بعد عدة أيام , أوقفت جو ما كانت تقوم به , أي محاولة رسم أديل
هاستينغ , وراحت تفكر في محاولة الخطف الفاشلة تلك .
بعد أن عرض عليها غافن الزواج , أغمى عليه على الفور وهبطت
طوافة تابعة للشرطة في المـرج .
ما حصل هو أن والدة غافن , وحال وصولها إلى بريزبان تذكرت
فجأة قدوم جو الوشيك إلى كين كان . فحاولت الاتصال بالمزرعة ولكن
من دون جدوى . وعندما بلغ القلق منها مبلغاً , اتصلت بالشرطة .
توجهت دورية من (( مونامولا )) إلى كين كان لتجد أن اللافتة التي تدل
على المزرعة قد أزيلت , فطلبوا فرقة دعم .
نُقل غافن جواً إلى المستشفى واعتُقل الخاطفون الثلاثة , كما ضُبطت
في حافلتهم كمية من المخدرات . وأُطلق سراح مدير المزرعة من حيث
كان محتجزاً على بعد كيلومترات من المزرعة .
وفي اليوم التالي تبين أن سيارة الرانج روفر التي كان يقودها الخاطف
جو مسروقة , ما يفسر سؤال الخاطفين الآخرين عن نوع السيارة التي
كما تبين أن الرجل الذي استخدم السلاح هو شقيق أحد عمال كين
كان , وكان غافن قد طرده لعدم كفاءته وإدمانه على المخدرات , فكان
الثأر الحافز الكامن وراء كل هذا .
كانت جو قد رفضت عرض الشرطة بالقيام لفحص طبي . فأسوأ ما
تعرضت له كان بعض الرضوض التي سببها غافن نفسه عندما ألقاها
على الأرض في الكوخ . كما أن والدة غافن ألحت عليها بالبقاء في كين
كان بعد أن زارت ابنها في المستشفى .
أما روزي فقد بقيت في بريزبان مع شقيقة غافن , حفاظاً على
ولم تستطع جو أن تسأل أديل هاستينغ لِمَ لم تخبر ابنها عن اللوحة , إلا
ارتسمت على أديل ملامح المكابرة , وقد بدت قصيرة القامة حمراء
الشعر وفي أواخر الخمسينات من العمر , وقالت لجو إنه كلما قللت من
استشارة غافن , كان ذلك أفضل .
طرقت جو بعينيها وعقدت حاجبيها : (( لــماذا ؟ )).
ـ عزيزتي , يكفيه ما لديه من سلطوية , لذا أفعل عادة ما يحلو لي ,
وعندما يصبح الوضع أمراً واقعاً , يضطر للتكيف معه .
ـ ولكن لِمَ يعارض رسم لوحة لك يا سيدة هاستينغ ؟
ـ قد لا يعارض ولكن المسألة مسألة مبدأ . وكما ترين , لدي أيضاً
كانتا تتناولان القهوة في فنجانين مقدمين على صينية فاخرة مع أنهما
كانتا جالستين في المطبخ . وطبعاً لم تكن أديل لترضى بوسمة الفقر في أي
ظرف كان ولكن ماذا عساها تفعل فالشرطة كانت تشغل بقية أرجاء
حدقت أديل هاستينغ بجو من فوق حافة فنجانها بعينين زرقاوين
تشبهان عينــي ابنها إلى حد بعيد , وقالت : (( أردت أن أعطـــي رسمي لابنتي
شارون بمناسبة عيد ميلادها الثلاثين . إنها خبيرة في الفن وقد أظهرت
اهتماماً بأعمالك.. ولكن في الواقع أريدك أن ترسمـــي غايفن وربما
روزي إذا كان وقتك يسمح لك . أكثر ما يهمني هو تعليق رسم غافن إلى
جانب رسم والده وجده و جد والده )).
وضعت جو فنجانها مكانه مستفهمة : (( وهل سيوافق ؟ )).
ـ أشك في ذلك . ذكرتُ الأمر مرة أمامه فقال لي : انسي الأمر .
عليك أن تقومي بذلك سراً , من دون جلسات وإلى ما هناك , وأظنك
ثم أضافت أديل بلهجة ودودة : (( لقد أوصتني بك صديقتي إليزابيت
مورغان . فقد أذهلتها اللوحات التي رسمتها لقططها نقلاً عن بعض
أغمضت جو عينيها لحظة . كان ذلك العمل أشبه بكابس , مع أنه
كان مريحاً مادياً . فالسيدة مورغان المرموقة في مجتمع بريزبان , غيرت
رأيها ست مرات في ما يتعلق بالثياب والحلـــي التي تريد أن ترتديها في
جلسة الرسم . ثم قررت أن تخصص لوحة كل من القطط الأربع التي
ـ ولكن واجبــــي الأخلاقـــي لا يسمح لي برسم أشخاص لا يرغبون في
تشابكت العينان الزرقاوان بالعينين الرماديتين , وقالت أديل
ومن دون علم جو , وجدت أديل نفسها تستعيد تعليمات ابنها
الواضحة في ما يتعلق بجو لوكاس . فعل الرغم من ألمه وشحوبه على
وسادة المستشفى , لم يتأخر عن إصدار سلسلة من التعليمات : المقابلات
الصحفية ممنوعة , والتصوير ممنوع كلياً في كين كان . أما روزي فيجب
إبقاءها في بريزبان بعيداً عن الأضواء إلى أن تنتهي المسألة , ولتبقَ جو
لوكاس في المزرعة حتى عودته !
عارضت أديل وقد بدت مرتبكة: (( كيف عساي أبقيها هناك إن لم
تكن ترغب في ذلك ؟ ما مرت به كان فظيعاً , لذا أفهمها إن
ـ عزيزتي استعملي قدراتك المذهلة في الإقناع .
ارتسمت على ثغره نصف ابتسامة ثم أضاف عندما رأى الارتباك
يزداد على قسمات وجهها : (( على أن أعوض عليها , فقد ظننتُ في البداية
أنها فرد من العصابة . لا تدعيها ترحل أمي )).
سلخت أديل هاستينغ أفكارها على ابنها وعادت بها إلى المرأة الشابة
الجالسة قبالتها على المائدة , فتسارعت فجأة دقات قلبها . هناك
علاقة بينهما ؟ هل يُعقل أن يكون غافن قد وقع بالحب مجدداً بعد أن
قطعت الأمل في ذلك ؟ أي نوع من النساء هي ؟
هي جميلة , ممشوقة القوام , ناعمة البشرة . ولكنها … ليست من
النوع الذي يُعجب غافن . لماذا ؟
هل هي باهتة مقارنة بحيوية ساشا , والدة روزي , وعينيها المضيئتين
وأناقتها الرائعة ؟ ربما , لكن هذا لا يهم …
ابتسمت أديل بكل السحر الذي استطاعته: (( انسي أنني ذكرتُ الأمر
يا جوان , ولكن هلا بقيتِ معنا قليلاً ورسمتني أنا و روزي ؟ ما أعرفه هو
أنه سيحب كثيراً الحصول على لوحة لها . كما أنني أحب أن تكونـــي
ترددت جو : (( حسناً … )).
فسارعت أديل تقول : (( هناك أمر آخر , أنا بصراحة أشعر بالذنب
لإقحامك في كل هذا ولكن يبدو أننــي كنت مؤخراً مشتتة الذهن )).
شعرت جو بالتعاطف مع والدة غافن, فقالت: (( الحمد الله أنك
و روزي لم تكونا هنا في ذلك الوقت ! )) .
ـ أرجوك جو ... هل لي أن أناديك بهذا الاسم ؟ أريد أن أخبرك
سراً يا صديقتي العزيزة : إليزابيت مورغان عجوز متعجرفة . لقد أدارت
رأسها اللوحة التي رسمتها لها ومنذ ذلك الحين وهي تتباهى علينا جميعاً .
وأنا بصراحة لا أحتمل أن تتفوق علي هكــذا !
ـ أعضاء الجمعيات الخيرية . لطالما كانت متعجرفة ولكنها الآن لا
ضحكت جو : ( الحمد الله أنني لم أفكر في ذلك آنذاك وإلا لجعلتها
ـ رائع ! والآن أخبريني ما تحتاجينه لأؤمن لك غرفة مريحة .
فكرت جو في أنه يومها الثالث في المنزل وجلست أمام الطاولة في
خلافاً للغرفة التي احُتجزت فيها , هي و غافن , كانت هذه الغرفة
حديثة واسعة وبسيطة . ولهذا السبب بالذات اختارتها من بين غرف
أخرى عُرضت عليها . كانت مريحة , مترفة وروحية بما يكفي لتستوعب
الطاولة الكبيرة التي تستعملها للرسم .
لقد لزمها ثلاثة أيام لتدرك أن قضية الخطف تلك أرهقتها أكثر مما
توقعت . ثلاثة أيام ووالدة غافن تدللها وتبعدها عن أنظار الصحفيين .
ثلاثة أيام لم تستطع أن ترسم خلالها خطاً واحداً .
ثلاثة أيام وهي تفكر كيف أن قلبها خفق عندما عرض غافن عليها
ولم يخفق قلبها فحسب إنما ما من شيء استطاع تبديد هذه الفكرة من
ذهنها , وعلى الرغم من المرات الكثيرة التي أقنعت فيها نفسها بأن هذه
وتبدل إحساسها بلحظة واحدة من الكراهية إلى الاعتراف بأنها فعلاً
وقعت في حبه . لِمَ حــصل ذلك ؟ وكيف حصل ذلك ؟
حتماً , لا يتعلق الأمـر بأنه رمى نفسه أمام السلاح المصوب ضدها !
ولكنها لم تستطع نبذ هذه الفكرة من ذهنها أيضاً .
لم تعد تفكر فيه من دون أن تشعر بالحب يملأ قلبها والارتعاش يسري
كان هذا من ناحيتها هي . أما من ناحية هو , فهناك أمور كثيرة يجب
التوقف عندما . هل قال ذلك فقط في لحظة ارتياح بعد أن تبدد التوتر ؟
أقنعت نفسها بذلك للمرة الألف , وحدثت نفسها قائلة : قبل ذلك
بساعات قليلة , أعطاك مئة سبب و سبب لعدم رغبته في الزواج مجدداً .
ولا داعي لتقنعي نفسك بأنه إذا كانت الأمور تغيرت معك بسرعة
البرق , فالأمر نفسه قد حدث معه بالضرورة .
ثم سألت بصوت مرتفع : (( إذاً لِمَ أنا هنا ؟ من المفترض أن يصل اليوم
من لحظة وأخرى وعلي عندئذٍ أن أكون قد أزلت غبار كين كان عن
حذائــي . ثم أنا لا أستطيع أن أرسم شيئاً لأن كل ما أرغب فيه هو ...
تجمدت مكانها لدقيقة قليلة . كان المنزل ساكناً , وهي وحدها فيه ,
إلى جانب مدبرة المنزل السيدة هاربر التي تعمل بهدوء كعادتها , كما
اكتشفت . فأديل ذهبت إلى بريزبان لتحضر روزي , وسيكون عليها
المرور لاصطحاب غافن من مستشفى (( شارلفيل )).
نهضت من مكانها وأخذت تتجول في أنحاء الغرف . كان غافن
هاستينغ محقاً . فوالدته , على الأرجح وليس زوجته , من أضفى على كين
كان ذوقاً رفيعاً للغاية وترفاً واضحاً .
من الواضح أن المزرعة القديمة قد خضعت للترميم والتوسيع . فعلى
الرغم من وجود بعض التحف القديمة الرائعة , تظهر بعض اللمسات
فقاعة الاستقبال شاسعة مؤثثة بالأرائك المخملية البيضاء
والسجاد العجمي وتزين جدرانها لوحات مهيبة , عرفت جو أنها تعود
كانت غرفة الطعام من جهتها , غاية في البساطة , تتوسطها مائدة
زجاجية مستديرة تحيط بها مجموعة من الكراسي الخيزرانية , ويعلوها
ولكن الغرفة التي أعجبتها كثيراً كانت تلك التي تطلق علها أديل
اسم الغرفة الخضراء , وهي عبارة عن شرفة طويلة تم إغلاقها بنوافذ
زجاجية وتعج بالشتول والأحواض بالإضافة إلى بعض الطاولات
المنخفضة المحملة بالكتب والمجلات . وكانت السجادات المكسيكية تغطي
الأرضية الخشبية لتلك الغرفة الرائعة .
وحدثت جو نفسها بأن التحديق بهذا المنظر الجميل يبرر نسيانها لما
حصل معها منذ أيام قليلة وسط الريف المقفر , كما لو إن تلك التجربة
البغيضة لم تحصل معها يوماً .
ولكن من الناحية الأخرى من المنزل , تكثر الدلائل التي تشير إلى أن
هذه مزرعة لتربية الماشية . فمرآب الآلات وحده يغطي جزءاً كبيراً من
المشهد الإجمالي . وقد أخذ (( كايز )) مدير العمال . جو في جولة في أرجاء
المزرعة وعرفها على مختف أنحائها , فأحست بشـــيء من الشاعرية
والرومانسية رغم خشونة الآلات والأشياء التي رأتها . وقد أراها كايز
وتخيلت جو ما سيكون الأمر عليه لو أنها سيدة هذه الإمبراطورية
كلها . إلا أن هذه الفكرة التي خطرت لها على حين غره هزت كيانها ,
فاعتبرت نفسها مجنونة حتمـــاً .
بعد أيام قليلة , كانت جو واقفة في ممر القناطر المؤدي إلى الغرفة
الخضراء , عندما سمعت هدير طائرة فوق المزرعة , فتصلبت أعصابها إذ
كان من المفترض أن يصل آل هاستينغ قريباً .
لم يكن اللقاء بـ غافن هاستينغ مريراً كما توقعت , فوالدته سهلت
الأمر علها بمهاراتها الاجتماعية , وتبين أن ابنته روزي فتاة رائعة تتمتع
بشعر والدها الداكن وبعيني شخص آخر .
إذاً , لم يلاحظوا على الأرجح اصطباغ وجنتيها أو ما قد سببه خفقان
قلبها من علامات خارجية , وهذا ما هدأ من روعها في النهاية .
قالت أديل إنها ستقيم حفلة عشاء ولكنها ستكون مبكرة قليلاً لكي
يتسنى لــ روزي حضورها , فانصرف كل إلى غرفته للاستعداد للأمسية .
مرت جو بغرفة الطعام وهي متوجهة إلى غرفتها , فرأت الطاولة مزينة
بالأواني الفضية والكريستال , وفي غرفتها استحمت وارتدت أجمل ما
حمل معها من ملابــــــــــس .
كانت ثيابها عبارة عن كنزة ضيقة عند الصدر تُربط عند الخصر
وتنورة متوسطة الطول وانتعلت حذاء فضياً أنيقاً . في البداية رفعت
شعرها ثم غيرت رأيها وأسدلته لكـــي ترفعه مجدداً بحيرة واضحة .
بعد أن استرخت وهدأت أعصابها , أصبح بإمكانها مقابلة غافن
هاستينغ مجدداً , ولكن شيئاً ما كان يربكها في الداخل ...
ناولها غافن كوباً من العصير والمرح بادٍ في عينيه : (( ها نحن بمفردنا
نظرت إليه وأخذت الكوب منه . لم يكن الوقت متأخراً ولكن روزي
تململت كثيراً فأخذتها أديل إلى غرفتها لتنام وانسحبت هي إلى ما تسميه
بدا الصمت ثقيلاً طويلاً , فحاولت جو خرقه بسؤالها : (( هل تشعر
كانا في الغرفة الخضراء وفي الخارج كان حوض السباحة مضاءً
والأشجار المحيطة تلقي بظلالها الرائعة على المياه .
أجاباها : (( نوعاً ما . وأنت ؟ ما كنت تفعلين ؟ )) .
ـ أحاول الرسم ولكن من دون جدوى . أظن أنه كان يجدر بـي
العودة إلى بريزبان , أقله لاستراحة قصيرة , ولكن والدتك كانت مصرة
كان غافن هاستينغ يذرع المكان ذهاباً وإياباً , ثم توقف ليحدق
بالحوض في الخارج : (( أنا طلبت من أمي إبقاؤك )).
ضاقت عيناها وهي تنظر إليه . لم يعد شـــيء الآن يستطيع التخفيف
كان يرتدي بنطلوناً كاكي اللون وحذاء بنياً ملمعاً وقميصاً أبيض
مكوياً جيداً , فلم يتبق فيه أثر لقاطع الطرق ذاك الذي اختطفها , ما خلا
عينيه المتورمة قليلاً . كما أنه بدا مسترخياً على الرغم من لمسة الشحوب
على وجهه , بعد أن خضع لعملية لنزع الرصاصة من ذراعه .
بينما كانت تحاول استيعاب ما قاله , زال عبوسها ليحل مكانه
ابتسامة خفيفة : (( ماذا ؟ )) .
كان واقفاً أمامها مباشرة والاستفســار في عينيه .
هزت كتفيها قائلة : (( أظن أن الإصابة لم تقضِ على عادتك في إصدار
ـ لم يكن لديك سبب لعدم البقاء هنا . أم أنا مخطئ ؟
سحب كرسياً وجلس قبالتها : (( ظننت أنك كنت تنوين البقاء في كين
كان لأسبوعين على الأقل )).
ـ ربما . ولكن ما حصل كان مريعاً ... هذا ...
ثم نظرت إليه مستغربة : (( ألم تجده مريعاً أنت أيضاً ؟ )).
توقف عن الكلام وتشابكت نظراتهما : (( كنت أعني ما أقول . هل
تقبلين الزواج بــي ؟ )) .
تجمدت مكانها ثم وضعت كوبها على المائدة : (( غافن , لا يُعقل أن
تكون قد عنيت ذلك فعلاً . نحن بالكاد نعرف بعضنا ولدينا أسباب كافية
ـ نحن نعرف بعضنا أكثر من أي شخص آخر . ما مررنا به كان
وبحثت عيناه عن عينيها حتى أشاحت بنظرها . ثم أضاف برقة : (( كما
أننا نريد بعضنا . أتريدين أن أقول لك كيف أريدك ؟ )).
سارعت جو تقول : (( كلا )) . وابتلعت ريقها .
ابتسم قائلاً : (( لا يمكنك ردعــــــي )) .
ـ يمكننـي أن .. أن أنهض و أذهب .
ليس بعيداً جداً , هذا إذا سمحت لك بالذهاب إلى أي مكان .
ظهر التصلب في عينيها الرماديتين : (( غافن ... لقد استعملت هذا
الأسلوب معي من قبل ولكن دعني أذكرك بأنك لا تحمل الآن أي سلاح
ـ ودعيني أذكرك بأنه سلاح من دون رصاصات .
ـ لا , وأنا ما كنت لأردعك لو حاولت امتحان نواياي .
شبكت ذراعيها : (( إذاً )) .
ـ إذاً لا أرى لما لا يمكننا التحاور بهذا الموضوع كراشديـــــن .
كانت نظراتها ثاقبة متشككة والكلمات التي تلفظ بها بعد ذلك أكدت
شكوكها ... وهذه حالة لم تتوقع أن تجده فيها ...
ـ لم تكن أمــي تحمل مسدساً .
دوت كلمته في صمت مطبق ... لماذا لا تزال في كين كان إن لم تكن
كان في عينيه الزرقاوين شــيء من الاستفسار الساخر: (( أفهمتِ ماذا
ـ مثلما تظن أمك أنك تعانــي من عقدة السلطوية , فهي في المقابل
ـ إذا لم يكن لذلك أي علاقة بــي ؟
أدارت وجهها وراحت تحدق بالحديقة في الخارج : (( اسمع ... كلانا
يعرف أن الزواج ليس مكتوباً لنا , ولم يتغير شـيء , لذا ... )) .
ـ جو ... الأمور تتغير . وأحياناً عندما لا تتوقعينها . صحيح أنني
ظننت أن ذكرى ساشا ستمنعني من الزواج مجدداً ولكن هذا الأمر
سألته بصعوبة : (( كيف يعقل هذا ؟ كيف تضعني بمواجهة ذكراها ؟ )).
أرادت أن تتوقف عند هذا الحد ولكن أمراً قالته أديل دفعاها لتسأله :
ـ بمن تذكرك روزي كثيراً .
ـ بوالدتها , وسوف تظل تذكرني بها مع أن هذا لا يعني أننا , أنا
وأنت , لا يمكننا ابتكار عالمنا الخاص . ولكن لنتكلم عنك الآن .
سكت قليلاً ولكن نظرته إليها كانت ثاقبة فاضطرت للاختباء منها
وبينما كان يراقبها , لم يصدق غافن هاستينغ كيف أمكنه أن يجدها
عديمة الأنوثة , ولو للحظـــة .
كان مظهرها الليلة رائعاً بثيابها الأنيقة تلك التي تبرز لون بشرتها
الفاتح وعينيها الرماديتين . وكالعادة كان شعرها الذهبي خلاباً مع أنه
كان يفضل لو أبقته منسدلاً على كتفيــها .
أما ساقاها الطويلتان فبدتا رائعتين بتلك التنورة الضيقة التي تبرز
سألها أخيراً : (( أتعرفين بما كنت أفكـــر فيه في المستشفى ؟ )) .
ـ فكرتُ أنني إذا عدتُ إلى المنزل ولم أجد جو لوكاس , فسأعتبر أن
هذه طريقتها لتقول لي إنها لا تبالي بي البتة . ولكن إذا وجدتها هناك
فلأنها على الأقل تشعر بالفضول بسبب ما قلته لهــا .
حدقت جو به بشفتين مفتوحتين .
ثم تابع قائلاً : (( وربما لأنها لم تستطع أن تنسى ما تشاركناه من قُرب
فكري وجسدي خلال تلك الساعات المريعة , ومن ثقة متبادلة عندما كنا
مكبلين الواحد بالآخر . صدقيني ما من شـــيء أفظع من أن تجدي نفسك
مكبلة برجل تكرهينه ولا تثقين به )) .
ـ ولكنك ... أنت لست من هؤلاء الأشرار .
وإذ أرادت أن تُظهر له امتنانها , أضافت : (( كما أنك خاطرت
ابتسم وهز رأسه , فاتسعت عيناها استغراباً : (( ألم تفعل ذلك ؟ )).
ـ كان ذلك مجرد خطأ في تقييم الخطر. لم أكن أنوي أن أتعرض أو
أعرضك للـخطر . لا بد أن ردة فعلـي خانتني قليلاً . و صدقيني , إن علم
تقييم الأخطار فيه الكثير من الـــمخاطرة .
أطلقت جو تنهيدة بطيئة : (( سواء أكان الأمر تقييم خطر أم لا , فهو
عمل شجاع للغاية وأنا ممتنة جداً )) .
ـ جيد . إذاً ما رأيك لو تطبقي الأمر على ما يمكنني أن أفعله لو
وقفت فجأة ورمقته بنظرة سريعة لاذعة , فهمس قائلاً : (( هل يعنـــي
هذا : لا تراهن على ذلك كثيراً يا غافن هاستينغ ؟ )) .
كانت نظراتها هذه المرة أكثر حدة وكأنها تقول له : بالضبط .
ضحك من قلبه : (( هذه هي (( جوزي )) التي تعجبني ! على أي
حال ... فكري بالموضوع )) .
جعلتها المفاجأة تطرف بعينيها ثم قالت بحذر : (( أتعني أنني حرة في
دس يديه في جيبي بنطلونه : (( طبعاً . لا أريد أن يُقال بأنني ضغطتُ
عليك . وبالمناسبة , إذا كنتِ قلقة على مسيرتك المهنية كفنانة , أظن أن
هذا الوضع يناسبك تماماً كزوجة )).
فتحت جو فمها وأغلقته عدة مرات كسمكة خراج الماء . فاقترب
منها ليقف بجانبها قائلاً : (( ظننتُ أن الأمر يستحق عناء التفكير )).
وعرفت قبل أن يقوم بأي حركة , بما ينوي الإقدام عليه , ولكن
ردود فعلها خانتها , فلم تستطع أن تحرك عضلة واحدة عندما أخذها بين
همس بصوت شبه مسموع : (( هل لديك فكرة كم أنت مغرية , يا آنسة
عبست وسألت بحيرة : (( لماذا ؟ )).
ـ لماذا ؟ لأنك مغرية وحسب . ألم يقل لك أحد ذلك من قبل ؟
هزت رأسها : (( أنا ... أنا لا أحب أن يعانقني أحد )) .
ـ ربما لأنك لم تلتقِ بعد بالرجل المناسب . هل عرفتِ في حياتك لذة
فتحت جو فمها لتقول إن الأمر لا يعنيه ثم بدلت رأيها واكتفت بـ
عبس قليلاً : (( أنت تشوشينني . من أنت حقاً ؛ تارة جو لوكاس
الهادئة الباردة المتماسكة أمام أي رجل , وتارة تلك الفتاة التي نامت بين
ذراعــي ولم تشأ أن تتركها ؟ ... )) .
ـ إذاً هذا ما جعلك تعتد بنفـــــــــسك !
وافقها من دون إظهار شيء من الندم : (( أرأيت كم أنا نذل ؟ ولكن
هناك ... لست أدري ... هناك شــيء يجعلني أتساءل )) .
ـ تتساءل إن كنت شاذة مثلاً ؟ يفاجئنـي في هذه الحالة أن ترغب في
أمسكت جو أنفاسها لأن ذلك كان منتهى التعجرف , وإذ كانت على
وشك أن تقول له ذلك , أخذ يضحك .
غزا الاحمرار وجنتيها فاستغل ارتباكها وقال هامساً : (( لن أؤذيك ,
وكيف يؤذيها بكل تلك الرقة ؟ !
ضمها إليه فكان عليها أن تقاوم موجة لذيذة اجتاحتها عندما
أحست بجسمه الصلب الدافــئ .
لم تجب في الواقع , لم تجد الكلمات لتقول له إن هذه الخطوة
تعجبها إلا أنها وجدت نفسها متشبثة بذراعه , فرفع رأسه فجأة وأنّ من
وضعت يدها على فمها : (( آه . أنا آسفة .. نسيت جرحك ! )) .
أمسك بكلتا يديها : (( جو ... اهدأي واسترخــي قليلاً )).
لقد استرخت فعلاً لأنها كانت لا تزال قلقة على إصابته ولم تشأ أن
تؤذيه مجدداً . ولكنها تساءلت إن كان ذلك فعلاً السبب الذي دفعها
أياً يكن السبب , فقد تبدد قلقها . ثم سمحت لأحاسيسها بالتجاوب
قال لها : (( هل تعلمين أنك بدوت جذابة جداً الليلة ولكن قاسية ؟
تحركت يداه إلى شعرها وأسدله : (( حقاً ؟ )).
ـ أنت من أخذ المبادرة ولستً أنا .
ابتسم بكسل : (( كنت أفكر في القيام بذلك منذ أيام , حتى عندما
كانت الشكوك تساورني حولك , كنتُ عاجزاً عن إبعاد أفكاري عن
ـ عرفت أن أفكارك ونواياك جامحة حول النساء وبالتحديد حولــي
ضحك برقة : (( آمل أن يكون هذا شكلاً مناسباً للانتقام )) .
رفعت ذراعيها ومررت أصابعها بشعره : (( الانتقام ؟ )).
ـ أنا تحت رحمتك الآن يا آنسه لوكـــــاس .
فتحت فمها لتقول له إن الأمر معاكس ولكنه سبقها قائلاً : (( أو ربما
كان عناقه نهماً فبادلته الشغف نفسه . وللمرة الأولى في حياتها , تقبل
بأن يعانقها أحد بهذا الشكـــل .
شعرت بالدوار من ثورة تلك الأحاسيس التي كادت تفقدها
هذا الرجل الذي أهانها بكل السبل المتاحة في البداية ومن ثم أنقذ
حياتها , سواء أكان ذلك في نيته أم لا , فقد أطلق العنان لأنوثتها الدفينة .
افترقا أخيراً ولكنه وضع يديه على الجدار محتجزاً إياها وأخذ يحدق بها
متأملاً . كان شعرها الذهبي مسدولاً على كتفها وغرتها على عينيها .
فسوت ثيابها ونفخت على غرتها لتنحيها عن وجهها .
ولسبب ما , ابتسم كلاهما للحركة التي قامت بها , وقرر أن يكمل
الأمر بنفسه . فأخذ يسرح لها غرتها بأصابعه , ثم عاد فنظر إلى عينيها
أدرك أنه سيحتاج للكثير من قوة الإرادة لتهدئة النار المشتعلة
بينهما . سوف يحتاج إلى جهد خارق ليبعد يديه عنها ويمنع نفسه ....
طرفت جو بعينيها عدة مرات وهي تحدق بكم قميصه . فتبع نظراتها
ورأى بقعة دم . عندئذٍ استفاقت جو لوكاس من ذهولها وبدا القلق على
وجهها : (( آه لا ! أنظر ماذا فعلت ! لِمَ لم تقل لي ؟ لا بد أنني مجنونة ! )) .
ـ صدقيني لم أشعر بشـيء على الإطلاق وأنت لست مجنونة .
ـ لا تجادل في أمور تافهة . دعني ألقي نظرة .
بدأت تفك أزرار قميصه بسرعة , فقال متشدقاً : (( أظن أن الوقت
ليس مناسباً للجدل معك الآن )) .
ـ هل تمانعين أن أطلق الشتائم ؟
ـ خذ راحتك , فقد سبق وسمعت شتائمك من قبل .
ونظر إلى الضمادة التي تلف ذراعه : (( تحتاج فقط للغير على ما
تبعها إلى حمام غرفتها حيث تناولت علبة الإسعافات الأولية من
الدُرج , ثم أخذت تنزع الضمادة بمهارة وتنظف الجرح قبل أن تضمده
ـ لقد انتهينا ولـكن عليك مراجعة الطبيب في حال استمر النزف .
ارتدى قميصه والعبوس بادٍ عليه : (( هل أنت ممرضة أيضاً ؟ )) .
ـ لا , ولكنني تابعت دروساً في الإسعافات الأولية .
ـ ويبدو أنها كانت مجدية , نظراً للطريقة التي تعاملتِ بها .
وأخذ يزرر قميصه بصعوبة , متابعاً حديثه :
ـ لِمَ ينتابني إحساس بأنك تجيدين القيام بكل شيء , يا جو لوكاس ؟
رفعت حاجبيها : (( ليس لديك فكرة )) .
وإذ لاحظت أنه زرر قميصه بشكل غير مستقيم , دنت منه وأخذت
وضع يده على معصميها وأوقف أصابعها المنشغلة , هامساً : (( هل
أخفضت أهدابها بحيرة واضحة , فأضاف : (( إنه سبب آخر يدفعني
كانت جدران الحمام مبلطة بالرخام الزيتي والتبني اللون وتعلو
المغسلة مرآة كبيرة . أشاحت جو بنظرها بعيداً عن غافن هاستينغ , لتجد
نفسها بمواجهة المرآة , فتملكتها الصدمة .
كان شعرها مشعثاً ووجهها شاحباً وعيناها مختلفتين , مع أنها لم
قال لها : (( مازال العرض قائماً , وإن كنت تحاولين تغيير الموضوع )) .
حدقت به في المرآة وفكرت في التذرع بسبب وجيه للاعتراض على
هذا الزواج . ولكن هل لديها فعلاً سبب وجيه ؟
ـ كل هذا حصل ... حصل بسرعة !
ـ هذا بسبب الطريقة التي القينا بها . الدراما التي عشناها سرعت
الأمور . كنا نتشاطر فرشاة الأسنان نفسها بعد ساعات قليلة على
تعارفنا , وكُنا قد نمنا معاً قبل ذلك .
هزت رأسها : (( لا , لم نفعل )).
وافقها الرأي : (( لا , هذا صحيح . لكنك نمت بين ذراعـــي بعد
ساعتين فقط على تعارفنا )) .
أبعدت جو نظرها عن الشرر المنبعث من عينيه : (( لن تنسى لي هذا
استدارت جو لتواجهه : (( لا يمكنك أن تطلب مني الزواج هكذا ,
من دون أي تفسير . ليس بعد ما قلته )) .
ـ جو ... أنا آسف إن كنت أستعجل الأمور . كل ما في الأمر أنني
فكرت فجأة بأنني أحتاج إلى زوجة لأن روزي تحتاج إلى أم , وأمي تحتاج
للراحة . ولكن قبل كل ذلك , كنتُ مقتنعاً بأن الشخص الذي أحتاجه
هز كتفيه : (( ربما بسبب الرابط الذي أوجدته مسألة الخطف تلك .
أنتِ فكرتِ بأنني أنقذت حياتك ولكنك نسيت أنك استعملت محبرة
الرخـــام لتنقذي حياتي . نحن نهتم لأمر بعضنا جو )).
ـ أحياناً يكون الاهتمام المتبادل خير أساس يبني عليه الأزواج
أخفضت عينيها بعد ما بدا لها أشبه بسنوات ضوئية وقالت بهدوء
بالغ : (( سأفكر في الموضوع )) .
حدق بها وبدا وكأنه على وشك أن يقول شيئاً ولكنه غير رأيه في
النهاية , واكتفى بتقبيل شعرها قبل أن يستدير ويرحــل .
نهاية الـفصل (( الخامــس )) ...