عرض مشاركة واحدة
قديم 20-01-18, 07:24 PM   #36

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والثلاثون


تمسك يزيد بكلتا يديه بمقود السيارة بغضب مكبوت محاولاً عدم الالتفات إلى ثرثرة ريناد الجالسة بجواره والتي تعبر عن امتعاضها من الطبيب المختص الذي تركا عيادته للتو برفقة ابنهما رامي..
ثرثرتها لا تنتهي حول الطبيب وعدم كفائته وقلة ذوقه.. بالطبع فعلياء هي من اقترحته.. لذا يجب أن يكون عديم الكفاءة.. بينما الرجل كان في قمة الاحترافية وهو يفحص رامي بدقة شديدة.. وبعد عدة أسئلة لم تمتلك ريناد أي اجابة عنها, فكان يزيد يجيب بدلاً منها.. موضحاً كيف ومتى اكتشف المشكلة التي يعاني منها الطفل.. صمت الطبيب عاجزاً عن التعبير عما يجول بخاطره عندما علم بأن زوجة الأب هي من اكتشفت علة الصغير.. وأخيراً طلب منهما عدة تحاليل وفحوصات وراثية نظراً لوجود صلة قرابة وثيقة بينهما, فقد اتجهت ظنون الرجل لوجود خللاً وراثياً سبب ضعف السمع الشديد الذي يعاني منه ابنه.. واقترح بداية استخدام جهازاً سمعياً مؤقتاً حتى يتبين مدى الضعف الذي يعاني منه الصغير..
نعم.. فالحمد والشكر لله.. والفضل كان لعلياء في اكتشاف الحالة في وقت مبكر نسبياً..
"وإن كان من الممكن الاكتشاف في وقتِ بدري شوية"..
كانت تلك كلمات الطبيب.. والتي أكسبته عدواة ريناد على الفور.. فكلماته تتضمن اتهاماً ضمنياً لها بالاهمال.. وهو ما كان موقن منه الطبيب.. وظهر جلياً من طريقته الجافة في الاجابة عن أسئلتها السخيفة والتي كان أعظمها سخافة سؤالها عن جهاز السمع ومدى توافره بألوان راقية وأحجام لا تجعله مرئياً حتى لا تلمحه صديقاتها.. ولكن تلك السخافة لم تعادل قسوة سؤالها عن وجود مؤسسات متخصصة لاستقبال حالات كحالة رامي.. لحظتها بدا الطبيب على وشك القائها خارج مكتبه بينما تكورت قبضة يزيد بالفعل وكانت معجزة بحق أنه لم يلكمها في وجهها.. كما يستحق كائن أناني مثلها..
زاد من ضغط يديه على المقود حتى ابيضت سلميات أصابعه وثرثرتها تضرب أذنيه بقسوة مطالبة اياه بالبحث عن طبيب آخر أكثر تهذيباً وأكثر قدرة على التعامل مع من هم في مركزها..
ـ احنا لازم نفكر كويس في خطوتنا الجاية.. وهنتصرف ازاي مع رامي و..
قطع كلماتها توقف السيارة المفاجئ أمام الفيلا ليصطدم رأسها بالزجاج الأمامي وتصرخ غاضبة:
ـ يزيد!.. أنت اتجننت!!..
لم يجبها بينما التفتت إلى الخلف ليطمئن على رامي فوجده مازال نائمًا.. يبدو أن فحوصات الطبيب قد سببت له الاجهاد.. داعب وجنته بحنان وقد مرت بعقله فكرة استساغتها نفسه سريعاً فاتخذ قراراً فورياً وترجمه بكلمات قليلة ألقاها نحو ريناد:
ـ ريناد.. أنا هاخد رامي يلعب مع أخواته شوية..
زمجرت غاضبة:
ـ تاخد رامي لأخواته ولا تروح تترمي في حضن الهانم!.
هز كتفيه بلامبالاة وهو يرمقها بغضب مكتوم:
ـ حتى لو كان.. ايه الجديد عليكِ!.. أنا مش برتاح إلا مع علياء.. أنتِ عارفة ده كويس ومتقبلاه..
أغمضت عينيها للحظة تبتلع صراحته الفجة ثم همست:
ـ أنت مش ملاحظ أنك بقيت صريح لحد القسوة؟..
ردد بسخرية:
ـ قسوة!.. لا أبداً.. هو زي ما بتقولي أنا بقيت صريح قوي..
ثم صمت للحظة ليخرج صوته بارداً:
ـ لكن القسوة الحقيقية.. لما تبقى في ست.. المفروض أنها أم.. والمفروض ابنها في عز احتياجه لها.. لكن هي كل اللي بتفكر فيه ازاي تتخلص منه في مؤسسة ولا مركز طبي..
شحبت ملامحها لحظة ورددت بقلق:
ـ أنا...
قاطعها ببرود:
ـ أنتِ تروحي تكلمي خالتي في التليفون وتبلغيها أن ابني هيفضل جنبي.. ومش هبعده لأي مكان.. عايزة أنتِ بقى تفضلي جنب ابنك.. أهلاً وسهلاً.. مش عايزة.. براحتك!..
سألته بتوجس:
ـ يعني ايه؟..
أدار السيارة مرة أخرى كإشارة لها بالترجل منها وهو يغمغم:
ـ كلامي واضح.. عن إذنك!..
تركت السيارة والغضب يتملك كل خلية من خلاياها واندفعت داخل الفيلا لتتصل بوالدتها على الفور وهي تصرخ بها غاضبة:
ـ شوفتِ آخر نصايحك أنتِ وخالتي!.. خلاص البيه بقى يقولها في وشي بصراحة ومن غير ما يتكسف.. هو مش بيرتاح غير مع الهانم التانية.. وغير كده.. بيخيرني بين أني استمر معاه خدامة لابنه المريض, و..
قاطعتها أمها:
ـ وبين ايه؟..
دعكت ريناد جبهتها بتعب:
ـ مش عارفة.. ما قالش بس أكيد الطلاق..
غمغمت أمها بقلق:
ـ طلاق!..
هتفت ريناد بانزعاج:
ـ ماما.. أنا مش عارفة اعمل ايه!.. هو رامي صعبان عليّ.. بس مش متخيلة نفسي أم لطفل معوق زيه!
صمتت أمها لفترة.. قبل أن تخبرها بهدوء:
ـ خلاص.. يبقى تخلفي ابن سليم.. ورامي ترعاه أي مربية متخصصة..
صرخت ريناد بها:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!!.. طفل تاني!.. أنتِ ناسية أنا اتعذبت قد ايه عشان أخلف رامي؟!.. وبعدين أساساً الدكتور شاكك في مشاكل وراثية.. يعني ممكن الطفل الجديد ده يكون مريض زي رامي أو حتى أسوأ..
زفرت أمها بغيظ:
ـ مشاكل وراثية!.. ايه الحظ ده!.. طيب أنتِ ناوية على ايه؟
ـ مش عارفة يا ماما.. اليومين اللي فاتوا كنت هتجنن من القعدة مع رامي.. صحيح يزيد كان موجود.. وحتى هو اللي كان بيعمله أغلب طلباته.. بس الوضع مش هيستمر كده على طول..
ـ عندك حق.. أنا مش عارفة أفكر.. بس فكرة أنك تتنازلي عن وضعك كزوجة ليزيد الغمراوي قرار مش سهل.. برستيج ونفوذ وفلوس.. طيب حاولي تقنعيه بموضوع المربية.. واهو كده ممكن تستمروا زي ما أنتوا.. صحيح هو الولد فين؟..
ـ أخده وراح للهانم مراته..
هتفت أمها:
ـ طيب ما الحل موجود اهوه.. يربي ابنه المعاق ده وسط ولاده من عليا وهي مش هيفرق معاها.. خمس ولاد من ستة..
ـ امممم.. تفتكري؟.. طيب ويزيد هيوافق؟..
ـ ده ما هيصدق.. بس زي ما قلت لك.. فكري في طفل جديد.. خليه المرة دي تلقيح صناعي ولا أنابيب.. عشان نحاول نتجنب أي مشاكل وراثية..
برقت عينا ريناد بحماس:
ـ تصدقي فكرة كويسة قوي..
وأغلقت الخط مع والدتها وهي تفكر في وسيلة فعالة تقنع بها يزيد بفكرة الطفل الجديد.. طفل سليم.. تفتخر بوجوده وسط صديقاتها.. ويمكنها التعامل معه بسهولة.. وفي المستقبل.. يكون هو مستقبل عائلة الغمراوي.. ووريثها..
************
جلست نيرة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة في شقة علياء تراقب تلك الأخيرة وهي تحتضن صغيرها حمزه وهي ترضعه وتهمس له بحنان بينما أناملها تداعب خصلات شعره القصيرة وابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها..
دمعة مفاجئة جرت على وجنة نيرة فسارعت لتمسحها بسرعة وهي تتصور نفسها تحتضن طفل مازن بين ذراعيها.. ترضعه وتهمس له كما تفعل علياء..
أمنية بعيدة المنال.. وحلم أضاعته بإيديها.. حتى بعدما علمت بخبر انفصاله عن دنيا.. ظنت لوهلة وجود أمل ما أمامها ليفاجئها بخبر سفره إلى شقيقه.. وكأنه يهرب من أي مستقبل يجمعه بها.. أو حتى مجرد فكرة لمستقبل..
زفرت بحزن وهي تسأل علياء:
ـ هو يزيد ما يعرفش مازن هيرجع امتى؟..
هزت علياء رأسها نافية بصمت وهي تتذكر ابتعاد يزيد في اليومين الماضيين.. وانغماسه الكلي في مشكلة رامي.. تقدر هي وضعه وتمنحه العذر بالكامل, إلا أنها تفتقده بشدة.. تحتاج تواجده حولها الآن وقد كبر أولادهما وأصبح احتياجهم له أقوى وأشد..
سمعت صوت نيرة يسألها بتردد:
ـ تفتكري ممكن يكون ليا فرصة مع مازن؟..
التفتت علياء نحوها وهي تعدل من وضع حمزه لتسألها بوضوح:
ـ نيرة.. خليكي صريحة مرة واحدة مع نفسك.. أنتِ عايزة مازن ليه؟.. عشان هو جوزك اللي بعد عنك فجأة واتجوز غيرك وعايزة تعلني انتصارك عليها؟.. ولا عشان هو الراجل اللي بتحبيه واللي يستحق أنك تحاربي عشانه؟..
أخفضت نيرة بصرها للأسفل وهي تغمغم:
ـ مازن طلق دنيا..
شهقت علياء بصدمة وقد اتسعت عيناها ذهولاً.. ولكن ذهولها وصل لمنتهاه ونيرة تردف:
ـ دنيا هي اللي بلغتني.. الست دي غريبة قوي.. تخيلي أنها كانت بتوصيني على مازن.. وبتقسم لي أنه لسه بيحبني بس محتاج مني شوية تضحية وتعب.. الست دي مجنونة ولا خيالية؟.. دي تقريباً من عالم تاني..
غمغمت علياء بحزن:
ـ هي بس بتحبه قوي.. بس الانسان كده.. دايماً يضيع الحاجة الحلوة اللي في ايده وهو بيجري ورا سراب..
رمقتها نيرة بنظرة حادة ولكنها لم تعلق.. فما تقوله علياء بقدر ما ينطبق على مازن فهو ينطبق عليها أيضاً..
رمقت علياء بتردد وهي تسألها:
ـ اعمل ايه يا عليا؟.. ارجعه ازاي؟..
ـ بتحبيه يا نيرة؟..
ابتسمت نيرة بشجن وكأنها تتوقع السؤال:
ـ مش عارفة يا عليا!.. هو الحب ايه؟.. مشاعري لحسن كانت حب؟.. ولا اللي بحسه مع مازن هو الحب؟.. أما حسن سابني واتجوز منى حسيت بوجع في كرامتي.. كبريائي اتدمر وكنت غضبانة قوي.. وغضبي استمر لحد ما منى ماتت.. فرحت بموتها.. بس عشان حسن هينحرم منها ويرجع ضعيف ووحيد تاني.. جوازه السريع على قد ما صدمني على قد ما فوقني.. إنما مازن.. مازن جوازه بدنيا كسرني.. فكرة وجود ست تانية في حياتة على قد ما ولعت قلبي نار.. على قد ما شلتني وبقيت مش عارفة اتصرف ولا اتعامل معاه.. ودلوقتِ بعد ما خرجت من حياته.. هو بيهرب مني.. حاسة بوجع لدرجة أني مش قادرة أتنفس..
ابتسمت علياء برقة:
ـ حاولي معاه تاني يا نيرة هو مش هيفضل بعيد على طول.. أكيد هيرجع..
قبل أن ترد نيرة عليها فوجئت بدخول يزيد وقد انقبضت ملامحه فور رؤيته لنيرة وغمغم بضيق:
ـ مساء الخير..
ابتسمت له علياء برقة:
ـ مساء النور يا حبيبي..
وسألته عندما لمحت رامي بين يديه:
ـ أنت جبت رامي معاك؟.. الولاد هيفرحوا قوي.. كل يوم بيسألوا عليه..
أومأ برأسه قائلاً:
ـ أنا هدخل للولاد أوضتهم..
تركهما معاً وانطلق نحو غرفة الأولاد بينما استئذنت نيرة في الذهاب وودعتها علياء بعدما أوصتها بمحاولة الاتصال بمازن:
ـ يا نيرة اسمعي الكلام.. حاولي تحسسيه أنك عايزة وجوده جنبك.. محتاجاه.. ما تسيبيهوش لأفكاره وحزنه..
أومأت نيرة موافقة وودعت علياء معتذرة:
ـ أنا آسفة يا عليا.. يزيد شكله متضايق.. تقريباً أنا عملت لك مشكلة بالزيارة دي..
ربتت علياء على كتفها بحنان:
ـ ما تقلقيش يا نيرة.. أنا هتفاهم مع يزيد..
خرجت نيرة بينما توجهت علياء إلى غرفة الأولاد لترى رامي وقد غط في سبات عميق.. فوضعت حمزه في فراشه ودثرته بحنان.. وتوجهت نحو غرفتها, وما أن فتحتها حتى وجدت يزيد قد تمدد بعرض الفراش تاركاً قدميه لتتدلى على الأرض وأغمض عينيه تماماً.. فاقتربت منه بهدوء لتجلس ملتصقة به وهي تمد أناملها برقة لتداعب صدره وهي تسأله:
ـ حصل ايه عند الدكتور؟..
ظلت جفونه مطبقة لثوانٍ.. ثم حكى لها باختصار ما قاله الطبيب.. فربتت أناملها على جانب وجهه مواسية:
ـ إن شاء الله خير.. ولو في أي حاجة ممكن نعملها عشان نقدر نرفع من قدرته على السمع.. تمارين؟... نظام أكل؟.. أكيد في حاجات مساعدة.. ولا ايه؟..
فتح عينيه وهو يرمقها بحنان.. يريد أن يخبرها أن ما يحتاجه رامي لن يجده عند أي شخص سواها.. ولكن هل يمكنه أن يكون بهذه الأنانية؟. هذه القسوة؟.. أن يطلب منها أن تضم ابن غريمتها تحت جناحها وتربيه مع أولادها!.. تضحية كبيرة.. لا يستطيع طلبها منها.. برغم كل حبها له.. ورغم تيقنه أنها لن تمانع أبداً.. فهي أم بالفطرة.. ولكنه لا يستطيع.. فقط لا يستطيع..
شعر بأناملها تتجول بدفء على صفحة وجهه وصدره.. ثم اقتربت منه لتقبله قبلة دافئة على شفتيه هامسة:
ـ وحشتني قوي..
لفها بذراعه ورفعها لتصبح فوقه فتناثرت خصلاتها السوداء على وجهه.. حركت رأسها لتتحرك معها خصلاتها وتداعب وجهه بعبث جعله يشهق متشمماً رائحته العطرة وهو يضغط جسدها عليه بقوة ويديه تتحرك على ظهرها بحميمية وعبث حتى وصلت إلى عنقها فثبته ليلتقط شفتيها وكأنه تائة في صحراء لسنين وأخيراً وصل إلى نبع عذب..
رفعت رأسها قليلاً وهي تلهث بعنف هامسة:
ـ مالك يا يزيد؟..
عاد يخفض لها رأسها ليقبلها برقة ناعمة وهو يهمس:
ـ وحشتيني أنتِ كمان..
حركت إحدى ذراعيها والتي كانت قد حشرت بينهما لتطوق بها رأسه وتركت أناملها تداعب خصلاته وتتغلغل بها وهي تهمس ثانية:
ـ مالك يا يزيد؟.. لو ما قلتش لعلياء هتقول لمين؟..
أخذ يتأملها للحظات وهو يرى الرقة والعذوبة ترتسم على ملامحها.. وهي تعاود سؤاله للمرة الثالثة عما به.. فما كان منه إلا أن قلبها فوق الفراش ليعتليها هو تلك المرة ويقبلها بقوة وكأن حياته تعتمد على تلك القبلة.. وكأنه يبثها قلقه الذي لم يمر به من قبل.. يريدها أن تزيل تلك المخاوف التي تتلبسه.. يحتاجها أن تتفهمه كما تفعل دائماً.. كان يضمها بقوة لصدره, يلتهم شفتيها التهاماً.. يصرخ بقبلاته لها بما يوجع قلبه ويزعج عقله بشأن مستقبل ابنه الغامض.. لم يظن يوماً أنه قد يخاف إلى تلك الدرجة.. أن يصاب بالهلع والحنق لأن رامي قدر له أم مثل ريناد.. لم يشعر لحظة بالقلق على ابنائه من علياء.. فهو موقن من أنوثتها الممزوجة بأمومة رائعة.. تلك التي تلفه بها الآن وهي تمنحه الطمأنينة لمجرد وجودها بين ذراعيه..
رفع رأسه قليلاً ليرتكز بجبهته فوق جبهتها وأنفاسه اللاهثة تجري على صفحة وجهها بينما غرقت عيناه في عينيها لتتحد النظرات لثوانٍ وكأنها تتبادل رسائل خاصة بهما فقط لتهمس علياء:
ـ أنا موافقة..
توسعت عيناه بدهشة واعتدل في جلسته ليرفعها معه مجلساً إياه بين ذراعيه وهو يردد بذهول:
ـ لا.. لا يا علياء.. أنا ما اقدرش أطلب منك تضحي تضحية كبيرة كده.. حتى ولو عشاني..
رفعت نظرها له بتساؤل:
ـ خايف عليه مني؟..
هز رأسه مستنكراً:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!.. لا طبعاً.. لكن..
وضعت أناملها على شفتيه وهي تخبره بحنان:
ـ رامي ابني زي حمزه وحازم.. ما تقلقش.. واطمن.. عارفة أنها حاجة غريبة وما بتحصلش لكن ربنا زرع حبه في قلبي.. ده أكيد لحكمته سبحانه وتعالى.. غير كده كمان هو هيرضع مع أخواته.. وكده هيبقى ابني بالرضاعة.. يعني كمان شرعي..
لدهشتها وجدته يضيق عينيه قليلاً ثم يهمس بفحيح غاضب:
ـ بمناسبة الرضاعة.. ليه ترضعي حمزه قدام نيرة.. ليه ترضعي قدام أي حد من أساسه.. مش كفاية العيال اللي مش بتبطل رضاعة دي..
انطلقت ضحكاتها بقوة وكأنها تطرد بها التوتر الذي غلفهما منذ قليل.. وارتكزت على ركبتيها وأسندت كفيها على كتفيه وتهمس له بحب:
ـ أيوه كده.. ارجع يزيد المجنون اللي بحبه..
جذبها بشدة فارتمت على صدره بينما هو يتوعدها بعبث ممرغاً وجهه بعنقها وصدرها:
ـ المجنون.. هاااه.. مجنون..
انطلقت ضحكتها صافية وهي تحتضن وجهه بين كفيها:
ـ أنا بحب يزيد بكل حاجة فيه.. بعقله وجنونه.. حنانه ورقته وحتى أنانيته.. ورامي حتة منك.. ما تقلقش عليه أبداً.. بس..
ـ بس.. بس ايه؟..
ترددت قليلاً قبل أن تسأل بتلعثم:
ـ ريناد..
ضحك بمرارة تقريباً وهو يضجع للخلف ليستند على ظاهر الفراش ساحباً علياء معه فألقت برأسها على كتفه لتسمعه يجيب بألم:
ـ ريناد هتوافق.. ما تقلقيش..
ابتسمت بحزن وتلك الوخزة المؤلمة التي تشعر بها كلما ذكرت ريناد تهاجمها بقوة.. أصبحت لا تغار منها الآن.. وهي تتعجب من ذلك.. لا تشعر نحوها سوى بمرارة لا تستطيع التغلب عليها..
ألصقت نفسها به أكثر وكأنها تريد أن تشعر به بجوارها هي حقاً.. لا تريده أن يبتعد نحو ريناد حتى بفكره, فزاد هو من ضمها لجسده بينما بعقله تتردد فكرة واحدة..
"لازم ينهي الأمر"..
**********
وقف مازن بصحبة حسن وزوجته أمام إحدى لوحات فريدة يتبادلون معها حواراً مجاملاً حيث قام الأخوان بشراء عدة لوحات مجاملة لها بينما هي أصرت على دعوتهم جميعاً على العشاء:
ـ مش هقبل أعذار.. دي فرصة نتجمع كلنا مع بعض يا حسن.. حتى صبا موجودة كمان..
والتفتت حولها لتبحث عن ابنتها بينما تبعتها نظرات الجميع لتقع أعينهم على الفتاة المنشودة حين أشار مازن:
ـ آه.. صبا هناك أهي..
أومأت فريدة برأسها وهي تشير لابنتها لتتقدم وتحيي ضيوفها المميزين.. فابتسمت صبا برقة وتحركت لتستجيب لدعوة أمها حين اصطدمت بإياد الذي خرج من إحدى الغرف فجأة فأحاطها بذراعيه حتى لا تتعثر وتسقط أرضاً وهو يهتف بها:
ـ أوووبا.. مش تاخدي بالك يا ست صبا.. كويس أنها جت فيا أنا!..
ضيقت عينيها بتهديد وهي توبخه بنزق:
ـ والله.. يعني أنا اللي غلطانة!.. ولا سيادة مدير الأعمال المختفي؟.. وكمان مضيع عقله من الصبح.. غسان كان..
وضع أصابعه على شفتيها مقاطعاً:
ـ هششششش.. خلاص.. مش هندخل في موال غسان.. ارحميني.. أنا مش على بعضي من الصبح.. بقولك.. بتقبلي رشاوي لحد كام!
أطلقت صبا ضحكة عالية جذبت انتباه الحضور إليها لتتابعها عينان خضروان ضاقتا بغضب عندما اقتربت صبا من إياد لتستند عليه:
ـ والله ده يتوقف على اللي أنت عايزه!..
لف خصرها بذراعه وهو يحاول سحبها معه إلى الخارج:
ـ مش هينفع كلام هنا.. تعالي معايا..
قاطع كلماته وصول فريدة ومن معها وهي تهتف بصبا:
ـ ايه يا صبا!.. بشاور لك بقى لي فترة..
ضحكت صبا برقة:
ـ اعمل ايه يا فري.. الأستاذ إيدي مش عايز يسبني في حالي..
والتفت لتصافح مازن بود:
ـ حمد لله على السلامة يا مازن.. يا ترى دنيا وعشق معاك؟..
هز مازن رأسه نافياً وهو يصافح صبا بمحبة مستفسراً عن أحوالها.. ثم تحولت صبا لتحيي لورا برقة.. وأخيراً صافحت حسن مصافحة سريعة.. فهي لاحظت نظراته الغاضبة التي انصبت عليها منذ تعالت ضحكاتها مع إياد الذي صافحهم بدوره سريعاً ثم استئذن على الفور ليتابع أعمال المعرض حين هتفت صبا:
ـ ايوه كده روح شوف أكل عيشك..
ضحك إياد بغيظ ووخزها بقوة في خصرها فانتفضت بقوة صارخة لترتطم بكتف حسن الذي كان يجاورها وقوفاً.. فامتدت يده تلقائياً لتحيط بخصرها محاولة منه لابعادها عنه..
لم يفهم لما ارتعش جسده لتلك الملامسة البسيطة.. لما تأهبت حواسه لرائحتها الغريبة.. مزيج من رائحة الفانيلا وزهر المشمش.. نعم لقد أصبح يميز الروائح ببراعة بعد زواجه من لورا.. فهي تغرقه كل يوم بعبق جديد ورائحة مختلفة.. ولكن صبا كانت مختلفة.. عبق أنوثة مختلط بطفولية محببة.. هزته بقوة..
ارتجافة جسده المتأثر بها سببت له الغضب الشديد.. غضب من نفسه ومنها أيضاً.. وخاصة حينما تعالت ضحكتها العابثة وهي توبخ إياد:
ـ عيب عليك في السن ده!!..
وانطلقت ضحكاتها الرائقة لتتوقف فجأة حين اصطدمت بنظرات حسن التي تحولت من الغضب إلى الاحتقار وهو يشيح بوجهه عنها وكأنها مجرد النظر إليها يؤذيه ويغضبه..
ازدادت وتيرة تنفس صبا وغضبها يتصاعد لعنان السماء وهي تلمح تلك النظرات التي لم تجد لها تفسيراً وكادت بالفعل أن تصرخ به مطالبة بتوضيح فوري لسلوكه المنفر.. ولكن ما لم تدركه صبا البريئة بسنواتها العشرين هو الصاعقة التي أصابت حسن فور تلامسها معه, سماعه لضحكاتها مع إياد, رؤيته لها.. لم يصدق نفسه.. وكادت عينيه تقفزان من محجريهما وهو يرى صبا الصغيرة ذات الضفيرة الطويلة المشعثة وتقويم الأسنان المعدني وقد تحولت إلى فراشة رقيقة الألوان بداية من خصلاتها الكستنائية الداكنة والمتموجة, إلى عينيها الرماديتين الشقيتين والحزينتين في مزيج غريب لم يلمحه إلا في نظراتها.. مروراً بضحكتها الناعمة وبشرتها البرونزية والتي تحسدها عليها نجمات السينما, حتى قوامها الممشوق والذي أوضح ثوبها الفضي والذي إلتصق به كم تتمتع من رشاقة ونعومة تتهافت عليها أعين الرجال.. كما كان يفعل ذلك المدعو إيدي.. لقد صُعق حسن من التحول الذي أصاب الفتاة الصغيرة لتتحول إلى تلك المرأة التي هزت كيانه بشدة.. نعم.. فبقدر مفاجئته بجمال صبا البري بقدر انزعاجه لذلك التأثير الذي امتلكته على مشاعره.. على رجولته.. وقلبه..
نظراتها الحزينة الشقية اخترقت الدرع الفولاذي الذي شيده حول قلبه ليجده يرتجف نشوة لسماع ضحكاتها اللذيذة ومزاحها مع ذلك البغيض إيدي..
"تباً.. تباً.. ماذا يحدث؟!"..
هو لا يتأثر بالنساء.. لا يلتفت لدلالهن وضحكاتهن وصخبهن ومحاولتهن لجذب الانتباه.. قلبه توقف عن الدق بعد منى.. عينيه عُميت عن رؤية غيرها وأذنيه صُمت عن سماع تنهدات وضحكات سواها من النساء.. إذاً لما رجفة القلب الآن؟.. لم يستجيب كيانه وجسده.. عقله وقلبه لفتاة لطالما رآها كأخت صغيرة.. وفي أحسن الأحوال طفلة رقيقة محببة ووديعة.. متى تحولت الوداعة إلى تلك الأنوثة المتوحشة التي تهاجمه بضراوة..
غاب حسن في أفكاره وفي محاولاته لتفسير مشاعره المختلطة ولم يدرِ بنفسه إلا وهو جالساً على مائدة العشاء ولورا بجواره ترمقه بقلق وقد لاحظت شروده.. وتواجهه مَن شتت أفكاره وبعثرت كيانه وهي مندمجة في حديث طويل مع مازن حيث بدا أنه أخبارها بإنفصاله عن دنيا فاتسعت عيناها الرماديتين دهشة وارتعشت شفتيها المكتنزتين تأثراً وهي تعض على السفلى منهما بحزن كاد ينتزع تأوهاً منه.. فأغمض عينيه وهو يطلق على نفسه أحقر الأسماء والأوصاف.. بل كاد يشك أنه تناول xxxxاً أصابه بلوثة ما أو في أسوأ الأحوال منشط ما أثار هرموناته الذكورية..
هل ابتعد عن زوجته فترة طويلة لتلك الدرجة حتى تصبح نفسيته ومقاومته بتلك الهشاشة؟.. كلا.. لم يحدث.. فلورا امرأة دافئة وعاطفية وتتفنن في ارضائه ومنحه السعادة.. إذاً ماذا!!.. ماذا به؟..
وصل إلى مسامعه صوتها وهي تحادث مازن:
ـ اديها فرصة يا مازن.. أنتوا الاتنين غلطانين.. نيرة اتغيرت كتير بس أنت مش ملاحظ.. أو مش عايز تلاحظ.. بتدوروا حوالين مشاعركوا وبتهربوا من المواجهة.. لحد امتى هتقدروا تتحملوا الحياة كده!
غمغم مازن من بين أسنانه:
ـ صبا.. أنتِ ما تعرفيش..
قاطعته بسرعة:
ـ مين قالك!.. السنة الي عدت دي أنا قربت من نيرة قوي.. هي بتحاول.. يمكن مش هتتحول لملاك زي عليا.. ولا ست دافية زي دنيا.. بس هي بتحسن من نيرة.. نيرة اللي أنت حبيتها..
دوى صوت حسن بسخرية:
ـ نيرة اللي اتهمت بنت بريئة ظلم عشان تنتقم بس!..
التفتت له صبا بغضب لتلمح نفس النظرات الغاضبة تقفز من عينيه فهتفت به بالفرنسية:
ـ أعتقد أنه يفضل الحديث بالفرنسية حتى تفهم زوجتك ما تقوله!
تكلمت لورا برقة وبعربية ضعيفة:
ـ لا.. صبا.. لا.. أنا أفهم كل اللي أنت قولوه.. وموافق معاك كتير..
ضغط حسن على أسنانه بغيظ بينما ابتسمت صبا بانتصار والتفتت لمازن لتكمل حوارها:
ـ صدقني يا مازن.. نيرة محتاجة وجودك جنبها.. وأنت خلاص حسمت أمرك وطلقت دنيا.. يبقى ايه اللي يمنع تبدأوا من جديد؟..
غمغم حسن ساخراً:
ـ اللي يمنع أنها نيرة غيث.. والنمر مش بيغير جلده..
هتفت صبا بغيظ:
ـ هو أنت لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل.. في ايه!.. ما أنت اتجوزت وخلفت تاني بعد..
قطعت كلماتها فجأة وهي تنتبه إلى شحوب وجه لورا.. فاعتذرت منها:
ـ آسفة قوي يا لورا.. بس جوزك خرجني عن مشاعري..
أومأت لورا بلطف:
ـ مش تضايق صبا.. حسن مش يقصد.. هو منفعل كتير..
ربت حسن على يد لورا بهدوء:
ـ لورا.. آسف.. لكن أي كلام عن نيرة بيسبب لي إزعاج..
ثم التفت إلى شقيقه:
ـ آسف يا مازن.. بس..
أخفض مازن رأسه متفهماً:
ـ خلاص يا حسن.. أساساً.. أي موضوع يخصني أنا ونيرة هناقشه ما بينا..
ثم التفت نحو صبا مغيراً الموضوع:
ـ أنتِ طمنيني.. أخبارك ايه؟.. هتتخرجي السنة دي صح؟..
أومأت صبا موافقة بهدوء:
ـ إن شاء الله.. أنا مش مصدقة امتى أخلص بقى.. نفسي بجد اشتغل في مجالي..
تردد سؤال حسن:
ـ اللي هو ايه بقى؟..
ضحك مازن ببشاشة محاولاً التغافل عن الجو المتوتر حول المائدة:
ـ ايه يا حسن أنت مش عايش معانا على الأرض!.. صبا هتكون مدرسة أطفال خطيرة.. ولاد يزيد العفاريت دول بيموتوا فيها..
أطلق حسن صفيراً صغيراً قبل أن ترتفع إحدى شفتيه مستهزئاً:
ـ مدرسة أطفال!.. يعني حتى ما أخدتيش موهبة مامتك ولا احترافية باباكِ.. هتعملي ايه بوظيفة مدرسة أطفال في مؤسسة العدوي_غيث..
غمغمت صبا بسخرية مريرة وقد اشتعل وجهها غضباً:
ـ هقول لدادي يشتري لي حضانة مليانة أطفال ويخليها جزء من المؤسسة..!
تعالت ضحكات مازن القوية واحتقن وجه حسن غضباً وقبل أن يجيب على وقاحتها وصله صوت فريدة التي وصلت للتو ويرافقها ذلك اللزج المسمى إياد وهي تعتذر بلهفة:
ـ آسفة اتأخرت عليكوا.. بس كان في شوية شغل كده بخلصهم مع إياد..
جلست فريدة بجوار مازن وقبل أن يجلس إياد.. جذبته صبا من يده هاتفة:
ـ قوم خلينا نرقص.. الموسيقى حلوة قوي وأنا محتاجة اهدي أعصابي.. الجو هنا خنقة..
تحرك معها إياد نحو حلقة الرقص وظلا يرقصان معاً طوال السهرة وبدا أن صبا تمتلك طاقة لا تنضب فلم تدع إياد يعود لمائدة العشاء إلا بعد مرور أكثر من ساعة كاملة.. وكان الجميع بدأ بتناول العشاء بالفعل.. وما كادت تجلس على المائدة حتى نهض حسن فجأة معتذراً من الجميع ومتعللاً برغبته في الاطمئنان على طفلته الصغيرة..
**********
دلف حسن إلى غرفة صغيرته فور أن وصل إلى منزله.. حملها من فراشها وظل محتفظاً بها قرب قلبه.. يتشمم رائحتها الطفولية العذبة ويتلمس خصلاتها البلاتيتية الناعمة هامساً..
"يا قلب وعيون وروح بابا.. خليكي جنبي.. رجعي لبابا ثباته.. هدوئه.. مشاعره اللي اتبعترت الليلة"..
جلس على المقعد المجوار لمهد الصغيرة وظل يحتضنها طويلاً حتى شعر بيد لورا تتحس كتفه هامسة:
ـ حسن.. دع مونا تنام.. لا تزعج نومها..
وضع طفلته بالفراش بحنان واصطحب زوجته إلى غرفتهما وهو يدرك أنه الآن في أضعف حالاته وفي أشد الاحتياج لوجود أنثى مثلها تمتلك كل المقومات لارضائه واخراج أي امرأة حية من عقله.. فما أن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى سحب لورا بين ذراعيه منقضاً على شفتيها تحركه رغبة حارقة في النسيان.. لقد نجحت من قبل في تخدير جروحه.. وستنجح مرة أخرى في اخراج أي أنثى عابثة من محاولة اقتحام قلبه.. زاد من عنف قبلته وامتدت يديه ليمزق قماش ثوبها الرقيق تاركاً أثار أنامله القاسية فوق بشرتها الناعمة.. ولكنها لم تهتم.. فهي كانت مأخوذة بعنف عاطفته.. شغفه الذي تستشعره ربما للمرة الأولى.. فاستجابت له بقوة وبادلته عاطفته بضراوة مماثلة وهي تلف عنقه بذراعيها, ترتفع على أطراف أصابعها ليتمكن من الوصول لشفتيها واختراقهما.. ولم تشعر بنفسها إلا وهي بالفراش وهو فوقها يهتف من أعماقه
"اطرديها يا لورا.. اطرديها قبل ما تتمكن من أعماقي.. اطرديها"..
الفصل الثالث والثلاثون
جلس حسن أمام غسان يراجعان معاً حسابات المطعم ويتناقشان في التطوارت التي اقترحها غسان بشأن فرع المطعم الذي يديره حسن..
اقتراحات يرفضها حسن بضراوة فهو يريد الحفاظ على الطابع الريفي للمطعم.. وإضافة حلقة رقص كما يقترح غسان ستدمر سحر المكان..
ـ غسان.. أنت عارف رأيي.. وجود حلقة رقص وبار وكلام من ده مرفوض..
هتف غسان بتعجب:
ـ بار!!.. أنا قلت بار..
رمقه حسن بتساؤل:
ـ يعني مش دي الخطوة الجاية؟..
ـ لا طبعاً.. ده مش هيحصل أبداً.. وبعدين أنا ما أقصدش قاعة رقص بالمعنى اللي جه في بالك..
قطب حسن بتساؤل:
ـ أومال؟..
ـ jukebox
صمت للحظة وأكمل:
ـ جهاز الموسيقى اللي بالعملة.. تحط الكوين وتختار الأغنية.. ومساحة واسعة بين الكراسي للي عايز يرقص.. فاهمني؟..
أومأ حسن برأسه.. وهو ينهض ليتحرك في الغرفة الضيقة حتى وقف مواجهاً للنافذة الزجاجية الواسعة والتي تحتل حائطاً بأكمله وتسمح لمن في الغرفة بمتابعة أعمال المطعم في الخارج..
التفت إلى غسان وهو يشير إلى النافذة متابعاً حلقة الرقص بالخارج ذات الأضواء الخافتة الرومانسية وقد تناثرت بها عدة أزواج من الراقصين:
ـ مش هتكون زي دي؟..
هز غسان رأسه نافياً:
ـ لا طبعاً.. كل مكان لازم يبقى له الطابع المميز له و..
لم يعد حسن يستمع لأي من هذر غسان وغاب عقله تماماً وعيناه تلمحان خصلات كستنائية متمردة هاجمت أحلامه مراراً في الليالي الماضية.. وهو يغلغل أنامله بها تارة, يتشممها تارة أخرى, يمرغ وجهه به مرة ثالثة.. تباً.. أنه مريض.. بل منحرف خائن ويجب القصاص منه.. كيف يفكر بها بتلك الطريقة!!.. كيف؟..
هاجس خفي يهمس له..
"لكنك لا تفكر هكذا.. أنها مجرد أحلام.. هل يُحاسب على الأحلام!"..
أفاق على صوت غسان وهو يهتف مشيراً إلى معذبة أحلامه:
ـ ياااا.. دي صبا هناك اهيه ومعاها إياد كمان..
ضغط حسن على أسنانه بشدة وعيناه مازالت ملتصقة بها وقد تعلقت بكتفي إياد يتمايلان معاً على أنغام إحدى الأغنيات.. وقد غرقا تماماً في حوار هامس.. رفع ضغط دمه.. وأثار جنونه لدرجة أنه كاد أن يخترق تلك النافذة الزجاجية ليسحبها من بين يدي ذلك الحقير الذي يستغل صغر سنها ولا يحترم كونه موظفاً لدى والدتها..
فوجئ حسن بغسان يجذبه من يده قائلاً:
ـ تعالى هنروح نسلم عليهم و..
قاطعه حسن بسرعة:
ـ لا.. زي ما قلت لك أنا مشغول.. يا دوب هروح المطار.. صاحبي اللي كلمتك عنه.. فاكر.. اللي حجزت له عند خبير في علاج الصمم عشان ابنه.. هيوصل بعد ساعة.. تمام..
ثم ودع غسان وانطلق هارباً وكأن الشياطين تطارده.. فهو يحاول منذ أسابيع الهروب من تلك المشاعر التي داهمته بدون موعد.. مشاعر عاصفة.. جامحة ومجنونة..
"منى.. سيبتيني ليه؟!"..
كان يهتف بها بداخله وهو يدلف إلى سيارته متجهاً إلى المطار ليستقبل يزيد وأسرته.. وعقله يسترجع كل ذكرى له مع منى لتكن درعاً واقياً له من جنون ألم به ولم يعرف له علاجاً, كانت ذكرياته تلك هي خط دفاعه الأخير أمام عاصفة عاتية تجتاحه وتطيح بعقله قبل قلبه.. فهو لا يجد تفسيراً منطقياً لذلك الغضب الأعمى الذي انتابه فقط لرؤيتها تتمايل راقصة بين يدي رجل آخر.. قوة إرادة رهيبة تلك ما جعلته ينطلق خارجاً من المطعم قبل أن يسحبها سحباً من بين ذراعي إياد.. هل تلك غيرة!.. هل أصبح يغار عليها؟!.. كيف؟.. ومتى؟.. ولما؟.. تباً.. أنها صبا.. الفتاة الحلوة الرقيقة.. كيف تؤثر به هكذا؟ حتى أن لورا بكل أنوثتها الطاغية وكل حبها الذي تغرقه به لم تستطع نزعها من خلايا عقله.. من أفكاره وخيالاته.. وأحلامه...
إذاً فليحتمي خلف ذكرى منى فهو وإن صدم نفسه بزواجه من لورا إلا أنه كان يتذرع دائماً بحالته المتخبطة بعد موت منى.. وعندما بدأ يستفيق قليلاً وجد لورا حاملاً بالفعل وأصبح الفراق خيار غير وارد.. لكن ما عذره الآن ليترك قلبه ينجرف نحو عاطفة لا يدرك لها أفق.. فعشقه لمنى برغم قوته إلا أنه كان هادئاً ناعماً كمياه البحر الرائقة في يوم مشمس تشعرك بالراحة والسعادة ولكن تلك الصبا تجتاحه كإعصار مدمر يقتلعه من جذوره, كمياه المحيط.. ثائرة ولكنها تغويه للانغماس بها.. وبرغم عذاب تفكيره بها بقدر المتعة التي تمنحه إياها تلك الأفكار, إحساسه بقلبه ينبض من جديد.. بفكره يتوه مع حركة أناملها الرقيقة.. بخياله يجمح ليقربها منه.. تباً.. لقد افتقد الحب.. كلا.. كلا.. خطأ.. ما يحدث هو خطأ.. خيانة.. فالحب هو منى.. قلبه دفن مع منى.. كيف يسمح بدقة قلبه خادعة تغافله ليتوق للحب من جديد.. نعم.. أنه يتوق للحب وليس لوجود امرأة.. فالوجود الأنثوي بحياته تغطيه لورا ببراعة.. ولكن.. ماذا يفعل وهي تجتاحه ولا تدري عن أمره شيئاً, بل الأدهى أنها ساخرة ومندفعة.. قوية وعنيدة.. لسانها لا يسكت عما تفكر به.. كما أنها تبدو متحررة الفكر للغاية ومتورطة بعلاقة مشبوهة مع ذلك الإياد.. هي كل ما يرفضه في المرأة, فلم تمتلك تلك السطوة عليه.. لم تتسارع نبضاته كلما مر طيفها بباله.. لم أصبح يغمر نفسه بالعمل حتى لا يفكر بها وفي نفس الوقت يبحث عن لحظات مسروقة يغمض بها عينيه ليتخيل عينيها تبتسم له هو فقط..
تباً.. تباً.. يجب أن يتوقف عن التفكير بها.. عن تصورها و...
"تباً"..
صرخها تلك المرة بصوت عال وهو يلكم المقود بعنف بالغ محاولاً إقناع نفسه بتحريك السيارة والابتعاد عن المكان بكل ما يحويه من جنون, وبالفعل أدار المحرك ليعود ويوقفه على الفور ويخرج من السيارة كالعاصفة مقتحماً المدخل الأمامي للمطعم ومتجهاً نحو عذابه المتمايل بين ذراعي آخر فيسحبها من مرفقها بسرعة ويوقف تحرك إياد بإشارة حاسمة من يده هاتفاً:
ـ خليك مكانك وما تدخلش أنت.. دي مسألة عائلية مالكش فيها..
توسعت عينا إياد على آخرهما بعدما وصله ذلك التحذير العنيف, ولكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة ساخرة على ملامحه وهو يراقب الموقف بتسلية بالغة بينما حاولت صبا التملص من قبضة حسن الذي زاد من ضغط قبضته عليها هامساً من بين أسنانه:
ـ اتحركي معايا وبلاش فضايح..
تسمرت قدماها بالأرض رافضة التحرك وقد ظهر على وجهها إمارات التمرد وشعت نظراتها بالغضب وهي تهمس له بدورها:
ـ لو مش عايز فضايح بجد سيب إيدي.. وإلا أقسم بالله..
قطع كلماتها إياد وهو يقول بنبرة ظهرت فيها التسلية واضحة:
ـ خلاص يا قطتي.. البشمهندس يوصلك.. أنا كمان افتكرت ميعاد مهم.. تشاااااو..
كانت كلمة "قطتي" بتلك الطريقة ونبرة الدلال بها فوق احتمال حسن فلم يشعر بنفسه إلا وهو ينطلق كالسهم خارج المطعم وهو يسحب صبا خلفه هاتفاً بحنق:
ـ مش عايز اسمع كلمة واحدة وإلا أقسم بالله لاكون مخرجك من هنا على كتفي..
لحظات وكانت صبا تجلس في المقعد الأمامي لسيارة حسن وهي تتنفس بسرعة شديدة وقد تملك الغضب من كل خلية بجسدها حتى أنها عجزت عن الصراخ بوجه حسن الذي أدار السيارة بغضب عاصف والكلمات تنطلق من بين شفتيه بعنف:
ـ أنتِ ازاي بقيتِ كده!..
فوجئت بعنف كلماته واتهام ينطلق من بين شفتيه قبل أن تجبه بكلمة:
ـ صبا البنوتة الرقيقة تربط نفسها بعلاقة مشبوهة مع واحد عمره ضعف عمرها!.. هاه.. ازاي فهميني..
برقت عينا صبا بدهشة بالغة وقد استوعبت ما يدور بذهنه من أفكار سوداء فحلت عقدة لسانها لتردد بذهول:
ـ علا.. علاااقة!!.. أنت اتجننت!!.. أنــ
قاطعها بعنف:
ـ تقدري تفهميني ايه اللي يربطك به؟.. رقص وخروج ودلع و..
صرخت به وقد وصل غضبها لمنتهاه من تدخله الغير مرغوب به:
ـ وأنت مالك!.. مين مات وعملك وصي على تصرفاتي..
غمغم من بين أسنانه مفسراً:
ـ والدتك لها جميل في رقابتي..
قاطعته وهي تكتف يديها على صدرها:
ـ وأنت اهوه رديت الجميل.. وأنقذت بنتها من أنياب الديب الشرير.. ميرسي يا بشمهندس..
ضرب المقود بعنف فانتفضت في مكانها مجفلة وهي ترمق قبضته بقلق لتسمعه يهمس باستفزاز:
ـ ما تخافيش..
هتفت بحنق:
ـ ما بخافش على فكرة.. أنا أعرف أحافظ على نفسي كويس..
تملكه الغضب مرة أخرى ليعاود اتهامه لها:
ـ واضح.. عشان كده بتورطي نفسك مع اللي اسمه إياد..
التفتت نحوه وهي تشير بسبابتها نحوه:
ـ ما يخصكش.. فاهمني.. علاقتي بإياد زي ما بتقول.. ما تخصش حد غيرنا..
هتف بها وقد خرج غضبه عن سيطرته:
ـ ليه؟!.. ليه تدمري حياتك؟..
لفت نفسها لتواجه النافذة تلك المرة وهي تخبره من بين أسنانها:
ـ هو تدمير الحياة بقى حكر عليك بس؟..
انتفض جسده في مكانه بقوة وكأنها رمته بالرصاص.. فجملتها أصابت أعمق مخاوفه وأسوأ كوابيسه.. عندما حرم منى الحياة الطبيعية بجوار والديها وابتعد بها بعيداً لتنتهي حياتها وحيدة.. غريبة..
لاحظت صبا صمته فلفت رأسها لتفاجئ بإنقباض ملامحه وشحوب وجهه.. أصابتها الحيرة بشدة.. فهو يظهر الآن تأثراً لما ألحقه بنيرة منذ سنوات..
حاولت فتح شفتيها لتعدل من كلماتها حتى لا يظن أن نيرة مازالت تدور في فلكه.. ليصلها صوته وهو يحاول اصباغ بعض الهدوء عليه:
ـ بصي يا صبا.. بلاش تحاولي تكوني أي حد غير نفسك.. ما تخليش تجربة سيئة أو حتى شخص مر في حياتك يأثر فيها لدرجة أنك تاخدي قرارات مصيرية تندمي عليها بعدين...
تأملته صبا بذهول لتخرج همستها قبل أن تستطيع إيقافها:
ـ أنت بتقول لنفسك ولا بتقولي الكلام ده..
شرد يتأمل الطريق أمامه ليهمس بكلمات لم تسمعها:
ـ يمكن بقولوه لنا احنا الاتنين..
ابتلعت كلماتها وسكتت وهي تلف برأسها للنافذة الجانبية متسائلة:
ـ ايه ده!.. احنا رايحين فين؟..
قبل أن يجبها تعالى رنين هاتفه, فالتقطه ليجب بسرعة:
ـ أيوه يا يزيد.. نص ساعة وهكون عندك.. آسف على التأخير..
ثم رمق صبا بنظرة خاصة:
ـ مشكلة صغيرة عطلتني.. لا.. لا.. هآجي.. دقايق وأكون عندك..
أغلق الخط والتفت إلى صبا معتذراً بحرج يتناقض تماماً مع ثورة غضبه السابقة:
ـ أنا آسف.. بس لازم أروح أجيب يزيد من المطار.. والوقت يا دوب.. صعب أني أوصلك الأول.. تحبي أوقف لك تاكسي أو..
لم تسمع صبا باقي جملته المعتذرة وهي ترمقه بدهشة بالغة عاجزة عن استيعاب تحوله من الغضب المستعر إلى حالة من الحزن والشجن لتنقلب إلى نوع ما من الوداعة والحرج وصلت به حد الاعتذار منها!..
من يكون هذا الرجل؟!.. أهو الغاضب الأحمق أم الحزين الغامض؟.. أم المهذب الرقيق؟!..
والأغرب ردة فعلها نحوه.. لم تهاجمه باستمرار؟.. لم لم تخبره بمن يكون إياد حقاً بدلاً من الاستماع إلى اتهاماته الحمقاء؟.. لم تشعر بتلك البهجة الخفية والتي تحاول الهروب منها جاهدة..
يا الهي.. لقد ظنت أن ذلك الافتتان القديم قد مات.. لا تنكر أنه كان نجم مراهقتها.. حتى أنها قفزت فرحاً عندما حل ارتباطه بنيرة.. فلم تكن تحتمل أن يكون معشوق مراهقتها هو زوج شقيقتها.. ولكن.. لكن ذلك كان عهداً قديماً وانقضى.. عهداً كفرت عنه مطولاً بتغاضيها عن معاملة نيرة البشعة, حتى بدأت تلك الأخيرة في التقرب منها وبدء علاقة صداقة خفيفة معها.. فلم يحدث هذا الآن؟.. لم يرمقها بتلك النظرات الحائرة وكأنه يتساءل من أنتِ؟..
لم وهما تصادفا مراراً في السنوات الماضية.. لم تشعر أنه رآها بالفعل تلك الليلة في معرض فريدة؟!..
سمعت نبرته المترددة:
ـ صبا!!..
التفتت له لتغرق نظراتها في نظراته.. للحظات أو ثوانٍ لم تدركها رأت حيراتها تنعكس في نظراته.. وكأن سؤالاً بلا إجابة يحلق فوقهما..
"وماذا بعد؟!"..
كانت هي أول من ابعدت عينيها وهي تجيب على سؤاله المسموع وليس ذلك المبطن:
ـ هاجي معاك المطار.. يزيد معاه عليا والولاد.. وأكيد هيحتاجوا مساعدة لحد ما يستقروا..
لم يعقب على جملتها وتوجه مباشرة للمطار حيث كان ينتظر يزيد مبدياً تأففه من تأخر صديقه بينما علياء _التي كانت تحمل رامي بين ذراعيها رافضة وضعه في عربة أطفال كأخويه_ تحاول تهدئته:
ـ خلاص يا يزيد.. قالك أنه جاي في السكة.. اهدى شوية..
رمق يزيد رامي المتشبث بذراعيها ونظراته تلاحق حركة شفتيها وملامحها بافتتان وهمس لها:
ـ الواد باينه وقع في حبك!
التفتت له بغيظ:
ـ أنت.. أنت..
لم تستطع أن تكمل كلماتها وهي تراه يقترب منها غامزاً بعبث:
ـ معذور!..
جاء من خلفه صوت حسن يداعبه:
ـ يعني أنت سايب مصر كلها وجاي تغازل في باريس!
التفت سريعاً ليلتقي بعيني حسن الحزينتين رغم كل شيء.. ففتح له ذراعيه على الفور ليغيبا الصديقان في عناق طويل بينما علياء احتضنت صبا بمودة وسعادة هاتفة:
ـ معقولة المفاجأة الحلوة دي..
هزت صبا كتفيها بحرج وهي تحاول تبرير وجودها حين سارع حسن بالتوضيح:
ـ أنا قابلت صبا بالصدفة في مطعم غسان.. وطلبت منها تيجي معايا عشان تساعد عليا مع الولاد.. و.. ووافقت..
رمقتها علياء بامتنان:
ـ بصراحة.. وجودك جه في وقته.. الأولاد جنوني..
والتفتت حولها لتلمح علي ونادية يتسلقا عربة الحقائب ومعهما أدهم يحاول تقليدهما بتصميم عنيد..
ابتسمت صبا وهي تشير لهم بحماس فينطلق علي كالسهم ويحط بين ذراعي صبا فترفعه عالياً وهو يصيح:
ـ بيبو.. وحشتيني.. هترجعي الحضانة امتى؟!..
بينما رفعت نادية عينيها لصبا وهي تدور حول نفسها بأنوثة:
ـ شوفتي فستاني الجديد يا بيبو..
كانت عيني حسن تراقب صبا وكأن نظراته التصقت بملامحها بينما هي حاولت الاندماج مع أطفال يزيد هرباً من تلك النظرات التي لم تفهمها وما لم تعلمه أنه عاجز عن فهم نفسه.. عاجز عن منعها من استراق تلك النظرات منها.. أخيراً نجح في الانتباه ليزيد ومنحه بعضاً من تركيزه لينخرطا في حوارٍ طويل وهما ينقلان الحقائب ويساعدا الجميع على الاستقرار بالسيارة.. فجلست علياء بالخلف ومعها صبا والأولاد جميعهم ما عدا نادية التي تمركزت على ركبتي أبيها الجالس بجوار حسن وهما مازالا يتهامسا سوياً.. حتى سمعا صوت علياء الضاحك:
ـ يا سلام.. اللي يشوف كده يقول بقى لكوا سنين ما شوفتوش بعض.. ويزيد كان هنا من كام شهر بس..
قهقه الصديقان ويزيد يهتف بإغاظة:
ـ كل ده عشان أنا شوفت منى الصغيرة وهي لأ..
ضحك حسن بسعادة وهو يخرج عدة صور لطفلته ويعرضها على علياء بفخر أبوي واضح فهتفت بانبهار:
ـ ما شاء الله.. زي القمر.. ربنا يخليها..
تناولت صبا الصور وهي تتأمل فتنة منى الصغيرة وتهمس:
ـ جميلة فعلاً.. ازاي فريدة ما رسمتهاش!..
ابتسم حسن بفخر وهو يخبرها:
ـ هي طلبت كتير ترسمها.. بس أنا قلت نستنى أما تكبر شوية..
ناولته الصور فتلامست أطراف أناملهما ليسحباها على الفور فتتناثر الصور على ركبتي علياء التي جمعتها بسرعة لتناولها لحسن وهي تمنح صبا نظرة متمعنة ومتسائلة هربت منها بتعمد وهي تجاري ثرثرة علي التي لا تنتهي وهو يقص عليها كل ما مر به في رحلته الأولى بالطائرة.. بينما عادا حسن ويزيد لحوارهما الهامس الذي لم يمنع حسن من الاستمرار في مراقبة صبا والاستماع إلى همسها مع أدهم وعلي ذلك الشقي الذي لم يكتفِ بالجلوس على ركبتيها فقط ولكنه أيضاً لم يكف عن تقبيل وجنتيها وهو يخبرها كم يفتقد وجودها في مدرسته..
مما دفع حنق حسن لآخره وهو يظبط نفسه يغار من طفل!.. طفل عابث في السادسة أو أكثر ولكنه محظوظ لعين يملك الحق بملامستها والاقتراب منها بل وتقبيلها أيضاً..
ـ علي واخد على صبا قوي!..
تباً.. لقد انطلقت أفكاره على لسانه.. منذ متى يحدث هذا معه؟.. منذ متى يفقد السيطرة هكذا!..
بدا يزيد غير منتبه لمعاناته وهو يجبه ببساطة:
ـ صبا بتتدرب في المدرسة عند علي.. غير كده هي ونيرة مع علياء معظم الوقت..
صمت حسن وهو يستمع ليزيد ليتأكد للمرة الثانية من تعمق العلاقة بين صبا ونيرة... فهل صبغتها نيرة بخبثها وانعدام ضميرها إذاً ذلك تفسير إقامتها علاقة مع ذلك المدعو إياد؟!.. أم هي من بذرت براعم التغيير في أعماق نيرة كما زعم مازن قبل سفره..
تنهد بعمق وأفكاره تسحبه من دوامة لأخرى.. حتى توقف بالسيارة أمام المنزل الذي استأجره ليزيد أثناء اقامته بفرنسا.. ورتب معه أمر الذهاب إلى الطبيب المختص وكافة الأمور الأخرى.. ثم عرض على صبا أن يقلها للمدينة فرفضت بحسم مفضلة المكوث مع علياء لوقتٍ أطول وبعد جدال طويل كاد يطحن به أسنانه حنقاً من تصرفاتها وهي تخبره بإغاظة:
ـ أنا هستنى مع عليا والولاد.. وهكلم إيدي يوصلني بالليل!..
هتف حسن متسائلاً:
ـ إيدي!
هزت كتفيها بمكر:
ـ أيوه.. إياد..
لحظتها صرخ حسن بها وسط دهشة علياء التي حضرت النقاش:
ـ إيدي.. إياد.. براحتك.. ابقي خليه ينفعك..
وانطلق تصحبه أعاصير غضبه بينما صبا تهز كتفيها بلامبالاة مصطنعة وهي تهمس بغضب مكتوم:
ـ أكيد هينفعني..
رمقتها علياء بنظرة متسائلة:
ـ صبا؟!!..
غلغلت يدها في خصلاتها وهي تخبر علياء:
ـ ما تاخديش في بالك.. يلا نروح للولاد..
بعد فترة اتجه يزيد ليطمئن على الأولاد ليجد علياء تدثر رامي وتقبل جبهته بحنان فالتفت ذراعه حول خصرها وهو يسألها هامساً:
ـ صبا روحت؟
أومأت برأسها موافقة:
ـ طلبت تاكسي.. قالت أنها متعودة على كده..
اتجهت نحو مهد حمزه لتدثره هو الآخر بينما يزيد يزداد التصاقاً بها:
ـ الأولاد كلهم ناموا؟..
أومأت مرة أخرى وهمست وهي تشعر بشفتيه تعبثا بعنقها:
ـ يزيد.. الله يخليك.. بلاش جنانك ده.. مش في أوضة الولا....
ضاعت كلماتها في شهقة ناعمة وهو يرفعها بين ذراعيه ويتحرك بها نحو غرفتهما ليغلق الباب خلفهما ويتجه نحو مقعد عريض فيجلس ويضعها على ركبتيه كعادته مقرباً اياها من جسده ويرفع يده لتمر أنامله برقة على جانب وجهها ويمسك بوجهها ليواجه عينيها وإبهامه يتحرك برقة على شفتيها ليشعر بابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:
ـ ايه حكايتك بالظبط؟..
كانت إجابته أن جذب رأسها نحوه ليأخذ شفتيها في قبلة مجنونة تركتهما يلهثان معاً وسمعته يمهس أمام شفتيها:
ـ احنا في باريس بقى لنا ساعات ودي أول بوسة!..
ابتسمت وهي تلمه بذراعيها وترمي برأسها على كتفه:
ـ أنا مش مصدقة أني طاوعتك في الجنان ده!
شبك أصابعه بأصابعها وهو يهمس:
ـ ايه الجنان في أني عايز اعمل شهر عسل مع مراتي..
ضحكت بعذوبة:
ـ شهر عسل مع مراتك ونص دستة أطفال..
قهقه بقوة:
ـ اعمل ايه بقى هي دي ضريبة تأخير شهر العسل!
اقترب برأسه منها يتشمم شعرها بهوس لتعاجله هي:
ـ عارف لو اعتذرت أنا هاخد أول طيارة على مصر.. أنت بقى لك فترة كل ما تشوفني تعتذر..
ابتسم لها وهو يقرب شفتيه من عنقها هامساً:
ـ طيب ينفع أقول شكراً..
ـ لو هتتكلم على رامي..
قاطعها:
ـ شكراً لأنك في حياتي.. لأنك اتحملتيني كتير.. لأنك حبيبتي.. ومراتي.. مراتي الوحيدة..
أبعدت رأسها عن كتفه ورفعت نظراتها إليه ببطء وبعينيها يلمع سؤال خشيت أن تسأله.. ليجبها هو بقبلة دافئة وهو يزيد من ضمها لصدره هامساً بتنهيدة:
ـ قرار اتأخر.. اتأخر كتيييير.. وأنتِ حبيبتي اتحملتيني كتير.. وصبرت عليَّ كتير..
همست له بتساؤل:
ـ علشان رامي؟.. تصرفاتها و..
تنهد بقوة وعدل من جلستهما ليخبرها بوضوح:
ـ أكيد ده سبب مهم.. لكنه مش السبب الوحيد.. كان ممكن أسيبها على ذمتي.. بدون أي التزام مني ناحيتها.. على فكرة ده كان طلبها..
سكت قليلاً يراقب رد فعل علياء على كلماته.. ولكنها لم تجبه بكلمة فقط أخفضت بصرها وتنهدت بقلق, فاقترب يزيد برأسه منها ورفع ذقنها ليواجه عينيها:
ـ ما ينفعش.. قلت لها ما ينفعش..
رمشت علياء بعينيها تنفض عبرات لم تعرف لها سبباً بينما هو يكمل:
ـ ما هو ما ينفعش أسمح لها تكون في حياتي أكتر من كده.. ما ينفعش أساويها بيكي حتى ولو بالاسم.. ما ينفعش بعد ما عرفت يعني ايه كلمة حبيبتي..
قبلة دافئة همس بعدها:
ـ حبيبتي أنتِ..
همسته فكت أسر عبراتها ولكنها أخيراً كانت تبكي راحة.. وسعادة...
**************
حول مائدة كبيرة في ركن قصي لمطعم حسن.. حيث دعا الجميع على الغذاء.. بداية من غسان الذي كان يسترق نظرات خاطفة نحو فريدة وهي تبتسم لرامي الجالس على ركبتيها وبجوارها صبا وعلياء يحملان التوأمين.. بينما حسن يحتضن ابنته وبجواره لورا التي أخذت تثرثر بعربيتها المحدودة مع علياء.. وعينيها تراقب نظرات زوجها التي تحوم حول صبا بإصرار بينما الأخيرة تهرب بنظراتها لتطوف في كل مكان عدا ذاك الجالس به حسن..
كانت تتساءل بحيرة عن طبيعة العلاقة بينهما.. أنها تثق بحسن.. تدرك كم هو صادق ونزيه.. كما أنها تعلم علم اليقين أنه عاجز عن الإحساس بالحب.. لقد أخبرها أكثر من مرة وبكلمات واضحة.. أن قلبه مات ودفن مع منى.. وما يحمله نحوها هي من ود واحترام هو أقصى ما يستطيعه من مشاعر.. بقدر ما آلمتها كلماته بقدر ما احترمته لصراحته وصدقه معها..
إذاً لم ذلك الهاجس الغامض الذي يهمس لها بشيطنة.. أن قلب حسن عاد للحياة.. وأنه يدق مرة أخرى وبعنف أيضاً؟!..
دار أغلب الحوار على المائدة حول المطعم وتصميم حسن له.. حتى أنه جهز جزء خاص للأطفال بحديقة المطعم الواسعة.. وقتها غمغم حسن بفخر:
ـ وقت ما كنت بجهز المطعم اتولدت منى.. ولقيت عقلي لوحده بيفكر في التصميم بحيث أنه يناسب الأسر.. وبالذات لو في أطفال صغيرين..
والتفت إلى غسان قائلاً:
.jukebox ـ يمكن عشان كده مش قادر اقتنع بفكرة الــ
التفتت له صبا التي كانت تستمع للحوار في صمت لتهتف بحماس:
ـ وايه المشكلة... بيتهيألي وجود حلقة رقص بسيطة هتكون إضافة حلوة.. الأهل يتمتعوا برقصة ناعمة هنا والأولاد يلعبوا برضوه في الجزء الخاص بيهم..
ابتسمت فريدة تعقيباً على كلمات ابنتها:
ـ صبا بتموت في الرقص.. بكل أنواعه..
توردت وجنتا صبا بينما تكمل علياء بتعليق متعمد وهي ترمق يزيد بنظرة ذات مغزى:
ـ صبا بترقص تانجو حلو يا حسن.. حلو قوي.. هتستنى برضوه لم يكون في مازن عشان يرقص معاها!
وقبل أن يجيب حسن بكلمة فُتِح باب المطعم ليدخل علي منطلقاً كالقذيفة ويهبط فوق ركبتي والده هامساً:
ـ يزيد.. عايز أقعد على رجل صبا..
أسكته يزيد بحزم:
ـ أنت سيبت أختك لوحدها؟
هز علي رأسه نفياً وهو يخبره ببراءة:
ـ لا.. هي معاها أدهم.. بيلعبوا سوا..
أجابه يزيد:
ـ وينفع برضوه أنك تسيب أخواتك الصغيرين لوحدهم؟
التفت علي لوالده وهو يفكر في حل لمعضلته الصغيرة.. ثم انفرجت ملامحه وهو يهمس لوالده:
ـ عايز صبا تيجي معايا عندهم..
لم يتمالك يزيد نفسه من الابتسام وهو يرى تصميم ابنه على طلبه.. بينما همس له حسن بغيظ:
ـ بس صبا بتتغدى يا علي..
التفت علي إليه يراقبه للحظات وكأنه يدرسه عن قرب ولكن سرعان ما لفت انتباهه وجود منى الصغيرة على ركبتيه فهتف:
ـ بص يا يزيد.. نونو ملونة زي رامي.. بس دي شعرها طويل..
ضحك الجميع عندما وصلتهم جملة علي فهو رفع صوته تلك المرة.. وأجابه يزيد ببساطة:
ـ دي بنوتة يا علي.. اسمها منى.. ايه رأيك فيها حلوة؟..
ضحك علي ببراءة:
ـ حلوة يا يزيد.. عينيها لون الشجر اللي في المزرعة..
أحاط حسن ابنته بكلتا ذراعيه وزمجر في يزيد:
ـ ايه يا بني.. ابنك بيغازل وهو لسه في ابتدائي.. ابعد أنت وهو عن بنتي.. آه.. أنا بقولك اهوه.. ولقد أعذر من أنذر..
قفز علي من فوق ركبتي أبيه ليهتف بحسن:
ـ هي حلوة صح.. بس عِشق أحلى منها.. ما تزعقش ليزيد..
ثم أخرج له لسانه بغيظ طفولي وسط ضحكات الجميع وتوجه نحو صبا ليجذبها قائلاً:
ـ تعالي معايا عند الملعب يا بيبو..
رفعت صبا حمزه من فوق ركبتيها لتناوله ليزيد وخرجت برفقة علي وهي تكاد تركض هرباً من نظرات حسن وعلياء..
"آه.. يا علياء يا ترى تقصدي ايه بكلامك العجيب ده"..
كان يزيد يردد نفس سؤال صبا وهو يتمشى مع علياء في حديقة المطعم.. حيث عرضت فريدة مجالسة التوأم ورامي أيضاً الذي راح في سبات عميق..
وتوجه حسن مع لورا إلى مكتبه ليناقش غسان في بعض التفاصيل..
أعاد يزيد سؤاله بقلق:
ـ تقصدي ايه يا علياء؟.. أنتِ لسه بتفكري في موضوع ريناد؟..
هزت رأسها نفياً:
ـ أقصد حسن.. حسن وصبا يا يزيد..
توقف هاتفاً بدهشة:
ـ ايه!.. حسن وصبا!
اقتربت منه لتضع كفها على شفتيه هامسة:
ـ هشششششش.. وطي صوتك..
أمسك بكفها ليقبل باطنه باستمتاع ويحيط خصرها بذراعه مقبلاً وجنتها وقبل أن يسترسل في عواطفه المجنونة كعادته أوقفته هاتفة بحنق:
ـ أنت شكلك ناوي تعمل فضيحة.. احنا في عز النهار وفي مطعم صاحبك..
همس بإذنها عابثاً:
ـ احنا في شهر العسل..
هزت رأسها يائسة:
ـ ما فيش فايدة فيك.. عمرك ما هتعقل..
ألصقها به وهو يتصنع الجدية:
ـ طيب نتكلم بالعقل.. ايه موضوع صبا وحسن؟.. وازاي؟.. أنتِ ناسية أنه متجوز؟..
هزت رأسها بحيرة:
ـ مش عارفة.. بس أنت مش حاسس بالتوتر اللي بينهم.. زي ما يكون في حاجة.. كيميا.. شرارة مشاعر..
اقترب ليداعب أذنها بشفتيه:
ـ متأكدة أنها بينهم.. بيتهيألي أنا الكهربا عندي 4000
حاولت تبتعد عنه وهي تهمس حانقة:
ـ يا ربي..
وبينما كانت علياء تتدلل على يزيد كانت عيني لورا تراقبهما من نافذة مكتب حسن الذي أنهى أعماله مع غسان.. لتلتفت لحسن متسائلة:
ـ شوف.. شوف حسن.. ألياء "علياء" ويازيد "يزيد".. هو مش مكسوف يقرب منها..
رمقها حسن بتساؤل فانتقلت إلى اللغة الإنجليزية لتعبر بطلاقة:
ـ أنه لا يخشى إظهار حبه أمام الناس.. كنت أظن أنكم لا تفضلون ذلك!..
رمقها بتساؤل:
ـ نحن؟!..
أجابت بارتباك:
ـ أقصد الشرقيين..
رفع حسن حاجبيه ليتساءل ثانية:
ـ لم أعتقد للحظة أنكِ من أولئك الذين يصنفون البشر!.. يبدو أنني كنت مخطئاً..
هزت رأسها بارتباك:
ـ كلا.. كلا... أنا لم أقصد..
قاطع كلماتها بحسم:
ـ اعتقادك صحيح.. نحن لا نفضل إظهار عواطفنا في العلن.. إلا في حالات العشق الإستثنائية..
رمشت بعيونها للحظة قبل أن تصدمه بسؤالها:
ـ هل قبلت منى يوماً علانية.. أمام باقي الناس؟
رفع نظراته إليها للحظات مرت بها أكثر مشاهده جنوناً مع منى.. ولكنه لم يفقد يوماً السيطرة ليقبل منى علانية كما يفعل يزيد الآن وهو يضم علياء ويقبلها بلا خجل.. أو ربما هو فقط لم يظن بوجود عيون مراقبة أو بالأحرى متلصصة.. عند تلك النقطة جذب لورا من يدها:
ـ يزيد مجنون.. لا تأخذي تصرفاته كمقياس لباقي الرجال..
تنهدت لورا بحنين هامسة:
ـ أنه ليس مجنوناً, بل عاشق بجنون..
والتفتت لتلقي نظرة أخيرة عليهما قبل أن تغلق النافذة كما أمرها حسن لتفاجئ بيزيد العاشق وهو يصرخ بوجه إياد بغضب شديد وبلحظة منحه لكمة خاطفة ولكن من القوة لتتسبب بترنح جسد إياد.. قبل أن يلحقه يزيد بلكمة أخرى غاضبة.. حينها صرخت لورا وهي تشير للنافذة:
ـ حسن.. انظر..
راقب حسن المشهد الغاضب الذي يدور في حديقة مطعمه.. وبداخله إحساس غامض بالسعادة لرؤية يزيد يكيل اللكمات لذلك الإياد.. ولكن موقعه كمسئول أجبره على التحرك سريعاً لفض النزاع حتى لا يثير قلق رواد المطعم..
أبعد يزيد عن إياد الذي كان تكوم أرضاً ولمح بطرف عينيه فريدة وصبا تنحنيان نحوه بلهفة وهما تطمئنان على جروحه.. كاد حسن أن يلتفت نحوه ليكمل ما بدأه صديقه فالوغد يغوي الفتاة وأمها بنفس الوقت فكلتيهما تنتفضان قلقاً عليه.. ولم يدرِ كيف سيطر على غضبه وصوت صبا يرتفع بغضب:
ـ يزيد.. أنت اتجننت.. ازاي تضربه كده؟.. ليه تمد ايدك عليه؟..
كان يزيد في أوج غضبه وبدا حسن يعاني وهو يحاول السيطرة عليه بينما يزيد يرمق إياد بعنف وهو يصرخ بكلمات غير مترابطة:
ـ أنا اللي مجنون!!.. وده.. البني آدم ده تسميه ايه؟!.. ده.. كان.. ده عايز.. علياء..
تملص من بين يدي حسن ليلتفت خلفه ويحتضن جسد علياء المرتعش:
ـ هشششش.. حبيبتي.. آسف.. ما تقلقيش.. ده تقريباً مجنون..
اقترب حسن من يزيد مجبراً فهو إن ترك العنان لغضبه لانتزع الحياة من ذلك الإياد الذي يبدو فعلاً كالمعتوه وهو يرمق علياء بشرود غريب.. بل أن حسن يكاد أن يقسم أنه سمعه يهمس:
ـ مش همسة فعلاً.. هي مش همسة.. الصورة هي اللي تشبه همسة..
همس حسن ليزيد:
ـ في ايه بالظبط؟.. فهمني..
ظل يزيد محتفظاً بعلياء بين يديه وهو يقص على حسن باختصار كيف اقترب منهما إياد وعرف عن نفسه بهدوء واحترام:
ـ إياد منصور.. مدير أعمال فريدة وأخوها..
ثم اقترب من علياء.. اقتراب يتخطى كل الحدود الحمراء.. ليهمس بافتتان:
ـ فيكي شبه كبير منها.. لكن الصورة أقرب لها..
ابتعدت علياء عنه ليزمجر يزيد بغضب:
ـ افندم!..
ليعاود إياد الهمس بشجن:
ـ علياء سعيدة..
ويمد أطراف أنامله يكاد يلمس ملامح علياء ويردد:
ـ ملامح علياء سعيدة..
عندها فقد يزيد كل تعقله ليهجم على إياد موسعاً إياه ضرباً..
أنهى يزيد كلماته وهو يهتف بحسن:
ـ يعني عايزني أعمل ايه يا حسن؟.. المجنون كان عايز يلمسها!
لم يجب حسن بكلمة واحدة على يزيد فكل ما كان يتردد بذهنه تلك اللحظة جملة واحدة.."أخو فريدة".. إذاً هو خالها.. هو خالها وهي تركته يظن بها الظنون.. راقبت غضبه ولوعته وغيرته.. نعم يعلم أنها تدرك غيرته.. تلك اللحظات بالسيارة كانت كاعتراف متبادل.. اعتراف بعدم الاعتراف.. اعتراف بهروب واجب.. وابتعاد قصري.. ولكنه لا يسامحها لتركه ينكوي بنار إياد.. لن يسامحها أبداً.. ولن يفوتها لها..
التفت فجأة ليلتقي بعينيها ويأسرهما بغضب نظراته.. وكأنه يصيح بها..
"نعم.. عرفت الحقيقة".. و"نعم أخرى لن أفوتها"..
ـ حســـــــن!!..
جاءت صيحة يزيد الغاضبة بعدما شعر بشرود صديقه.. فالتفت إليه حسن وهو يسلخ نظراته من بين نظراتها ويحاول السيطرة على انفعالاته:
ـ اهدى يا يزيد.. أعتقد الأستاذ إياد ممكن يفسر لنا الموضوع..
كانت فريدة هي من تكلمت:
ـ آسفة يا حسن.. وكمان مرة آسفة يا يزيد.. بس عليا فيها شبه بسيط من واحدة..
تردد قليلاً قبل أن تكمل:
ـ واحدة معرفة قديمة لنا.. وفي صورة عندي في الاستوديو.. صورة قديمة من سنين رسمتها لعليا.. كانت وقتها تشبه همسة قوي..
غمغمت علياء بحيرة:
ـ صورة!.. همسة؟..
أومأت فريدة:
ـ أيوه.. صورة أيام فرح نيرة ومازن.. ما أسعدنيش الحظ أنها تكمل.. بس فعلاً ملامحك دلوقتِ مختلفة.. زي ما إياد قال.. سعيدة.. بس..
أكما إياد عنها وهو يعتدل واقفاً:
ـ بس همسة لسه.. همسة لسه تعيسة... وأنا..
أكملت علياء وقد أدركت الموقف:
ـ بتحبها...
رفع عينيه إليها فتحرك يزيد تلقائياً ليحجبها عن عينيه.. فأخفض إياد بصره معتذراً:
ـ أنا آسف.. أنا آسف يا جماعة.. مش عارف ايه اللي حصل بالظبط.. أنا أول مرة أفقد السيطرة على تصرفاتي كده..
وتوجه إلى يزيد مصافحاً:
ـ أرجوك.. اقبل اعتذاري..
تردد يزيد لثوانٍ أمام يده الممدودة ليشعر بوكزة خفيفة من علياء دفعته لمد يده ليصافح إياد هامساً:
ـ حصل خير..
والتفت إلى علياء هاتفاً بحزم:
ـ يلا يا علياء.. كفاية كده النهارده.. نروح بقى..
أوقفه إياد بإشارة بسيطة:
ـ مالوش داعي تبعدوا.. أنا كنت جاي لفريدة في شغل بسيط كده.. دقيقتين وهمشي.. أرجوك.. ما تمشيش..
أومأ يزيد موافقاً واصطحب علياء بعيداً ليذهبا إلى أولادهما.. بينما رافقت فريدة إياد إلى غرفة المكتب الخاصة بحسن وذهبت لورا معهما لتطمئن على ابنتها.. وحين حاولت صبا التحرك لمرافقتهم وجدت مرفقها سجين قبضة حسن وهو يهمس من بين أسنانه:
ـ استني.. لنا حساب مع بعض..
حاولت التحرك لتلحق بأمها وبداخلها هاجس يصرخ بها أن تبتعد.. أن انفرادها به في تلك اللحظة هو جنون.. جنون مازال يخيم على الأجواء.. وهلوسة إياد تتردد في عقليهما..
جذبها من ذراعها بقوة حتى وصلا إلى منطقة كثيفة الأشجار.. فالتفت نحوها ليقبض على ذراعها الآخر ويثبتها على جذع إحدى الأشجار مشرفاً بطوله الفارع عليها وصدره يتحرك بسرعة مخيفة مع لهاثه العنيف.. تبادلا النظرات لفترة من الزمن, نظراتها شجاعة رغم مسحة الخوف بأعماق عينيها ولكنها كانت تواجهه بتحدي عنيف.. بينما كانت نظراته تضج بغضب أعمى.. تساؤل مجنون "لم؟".. تساؤل عبر عنه وهو يدفعها على جذع الشجرة بقوة وينفض قبضتيه منها متسائلاً بهمس حارق:
ـ ليه؟..
رمقته صبا بغضب حارق:
ـ قلت لك قبل كده.. ما يخصكش..
مرر أنامله بين خصلاته بعشوائية وكأنه محموم:
ـ ما يخصنيش.. ما يخصنيش..
ثم صمت لوهلة وهو يدرك مرارة الكلمة بجوفه.. بالفعل.. هي لا تخصه.. لا شأن له بأي من أمورها.. حتى لو كان إياد رجلاً حقيقياً بحياتها لم يكن ليستطيع فعل شيء.. ولكن.. لكن هل يريد التدخل؟.. هل يريد جعلها إحدى شئونه؟.. تحت أي مسمى إذاً؟.. صديقة؟.. أم..
لحظتها قطعت صرختها أفكاره وكأنها خمنت أين جمح به خياله:
ـ ابعد.. ابعد عايزة امشي..
التفت لها فجأة ليسألها بلا إرادة منه:
ـ عايزة تروحي تطمني عليه؟..
هتفت به بيأس:
ـ ده خالو!..
هز رأسه بغضب:
ـ ويا ترى على ضهره لوحة مكتوب عليها خالو؟!..
دفعته في صدره بقوة لتمر ولكنه لم يتزحزح لتهتف به:
ـ أنت اللي أفكارك قذرة؟..
قبض على كتفيها براحتيه ليعود ويلصقها بجذع الشجرة متسائلاً:
ـ وليه سيبتيني أظن كده؟..
هتفت من بين أسنانها:
ـ ما تهمنيش أفكارك!
اقترب بوجهه من وجهها حتى تلاقت العيون وهو يسألها مجدداً:
ـ ليه يا صبا؟..
حاولت منحه نفس الاجابة ولكن تعثرت حروفها تحت أنظاره المستعرة:
ـ عشان.. عشــ...
ارتكز بجبهته فوق جبهته ليهمس ثانية:
ـ ليه يا صبا؟..
حاولت التملص منه لتسمعه يردد بحيرة وكأنه يخاطب الكون الواسع:
ـ ليه يا صبا... ليه أنتِ.. ليه دلوقتِ؟.. ليه يا صبا؟
لم تفهم عما يتساءل بالتحديد ولم تعرف كيف تجبه فقط كانت غريزتها تخبرها بأن تهرب.. فحاولت التملص منه بقوة لتسمعه يهمس بشراسة:
ـ اثبتي.. ما تتحركيش..
حرقتها أنفاسه الساخنة, بل الحارقة.. وهي لم تعرف من أين تأتي النيران من قربه الحميم أم من أعماقها هي..
لمحته يقترب أكثر..
يا الهي.. لقد جُن بالتأكيد كما جنت دقات قلبها وهي تتسابق وكأن قلبها يعلن بكل بساطة رغبته في القفز من بين ضلوعها ليستقر طائعاً خاضعاً بين يديه.. كان قريباً منها بخطورة.. بجنون دفعها لمحاولة الإفلات ثانية ليعاود همسه الحارق وإن شابت نبرته بعض الوهن:
ـ ما تتحركيش يا صبا.. أرجوكِ..
عادت لمحاولة الهرب وتلك المرة مستخدمة الكلمات لتهتف بتوسل واضح:
ـ حسن.. حسن..
قطع كلماتها تلاقي العيون.. نظراته حائرة.. خائفة.. قلقة بشرود.. قرأت التيه والضياع بعيونه بسهولة وهو يهمس:
ـ حسن بيدور على بر الأمان.. حسن محتاج بر الأمان...
هو يريدها.. كلا.. الأمر أكبر وأعمق..
ما يشعر به ليست رغبة حمقاء عابثة بامرأة.. ذلك الطوفان الهادر بداخله لا يمكن تفسيره برغبة جسدية.. هو يحتاجها.. يحتاج جنونها.. جموحها.. يريد قلبها وحبها.. يرغب ببرائتها وعبثها.. يكاد يتسول حنانها وعطفها الأمومي الفطري.. يتوق لروحها...
يريد.. ويحتاج.. ويرغب..
ويشعر.. نعم هو يشعر من جديد..
*********
انطلق مازن بسيارته يحاول جاهداً الهروب من الاختناق المروري حتى يقضي بعض الوقت مع عشق قبل أن يعود إلى منزله مع نيرة..
زفر بضيق لا يريد الخوض في ذكريات مشاجراتهما المستمرة منذ عودته من باريس.. والمناقشات بينهما لا تنتهي وغالباً ما تختمها بنوبة بكاء هيستيرية كما حدث صباح اليوم..
قطع شريط أفكاره رنين الهاتف المستمر.. رمق الشاشة بحيرة عندما لمح رقم لم يتعرف على صاحبه.. ففتح الخط ليصل لمسامعه صوت السيدة أنيسة مديرة منزله وهي تبكي بهيستيريا:
ـ مازن بيه.. ألحقني.. يا بيه.. الست نيرة..
وانهارت السيدة في نوبة هيستيرية حادة دفعته للصراخ بها:
ـ في ايه يا ست أنيسة؟.. نيرة جرى لها ايه؟..
جاءه صوت أنيسة الباكي:
ـ الست نيرة موتت نفسها...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس