عرض مشاركة واحدة
قديم 05-04-19, 02:12 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



مدخل الفصـل الخامس عشــر


هذا الـوطن برواحنا يعلى فوق
هذا الوطن دمو يجري بالعروق
هذا الوطن يعشق علي والفاروق
هذا الوطن يعشق عثمان والفاروق
×عبدالباسط ساروت×
.

.
.
صحوتُ على صوت "يوحـنا" : الحمدلله على السـلامة يــا ..،
ما كلت لي أسمك؟

أجبته وأنا أتناول من يده صينية إفطار : آلن .. أسمي آلن.

حيّاني بقوله : أهلاً وسهلاً..
من شو منهزم!

أجبته وأنا أترقب ملامحه، أعلم أنه لن يتخابر عليّ مع الاميركان .. هذا وحده ما يُريحني : من الاحتلال!

أومـأ برأسه بخفوت، ثمّ بدأنا نُصلي ..

وما انتهينا من إفطارنا حتى سألني : تعرُف صادق ومَهـتاب؟

فزعتُ من نوميّ أو من هُذياني باحثاً عن قسّاً أو عن إفطاراً فلم أجد ..
شتت نظري إلى الغُرفة فرأيت إناءٍ مُلئ بالماء ويُخالطه بعض الدمّ وبجانبه أقمشة بيضاء استخدمت كماداتّ!
لقد كُنت محموماً البارحـة، بل وتفتقت جروحي مرةً أُخرى،
هذا ما جعلني أهذي بصادق و مهتاب،
هذا ليس هُذيانـاً ولا حلماً، فقد تكون رسالة من الربّ حتى أطمأن عليهما.
اليُوم الثالث منذ آخر مرة تلاقينا بها.. اليُوم يومنا المُنتظر للقاءٍ آخر!
أعلم أنهما ينتظرانني على أحر من الجمّر، ويعدا الدقائق لقدومي الذي تعهدت به، أعلمُ أن صادق ينتظر منذُ أن بزغت شمس اليُوم التي بدأت ساعتها تطرقُ التاسـعة..
وقفتُ!
ثم انحنيت قليلاً بسبب صلبي لظهري بشكل سريعاً مما جعل جراحي تشتدُ.
بقيتُ هكذا مُنحنياً ما يُقارب الدقيقة، رافعاً رأسي رويداً رويدا،
وكأنني أتغافل الجروح حتى لا تصُرخ بي مرةً أُخـرى !

في هذه الأثـناء .. دخل "يوحنـا" ودخل معهُ الخـوف مرةً ثانية، ربمُا كان هذياني منذُ قليل سيتحول إلى حقيقة !
وهل كان تنبؤ بالمستقبل القريب جداً ؟

تقدم لي قليـلاً: الحمدلله على السـلامة يا ...
ما كلت لي أسمك؟

والله هو الحوار نفسهُ!
لقد كُشفتَ يا آلن على يد قسيسك،
لقد "كبيت عشاءك" أمساً في إناؤه وسط هذيانك!

نظرت إليه ورأيته يرتقب الإجابة.. أجبته بريقاً ناشفاً: آلـن .. أسمي آلن!

نفسه الحوارُ يدور ولكن دون مائدة إفـطار!
هذا هو الشيء الوحيد الذي بدأت أرى الأمل من خلاله،
نعم!
حلمي لن يتجسد واقعاً أبداً.

تحدثَ مرة أُخرى وهو لم يرى ارتباكي ولون وجهي المخطوف وعيني الملقية نظرها أرضاً إلا وجـعاً ضمن سلسلة الأوجاع التي أتيته بها: تعال وياي نصـلي!
وبعدها نفطر

سأصليّ معك .. ورب الصـلاة سأصليّ، ولكن أعفني من إفطاراً يُعيد لي كابوساً للتو أرتحل!
***
أحس روحي غريبة بلايا ديرة!""
هكذا نطقتُ بعدما سألني ابن أخي عن صمتي المُطبق منذُ ليلة البارحة..
نعمّ .. أصبحت بلا "ديرة" وكأنني لا أستوطن أحد مناطق بلادي!
ولكنه لا يعلم أنني بقيتُ بلا "قلب" بعد ليلة البارحة،
تجددت جروحي وعادت بي الذكرى بسبب أثنين جنا معاً على تلك الروح وجددا أوجاعها ..
ليتها تعلم معنى اتصال من زوجها يُنير هاتفي!
ليتها تعلم معنى ربكتي عندما سألني صادق لما لم أقطع رنين هاتفي بالرد عليه!
ليتها تعلم معنـى أن تتعلق روحك بأملٍ بصيص ثم تأتي لموعد أملك .. فتجد الرد منّ مَن شاركت ذلك الرجل، لا هو!
ليتها تعلم أنني سلبت منها روحها وهي لا تعلم .. ليتـها تعلم!

فقد سرقت منها واحداً ثم ألحقته بالآخر .. سألت صادق عنهُ : صادق،
ما تعرفُ خبر عن آلن؟

تحدث ابن روحي والهم بادياً على وجهه: ما أعرف ..
كالي إذا جاء اليُوم الثالث وأنا ما أجيت، وقتها يا مُعتقل يا شهيد.

هذا ما جعلني أشهقُ الموت .. وتُعاد لي صورة استشهاد أبني علي مع أخي كـاظم،
فمنظر الدمّ المُراق التي تتخطاه قدامي ذاهبة إلى فلذةُ كبدها بعدما تشبثت دماءه بحذائي وتُغرق قدميّ..
رفعتُ رأسه عن الأرضِ مُحيية في روحي أملاً صغيراً عندما أضعُ رأسي على صدره فأسمع صوت نبض قلبي القـوي وأظنُ أن هذا النبضُ خارجاً من ذلك الصدر الصغير!
رفعتُ يده ولم أستطع أطلاقها خوفاً من سقوطها أرضاً وأعلم حينها أن النبضُ .. نبض قلبي الملتاع لا قلبه!
نظرتُ إلى عيناه التي مُغلقة نُصف إغلاقٍ .. فعوّلتُ الأمر إلى أن عيونه كباراً ونُجلّ، هكذا في منامه تبقى شبة مفتوحة لا عيون شهيد!

كنتُ كأسيرة رأت والدها بعد طول غياب، فلما أطلق سراحها الجيشُ تقدم شوق والدها إلى منطقة محظورة فقُتل قبل أن يستقبلها وقبل أن تودعه!

كنتُ كامرأة منعوها من لطم الخدود وسكب الدموع، وليتهم منعوا الحياة من لطم روحهـا التي باتت لا تشعر إلا بالغياب.. وتأتي إلى مآتم لا تنتمي إليها حتى تُجدد البُكاء الذي أصبح لها عادة وتشارك به البواكي!
كُنت زينب التي مُنع منها البُكاء في جادر أخوها وأبنها .. كُنت زينب التي أخرجوها من بيتها في عزاءِ زوجة أخيها الذي جدد في قلبها ذكرى جادر أخيها وأبنها.. أخرجوها حتى تحتضن أبـن أخـيها الذي أصبح بلا أب!
ليتهم يشعرون بي كما شعروا به،
ألم يعلموا أنني أمٌ بلا ولد!
ليت سنين عُمـري تعود وأعُوض كل حديثاً سبقته بـ ليت!
***
خرجتُ بعد ما مللتُ صمت عمتي، وسط غياب آلن المُريبّ،
مـهلاً يا صادق .. للتو ابتدأ صباح يومك الموعود!
فقد تبقى لك من الانتظار ظُهراً وعصراً ومغربٍ وعشاء .. بل حتى صلاة الفجر من اليُوم التالي تُعتبر مُكملة لليوم الثالث!
ربّ لا أسالكُ رد القـضاء ولكن أسالك اللطفَ فيه..
أدرت رأسي إلى الوراء سامعاً ضحكات صاخبة تخرجُ من البيت لم تكنّ إلا ضحكات مَهتاب التي لم أراها اليُوم!
عُدت والفضول يقودني إلى معرفة سرّ ضحكتها الرنانة التي لا تنقطع إلا بسبب شهقةً أُخرى تستنجد بها قصيباتها إلى الهواء .. ثم تعوُد ثانية إلى ضحكاً أعمق وأطول من سابقه!

دلفتُ البـاب بعدما نبهتها لدخـولي فإذا بها تستبق لدى الباب وضحكتها للتـو ابتدأت من جديد : صادق دخيل ربك، باوع يلبق لي!

فلم أرى ما تُشير إليه.. إلا لباساً فضفاضاً يُســمى "دراعة" لونها زيتيّ ويـعلوها حجاباً أبيض!
ما المُضحكُ في الأمر، لا أرى سبباً لضحكها وابتسامات عمّتي التي تتخللها ضحكات قصيرة، يبدو أن هذه الفتاة لم تعتادُ على لباسٍ كهذا فأنا لم أراها إلا بجلبابها الذي تُخفي خلفه بنطالاً !

انتشلتني من تأملاتي: جني دولمة!

صخبت ضاحكاً مشاركـها بسبب تشبيها الأعمى الذي قرنت به لون لباسها بلون أوراق الشجر ..
ما هذه الفـتاة العجيبة، التي تغرقُ عينيها بسيل الدموع، بسبب أمراً تافه كهذا ،
أ تراها تضحكُ حتى تدمع بسبب تشبيهً لم يكن في محله!
وماذا لو قالت إنها شبيهة الدولمة!
هل تراه أمراً مُضحكاً لهذا الحد، ولما ضحكتُ خلاف حديثها ؟
لقد جُننت كما جُنت هي!
***
آن لي الرحيـل،
فأعلم إن هناك من يحسب الدقائقَ بانتظاري!
يريدون منني خبراً عن آلن، الذي توقعوا أن قدومي إلى ديـالى لن يحين له العـودة إلا بـآلن،
ذلك الغائب الذي لم يجد أبي له أثراً، كما بحثتُ أنا أيضاً !
فبحثـنا لن يكون إلا بحثُ أعينٌ عن إبرة في وسط قش، أخافُ أن اسأل عنه وأفتح عليه العيُون ويعتقل بسببي، ربمـا وجد له مختبئ ولا أريدُ أن أنبشُ وراءه وأكشف مكاناً جاهد على أن يلقاه وسط جروحه وزوبعة تسكن عقله لا تفتأ بالرحيـل أبداً .. فتلك الزوبعة الجنونية لم تكن شبيهة إلا بدموعِ رجلٍ فقد أغلى أبناءه فكلما سلى ونده لأبناً آخـر خانته الأحـرف تُسطر على شفاهه أحـرف الأول .. فتذرف الدموع وينتهي الطلب .. فلا حاجة له بابن سماه باسم أخيه!
هذا حالُ آلن .. عندما يسلى قليلاً مُخففاً عن روحه وجعاً وهماً وما أن تّذكر أحداث السقـوط فينقلب ويتعهد بأخذ الثأر لروحه بشكل غير مبـاشر!
فكلما سلى عن أهله تذكر رئيسه سبب رحيلهم، وكلما سلى عن رئيسه تذكر السقوط الذي أودى به للهاوية!
لعلُّ مخبأه يُسليّ روحه قلـيلاً عن هذه الأمور ويعود خالي الذهـن.. سليم البصر والبصيرة!
قدمت أمي بالغداء لاحقةً بها ملاذ التي ما زالت تُحلل أحداث الكارثة التي وقعت على رأس صُحبتي!

لا تفتأ عن أسئلةً تُمزق روحي وتنثرها أشلاءٍ أمامها : أكول حمود،
لهسه ما عرفت مكان آلن!
بلكي متخبي له بمكان قريب.. دورت عنه بالمزارع ياللي بالخان أو ديالى أكيد يكون هناك.

أجبت تساؤلها: مـلاذ عفية كافي!
والله لعبت نفسي وداخ رأسي وأني أدور عليه، ثلاث أيام وأني ألف ديالى كلها ما لكيت له أي أثر،
تريدي أسال الناس علمود تعتقلوه؟

تحدثت هي البلسمُ والأخت الندية: يووه حمود اشبيييك؟
لا تضوج!
ما تكول انه سَبع، خلاص السبع يدبّر حاله، تعال تغدى.

نزلتُ من الكنبة أرضاً حيثُ سفرةً قصيرة يتقابل عليها أمٌ وبنيها، وسط غياب زوجها في محله الذي بات محل استخبارات يبحث به عن آلن من الزبائن الذي "يموُن" عليهم، ومن إرسال العامل في البحث عن من رافقه إلى خان بني سعد منذُ ثلاثـة أيام.

تحدثت أمـي: دتروح اليوم أربيل؟

أومأت برأسي بمعنى نعم.. وسط تساؤل ملاذ: وين هم ساكنين؟

أجبتها بتلقائية: شـقلاوة!

عادت الحديث برجاءٍ : دخيل ربك دروح وياك، دنشوف حجيه زينبّ،
دخلت قلبي من أول ما شفتها ، وهميـن دشوف مَهتاب!

قاطعتها أمي ناهيتها مُريحتني من غضب تلك الصُغرى التي لا أجرؤ على غضبها : لا ماما ، شيوديج هناك.. بعدين أربيل بعيد، محمد وهو زلمة مالي مكانه أخاف أني عليه من الفوتة والطلعة من هنانا تريدي أعوفج أنتي .. لا ماما ما أكدر دخيلج!
***
ضحكَ صادق على "الدولمة" التي وصفت بها نفسها، اعلم إن عقله لا يتجاوز اللون الزيتيّ .. تمنيتُ لو إنه رأى الدولمة من جهة أخرى..
ماذا لو رآها بقدهـا الميّاس الملفوف بالدراعة!
ماذا لو رآها أجمل الجميلات بعينه؟
والله لن أتوانى في أن أخطبهما لبعضهما من نفسي
أتسنى عودة آلن فقـط .. حتى أفاتحه بهذا الموضُوع ليقنع صادق!
أعلمّ أن ابن أخـي لن يقنع أبـداً .. إلا عندمـا يحدثاه آلن أو محمد،
ولكنني أستحي من محمد كيف لي أن أفاتحه بموضوعٍ هكذا يجلبُ للمرأة خجلها حتى لو كانت تطرق بابَ الخمسـين .. لا خيار ليّ إلا آلن!
بحثتُ عن مَهتاب التي تكرمت اليُوم بغسل أواني الغداء، فهي أجادت دور بنتُ الأهواز عندما طلبت مني عُصبةً سوداء تربطها على مقدمة رأسها ولكنها لم يزيّنه بشـعرها، فوجود صادق يلزمها بالحجاب يحدّ من دورها الذي تضحكُ هستيرياً بكل خطوة تخطيها.
دخلتُ المطبخ فلم أجدها !
وخرجتُ من باب آخر يخُرج للدور العلوي، فأرى أمامي خمسة غرف،
غرفتي تتوسط غرفتيّ صادق ومَهتاب، بينما اثنتين منزويات قليلاً واحدة وجدتُ بها أشياءً تعود لآلـن والأخرى فارغة!
ذهبتُ إلى غرفةً شعّ النور من خلالها يُخبرني بوجود صاحبتها، دخلتُ فوجدتها تخيطُ جوانب دراعتها الزيتية "الوحيدة": ولج مسودنة اش دتعملي؟

أجابت بعدما رفعت رأسها بابتسامٍ قليل: ما أعرف أمشي بيها هيج كاملة،
كطعت جوانبـها هيج مـثل الجلباب،
عشان أقدر أتحرك كثير بالبيت بدون جلباب يخنكني! "يخنقني".
تعرفيّ زينب لوما ولد اخوج حبّاب جان طردته عشان آخذ راحتي، بس فدوة لقلبه حبّاب وخفيف نفس وظل هميّن . . .

هذا ما زاد اصراري لما عزمتُ عليه، فيبدو أن مَهتاب لا تستسيغ أحدٍ بهذه السهولة، ولا تُبدي كامل إعجابها بشخصٍ ما ، فقط تكتفي بقول "حبّاب".
أعلم أن مُفردة حباب في قاموس هذه الفتاة تعنيّ دواويـن ومعلقات الشُعراء التي كُتبت لمي زيّادة!
***
صليتُ معه صلواتٍ عدة!
بُت لا أُحصيها، صلاة شكر، صـلاة نجاة، صلاة خَلاصٍ، صـلاة حمد.. ثم تتابع الصلوات خلفها ..
أشكُر الربّ أن طقوس عبادتي تتجسد في مثولي أمام نجماتٍ بصليبي،
وإلا صُلب ظهري وتورمت قدمّاي كما يفعل عبداً "مسلماً" عندما ينوي صلاة التراويح للمرة الأولـى، فيقف خلف أمام يقرأ طوال السُور في ركعة واحدة!

وضعتُ يده على كتفي: موعد الزوّار، أدخل.
هذه الكلمات التي تلت صلاته .. فقط!
لا أريدُ النّوم حتى لا تزورني أحلام اليقظة والحُمـى، فالهذيـان بسرٍ لم يعد سر وحده مرض!

دنُوت منه: أبونا،
أني أريد تأمن لي روحة لـشقلاوة!

نظر إلي: وليّش شقلاوة؟

عليّ مجاراته حتى أحصلُ على مُرادي: أهلي هناك بشقلاوة، أبُوي يشتغل بأربيل!

صدق ذاك الحليمُ كذبتي، وأنا أستغفر الربّ .. فهذا القسّ لا يجوُز الكذب عليه في أي حالاً من الأحـوال، فهو من التابعين لتلاميـذِ يسوع!

تحدث مُخبراً: أسمع يـا آلن .. أني جاني خبر أن القوات تطارد ولد مفجّر بجُند،
وعرفت منهم أنه باقي بـديالى، وجروحكَ شككتني بيك!
إذا انته نفس الولد خبّرني وراح أساعدك .. والعذراء بساعدك.

زادت مخاوفي من هذا القسّ الذي بدأ "يحشر" نفسه بأمرٍ لا يعنيه!
يبدوُ أنه حزيناً على أولئك الجُند الذين بقيت صُلبانهم الحديد لم تحترق،
يبدو أنه بائساً من قتل مسيحي العراق لمسيحيّ الاحتلال.

أومأتُ برأسي بمعنى لا : أني مالي بالأمور هاي!
أني شـارم حالي من بنايـة شارد من أهليتي، عمـيّ انته ما قصرت وفضلك ما راح أنسـاه .. تريد توصلني شقلاوة لو أدبر روحي؟ "شارم= أوقعت".

تحدث القسّ وكأن تأنيب الضمير غزا روحه، عندما ظن بي السوء "كما يرى"، وربما حزنه على وضعي الذي جعلني أُسقط نفسي من فوق بناية سبب ذلك : خـلاص ولا يهمك ، انته تريّح عندي الليلةّ علمود جروحك ما تعورك مرةً لُخ!

لقد كسبتُ وداده ثانيةً، عليّ الصبر إلى غدٍ حتى أضفر بمأمنٍ يوصلني إلى شقلاوة بسـلام..
***
السادسة مساءً .. قدم مُحمد إلى شـقلاوة مما جعلني أهرع إليه مستقبلته قبل صـادق: هلاو محمد، شلونك؟

أجابني وهو يُنزل نظارةً يُخفي خلفها عينانٍ بلون الليلِ الذي بدأ يُخيم في الأجواء: هلاو بيج!
شاكو ماكو؟

أجبته وأنا أسيرُ بنفس خُطاه إلى الداخل : على حطة ايدك.

تقدم صادق منذُ أن راءه : ماكو أخبار عن آلن؟

توقف الآخر .. ناظراً لي ولصادق: أني اللي مفروض أسألكم،
مو كلتوا اليـوم يجـي!

تحدث صادق: بلا، بس شمدرينا وينه؟

مُحمد والخوف يتسلل إلى قلبه: لعد وين راح؟

ثم دخلا إلى المجلس مُكملين حديثهم .. تركاني خلفهما حتى أعود أدراجي إلى المطبخ أُقدم له واجبة الضيافة والصبر والأمل بدا يتشبثا بشيء قليلاً في روحي..
***
تحدث صادق فاقداً بعض صوابه: دخيل ربك انته بتجنني!
كيف تكولي ما لقيته، يعني وين راح؟
هو أكيد ما طلع من ديـالى .

تحدثت وأنا أهدي من روعي وفزعي على أخَ دُنيـاي قبل أن أُهديّ صادق: على كيفك صادق،
إن شاء الله ماكو إلا الخيــر، وتعرف آلن زلمة قد حاله، ودام طلع أسمه مع المطلوبين معناته ما أُعتقل ولا استشهد .. فهمان علي! "على كيفك = مهلاً"

أومأ برأسه شارداً .. والأفكار تُشرق به ثم تُغرّب، أعلم مدى تخوفه على آلن، وعلى الحياة الجديدة الذي لم يتكيف بها ، لقد ألتزم الصمت ورضي بوضعه بحكم أنه "رجل" في منزل تسكنه امرأتين!
يجب أن يتعايش بسببهنّ، لا يسخط ولا يجزع من وضعه حتى لا تشتلي أحد النساء بوضعه وتحسُ بالخطر أيضـاً.

حادثته بشيء من اجل أن يحتاط : صادق،
عمتـك وياها مُوبايلها ؟

ألتف الآخر التفاته كاملة ناحيتي: شتريد؟

تحدثت وقت دخول مَهتاب: خلها تقفله، شي وارد يراقبوك من خلاله!
لا تنسى إنها عمـتك فحتى هي تتراقب.

تحدثت مَهتـاب قبل صادق جازعـة: لا دخيلك شو هاي دتراقب،
لا ما عليك بيها أنا الحين أقفله واشرمه همين!

ابتسمت على ذلك الخُوف الذي تجسد بنظراتها قبل لسـانها : وينها عمـتج؟

تحدثت وهي تميل تسكبّ لنا الشـاي: بمـصلاها ، دتنظـر المغرب يأذن.
- ثم وقفت- إذا عازكم شي صيّحوا علي! "عازكم= احتجتم" ، "صيّحوا = اندهُوا ".

خرجتّ مَهتاب وبدأ حديث صادق من جديد : أني دروح وياك لديـالى!

لقد جُن!
أ يذهب وهو مطلوب للقوات التي نصبت عشرات الحواجز بين ديالى وشقلاوة ؟: إذا انته عايف روحك عمتك ما عايفتك، مالها غيرك بهاي الدنـيا،
شكد كلت لك آلن قد حاله ولا تخاف عليه!
ليش انه متضوج هيج ؟
***
صعدتُ منادية لها : زينبّ،
عميمة وينج؟

تحدثت وهي تخرج من غرفةِ آلن مكفكفة دموعها: هاا عمتي، شتريدين ؟

هرعتُ إليها مُسرعة: اشبيييج ؟ ليش هالدموُع!

تحدثت وهي تُدير وجهها جانباً حتى لا أرى بريق الدمع يحرق وجنيها : لا ماكو،
بس اشتاقيت له!
***
لا تسألي القلبَ لما حنّ، لا تسألي الجفنَ لما أبتلّ.
لا تسألي وتُريقي جروحاً دامية للتو توقف جريانها في ثنايا الروح!
الشُوق يا مَهـتاب مُضني، كيف وأن كُنتي تشتاقيّ لأثنين وتجسدي الشوق لرجل واحد!
تُحبي الولد وتدلليه وتسامريه وتبالغي في حبه!
ليس لأنه ولداً ، أو لأنه "خطيّة" كما وصفته، بل لأنهُ ابن أبيه،
أبوه الذي جنيت عليه، وأذقتهُ المُر من كأسي، ورشحت زوجه الغُربة ولم يتوانى عن الرحيــل الموجع الذي ظن انه سيغادره الألم حالما غادر هذه الديار!

تحدثتُ إلى مُجددة الجراح فيني : ماما ، وين صادق؟

أجابت وهي تتفحص تلك النُجل الدامعة: عند محمد، تركتهم بروحهم تحت!

أسرعتُ خطاي ذاهبةً إلى أبنائي المفقودُ ثالثهم، مستنجدتهم، وطالبة منهم الذهاب وعدم العودة إلا بثالثهما، وحده من يستطيع إطفاء نار الالتياع التي بدأت تضرم في روحي منذُ يومين.
وحده من يأخذُ روحي من سعيـرها إلى صقيعاً بارداً ، يجعل قلبي يقرّ برؤيته!
لطالما وسدتهُ أحضاني، سارحة بأحلامي إلى بعيداً مـضى يُجدد ذكراه آلن كُل ليلة!
أُليس آلن شبل .. فالشبلُ من ذاك الأسـد!

دلفت الباب المُغلق : السـلام عليكم.

وقف مُحمد مُقبلاً رأسي، وسط تفسح صادق لي بجانبه : تعالي،
وينج من اليُوم، ولج والله فاقدج!

ضربتهُ مع عضده بعدما جلستُ بجانبه: لا تكول ولج!
ما أصغر عيالك أني.

ضمنّي جانباً إليه : محشومة عميمة، ولج أنتي تاج رأسي.

وسط غضبي "المفتعل" وضحكات مُحمد الصادقة!

تحدث إليهم ونظراتـي تنتقل بينهم: حبايبي دخيل الله أريد منكم تجيبوا لي آلن،
والله ما يهنى لي نُوم ولا أكل وهو بعيد عن عيوني.. ولك والله ما أكدر على بعاده!

تقدم محمد الذي لم يزل في وقفته عندما حيّاني، جلس أمامي: واللي خلقج أني ما خليت مكان ما دورت بيه،
تكرم عينج يا أم عـلاوي ، بس أرجع ديـالى ولا أرجع إلا بيه!

أعلم صدقه، فهو الوحيد بينهما الذي لم ولن يكذب: بصـلاة محمد؟

تحدث بابتسامة: أفا عليج زينب، تحلفيني.
- ثم أمسك بشاربٍ يُزين ذلك الوجه الرضيّ : وهي مسكت على شواربي.

قبلت رأسه القريب مني: الله يرضـى عليك، ويخليك لعين ترجيـك .

وقف بعدما رنّ هاتفه: ألو.. هلاو بيج.. لا جاي عالعشـاء.
- ثم أغلق هاتفه- : هاي أمي تنطرني ع العشـاء،
تريدون شي قبل أروح ؟

أمسكت بيده القريبة منيّ حيث جلستي وسط وقوفه: دخيل الله ما تطول علي ، الله حافظك يُمـه ..

كل هذا وسط نظرات صادق الصـامت وما أن خرج مُحمد لحق به،
يبدو أن ابن روحي بدأ يُخفي علي أمراً !
مهـلاً .. يا صادق، ما يُخفي قلبك سوُف تبوح به عيناك التي بُت تصدُ بنظراتها عنيّ!
***
وقف القسّ مع رجـلاً يُدعى مسـعود لا أعلم ماهية الأمر الذي طلب مسعود له ، ولكن يبدون أن الأمر مُتعلقاً بـي، أو بالأحرى بطريقة وصـولي إلى شـقلاوة بعدما أوهمتهم أنني فاقد إثباتي قبل سقوطي من البناية!

كان القسّ ومسعود يتحدثا جانباً بين أحد الكراسي التي تُزين الكنيسة،
بينما أنا كُنت أنا في الواجهة الرئيسية للكنيسة.
شتتُ نظري في أنحاء الكنيسة بعدما سُلطت عينيّان مسعود ناحيتيّ،
رجلاً غليظاً شديداً، قوي البُنية، وسيع المنكبين..
يملك حاجبان عريضـان مرسومان بدقـة، تحت عينان يُقدر حجمهما بحجم فنجان القهوة!
كل هذا كان مُلكاً لرجـل حنطي اللون مائلاً إلى السـمار القاتم قليلاً.

أدرتهم ظهري متوارياً خلف السـتار الذي أصبح مأواي لثلاثة أيام!
***
الواحدة ليـلاً ..
رحل مُحمد باكراً، وسط خلود عمتي للنوم بعده بساعتين.
لم يتبقَ إلا أنـا .. خجلتُ أن أطرق الباب على مَهتاب حتى تُسامرني!
رغم إنها بدأت تتأقلم مـعي، وسط تعديلها لموديل دراعتها عندما قصتها مع أطرافـها حتى تُصبح جلباباً أخف من جلبابها الأساسي ..
وسط مواراة ساقيها بقُماش أسـود، عجيبةً تلك الفتاة والأعجبُ روحـها التي لم أجد فتاةً بهذه الروُح رغم المصائب التي وقعت بـها،
فلك ان تتخيل فتاة في منتصف العشرين تخرج من بلدها لحلماً بسيطٍ جداً وثم تُعتقل وتُحرر وتقاد إلى معقلاً من نوع آخر،
لقد ظلمها آلن كثيـراً .. ولم يأخذ رأيها بأي شي.. فقد رسم حياتها كما يريدُ هو وسط صمتها المُطبق .. لا أعلم هل هو طاعة مُطلقة أو تبلد أعمى.. أعمى بصيرتها وقلبها حتى جعلت ذاك الآلن يُسيرها حيث أراد، ويختار لها أسماً غير أسمها.. وأرضاً غير أرضها،
فلم أرى منها إلا الابتسام والمرح اللطيف، حتى اعتقالها لم تعلق عليه كثيراً، ولم تبكي ولم تنوح ولا تبوح!
عجيباً أمر تلك الفتـاة..

لمحتُ شخـصاً موليني ظهره مـاثـلاً على كُرسي متمماً لثلاثته ثم تتوسطها طاولة خشبية، تقع بين الأشجـار، فعنّ يمينها زيتون وعن يسارها ليمون!
رائحة الليمون المُنعشة من جعلت هذا الشـخص يقعدُ حتى مُنتصف الليل في المزرعة!
لم أخف من هذا الرجل، لأنني أعتدت وجود الحـارس الذي يعمل فلاحاً في نفس الوقت!
فهو يحرس المزرعة الثانية ولكنه لا يطيب له السمر إلا في هذه!
وقد استأذنني للسـهر بها .. فأذنتُ له، علّه يسـامرني حتى عودة آلن.

تقدمت إليه ولكنه لم يكن ذلك الفـلاح.. إنها مَهتاب.
تلك التي قطعت حبل أفكاري التي تدور حولها !
تقدمت جاراً قدماي خلفي حتى تسمع قرعها في الحجر وتعدلُ حجابها،
حتى لا تخجل عندما أفاجئها بقدومي ويحد ذاك القدوم من الترابط الذي حصل بيننا في هذه الفترة.

تحدث بعدما رأيتها تُدير لي وجهها : شو مسهرج للحين؟

أجابتني وهي تنظر إلى مدخل المزرعة الذي خلفي: انتظر آلن،
ما كال يرجع اليوم ؟

جلستُ مقابلها: إلا اليُوم يرجع .. يارب.

عاد الصمتُ بيننا لا يخلو من أحاديثٍ قصيرة تبدأها مهتاب وتموت الأحرف عندما تخرج من فمـي .. ونصمت حزناً أمام ضريح الأحرف المحتـضرة!
***
الساعة الخامسة فجراً ..
قدم إلي القسيس مودعاً : العذراء تحميـك.
حضنته شاكراً ومودعاً .. فقد طاب لي الرحـيل!
لقد طابت لي الحيـاة وابتسمت في وجهي الذي لطالما صفعته بكلا يديها،
قدمتُ إلى ذلك المُسـمى بمسعود مُصافحاً: هلاو بيك.
وسط صمتاً مُطبقاً منه.. فقط شدّ على يدي إلى أن بتُ أشعر بتلاحم أصابعي مع بعضها البعض!
ركبتُ في مكان الراكب .. بينما تولى مسعوداً القيـادة.
صمـتاً مُطبقاً يخنقني لا يخلو من صداعاً يتسلل إلى رأسي بسبب عزوفي عن التدخين خلال تواجدي في الكنيسة!
لا أحمل بكتٍ يُهدئ أعصـابي، ولا أرى غلظة مسعود إلا حاجز يمنعني عن طلبه ذلك ..
فقد أكون وقتها "طـرار ويتشرط".

ولكنني صدمتُ عندما تحدث وكُنت أضنه لا ينطق! : تريد زقارة؟

من الذي أخـبره بذلك .. حتى يوحنا لا يعلم أنني مُدخنٍ شره .. بل لا يعلم أنني مُدخناً .
تناولت منهُ السيجارة الممدودة، ثم أعطاني بعدها القداحة التي لم يكن جيبي يخلو منها ..
ولا أعلم أيضاً أين وقعت!
هذا ليس مهمّ، الأهم كيف سأعبر حاجز بعقوبة وهوية ظاهرة لهم هكذا.

سألته وأنا مُضطر على السؤال، نظرتُ إلى حاجباه المعقودان وسيجارة تتوسط شفاهه وعينان مُحدقة
في الطريق: مسعود،
كيف أبقى هيج وحاجز بعقوبة كدامي؟

أجانبي ونظرته لم تتزحزح من مكانها، وحاجباه في نفس انعقادها : دامـك ويـاي لا تشيل همّ!

كيف " لا أشيل هم" وأنت أساس الرُعبّ!
لم تكنّ مسعوداً في يوماً .. بل كُنت رعباً تجسد في كيـاني وأستقر.
كيف سأمر بحواجز الاحتلال العشرة دون إخفاء هويتي..
لن أبقى هكذا، حتى ولو كان هذا رجلاً جلبه لي قسيساً به رحمة وعطفاً على أتباع دينه!
لن أبقى هكذا، حتى ولو كان هذا الرجل مسيحياً .. لن أبقى في مأمن ما دُمت معه.
هل سيبرر وجودي بجانبه لأحد الحواجز أو سيساعدهم بتعليق مشنقتي؟

صُدمت عندما رأيته ينحدر من الطريق الرئيسي إلى آخر صحراوي، صرخت به وأنا أحسُ حـياتي أصبحت في بيرٍ لا قاع له : مسـعود .. دخيلك وين دتروح؟


أنتهى



مخرج الفصل الخــامس عشر

صبرج يا بلد صبرج
نقدم ارواحنا مهرج
لا تنسينا حنا علينا
داخل قلوبنا نصرج


×عبدالباسط ساروت×



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس