عرض مشاركة واحدة
قديم 20-01-18, 05:47 PM   #32

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع والعشرون


"أنا حامل!"
جملة ترددت أكثر من مرة, وما بين فرحة طاغية لقلق عارم وخوف من المستقبل وبرود وصل لحافة الصقيع.. تباينت مشاعر مُلقيها ومتلقيها..
فبمنزل مازن ودنيا..
جلست دنيا على حافة المغطس وجسدها يرتعد بأكمله وهي ترمق العصا البلاستيكية الراقدة بسلام على طرف المغسلة القريب منها.. وكلما رفعت يدها لتلتقطها, أعادتها بسرعة لتضعها على شفتيها لتكتم شهقة بكاء خافتة..
تخشى تكرار خيبة أمل المرات السابقة.. بداخلها تتصارع رغبتان متضادان, غريزتان طبيعيتان قد تتوازيان بقلب كل أنثى, إلا هي.. هي فقط تلاعبت بها الأقدار لتتعارض غريزة الأمومة بداخلها مع عشقها اليائس لرجل ليس لها..
عادت ترمق العصا البلاستيكية برهبة وقلق وكأنها تتساءل عما يمنعها من التقاطها وانهاء الأمر.. إما بخيبة أمل قد تعوض عنها الشهر القادم.. أو خيبة أخرى تستمر لآخر العمر..
انتفضت في جلستها عندما وصلها صوت مازن يتساءل في قلق:
ـ في ايه يا دنيا؟..
رفعت إليه عينين حائرتين.. فلم تعلم منذ متى وهو واقف هكذا بمدخل الحمام يتأمل دموعها بقلق..
اقترب منها ليجلس على ركبة واحدة ويمسك بيديها يقبلهما في رقة متسائلاً:
ـ تحليل جديد؟..
أومأت برأسها موافقة.. فسألها مرة أخرى:
ـ عايزاني أشوف لك النتيجة؟..
أومأت بالموافقة مرة أخرى وبدأت دموع القلق تنساب على وجنتيها بصمت وهي تلمحه يتناول العصا ببساطة ويتأملها للحظات بعدها ارتسمت لى وجهه ابتسامة غامضة, ورفع وجهها بإبهامه هامساً:
ـ مبروك يا أحلى مامي..
رفعت نظراتها له بأمل وهمست:
ـ أنا حامل!
ثم انفجرت في نوبة بكاء قوية, رفعها مازن بين ذراعيه ليضعها على الفراش برفق ويلتقط دموعها بشفتيه وهو يطمئنها بكلمات رقيقة.. ويخبرها كم يتمنى فتاة جميلة وقوية كأمها, ولكن دموعها لم تتوقف وشهقاتها زادت ولم تقل فضمها بقوة وهو يقبل شعرها.. بينما زادت هي من تمسكها به فدفنت رأسها بعنقه وغرزت أظافرها في ظهره بقوة حتى كاد أن يطلق آهة ألم.. شعرت هي على الفور بألمه الصامت فخففت من مسكتها قليلاً ونظرت إليه بحرج.. وهمست من بين دموعها بصوت متحشرج:
ـ آسفة..
أبعدها قليلاً ومسح دموعها مرة ثانية وهو يسألها:
ـ ليه كل ده بس يا دنيا؟..
تواصلت شهقاتها وعجزت عن إجابته فهي لا تعرف كيف تفهمه أنها تبكي سعادتها وحزنها.. ربحها وخسارتها.. أغلى ربح.. وأحلى خسارة..
همست بألم:
ـ مش مصدقة.. التلات شهور اللي فاتوا كانوا خيبة أمل كبيرة.. فكرت.. فكرت..
وازداد بكائها.. وهي تخبره بألم:
ـ فكرت للحظة أن فرصتي في الحمل انتهت عشان السن و..
قاطعها بقبلة دافئة على شفتيها:
ـ هششش.. بلاش كلام فارغ.. سن ايه وعبط ايه.. أنتِ أم بالفطرة يا دنيا.. وهتكوني أحن أم.. سوبر ماما..
ابتسمت من وسط دموعها وهي تسأله:
ـ بجد!.. بجد يا مازن؟.. يعني خبر الحمل أسعدك؟
لف بجسده ليجاورها في الفراش ثم رفعها لتجلس على ركبتيه وهمس بأذنها:
ـ كلمة سعيد مش كفاية.. أنا سعيد وفخور وطاير في السما وهبقى أب.. والبركة فيكي بعد ربنا طبعاً.. أخيراً.. أخيراً.. أب..
تهدج صوته في آخر كلمة حتى ظنت دنيا للحظات أنه على وشك البكاء هو الآخر.. فوضعت رأسها على صدره برفق.. ثم أمسكت يده لتضعها على بطنها ليتحسسها برقة.. ولحظتها لم يستطع تمالك نفسه فسقطت دمعة وحيدة مسحها بسرعة وزاد من ضم دنيا التي همست بتردد:
ـ مازن.. لازم نتكلم في موضوع الانفصــ...
قاطعها بوضع إصبعه على شفتيها هامساً:
ـ مش دلوقتِ يا دنيا.. بنتي مش هتتولد بين أب وأم منفصلين.. ده حقها علينا.. بعد الولادة هنتكلم..
رددت بعجب:
ـ بنتك!..
ضحك ليخبرها:
ـ أيوه.. بنتي.. يكون في علمك أي حاجة غير بنوتة عيونها بسواد الليل وشعرها أنعم من ورق الورد مش هستلم!..
ضحكت هي الأخرى بنعومة وربتت بيدها فوق يده وكأنها تخبره بصمت أنها توافقه في رغبته... وسكنت بين أحضانه لفترة خيم الصمت فيها عليهما ولم يُسمع في الغرفة إلا صوت دقات قلبيهما يتواصلان سوياً بطريقة غير مألوفة كحياتهما معاً.. عدل وضعها لتنام بين ذراعيه وأخذ يملس على خصلاتها برقة حتى نامت بوداعة بين ذراعيه وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة رقيقة..
أغمض عينيه محاولاً النوم ولكن ذكرى عيون زبرجدية مازال يعشقها إلى الآن طاردته بقسوة وكأنها تذكره أنه أصبح سبباً لوجعها على الدوام مثلما كانت هي سبباً لنحره حياً.. فهي لم تيأس ولم تكف عن محاولاتها الخرقاء لاسترجاعه.. مرة عن طريق البكاء ومرات باستخدام إغراء أنوثتها التي أصبح يرفضها على الدوام مما يسبب لها الجنون.. فهي راهنت من البداية على افتتانه بها.. وهو سقط في فخها بكامل إرادته ولكنه الآن أصبح يكره نفسه.. يحتقرها.. ويشمئز من جسده الذي يطالبه مرات عديدة بالرضوخ لها.. ولكن بقايا عقل وإرادة ما زال يتمتع بهما هما ما يحميانه من السقوط بفخها ثانية.. وإن غيرت تكتيكاتها الآن وأصبحت تلعب دور الزوجة الهادئة الصبورة المطيعة.. حتى أنها تقوم الآن بغسل ثيابه وكيها.. وهو يعلم أنها خطة جديدة.. وهي تعلم أنه يعلم.. ولكنهما مستمران في الدوران بحلقة مفرغة لعلهما يصلا يوماً إلى ثغرة الهروب.. أو العودة...
**
وبمقر مجموعة الغمراوي..
كان يزيد يتأمل شاشة هاتفه وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه وهو يعيد قراءة الرسالة التي وصلته من ريناد..
"يزيد.. أنا حامل!.."..
حاول جاهداً البحث عن لمحة سعادة أو لهفة للذهاب إليها وتهنئتها على حمل انتظرته طويلاً.. ولكن للأسف.. لا شيء.. حتى أنه شكر ربه لاختيارها تلك الطريقة الباردة لإخباره فهو لم يجد بنفسه حتى القدرة على التظاهر بالسعادة, بل كان يشعر بالغضب.. نعم الغضب.. غاضب من ريناد.. ومن علياء.. ومن نفسه بالطبع فكل ما يقلقه الآن إحساسه بأن مشاعر الأبوة لديه تتجه لأولاده من علياء فقط.. يخشى أن يرث طفل ريناد انعدام مشاعره نحو أمه.. فكل ما يفكر به حالياً.. أن ريناد ستعتقه من رحلات الأطباء وما يتبع ذلك من أنظمة وجداول ومواعيد تربطه بها.. وفكرة أخرى تساوره.. أن أمه أخيراً ستُمتع نفسها بحفيد من ريناد..
زفر بحنق وهو يفكر بالسبب الثاني لغضبه.. ريناد.. ورغبتها المسعورة في الحصول على طفل.. حتى وإن كانت لا تحب والده..
نعم.. أنه يعلم الآن وهي وأيضاً تعلم أين يكمن قلبه.. ولكنها لا تبالي.. وهي من أوضحت له تلك الحقيقة في إجازتهما الأخيرة.. حيث كانا يتمشيان على الشاطئ الخاص بالفندق الذي يقيمان به عندما سألته ريناد فجأة:
ـ أنت ليه ما وافقتش أننا نسكن في شاليه المعمورة؟..
صمت للحظات ولم يجد ما يجبها به.. ثم أخيراً أجابها:
ـ أكيد الإقامة في الفندق أريح لك.. و..
قاطعته بواقعية:
ـ والشاليه حكر على عليا بس..
همس بتردد:
ـ أنا..
قاطعته مرة أخرى:
ـ أنت عاطفي قوي يا يزيد.. عارف في أول خطوبتنا لما كنت بتقولي أنك مش عارف الحب ده بيوصفوه ازاي.. وأننا طالما مرتاحيين مع بعض يبقى مشاعرنا ضروري هتتوافق.. كنت بكون مرتاحة ومبسوطة أنك مش هتحملني فوق طاقتي..
قاطعها بتعجب:
ـ فوق طاقتك!!
أومأت موافقة:
ـ ايوه.. كلام الحب والغزل.. أنت عارف.. نظام الأغاني والمشاعر وكده..
نظر إليها بدهشة.. فأكملت:
ـ بص يا يزيد أنت فاهمني كويس وعارف أفكاري ماشية ازاي.. أنا واقعية.. بحب أحسبها 1+1= 2.. في بداية علاقتنا لما أنت ما صرحتش بكلام حب وعشق.. اكتفيت بالغزل بس.. كنت مرتاحة جداً.. وكنت فاهمة أن جوازنا هيكون مثالي, لحد فرح حسن.. وقتها حسيت أنك اتغيرت.. أعماقك اتغيرت.. وكان عندي حق..
هز يزيد رأسه بحيرة وهو يتمتم:
ـ أنا مش فاهم أنتِ عايزة ايه؟..
التفتت لتواجهه وأمسكت وجهه بين يديها لتجاوبه بصراحة واقعية:
ـ كل اللي عايزة أقوله.. أن أسلوب جوازنا مناسبني جداً.. وجود عليا في حياتك رغم أنه كان في البداية جارح ومهين لكرامتي, إلا أنه دلوقتِ مريح جداً.. لأني اكتشفت أنك مش الشخص العملي اللي كنت متصوراه..
وهزت رأسها بلامبالاة:
ـ أنت عاطفي قوي..
كادت الدهشة أن تعقد لسانه من تصريحاتها الواقعية وسألها بسخرية:
ـ وبعد المصارحة الرومانسية دي متوقعة أني أكمل.. لآ.. وكمان نخطط عشان الحمل؟!..
هتفت بدهشة:
ـ أيوه طبعاً.. ايه علاقة كلامنا ده بالحمل!.. هما كل اتنين متجوزين لازم بينهم قصة رومانسية!.. اللي بينا أكبر وأعمق.. في تفاهم وتوافق.. أفكارنا وخلفيتنا واحدة.. وفي ما بينا احترام وود.. مش ناقص غير الطفل عشان نكون أسرة مثالية..
عاد إلى واقعة وجملة "أسرة مثالية".. تتردد في ذهنه, فأمسك هاتفه ليتصل بريناد ويقوم بما عليه كزوج مثالي ويهنئها بحملها..
حاول تلوين صوته ببعض السعادة وهو يهتف:
ـ ريناد.. ألف مبروك..
أجابته بهدوء:
ـ ميرسي يا يزيد.. الحمد لله الدكتور الأخير طلع شاطر قوي..
أجابها بتأنيب مستتر:
ـ كله بأمر الله..
ـ أيوه طبعاً.. الحمد لله..
ـ طيب تحبي أجيب لك حاجة معايا وأنا جاي.. بتتوحمي على ايه؟..
هتفت باشمئزاز:
ـ أتوحم ايه بس يا يزيد!.. أنت بتصدق في الكلام الفارغ ده.. وبعدين أنا مش في البيت.. الدكتور طلب راحة تامة.. وماما اخدتني عندها..
غمغم براحة:
ـ بجد.. أنتِ عند خالتو.. طيب بلغيها سلامي.. ولو احتجتِ أي حاجة كلميني.. سلام..
أغلق الهاتف بهدوء.. وهو يردد..
"ونعم الـأسرة المثالية.. يا بنت خالتي"..
**
انطلق حسن بسيارته الرينو الصغيرة متجهاً إلى مقر عمله بالقرب من الحي اللاتيني بجنوب باريس حيث تقطن معظم الجالية العربية.. وكان ذلك من أهم الأسباب التي دفعته لإختيار ذلك الحي لإقامه مشروعه.. حيث قام بافتتاح مطعم للمأكولات العربية وشاركه فيه غسان مدير أعمال فريدة والتي كانت همزة الوصل بينهما بعدما قرر غسان اعتزال عالم الفن وقرر الابتعاد عن حياة فريدة تماماً فهو أدرك أخيراً أن قلبها ومشاعرها مرتبطة بوالد ابنتها حتى لو انقطعت علاقاتهما الرسمية..
فكان قرار إقامة المطعم بمثابة بوابة لهروب الرجلين من مشاعر وذكريات تقتات على أعماقهما.. ولحسن حظهما لقي المشروع نجاحاً باهراً بمجرد افتتاحه.. وكان حسن يقتل نفسه حرفياً في عمله.. يتابع كل كبيرة وصغيرة به حتى أنه أحياناً ما كان يدخل المطبخ ليراقب ويتعلم صنع الأطباق العربية المميزة.. كان يهرب من حياته السابقة ويقطع كل صلته بها.. حتى نجاحه السابق واسمه اللامع كمهندس معماري عبقري والذي دفع ثمنه من قبل عرقاً وجهداً تنازل عنه راضياً.. ولم يهتم بأي من العروض التي انهالت عليه لإدارة فروع لشركات عديدة في معظم أنحاء أوروبا.. ومن سخرية القدر أن تكون شركة والده من أبرز تلك الشركات..
لمح إشارة المرور تتحول إلى الأحمر.. فأوقف السيارة وأغمض عينيه وهو يتذكر ذلك اليوم منذ أكثر من ثلاثة أشهر حين أيقظته طرقات قوية على باب شقته.. وما هي إلا لحظات حتى دخلت لورا إليه لتخبره بقلق:
ـ حسن.. والدك بالخارج.. أنه يبدو.. يبدو غاضباً بشدة..
نهض من فراشه بتثاقل, فهو لا يتركه إلا لتناول الطعام فقط.. واقترب من لورا يسألها بغضب:
ـ هل أهانك أو أساء إليكِ؟..
هزت رأسها نفياً وأخبرته:
ـ فقط نظراته.. أنها مهينة للغاية..
ربت على شعرها برقة:
ـ آسف على ذلك..
ارتدى ملابسه وتحرك ليخرج لوالده.. ولكنه عاد إليها يخبرها بهدوء:
ـ قد تعلو أصواتنا.. لا تدعي ذلك يقلقك.. إنها فقط طريقتنا في المناقشة..
خرج لوالده الذي وقف يتأمل الشارع من نافذة غرفة المعيشة.. وأخذ يتأمله للحظات.. سنوات لم يلتقيا.. سنوات تغير فيها كلاهما بشدة.. فبقدر القسوة والجليدية التي تغلف بها قلب حسن بقدر ما ظهر الضعف ومرور العمر على ملامح والده الذي انحنت كتفاه وبدا بطريقة ما أنه أكبر من سنوات عمره الستون..
