الموضوع: أنين راحل
عرض مشاركة واحدة
قديم 23-12-18, 10:12 PM   #1

وردة شقى
alkap ~
 
الصورة الرمزية وردة شقى

? العضوٌ??? » 300693
?  التسِجيلٌ » Jul 2013
? مشَارَ?اتْي » 484
?  مُ?إني » نور عيني الكويت
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Kuwait
?  نُقآطِيْ » وردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond reputeوردة شقى has a reputation beyond repute
:jded: أنين راحل






أنين راحل


إهداء

لمن آمن بحرفي
منذ أن وقعت نظراته عليه ،
لمن أرادها طويلة المدى ،
بتفاصيلها الموجعة .








لك يا قارئي ..

إن أردت السؤال ،
فامنحه لمن عاصر أهوال الحياة ،
و عُجنت تضاريس ملامحه
بأعوامها المتقلبة .




أنين راحل
و الوشم على صدري لا يزول


بكاي

على حين غفلة منهم تسللت بهدوء ، أعبر به رفضي لتهديداتهم التي أدرك جيداً أنها لن تتراجع ، اختفى أثري خلال يوم ، و كالمعتاد لم يسألوا عني ، فلن يكون الاختفاء الأول ولا الأخير ، لكن هذه المرة ستكون ليلة الهروب الكبرى ، أجر بها أذيال خيبتي على قارعة رصيف مبنى المطار ، أجذب حقيبتي من خلفي و أسير بهرولة و نظراتي تتخطف الاتجاهات ، خوفاً من أن يعلم أحدهم بي ، الجميع ينظر لي باستغراب ، الأجواء صقيعية و أنا أرتدي بنطال قطني و قميص دون أكمام ، لا أشعر بلسعات يناير القارصة فما بداخلي لهيب يحرقني حتى النخاع .
ما بين دقيقة و أخرى أتمتم بيني و بين نفسي ، أحاول أن أصل لمقصدي بأسرع وقت ، فالخوف يتملكني من تلاشي أثر الدواء الذي يثبت جسدي و يجعلني متزن الوقوف و الحركة ، بضعة ساعات تفصلني عن بداية لا أعلم إن كانت ستنجح أم لا .

أتجاوز البوابة و أدور لليسار للمكان المخصص لاقتطاع التذكرة ، المكان هادئ و المعاملة تنتهي بسرعة لأعود لدربي متمماً الإجراءات .

في نهاية ذلك الممر ، جلست بهدوء بعد أن تنفست الصعداء ، فالمرور على جمع غفير يتفحصك بدقة و بأي لحظة تتوقع الإمساك بك بأمر منع سفر ، حتى تتخلص من الإجراءات و أنت متمالك الأعصاب ، شيء ليس بالهين ، أتأمل الممر من أمامي ، السكون يغشاه ، مجرد عدد قليل جداً يتناثر عن يساره و يمينه ، بدأت استكين و أهدأ ، تلك الحرارة بدأت تتسرب لي لأجذب سترتي المعلقة بمقبض حقيبتي المتحرك ، أرتديها ، ليلامس سمعي نداء رحلتي حينها .

الرياض وجهتي لأعيد ترميم نفسي ، سطام كان الرفيق الذي استقبلني و كان يوماً ما ، رفيق ضياع ليتدارك نفسه برحمة من الله بها عليه ، و لا أنكر محاولاته معي اللامتناهيه ، حتى سمع صوتي ذات مساء ، أنقل له خبر قرار لا رجعة فيه ، بداية أنفض بها كل لحظة خنوع و وهن ، كل عبرة ألم و وجع ، كل صرخة عتاب و غضب ، لن أتوانى عن الجهاد حتى يتبدل حالي .


مفاز

في صباح وقف أخي أمامي ينظر لي بوجوم ، لأستفسر السبب ، حينها أجاب :
⁃ سافر بكاي .
لتكون إجابتي نظرة لا مبالية و جملة يتيمة :
⁃ لا رده الله .
تركت أخي خلفي متممة مسيري للطابق الأرضي ، فهذه المرة لن يكون بعدها عودة أبداً ، لقد استنزف فرصه حتى تلاشت ، هذه المرة سأخوض بها حرباً ، سيقف خالي بصفي ، سأجد جداي معي ، سيكونون درعاً حامياً لمن تسول له نفسه الخوض في أمر منتهي .

نظرات أمي تحمل زخماً من الكلمات ، لن أسأل فأنا أدرك أن خالتي لابد و قد اتصلت بها ، تبكي و تشتكي و تتأمل صبراً مني و ككل مرة ( فقط هذه المرة يا أختي ، فلتصبر ابنتك أعدك بتغيره ، فقط هذه المرة الأخيرة ) ، لكن أنا طفح الكيل مني و ما عاد بصدري طاقة صبر ولا حتى قدرة تحمل .

لم أحتمل نظرات أمي المتكررة ، فانزويت في غرفتي ، أستجدي ذاكرتي أن تمن علي بصورة قد تجعلني أعيد التفكير بقراري ، صورة تترك البسمة على شفاهي و الراحة على مبسمي ، لكن لا شيء فجميعها غارقة بالدم و الوجع ، تنهدت و أنا أتأمل غرفتي ، التي شهدت أوجاعي و عبراتي و صرخاتي المكتومة ، مشاعر الانكسار و الخذلان ، وهن الصدمة و قبح الحقيقة .

أغمضمت مقلتاي و أنا أجر تنهيدة خلف أخرى ، حتى باغتني صوت المؤذن الندي يرفع الآذان لصلاة العشاء ، فانتصبت بخضوع و رجاء ، أنفض عني ثقل مأساتي و أصلي و أدعو و العبرات تلتهم وجناتي ، أريد عزماً يزيدني قوة ، و راحة تستوطن صدري .

هربت للنوم عله يصيبني بفقدان ذاكرة ، لكن لا فائدة فالماضي جاء معانداً بكل قوته .

بكاي

إنها البداية فقط و أكاد أجن ، لا بل أصبحت كالمجنون فتلك الأيام التي مضت كانت خالية مما يخدرني ، فبالتالي كان الوضع لا يطاق ، قبعت في مستشفى الأمل المخصص لأمثالي ، الجميع لم يقصر معي ، سطام الرفيق الدائم الذي أخبرني الطبيب أنه لم يتخلف يومآ عن الزيارة و الاستفسار عن حالي ، و تمضي بي الأيام منها المرير مرارة الحال و منها الذي بمبسم سطام تزول أوجاعه .

و لم أعد أحتسب الأيام فقط ، أسال الطبيب :
⁃ كيف حالي ؟
بداية كان جواب سؤالي ، ملامح واجمة و ردود تحاول زرع الأمل فيني ، فكنت أحياناً أشعر باليأس و أخرى أواسي نفسي ، حتى تغيرت الملامح و الإجابات ، بات متحمساً بردوده و الحديث معي ، يشد من أزري و يشجعني أن البقية نزر يسير لا يذكر ، و فعلا لم أشعر إلا بسطام يقف أمامي و الطبيب بجانبه يقول :
⁃ هيا يا بكاي لم نعد نحتمل بقاؤك و لا أنت تحتاج لنا من بعد الله تعالى الآن .
لم أفهم حديثه ، فكانت نظراتي تسير يميناً و يساراً علني أفهم ، ليبتسم سطام و يقبل علي محتضناً هامساً :
⁃ مبارك يا رفيقي لقد عدت لي .
حتى وصلت الحروف لعقلي و تحللت ، كانت إجابتي ، عبرات تسيل و شهقات تعبر صدري و احتضان قوي أودع فيه كل وجعي و نهاية آلامي ، ما إن ابتعد عني حتى خررت ساجداً و في صدري موج من الحمد و الشكر و لسان يلهج داعياً و مآقي تنضح بعبراتها .

مفاز

توقفت و صوت جزاع يصلني بحروفه مخاطبآ جابر :
⁃ لقد أتم بكاي علاجه و هو الآن يتمم تعليمه ...
فقط كلمة تعليمه كانت الأخيرة التي وصلت لمسامعي ، فقد استدرت مبتعدة ، لا أريد سماع أي شيء عنه ، لقد مللت من أحاديثهم عنه ، فخالتي كلما أبصرتني قالت :
⁃ أهلا بكنتي .
أما عمي فلا يتوانى عن كلمة زوجة ابني ، و كأنهم يجبرونني على أنني مازلت منه و ليس لي الحق بأن لا أكون كذلك ، هم لم يدركوا بعد أنني احتراماً لهم أصمت ولا أجيب ، و أن الأمر انتهى بالنسبة لي بلا رجعة .

بكاي

تسير الأيام رتيبة مملة ، لكني أقتلها بالدراسة و التهام الكتب ، فقط أتمنى أن أتمم تعليمي الذي قطع بعد عامي الدراسي الجامعي الثاني ، و ها أنا ذا أكمل بسهولة ، و أعترف كان للواسطة الدور الكبير من بعد الله تعالى بقبولي دون أدنى سؤال ، فدائرة معارف العم سعود ممتدة بشكل صادم .

منذ أن بدأت دراستي و أنا أتجول بين ورش السيارات ، أحاول ربط دراستي بالعمل ، فمنذ أن اخترت هذا التخصص و القرار لم يكن محل رضى عند والدي ، ليكون زواجي بداية لانكشاف الحقيقة ، و الضياع و الانقطاع عن كل شيء سوى عالمي المنحدر ، لذا هذه المرة كان القرار ألا أتوقف فأنا أدرك لأي مدى يكون استمتاعي حين أعمل على إصلاح مركبة ما ، حتى جاء اليوم الذي عرض علي أحدهم أن أعمل تحت إدارته بفترات تناسبني ، منها تطبيق عملي و استغلال وقت قيم و كسب رزق ، حين ألقى علي كلماته ابتسمت قائلاً :
⁃ عرض مغري ، سأرد عليك خلال هذه الأيام .
و بالفعل استخرت و اطمأننت ، لأجيبه بالموافقة و العمل الفوري .

سطام كان يرافقني بين الحين و الحين ، أرى بملامحه سعادته بروحي الجديدة و شخصي الثابت و حتى كلماتي الواثقة ، يضحك حين يبصرني ملطخاً بالزيوت و أنا أجيبه بابتسامة هادئة .

رغم انغماسي بين لجج الكتب و العمل ، لم أنسى رحيقاً تتغذى به روحي ، بدأت بتناوله منذ أن وطأت قدماي مستشفى الأمل ، لربما لم يكن الأمر منظماً و لكن مع توالي الأيام كان الإلتزام تدريجياً ، حتى أصبح شيء من صميم روحي .
رحيق الروح بات يزرع الهدوء في نفسي و السكينة في فكري و الثبات في شخصي ، باتت بضعة أفعال ثابتة في جدولي اليومي ، و أعترف أن لها دوراً كبيراً لما صرت عليه اليوم .

مفاز

من بعد انفجار صدر مني باتجاه عائلتي ، لم يجرؤ أحد بعدها على الحديث عنه ولا حتى ذكر اسمه ، و لكن الأمر لم يتوقف بالنسبة لي ، فما إن أتوسد الليل حتى تترى علي صور الألم الذي عايشته طوال تلك الأعوام ، بداية باكتشاف إدمانه ، و حين حاول مهادنتي و بث هدوء مزيف في صدري ، ظاناً بأن الأمر سيمر علي بيسر و سهولة لكن الأمر ليس كما اعتقد ، فأظهر وجهه الآخر بصفعة كادت تصيبني بالصمم و جذب للشعر بشكل مذيب للروح من عمق الوجع لرمية نحو الحائط ، لم تكن الصور هي الأخيرة بل كانت البداية لعذاب لا ينتهي ، بل يتمدد و يتكرر و على حين غفلة مني يبتكر فناً من العذاب و لكن أكثر إمعاناً في الأثر اللامرئي ، نعم عذاب نفسي ، يثير فيني الوجل و القلق كل لحظة و ثانية ، فأمام أهلنا يلسعني بنظراته المهددة ، فأتعلثم و أحاول تغيير دفة الحديث .

هذا الضياع و التوتر لا ينتابني مرة ولا مرتان بل بلا نهاية ، فكل زيارة أصبح لها نهاية معروفة ، حتى و إن حاولت أن أظهر أفضل ما لدي فدائماً و أبداً أنا المخطئة .
بكاي

السنوات تتوالى و الوجد بصدري يشتعل ، لكنني أقسمت أن لا عودة حتى أفي بوعدي ، ذاك الوعد الذي قطعته على نفسي ، بكاي لن يعود بكاي ، بكاي سيعود لائقاً بمفاز ، بكاي سيصبح جديراً بحبيبته ، لن يبقى ببكاي العائد شيئاً يذكرها بالماضي ، كل شيء اختلف و تحول للأفضل .

أغذي عقلي و أتمم شفاء جسدي بتغذية قلبي و روحي ، للوهلة الأولى ستظن يا قارئي أن الأمر جاء هذه المرة سهلاً ميسراً ، أبداً لم يكن كذلك ، بل كان جهاداً مميتاً موجعاً ، يتنازعني فيه كل مرة قريني و ضميري .

أعود للمنزل منهك القوى ، صداع يفتك بي ، فأنا مستيقظ منذ الفجر ، ممزق بين الجامعة و الورشة ، لأجد بانتظاري علبة هدايا أنيقة جذابة ، تثير الناظر إليها باقتحامها ، فحجمها يجعلك تطير يميناً و يساراً بفكرك ، حتى إذا ما نزعت عنها غلافها ، تجمدت نظراتي و سقطت على ركبتاي :
⁃ تباً لا يريدون تركي أحيا بسلام .
همست بها مغموماً مما رأيت ، كميات مهولة لأنواع من المخدرات التي اعتدت عليها ، لأقف بعزم ، متجهاً للهاتف ، متصلاً بطبيبي الذي مازلت أتواصل معه ، لأخبره بما سقطت به للتو ، ربع ساعة ليصلني ضابط تكفل بالعلبة و بضعة أسئلة قدمت إجابتها و بالطبع جاء كصديق لسطام ، الذي فجع حين علم و أبصر الهدية الملغمة .

هدية اثنتان ثلاث ، و المصيبة أن الأمر لم يتوقف بل وصل للورشة و كأنهم يخبرونني ، نحن هنا ، ندرك كل شيء عنك .

تفاقم الأمر بهذة الطريقة المرعبة ، وترني فبت لأبسط شيء أغضب ، لأتفه سبب أنفجر ، حتى شعرت و كأن الظلام عاد ليتسرب لي و يبتلعني ، فأعلنتها صراحة لطبيبي :
⁃ أريد أن أقضي هذه العطلة لديكم .
قلتها بهدوء ، مطرق الراس ، مرتخي الأكتاف ، تعانقت كفاي ببعضهما البعض و قد أغمضت مقلتاي و لا شيء يلامس أسماعي سوى صوت أنفاسي المجهدة ، سطام يقف خلفي حائر الفكر ، يقبض بكفه الأيمن كتفي الأيسر ، بضغطات خفيفة يرسل بها رسائل أدركها جيداً و كم أنا محتاج لها .

في عزلتي التي امتدت لعشرة أيام و التي تمنيت أن تطول بلا نهاية ، رافقت الكتب فإلتهمتها التهاماً ، أطير مع أجوائها و شخصياتها ، فأدب الرحلات كان السمة الرئيسية للكتب ، فتارة تجدني أسير بين طرقات الكوفة و أخرى على جبال بلاد الشام لأنحدر جنوباً لبلاد اليمن ثم أعود شمالاً لقرون مضت أبصر جبروت كسرى و ناره ثم أطير لبلاد الروم و مصر القديمة ، لا أحط رحالي حتى أعود مشابهاً لابن بطوطة لكن بخيالي .

عشر أيام مضت ، و زيد عليها عام ، يتآكل فيها عقلي و قلبي ، أجاهد جهاداً مضاعفاً ، يكاد يميت الروح في صدري ، بكل لحظة أجد آثارهم و في كل زاوية أجد أحدهم ينظر لي ، بنظرة خبث و سخرية ، و رغم الموج المتلاطم ، صار المسجد الملاذ الذي يريح روحي من الوجل الذي يحدوني ، هم و لله الحمد لا يمتلكون القوة لتجاوز عتبته ، و هذا يجعلني ، أشحذ همتي و قوتي و أستعيد نفسي من بعد إجهادها .

مفاز

أجلس بجوار خالي الذي يخبرني أن أمري سيقضى به قريباً جداً ، فقط يأكد على عزمي و إصراري و هو يظن أنني ككل مرة سأتراجع ، تأثراً برجاءاتهم ، ( لا يا خال بكاي صفحة و انطوت بلا عودة ) قلتها و أنا أرفع رأسي و صوتي بنبرة جادة لا تردد فيها .

على طاولة الغداء ، كان الحوار قد أخذ منحنى مزعج ، حين قال جزاع :
⁃ بكاي سيعود فجر الخميس .
⁃ يصل بالسلامه .
ارتفعت أصواتهم بهذه الجملة سواي ، و قبل أن يقول شيء آخر قلت :
⁃ هناك أخبار أكثر أهمية من خبرك يا أخي ، كخروج زوج خالتي لمياء من المستشفى ، أليس كذلك يا جدتي ؟
⁃ صحيح .
كلمة أجابت بها جدتي على سؤالي ، لأقف بعدها قائلة :
⁃ الحمدلله .

حتى يوم عودته كانت كلماتهم تحاول اختراق عزلتي عن عالمهم الذي عاد لمحوره بكاي ، بكاي ، بكاي ، لكن لم تعد لمحاولاتهم أدنى فائدة ، فالبعد صار سمتي الغالبة و الوحدة عادت لمسامرتي برضى مني .

اليوم الكل يستعد لملاقاته بعد سنين تمددت ، أنا فقط أقف لوحدي على الجانب ، أمارس يومي دون تغيير و لا اهتمام لأحاديثهم .

بكاي

ما إن خرجت من بوابة المسافرين الداخلية حتى تمايلت نظراتي تبحث عنها ، علها تجود علي بمفاجأة تريح صدري ، لكن فقط أبصرت رجال عائلتي ، لأدرك أن هناك اجتماعاً كبيراً ينتظرني في بيتنا .

الجميع كان باستقبالي سواها ، كان اختفاؤها يوسم في روحي ناراً ، لم تنطفئ حتى سألت أخاها ، ليصدمني بجوانبه ، لكنه قال :
⁃ تعال معي الآن ، الكل لاه و هذه فرصتك لتقابلها بعيداً عن الجميع .
لم أتردد بل تبعته حتى منزلهم الذي لم يكن بعيداً عن منزلنا ، سوى بمنزلان ، لندخل سوياً و يتأكد من مكان وجودها و يترك لي دفة الأمر .

خطوه خطوتان لتتحول لهرولة أتجازو بها درجات السلم حتى وصلت لغرفتها ، التقطت أنفاسي و قبل أن أتقدم ، فتح الباب من أمامي لنتقابل وجهاً لوجه ، صرخة منها أرجعتني لواقعي و قبل أن تغلق الباب كانت نباهتي لأدس قدمي مانعاً له من الالتحام بالجدار ، و بدفعة خفيفة كنت وسط الغرفة ، هي تواجهني بصراخها طالبة مني الخروج ، كنت ألحظ عبرات حارت في مقلتاها و رجفة كفيها و ارتعاش جسدها بثوب صيفي منزلي ، يصل لمنتصف الساق ، واسع ذا لون سماوي و خف كحلي ، شعرها مشدود للخلف ، مبسمها شاحب ، جسدها فقد الكثير ، لا أعرف كيف أصف شعوري ، فقد كنت أشعر بشوق عامر يضج به جسدي ، أتمنى أن أضمها لي فتسكن في أحضاني ، لأنسيها كل نبضة وجع و عبرة قهر لكن أمنيتي هذه صعبة جداً ، فهي لن تسمح لي بالاقتراب و أنا أكثر من يدرك ذلك ، لذا لن أرغمها على ما أريد ، بل أريدها أن تقترب مني برضاها ، يكفيني أن أبصرها سالمة و بعافية ، لن أتعجل شيئاً يعود علي بوجع أكبر ، يكفيني أنني عدت لها و سأثبت أنني بكاي آخر ، لم تعرفه يوماً .

مفاز

كنت أجلس على فراشي و كأنني سمعت صوت أحد إخوتي ، فانتصبت واقفة لأخطو نحو الباب ، قاصدة من ينادي علي ، لكن ما إن مددت كفي اليمنى حتى شعرت برجفة ثم وجل قبض صدري لأبتلع ريقي و أهمس ( بسم الله ) و أشد المقبض للداخل فإذا بإجابة حاستي تأتي على هيئة بكاي ، لا أعرف بما صرخت ، لكنه الآن يقف أمامي ، ينظر لي بعمق و تأمل ، و كل شبر فيني يرتجف راحلاً بذاكرته للماضي البعيد ، بأوجاعه و خداعه و خذلانه ، لأصرخ به قائلة :
⁃ اخرج .
يدي الممدودة باتجاه الباب ، ترتعش و غيوم من العبرات تغبش الرؤية من أمامي ، و هو من كل هذا ، يتفحصني دون أن يتقدم باتجاهي أو يتكلم فقط يقف بصمت حتى جاد لسانه بـ:
⁃ اهدئي مفاز ، لن أؤذيك أبداً ، أنا فقط أردت رؤيتك .
ليخطو خطوة و هو يهمس :
⁃ اشتقت لك .
خطوته و همسه ، أثار رعباً و سكب وجلاً في صدري ، ليأتي صوت خالي خالد ، صارخاً به :
⁃ بكاي ، اخرج من غرفتها حالاً .
أسمع صوت خالي و مليار من الصور تترسب لذاكرتي تباعاً ، كلها ممزوجة بالشوق المغموس بالدم ، لم أحتمل ما تسترجعه ذاكرتي ، فكان غياب الوعي ، راحة و سكينة لي .


بكاي

الصوت الذي صرخ من خلفي و الجسد الذي تصدى لي مانعاً لبصري من رأيتها ، فتم له ما أراد ، فأنا لم أعي لنفسي إلا على بوابة المنزل ، حينها فقط ، غرست قدماي و استرددت وعيي التائه ، لأستجمع قوتي و ثباتي و أرفع ذراعاي دافعاً لمن أمامي ، رافعاً نبرة صوتي باتزان :
كفى .
علو الصوت و الكلمة كان دافعاً لتوقف من أمامي ، يلهث غضباً و مبسمه يكفي لأدرك لأي مدى هو مستعد لقتلي ، حينها أكملت و قد عرفت من يناطحني بقوة جسمانية لم أخبره عليها قبل سنين ، لكن الحياة لا تتوقف و الصغير يكبر ، و ها هو اليوم يدافع عن اخته كليث مفترس ، لن يهنأ حتى يرى الراحة في حدقتيها فخرج صوتي مستكيناً :
اهدأ يوسف ، لم آتى للنزاع ، فقط أردت رأيتها .
لم يجب بل ظل شامخاً بوقفته ليتحدث بعد نظرات عاثت في صبري فساداً بصوت ثابت و نبرة جادة :
انتهى أمرك ، لم يعد لك عليها سبيل ، ستطلقها و كأنك لم تعرفها قط ، لن تعود لك مادام في صدري نبض ، فلملم قدرك و احفظ كرامتك و أرسل ورقة طلاقها بهدوء ، حتى لا ترى الوجه الآخر للخال المحامي ، هو فقط ينتظر الإشارة منها ، إن رفضت تسريحها بإحسان .
بدى لي واثقاً بحروفه إلا أنني لم ألق له بالاً بل قلت :
سأعتبر نفسي لم أسمع شيئاً يا ابن العم ، لكن للمرة الأولى و الأخيرة ، أقول لك لا تتدخل فيما لا يعنيك .
أدرت ظهري له و أنا أتحرك خارجاً من الباب المفتوح على مصراعيه ، أخرج هاتفي و أناملي تتقافز على الأرقام ، قاصداً جزاع سائلاً عنها ، و بالطبع لم أبتعد إلا بثلاث أو أربع خطوات ، حتى جاء الصوت مطمئناً لي على حالها ، و وعد بلقاء قريب معها .

مفاز

رغم مرور الأعوام ، إلا أنني لم أستطع أن أنسى شيئاً من حياتي معه ، و رأيته اليوم ، أثارت الرعب في دواخلي ، و كأنني سألقى في زمن ماض ، لأعيش الوجع مرتين ، بكل وجله ، وهنه ، الدمار النفسي و التذبذب الروحي الذي لازمني ، أنا فقط أفقت من جحيمي منذ شهور ، فكل صرخة تلامس أذني أستشعرها موجهة لي و بصوته ، فأنا لم أعد مفاز تلك التي عرفت بمرحها و بشاشة مبسمها ، أنا أصبحت بسببه ، شبح لا يجرأ على الحركة دون جثة صاحبه ، مقيد بها ، بأمراضها ، أوجاعها و وهنها حتى النخاع ، و اليوم بعد أن أعدت ترميم نفسي و النهوض من جديد ، يريدون أن يعيدوا زمناً كان الأنكأ في حياتي ، لا و الله لن يكون لهم ذلك ، و لدي من يقف بجانبي و يعيد لي حقي المسلوب ، عمر تناثر كالرماد ، لن أتركه يتلاشى دون ثمن ، و الثمن هذه المرة حياة جديدة ليس لبكاي فيها ذرة حق .

جزاع

جميع المحاولات باءت بالفشل ، هي لم تسمح لنفسها حتى برؤيته و لا حتى بسماع كلماته ، و بالطبع لم تسمح لأي منا بالحديث معها حوله ، فكانت تترك المكان ما إن ينطق أحدنا اسمه ، و كان يوسف عضيدها الذي لا يسمح لأحد بأن يجبرها على الاستماع لحديث عن بكاي ، أبي صامت بعد أن سألها سؤالاً واحداً ، كانت إجابته ( لم يتغير رأيي أبي ، أريد الطلاق ) و أمي تترجاها لتستمع لبكاي حتى لو على الهاتف و أخرى تحثنا على الحديث معها و لا فائدة ترجى من مفاز ، هي أصمت أسماعها عن كل شيء يتعلق بأمرها مع بكاي سوى موضوع الانفصال ، حتى كان ذلك اليوم الذي قدم له خالي للمحكمة طلب خلع ، فبكاي رافض للطلاق و ما كان الحل سوى حق أثبته الشرع لأختي ، لكن الصدمة التي ألقاها بكاي على مفاز ، كانت أكبر من استيعابها ، فما كان منها حينها إلا صدمتني بمكالمة تحدثني عبرها بصراخ هستيري و كلمات مغيبه بصعوبة فهمت معناها حين جمعت حروفها :
م.. ما… ما…قت…قت… تل…تل…
ما يصلني حرف و حرفان ، ما بينهما نشيج كخنجر بالصدر ، ثم ضحكات هستيرية ، الوضوح التام لصوتها جاء و أنا أقف على أعتاب بيت خالتي ، لأقتحم الفناء ، عالماً لمسلكي و على الجانب الأيمن ، كان الباب الذي يوصلني لمسكنهم الذي جهز لهم بطلب من بكاي قبل عودته و كأنه يثق تماماً بعودة الحياة بمجاريها ، لا أدري ماذا حدث ، الدماء التي تلوث يد أختي أو بكاي الذي سقط مضرجاً بدماءه التي سالت بغزارة على الرخام ، مكالمة لأخوتي و أبناء خالتي ، ليذهبوا بأخيهم للمستشفى و نحن نخفي آثار جريمة اتفقنا ضمنياً على الصمت عنها .


يوسف

لم يهنأ لي جلوس بين صحبي ، فقد ارتفع رنين هاتفي ، لألتفت لليسار مخفضاً رأسي باتجاه هاتفي القابع على طاولة الضيافة الصغيرة ، اقتربت بجذعي العلوي للأمام متأملاً الإسم لأمد كفي اليمنى مجيباً الاتصال الذي جاء بصوت جزاع الغريب آمراً إياي :
يوسف عد للمنزل و لازم مفاز .
و قبل أن يسمح لي بحرف أكمل بنبرة صارمة :
الآن و لا تجادل .
وقفت و ملامحي تجمدت ، مشتتاً نظراتي بين رفاقي لأقول لهم و أنا أتوجه شطر الباب :
عذراً يا رفاق ، أنا مطلوب للعائلة .
هذه الجملة اعتدنا قولها حتى لا نتجادل فيما بيننا عندما يخرج أحدنا مبكراً على غير العاده .

لم يكن المنزل بعيداً ، فأنا لم أتجاوز الحي ، لأصل بسرعة قياسية بدايتها مشي و أوسطها هرولة و نهايتها جري ، و لم أتوقف عن ذلك عندما لم أبصر أحدنا في مواجهتي عند وصولي للمنزل ، بل خففت قليلاً من سرعتي ، حتى وقفت على باب غرفة مفاز و جنون أفكار يشطح بها فكري ، حتى أنني بعد ثلاث طرقات فتحت الباب ، دون انتظار للسماح .

أبصرتها تجلس على الطرف الأيمن لسريرها ، و كفيها ممددتان أمامها و شفتاها تتمتمان بما لم يصل لمسمعي ، تحركت باتجاهها و أنا أغلق الباب من خلفي بطرف قدمي ، فشكلها الغريب أثار استغرابي حتى جلست بجوارها ، لكن لا حياة لمن تنادي ، شعرت بها بعالم آخر و بالكاد وصلني صوتها الذي لم أفهم منه شيء ، مجرد حروف مقطعة ، فهززت كتفها الأيمن عدة مرات منادياً ب:
مفاز .. مفاز .. مفاز .. مفاز ..
لتلتفت إلي فجأه و قد توسعت حدقتاها و طاشت حروفها في صدري حين أجابت :
لقد قتلت بكاي ، مات بكاي بيدي ، و الجميع رأى دماءه .
تسمرت نظراتي عليها و هي تعود لسابق هيئتها و تمتمتها ، أنا فقط شعرت بشلل كامل ، فلم أستطع أن أقول شيئاً ، فقط نظرات و نظرات ، و دوي في عقلي ( أختك قاتلة ، أختك قتلت زوجها ) .




جزاع

في ذلك الممر كنت أنا و إخوتي و أبناء عمي ، ننتظر الطبيب ليخرج علينا و يبث الراحة من بعد قلق عبث بصدورنا ، و كان لنا الأمر بعد زمن قصير ، إذ خرج مبتسماّ قائلاً لنا :
لا داعي لملامح الرعب هذه ، الجرح بسيط جداً و لله الحمد ، أعلم أن الدم كانت مخيفاً لكن الحقيقة أن جرح كان لشريان فكانت النتيجة التي رأيتموها لا أكثر ، لا خوف عليه ، يستطيع الخروج اليوم ، طهور لا بأس عليه ، تمنياتي له بالشفاء العاجل .
ليتركنا بعدها نلتقط أنفاسنا و يعود السكون لنا ، حينها تكلم ابن عمي الأكبر بأن يتم الأمر بيننا مادام الوضع ليس بالخطير و سيعود بكاي معنا ، ليس لأحد أن يفتح الموضوع أو يتكلم به ، حتى يأتي الله بأمره ، و هذا ما حدث بالفعل .

ما كان للأمر أن يمر مرور الكرام علي و على أخوتي و قد استوعبنا للتو عظم أثر الأمر على شقيقتنا ، فكان القرار أن نحيط بها و نسعى لإنهاء انفصالها بهدوء ، فلا طاقة لنا بمصيبة تسعى لنا بصمتنا .

جلست مع مفاز أحاورها و أوضح لها أن الأمر انتهى و أن عليها أن تسقط قضية الخلع ، أذكر جيداً حينها ، كيف رفعت لي نظراتها التي شعرت بجمودها ، ليندفع لساني بقوله :
أقسم بالله و تالله لن تعودي له .
حينها فقط أجابتني قائلة بصوتها الخافت :
حسناً أنا أصدقك ، و لكن أريد أن أعاود مراجعة طبيبتي دون علم أحد سواك و يوسف .
هززت رأسي موافقاً لطلبها الذي أسررناه بيننا ، ليتصدر يوسف لبث الأمر إليها .

الهدوء من جانب بكاي الذي اقتنع حينها أن لا حياة له بجوار مفاز ، إن كانت الأولى مجرد تجربة فاشلة فلربما تثبت الثانية و هو لن يتمرد على أمر رآه في حدقتيها الموت له إن اقترب و الموت لها إن سمحت له بذلك ، هذا ما أخبرني به حين سألته أمره .

بعد أيام و صلنا من المحكمة إشعار الطلاق ، و قد تلقفت أمي إياه ، لتنهار بكاءاً و يواسيها أبي ببضع كلمات ، أما مفاز فقد خرت ساجدة و تمتمات الحمدلله تتعالى حتى لامست مسامعي .
بكاي

( التوبة لك و ليست لي ) جملة رددتها مفاز مراراً و تكراراً في ذاك اللقاء الذي ظننت به خيراً ، كنت أحاول إقناعها أنني لست بكاي السابق و أنني شخص لن يضرها أبداً ، و أنني و أنني لكن لا حياة لمن تنادي ، كنت خلال لقائنا ألاحظ الرعشة التي تعتري كفيها و هي تداريها عني ، نظراتها التي كانت لا تواجه نظراتي و المكان الذي اختارته بعيداً عني ، لكن رغماً عنها اقتربت و ليتني لم أقترب ، كان جمر الموت في عينيها قاتل ، لم أعبأ بصرختها حتى لاح نصل سكين الزينة ، و لأنني أدرك جبنها لم أتراجع ليكون الماضي ضباباً يتلاشى بلا أثر ، فأنا زرعت فيها وحشاً لن يستسلم حتى يتحرر من مالكه و إن كان الثمن نهر دمائه .




تمت

٢٠١٧/٧/٢١ م




وردة شقى غير متواجد حالياً  
التوقيع

العذوب سليمان
" عندما أتقنا الصمت حملونا وزر النوايا "
رد مع اقتباس