اتصل بابنه ليأمره مباشرة عندما فتح الخط ...
رد عليه فارس متعجبا .. " ماذا حصل ؟"
" لا تناقشني يا ولد ! هل ضننت لأنك كبرت الان واصبحت ابا يعطيك الحق بكسر كلامي؟ ...
اعلم جيدا انك لم تبتعد كثيرا .. لذا استدر وعد بأمك فورا والا والله سترى مني مالا يعجبك. "
هدأ فارس من سياقته ليتوقف نهائيا بجانب الطريق كي يستطيع ان يتكلم مع ابيه الغاضب براحته ... فتح مكبر الصوت لتستمع امه معه ..
"ابي .. ارجوك اهدأ ما تفعله يضر بصحتك ... "
سمعت صوته الذي بدا عليه الارهاق فلم تره وهو يتكئ بظهره على جانب سيارته بينما يتكلم بصوت متعب اوطأ من السابق
"لا تتعب قلبي يا ولدي .. عد بأمك فورا ولا تجادلني الان .. اشعر بالتعب .. ولا أستطيع سحب انفاسي ... قلت لك عد بأمك والآن!! ..."
قالها بصوت تخنقه العبرات .. وهو يتجه نحو الحديقة ليرمي نفسه متهالكا يجلس على احد الكراسي .. بعد ان شعر ان قواه قد خارت واوشك على السقوط
كان فارس يتكلم مع ابيه وهو ينظر لملامح امه الجامدة.. تحدق في الفراغ أمامها .. الى الافق البعيد ..الى لا شيء .. وكأنها في عالم اخر ...
لم تذرف دمعه واحده منذ لحظة سماعها لخبر الطلاق ولم تقل كلمه من وقت ركوبها السيارة رغم كل محاولاته ان يستدرجها باي حديث ... حتى انها لم ترد على سؤاله عن سبب خروجها اليوم من البيت.
انتبه لامه وهي تهز رأسها نفيا...
رد على ابيه الذي وضعه بموقف لا يحسد عليه لا يدري باي صف يكون!
"ابي امي متعبه جدا وتحتاج ان ترتاح .. دعها ترتاح وتستجم لأيام بين بيوت اخوالي ... وترى فنار وصغارها ايضا وانا اعدك ان اعيدها بنفسي للبيت "
انتبه لامه وهي تلوي شفتها بابتسامة استهزاء جانبيه..
بينما الاب شعر بيد تعصر قلبه عند سماعه انها متعبه .. كيف لا تكون متعبه وهي من قطعت طريق العاصمة – المحافظة ثلاث مرات اليوم .. اضافة الى تبرعها بدمها .. وجاء هو ليكملها عليها بطلاقها وطردها من بيتها
رد بصوت متحشرج يبذل جهدا كبيرا كي يخرجه ...
" اسمعني يا ولد وحق لا اله الا الله ان لم تعد الان سألحق بكما فورا ... "
" ابي هل تسمع ما تقوله؟ .. انت لا يمكنك القيادة ليلا وخصوصا في الطرق الخارجية .. ارجوك استر علينا ولا تفضحنا في هذا اليوم الذي يبدوا ان مصائبه لن تنتهي"
" ومادُمت تعلم هذا ...." قالها الاب ليجعل ولده ينفذ ما يقوله...
" عد فورا الا اذا اردت ان تحمل جنازتي اليوم لأنني لن اتراجع عن ما قلته ان لم تعد اتيت اليك بأقصى سرعه لأصل اليكما قبل دخولكما المحافظة.. "
رغم شدة رعبها من تنفيذ ما يقوله ... لكن الم الجرح العميق الذي سببه لها يجعلها تقتل اي احساس بالشفقة او الخوف عليه في مهده وتعود لتذكر نفسها ... انه الان غريب عنها وانها ...
تردد الكلمة داخل جدران عقلها
تشعر وكأن كل حرف منها سكين يمزق احشائها
مطلقه وهي على ابواب الستين من العمر
او الاصح على ابواب الرحيل من هذه الدنيا .. كم بقي لها كي تعيش بها
ولكن للأسف قرر ان يخرجها من هذه الدنيا وهي تحمل لقب مطلقه
وبدل ان يكتب على قطعة القماش السوداء المكتوب عليها نعيها عقلية السيد رعد محمد السلطان
الان لم يعد اسمه موجود في نعيها فقد حذف اسمه من جانب اسمها وانهى الصفة التي تجمعه بها بكل بساطه وكأنها لم تكن يوما ما شيء مهم.
تخلص منها بلفظ اسهل منه لا يوجد.
السنين التي مضت .. حياتهم المشتركة .. ما يجمعهم من ذكريات واولاد واحفاد كل ذلك لم يقف بوجهه ولم يحسب له أي اعتبار...
هي من سمحت له بالتجاوز ...
هي من لم توقفه عند حده منذ اول مره رفع فيها يده عليها ...
انتبهت الى حالة ابنها وحيرته بعد ان وضعه والده بخيار صعب
تعاطفت معه فهو بموقف لا يحسد عليه ... انه بين خيارين كلاهما مر ...
يقف بين ابيه وامه ... لا يعرف ماذا يفعل لو اخذها لبيت اهلها فهو متأكد ان ابيه سينفذ كلامه وتهديده ولو حصل له شيء فلن يسامح نفسه ابدا
وبنفس الوقت هو لا يستطيع اعادتها لأبيه لأنها تعلم ان ابنها لا يمكن ان يكسرها ويحط من قيمتها ومن كرامتها ... ويرجعها لأبيه دون موافقتها .... وهي مستحيل ان تعود اليه بعد فعلته
التفتت لابنها رأته يشد شعره بيده وهو يشعر بانه قليل الحيلة لا يدري ماذا يفعل !
اقتربت من الهاتف دون ان تأخذه من يد ولدها وتكلمت بكل هدوء
" لا تحمل الولد فوق طاقته يا أبا فارس ...
اعتقد ان كل شئ بيننا قد انتهى بعد ان رميت يمين الطلاق ..... "
طعنة .. شعر بطعنة في صدره وهو يسمع صوتها الهادئ وهي تناديه ابا فارس ... لم يسمع منها هذا النداء يوما سوى عند وجود احد معهم ..
تناديه بكنيته امام الناس لتزيده هيبة ووقار .. ولكن لم يسمعه منها طوال سنوات عشرتهما معا ...
وانما دائما تبدأ كلامها معه بحبيبي ... واذا ناداها وهي بعيدة عنه ترد عليه نعم عيني
انتبه فارس لمحاولة ابيه ان يقاطع كلام امه بصوته المتهدج الواضح جدا عليه التعب وهو يناديها باسمها ...
لكن امه لم تسمع ولم تسمح له ان يقول شئ... بل استمرت بقول ما تريده باقل ما يمكن من الكلمات...
"ها انا اعود للبيت الذي اخذتني منه لوحدي ... "
نتبه فارس لدمعه وحيده تتدحرج على خد والدته دون ان يرمش لها جفن ... وكأنها نصل حاد انغرس في صدره بينما يسمع باقي كلامها لأبيه
"العهد الذي ربطنا فصمته بقرار منك ..
اتخذته عن قناعة تامه بصحته ..
لا يمكن الان ان يعود شيء الى ما كان عليه سابقا
قالتها واغلقت الاتصال بأصبعها، أشارت برأسها لولدها ...اكمل طريقنا بني ...
ثم عادت لترخي ظهرها على مسند مقعدها.. اسندت رأسها للخلف واغمضت عينيها.
انسابت دمعه خائنه رغما عنها
لتسبل اجفانها وتستسلم لنوم عميق هاربة من افكارها ومن كل شيء
..................................
دعاء ختم المجلس
سبحانك اللهم وبحمدك , أشهد أن لا إله إلا أنت , أستغفرك وأتوب إليك