تسير حاملة طفلها لا تتركه بين يدي أحد .. تعثرت قدميها في الشارع الذي انتفض أهله يهنئونها ولكنها لا تنصت فقط دمعات تسيل ورعب يملأ القلب عندما علمت المصير المظلم الذي كانت ينتظر صغيرها .. لا تتخيل ما كان سيحدث معه .. يسندها فهمي الذي التوت معدته إشمئزازاً عدة مرات مما سمعه فقط ..
مال عليها يرجوها حمل مازن عنها:" شروق دعيني أحمل مازن ".
حتى الصغير مد ذراعيه إستعداداً للإنتقال .. لكنها خالفت جميع توقعاته نظرت له بطريقة أوجعته عندما حملتها كل اللوم وكأنها تصرخ فيه .. كان سيضيع بسببك ..
أفسح لها المجال لتدلف للمنزل صعدت الدرج بينما فتحي يهرول خلفها :" دعينا نحمله عنك شروق ".
لينظر له أخيه بلوم ثم أمسك ذراعه :" لن تتركه لأحد التجربة كانت مرعبة ".
ربت أخيه على كتفه دافعاً إياه لأعلى :" هيا أخي لأعلى لم أفتح المعرض اليوم أصلاً".
صعدا متتابعين ..حرص فهمي على أن يكون آخر الصاعدين يشعر بالتخاذل يملأ قلبه .. نعم كان لابد أن يراقب الصغير أكثر من ذلك ..
بعد ربع ساعة من الشرح علمت العائلة ما حدث بإختصار القول .. ما زال يذكرها وهي تنكب على كفي الضابط حتى تقبلهما عندما أمرت النيابة بانصرافهم من مديرية الأمن .. تصرفها أوجعه جداً .. نزلت من كبرياءها فجأة .. كسرتها وسمت قلبه بشيء بغيض وسعيد بذات الوقت .. كانت لوحة إنسانية غريبة جداً..
وقفت تقول :" أريد أن أحمم مازن ".
عاندها هو فجأة :" سوف أحممه أنا .. أنت أيضاً تحتاجين لحمام دافئ".
غمغمت وهي تحمل طفلها :" لا .. أنا سأفعل".
مد يده بقوة ليخطف من يدها الصغير المستعد لينتقل إليه بيديه الممتدة تجاهه .. كانت تتمسك بابنها بطريقة شديدة تخاف فقده حتى هنا في المنزل صدح صوتها :" لا أنا سأفعل".
تجاهلها كلياً متوجهاً لمازن بحديثه :"ما رأيك نذهب معاً يا بطل كما ذهبنا اليوم عند الطبيب ليفحصك" .. كان يذكره بفحص الطب الشرعي للصغير والذي أصر فهمي على حضوره للتأكد من خلو الصغير من أي إصابة بدنية أو أي إعتداء جنسي عليه .. أجابه الصغير :" نعم أريد ".
بينما شروق تقول له:" لا .. لن يبتعد ".
تحركت الحاجة أم فهمي من خلفية المكان :" شروق يا ابنتي ما تفعلينه يجعل مازن يخاف ".
لم يصدق فهمي ما يحدث لها فصمتها لم يكن سوى معاناة .. انهارت بسرعة ليجد الجميع دموعها غزيرة تطفر من مأقيها وهذا الارتجاف يغزو أطرافها ..صوتها المتهدج بقصور شديد :" كانوا سيقطعونه.. كانت أحشاؤه ستسافر للخارج ".
دفع فهمي الطفل لأخيه يحمله ويغادر به للحمام بينما أسما تقترب من شروق فتمنع اقترابها بكفها كلما مدت أصابعها لتربت عليها تدفعها بعيداً.. أو تتراجع للخلف حتى ظلت تصرخ وتصرخ ثم سقطت أرضاً تصدح بهذيان :" لعن الله المال وراغبيه .. الجد باع حفيده والأخ يريد الخلاص من أخيه من أجل المال .. فقط المال هو ما يهم الجميع ".
اقترب وجه فهمي منها بعد أن جلس القرفصاء أمامها يهتف فيها بجدية :" اصرخي شروق أكثر وأكثر ".
نظرت أمه إليه ثم نظرت لأسما الواجمة تماماً.. بينما شروق تحدق بعينيه بشراسة .. صدح صوته من جديد :" اصرخي في لأنه ضاع مني .. أنا أيضاً مخطئ بحقه ".
دفعته بكفيها للخلف كاد يسقط من قوة دفعتها لولا تماسكه هدرت فيه بحدة :" نعم أنت أضعته منا ".
غمغم بصوت حزيناً:" لكنه عاد .. الله أعاده فلا تقتليه رعباً لأن تأثير هذا اليوم لن يختفي بل سيبدأ".
نظرت إليه بوعي لحديثه ولكن بدون فهم ..
تحدثت أمه من خلفه :" أنت ترعبنا نحن فما بالك بها ".
كان ينظر لشروق ويتحدث :" طفل بريء لم يرى غيرنا من الحياة وفجأة يتعرض لخطف ويسمع صرخات ويشاهد دماء .. يريد أم قوية حتى يخرج من محنته ".
تسمرت حدقتيها لما يطل من عينيه من تذكرها لوجه مازن المدفون في صدرها حتى لا يرى الدماء التي تغرق الأكياس وبعض الأغطية ..كان يكمل :" يريدك معه قوية لتعلمي كيف سيمر القادم ".
وقف ليمد لها كفه معقباً أمراً :" دورك الحقيقي قادم شروق تعالِِ نالِِ حمامك واغسلي كل القديم من المعاناة .. اشكري الله أن أعاده لنا .. الله أنعم علينا بعودته سالماً".
كلماته جعلتها تفيق لتوها على مدى عناية قدرها بها.. لو كان ضاع ما كانت ستعيش لحظة .. مدت كفها لراحته بعد تردد فجذبها لتقف ثابتة على قدميها.. دفع بها تجاه أسما بواسطة راحته الأخرى التي وضعت خلف ظهرها .. سحبتها أسما بهدوء لتسير بها تجاه الحمام الآخر .. بينما عيني شروق تتوسل فهمي البقاء هي خائفة وجوده يمنحها هدوء وسكينة رغم كل شيء ..
هذا اليوم كان أصعب ما صادفه إنسان .. يدرك أن الليل سيكون أصعب ..
التعديل الأخير تم بواسطة الأسيرة بأفكارها ; 03-02-19 الساعة 12:57 PM |