قطع حسن الصمت أولاً:
ـ أهلاً وسهلاً يا حاتم بيه.. زيارة غير متوقعة بصراحة..
تنحنح حاتم ليجلي صوته وتأمله ولده للحظات أدرك فيها مدى التغير الذي أصابه:
ـ البقاء لله يا حسن.. و..
هز حسن رأسه برفض مطلق:
ـ حاتم بيه بنفسه جاي يعزيني!!.. معقولة!.. نزل من برجه العاجي عشان يعزي في بنت السواق بتاعه!.. آسف يا حاتم بيه.. لو هتقدم تعازيك تقدمها لعم نصر والد منى.. بس يا ترى هتقدر؟.. هتقدر تحط عينيك في عينيه وأنت عارف أنه ما قدرش يودع بنته في لحظاتها الأخيرة بسبب غطرستك وكِبرك.. بسبب أنك قفلت كل الأبواب في وشنا لحد ما هربنا وسيبنا لك البلد باللي فيها.. هتقدر يا سعادة البيه!..
نهره حاتم بقوة:
ـ حسن!.. ازاي تكلمني بالطريقة دي..
صاح حسن بدوره:
ـ جاي ليه يا حاتم بيه؟.. أكيد مش عشان تقدم تعازيك..
ـ جاي علشان أعقلك.. عشان ترجع بلدك وبيتك وشركتك..
تأمله حسن للحظات ثم بدأ يضحك.. ويضحك.. ويضحك.. ضحك هيستيري بدا أنه غير قادر على السيطرة عليه فدمعت عيناه واحتقن وجهه بشدة ولكنه استمر في ضحكاته الخارجة عن السيطرة حتى أجبره والده على التوقف بصفعة خاطفة على وجنته.. لم تكن صفعة قوية ولكنها أخرجته من نوبة هيسترية كان على وشك الانخراط بها.. تلمس وجنته بألم وهتف بصرامة:
ـ اللي أنت جاي له مات.. حسن مات واندفن مع منى.. اللي قدامك ده.. شبح.. مسخ..
وتحرك نحو باب الشقة ليفتحه مردفاً:
ـ أحسن الله عزاؤك يا حاتم بيه..
هتف حاتم بدهشة:
ـ بتطرد أبوك من بيتك يا حسن؟..
أجابه حسن:
ـ سبق وطردتني من دنيتي كلها..
هزه حاتم بقوة:
ـ يا بني بلاش القسوة دي.. أنا ماليش غيرك أنت وأخوك.. وأخوك بهدل الدنيا واتجوز على مراته و..
صفق حسن كفيه بقوة وهو يهمس بيأس:
ـ ما فيش فايدة.. ما فيش فايدة يا حاتم بيه.. كارتك الكسبان اتحرق.. قومت جريت جري تدور في دفاترك القديمة.. بس أحب أقولك أن الدفاتر دي اتحرقت هي كمان وما بقاش فيها إلا الرماد..
هز حاتم رأسه بنفي:
ـ أنت ازاي بقيت كده.. ازاي يا حسن..
اجابه حسن بمرارة:
ـ كتر البعاد بيعلم الجفا..
أفاق حسن على أصوات السيارات لتنبهه لتحول الإشارة إلى الأخضر.. وكأنها تنبهه أن زيارة والده كانت إشارة البدء لحياته الجديدة.. فبعد خروج والده العاصف أخذ يتأمل حياته للحظات.. فرأى نفسه مجرد.. فاشل.. عاطل.. يعيش عالة على زوجته.. لم يستطع تحمل مواجهة الصورة المنعكسة أمامه, فخرج هائماً في شوارع باريس.. أفكاره تدور في دوامات.. تتخبط روحه بين شوارع لا نهاية لها كما يتخبط جسده بين أجساد بشر يمرون به.. لا يراهم ولا يعرفهم ولكنه يلمح نظرات منى اللائمة.. نظرات خيبة أملها به تبرق في أعينهم وكأنها آلاف الأسواط المُعَذِبة لروحه الجريحة..
وجد نفسه في النهاية أمام شقة فريدة.. حيث كانت تلك نقطة الانطلاق حين التقى هناك بغسان شريكه في المطعم.. والآلام..
عادت أصوات السيارات تدوي من حوله وتصاحبها بعض الأصوات العالية.. وقليل من السباب الفرنسي الأنيق, فانطلق بسيارته إلى عمله ليدفن به ما تبقى من نهاره.. أما الليل فهو يفنيه بين ذراعي لورا التي تبذل كل جهدها لترضيه وتسعده وتنسيه.. وهو ينهل من حبها.. من مشاعرها التي تغرقه بها بكرم وصبر في انتظار اللحظة التي يبادلها فيها مشاعرها.. لحظة يعلم علم اليقين أنها لن تأتي أبداً.. ولكنه بكل أنانية يقتات على حب لورا له ليحيا.. يتنفس.. يستمر على قيد الحياة, ولكنه أبداً لن يعيش ثانية..
وصل إلى مطعمه ليلمح سيارة لورا متوقفة خارجه, انتابه القلق الشديد.. فلم تركت عملها الذي تعشقه في منتصف نهار عمل!.. ترجل من سيارته بسرعة وانطلق نحو مكتبه ليجدها تنتظره في مكتبه وما أن لمحته حتى أنطلقت لتتعلق بعنقه هاتفة بسعادة:
ـ Hassan, I’mpregnant..
هتف بدهشة:
ـ what???
اجابته والسعادة تغمرها:
ـ I’m pregnant .. we will have a baby
نظر إليها بصدمة بالغة ولم يعرف بم يجبها وبداخله سؤال يتردد بعنف
"لم اختار ابنه أن يسكن رحمها هي؟.. لم؟.. لم؟.."..
************
أخذ يزيد يراقب علياء التي كانت جالسة براحة تتابع أحد البرامج على التلفاز.. كانت تبدو فاتنة للغاية وهي ترتدي واحدة من تلك المنامات القطنية القصيرة والمطبوع عليها صورة ذلك التويتي الذي يمقته بشدة.. مسدت بأناملها فوق بطنها التي تكورت بفتنة وعلى شفتيها ابتسامة ناعمة.. عاودته للحظات لحظة معرفته بحمل ريناد وهز رأسه يأساً.. فهو مع كل حمل لعلياء يصل لعنان السماء من فرحته.. بل يكاد يخرج إلى الشرفة ليقف فوق سورها ضارباً صدره بقبضتيه كرجل الغاب في إعلان صريح وواضح أنه قادر على منح الأطفال لامرأته..
ابتسم بحنين وهو يتذكر وجودها بين ذراعيه.. وجود مر عليه وقت طويل.. طويل جداً.. وهو مشتاق.. يقتله شوقه وحاجته إليها بينما هي تجافيه.. تبعده.. وتصر على عقابه.. عقاب يستحقه فهو أثبت غباءه بجدارة.. ولا يعلم حتى الآن كيف ظن أنها قد تشارك نيرة في جريمتها.. ولكنه للأسف وقتها كان غضبه ما يحركه ويسيطر على عقله فواجهها بشكوكه وجن جنونها.. واتهمته بكل ما ورد في القاموس من الغباء إلى النذالة.. وطردته من غرفتها بكبرياء وهي تخبره أن عليه أن يعود للنوم في حجرة التعذيب ذات الفراش الوردي..
شعرت علياء بوجوده فرفعت عينيها لتجده متكئاً على حافة الباب يراقبها بشغف وقد ارتسمت في عينيه نظرات جعلت وجنتيها تشتعلان بالحمرة.. فانطلقت ضحكاته بقوة وهو يرمي بجسده إلى جوارها ويلقي برأسه على صدرها هامساً بتوسل:
ـ مش هتسامحيني بقى!
امتدت أناملها لتداعب شعره بلا إرادة منها.. وسرعان ما أدركت ما قامت به.. فهتفت بغضب وهي تبعد أناملها عن شعره:
ـ وحد قالك أني زعلانة.. أنت اللي مُختفي.. ويا دوب بتيجي تبص على الولاد وتمشي..
رفع رأسه إليها وهو يرمقها بدهشة فهي من ألقت به خارج غرفتهما.. رأى الحمرة مازالت تلون خديها وعينيها تلتمع بنظرات أنثوية ماكرة.. فابتسم بخبث وأحاط كتفيها بذراعه وهو يدفن رأسه بجانب عنقها يقبلها بمتعة بينما يديه تداعب بطنها برقة وهو يهمس لها:
ـ هو تويتي ده ما بيخلصش.. ما بتلاقيش منه على قمصان حرير!..
انطلقت ضحكتها بنعومة وهي تستسلم لقبلاته المجنونة.. ليضمها إليه هامساً باحتياجه وشوقه إليها.. وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسها تتمدد في فراشها وهو يجاورها هامساً:
ـ أنا آسف..
رمشت بعيونها بقوة:
ـ امممم.. بس؟!...
أكمل اعتذاره وأنامله تتلمس شفتيها باغواء:
ـ آسف على غبائي.. عشان موضوع نيرة.. ما كانش لازم أفكاري توصل لكده.. أنا غبي.. غبي ومجنون.. مجنونك..
ابتسمت برقة:
ـ الجنون مش مبرر يا يزيد.. أنت عارفني كويس.. ليه فكرت كده؟..
أجابها بعفوية:
ـ كنت بدور على سبب عشان أبرر غضبي منك!..
اتسعت عيناها بدهشة:
ـ ايه؟!..
هبط رأسه إليها وضمها بقوة إلى صدره وهو يعاود سؤاله الذي لم تجبه منذ شهور:
ـ علياء.. ممكن في يوم تسيبيني؟.. أو تكوني لحد تاني غيري؟..
لفت عنقه بذراعيها تضمه إليها بشدة وهي تهمس في أذنه:
ـ آه لو تعرف..
همس بتساؤل:
ـ أعرف ايه؟..
ابتعدت عنه قليلاً لتنظر في عينيه بهيام مرددة:
ـ آه لو تعرف يا حبيب قلبي وأنت معايا باحس بإيه
خلي شوية لبكرا يا قلبي الحب ده ما اقدرش عليه
بص في قلبي يا عيون قلبي شوف كام حاجة بتتمناك
فرحة وشوق وأماني كبيرة وليالي حب بتستناك
بحبك حب خلاني بخاف من فرحتي جنبك
يشوفها حد يحسدها ويحسدني على حبك
وبحبك حب يا ويلي منه..
مسهرني محيرني وروحي فيه
وبحبك حب يا ويلى..
مدوبني وحبيته واخذت عليه
آه لو تعرف..
كاد قلبه ينتفض بين ضلوعه ليلقي بنفسه بين يديها طائعاً مستسلماً لسيدته الوحيدة.. من منحته قلبها بلا شروط.. بلا مقابل.. فقط حباً خالصاً.. حباً حقيقياً وليس حسابات باردة وكلمات جوفاء عن تفاهم روتيني قاتل..
حرك شفتيه ليخبرها أنها حبيبته الوحيدة ولكن صرخة قوية انطلقت من بين شفتيها سمرته في مكانه:
ـ آآآآآآه...
ظن في البداية أنها ستكمل كلمات الأغنية, ولكن تعالت الصرخة مرة أخرى:
ـ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ آآآه..... يزيد.. أنا بأولد يا يزيد..
وبعد عدة ساعات..
انطلقت صرخات..
"حازم" و"حمزه"..
توأمي علياء ويزيد
لينضما إلى أسرتهما الكبيرة الدافئة..
ويتبعهما بعد سبعة أشهر صرخات شقيقهما
"رامي"
والذي أصرت ريناد على تسميته بأقرب الأسماء إلى اسمها
وبعدها بساعات كان مازن يضم بين ذراعيه
صغيرته الجميلة والتي تشبه أمها تماماً
والتي أصرت على تسميتها
"عِشق"..
لتكن.. هي عِشق دنيا وابنته الوحيدة..
وهناك على بعد مئات الأميال
كان حسن يسجل اسم ابنته التي ولدت منذ ساعات
"منى حسن العدوي"..
*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس