عرض مشاركة واحدة
قديم 20-09-19, 12:00 AM   #9

AyahAhmed

كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 451462
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,566
?  نُقآطِيْ » AyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الثاني

الفصل الثاني

("رُبى"!!!....)
صوت صديقتها المندهش جعلها تكبح الرغبة الملحة في البكاء...هزتها "رحمة" بقوة علّها تضحك و تقول فقط كنت أمزح لا عليكِ!... لكن ملامحها متخشبة و شاحبة لحدٍ كبيرٍ...

وقفت "رحمة" فجأة و كأنها استوعبت الكارثة الحالة على صديقتها فقالت بصوت عالٍ رافض:
(عليكِ الرفض و عليهم قبول رفضكِ...لا يهم والدتكِ تحدثت معكِ بالأمس و والدكِ قص لكِ الموضوع في كلمتين بالصباح...يا إلهي إنه زواج عليهم فهم معنى الكلمة...)

اشاحت "رُبى" وجهها بضعفٍ للجهة الأخرى...العبرات تتسابق داخل مقلتيها لتتحرر لكنها تسجنها بقسوة...قسوة كالواقع الذي تعيشه...


قالت بعد فترة من محاولة السيطرة على النفس بصوتٍ واهن:
(لقد حكموا عليّ بالموت...أبي لا رجعة في قراره و الأدهى أمي موافقة)

زفرت "رحمة" بحدة ثم جلست جوارها تدير وجهها إليها...آلمها رؤية العجز و الدموع في عيني صديقتها و هذا جعل دمائها تثور فوق ثورتها فقالت:
(اسمعيني جيدًا علينا ايجاد الحل...حتى لو وصلت لمحادثة هذا العريس و إخباره أنكِ ترفضينه...)

اغمضت "رُبى" عينيها بألم فقالت:
(أقسم بالله لو أصروا على زواجي به لأهربنّ من البيت...)

شهقة "رحمة" بجزع ثم قالت بتعقل:
(ماذا تهذين؟!!... علينا حلها دون خسارة)

ابتسمت "رُبى" بسخرية مريرة ثم أشارت على نفسها :
(و هل هناك أكبر من خسارة نفسي لرجل لا أعرفه؟!)

تنهدت "رحمة" بحزن و حال صديقتها المقربة التي جاءت منذ الصباح الباكر تفجر خبر مفزع كزواجها المحتوم بعد أيام ينهش في خلايا عقلها...قضمت أظافرها بتفكير ثم صاحت فجأة:
(وجدتها علينا اللجوء للآنسة "زينب"... هي تحبكِ جدًا لا بد أنها ستساعدكِ في الخلاص من هذه المصيبة)

هزت رأسها بقوة رافضة ثم قالت بصوت لا رجعة فيه:
(مستحيل أن أفعلها...هل تريدين أن أفضح نفسي و أهل بيتي أمام معلمتنا؟!!!)

زفرت صديقتها بيأس تقول:
(بالله عليكِ هل هذا وقت الحفاظ على المظهر العام لعائلتكِ المصون...يا "رُبى" أنتِ في كابوس و بعد أيام قلائل سيتحول إلى حقيقة و سترتبطين برجل أكبر منكِ لا تعرفينه و لا رأيته في حياتكِ من قبل...)

احتدت نبرة صوتها فقالت بعناد متأصل بها:
(أخبرتكِ أنه لن يحدث أبدًا...أنا لن أتزوج لا بعد أيام و لا بعد سنين...لن أهدر مستقبلي الذي أحلم به من أجل رغبة أبي أو هذا العريس)

نظرت "رحمة" للوضع من منظور العملية فقالت:
(حسنًا وكيف ستمنعين حدوث ذلك؟!...)

تاهت عينا "رُبى" للبعيد تبحث داخل عقلها المراهق عن خطط تنقذها من براثن رابط سيلتف حول عنقها بعد أيام...

تنهدت "رحمة" ثانيةً و هي تراقب تبدل حالهما بين ليلة وضحاها...فقط بالأمس كانتا تتبادلان الضحكات و المزاح!... فكرت في شيء لكنه بدا لها أخرقًا ليس مناسبًا بالمرة و برغم ذلك نطقت به علّه يساعدهما...
(ماذا عن الاتصال بهذا العريس تطلبين منه أن يصرف نظر عن الزواج بكِ؟!...)

انتبهت حواسها لفكرة صديقتها...التفتت لها بكامل انتباهها تقول:
(لكني لا أملك رقم هاتفه...أنا لا أعرف اسمه حتى!)

همست لها بخفوت:
(توددي لوالدتكِ جاريهما في قبول فكرة الزواج ثم اسألي عنه و اجمعي المعلومات التي تساعدنا...)

وقفت "رُبى" بحدة تهدر بصوتها الغاضب:
(لن أتودد و لن أجاري أحد...زواج لن أتزوج انتهى الأمر....)
................................

خرجت خلف معلمتها و اللهفة بادية على محياها الوردي...لقد قصت لها كل شيء بعدما تصاعد الوضع مع صديقتها...طوال اليوم شاردة بعيدة و مذبوحة روحيًا...لذا لم تجد بد من الاستعانة بالآنسة "زينب"... و التي بمجرد ما سمعت الخبر سيطرت الدهشة عليها و خرجت مهرولة لتتفقد حال طالبتها...
(عفوًا أستاذ "كمال" هل يمكنني أخذ الطالبة "رُبى الحسيني" لدقائق؟)

صوتها الذي أخترق سكون و قدسية الهدوء للاستماع لحضرة العلم ، جعل الطالبات تحدقن في "رُبى" بدهشة...سمح لها الأستاذ "كمال" ببسمة ودودة ثم خرجت "رُبى" بحيرة من طلب الآنسة لها...فور خروجها لمحت "رحمة" تقف متشبثة بسترة المدرسة خلف ظهر الآنسة بتوتر و ترقب...

عقدت "رُبى" ما بين حاجبيها و قد أتضحت الصورة لها و فهمت ماذا سيحدث!... توجهت إلى "رحمة" قبل أن تستلمها "زينب" تقول بعتاب:
(لماذا فعلتي هذا يا "رحمة"؟!!... لقد أخبرتكِ أنني لا أريد معرفة الآنسة بما يحدث!)

همست "رحمة" بخجل من نفسها قبل صديقتها و قالت بصدق:
(أعتذر جدًا...لكن وضعكِ منذ الصباح لن اصمت عليه...كما أن الآنسة تحبنا و تعرف عن الحياة أكثر منا بكثير لذا ستساعدكِ...)

قالت من تحت ضروسها برفض مكتوم كي لا يصل إلى المعلمة:
(أنا لا أريد مسا...)

قاطعها صوت "زينب" التي انهت حديثها مع الأستاذ "كمال" تقول بسرعة:
(تعالِ معي إلى حجرة المعلمين يا "رُبى"...)
تقدمت و سبقتها حيث الحجرة بينما "رُبى" رمقت صديقتها بتأنيب و غضب...

في حجرة المعلمين...
جلست "زينب" فوق مكتبها بعملية و رغم ذلك استحوذت كل علامات الدهشة و الاستنكار عليها...ربتت فوق الكرسي القريب منها تقول:
(أجلسي جواري حبيبتي...)

حملقت في الكرسي طويلاً قبل أن تذهب إليه لتجلس جوارها مباشرةً...لا تعرف ماذا ستقول المعلمة أو بماذا ستجيب هي عليها؟!... ما حدث بين جدران بيتها لا يصح أن يعرفه الغير...ليس حبًا في كتم الاسرار العائلية ولكنه حرجًا من وضع والدها الذي بدا كبائع للجواري في سوق الرقيق!...
(هل حقاً ستتزوجين بعد أيام كما قيل ليّ؟!!)

رغم رعشة الرفض و القرف التي ضربت بجسدها الغض ...همست بخفوت ثقيل و مرهق:
(نعم...)

انقبضت يد "زينب" فوق مكتبها و لكنها فضلت الالتزام بالحيادية في الحديث...قالت بصوت هادئ للغاية:
(و ما رأيكِ في هذا القرار؟... )

أنفاسها التي تضرعت لها كي تخرج من محبس صدرها المشتعل كانت كافية لتجعل صدرها يعلو و يهبط بصورة ملحوظة...آثرت الخفوت مرة أخرى فقالت:
(أبي أعطى كلمته و أنتهى الأمر ...)

رفعت "زينب" حاجبيها بدهشة مستنكرة من خنوع هذه الفتاة بالذات...تعرفها جيدًا وتعرف كيف تتعامل مع الأمور حولها!... ليست جبانة أو منساقة هي فقط تتبع طريق حريتها و التي ظهر لها الآن أنه طريق مهدوم و مظلم...قالت بصوت مرتفع قليلاً و حدة امتزجت به:
(لقد سألتكِ عن رأيكِ و ليس ماذا فعل والدكِ!!)

رفعت عينيها إليها بجمود...بدت كطفلة تشتهي البكاء و لكن عقلها الناضج يحرق حقول الطفولة بداخلها و يأمرها بالثبات...أي عقل هذا الذي بسببه ستدفع روحها ثمنًا لشخص لا تعرفه؟!!!... تعمقت نظرتها داخل عين معلمتها فقالت بصوتٍ مرهق:
(و هل رأيّ سيغير شيء؟!... لقد حكمت المحكمة و نفذ الحكم عليّ..)

توجست ملامح وجه "زينب" بشدة و هي تقرأ اليأس من بين صفحات وجه طالبتها...ليس عدلاً أن تعيش طفلة مثلها رغم نضوج عقلها بكل هذا...قالت باستنكار:
(و ما دور والدتكِ في كل هذا؟!... ما رأيها هي أيضاً؟!)


ابتلعت "رُبى" طعم المُر في جوفها...لقد حدث ما لم ترضى به...المعلمة ستشكل صورة قاسية بألوان بشعة عن عائلتها...رغم كل شيء لا تحب هذا لا يجب أن تتشوه صورة أهلها أمام أحد...قررت و حسمت أمرها لتنهي كل هذا...ستساعد نفسها بنفسها دون اللجوء لأحد...قد ينتهي هذا الموقف و لكن لن تمحى صورة عائلتها من مخيلة المعلمة "زينب"...
(أنا لا أملك من أمري شيئاً...أبي وافق و أنتهى )

تنفست "زينب" نفسًا عميقًا لتهدأ ثورة الرفض بداخلها...ما يحدث ما هو إلا تعدي على حق طفلة و يحاسب عليه القانون...حاولت أن توضح لها الصورة كاملة لتضعها داخل الإطار الذي ستكون به بعد أيام...يا إلهي مجرد أيام سيحولون بها طفلة صغيرة لمرأة متزوجة!!... أي ظلم هذا؟!...
(حسنًا يا "رُبى" يبدو ليّ أنكِ موافقة ولو مبدئيًا...لذا هل تعرفين ما هو الزواج؟)


رفعت عينيها إلى المعلمة بسرعة تستشف معنى السؤال...لمحت "زينب" التخبط بداخلها لذا قالت:
(هل تعرفين ما هي المسئولية التي أنتِ بصددها الآن؟!... هل تعي معنى أن تكوني زوجة متحكمة في قرارات بيت و رجل و ربما أطفال؟!... هل حكت لكِ والدتكِ عن معنى الزواج أو كيف يحدث؟!...)

شهقت بصوتٍ خائف شاعرة بالنفور...وقفت من فوق كرسيها بجزع تقول بصدمة:
(آنسة "زينب"!!!)

تنهدت "زينب" وشعور بالتضامن مع هذه الصغيرة يعصف بكيانها...سحبتها برفقٍ من رسغها ثم أجلستها فوق كرسيها مجددًا تقول برقة:
(انظري حبيبتي الزواج ليس لعبة و ليس سهلاً... الزواج شيء جميل للغاية حينما يجتمع رجل و امرأة في بيت واحد ليصنعوا حياة جديدة خاصة بهما معاً...و ينعموا بأطفال يحملون ملامحهما معاً...يتشاركون الأفراح و الأحزان معاً...هذه هي المودة و الرحمة التي ذكرها الله في كتابه...لكن من أجل تحقيق كل هذا علينا الموازنة بين طرفين الزواج...يجب أن يكون كلا الطرفين متفاهمين و متقاربين ثقافيًا و فكريًا و روحيًا...ليس مجرد عقد و حفل عرس و انتهى الأمر...لذا من واجبي أن أنبهكِ لكل هذا...)

ابتسمت لها بسمة صغيرة زائفة ثم قالت:
(شكرًا لكِ آنستي...سأفعل كل ما بوسعي كي لا يتم الأمر...)

بادلتها "زينب" ببسمة تقول بصدق:
(لو تحتاجين مني التدخل و توضيح الأمر لوالدكِ سأفعل...)

هتفت بجزع متوتر تقول:
(لا تفعلي رجاءً...أبي يرفض مناقشته في أي قرار قد أتخذه...أنا سأجد حلاً و إن فشلت سأعود إليكِ)
ربتت "زينب" فوق كفها بحنان ثم قالت:
(أنا في الخدمة دائماً حبيبتي... فقط أنتبهِ لدروسكِ جيدًا)

اومأت لها برأسها ثم خرجت حيث "رحمة" التي كاد القلق يقتلها خلف الباب...أسرعت إليها تقول بلهفة:
(ماذا حدث؟!)

رمقتها صديقتها بحنق تقول:
(هل هذا ما أتفقنا عليه؟!... رجاءً "رحمة" لا تُدخلي أحدًا في شؤوني دون معرفتي)

قالت "رحمة" بحرج حزين:
(أعرف أنني تماديت لكن الله يشهد أنني أردت مساعدتكِ..)

زفرت بحدة تنعي حالها ثم نظرت لصديقتها تقول بيأس:
(أعرف "رحمة" أعرف...)

ربتت فوق كتفها ثم قالت بخفوت:
(إذًا ما الخطوة التالية بعد رفض مساعدة الآنسة "زينب"؟!)

شردت في البعيد تناجي الله أن يساعدها لإيجاد حل...أي حل بأي طريقة يُخرجها من هذه الكارثة... قالت بصوتٍ واهٍ خافت:
(لا يوجد حل سوى الوصول لرقم هاتفه....)

.......................................

كور يده بضعف قبالة باب الغرفة...تلك الحركة التي تكررت حوالي خمس مرات منذ وقف هنا...حالة من النفور سيطرت عليهم جميعاً بعد حديثه معهم ليلة أمس!... قرار زواج من فتاة لا يعرفها قد تمادى والدها ليقحمها في حياتهم فقط من أجل السيطرة على السوق...قصة غريبة و كأنها ليست قصتهم التي سيتعايشون معها قريبًا جدًا!... رفع يده مرة أخرى إلى الباب ثم دق عليه بقلب وجل...سمع صوت أخيه يأذن له بالدخول فزفر بقلة حيلة و فتح الباب...

راقبه يقف أمام مرآته يربط رابطة عنقه متأهبًا للخروج...تنحنح "مصطفى" يقول بحرج:
(صباح الخير ...)

نظر له "أحمد" عبر المرآة ليبتسم له بسمة أخوية خاصة به قائلاً:
(صباح الخير "مصطفى"...)

حك رأسه و الحرج يبلغ مبلغه معه لكنه قال بعد صمت:
(هل حقاً كان قرارك بالأمس قرار نهائي؟)

أنتهى من ربطها و اتجه إلى سريره يلتقط سترته و يضعها عليه...حدق في أخيه الصغير هذا الوسيم الذي ترعرع على يده قبل سنوات...أشعره فيهم أنه أب يخشى على وليده من الهواء...ابتسم رغم مرارة الموقف و أنين الجرح فقال:
(نعم...لقد اتخذت قراري)

هبت عاصفة "مصطفى" بعدما حاول كبحها بكل قوته فقال رافضًا:
(كيف تتعامل مع الوضع بهذه السهولة؟!... أمي و جدتي لم يناما منذ الأمس بسبب هذه القرار الغريب...و أنت كيف تقبلها أن تربط فتاة لا تعرفها بك لمجرد الحفاظ على شركتنا؟)

توقف قليلاً يسحب نفسًا كبيرًا ثم قال بصوت أظهر ما يعانيه من قلة حيلة و فراغ اليد:
(كيف تقبل بيع نفسك يا أخي؟...)

كخنجر مسموم غزا قلبه ليسحب روحه المعذبة دون شفقة...يا لها من جملة ضربه بها أخاه الأصغر في صميم رجولته!... بيع النفس موهبة تعلمها بحرفية في عمر صغير...كم هو شعور قاسي تتعايش معه!... تبيع روحك مقابل أناس حولك يهمونك...ماذا يفعل في موقف كهذا؟!... بالطبع ككل مرة يضحي براحته و أحلامه من أجلهم ...ماذا سيكون وضعهم لو رفض؟...هل سيقبل أن تعيش عائلته في حالة من الفقر الذي سينهش في لحمهم...لن يقبل و قبوله بهذا البيع كما وصفه "مصطفى" هو تذكرة عبور لبر الأمان...طأطأ رأسه للأسفل و كلمة أخيه ترن في خلايا عقله توجعه...صمت و صمت معه كل شيء...

راقب "مصطفى" تغير حالة أخيه...يقف محني الظهر و القهر يسيطر عليه...عكازه المتين الذي اتكأ عليه يومًا كي يشب و يناطح الدنيا دون هم...يقف الآن مكسورًا بشكل مخيف...لعن نفسه في سره و لعن تسرعه و كلامه قبل لحظات...تقدم منه يقول بخوف و حرج:
(أخي أنا لم أقصد...أقسم لك صدر مني كل هذا خوفًا عليك و رفضًا لتضحية كبيرة كتلك!)

لم يصدر منه أي رد فعل لكنه بعد لحظات رفع رأسه يقابل وجه أخيه الصغير...حاول قدر إمكانه أن يبتسم له كعادته لكنها خرجت مهزوزة بشكل نشب الحريق في قلب "مصطفى"...تقدم منه ثم ربت على كتفه قائلاً بصوتٍ هادئ:
(تجبرنا الحياة على بيع كل ما هو ذا قيمة عندنا...)

حاول "مصطفى" ايجاد اي كلمة يوضح بها نيته... تلعثم أكثر من مرة ليقول:
("أحمد" أنت دومًا غاليًا و رجلاً اتباهى به... لكن لا تفعل هذا رجاءً)

شدد من قبضته فوق كتف أخيه ثم قال :
(لا تخشى على أخيك فالأثقال خُلقت كي أحملها...يجب أن أذهب الآن إلى الشركة لأنهي بعض الأوراق المتعلقة بشراكتنا الجديدة...)

تركه و أسرع للخروج بينما وجهه تيبس تمامًا و جلمة أخيه الصغير تهدم أسوار رجولته و تعيق حركتها...

همس "مصطفى" بحزن جلي بعدما خرج "أحمد" من غرفته:
(الأثقال خُلقت لتبرهن لنا كل مرة أنك جبل شامخ رابض فوق الأرض...حماك الله يا أخي و حفظك لنا....)

سمع رنين هاتفه يعلن عن وصول رسالة نصية...فتحه يقرأ ما تم إرساله من اسم "غصن الزيتون"... ابتسم ببطء يستشعر حلاوة وجودها في حياته...هذه الفتاة التي سرقت قلبه قبل سنوات و الآن تتدلل عليه كما يحلو لها ..

«يا متعسف سأصل أرض الوطن بعد الغد...أريد أن أجد المطار مُحاط بالورود و الياسمين استقبالاً ليّ...أحبك أيها الدكتاتوري»

رفع هاتفه يتصل بها و كله شوق لرؤيتها...بعد لحظات وصله صوتها الساحر عبر الهاتف تقول بدلال:
(هل رسالتي لها هذا التأثير الكبير؟!... لو كنت أعرف لبعثت لك ألف رسالة يوميًا كي تتكرم و تُسمعني صوتك الذي افتقدته...)

أغمض عينيه تاركًا صوتها الرائع يدغدغ مشاعره التي نمت من أجلها قبل سنوات...ابتسم رغم كل ما يعيشه هذه الأيام فقال باشتياق:
(أنا متعسف ها؟!... و دكتاتوري أليس كذلك؟... و أنتِ يليق بكِ لقب متحجرة القلب...)

ضحكت عاليًا بصوتها الجميل ثم قالت بنعومة:
(لا أحب هذا اللقب "مصطفى"...ما به غصن الزيتون الذي يُشعرني أني أجمل فتاة على وجه الأرض؟!)

تنهد مستمتعًا بحديثها متنعمًا بوجودها حوله...تزين حياته بعدما أقنعها بعد عناء للارتباط به...قال بصوت خافت تعشقه هي منه:
(غصن الزيتون تستحقه فتاتي التي تسمع كلمتي و ليست متحجرة القلب التي تهاتفني...)

زفرت بطفولية محببة لديه تقول:
(ألم أخبرك أنك دكتاتوري متعسف ...كل مرة أسافر بها تفعل هذا و تُشعرني بالذنب!)

قال بحنق زائف يجاري طفولتها:
(يمكن حدث ذلك بسبب كثرة سفركِ!... أو بسبب تعليمكِ الذي لا ينضب...مرة ماجيستير و بعدها دكتوراه ثم دراسات عليا و الله أعلم ماذا بعد!!!)


ضحكت بخفوت بسبب صوته المتذمر لكنها حاولت أن تحفظ وقارها فقالت:
(ألا يعجبك كون خطيبتك ذات شهادات عليا؟!...)

وصلها صوته المشتاق لأقصى حد يقول:
(يكفي أن تحملي ورقة زواجنا و هذه عندي بالدنيا و ما فيها...)

سمع صوتها المتلعثم و أدرك الآن أنها تلونت كحبة فراولة لذيذة سيذوب لتذوقها...قال بنبرة عاشقة:
(اشتقت لكِ يا "ندى"...)

همست بخجل عبر الهاتف:
(أنا أيضاً...اشتقت لك كثيرا)

تحول صوته للجدية يسألها عن أحوالها باهتمام:
(كيف كانت مناقشة رسالتكِ ؟)

قالت بفخر معتزة بما وصلت له:
(كانت رائعة... لقد حصلت على المركز الثاني الحمد لله)

تهللت اساريره يقول بحب:
(مبارك حبيبتي...مبارك يا غصن الزيتون)

هتفت به بحدة مصطنعة بعدما فقدت توازنها بسبب صوته الذي يحطم أسوارها:
(حسنا...أنا حاليًا مشغولة جدا و عليّ إغلاق الخط...بعد الغد ميعادنا)

قال برقة باعثًا كل مشاعره في جملته:
(بعد الغد ميعادنا يا غصن الزيتون...و كم أشتاق أنا لرؤية غصنكِ المتمايل في رقة مهلكة)

همهمت ببعض الكلمات الغير مفهومة ثم أغلقت الخط لتتركه يضحك على خجلها اللذيذ..."ندى" الوحيدة القادرة على تبديد أي حزن بداخله بعد أخيه "أحمد"....

...................................

زفرت بصوت عالٍ ثم تعلقت عيناها بمرآة السيارة الأمامية...تراقب السائق الخاص الذي وكله والدها لتوصيلها...عادت ببصرها حيث كف يدها الذي انقبض بتوتر مما هي مقبلة عليه...رفعت بصرها مرة أخرى له ثم قالت بعد فترة قصيرة من الصمت المشحون بالخوف:
(عم "عادل" هل تعرف رقم سكرتير أبي؟...)

نظر لها عم "عادل" الذي عبر الستين من العمر بعينيه التي أحاطتها التجاعيد...قال بصوته الخافت بفعل العمر:
(هل تحتاجين لشيء يا ابنتي؟!...)

تلعثمت أكثر من مرة و لكنها قالت بسرعة:
(نعم...لا... أقصد نعم أحتاج مساعدته في شيء)

عقد العم "عادل" ما بين حاجبيه بدهشة فقال:
(يمكنكِ طلب ما تريدين مني أو من والدكِ...لماذا نصل لسكرتيره؟!)

عضت على شفتيها بقوة حتى كادت تنزف من شدة الترقب...همست بخفوت واهٍ تقول:
(أنا أحتاج مساعدته في بعض مسائل الرياضيات لأنه جيد بها كما عرفت...)

صمتت تلعن غباء كذبتها...أي مسائل هذه التي تتواصل بسببها مع سكرتير والدها...حمدت الله أن العم "عادل" صدق الأمر فقال:
(و الله يا ابنتي أريد أن أساعدكِ لكني لا أعرف رقم هاتفه...هل اسأل عنه؟!)

تنفست بصعوبة و هي ترى أول محاولة للوصول إلى هذا العريس المجهول تبوء بالفشل...قالت بحزن:
(لا شكراً لك يا عم "عادل"....)

بالطبع لن تسأله المزيد...فالعم "عادل" رجل طيب القلب و يحمل لوالدها جميل مساعدته من قبل...لذا فإن تقريرها اليومي يصل لوالدها عبر العم "عادل"... بالتأكيد لو تعمقت معه في طلب رقم السكرتير سيخبر والدها و سينتهي خلاصها من الزواج قبل أن يبدأ!...

توقفت السيارة أمام البوابة الحديدية التابعة لبيتها في الحي الراقي...ترجلت منها بيأس ثم توجهت إلى الباب...فتحت لها "كريمة" بعد لحظات و الحزن يخيم عينيها... همست "رُبى" بجزع لها:
(ماذا حدث يا "كريمة" وجهكِ حزين؟!...)

تنهدت الخادمة بحسرة و مرار فقالت:
(لا شيء آنسة "رُبى"...)

حملت منها الحقيبة ثم أفسحت لها مجالاً كي تصل إلى الداخل...فور دخولها للصالة الكبيرة في الدور الأرضي سمعت بعض الأصوات العالية و ربما صاخبة... و هذا حدث نادر الحدوث في بيتها الذي يسير بنظام و دقة من أجل والدها...عادت سريعًا للخلف تتشبث بذراع الخادمة تقول:
("كريمة" من بالداخل؟!...)

نظرت لها الخادمة نظرات متوترة مما ستقوله و من رد فعلها...قالت بصوت يائس و حزين:
(والدتكِ معها بعض المصممين الذين يجهزون لكِ...فستان العرس)

تصلب كفها فوق ذراع "كريمة"...غامت عيناها بخيط رفيع من الدموع...لقد كتبوا نهايتها و الآن يسعون لتحقيقها...لحظات و تحولت دموعها لنيران هوجاء جعلت الخادمة تقبض عليها بكلتا يديها تتوسل لها بصوت خافت:
(أرجوكِ يا آنسة "رُبى" تمهلي...لا تدخلي لهم و أنتِ منفعلة هكذا رجاءً ستسوء الأوضاع)

صاحت بصوتها الغاضب العالي دون الاهتمام لأحد:
(أي سوء؟... هل يوجد ما هو أسوء مما يفعلوه؟)

أسرعت إلى الصالة تهتف بكل المتواجدين بحدة فجة:
(للخارج جميعكم هيا...لا أريد أن أرى أحد أمامي أنا لن أتزوج هل تفهمون؟!!!)

أجفلت "رباب" على صوت ابنتها فانتفضت من مجلسها تطالع الجميع بأعين مصدومة...راقبت هيئة ابنتها التي دلت على انفجار وشيك و هذا ما حاولت توصيله لزوجها أن "رُبى" ليست "ريهام" و لن تخضع لهما أو تقبل ما لا تريد... حاولت لملمة الأمر بشيء من الرقي فقالت بهدوء زائف:
(عذرًا للجميع... ابنتي متوترة بسبب أجواء العرس القريب...)

اومأ لها معظم المتواجدين و بعضهم اتسعت عيناه من تقرير الابنة الصغرى و هو عدم قبولها هذا الزواج ... التفتت "رباب" تقول لابنتها برجاء خفي:
(حبيبتي اذهبي إلى غرفتكِ و ارتاحي قليلاً...تبدين مرهقة)

ضحكت "رُبى" بسخرية ثم صلبت طولها أمام الجميع لتقول بصوت مستهزأ:
(بالتأكيد مرهقة يا أمي...فالعروس عادت للتو من مدرستها)

تعالت الهمهمات بين المتواجدين مما جعل دقات قلب أمها تزداد و شعور أن الأمر سيُفضح بين الجميع يلوح في الأفق...همست لها بتوسل:
("رُبى" راقبي حديثكِ رجاءً...)

ابتسمت لها بسمة متهكمة ثم وزعت نظراتها على الأقمشة البيضاء الناعمة فوق الأرائك و على أرضية الصالة المغطاة بسجاد فاخر النوع...طالت نظرتها تجاه هيكل غير مكتمل لفستان العرس...رغم رونق و جمال اللون الأبيض...رغم السعادة التي تدق قلب أي فتاة حينما تطالع فستان الزفاف...رغم الفرحة التي تشع في قلب أي عروس...هي تشعر بالخوف و القرف...تشعر أنه قماش كفنها و ليس عرسها... بحق الله أي عرس هذا الذي كُتب عليها جبرًا؟!... عادت تنظر لوالدتها مرة أخرى تتشدق بكلمات متوترة رغم كم الغضب بها:
(أمي أنا لن أتزوج...لن أفعل أبداً)



لملم المصممون أدواتهم في حرج من الموقف برمته...ثم استعد رئيسهم ليقف أمام "رباب" يقول ببسمة عملية:
(لا بأس سيدة "رباب" لقد مر علينا الكثير مثل هذه المواقف...العروس دومًا ترتعب قبل العرس هذا شيء مسلم به)

احتدت نظرة "رُبى" و هي تتابع لملمة أدواتهم...لم تهتم بالسيل الجارف الغاضب من عين والدتها و التي استطاعت "كريمة" سحبها بعيدا لتهدئة الموقف...استعدت "رُبى" لتصعد للغرفة بعدما أفرغت شحنة غضب مكبوت بداخلها...لكنها تسمرت حينما سمعت همهمة إحدى العاملات تهمس لصديقتها بتعجب:
(لقد أخبرتكِ سرعتهم في إقامة حفل العرس يدل على خطبًا ما)

همست الأخرى بخفوت:
(و الله معكِ حق لقد سمعت أن العريس هو "أحمد النجار" صاحب شركة "النجار" التي سقطت قبل أيام في سوق البورصة...ما الذي يدفع شاب مثله للزواج من طالبة في زي المدرسة؟!)

نظرت الاولى في كل اتجاه ثم قالت:
(ليس لنا دخل...الله ستار على عباده)
لم تعبأ لأي كلمة قيلت أو نية خبيثة توارت خلف هذا الحديث بعدما التقطت أذنها اسمه..."أحمد النجار" و اخيرا وصلت لطرف الخيط و عليها فكه بكل قوتها من حول رقبتها...


.......................................

(الوضع بات صعبًا يا "هاشم"... ابنتك لن تقبل هذا الزواج)
بداخل غرفة نومهما وقفت "رباب" خلف زوجها الذي سحبته فور وصوله من العمل هنا...قصت عليه كل ما حدث و رد فعل ابنتهما...

نزع سترته بحدة ثم القاها فوق السرير قائلاً بغضب:
(العرس بعد أيام و لن يتغير شيء...الشاب رائع و قد طلبها للزواج و أنا قبلت...أم تتوقعين أنني أعطي ابنتي لأيًا كان؟!!)

شددت بيدها فوق رأسها و كأنها تريد اقتلاع بصيلات شعرها...تراجعت بوهن حتى استقرت فوق السرير و صدر صوتها الضعيف تقول:
(و "معاذ" ابن أخي شخص رائع أيضاً لكن أنظر أي حياة عاشها مع ابنتنا...)

هتف بحدة رافضًا التمادي في هذا الحديث:
(استقرت حياتهما الآن لذا لا بأس ...)

هدرت بصوتها المستنكر:
(هل تعتقد أن هذا الاستقرار المزعوم حقيقيًا؟!... أنا أشعر أن ابنتي و زوجها لا زالا يعانيان..)

جلس جوارها فوق السرير يربت فوق فخذها بتعب:
(أنا لا أفرط في بناتي يا "رباب"...اقسم لكِ أنني أزوجهما لمن يصونهما)

تنهدت بضعف تقول:
(أعرف نيتك يا "هاشم" كما أعرف أنك لا تخطي خطوة إلا إذا كان وراءها مكسب)

تأفف بصوت عالٍ قائلاً بضجر:
("رباب" أنا أسعى لراحتكم جميعاً ...)

امسكت كفه بتوسل تقول:
(ارجوك يا "هاشم" أوقف كل هذا... ستضيع منا ابنتنا هذا الرجل ليس "معاذ" ابن أخي ليحتوي ابنتنا لا نعرف في أي بيت ستعيش وسط أي ناس...أتوسل لخالقك أنهي هذا كله قبل أن يقلب حياتنا لكابوس لا صحوة منه...)

وقف مسرعًا من فوق السرير و كأنه يرفض سماع هذه الكلمات تحديدا...هو متأكد أن ما يفعله يصب في مصلحة الجميع و لن يخرج أحد خاسرا...
(لا تشتتي عقلكِ يا "رباب" في أمور سوف تحدث في مستقبل لا يعلمه إلا الله...دعي كل شيء يسير كما هو مقدر له)

سقطت رأسها بيأس تردد بخفوت متعب:
(لله الأمر من قبل و من بعد...)


رفعت أذنها من فوق باب غرفة والديها...بعدما كانت تتنصت عليهما لأول مرة متخلية عن تربيتها و قيمها التي نشأت عليها...لكن هي في أمر يحق لها فعل أي شيء فيه لتنجو بنفسها...شعرت بحركة في مقبض الباب لذا أسرعت تجري في الممر الكبير تختبأ خلف فازة كبيرة الحجم...
خرج والداها من غرفتهما لينزلا لتناول الغداء...تنفست الصعداء و بخطوات حذرة اقتربت من غرفتهما...أمسكت المقبض بيد مرتعشة و ضربات قلب صاخبة...ستفعلها لأول مرة وتقتحم غرفتهما دون إذن و هما خارجها...اغمضت عينيها ثم همست لنفسها:
(هيا يا ابنتي علينا فعلها...)

دخلت الغرفة و عيناها تنقب بجدية عن شيء معين...والدها شديد الترتيب و النظام و هذا سيسهل عليها البحث...تقدمت من الطاولة بجوار السرير ثم مدت يدها تقلب في الأشياء بقلة صبر...اتسعت بسمتها حينما لمست بيدها الهاتف النقال...أخيرا وصلت له بعد كل شيء...فتحته بيد مهتزة من التوتر و عيناها تراقب الباب كل ثانية...قلبت في قائمة الأسماء حتى كاد الصبر أن ينفذ و الخطة تنتهي بالفشل الذريع.. لكن اسمه الذي ظهر منيرًا فوق شاشة الهاتف كنجم الفرقد الذي يهدي الناس في ظلمة القطب الشمالي...لم تكن تعرف أن وصولها له سيجعلها ترتج من داخلها بهذا الشكل...و كأنه ينبع من أعماقها خليط من الحماس و الترقب و الخوف ...أخرجت هاتفها من جيب منامتها الرياضية بسرعة بينما عيناها تراقب الباب...بأصابع مرتعشة سجلت الرقم عليه و لكن صوت "كريمة" جاء فجأة جعلها تجفل و أوشك هاتف والدها على السقوط...اسرعت تضعه في مكانه بحرص و خرجت تراقب الأجواء...

وجدت الخادمة تبحث عنها في الممر عندما لم تجدها في غرفتها...وقفت خلفها ثم قالت بهدوء:
(أنا هنا يا "كريمة"...)

التفتت لها تطالعها بحزن قائلة:
(ينتظرونكِ على الغداء...)

اومأت لها قائلة:
(حسنا اسبقيني للأسفل و أنا سأنزل بعد قليل...)

ربتت "كريمة" فوق كتفها تقول:
(لا تحزني ربكِ كريم...لا تتأخري كثيرا حتى لا يغضب والدكِ...)

راقبت ابتعاد "كريمة" عنها ثم اسرعت إلى غرفتها تنفذ الخطوة التي تعتقد أنها خلاصها من كل هذا...سحبت نفسًا عميقًا تهدأ خوفها الكامن بصدرها ثم زفرته دفعة واحدة مع ضغطة فوق الشاشة لتعلن عن اتصالها به.....
قلق...ترقب...توتر...خوف و....رنين لا ينتهي........

.....................................

وقفت قبالته بجسدها الممشوق داخل حلة عملية رسمية تفصل جسدها بحرفية كبيرة...شعرها الأشقر منسدل فوق كتفيها بحرية أعطتها مظهر محبب للنظر...تخصرت بضجر بينما تراقبه منكبًا على أكثر من ملف ينهي كل ما فيه كي يستعد لشراكة كبيرة ستنتشل شركته من الفقر...صدر صوتها الحانق يقطع عنه تركيزه فقالت:
(لا أعرف كيف توافق مجموعة الشركات هذه على شراكتنا دون شروط!...)

رفع عينيه البنية الغامقة يرمقها بنظرة تعرفها جيدًا...نظرة تطلب منها الصمت كي يتابع ما يفعله...زفرت بحدة تقول:
(لن اصمت هذه المرة يا "أحمد" من حقي على الأقل كسكرتيرتك أن أعرف كيف ستتم هذه الشراكة!)

ألقى القلم من يده فوق سطح المكتب ثم عاد بظهره للخلف لتبرز عضلات صدره من القميص الأبيض...قال بهدوء و ارهاق بادي على صوته:
(لقد أخبرتكِ يا "سارة" هذه الشراكة ستعتمد على سمعتنا في السوق بغض النظر عما وصل إليه حالنا الآن ...)

عقدت حاجبيها بتعجب تقول بحنكة عملية مشهورة بها:
(أي سمعة هذه التي تتحدث عنها...في مجال رجال الأعمال المال هو اللسان المتكلم و ليست السمعة )

جلست فوق الكرسي المقابل له و شردت في الفراغ أمامها تقول بملامح متخوفة:
(أخشى أن ندخل في مصيدة حاكوها لنا...)

تنهد "أحمد" و فرك عينيه بتعب يقول:
(ارتاحي قليلاً فأنا درست الوضع جيدا...)

تابعت حركته المتعبة ثم وقفت لتتجه إليه تقول بلهجة ناعمة:
(أنت متعب للغاية... أترك العمل و تعال نتناول الغداء بالخارج)


انتفضت عضلات جسده حينما لامست كتفه بأصابعها الطويلة...اعتدل في كرسيه يبتعد عنها قليلاً ثم قال:
(لا...أنا سأنهي هذه الملفات ثم أعود للبيت...عليكِ الرحيل لقد تأخر الوقت بالفعل)

ابتعدت عنه حتى وصلت إلى كرسيها ثم أمسكته تهزه بينما عيناها ترمقه بتعجب...متيقنة من وجود خطبًا ما يحدث معه...قالت بدلال:
(لا يهم تأخر الوقت أنا لن أتركك في هذه الحالة)

رفع بصره لها ثم تنهد بتعب يقول:
("سارة" لا تتعبيني معكِ هل أنا طفل صغير كي تبقي معي؟!... هيا إلى البيت)

تأففت بصوت عالٍ ثم انحنت تحمل حقيبتها فوق ذراعها...لوحت له بالوداع و خرجت من باب المكتب لتتركه بمفرده....

أراح رأسه على كرسيه ينظر في سقف الغرفة و الهم يثقل عزمه...لا يعرف كيف عليه نشر خبر زواجه المزعوم...و كيف سيقولها ل "سارة"... وقف يتجه إلى نافذة المكتب الزجاجية المطلة على الشارع العام...زفر بإرهاق يطالع الأنوار المنطلقة بسرعة بفعل سرعة سيارتها... "سارة" حتى الآن لا يعرف موقعها من الإعراب في حياته...هل هي سكرتيرته أم حبيبته أم خطيبته؟!... وجودها معه طوال الوقت و فهمها له و قربها منه الذي دفع بداخلها شعور أنه خطيبته بالفعل...أما هو لا يمانع لا يصدر أي قرار بشأنهما معًا ... و كأنه يسلم بحقيقة ترابطهما الغير موجود حتى الآن!... لكن لا يريد أن يخبرها بخطوته التي لا يعرف بشأنها سوى عائلته...تكالبت عليه الأفكار و قيدت حرية تفكيره مما دفعه لإسناد رأسه بتعب فوق زجاج النافذة... أغمض عينيه يلجأ للسكون متمنياً أن ينتهي هذا الكابوس...

فوق مكتبه اضاء رقم غريب شاشة هاتفه و لكنه على وضع الصامت...ضوء جاء يشق تعنت قرار مصيري وضعا به معًا...ضوء شق عتمة الترقب في القلب ليمد له يد المساعدة التي ينشدها كل منهما...ضوء بسبب كثرة همومه لم يلحظه و تركه حتى خفت و تلاشى في ظلمة فضاء واسع تهيم به روحيهما المكبلة.....

عاد إلى بيته ليقابل وجه والدته الحزين منذ علمت قراره...ترك حقيبته جانبًا ثم مال على خدها يطبع قبلة حانية... رغم ما تشعره من رفض رفعت يدها تربت فوق ظهره بحنان و تضامن...همست بجوار أذنه لعلّه يثني عن قراره:
(غيّر رأيك يا بني و صدقتي سنجد حلاً غير هذا...)

أغمض عينيه فوق كتفها يريح الصخب بداخله... اعتدل يقبل جبهتها قائلا ببسمة صغيرة:
(لقد وقعت عقد الشراكة بيننا اليوم يا أمي...)

اغلقت عينيها بيأس ثم همست تقول:
(لماذا يا "أحمد" هذا التسرع؟... لن نبيت في الشارع غداً!!)

أمسك كفيها معًا لتستقر داخل كفيه الرجوليين العريضين...قبض عليهما بحنان يقول:
(لماذا هذا الخوف يا أمي...عليها هي أن تخشى دخول عائلة غير عائلتها و ليس أنا)

تحولت ملامحها إلى الكره ثم قالت بحدة:
(و هل تعتقد أنها مجبرة على الزواج مثلك؟!...بالتأكيد متفقة هي مع والدها و ربما الخطة من وضعها)

ضحك بخفوت مرير لها يقول:
(أشعر كأني فتاة يوضع من أجلي الخطط كي أسقط في شباك العرائس...أنا رجل يا أمي و الزواج بهذه الطريقة أو غيرها لن يؤثر في حياتي)

رفعت كفها إلى وجهه القمحي تلمس على لحيته النامية باستحياء بحنان كبير ...قالت بحب:
(بل أنت مطمع لكل الناس يا حبيبي...كما أني أعرف أنك شخص يقدس المشاعر و العلاقات فلا تمثل علي أنا تحديدا أنك لا تبالي...)

لثم وجهها بمشاغبة طفيفة ثم قال بينما ينزع سترته:
(أنا حقًا هذه المرة لا أبالي...أمي هذه الزيجة هي مجرد ورقة تحمي شركتنا و ننهي بها وضعنا حتى نستقر على بر آمن...)

وصلت المربية "حنان" إليهما تشغل بسمتها المحبة مساحة وجهها بالكامل...تقدمت منه تحمل سترته مما جعله يرفع ذراعه إليها و يحتويها أسفله قائلا بحب:
(لا يوجد في هذا البيت من يبارك ليّ سواكِ أنتِ يا "حنان"... )

نظرت له بحزن خيم على عينيها لكنها آثرت الابتسام فقالت:
(مبارك لك يا حبيبي...جعلها الله زيجة العمر التي لا تندم عليها أبدا)

اتسعت عينا "سوزان" تقول برفض:
(لا يا "حنان" لا تدعي بمثل هذا الدعاء...إنها مصيبة كُتبت عليه و أنتِ تتمنين استمرارها طوال العمر!)

تنهدت "حنان" تشعر بالثقل الذي يجثو على قلب "أحمد" لكنها ابتسمت كي تزيح عنه شقاء قراره:
(لا نعرف بعد يا سيدة "سوزان" ما كُتب لنا...سيعوضه الله خيرا )

راقبهما بعينيه المثقلة بالاختناق لكنه قال بمرح زائف:
(حسنا يا سيداتي أنا جائع أليس هناك طعام اليوم؟!)

ابتسمت والدته تقول له:
(أدخل يا حبيبي فاليوم أعدت لك "حنان" طعامك المفضل...)

ابتسم لها تحت ذراعه ثم قال بشكر:
(الله اشتقت كثيرا لتذوق محشو ورق العنب من يديكِ يا "حنان"...)

سحبت سترته ببسمة و شعور بالرضا يجتاحها أنها على الأقل تمنحه الفرحة ولو بشيء بسيط...قالت بينما تربت على كتفه:
(بالهناء حبيبي...هيا اغسل يديك و اتجه للسفرة حالما اسكب الطعام)


اومأ لها ببسمة و تركهما مسرعا متأهبًا لتناول ما يحب...نظرت كل منهما للأخرى نظرات حزينة عليه و تنهدتا بلا صوت كي لا يحملانه فوق طاقته...ربتت "حنان" على ذراع "سوزان" مواسية لها ثم اتجهت إلى المطبخ....

وقفت تضع الطعام في الأطباق المخصصة له حتى تخرجه إلى السفرة...وضعت كل حبها و مشاعرها في هذا الطعام علّه يخفف وطأة ما يعيشه أهل هذا البيت...لدرجة أنها دخلت بسترته المطبخ دون أن تنتبه لذلك...وضعتها فوق ظهر الكرسي الخشبي لطاولة المطبخ مما جعل الجيب الداخلي لها ظاهرا للعين... أثناء سكبها للطعام لاحظت الضوء القادم من جيب سترته الداخلي...تركت ما بيدها و اتجهت له لتخرج هاتفه النقال و تقرأ الرقم الغريب عليه...صمت الهاتف فجأة مما جعلها تعاود إلى طعامها...ثواني و صدر الضوء ثانيةً مما جعلها تفتح الخط بسرعة لتعرف هوية المتصل حتى يخرج "أحمد" من الحمام....
(مرحباً من معي؟!...)

ابعدت "رُبى" الهاتف عن اذنها تنظر له بتعجب...الرقم هو الذي سجلته من هاتف والدها...عاودت تضعه مرة أخرى ثم قالت بخفوت:
(مرحباً أليس هذا رقم "أحمد النجار"؟!)

تعجبت "حنان" من صوت المتصلة...تبدو كفتاة في مقتبل العمر إن لم تكن مجرد فتاة صغيرة...قالت بهدوء:
(نعم هو بالفعل لكنه مشغول الآن...من أنتِ كي أخبره؟)

تلعثمت "رُبى" و بدأ التوتر يحتلها...قالت بعد مدة قصيرة:
(رجاءً أخبريه أهمية معاودة الاتصال بهذا الرقم لأمر هام...)

عقدت "حنان" حاجبيها بتعجب فقالت بسرعة:
(عفوًا لكن أي أمر هذا الذي .....)

قطعت جملتها حينما سمعت صوت الصافرة تعلن عن انقطاع الخط... ابعدت الهاتف عن أذنها بدهشة ثم عادت لتحمل الأطباق و في نيتها أن تخبره بهذا الاتصال الغريب ....

.......................................

دست الهاتف بين كتبها فوق السرير حينما سمعت دقات على باب غرفتها...دخلت "كريمة" تحمل معها كوبًا من اللبن الدافئ تعطيه لها...قالت "رُبى" بتقزز:
(عودي به إلى المطبخ يا "كريمة" أنا لا أحب الألبان أو مشتقاتها!!)

وضعت "كريمة" الكوب فوق الطاولة المجاورة للسرير تقول بهدوء:
(اللبن سيرخي أعصابكِ و يساعدكِ على النوم قريرة العين....)

صدح صوتها الغاضب تقول:
(أي نوم و أي سكينة و أنا أعاني بسبب قرارهم؟!)

اسرعت "كريمة" تضع يدها فوق فمها تكتم باقي الحديث...ترجتها تقول:
(اصمتي رجاءً والدكِ لو سمعكِ ستحدث مصيبة)

حاولت كثيرا حتى نجحت في إفلات فمها من قبضة الخادمة...قالت بحدة:
(يسمع من يسمع أنا لن أتزوج...لن أتزوج هل هي صعبة لهذه الدرجة كي تفهموها؟!!)

ربتت "كريمة" فوق صدرها بتوسل تقول:
(حسنا أهدأي و سأخذ اللبن معي...لكن رجاءً دعي الليلة تفوت على خير فالجو مشحون بين والديكِ)

زفرت بحدة مرهقة ثم قالت بخفوت متعب:
(اتركيني بالله عليكِ يا "كريمة"... أريد أن أبقى بمفردي)

حملت الكوب و اتجهت إلى باب الغرفة تدعي الله أن ينتهي هذا الوضع على خير...
نظرت "رُبى" إلى هاتفها برجاء أن يعاود الاتصال بها كي تطلب منه تركها وشأنها للأبد....


بعد منتصف الليل....

ارتمى فوق سريره بمنامته البيتية يسرح في سقف غرفته يفكر بهدوء في خطواته التالية... سمع طرقًا على بابه فعقد حاجبيه بتعجب ثم استقام يتجه إليه...فتحه لتظهر "حنان" بملابس نومها البسيطة تقول له بصوت ناعس:
(الحمد لله أنك مستيقظ...)

اقترب منها يقول بترقب:
(ماذا هناك؟!)

ربتت فوق كتفه قائلة:
(لا تخف...فقط عند الغداء اتصلت فتاة بك و طلبت محادثتك و أنا نسيت الأمر تماما ...)

قال بدهشة:
(فتاة!!!...)

لاحظ تثائبها فقال بحنان:
(حسنا سأرى هاتفي...اذهبي للنوم )

ابتسمت له تقول:
(تصبح على خير يا حبيبي)
بادلها التحية ثم اغلق بابه و اتجه إلى هاتفه بحاجبين معقودين بدهشة...فتش به فوجد رقم غريب قد حاول التواصل معه مرات عديدة...جلس فوق سريره بعدما ضغط اتصال و وضعه فوق أذنه...


تتقلب في سريرها بعدما جفاها النوم...تنظر إلى هاتفها برجاء لم ينقطع...تسمرت حينما صدر الضوء بعدما كتمت الصوت...اعتدلت بسرعة تقرأ ارقامه التي حفظتها عن ظهر قلب في وقت قصير...كيف لا وهي أرقام نجاتها...ضربات قلبها زادت بشكل مبالغ به فهي على وشك نيل الحرية...فتحت الخط بلهفة و خوف في نفس اللحظة...تجمدت حينما وصلها صوته الرزين المسيطر عليه النوم يقول بهدوء:
(مرحباً هذا الرقم اتصل بيّ من قبل...من معي؟)

وقفت من فوق سريرها لا تعرف ماذا تقول؟!... كيف ستبدأ الكلام؟!... رغم أنها جهزت له الكثير منه لكنه تبخر!... عاود يسأل مجددا بهدوء:
(هل لا زلتِ معي؟!...)

همست بخفوت خائف كلمة واحدة:
(أنا....)

ارتفع حاجبه بدهشة كبيرة حينما صدرت صافرة انقطاع الاتصال!!!... حدق في هاتفه طويلاً ثم القاه جانبا ليعاود النوم يغمغم بتعجب:
(هل أصبحت الفتيات تعاكس عبر الهاتف أم ماذا؟!)

وضعت هاتفها خلف ظهرها حينما فتح والدها الباب فجأة...لقد سمع صوت حركة و تبعه همهمة من غرفتها في وقت يجب أن تكون قد نامت به...دخل "هاشم" ينظر لها بشك فقال:
(لماذا أنتِ مستيقظة حتى الآن؟!)

تلعثمت تقول:
(لا شيء فقط أرق...)

ضيق عينيه غير مقتنع بما تقول فتقدم منها ينظر ليدها خلف ظهرها:
(ما بها يدكِ...)

ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة تقول:
(لا شيء...)

وقف قربها ثم مد يده بالقوة ليسحب يدها التي تحمل الهاتف...فتح الشاشة ليجدها قد اتصلت برقم غير مسجل عليه...عيناه احتقنت بشدة يقول بلهجة خطرة:
(من تحادثين في منتصف الليل؟!)

همست بترقب:
(صديقتي...)

متأكد من كذبها فهو يعرف ابنته جيدا...نظر للرقم مجددا يشعر أنه يعرفه...أخرج هاتفه يتأكد من ظنونه...اتسعت عيناه بقوة يقول بصوت غاضب:
("أحمد النجار"!!!!... ماذا قولتي له؟!)

ابتعدت عنه تقول بخوف:
(لم ألحق قول كلمة واحدة...)

هتف بوعيد:
(احمدي الله أنكِ لم تفعلي...هذا الهاتف أنسيه و العرس سيحدث في ميعاده و لا أريد جدال)

تركها واتجه إلى الباب رغم تردده في العودة لها عندما سمع صوتها المهدد بالبكاء:
(أبي رجاءً لا تفعل...لا تزوجني)

لكنه عاند و خرج يصفق الباب بقوة...
تجولت بعينيها في أرجاء غرفتها و هي تقضم اظافرها بغضب...نظرت تحديدا إلى دولابها و قد بردت أوصالها من الفكرة التي واتتها...شحب وجهها و هي تتقدم منه تنوي وضعهم أمام الأمر الواقع....

عند الفجر....
بعدما أخبرها زوجها بما كانت تنوي ابنتهما فعله...لم تنم كانت تتأكل بنيران الخوف عليها...بعدما صلت الفجر اتجهت إلى غرفتها تطمئن عليها...دخلت لتجد الغرفة فارغة...نادت عليها بخفوت كي لا تجذب نظر زوجها... فتحت باب الحمام الخاص بها فلم تجدها أيضاً...ضرب الرعب خلاياها و كأنها قرأت ما فعلته ابنتها فاقتربت من دولابها تفتحه...اتسعت عيناها برعب حينما تأكدت من فعلتها...لقد حملت ثيابها و هربت...

هتفت بخفوت مرتعد على صغيرتها:
(يا مصيبتي...يا مصيبتي)

فتحت هاتفها تتصل به هو الوحيد القادر على مساعدتها قبل أن يعرف "هاشم" بما حدث...
("معاذ" تعال فوراً..."رُبى" هربت)


قراءة ممتعة....
ألقاكم الفصل القادم...


AyahAhmed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس