عرض مشاركة واحدة
قديم 10-10-19, 08:34 PM   #29

وفاء حمدان

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء


? العضوٌ??? » 435933
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 361
?  نُقآطِيْ » وفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الثاني

الفصل الثاني:
" ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ "
" إن شاء الله آمنين " رددتها مرة أخرى علَ السكينة تستدل طريقها نحو قلبها في حين رياح الخوف و أمواج الرهبة المتخبطة تحيط به من كل صوب، قسمات وجهها متشنجة للغاية و هي لا تعلم بأي أرض خطت قدماها و إلى أي منتهى ستؤول حكايتها.. استنشقت نفساً عميقاً و زفرته على مهل قبل أن تهز رأسها كأنما تنفض أي وساوس تتلبسه لتتقدم بخطى ثابتة ساحبةً حقيبتها المدولبة خلفها و هي تجول بأنظارها بحثاً عن عمها أحمد.. هي لم تلتقيه شخصاً لكنها تعرفه من الصور التي احتفظ بها أبيها و كان يتفقدها كل حين ليتذكر حسب قوله أيام هدأة البال.
التقطته عيناها لتجد أن اعصابها المشدودة قد ارتخت فجأة لمرآه و شعور بالسلام العارم قد غزاها.. اتسع مبسمها و لوحت بيدها له و هي تهرول تحاول العبور عبر الجموع لتلتقي به.. احتضنها بعينيه عوضا عن ذراعيه.. ابنة أخيه و صاحب العمر:
- نورتي مصر يا حبيبتي.. الحمدلله على سلامتك
- الله يسلمك عمو.. شكرا كتير الك بصراحة مش عارفة كيف بدي أتشكرك.
تغضن جبينه بضيق مجيبا إياها بغضب هزلي:
- إيه الكلام اللي بتقوليه ده.. انتِ بنت أخويا ربنا يرحمه ... يا ريت كنت شفتك من زمان بدل الصور اللي ابوكي كان بيذلنا فيها.. بس هو كان منشف دماغه ما يخطيش مصر أبداً.
تنهد للذكرى باشتياق ليتمم حديثه بدعائه:
- ربنا يرحمه و يغفرله هو و امك.. أهم بقيوا مع بعض دلوقت زي ما كان بيتمنى.
استشعرت غصة علقت بجوفها.. فألم الفقد لم يبرأ بعد..عضت باطن خدها في محاولة بائسة لكبح دموعها المتراقصة في مقلتيها و التي لم تخفى عن أحمد.. ليتخطى الحواجز و يحيط كتفيها بذراعه و هو يؤكد عليها:
- صدقيني هم الاتنين مرتاحين دلوقت و مش عايزين حاجة غير انك تكوني مبسوطة بحياتك.
أومأت له بابتسامه باهتة ممتنة قبل أن يستقل كلاهما السيارة متجهين نحو منزل أحمد و إيمان.

تلقفتها إيمان بالأحضان و اخذت تقبل خديها و تعتصرها بين ذراعيها و هي تكرر ( و الله أحلى من الصور ) و تارة ( واخدة عينين أبوكي يا قمر ) حتى ضجر أحمد منها ليبعدها عن نور بغلظة مصطنعة و هو يهتف:
- ما خلاص يا إيمان كده خنقتي البت.. هاتتخض منك.
ضحكت نور ملئ شدقيها و هي تنفي بحركة من رأسها :
- لا و الله يا عمو.. انا من كتر ما بابا حكالي عنكوا جد حاسة حالي مو غريبة بينكوا.. تانيا تنساش إحنا كنا نحكي عالتلفون.
أنهت عبارتها بتفكه مقصود تحاول أن تضفي لمسة حميمية مع أصدقاء والدها، أمن أحمد على حديثها و هو يتخذ مجلسا على أحد المقاعد في غرفة الضيوف و إيمان تحث نور على الدخول للغرفة المخصصة لها كي تستريح قليلا من عناء السفر قبل وجبة الغداء.
في المساء كان الثلاثة مجتمعين و إيمان تقلب بألبوم صور يضم صور أحمد و أمجد و نزار من أيام الدراسة و صور زفافهم كما صور أبنائها و أحمد:
- شوفي يا نور دي بنتي الكبيرة علياء أول ما خلصت جامعة اتجوزت زميلها و سافرت اسكندرية مع جوزها عشان جاله شغل هناك و أهي حامل دلوقت بالشهر الرابع.
أنهت كلماتها لتلتفت نحو زوجها و هي تقر بحنان فياض:
- الولاد كبروك يا ابو أدهم و هاتبقى جدو خلاص.
أكمل ارتشاف الشاي و هو يتابع نشرة الأخبار على التلفاز ليرد عليها باستفزاز:
- الشباب شباب القلب يا روحي.. و يكونش هابقى جدو لوحدي ما انتي كمان هاتبقي تيتة.
- يا اخوي أنا على قلبي زي العسل.
ابتسمت نور لمشاكساتهم الودودة لتقول بتهذيب:
- الله يحفظهم و ان شاء الله تولد علياء بالسلامة و تفرحوا بالبيبي.
أمن كل من أحمد و إيمان على دعائها لتعود إيمان بأنظارها لألبوم الصور و هي تشير لشاب بهي الطلة قائلة:
- أما الواد الحليوة ده بقى إبني أدهم حبيب مامته.. هو تانية هندسة بس في جامعة اسكندرية.. مع إنه بعيد عن عيني بس مطمنة إنه قريب من اخته و أهي كل كام يوم بتشأر عليه و هو بيشأر عليها.
- ان شاء الله بتفرحي فيه هو كمان.
علقت نور بحبور.
لتستمر الأمسية بين حديث الذكريات و مناكفات أحمد لإيمان مع سمة التبسم الدائم من نور.

في صباح اليوم التالي و بعد أن تناول الجميع إفطاره الذي تفننت به إيمان بمساعدة نور.. انتبذت نور بعمها أحمد في غرفة المكتب ليبدء الحديث العصي:
- عمي أنا مش حابة أماطل بالموضوع اللي إجيت مشانه.. يعني زي ما بيحكوا اللي عليك عليك و وقوع البلاء و لا انتظاره.
اومأ لها أحمد بتفهم و هو يقول:
- ربنا ما يجيب بلاء يا حبيبتي.. شوفي أنا جبت عنوان الشركة بتاعة أهل والدتك و اللي عرفته إنه ابن خالك مصعب هو اللي ماسكها دلوقت و خوالك بيشأروا عليها كل فترة.. أما بالنسبة لعنوانهم في الصعيد فهو موجود لكن المسافة طويلة و مش سهل تسافري لهم و يرفضوا يستقبلوكي و وقتها كانك يا ابو زيد ما غزيت.. فلو عايزة رأيي و ده رأي نزار برضه إنك تروحي تقابلي إبن خالك و أنا هاكون معاكي و تعرفيه بنفسك و اطلبي منه إنك تقابلي أهلك.

لم تستسغ تلك الفكرة..فبالسيناريو الذي طرحه أحمد ستفقد عنصر المباغتة و تخشى ما تخشاه أن يرفضوها قبل حتى ان يسمحوا لها بمقابلتهم:
- معلش يا عمي بس أنا خايفة إنه ابن خالي هاد هو كمان يرفض وجودي و يقوم يبلغ أهلي و بالتالي ياخدوا احتياطاتهم اني ما أدخل بلدهم من الأساس.. أنا بفضل عنصر المباغتة.
وضع أحمد قبضته على فمه و هو يتمعن بكلماتها.. هي لديها وجهة نظر لكن ما تطلبه صعب التحقيق.. أن تذهب لعرين الأسد و تبادر بالهجوم يعتبر سفورا و رفعا لراية التحدي.. تنهد بصبر و أزاح قبضته عن شفتيه لينطق بتعقل:
- شوفي يا حبيبتي موضوع إنك تروحي تباغتيهم دي زي كإنك بتتحديهم و بلاش نضحك على نفسينا هم مش هايتقبلوا وجودك بسهولة.. المفروض إنك تاخدي الموضوع بهوادة و تكتيك.. فعشان كده خدي برأيي و رأي عمك نزار لعل و عسى تلاقي في ابن خالك ده الدعم اللي انتي محتاجاله.
أومأت له بموافقة غير منطوقة على الرغم من تحفظها.. بالنهاية هم لديهم خبرة أفضل منها بالحياة لذا سيكونون أعلم منها بدواخل البشر و جوانب التحدي الذي ينتظرها.

في الظهيرة كان كلاهما يستقلان سيارة أحمد باتجاه شركة آل التهامي.. ترجل أحمد من السيارة بعد أن ضبط اصطفافها أمام المبنى لتتباطأ نور بخروجها من السيارة و هي تتأمل الصرح المبهر المتمثل أمامها.. دقت طبول الرهبة في أحشائها و قد هجم عليها الفزع بغتة.. حانت منها التفاتة نحو أحمد الذي قابل نظرتها المرتعبة بأخرى مؤازرة من طرفه، اقتادها للداخل و أملى إسمه لموظف الاستقبال طالبا الإذن لمقابلة السيد جمال مصعب التهامي.. مرت دقيقتان من الانتظار المقيت و كلاهما يزجيان الوقت بتململ ليس من طول الانتظار بل من توقعاتهم الكثيرة لكيف سيؤول اللقاء حتى جاءهم الرد بأن يصعدوا للطابق الأخير حيث مكتب السيد جمال.

- تفضل يا فندم.. أنا واضح عندي إنه ما فيش موعد مسبق لكن حضرتك قلت إنه الموضوع عائلي مش كده؟
كانت تلك كلمات المساعدة الشخصية الخاصة بجمال و التي كانت تجول ببصرها عليهما تحاول أن تستشف ماهية مقصدهم من وجودهم هنا.. أكد أحمد على كلامها و هو يقول بنبرة دمثة رزينة:
- فعلا إحنا هنا عشان نقابل الاستاذ جمال عشان موضوع عائلي خاص.. فيا ريت تديله خبر و تبلغيه إنه الموضوع ضروري جداً.
عقدت المساعدة الشخصية حاجبيها من صيغة الجدية التي غلفت كلمات الرجل الماثل أمامها فلم يكن أمامها إلا أن تومئ بتفهم و هي تنهض عن مقعدها متجهةً بخطواتها نحو الباب الذي يفصلها عن مكتب مديرها جمال..
اختلج قلب نور و اختضت معدتها حتى شعرت بحاجة للتقيؤ من فرط التوتر و قد بات الهدف على مرمى يدها.. تراجعت خطوة للخلف لاحظها أحمد ليناظرها باستغراب و يقول بحسم:
- نور إحنا فيها لو انتي مش قد الدخلة دي قولي و نمشي دلوقت.. لكن بمجرد دخولك لابن خالك ما فيش تراجع.
أغمضت عينيها تذكر نفسها أنه حينما يتعارض الخوف مع الأمل.. على الأمل أن ينتصر و يمضي و على الخوف أن يتقهقر و يذوي.. تلك إحدى تعاليم والدها التي أرساها بداخلها.. حبست حينها أنفاسها و هي تفرق أجفانها لتلتمع نظرة التصميم بعينيها.. ألبست هيئتها الجمود و العزيمة و هي تقول:
- ما فيش تراجع بإذن الله.. ما في شي أخاف منه هو بس توتر بسيط من اللقاء الأول مع حدا من أهلي.
أومأ لها أحمد متفهما قبل أن تخرج لهم المساعدة الشخصية و هي تطلب منهم الولوج لمكتب السيد جمال.
استبقها أحمد للدخول مانحاً إياها السعة لتلملم شتات أعصابها لخوض المواجهة الأولى.. تنحنحت مجليةً حنجرتها بثبات و هي تخطوا بأثر خطوات عمها فتدخل المكتب و يطالعها شاب مهيب الطلة بوجه أسمر يحتضن عينان حادتان و شفتان لفتتا انتباهها لغلظتهما.. نزلت بنظراتها لجسده لتجده يرتدي بذلة رسمية ذات لون رمادي لم تخفي عضلاته المتناسقه و جسده الرياضي.
من اللحظة التي أخبرته به مساعدته الشخصية أن هنالك رجل و فتاة يبتغيان مقابلته لأمر عائلي طاله الفضول الغزير.. أرسى نظراته أولا على الرجل الوقور ليقف تباعا و يطل عليهما بطوله الفارع .. توجه نحو أحمد يصافحه ملقياً بعبارات الترحيب الرسمية.. حادت بعدها عيناه نحوها.. أمعن النظر فيها للحظة.. لحظة واحدة او لربما اثنتان لم يعلم.. لكنها كانت كافية ليستشعر اختلالا شاب دقات قلبه بغتة.. ابتسم بتوتر و هو يحييها بهزة من رأسه قبل أن يتدارك نفسه و يعود بأدراجه لمقعده خلف المكتب و هو يدعوهما للجلوس، استهل أحمد الحديث لقطع حبل التوتر الذي يقيد الأجواء:
- إحم.. أستاذ جمال إحنا جايينلك النهردة مخصوص بموضوع عائلي زي ما السكرتيرة بلغتك.
أومأ له جمال كدعوة للاستمرار و عيناه تطرف كل حين لتلك القابعة مقابله من جهة اليسار.. وضع أحمد الساق فوق الساق و شد هامته مع جلوسه ليقول بنبرة متوازنة باترة لا تحتمل العبث و هو يشير بيده نحو نور و أنظاره مثبته على جمال:
- أحب أعرفك.. نور أمجد الحسن بنت عمتك سهام عبدالعزيز التهامي.
انزوى ما بين حاجبيه و انفرج ما بين شفتيه و هو يطالع أحمد بذهول.. ارتحل بصره نحو التي تبين إسمها و الذي يليق بها دون إسم آخر ليبتسم بتفكه و هو يسبل كفيه و ينطق بسؤال من كلمتين:
- طب إزاي؟؟
هز أحمد رأسه بتفهم من حيرة جمال فقرر أن يدلو بدلو جعبته فشرع يشرح و يقص على أسماعه تفاصيل القصة التي عمرها ثمان و عشرون سنة، كان جمال ينصت له بتركيز شديد و تشكك أشد حتى أنهى أحمد حديثه ليدور جمال ببصره عليهما ثم يثبته على سطح المكتب الخشبي أمامه مفكرا مرتابا.. فلربما كان هؤلاء محتالان يحاولان الدخول لجوف عائلته ليسلبوا ما استطاعا من الغنائم بفعل هذه اللعبة.. لكن.. لربما الأمر حقا مثلما تلفظ الرجل أمامه.. هل من الممكن أن تنبثق من باطن الأرض فجاة ابنة لعمته و التي من المفترض أنها ماتت في زهر شبابها و هي بكر لم يسبق لها الزواج؟؟!!! .. لن يبوح بشيء البتة حتى يتحقق فقد تعلم في مضمار رجال الأعمال أن عليه التشكك بالمعلومة حتى يثبت صدقها من عدمه، رفع وجهه ذو التعابير الجامدة إليهم مفضياً:
- بصراحة الموضوع اللي قلتوه مش سهل و أنا ما اعرفش عنه حاجة فما أقدرش أصدقكوا و لا أكدبكوا قبل ما اتأكد.. لكن يفضل سؤال واحد..
و قبل أن ينطق بسؤاله قاطعته نور و قد غادرها التلجلج و عادت لها روح القتال قائلة:
- أنا هسأله عنك.. أنا ليش جاية هلأ و شو بدي؟؟ و اشمعنى هلأ اتذكرت إنه إلي أهل.. مش هيك؟؟
أومأ لها جمال و لمعة إعجاب تتألق بعينيه لتأخذ هي نفساً عميقا قبل أن تثبت أنظارها عليه و هي تعدد:
- أولا أنا شو بدي و ليش جاية فلإني حابة أتعرف على أهلي اللي عمري ما شفتهم.. ثانيا ليش هلأ فلإنه والدي توفى من فترة قصيرة و أيام حياته هو كان ممانع إني أقوم بهاي الخطوة خوفاً علي لكن أنا مصرة عليها و راح أمضي فيها بإذن الله خاصة إني ما لحقت أتعرف على أمي اللي توفت و أنا عمري سنتين بالسرطان بس هلأ بقدر إني أتعرف على أهلها اللي من ريحتها خصوصا إنه هلأ انا ما إلي أهل غيرهم.
قالت ما قالته برسالة بينة أنه حتى لو لم تكن عوناً لي سأجد طريقي نحو مأربي، طرق جمال بتتابع على مكتبه بالقلم الذهبي الذي تعانقه أصابعه و هو يدقق النظر فيها يحاول أن يستشف مدى صدقها و إن كان في ملامحها أي دلالة تدل على أنها من صلبهم.. لا شيء وجه مستدير ببشرة لؤلؤية صافية تزينها شامة فوق شفتها العليا من اليسار.. عينان بلون المحيط فشفتان زهريتان منتفختان بخفة كأنه تم تقبيلهما منذ برهة قصيرة .. انتبه لسير أفكاره فلعن نفسه سرا.. هل هو يبحث عن دليل في هيئتها أم يتأمل تفاصيلها بفجاجة.. استقام بوقفته و هو ينهي المقابلة ليحذو أحمد و نور حذوه فيصافح الرجلان بعضهما و يقوم أحمد بوضع ورقة عليها بيانات التواصل معه على المكتب على وعد من جمال أن لا يطول الانتظار بإذن المولى.

رمى بنفسه على الأريكة المتموضعة في مكتبه بعد أن غادره الضيفان.. ألقى برأسه للخلف و الأفكار و الذكريات تتصارع داخل رأسه.. لا يذكر شيء غير القصة المعتمدة من قبل أهله!! إذا ما الذي حدث قبل قليل؟ اعتدل بجلسته و هو يتناول هاتفه النقال من جيبه يتلمسه يبحث عن إسم بعينه.. هو فقط من يستطيع التحاور معه عكس والده سريع الاشتعال.. أتاه صوت الرنين ثم صوت رجولي رخيم قائلاً:
- يا أهلا بولد اخوي.. لحقت تشتاق و أنا سايبك من يومين؟
----------------------------------------
لم تتفوه بحرف طوال رحلة العودة للمنزل و هو أعطاها مساحتها الخاصة.. لم يرد أن يزيد الضغط عليها.. خرج من السيارة و انتبه أنها تهيم بعالم آخر فلم تلحظ أنهما قد وصلا وجهتهما.. طرق بالمفتاح على شباكها بعد أن التف حول السيارة لينبهها من غفلتها فاضطربت للحظة قبل ان تهدئ أوصالها فتبتسم له باعتذار و هي تترجل من السيارة.
اعتذرت عن طعام الغداء فشهيتها قد عاندتها و فراشات التوتر تغزوا معدتها.. فضلت الصلاة و دعاء الله بتيسير ما هو خير لها.. و فعلت، و من بعدها استلقت على سريرها لتلفها غمامة النوم فتستقبلها بخدر الأوصال.
------------------------------------------
جلس مقابلاً لعمه مستنداً بكوعيه على فخذيه و تعتلي عينيه تقطيبة تدل على انغماسه في التفكير.. قاطع سالم أفكاره بتأفف قائلاً:
- انت جايبني على ملا وشي عشان ترسملي صورة و الا ايه يا ولد اخوي؟؟
رفع بصره إليه دون ان يعدل من وضعيته لينطق بجمود:
- بصراحة يا عمي في حاجة غريبة حصلت معايا النهردة و خلت مية سؤال يدور بنافوخي و مش عارف إيه السؤال الصح اللي لازم أسأله.
تعجب سالم من عبارة ابن أخيه المبهمة ليقطب حاجبيه متسائلا:
- حاجة إيه ديه اللي حصلت معاك؟
- عمتي سهام ماتت إزاي يا عمي؟
ارتعد جسد سالم و جحظت عيناه بصدمة.. لم يتوقع بأحلك أفكاره ان يكون سؤاله عن سهام.. لما الآن؟ و ما الذي حدث كي تنبش جثة الفاجعة القديمة بعد أن ووريت الثرى و أهلوا عليها التراب بأيديهم!! ابتلع ريقه و قد كاد أن يختنق به ليشيح بوجهه عن مرمى بصر إبن أخيه قائلا بصوت قاتم:
- و إيه اللي فكرك بعمتك دلوقت؟ و جاي تسأل ليه و انت عارف الحكاية ! عمتك جالها عيا واعر و سفرناها بلاد برا تتعالج لكن قدر الله إنها تموت هناك و رجعناها و دفناها بالبلد..
- و الكلام اللي سمعته النهردة؟
اهتاج سالم من مناورات جمال فضرب المنضدة القابعة امامه بقبضة يده و هو يهدر صارخاً:
- ما تتكلم يا ولد المركوب إيه اللي حوصل؟
غادر جمال جلسته و اتجه نحو النافذة العريضة المطلة على الشارع و التي تحتل ثلثي الحائط يناظر الأفق.. و بانقباضة تشق طريقها لصدره سرد:
- جاتلي بنت و معاها دكتور بيقول انه صاحب أبوها.. البنت قالت إنها بنت عمتي سهام و هي جاية دلوقت عايزة تتعرف علينا.. على أهلها.
حانت منه التفاتة لعمه الذي استحال وجهه للسواد القاتم فتفاقمت الشكوك بصدر جمال تجاه الرواية القديمة ليقول متصيدا:
- إيه رأيك في اللي حصل يا عمي؟ و هل البنت دي صادقة و الا كدابة؟
- بنت سهام !!!
قالها سالم بتيه و توق و غفلة عن الذي كان يقتنص خلجاته بالتفصيل، اقترب جمال من عمه لينحني بهامته مقربا الوجه من الوجه و يثبت عينيه بعيني سالم متسائلا بحرقة:
- اللي انا شايفه بعيونك ده يا عمي صح؟؟ نبرة صوتك و انت بتقول ( بنت سهام ) كافية إني اقتنع انها فعلا كده.. رسيني على الحوار القديم كله يا عمي لإني فاضلي شعرة و أتجنن.
أزاح سالم ابن إخيه من طريقه بظهر يده ليقف و يتجه نحو الثلاجة القابعة بزاوية الحجرة و يستل زجاجة المياه فيتجرع منها ما يلين حلقه الذي أحس كما أن الأشواك قد نبتت به.. أسند الزجاجة على المكتب و قال دون ان يتلفت لجمال:
- جدك ما يعرفش حاجة واصل عن اللي حوصل النهردة .. مفهوم؟
- لاء.
نطقها جمال بتحدٍ سافر استدعى سالم ان يلتفت إليه و ملامح الاستهجان تغزو صفحة وجهه فيصيح به مؤنباً:
- يعني إيه لاء؟! جدك مش حمل خبر زي إكده و هو في العمر ديه.. و البت دي تفهمها إنها ما الهاش أهل إهنه و تروح تدور بمكان تاني.
- مش هايحصل يا عمي.. أنا لازم أفهم كل حاجة.
ضرب سالم الكف بالكف من صلابة رأس ابن اخيه ليجابهه بوقفته و يجيبه بنفاذ صبر:
- حاضر.. حاضر يا ابن اخوي.. و الله و جيه اليوم اللي تتحداني و تنزل كلمتي الأرض.
لم تهتز خلجة من جمال لتقريع عمه بل بقي على ثباته بإشارة انه لن يتنازل حتى يعلم الحقيقة بجلها ليدرك سالم تعنت ابن اخيه فيهديه ما أراد بكلمات كأنها شوك نُثر في درب ظنوه مزروعا بالياسمين:
- ماشي يا جمال باشا.. أكيد البت و اللي معاها قالولك اللي حوصل.. سهام حبت زميلها في الجامعة.. واد مغترب من الأردن جاي يدرس طب اهنه و جيه و خطبها من جدك لكن جدك وقتها قاله إنه سهام مخطوبة و مقرية فاتحتها على جاسر حرب.
برزت مقلتي جمال من محجريهما و هو يطالع عمه لينطق بذهول مكررا الإسم:
- جاسر حرب!!
تنهد سالم للذكرى و هو يهز رأسه بنعم و تابع:
- أيوة جاسر.. انا ما كنتش أعرف و اتفاجأت زيهم و بعد ما مشيوا جدك رسانا عالحوار إنه عشان نقطع سلسال الدم لازم يكون فيه نسب.. و طبعا كلمة جدك مالهاش رادع لكن عمتك ما رضيتش بالحال ديه و هربت في عتمة الليل و راحت مصر عشان تتجوز زميلها و سافروا سوا الأردن.. روحنالها الأردن عشان نرجعها بس جوزها كان حويط و مرتب أموره و احنا رجعنا قفانا يقمر عيش.. فقلنا للناس انها مرضت و ماتت من المرض عشان نخلص من لساناتهم و من لسان عيلة حرب و بعد اكده جاسر حرب نزل انتخابات مجلس الشعب فنسي حوار التار عشان ما يجراش عليه لبش و يخرب عليه بالانتخابات و من وقتها و الموضوع اندفن.
عقَب جمال و تلك الغشاوة الضالَة التي كانت تحجب الضياء عن بصيرته آلت إلى انقشاع :
- يعني عيشتونا طول السنين اللي فاتت ديه بوهم؟؟ أنا صح ما اعرفهاش لإن اللي اعرفه أو اللي انتوا فهمتوني إياه إنها ماتت و أنا عمري سنتين.. بس ازاي حصل كده و ما حدش عرف حاجة وقتها و لا انكشفت لعبتكوا؟!! و طب و بنتها اللي جاتني ديه هارد عليها بإيه و هي مستنية مني رد؟
التف رأس سالم صوب جمال بسرعة كما الطلقة ليصيح بغلظة يكاد يبصق كلماته:
- و هي جاية عايزة إيه بنت المركوب ديه؟؟ أبوها هو السبب باللي حوصل.. هو اللي لعب بعقل عمتك عشان تهج و تهرب و اياه و تحط روسنا بالأرض.
ناظره جمال بخواء و عقدة الجبين التي لم تنحل ما زالت مرتسمة ليرد بنبرة يأس:
- مش عارف يا عمي مين السبب باللي جرى.. يمكن ده قدر و مكتوب، و بالنسبة لبنت عمتي ( قالها مشددا على المسمى يحاول إقحامه لعقل عمه ) فهي جاية و ناوية تقابل جدي و كل أهلها و من كلامها فهمت إنها مش هاتستسلم لحد ما تنول اللي في بالها.
- إقصر الشر يا ابن اخوي و انسى إن ديه يحصل.. البت ديه ما تعتبش البلد عندينا واصل و ديه آخر كلام عندي.
قال قوله الأخير و هو يتوجه كالإعصار نحو باب المكتب مغادرا إياه و صافقا الباب خلفه بغلظة.. ليزفر جمال أنفاسه الحارة و يمسح وجهه براحتيه و هو يدعو الله أن يلهمه القرار السوي.





وفاء حمدان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس