخيلت غافن هاستينغ يتصارع مع مظلتها الصغيرة ومعطفها المشمع
اللذين طبعاً لن يؤمـنا له الكثير من الحماية , ولكنهما في النهاية أفضل
من لا شيء في هذا الطقس الماطر .
وأخذت تفكر في الملاحظــة التي قالها غافن عن النوم الهنيء الذي
أمضته الليلة الفائتة , فلم تفهم مقصده منها .
طبعاً لم يستغلها أثناء نومها , ولا يمكن أن تكون هـي قد فعلت شيئاً
ألقت نظرة سريعة إلى السريرين , فرأت أحدهما مرتباً بينما الآخر
كان مجعداً جداً. فصرفت أسنانها منزعجــة .
لا بد أنها أمضت الليلة بين ذراعيه . فلا يمكن أن يصبح السرير
الصغير بهذه الحالة إلا إذا احتضن جسمين معاً . والأسوأ أن السرير
كان سريره هو, لذا لا بد أن تكون هي من أتى إليه .
وراحت تفكر في ما يبرر هذا الخطأ الفادح . لا بد أنني كنت أشعر
بالخوف والبرد ... لا بد أنني كنت مجنونة !
سكبت فنجان قهوة آخر , علها تبعد أفكارها عن أمور لا تستطيع
تغييرها . ثم تذكرت الفكرة التي خطرت لها عن رسمه لتثبت له أنها فعلاً
فتحت علبة الأقلام وتناولت ورقة ثنتها من الوسط . لطالما كانت
بارعة في الرسم التخطيطي وهي لا تزال تذكر كم كان تجد فيه ملاذاً
وراحة , في حين أن الألوان لم تكن تستهويها إطلاقاً . لقد جربت التلوين
بالماء والزيت والأكريليك , لكنها لم تجد في أي منها ما يستهويها .
ولكن عندما بلغت عامها الثامن عشر تغيرت حياتها جذرياً ودخلت
كلية الفنون لسنة . وهناك اكتشفت الأقلام الزيتية , فكان ما كان .
تجنبها الألوان لم يكن ناتجاً عن عدم إعجابها بها إنما من صعوبة
الجمع بين تقنيتي الرسم والتلوين . فجاءت الأقلام الزيتية لتسمح لها
بالرسم بالألوان وهي لم تتوقف عن الرسم منذ ذلك الاكتشاف . وها
هي اليوم , في الرابعة والعشرين من العمر , ترتقي سلم النجاح وتصنع
لنفسها اسماً في عالم فن الرسم .
طبعاً كان لهذا العمل ناحيته السلبية , فغالباً ما يكون الرسام تحت
رحمة شخصيات بغيضة الشكل , فتتوق أصابعه لرسمها كما هي . ولكن
جوان كسبت تقدير زبائنها . وما إن تستقر جيداً , ستتمكن من
الانصراف إلى رسم ما يروقها من مناظر طبيعية وأطفال بشكل خاص .
نظمت أغراضها , وكعادتها قبل الرسم , تنفست بعمق وتخيلت
أتتها صورته مصحوبة ببعض الانفعالات التي تختلجها , وكان ذلك
أمراً عادياً , ولكن ما جعلها تتفاجأ فعلاً كان تغير تلك المشاعر المرافقة
لوجه غافن هاستينغ الوسيــم .
اكتشفت أن أصابعها تتوق لرسم زوايا وجهه وخطوطه بما يشبه
شيطاناً أزرق العينين . ولكنها سرعان ما وبخت نفسها . فإذا كان صادقاً
في ما يقول , وتعرض فعلاً لمحاولة اختطاف , فإن هذا يبرر سوء طباعه !
حدثت نفسها بأن هذا لا يهم . فهو لا يروقها أساساً , ولكن لا
يعجبها أن تروق لها بعض الأشياء في هذا الرجل . وراحت تتساءل عن
حدقت بالورقة تحت أصابعها وراعها أن تجد نفسها تلهث . هذا لن
ينجح ! الطريقة الوحيدة لرسم غافن هاستينغ بأدق تفاصيله هي أثناء
لم يكن لديها أي فكرة كم مضى من الوقت عندما سمعت مزلاج
الباب يفتح من الخارج , ولكن إحساساً ما حثها على إخفاء أدلة
محاولتها بمعطفها , فألقته بسرعة على علبة الألوان .
دخل وعلى وجهه إمارات الشر والغضب , وكان مغمساً بالوحل
والمطر من رأسه حتى أخمص قدميه .
اتسعت عيناها عند رؤيته ونظرت إلى ساعتها . فأدركت أنه مضى
سألته : (( هل أنت بخير ؟ )) .
أجاب بسخرية بالغة : (( هل أنت قلقة بشأني ؟ أم أنك اشتقتِ إلي ؟
لا , لستُ بخير . ضعي بعض الماء على النار )) .
فتحت جو فمها لتعترض على طريقته في الكلام ثم غيرت رأيها . أما
ـ ما الذي حل بالمظلة والمعطف المشمع ؟
ـ لقد أفسدهما المطر فرميتهما .
أصغت جوان إلى تساقط المطر على سقف الكوخ لفترة قبل أن تقول :
(( على أي حال , هما ليسا مصممين لهذا النوع من المطر )) .
ملأت إبريق القهوة ووضعته على النار مجدداً .
استدارت لتنظر إليه , ولكنها ما لبثت أن أشاحت بنظرها . إذ كان
قد خلع ثيابه وبقي بسرواله القصير وجاربيه .
ناولته ملاءة بيضاء سحبتها عن السرير , فلف نفسه بها من دون أن
يشكرها . لا بل أن نظراتهما كانت تقدح شرراً وهما ينظران الواحد إلى
قالـت له عندئذٍ : (( اسمع . الذنب ليس ذنبي . لذا لا تصب غضبك
علي. وإذا كان هناك من يجب أن يُلام , هو أنت )) .
جلس إلى الطاولة وسألها متحدياً : (( وهل قمتِ أنتِ بأي شيء منتج
ـ حسناً , سأخبرك بما كنتُ أفعله . كنت أنتقل خلسة في ممتلكاتي
الخاصة وأسرق وقودي الخاص , بينما كنتِ أنت ...
وقع نظره على طرف علبة الأقلام البارز من تحت معطفها , فأزاحه
بسرعة: (( لا أصدق ! كنت تلونين ؟ )).
ـ أنا لا أستعمل التلوين بل الأقلام الزيتية .
توقف لحظة وراح يتأمل رسمه , ولكنه لم يسمح لها بأن تكتشف شيئاً
مما يفكر فيه . ثم نظر إليها مهدداً : (( أتـظنين حقاً أن هذا قد يثبت
عضت على شفتها ثم قالت : (( لقد كنت آمل ذلك )) .
ـ يبدو أنك نظرتِ إلي مطولاً أثناء نومـي , جو !
احمر خداها قليلاً وهي تقول : (( هذا من عاداتي . أنظر دائماً إلى
خطوط الوجه زواياه وعضلاته )) .
ـ وهل من عاداتك أيضاً النوم بين ذراعـي رجال غرباء ؟
أنبأها صفير الإبريق على النار بأن الماء قد بلغ درجة الغليان ولكنها
ـ لا بد أنني غفوت , فأنا لا أذكر أنني فعلت ذلك . على الأرجح
أنني شعرت بالبرد ... هذا كل ما في الأمر .
نظر إلى فمها المتوتر وقابل نظرتها الرمادية لحظة قبل أن يهز بكتفيه
قائلاً : (( على أي حال , كان هذا ساراً . والآن آنسة لوكاس , هلا كنت
لطيفة ونظفتِ المائدة ؟ وهلا أعرتني أيضاً شفرة الحلاقة الزهرية ؟ )) .
فتحت جو فمها لتتكلم ولكن سرعان ما أطبقته مجدداً .
ـ أنا بحاجة لأحلق ذقني , قد يحسن حالتي النفسية . هل تحملين
في الواقع , كانت تحمل أكثر من ذلك . فلديها صابون ومنشفة نظيفة
وفرشاة أسنان ولكن المرآة كانت صغيرة جداً .
استعملها على أي حال , وهو يحدق فيها بشكل مضحك , بحثاً عن
أي بقعة لم يحلقها . ثم نظف أسنانه , شاعراً بالارتياح .
قال لها وهو يحلق : (( أحب المرأة التي تستعمل أداة حلاقة جيدة )) .
ونظر إلى شفرة الحلاقة تحت الضوء : (( هل هي جديدة ؟ )) .
أجابت جو بجفاء : (( كانت جديدة )) .
ضحك قائلاً : (( لا أظنها ستفيد لشيء بعد أن أحلق بها ذقني . ولكني
أعدك بأن أشتري لك أخرى , لو حصل وخرجنا من هنا . هل تحمين
محلولاً لما بعد الحلاقة , من باب الصدفة ؟ )) .
ـ إذا كنت تقصد بذلك أن تجعلني أشعر أنني عديمة الأنوثة , فإن
محاولتك فاشلة . لا , ليس لدي محلول لما بعد الحلاقة , ولكن جرب
وناولته قارورة أخذتها من حقيبة أغراضها الشخصية .
ـ إنه مرهم طبيعي سيشعرك بالانتعاش .
وضع قليلاً منه على راحتيه وفرك بهما وجهه : (( أنت محقة , يبدو انك
امرأة كثيرة الموارد . ما كان علي أن أطعن في أنوثتك )).
أثناء الحلاقة, كان قد لف الملاءة البيضاء على خصره بينما علقت
هي ثيابه المبللة على الكرســـي أمام النار .
قالت له : (( رأيك بي لا يهمني إطلاقاً )).
ولكن في الواقع كان صعباً أن تتجاهل عضلات كتفيه
المفتولة وشعيرات صدره الداكنة , وذلك لسببين أولهما إحساس
غريب استحوذ عليها والآخر رغبة جامحة في رسم ذلك الكمال
ساد صمت قصير , قال بعده بسخرية : (( أنت غريبة جوزي )) .
هزت كتفيها بلا مبالاة وشغلت نفسها بتحضير الفطور . ولكن
أصابعها تجمدت وهي تتذكر ما قاله سابقاً , فاستدارت نحوه فجأة :
ضاقت عيناه : (( تساءلتُ متى ستستوعبين الأمر ؟ )) .
ـ هناك مرآب للآليات ليس بعيداً من هنا .
ـ كلا . هناك رافد نهر يحول دون وصولنا إلى البوابة ولا يمكننا
اجتيازه حتى ولو كان معنا سيارة رباعية الدفع .
سكبت جو الفطور وناولته سكيناً وشوكة ثم جلسـت على كرسيها
حاملة طبقها على ركبتيها , مختارة كلماتها بحذر بالغ .
ـ ثمة أمور لم أفهمها . هل كنت بمفردك في المزرعة عندما حاولوا
ـ كلا , لقد قبضوا على مدير المزرعة قبل أن يلحقوا بـي .
اتسعت عيناها وبدت الصدمة عليها : (( هل قتلوه ؟ )) .
ـ لا , ولكنهم قيدوه وأخذوه , الله يعلم إلى أين .
سألته عابسة : (( لم يكن هناك أحد من العائلة ؟ )) .
وضع شوكته جانباً ورمقها بنظرة متفحصة : (( جو .. أياً كانوا ,
فقد أنجزوا فرضهم جيداً ودرسوا الوضع تماماً . إنها عطلة نهاية أسبوع
طويلة ويصادف أنها المباراة السنوية لرعاة البقر في المنطقة , وأشخاص
كثر ليسوا في منازلهم . كان يفترض بي أنا أيضاً أن أكون بعيداً عن منزلي
ولكني غيرت رأيي في اللحظة الأخيرة )) .
سألته بارتباك : (( ألهذا السبب والدتك ليست في المنزل ؟)) .
ـ لقد غادرت أمي إلى (( بريزبان )) منذ يومين لتحضر عرضاً نَسيت أن
لديها بطاقات لحضوره . الحمد الله أنها لم تكن في المزرعة و روزي كذلك .
وشعرت جو فجأة بنظرته تخترقها , فطرفت بعينيها وقالت :
ـ لقد ذكرت لي اسم روزي عدة مرات أثناء مكالماتنا الهاتفية .
فهمت أنها طفلة ولكنني لم أعرف ابنة من هي .
حدق بها لحظة طويلة أخرى ثم أنهى فطوره ووضع شوكته جانباً .
كادت جو تغص وهي تتناول فطورها , ولكنها غامرت وسألته :
أزاح طبقه من أمامه وكانت تعابيره مبهمة .
ـ هل يمكنني الحصول على فنجان قهوة ؟
قالت ذلك ونهضت لتعده له ثم ترددت قليلاً قبل أن تسأله :
ـ هل أفترض أن والدتك تعاني من شرود الذهن ؟
نظر إلى السماء : (( أمي , باركها الله , بدأت تفقد ذاكرتها مؤخراً )) .
وضعت أمامه فنجان القهوة : (( هذا يفسر الأمر إذاً )) .
ـ أتقصدين بأنه يفسر لما نسيت أمر قدومك إلى كين كان ؟
ـ ولكن هذا لا يفسر لما لم تذكر أمي شيئاً عن قصة الرسم تلك .
ـ وكيف تظنين أنها كانت ستفسر وجودك ؟
ـ لست أدري .. إنها والدتك !
نهض من مكانه وسألها : (( لا أفترض أن لديك ثياباً للرجال في حقيبة
الفرجة هذه أم أنا مخطئ ؟ )) .
حدقت به جو بعينين ثاقبتين ثابتتين .
ـ أقول لـكِ مجدداً بأن النظرات لو كانت قاتلة , لكنتُ الآن تحت
الأرض . حسناً , آنسة لوكاس , فرضاً أنك بريئة وإلى ما هناك , هل
قاومت جو الرغبة التي تملكتها في صب جام غضبها عليه , وطرحت
عليه سؤالاً عوضاً عن ذلك : (( كم عددهم ؟ ))
ـ إثنان . كانا مقنعين لذا ليس لدي فكرة عن هويتهم .
جلس عند زاوية الطاولة وسألها : (( هل تحققين معي ؟ )) .
فكر ملياً ثم قال : (( لقد قيداني كدجاجة واحتجزاني ليلة كاملة في
مستودع لا ينفذ النور إليه . لم يعرفا أن تحت السجادة باب أرضي معد
لأيام الفيضانات فخرجت منه )) .
ـ و لكن كيف ؟ إذا كنت مقيداً كالدجاجة ؟
فرك معصميه , فلاحظت جو للمرة الأولى آثــار تقرح حمراء في الجهة
ـ وجدتُ مقصاً قديماً وتمكنت من حل الحبل بواسطته . مع أن ذلك
لم يكن سهلاً , بما أن يدي كانتا مقيدتين خلف ظهري .
كان في ردها شيء من الخوف حاولت طمسه بقولها : (( لِمَ لم يأخذاك
معهما بدلاً من احتجازك في المنزل طيلة الليل ؟ )).
ـ يبدو أنني لست أنا المستهدف .
حدقت به من دون أن تفهم شيئاً .
قال مفكراً : (( لست أنا بل روزي , ابنتي , طفلة الست سنوات . إنه
فغرت جو فاها : (( ولكن .. هل أنت واثق ؟ )).
ـ بالتأكيد . لقد سمعت حديثهما بأكمله وكل ما كان يدور بينهما
أثناء الليل من كلام ومخططات . وقد قررا أن يأخذاني بدلاً منها ولهذا
ـ الحمد الله على ذاكرة والدتك الضعيفة .
ـ ولكن الخطر لا يزال هو هو . فليس علي أن أتوارى عن كين
كان , ولكن علي أيضاً أن أمنع أمي وابنتي من الوقوع بين أيديهم . ولقد
قطعوا كل الخطوط الهاتفية .
ـ ألا يجدر بهذا أن يثير شكوك والدتك مثلاً ؟
ـ ليس بالضرورة . فأحياناً كثيرة تتعطل الخطوط هنا .
قالت ببطء : (( لدي اقتراح لا علاقة له بالهرب , ولكنني واثقة من
أنهم هم من نزعوا اسم كين كان عن البوابة الرئيسية , ربما ليضيعوا كل
من يحاول البحث عن المكان )).
فكر بما قالته وهو ينظر إليها متفحصاً .
فقالت بهدوء : (( صدقني, لهذا السبب وجدتني في الطريق الخلفي )).
ـ هممم .. قد تكونين محقة .
ثم هز كتفيه : (( المشكلة الآن هي إذا ما كانا قد استسلما ورحلا أو
أنهما ينتظران للإيقاع بي بطريقة ما ؟ )).
ـ لا يبدوان منظمين كثيراً .
نهض ونزع الملاءة من خصره ليرتدي ثيابه .
ـ لقد تآمر القدر ضدهما , فالطقس لم يساعدهما حتماً ولكنهما ثنائي
خطير ... أو ربما ثلاثي , إذا ما احتسبنا جو معهما . أحدهما على الأقل
يستعمل مزيجاً من المخدرات والكحول ليبقى واعياً .
ارتجفت جو وراقبته وهو يتصارع مع بنطلونه الرطب .
ـ هل عاملاك بعنف ؟ عدا عن تقييدك طبعاً !
التوت شفتاه وهو يجيب : (( ركلة في الـظهر وضربة على الرأس ... )) .
مرر يده على شعره الداكن وأجفل عندما شعر على ما يبدو بنتوء تحت
ـ ... وأموراً أخرى أيضاً .. ولكنني على الأرجح استفزيتهم .
شيء ما في الطريقة التي قال بها ذلك أخاف جو حتى الأعماق . لم
يكن لديها شك بأن غافن هاستينغ رجل سيء نزق .
ـ أما بالنسبة إلى الأمور الأخرى , فقد كانا من الدهاء بما يكفي
ليعطلا سيارات المنزل ويحتجزوا الكلاب ويرميا المفتاح . السلاح كان
ضربة من الحظ بالنسبة لي . فقد نسي كايس رئيس العمال أن يوضبه
رفعت جو الصحون والأكواب الفارغة عن الطاولة ووضعتها على
ـ إذاً , كنتَ تنوي قطع الطريق عل (( جو )) الآخـر و .. ؟
ـ وأرغمه على اصطحابي إلى أقرب هاتف .
كان ينظر إليها وهي تزيل فتات البسكويت عن المائدة , وأدركت أن
نظرة الشك تلك عادت إلى عينيه .
ـ سيارات الجيب الرمادية كثيرة جداً . أنت تعلم .
ترددت قليلاً : (( أنا .. )) .
ولكن دوياً قوياً شق الصمت واخترقت رصاصة أحد الجدران .
تجمد كلاهما لحظة ثم قفز غافن هاستينغ عبر الطاولة . وبحركة سريعة
منه , بطحها أرضاً قبل أن تخترق شظية أخرى الباب .
بعد ذلك بدقيقتين , كان الباب قد خُلع ودخل رجل مسلح ومقنع .
زمجر قائلاً من فوق كتفه : (( أنظر ماذا وجدتُ هنا يا جو , غاف
وفتاته . ذكاء منه أن يُخفي عشيقته في كوخ شبه مهجور , ألا تعتقدان ؟ )).
نهاية الفصل (( الثانــي
)) ..