الفصل الخامس انتفضت شهد حينما اغلق محمود باب الغرفة خلفه بعنف ... انتظرت لعدة ثواني ثم أسرعت إلى الفراش و قفزت إلى جوار فريدة .. ثم ربتت على وجنتها بخفة...قائلة :
" فريدة ... لقد خرج "
و لكن لا رد ... فضحكت و هي تتابع :
" أعلم أنك لم تفقدي الوعي ... لذا لا داعي لتمثيلك المكشوف هذا "
سرعان ما اعتدلت فريدة و جلست تواجه شهد بخجل جعلها لا ترفع عيناها في مواجهتها و هي تبرر بتلعثم :
" آسفة لذلك .. و لكنني كنت مجبرة لأن.. رد فعل شقيقك أرعبني بحق ... و لا أعرف كيف حافظت على وعيي من الأساس "
" صدقا .. لا ألومك على ذلك .. فأنا أعرف كيف يكون غضبه "
نبرة شهد الدافئة أرسلت بعض من الهدوء إلى نفسها المضطربة ... لذا تجرأت و رفعت نظرها إليها بتساؤل حذر :
" و لكن كيف عرفتِ أنني.. "
بترت تساؤلها.. لتكمله شهد عنها بمرحx :
" كيف عرفت أنك لم تفقدي الوعي؟ "
أومأت فريدة بموافقة .. فعادت شهد لضحكها الذي استدعي ابتسامة خجلة إلى شفتي فريدة .. ثم قالت :
" لقد عرفت منذ اللحظة الأولى التي اقتربت فيها منك .. كانت رجفتك ظاهرة .. و لا أدري حقا كيف لم ينتبه محمود لذلك ؟"
" ظننت انه سوف يقتلني "
عادت فريدة لتبرر بخفوت ... فدافعت شهد عن شقيقها بجديةx :
" ربما لو كنتِ رجلا لفعلها ... و لكن محمود من المستحيل أن يؤذي امرأة "
ثم نظرت لها بعتاب قبل أن تردف :
" رغم أنني ألومه لغضبه ... فتلك الضربة كانت لتقتله لولا العناية الإلهية "
أعقب جملة شهد صمت طويل و قد شعرت فريدة بمدى فداحة ما فعلته .
" يا الله .. كان من الممكن أن أقتله بحق " هتفت بذلك في داخلها و هي تخفي وجهها براحتيها حين تذكرت صرخته المتألمة .
و حينها وصل إلى مسامعهما صوت تحطم زجاج قادم من جهة المطبخ يعقبه زمجرة محمود و دمدمته الغاضبة .
تبادلت كلتاهما النظرات ... ثم انفجرتا في الضحك .
ثم ساد الصمت الثقيل مرة أخرى و فريدة تقضم أظافرها بتوتر ... تنتظر عودته مترقبة لرد فعله حينما يرى أنها قد استعادت وعيها .
و خاصة مع عزمه على إخراجها من منزله ... فقد سمعت ما قاله لشقيقتها بوضوح .
هبت فريدة من مكانها فجأة و قد قررت الانصراف قبل عودته ... فهي لن تنتظره حتى يعود و يطردها من منزله ... بل ستهرب قبل أن يفعل .
سارعت بإتجاه الباب تحت نظرات شهد المترقبة ... ثم التفتت و قالت بحرج :
" أشكرك كثيراً لمساعدتي .. و اعتذري له بالنيابة عني لسوء الفهم الذي حدث"
تساءلت شهد بتعجب :
" إلى أين ستذهبين؟"
ردت فريدة بخفوت :
" لابد أن أخرج قبل أن يعود و يطردني بنفسه "
" تخرجي؟ و في مثل هذا الوقت؟ "
تساءلت شهد باستنكار.. فردت عليها بانكسار لم تتصنعه :
" هذا أفضل "
" مستحيل أن اتركك تذهبين في هذا الليل .. على الأقل انتظري حتى الصباح "
هتفت شهد بذلك بصرامة و هي تمنعها من الخروج .. و لكن فريدة أبدت اعتراضهاx :
" و لكنه قال.. "
قاطعت شهد اعتراضها بقوةx :
" لا شأن لكِ بما قاله أخي.. إنه مجرد كلام في ساعةx غضب"
اشاحت فريدة بوجهها بعيداً عنها.. تخفي دموع تراقصت في مقلتيها بسبب شعور بالإهانة :
" ليس لدي بديل .. أرجوكِ اتركيني أخرج ... قبل أن يطردني "
" أخبرتك بأن ذلك مستحيل ... محمود نفسه قد يقتلني لو علم أنني تركتك تخرجين في هذا الوقتx "
لمحت في عيني فريدة نظرات عدم التصديقx .. فقالت برفق و هي تسحبها لتجلس على الفراش مرة أخرى :
" تريدين برهان على حديثي؟؟!
حسنا... انتظري و سوف أجعله يتوسل إليكِ حتى تبقي .. فقط اسمعيني جيدا و نفذي ما سأخبرك به "
أومأت فريدة باستسلام و هي تتابع حديث شهد التي اطلت من عينيها تلك النظرة المتأمرة و هي تسرد عليها بنود خطتها .
***************
دخلت شهد إلى المطبخ لتجد محمود منهمكا في تحضير كوب أخر من العصير بعدما تحطم الكوب الذي أعده سابقا .
رسمت ملامح السخط على وجهها ببراعة فنان و تلونت نبرتها بغضب باردx :
" لا داعي لما تفعله .. فقد انصرفت "
إلتفت إليها متسائلاً ببلاهة :
" من تلك التي انصرفت ؟ "
" فريدة بالطبع "
ترك ما يفعله و دنا منها و هو ينظر لها بغموض .. ثم قال بخفوت :
" لعلك لا تقصدين تلك الفتاة التي فقدت الوعي بغرفتي؟ "
نبرته الخافته كانت أشبه بالفحيح الذي أخافها و خاصة مع نظراته التي توهجت ببريق مخيفx ... ثم أردف بهدوء خطر.. ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة :
" هل طلبتِ منها ذلك؟ "
تماسكت شهد و هزت شهد كتفيها بلا مبالاة .. قائلة ببساطةx :
" بالطبع .. ألم تخبرني أنك لا تريدها تحت سقفك لليلة أخرى.. لقد أخبرتها بذلك و هي تفهمت و انصرفت بدون إعتراض"
و هنا تفجر غضبه مجدداً .. حيث ضرب الطاولة بكفيه قبل أن يصيح بها :
" هل جننتِ شهد؟ ... الا تمتلكين أدنى ذرة من العقل ؟ .. كيف لفتاه مثلها أن تخرج وحيدة في مثل هذا الوقت؟ "
غضبها هذه المرة لم يكن مفتعل و هي تصيح به بالمقابل :
" و ما شأني بذلك .. تلك كانت رغبتك و أنا نفذتها بحذافيرها و بدلاً من أن تشكرني ها أنت توبخني على شيء ليس لي دخل به"
اعتدل في وقفته و هو يناظرها باستياء ... قائلا :
" أشكرك..x لما ؟.. بسبب غباءك "
رغم استياءها من توبيخه لها إلا أنها كادت تتقافز فرحا بالانتصار عليه ... فهو يمشي على الخط الذي رسمته له بدقة .
لم ترد عليه ليتأجج حنقه و هو يراها تخرج بصمت ... ثم توقفت دون أن تستدير ... هامسة :
" لا داعي لمثل هذا الحديث .. عموما إن كنت تشعر بالذنب يمكنك أن تعيدها .. فلا أظن أنها ابتعدت كثيرا "
لقد أعطته أول الخيط و هو التقطه بحماقة غافلاً عن الإبتسامة التي ارتسمت على شفتيها حين صاح بتأكيدx :
" هذا ما أنوي أن أفعله .. و الآن أخبريني من أي باب خرجت ؟ "
توقفت للحظة تعذبه بالانتظار ... ثم قالت :
" من الباب المطل على الحديقة "
انطلق محمود إلى الخارج غافلا عن شهد التي ضحكت ملء شدقيها .. و هي تهز رأسها بيأس.
شقيقها الذي تعرفه أكثر من نفسها كان من المستحيل أن يطرد امرأة من بيته في مثل هذا الوقت المتأخر ... و هذا ما جعلها تلعب على أوتار شهامته و قد نجح في اختباره بإقتدار.
***************
حين وصل إلى وجهته كانت الساعة قد تخطت منتصف الليل بقليل .
أوقف عمر دراجته النارية أمام القصر المهيب الغارق في الظلام .
ثم تأمله لوهلة قبل أن يترجل عن دراجته و يقرر الدخول .
تنفس بعمق و كأنه على وشك أن يغوص في ذلك العالم المظلم الذي ترسمه الذكريات .
كان تتابع الومضات المؤلمة من تلك الليلة المشؤومة يضرب معاقل ذاكرته بلا هوادة .. تطالبه بالتراجع ... تطالبه بالعودة من حيث أتى .
رفع يده يتلمس الباب العتيق الذي توقف أمامه بعجز ... فلا هو قادر على طرقه و لا هو قادر على الرحيل .
بعدما قطع كل هذه المسافة ها هو يفكر في الهروب و لكن قدماه التي تسمرت هناك كانت تمنعه.. تجعله يشعر بالقهر .
و بضعف أسند جبهته إلى الباب الذي أغلق في وجهه من قبل و هو يناظره بحقد دفين ... و ذكرى طرده من هذا المنزل تنخر رأسه مع جملة ظلت ترن في أذنه بتكرار مؤلم :
" اخرج من هنا.. و لا تعد أبداً ... أبداااا "
لقد نفذ هذا الأمر بحذافيره و لوقت طويل لم ينوي مخالفته ... و لكن ما قاده اليوم إلى هذا المكان كان شيء خارج عن إرادته.. و كأنما قوة سحرية جبارة قيدته و قادته إلى هنا .
بفتحه لهذا الباب حطم كل السدود ما بينه و بين كل ما أخفاه من أحزانه و آلامه و ضعفه و انكساره .
دلف إلى المنزل ليقابله الصمت الثقيل الذي جعل غيمة الكآبة تتوغل إلى أعماقه أكثر .
حاول تجاهل الأسى المتجذر في داخله و صم أذنيه عن الجملة الصارخة التي حامت حول رأسه و هو يصعد الدرج الانيق :
" توقف.. أنت تقتله ... "
يا الله .. لم يكن يظن أن الذكريات قد تكون قادرة على تمزيقه بمثل هذه القسوةx .
و أخيراً وصل إلى غرفتها بعدما شعر أنه خاض لجة بحر ثائر خلال هذه الدقائق الماضية.
اقترب منها بهدوء .. و قد امتص البساط الثقيل صوت خطواته ... ثم جلس إلى جوارها على الفراش .
مكثx هناك يتأملها بصمت ...
نائمة تحيطها هالتها الملائكية .. و شعرها الأحمر الذي افترش الوسادةx و تناثر حول رأسها يتوهج تحت الضوء الخافت المنبعث من مصباح بجوار فراشها .
مقلتيها المطبقتان على نظرة أسى و ضعف يحطمه كانتا غارقتان في النوم أو هذا ما ظنه .
انحنى يلثم جبينها بحنان فاعتدلت سريعاً و كأنها كانت بانتظاره .
باغته استيقاظها المفاجئ فحاول كتم أنفاسه التي تسارعت بألم .
ود أن يهرب قبل أن تكتشف وجوده و لكن رد فعلها كان أسرع ... حيث رفعت أناملها إلى وجهه تتبع ملامحه قبل أن تتساءل بشك :
" عمر!! .. أنت حقاً هنا؟ .. هذا ليس حلم؟ هل أنت حقيقي ؟ "
طال صمته حتى ظنته خيالx .. ليرد أخيراً بصوت أثقلته المشاعر :
" نعم .. أنا حقيقي"
حينها اعتدلت في جلستها لتواجهه و استقرت راحتيها على وجنتيه و هي تهتف بفرح :
" كنت أعرف أنك ستأتي .. فقد استدعيتك في حلمي"
نبرتها الفرحة أثارت شجونه و لكنه تغلب على ما يصخب بداخله من انفعالات بضحكة خافته .. ثم قال ممازحاx :
" يا الله... كفاكِ كذباً أيتها المحتالة الصغيرة "
عبست بطفولية و زمت شفتيها بغضب يعلم جيدا أنه زائف ... قبل أن تهتف به :
" لا تسخر مني عمر .. تعرف أنني لا أكذب .. لقد رأيتك في حلمي للتو .. و أنت أخبرتني أنك ستكون إلى جواري حينما استيقظ و أنا صدقتك رغم ذلك ... هل تدرك الآن ما هو الفرق بيننا ؟ "
احتوى عمر راحتيها المستقرتان على وجهه .. ثم أتبع بحنان :
" أنا آسف صغيرتي ... لا تغضبي مني.. تعلمين أنها مجرد مزحة "
صمت قليلاً يتأمل عيناها التي تناظره دون أن تبصره .. ثم تساءل بأسى لم يجيد إخفاءه :
" و الآن أخبريني كيف عرفت بوجودي؟"
ألقت نفسها بين ذراعيه و دفنت وجهها في صدره تتشمم رائحته ثم تمتمت بهدوء :
" من رائحتك ... عرفتك من رائحتك فهي مميزة لدي "
صمتت لوهلة قبل أن تتبع بمزاح يفتقد لروح الفكاهة :
" أرى أنك تستهين بقدراتي أخي الكبير.. ان لي أنف قادرة على التقاط أدق الروائح "
تلك الجملة كانت المعول الذي حطم الباب بينه و بين تماسكه .. حيث تشبث بها يدفنها في صدره أعمق و أعمق حتى كاد يفتت عظامها .
ترى؟! ... يا لها من مزحة ثقيلة .
ظل عمر يلثم جبينها بعذاب و دموع خائنة تسربت من عيناه و هو يهتف بوجع :
" سامحيني سلافة .. أنا السبب.. سامحيني صغيرتي لما حل بكِ .. لولا.. "
قاطعت استرساله في حديثه المعذب بكفها .. اسكتته عن متابعة لوم نفسه فهو أمر لن يفيد .
كانت تناظره بإبتسامة بريئة متسامحةx .. بعيونها التي تماثل في لونها العشب الأخضر بعد ليلة ممطرة ... إلا انها رغم جمالها كانت عيون عمياء ... لا تبصر و كان هو جزء من السبب .
لم تتفوه بشيء فقط جففت منابع دموعه بصمت ثم عادت تلقي رأسها على كتفه ... قائلة بصدق :
" لقد اشتقت إليك أيها الغبي "
*************** إنتهى الفصل بانتظار آرائكم و تعليقاتكم 😘 |