عرض مشاركة واحدة
قديم 08-09-19, 12:13 AM   #7

نغم

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية نغم

? العضوٌ??? » 394926
?  التسِجيلٌ » Mar 2017
? مشَارَ?اتْي » 2,980
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » نغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
افتراضي

الفصل الخامس


في منتصف ذلك الشارع المهجور ، وقف يتأمل تلك الجثة التي هجرتها روحها .
داخل عيني الشاب الذي تجمدت أسفل رأسه بركة دماء ، تجمدت كذلك نظرة كانت منذ دقائق ربما تموج حياة ، أفكارا و أحلاما بغد أفل نجمه إلى الأبد .
تنهد آصف و هو يبتعد بعينيه عن المشهد الذي سحب شيئا من روحه .
ألا يكفي يا بلد ؟ ألا يكفي موتا و موتى ؟
ألا يكفيك يا بلدي و أنت كل يوم تحطمين رقما قياسيا جديدا في موسوعة الأحزان .
فقر ، مرض و حوادث طرقات .
كل يوم ألم ، كل يوم فقد جديد حتى صرنا نتنفس هواءًا رائحته الفناء .
- لا حول و لا قوة إلا بالله ، نطقها بعمق يحاول أن تتشبع بها روحه في لحظات كهذه حيث يشعر بأن العبث يلتهم كل معاني الكلمات .
كأنما اليأس حط الرحال على أراضيهم و يرفض أن يغادر .
أطرق برأسه مطولا و في لحظة قنوته المظلمة ارتفعت تلك التكبيرة الأولى .
تكبيرة تعلن ميلاد فجر جديد تلتها باقي كلمات الأذان ، تُكَوِّن نداءًا يدعو من استيقظ من أصحاب القلوب المؤمنة للقرب و البدء من جديد .
الله أكبر
كلمة يبدأ بها الأذان
تبدأ بها الصلاة
تلخص الحياة
الآن يفهم لماذا
لأن ...
الله أكبر
من الموت
من الحياة
من العبث
من الجهل
من الظلم
من الدنيا و ما فيها و ما لم نجده فيها .
و الله
الذي تتسابق الصومعات و تسرع و تتنافس لترديد اسمه بينها في الأعالي لتعلو النفس و الروح عن كل شيء .
الله في هذه اللحظة يدعوه
كي ينسى الدنيا و يريح تعبه منها في سجدة
يخفف من أعباء روحه في ركعة و يقوم مكبرا في دافع جديد للاستمرار .
تنفس بقوة لاهثا يأسه خارج قلبه و فكره ثم بتلقائية انتصبت قامته مجددا مستجيبة لدافع الواجب الذي ينبض بداخله .
طافت عيناه الحادتان بتفاصيل الشارع حوله و استقرتا أخيرا على تلك الكاميرا أمام بوابة إحدى البنايات ، قاس بنظره المسافة بينها و بين مكان الجثة ثم علا صوته بنبرات آمرة :
- منصور ، تعال هنا .
- حضرة الضابط ، أسرع العسكري الشاب إليه و هو يومئ برأسه بتبجيل .
- تقف هنا ، لا تغادر مكانك حتى الساعة السابعة ، حينها ستتوجه إلى ذلك المبنى و تطلب منهم تسجيل المراقبة الخاص بالليلة الماضية ، مفهوم ؟
- عُلم حضرة الضابط .

رماه بنظرة اشتعل رماد حدتها و أضاف بلهجة محذرة :
- لا تغادر مكانك .

أعطاه ظهره و انصرف بخطواته الواسعة و هو يستمر بتوجيه أوامره هنا و هناك بخصوص الجثة التي كان صاحبها يقطع الطريق إلى مكان لا يعلم وجهته الآن سوى خالقه لتقطع عنه أنفاسه تلك السيارة المجهولة و هي تدهسه ، تتركه لمصيره و تهرب بصاحبها المجرم .
- ليس كثيرا يا ابن ال...، تمتم من بين أسنانه و هو يمتطي دراجته النارية الضخمة ، سنصل إليك ، يعني سنصل إليك .

وضع خوذته الرسمية و انطلق بسرعة مناسبة ، يستقبل بصدره الواسع نسائم الفجر النشطة .
لهذا هو يختار رغم رتبته أن يتجول في الشارع .
يعلم أن مجال عمله عفنه الفساد و أنه مهما فعل لن يغير سوى القليل القليل لكن ذلك لن يمنعه من تأدية واجبه نحو ربه ، نفسه و الإنسانية .
لذلك هو قاس لا يرحم لكن ليس ليطغى بل ليمنع .
يمنع مزيدا من المصائب ، من الكوارث ، من الهروب الجبان دون دفع الثمن .
مر على مسجد يقع في طريقه ، صلى فجره ثم عاد بروح خففت شيئا من أثقالها إلى فيلا أسرته .
أوقف دراجته النارية بسهولة أمام بوابة المرآب الحديدية ثم أخرج آلة التحكم عن بعد و وقف ينتظر ارتفاعها البطيء المتحشرج عن الأرض بينما عيناه تصعدان ببصره تلقائيا للطابق الأعلى حيث أقام لمدة ثلاث سنوات بأيامها و لياليها .
لياليها ، ترددت الكلمة داخله تشعل بركانا ظنه خاملا ، منطفئ الشرارات .
ثلاث سنوات ، تمتم بخفوت و هو يدخل دراجته و يركنها على حائط الممر الحجري المؤدي للفيلا الرحبة .
ثلاث سنوات بحُلوِها و مُرِّها
و مُرِّها
و مُرِّها .

ثلاث سنوات هجر بعدها حياته الزوجية القصيرة تاركا الطابق العلوي خاويا على عروشه و عاد إلى الطابق الأرضي يؤنس وحشة والدته ، سيدة حياته الحقيقية و الوحيدة .

*
*

بعد دقائق ، كان يقف أمام المرآة العريضة لحمامهم الفخم ، يمرر آلة الحلاقة على ذقنه بشرود يحلقها استعدادا لاستحمام خفيف ثم نوم ساعات قليلة قبل أن يعود للتحقيق في مصرع ذلك الشاب .
التفت و ملامحه تشرق بابتسامة هادئة و هو يسمع صوت خطوات متأنية .
- صباح الخير بني .
- صباح الخير حاجة ، غمغم بنبرات أثقلها النعاس و هو يخفض وجهه ليقبل جبين أمه .

راقبها تتوضأ بحركاتها الرصينة المعتادة و لم يستطع إلا أن يلاحظ نظراتها السريعة إليه من حين لآخر ، أغمض عينيه و هو يسمع تنهدها العميق .
كتم زفيرا محترقا و هو يسمعها تخرج عن صمتها بحدة ليست من طبعها :
- ألست أمك آصف ؟
- لماذا هذا الكلام الآن يا حاجة ؟
- لأنك لا تراعي مشاعري بني ، لمعت دموع تعاسة على سطح عينيها ، لا تتصور إحساسي و أنا أراك كل يوم تصارع لتحشر إصبعك داخل تلك الدبلة المنحوسة .

وضعت يدا مرتجفة على قلبها و هي تضيف بهمس مخنوق :
- بإصرارك على سجن نفسك داخل ماضيك معها تعيد لقلبي كل الذكريات الحزينة و أنت أكثر من يعلم ما الذي يفعله بي رؤية تعلقك المجنون بها .
و لكن لم علي أن أستغرب بني ، الولد سر أبيه .

لم ينبس بكلمة واحدة ، استمع إليها بمنتهى الصمت فهذا أقل ما يقدر على تقديمه لها ، فقط حين انتهت عاد لينحني على جبينها بقبلة عميقة دافئة و هو يقول بخفوت :
- صلي يا حاجة اقترب وقت الشروق

بهزيمة جديدة راقبها تنصرف منحنية الرأس ، مثقلة الخطوات ، تتمتم بكلمات رنت داخل قلبه قبل أذنيه :
- متى يحين وقت شروقك أنت ؟

***********************
راقبت عينا نادية أسراب الظلال تهاجر جوانب الطريق فعادت لتلقي نظرة سريعة أخرى على ساعة معصمها .
الساعة التاسعة ظهرا ، أكدت لها الأخيرة .
نعم ظهرا لأنهم لا يملكون صباحات في هذا الجانب من الكوكب ، الصباح كما قرأت عنه هو ذلك الوقت من اليوم حيث تكون النسائم ندية و يُسمع شدو العصافير و هي لا ترى هذا أو ذاك .
ما تراه هو تلك الشمس الغاضبة التي تصب أشعتها دون رحمة على أم رأسها .
استدارت إلى ذلك الشارع الجانبي الواقع خلف عمارتهم و الذي لا تمر عبره عادة لكنها تريد التأكد ثانية .
رأت سيارتهم الأنتيكة تربض في نفس المكان كما منذ أسابيع عندما اكتشفت مكانها لأول مرة .
حينها شكت في الأمر ، بعد أيام تحول شكها إلى يقين .
شقيقها الأصغر لم يعد يذهب إلى عمله ، كل صباح يتناول إفطاره معهم كالعادة ثم ينصرف ، يركب السيارة ، يركنها في هذا الشارع ثم يختفي و يعود إلى البيت في الوقت الذي من المفترض أن ينتهي به دوامه .
هل طردوه أم هو الذي استقال ؟ أم أخذ إجازة بسبب أزمة نفسية أخرى ؟ أم ؟ أم ؟ كل هذه أسئلة لم تعرف بعد أجوبتها لا هي و لا أمها ، تنتظرانه هو كي يعترف بالأمر دون أية ضغوط .
أما أبوها فطبعا ليس لديه فكرة عن الموضوع و أكيد لا تنوي إخباره .
لأنها تعرف أنها غالبا لن تمسك لسانها و ستقول له ما تمنت دوما أن تطلقه من عقال ذاتها ، أن تصرخها في وجهه :
انظر أين أوصلت ابنك يا بابا .
انظر أين أوصلتنا جميعا .
حسبي الله و نعم الوكيل في ..
وقفت فجأة عن إكمال سيرها و إنهاء جملتها ، طأطأت رأسها لحظات تنظر بخواء إلى ظلها الممتد أمامها ، وحيدا ضائعا ينتظرها لتقوده ، كبيرا أسودا مثل ذلك الكيان الذي تشعر به الآن يجثم على قلبها ، يطمس باقي مشاعرها فلا تقدر سوى على الإحساس بالقهر .
سرحت نفسا عميقا من داخل صدرها ثم اقتلعت نفسها اقتلاعا من وقفتها لتستمر في سيرها و تكتمل باقي الجملة تغادر شفتيها بهمس :
حسبي الله و نعم الوكيل فيك يا دنيا .

*
*

بعد دقائق ، كانت تجلس في الحافلة المكيفة ، ترخي جفنيها و ابتسامة شكلية تحط فوق شفتيها ، تسترجع مشهدهم بالأمس مع والدها .
دخل عليهم كما يفعل في كل شهر و هو يقول جملته المألوفة :
" لدينا عزومة من الحكومة "
ثم رمى الفواتير أمامهم و قسمها بينهم ، هو و هي و شقيقها .
و بما أن هذا الأخير لم يعد يعمل عرفت أن عليها أن تتصرف ، يكفيه ما عاشه من رخص .
لذلك ها هي اليوم تتوجه إلى ذلك المطعم الفخم الذي تعودت منذ سنوات مراهقتها أن تعمل فيه كلما أرغمتها ظروفها و كثيرا ما كانت تفعل .

*
*

أوقفتها الحافلة على بعد أمتار قصيرة من المكان ، مشت بسرعة حتى وصلت الباب الأمامي ، توقفت قليلا تتأمل انعكاس شكلها على سطحه الزجاجي اللامع .
أسود في أسود ، هكذا اختارت أن تكون ثيابها اليوم ، بنطللون أسود ، قميص أسود ، بلوزة سوداء ، نظارة سوداء و حذاء أسود .
فقط الحقيبة بيضاء ليس لشيء سوى لأن شريط حقيبتها السوداء ممزق .
قطعت أفكارها و أكملت سيرها لتدخل من الباب الخلفي .
حيث يدخل العاملون .

*********************

مساءًا ،
اتكأت إيثار بكلا مرفقيها على المنضدة الرخامية في مدخل الصيدلية ، شردت بفكرها بعيدا جدا عما حولها و هي تتأمل السطح اللامع بأطياف لونه الرمادي المتدرجة بتناغم ناعم جذب ذكرى فورية لذهنها .
فهمست ببطء حكيم :
- سبحان الله .

شيء في النبرة ، ربما الحزن الذي مازجها ، لفت انتباه نادية المشغولة بتنظيم علب الأدوية المقتناة حديثا ، تملأ بها فراغ الرفوف .
- ما الذي يحدث معك الآن ؟ تمتمت و يداها تواصلان مهمتهما بآلية .

عدة هزات نفي تحرك بها رأس إيثار ببطء قبل أن تقول بنفس التمهل :
- لا يحدث شيء معين ، كل ما في الأمر أني تذكرت ذلك اللون الرمادي الكئيب الذي كانوا يطلون به جدران الفصول في مدرستي الابتدائية ، و مع وجه المدرس العابس صارت حصة الدرس طقسا بشعا نؤديه يوميا مجبرين .
خرجت من تلك المرحلة طفلة تكره الرمادي بجميع أشكاله و كبرت لأراه لونا للكآبة ، للشك ، لعدم الاستقرار .
و الآن و أنا أتأمل هذه الرخامة أرى الرمادي كما هو حقا ، مزيجا بين الأسود و الأبيض ، مزيجا ساحرا غامضا كأنما يأخذ الليل فيه بيد النهار ، يلقي كل منهما بأسلحته و يعانق الآخر ،
يتخلى الليل عن عتمته و بعض غموضه و يغوص النهار بإرادته الحرة داخل بحر من الظلال ، يلتقيان يتمازجان يتزواجان فينتجان هذه التدرجات التي يخفق القلب لجمالها .

ضيقت نادية عينيها و هي تحدق في الرخامة كأنما تراها لأول مرة و قد كانت فعلا أول مرة ، حاولت رؤية ذلك السحر و عندما فشلت قالت بعملية :
- لا تنسي أن جرعة الأبيض هنا هي الغالبة لذلك ترينه جميلا .
عندما يطغى السواد لا يصبح الرمادي بتلك الروعة .
- كلام معقول .

تأملت نادية رأس الأخرى المطرق ثم تمتمت بهدوء :
- إيثار هل لديك فكرة أنك فاشلة ؟
- فاشلة ؟ أنا ؟
- فاشلة في كل شيء في الواقع ، أكدت لها نادية بأريحية ، روحك روح شاعرة و تحبسينها داخل جدران كلية الهندسة .

توقفت تصعدها بأنظارها ثم أضافت بصوت عانقت نبراته حدة خفيفة :
- تظنين نفسك قادرة على فهم النفس البشرية و أنت تعجزين حتى عن فهم نفسك .
- واو ، رفعت إيثار رأسها بنظرة استنكار ، كل هذا لأنك فشلت في التفاهم مع العريس ؟
- ذلك الكارثة كان بالنسبة لك عريسا ؟!!
- أنت قلت مرارا أنك تريدين أن ترحلي عن البلد و أنا اخترت لك من رأيته يناسبك .

اتسعت عينا نادية و داخلهما اختفت نظرة التهكم ليحل محلها استغباء قرأته الأخرى بوضوح :
- لو كان ذاك الرجل المناسب أتوق أن أعرف من هو غير المناسب .
- هل دعوتني هنا لتفرغي خيبتك فوق رأسي ؟

رفعت نادية عينيها إلى الأعلى تستجدي صبرا لا تشعر به ثم بهدوء ناولتها كيسا ورقيا متوسط الحجم من أكياس الصيدلية .
- دواء للضغط الذي رفعته لي ؟ ضيقت إيثار عينيها بتساؤل .
- نصيبك من الصفقة الفاشلة مثلك ، تمتمت نادية و هي تدفعه أكثر نحوها قبل أن تميل تقرب وجهها منها و تضيف بهمس :
- على فكرة ، الولد زميلي لم يرفع عينيه عنك منذ دخلت .
- أي ولد ؟ بادلتها إيثار همسا مضطربا .
- زميلي ، دكتور صيدلاني بعينين خضراوين و اسمه باهر .
عريس أم ليس بعريس ؟ يا أم التخلف .
- لم لا تحتفظين به لنفسك إذن ؟ تساءلت إيثار و هي تنظر نحوه بطرف عينها .
- لست مهتمة ، ردت نادية و هي تجعد أعلى أنفها ، شكرا .
- العفو و لا أنا .
- إذن لماذا صعدته بنظراتك ؟ تمتمت نادية و هي تستند بمرفقيها على المنضدة لتميل نحوها أكثر .
- لأنها لحظة للتأريخ : أن يهتم بي رجل ما و أنت تتواجدين معي في نفس الحيز المكاني .
و عموما لا باهر و لا مبهر ، الآن كل وجداني ينبض باسم واحد .

وضعت يدها برقة مبالغة على أعلى يسار صدرها و تمتمت و هي ترفرف برموشها :
- تك ، تك ، تك ، تك .
له وحده .
الحب ، الحب .
مع أني مازلت لا أعرف اسمه .

***********************

في الصالون الخامل الجو في تلك الساعة من ذلك الأصيل الدافئ ، فرضت أشعة الشمس وجودها منسكبة من خلال زجاج النافذة الوحيدة الواسعة ليتململ أكرم المستلقي في كسل على الأريكة الرئيسية و الضوء القوي يشاكس جفونه المثقلة نعاسا .
تحرك ببطء يدير ظهره للنافذة يبحث عن ظل يغمر وجهه و يعيده لمملكة النوم .
الصوت المرتفع لانفتاح الباب بشكل مفاجئ يتبعه طرق كعب عال على الأرض الرخامية جعله يطلق تنهدا يائسا و يستوي جالسا ، ملامحه تفيض استياءًا و هو يراقب شقيقته الصغرى تواصل تقدمها نحوه مرتجفة الخطوات تمشي بحرص حذر لينقلب انزعاجه ابتسامة واسعة و يقول بنبرات دافئة لم تخف تهكمه .
- بما أنه واضح أنه لم يخلق من أجلك و لا أنت خلقت من أجله لم تعذبينه و تعذبين نفسك معه ؟
- من هذا ؟ نظرت له بفم فغر دهشة ، أنت لا تقصد سيف .
- سيف ، سيف يقطع رقبته سيفك هذا ، ألا تستطيعين التفكير في شيء غيره ؟

بابتسامة حالمة تمتمت تهمس برقة :
- أستطيع لكني لا أريد .

رفرفت قليلا برموشها ثم أضافت بجدية :
- إذا لم تكن تقصد سيف فمن الذي لم أخلق من أجله ؟
- كعبك العالي يا قزمة .

لوت شفتيها مرتين ثم قالت و هي تحدق في عمق عينيه :
- أ تذكر يا أكرم ذلك الرجل قريب ماما الذي كان يسخر طوال الوقت من ساقي أخته النحيلتين فانتهى به الأمر إلى أن يتزوج من امرأة كأخته و أكثر ، صدقني أنت سيحصل معك نفس الشيء و التي سترزق بها ستكون في نفس طولي دون فرق مليمتر واحد .
- يا سلام .

بتحد واصلت تقول :
- و الآن أنا أمامك ، أجر مسحا شاملا علي و تأكد أن كل عيب تقوله ستجده في عروسك المصونة .

مد يده يشدها بلطف من شعرها المبعثر حول صفحة وجهها .
- تعجبني تخاريفك يا قزمتي ، تذكرينني بجدتي ، متأكدة أنك خريجة هندسة ؟
- أترجاك يا أكرم أن لا تذكرني بالهندسة و سيرتها ، لا تجعلني أندم على شبابي الذي ضاع .

زفرت بحرارة بينما صور كئيبة تعبر ذهنها لتشتت جزءًا من سعادتها ثم استمرت تقول و هي تتأمل طرف صندلها الربيعي .
- أتمنى لو كنت قد قابلت سيف بعد الثانوية العامة لكان كل شيء اختلف لكن قدر الله و ما شاء فعل .
- يا سلام على التقوى و الرضا .
دعيني أقول لك يا مدام شيرين أن سيف لم يكن ليرضى بك لو كنت بمستوى أقل .
- أنت تقول هذا لأنك لا تعرف عن شيء اسمه الحب .

أشاح بوجهه ما إن انطلقت آخر كلماتها و مد يده لهاتفه يعبث به .
- أكرم أنا ..
- هل حددتم موعدا لحفل الزفاف ؟ قاطع بسرعة محاولتها للتوغل في تلك المنطقة .
- ليس بعد ، تنهدت باستسلام ، ما زال لدي أمل أنك ستعود ل...
- لن أعود .
- إذن ابحث أكرم عمن تعوضك عنها مادام ذنبها الذي نجهله لا يغفر .
- أنا أخبرت أمي عن مواصفاتي و تركت لها مهمة الاختيار بدلا عني .

وضعت شقيقته كفها على كتفه تداعب قماش قميصه القطني و هي تقول بصوت رقت نبراته حنانا :
- و أنا ليس لي من ثقتك نصيب ؟ أخبرني كيف تريدها أخي ؟

تركها تقترب بجسدها منه حتى أنه أحاط كتفيها بذراعه لكن ذهنه كان يبتعد و يبتعد زمانا و مكانا .
- كيف أريدها ؟ همس بشرود .

يريدها " عيناها سبحان المعبود
فمها مرسوم كالعنقود
ضحكتها ألوان و ورود "

مع أنه لم يرى ضحكتها بدلا منها رأى دموعها ، لآلئ تتلاحق و تتعانق على صفحة ذلك الخد الأسيل .
و فمها ..
عندما كان العندليب يشدو بتلك الجملة عقله الهندسي المنطقي لم يقدر على فهمها يوما فكيف لفم أن يرسم كالعنقود .
لكن الآن فهم .
في تلك اللحظة و الكلمات و الشهقات تتتابع متساقطة من بين شفتيها لمع ذلك الوصف فجأة داخل قلبه و هو يرى حروفها الباكية المتهامسة حبات عنب صغيرة حلوة تمنى قطفها بدل تركها تتبخر في الهواء أمام عينيه .
- كيف تريدها أكرم ؟ أعاده سؤال أخته من رقة أحلامه إلى صلابة واقعه .
- أريدها من البلد ، من أسرة معروفة لأسرتنا ، و شرطي الأساسي الذي لا غنى عنه أن لا تكون لديها صفحة اجتماعية من أي نوع .
الشرط الآخر أن لا تكون ارتادت الكلية بتاتا .
و أنا ، قاطع شهقتها المستغربة برفع يده في وجهها و هو يستمر قائلا ، سأحرص على أن تكمل تعليمها بعد زواجنا و ليس قبله .

ليس قبله .
هذا هو شرطه .


*************************


نغم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس