عرض مشاركة واحدة
قديم 07-11-19, 09:25 PM   #182

وفاء حمدان

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء


? العضوٌ??? » 435933
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 361
?  نُقآطِيْ » وفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond reputeوفاء حمدان has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر:
تهادى بخطواته عبر أرض المطار و هو يزيح منظاره الشمسي عن عينيه و يجول رواد المطار بأنظاره حتى وقعت عيناه عليه.. ابتسم باتساع و هو يحث الخطا نحوه ليلتحما بعناق كادت أن تتكسر له ضلوعهما سوية.. فرت دمعة من عين أحمد شوقا ليبادلها نزار بربتة على الكتف و من بعدها توجها لخارج المطار و هما يتبادلان أطراف الحديث و السؤال عن الأحوال.. بالرغم من سنوات البعد و المسافات الفاصلة لم تنتهي صداقتهما و لم ينقطع اتصالهما.. تلك هي الصداقة بأبهى صورها، في السيارة كانت عينا نزار تطوف بكل تفصيلة تمر من أمامه عبر النافذة.. تنهد بشوق يقول:
- القاهرة اتغيرت كثير عن لما كنا فيها.
ابتسم أحمد يعلق على حديثه:
- ما فيش حاجة بتفضل على حالها يا صاحبي.. بس ها.. مين أحلى مصر أيام زمان و الا دلوقت؟
ليربت نزار على فخذ أحمد يجيبه بمشاعر صافية:
- مصر دايما حلوة بأهلها و ناسها.
انفلتت ضحكة من أحمد و هو يقول:
- تسلم يا صاحبي.
و رغما عنه وجد نزار فكره يرتحل لسنين مضت و لن تعود.. لذكريات تدغدغ القلب بالشوق و الحزن بعد البُعد.. ارتسمت ابتسامة رائقة على شفتيه و هو يتذكر أيامه على أرض هذه البلاد مع رفيق العمر و الدرب.. ذاك الرفيق الذي رحل و أخذ معه الكتف الذي كان يميل إليه و الروح التي كانت تشاطره همومه و أحزانه فتخفف عنه.. هاجم الحزن قلبه بغتة و وقفت دمعة متحجرة على طرف جفنه.. ليلتفت إلى أحمد يطلب منه تلبية نداء الحنين:
- بتقدر تاخدنا على القهوة اللي بالحارة اللي كنا ساكنين فيها أنا و أمجد.
و فهم المشتاق الآخر.. ليعطي صديقه ابتسامة غير مكتملة و هو يهز رأسه باتفاق..و في المقهى الشعبي جلسا بدايةً بصمت يليق بهيبة الذكريات التي ملأت حجرات القلب.. طلبا الشاي و جلسا يرتشفانه باستمتاع ليقول نزار يخدش الصمت بسكين ناعمة:
- كنت غلطان لما حكيتلي ما في شي بيضل على حاله.. القهوة زي ما تركناها.
- الأصلي ما بيتغيرش يا صاحبي مهما مر عليه الزمن.
أومأ له نزار يجيب:
- صدقت.
ثم قهقه بخفه يستجلب إحدى الذكريات الراحلة:
- بتعرف.. هون أول مرة أمجد حكالي عن حبه لسهام.. و أنا شجعته انه يمشي ورا قلبه.. سبحان الله لوين ودتنا السنين.
عقد أحمد حاجبيه يتساءل بفلسفة:
- يعني لو ما كنتش شجعته ما كانش اعترفلها؟
- يا أحمد الزواج قدر و رزق يعني الواحد ما بياخد غير نصيبه لو شو ما صار.. و سهام كانت من نصيب أمجد.
- أيوة صحيح.. بقولك ايه .. مش نقوم احنا أحسن ما ام أدهم تديني كلمتين في العضم لو الاكل برد.
ناظره نزار بنصف عين يقرع:
- شكلها شايفة شغلها أم ادهم معك.. يا حيف على الشوارب بس.
قهقه أحمد بسخرية ليرد تقريعه:
- قال يعني انت بتعرف تزعل أم أمجد.. يا راجل قوم قوم خلي الطابق مستور.
ليشيح نزار بيده بلا مبالاة و هو يستقيم ناهضا:
- أنا ما بزعلها لانها بتتعب نفسيا بس تزعل فأنا براعي هالشغلة.
فقال أحمد و هو يضع النقود للحساب على الطاولة:
- اااااه قولتلي.. ماشي يا عم المراعي.. و اتفضل بقى خلينا نلحق الأكل.
ركن أحمد السيارة في مصف العمارة التي يقطن بها ليخرج و يتبعه نزار الذي كان يحمل حقيبة خفيفة و على باب الشقة استنشق نزار روائح الطعام الزكية ليقول بحبور:
- الله الله شكله أم أدهم مش مقصرة.
ضحك أحمد و هو يقرع جرس الباب دون أن يفتحه بنفسه فلربما كانت إيمان دون غطاء رأسها.. هرولت إيمان تجاه الباب لتفتحه و هي ترحب بنزار ترحيبا وقورا استقبله نزار بتهذيب و امتنان.
جلس أحمد و نزار برفقة إيمان إلى طاولة الطعام يتناولون منها بنهم و إعجاب.. و بعد أن انتهوا جلس الرجلان في غرفة المعيشة و أمامهما قدحين من الشاي الساخن بينما آثرت إيمان تركهما يستعيدان الذكريات.. لكنه لم يكن هذا ما يتسامران به بل كان محور الحديث هو عريس نور.. سرد أحمد ما علمه عن سراج.. رجل أعمال من الصعيد والداه متوفيان و لديه أخت واحدة.. عمه من تولى رعايتهما منذ صغرهما.. شديد في عمله و الكل يهابه لكنه مثابر و دؤوب و يعرف كيف يخطف اللقمة من بين أنياب الأسد.
كل تلك المعلومات اعتبرها نزار سطحية و لا تزيح مخاوفه.. هو يريد التأكد إن كان على خلق و دين.. إن كان سيحافظ على جوهرة كنور و يتوجها ملكة و أن لا يهينها يوما أو يجور عليها.. يريد الاطمئنان و أن يؤدي الأمانة تجاه أخيه الراحل، اتفق مع أحمد أن اللقاء واجب مع العريس المزعوم لتفحص دواخله و سبر أغواره و بهذا سيرتحلون غدا للصعيد.. و عند هذه النقطة أخبره أحمد أن احد أفراد عائلة نور سيأتي من الصعيد لاصطحابهم غدا صباحا لكنه لم يتجرأ على البوح بإسم هذا الشخص.. فهو حتى الآن لا يعلم ردة فعل نزار حالما يتقابل وجها لوجه مع سالم فالعداوة بينهما لها جذور عتيقة لكنه يدعو الله أن يتجاوز كلاهما الأمر دون مشاحنات و يتقبلا بعضهما بعضا على الأقل من أجل نور.
حلَ الصباح و قد تجهز الصديقان و جلسا يرتشفان القهوة بانتظار وصول الشخص المعني من الصعيد.. بينما في قصر التهامي فقد تم تجهيز غرفتي نوم للضيوف و كان سالم قد غادر المكان منذ ساعات الفجر الأولى.. كانت نور تحلق كما الفراشة بأرجاء القصر فقد اشتاقت أيها اشتياق لعمها نزار.. لكم تمنت لو كان عمها بحق كي تنعم مرة بدفء أحضانه.. لكنها تكتفي بنظراته التي تحيطها دوما و تبثها الحب و الأمان.. و في المطبخ انكبت النساء على تحضير أصناف متنوعة من الطعام لاستقبال الضيفان المرتقبان.
بقي يناظر ساعته كل حين بتأفف حتى أتاه صوت أحمد الناهر:
- كفاية يا نزار كل شوية تبص بالساعة.. شوية و هاتلاقيه وصل ما هو الطريق مش سهل برضه.
أومأ نزار بتفهم و هو يلوي شفتيه بغير رضا.. لينتبه كلاهما لرنين هاتف أحمد فقام بالتقاطه ليعلم أن سالم قد أضحى أسفل العمارة.. حاول أحمد مع سالم كي يصعد و يحظى بحسن الضيافة لكنه رفض متعللا بضيق الوقت و طول المسافة ليرضخ أحمد و يهم بالنهوض مودعا زوجته و يغادر برفقة نزار متوجهين للأسفل حيث اللقاء مع الماضي.

لو تواجد في لحظتها رساما لكان مبتهجا من مشهد الغضب المبتعث من رفات الماضي التي جسدها نزار.. بعينين متوحشتين و الحاجب المرفوع متبعاً باشتداد القبضتين حتى يظن المشاهد أن الأصابع ستنعجن ببعضها بعضا.. اقترب ببطء من سالم الذي كان يطالعه بلا مبالاة مستفزة حتى وصل قبالته.. اكتفيا بالتحديق ببعضهما البعض لثوان بينما أحمد ينقل أنظاره بينهما بتوجس.. و بقرار منه لقطع الجو المشحون بسط يده تجاه سالم يبتغي السلام قائلا بحبور متوتر:
- أهلا يا سالم.. احنا متشكرين انك جيت كل المسافة دي علشان تاخدنا البلد عندكوا معلش تعبناك معانا.
نقل سالم بصره إليه و بادله السلام و هو يقول بوجوم:
- ما فيش تعب و لا حاجة يا دكتور.. حبايب نور يبقوا حبايبنا برضك.. دي بتنا كيف من كان.
أكد سالم على لفظ " دكتور " فهو لا يريد نزع الرسميات بينهما في حين قاوم نزار بضرواة نفسه من الضحك استهزاء من كلمة " بتنا " لينفلت لجام صبره و ينطلق حصان الغضب حراً على لسانه:
- هسة عرفتوا انوا عندكوا بنت يا ما شاء الله.. عالعموم مش غلط.. ان تصل متاخرا خيرا من أن لا تصل أبدا.
اقترب سالم من نزار حتى تقابل وجههما في نزال كلامي واضح فيقول بخفوت محذر:
- أنا بقول بلاش نقلبوا باللي راح يا دكتور.. المرة الماضية خدتونا على خوانة و احنا كنا على أرضكوا.. لكن دلوقت...
قالها و هو يبسط ذراعه يديرها حوله بإشارة ان الأرض أرضه.. ليبتسم نزار بزاوية فمه رافعا حاجبا قائلا:
- و الله لو بنص داركوا ما بتفرق معي.. ثانيا خوانة شو اللي بتحكي عنها انتوا اللي كنتوا جايين علينا على غفلة مشان شوية تخاريف براسكوا و لانه عرفنا و سبقناكوا بخطوة صرنا احنا اللي اخذناكوا على خوانة.. و يا سيدي اعتبرها خوانة ورجيني شو بدك تعمل !
ابتلع أحمد ريقه بتوتر و هو يشعر أن الوضع سيحتدم أكثر ليتقدم و يقبض على ذراعيهما و هو يقول بنبرة قوية:
- مش وقت الكلام ده يا جماعة.. احنا هنا متجمعين عشان بنتنا نور و احنا كلنا أهلها و ناسها و ده المفروض ينسينا أي حاجة حصلت زمان.. صلوا على النبي كده و خلينا نتحرك عشان نلحق الطريق.
كانت حرب الأعين مشتعلة لكن كلاهما أقر بداخله بصحة حديث أحمد.. انسحب كلاهما ليحتل سالم مقعد السائق و من جنبه أحمد و يتخذ نزار المقعد الخلفي بعد أن كان دفع أحمد دفعا ليستقل المقعد الأمامي فهو لا يريد مجاورة ذلك البغيض لساعات.. يكفي أنهما سيتنفسان نفس الهواء الخانق.
مرت قرابة الساعة على قيادة سالم السيارة و أحمد يحاول تجاذب أطراف الحديث معه لكن سالم كان يجيب في كل مرة باقتضاب ليستسلم أحمد بنهاية الأمر و يغمض عينيه ممنياً نفسة بغفوة قصيرة كالتي ينعم بها نزار من خلفه.
- فوقوا يا دكاترة.. احنا وصلنا الحمدلله.
تململ أحمد و هو يحاول زج نفسه لخارج عالم الأحلام الرائق.. مسح وجهه بكفه أكثر من مرة قبل ان يلتفت للخلف ليجد أن نزار ما زال نائما و يشخر!!!
هز رأسه بأسى مصطنع و هو يخرج من السيارة و يقف يفتح ذراعيه و يحرك جسده كي يفرد عضلات جسده:
- تعبناك معانا يا سالم تشكر.
- قولتلك يا دكتور ما فيش تعب و ابقى شوف صاحبك هايصحى و الا هايبات بالعربية.
ابتسم أحمد بتفكه و هو يفتح الباب المجاور لنزار و أخذ يهز كتفه علَه يصحى.. افترق ما بين جفني نزار بانزعاج ليجد أحمد بابتسامته السمجة.. أومأ برأسه أن قد فهم انهم قد وصلوا ليستقيم بجلسته متنهدا قبل أن يدلف لخارج السيارة.
---------------------
وثبت عن فراشها حالما أتاها الخبر.. وقفت أمام المرآة تعدل حجابها قبل أن تهرول للخارج و تنزل درجات السلم بسرعة و قد لاح ظليهما لها.. توقفت و هي تكور قبضتيها معا أمام صدرها و عيناها تذرف دموع الفرع و الشوق.. ابتسم نزار بشدة ما أن رآها و تبعه أحمد.. اقتربت منهم تتحمد لهم بالسلامة و تبثهما فرحتها بقدومهما.. كان اللقاء عاطفيا و مؤنسا حتى قاطعه صوت الحاج عبدالعزيز الجهوري المرحب:
- يا مرحب بيكوا.. نورتوا البلد يا دكاترة.
حول كل من نزار و أحمد أنظارهما للجد بقليل من التحرج أنهما تناسيا وجوده و قد صبَا كل تركيزهما مع نور.. اقترب نزار من الحاج يمد يده بغية المصافحة:
- البيت منور بصحابه حجي.. احنا بنتشكرك على استضافتك النا في بيتك و ان شاء الله ما نكون ضيوف ثقال.
التقط الحاج عبدالعزيز يد نزار بمصافحة ودودة و قال بابتسامة وقورة صادقة:
- البيت بيتكم يا ولدي.. و انتوا أهل بتنا نور يعني ما فيش بينا الكلام ديه.
أومئ نزار بتهذيب ليتقدم أحمد من الحاج و يصافحه و من بعدها استقروا جميعا بغرفة استقبال الضيوف حيث استمرت نور تتحدث دون هوادة أو كلل.. و كم أسعد نزار أنها تشعر بالسعادة.. بأنها تشعر بالانتماء بين أهل والدتها دون تحرج و دون حساسيات.. حمد ربه بداخله و ابتسامته ثابتة لا تتزحزح، و في غرفة النوم التي تم تخصيصها له تسطح نزار على فراشه يحاول إراحة جسده المنهك من السفر.. رجا بعض ساعات من النوم ليقطع رجاؤه دخول أحمد و ثرثرته و تخميناته و و .. :
- يا زلمة خلص خلص مشان الله انت ما تعبت.. أنا تعبت و بدي أنام فروح على غرفتك الله يهديك.
صاح بها نزار ليلوي أحمد شفتيه باستهجان صريح :
- تعبت من إيه يا راجل دي كلها كام ساعة في العربية.. قول بس انت اللي كبرت و عجزت.
انتفض نزار جالسا رافعا سبابته منذرا:
- ما فشرت .. أمثالك اللي بيعجزوا.. أنا شباب ( تمطع بجسده قليلا قبل أن يضيف ) أنا بس عندي شد عضلي خفيف.. عارف كل ما زادت العضلات بتزيد احتمالية الشد.
توسعت عينا أحمد و قهقه عاليا و هو يقول بسخرية:
- نفسي أعرف انت بقيت دكتور ازاي يا راجل.
- اللي اعطاني الشهادة هو نفسه اللي أعطاك اياها فحل عني.
قالها و هو يلوح له بيده أن يخرج و يتركه لينام.. و بعد ساعتين تناهى لمسامعه صوت نور يناديه.. فتح عيناه ببطء يحاول التأقلم مع الإضاءة بعد ان قامت نور بفتح الستائر التي أغلقها بنفسه.. هز رأسه مستفهما لتجيبه بابتسامة سعيدة:
- الغدا جاهز عمو .. يا الله قوم.
تثائب بصوت عال قبل أن ينهض ببطء لتتراجع نور إلى الخلف و من ثم لخارج الغرفة قائلة و هي تدلف خارجها.. أنا رايحة أصحي عمو أحمد ما تتأخر احنا تحت.

على مائدة الغداء كانت الاحاديث متنوعة يحاولون صبغها بسمة العموم كالسياسة و أوضاع المجتمع العربي.. تطرقوا لأعمالهم و ما إلى ذلك.. لم يتطرقوا أبدا لأمجد و سهام فهم الآن في وضع الهدنة و جميعهم يريدون السلام من أجل هدف أسمى بل من أجل رسالة أعظم.. أن تصل ابنتهم لبر الأمان، و في الحديقة الملحقة بقصر التهامي جلس نزار و أحمد يرتشفون الشاي برفقة الحاج عبدالعزيز و أبنائه سالم و مصعب بينما انضمت نور للفتيات كي تفسح المجال للرجال بالحديث.. ناظر نزار ساعته متحدثا بتساؤل:
- هو العريس متى ناوي ييجي؟
أجابه حينها مصعب بتقرير:
- المفروض كمان نص ساعة.. هاييجي هو و عمه.
هز نزار رأسه باتفاق و هو يشعر بقلبه يختض.. هو شعور الأب حالما تحين لحظة اللقاء بالرجل الذي ستنتقل إبنته إلى أحضانه.. شعور قميء يمر به أغلب الآباء و عشرات الهواجس تهاجمهم بخصوص هذا الرجل.. الرجل الذي ستنتمي له ابنته بعد أن كان انتماءها محدد به، و قبل أن تنقضي النصف ساعة طلت سيارة دفع رباعي باهظة الثمن تشق طريقها عبر الطريق الممهد من بوابة القصر الخارجية إلى البوابة الداخلية.. اصطف سراج سيارته ليخرج منها يتبعه عمه.. عدل جاسر من هندام عباءته قبل أن يتحرك متوازيا مع ابن اخيه نحو تجمع الرجال في الحديقة.
نهض الجمع يستقبلون آلـ حرب.. صافح سراج الرجال و ابتسامة غرور لم تستطع كبح نفسها إلا أن تظهر.. حاول مداراتها ما أن تقابل مع نزار.. صافحه بود لينتقل بعدها تجاه احمد و يهديه نفس المصافحة الودودة.. جلسوا جميعا و الحاج يلقي بعبارات الترحيب.. ليسكت الجميع لبرهة ينتظرون أحدهم أن يبدأ.. كانت عينا نزار متعلقة بسراج.. يتفحصه و يدقق بحركاته و سكناته.. لم يحاول مداراة تفحص عينيه حتى بعد ان التقطها سراج.. أسند نزرا قدح الشاي إلى الطاولة و انتصب بجلسته يقول مخاطبا سراج:
- طبعا ما بخفيك إنه لما نور حكت معي و قالتلي انه في شب من مصر متقدملها و انها أبدت موافقة مبدئية أنا ما عجبني الموضوع بالمرة.. أنا بعتبر نور بنتي.. هاي أمانة أبوها و أمها و صعب علي أسلم الامانة لشخص مش هايكون قصاد عيني ( ثم حول نظراته للحاج عبد العزيز ) بس انا متأكد إنه اهلها ما هايقصروا بإذن الله.. و بالنهاية احنا مش رايدين لبنتنا إلا رجل نرتضي أخلاقه و دينه.. فاحكيلي عمي انت كيف علاقتك بربك؟
بهت سراج لهذا السؤال.. إن أراد أن يكون عادلا في وصف نفسه فعنده تتوازى غلظة الخلق و التجبر مع الالتزام بالعبادات و الفرائض الربانية.. معادلة مستهجنة لكنها ليست بغريبة.. لكن ما جعله يتفاجئ بالسؤال هو أنه قد حضر نفسه لمزيد من الشروط من طرف صديق والدها.. مادية في الغالب.. لكن الحديث ما زال قائما فلينتظر و كما يقال ( للحديث بقية ).. ابتسم سراج بهدوء يجيبه:
- الحمدلله يا عمي أنا ملتزم بصلاتي و بصوم رمضان.
ندَت قهقهة خفيفة عن نزار قبل أن يمسح شفته السفلى بإبهامه يطالع سراج بعينين ضيقتين قليلا.. وضع الساق فوق الساق و قد بدأت لعبة الأعصاب لديه ليقول بمنطق ملتف:
- جميل انك تكون ملتزم بالعبادات اللي هي فريضة مفروغ منها.. أنا سؤالي شو علاقتك الروحية بربك يعني هل ممكن تحكي إنه عندك مكارم الأخلاق؟ بلاش هالسؤال أنا هسة لو مشيت بالبلد و سألت الناس كيف شايفين سراج شو برأيك هايكون ردهم؟
استبسل للحفاظ على سكون خلجاته و قد غادره الهدوء الداخلي.. لا يعلم كيف سيجيب على هذا السؤال !! هل يؤثر السلامة منافقا و يجيب ( كل خير ) أم يدلو بدلو الحقيقة أنه غليظ الطباع شرس المعاملة.. استحال صمته لصمت الموتى بطول مكوثه ليتدخل عمه يفصل الأمر:
- سراج ولدي زينة الرجال.. الكل اهنه بيحلفوا براسه.
ابتسم نزار بتفهم قائلا:
- معلش يا سيد جاسر.. حضرتك شهادتك مجروحة بسراج كونك عمه.. أنا بدي أسمع الجواب منه.
كان رجال التهامي يتطلعون للمشهد بقلق.. نور وضحت انه إن رفض نزار زواجها من سراج ستكون تلك النهاية.. وزع سراج نظراته بين وجوه التهامية و عمه المتوترة و من ثم وجه أحمد الجامد و بعدها نزار الذي كان يطالعه بنظرات حنونة لم يفهمها.. تاه للبعيد في نظراته قليلا قبل أن يعقد عزمه و ينطق بـ:
- هايقولوك واحد كله جبروت و غرور.. قلبه قاسي و ماشي بالدنيا مش عامل حساب لحد.
حبس الجميع أنفاسهم حتى أحمد الذي تدلى فكه بصدمة.. ما عدا نزار الذي صدحت ضحكاته عاليا كانه سمع طرفة.. صمتوا يتأملون ضحكات نزار كأن على رؤوسهم الطير و لم يعلم احدهم كيف التدخل و إصلاح الأمر إن كان له من إصلاح.. إلا أن نزار فاجأهم بقوله:
- عجبتني صراحتك عمي.. أكثر إشي بكرهه بالدنيا هو الكذب بتعرف ليش؟
قالها و قد مال بجذعه العلوي للأمام و أسند ذراعيه على فخذيه.. بينما بقي سراج يحدق به دون أن يبدي أي رد فعل ليستطرد نزار:
- لإنه لما أوخذ عليك كلمة رجال إنك راح تصون بنتنا و تكرمها و تحافظ عليها و عمرك ما تهينها هاكون متطمن إنك صادق بكلمتك.. الحكي اللي قلته هاد اله دلالات كثير و من نظرتي إلك ما أظن إنه غرور و كِبر زي ما حكيت ( عض باطن خده قبل أن يضيف ) غالبا قسوة قلبك اللي بتحكي عنها هاي مجرد قشرة خارجية عمي.. أنا راح أحكيلك كيف عرفت.. لإنه لما كنت تعدد صفاتك تعابير وجهك ما كانت مرتاحة و لو ما انك شايف غلط بتصرفاتك هاي كان حطيت إجر على إجر و حكيت اللي حكيته و انت بتضحك و رافع راسك بالعالي.. كمان انت حكيته بنبرة اتهام لنفسك لو غير هيك كان حضرتك اعتبرت انه الصفات اللي حكيتها هي ميزة كبار القوم زي ما بنشوف هالايام.
كز سراج أسنانه حتى كاد أن يطحنها و قد غزت بشرته الحمرة المختنقة.. لا يعلم هل هو غاضب من نفسه أم غاضب من هذا الذي أمامه يحلل دواخله و يقيمه نفسيا و سلوكيا.. بقي صامتا و عيناه معلقة بنزار كأنما إن حادها سيثبت أن ما قال حقيقة.. أوليس كذلك!! ( فكر متمنعا ).. كان نزار يراقب تبدل انفعالاته على صفحة وجهه بتأني.. قد أوقن أن هذا الشاب لديه معدن أصيل لكنه إنسان غاضب و الغضب يخرج أسوأ ما بالانسان للأسف.. تنهد و هو يرجع ظهره للخلف مستندا لظهر المقعد يقول:
- شوف عمي انت يمكن تقول انه احنا ما النا دخل إنه نقعد نحلل بشخصيتك بس بحب اذكرك إنه انت طالب القرب من بنتنا.. بنتنا اللي إن تم النصيب هاتعيش معك و تواجه شخصيتك هاي بعيوبها قبل محاسنها.. طبعا العيوب بشخصية الانسان ما بتنتقص منه احنا كلنا عندنا عيوب ما في إنسان كامل.. لكن بالمقابل في قدرة تحمل من الطرف الآخر.. و في حال ( قالها مشددا على العبارة حتى كررها منوهاً أن الموافقة ليست نهائية) في حال صار نصيب بإذن الله طباعك القاسية هاي أكيد ما هاتدخل بيتك و الا شو؟
أجابه سراج بصوت متحشرج و هو يشعر أنه أمام أستاذ في المدرسة و هو الطالب المذنب:
- أكيد يا عمي.
أومئ نزار برضى و هو يبرر لسراج بلفتة غريبة:
- انت يمكن مستغرب ليش ما انزعجت لما حكيت اللي حكيته عن حالك.. انا الي نظرة بالناس يا ابني و انت واضح عم تجلد ذاتك و جواتك غضب ما بعرف سببه ممكن بسبب انك فاقد لابوك و امك بسن صغيرة الله يرحمهم ( أمن الجميع على دعائه ليستكمل ) ما في حدا بيذم حاله بهالاسلوب الا اذا بيبالغ او مش عاجبه حاله.. يعني في نية للتغيير و هاي بالعادة بتنترك للأنثى.. ( ابتسم بعبث ) أنا يا عمي قبل ما اتجوز كنت زي ما بتحكوا مقطع السمكة و ذيلها ( على حد ظنه ) لكن اتجوزنا و الحمدلله انعدلنا سواء برحابة صدر أو بشكل قسري بدك تنعدل بعد الزواج و الزوجة اللي بتفهم بتعرف كيف ترجع زوجها للطريق القويم إذا حاد عنه لكن بدك يكون في نية للتغير عند الزوج و الا ما بتفلح المساعي.. و أنا يا عمي بقدر اتفهم اذا كنت شديد شوي مع اللي بيشتغلوا بأرضك و شركتك من منطلق المال السايب بيعلم السرقة بس كله بالعقل يا عمي.. المهم.. سمعت انه عندك أخت احكيلي عن اختك شوي؟
كان ساهماً شارداً و كأن كلمات نزار ارتحلت به لزمن بعيد.. زمن لم يعلم فيه كيف يكون الغضب.. زمن كان فيه طفلاً لا يفقه من شرور هذا العالم شيئا.. طفل اضطره الواقع أن يضحي رجلا قبل أوانه و فقد معاني الحياة السوية في كنف أبوين يحبانه و يغدقان عليه بالرحمة و الحنان.. طفل انتهكت سذاجته التي هي أجمل سمة بمن هم في عمره حين وجد نفسه وجها لوجه مع كلمات أكبر بكثير من عمره " ثأر.. قتل.. و حقد ".. خلال سنوات طفولته كان يجتهد بالتفكير لما يحدث ما يحدث؟ و كيف يمكنه تغيير واقعه؟ غامت عيناه أكثر و نزار ما زال يتحدث.. لكنه سرعان ما عقد حاجبيه بضيق حين وصله سؤال نزار عن أخته...
- مش فاهم السؤال (شمل الجميع بأنظار مستنكرة قبل ان يزيد بصوت خرج محتدا رغما عنه) إيه دخل أختي بكلامنا؟
اقترب نزار بجذعه من سراج ليربت على فخذه و من ثم عاد لوضعية الجلوس المستقيم يشرح:
- يا عمو انا مش قصدي عاطل لا سمح الله.. أنا بس بيهمني أعرف طبيعة علاقتك بأختك تنساش هاي من اهل بيتك زي ما أي وحدة هاتتزوجها هاتكون.
ابتسم سراج بارتياح يجيبه بصدق:
- أختي هي وردة حياتي.. أنا أخوها و أبوها و صاحبها.. عمري ما اسمح لحد انه ييجي جنبها أو حتى يكدرها.. دي بنتي مش أختي.
تبادل نزار نظرات ذات مغزى مع أحمد ليقول بعدها نزار :
- الي ما اله خير بأهله ما اله خير ببنتنا الله يخليكوا لبعض انت و اختك .. بس مع هيك يا ابني بدك ما تآخذني أنا مش موافق على طلبك بالزواج من بنتنا.
--------------------------------

كانت تذرع أركان حجرتها ذهاباً و إياباً و عقلها يعمل كما المكوك.. تريد أن تعلم ما يجري بالاسفل.. لم تستطع استراق السمع فجلستهم بعيدة عن أي حاجب قد يواريها.. دخلت عليها رحمة لتهرول نحوها نور مما دفع رحمة أن تتوسع عيناها بخوف:
- إيه إيه مالك يا بنتي؟
- عرفتي شي؟ سمعتي شي؟
رفعت رحمة أكتافها لتقول بنفي:
- لاء و انا هاعرف منين.. أنا جاية اطمن عليكي يا بنتي.
كانت تفرك يديها سوية و قد عادت لنفس الخطوات المتوترة:
- مش عارفة.. متوترة و معدتي عم توجعني.. التوتر بيخلي معدتي توجعني.
قالتها و هي تكاد أن تبكي لتقترب منها رحمة توقفها و تحيط كتفيها بذراعها و هي تقتادها للسرير يجلسون عليه:
- يا حبيبتي يا خبر بفلوس بعد شوية يبقى ببلاش.
- الله يجيب اللي فيه الخير.
ثم التفتت نور نحو رحمة تتفرسها لتقول باستفهام:
- صحيح شو صار بقصتك مع مجنون رحمة؟
كبحت رحمة ضحكة رائقة لتنفلت قسرا و تضرب الكف بالكف قائلة:
- و الله احنا الاتنين ربنا بالينا بعاهات.
ثم ارتمت بجسدها على السرير و ساقيها يتدليان منه متحدثة و هي تحرك يديها بشكل مسرحي:
- و لا حاجة يا ستي.. أمي جاتني و قعدت تمهد للموضوع.. انا قلت هاتقولي على محمد بقى هوب و الا هي بتقولي على العريس الجديد الدكتووووور و انه هو و امه و اخواته جايين لنا بكرا.. طبعا بعدها سابتني و انا قلبي بيطرقع و خايفة المجنون يعمل حاجة مجنونة زيه.
- يعني ما جابتلك سيرة محمد .. خالي ما حكى معها.
- لاء استني جايالك بالحوار أهو.. بعد ما خرجت بنص ساعة يا ستي جتلي و هي متوترة و مش عارفة تلم الكلام على بعضه.. قولتلها ما تتكلمي يا حجة و تخلصي قام قالتلي انه محمد طلبك كمان مرة و حالف انك لو رفضتي المرة دي ليكون مطربق الدنيا.
تناست نور موضوعها لتندمج اندماجا كليا مع قصة رحمة.. صدحت ضحكاتها المستمتعة لتجلس متربعة بالقرب من رحمة المتمددة لتنطق لتسأل بمكر:
- و انتي شو حكيتيلها؟
نظرت لها الاخرى بمكر لا يقل عن الاخرى و أجابت ببراءة مزيفة:
- قلتلها و ماله أهو يبقى الخير خيرين.. انا اشوف الدكتور اكمنه عيب نقولهم ما يجوش بعد ما اديناهم ميعاد و مين عارف يمكن يعجبني و اعجبه و تخلص الأمور على خير.. أما محمد فهو و نصيبه بقى.
عقدت نور حاجبيها تحاول فك الطلاسم التي نطقت بها رحمة..
- ما فهمت.. انت مش حكيتي بدك محمد.. فليش هاللفة هاي مش فاهمة أنا.
حتى أضاء ذهنها بفهم لترقص بغتة بجذعها العلوي و تغني :
- اااااااه .. و جرب نار الغيرة جرب و قولي آه قولي.
هدأت الضحكات قليلا لتحذرها نور:
- ترى يمكن يتهور و ينعمي ضوه و يطخك و يطخه و يضل يطخطخ تا يخلص الفشك.
اعتدلت رحمة بجلستها تشير بيدها بغير اكتراث:
- و لا تفرق معايا.. بعد الرعب اللي عملهولي لما دخل عليا القوضة و يقولي عايزاني افضل راكع و مش عارف ايه انا بجد اتخنقت منه.. بعدين هو هايفضل يحاسبني على الماضي لحد امتى.. انا وقتها كان ليا عذري يا نور و هو لا راضي يسامح و لا عايز يبعد و فوق كده مصمم يتجوزني بس عايزها بالعافية و انا شايفة انه لازمه خبطة على دماغه تصحيه ( التفتت حينها لنور تقول بجدية ودودة ) عارفة يا نور.. أنا بشكر ربي انك دخلتي حياتنا.. حياتي أنا بالذات.. انا كنت عايشة بالضلمة و رافضة إني أشوف حب محمد و خايفة دايما خايفة.. و انتي جيتي و غيرتي جوايا حاجات كتير و خليتيني أفتح عيوني على حاجات جميلة في حياتي.. انا بجد مش عارفة اشكرك ازاي.
دمعت عينا نور لتأخذ رحمة في حضنها و هي تمسد على ظهرها برفق مفكرةً بسخرية مريرة أنه لربما محمد لن يتبنى نفس شعور رحمة تجاه ظهورها في حياتهم بعد الذي سيصبح.
----------------------------------------------
في الأسفل كان يجلس برفقة جدته و عمته.. ناولته عمته الشاي و هي تتجنب النظر إليه مما أجج حيرته و هواجسه.. ادعى انه منشغل بهاتفه يطالع صفحات التواصل الاجتماعي بينما كانت الاثنتان منشغلات بالحديث بخفوت :
- هي قالتلك انها موافقة تشوف العريس؟
طرفت أحلام بعينها نحو محمد تتأكد أنه لا يصله شيء من حديثها لتعود بأنظارها لوالدتها تجيبها:
- أيوة اكمنه يعني اديناهم كلمة و ما ينفعش نرجع فيها و بتقول يمكن يكون خير ليها و يكون ديه فعلا نصيبها.
لوت الحاجة فتحية شفتيها بعدم رضا معلقة:
- و المخبول اللي ملقح اهناك ديه هاتقولوا له ايه.. ديه لو شم خبر هايهدها على روسنا و مش بعيد يطرد الضيوف كمان.
وضعت احلام يدها على جبهتها و قد أعياها كثر التفكير لتجيب بقلة حيلة:
- مش عارفة يا اماي هي قالت اكده.. بس اني حاسة بحاجة مش تمام.. البت بتي و اني عارفاها هي رايدة محمد و ما فاهماش هي بتعمل اكده ليه.. و على الحالتين ما ينفعش نقول للعريس و اهله ما تجوش فخليها على الله هو يسترها و ايانا.
جعدت فتحية أنفها و هي تقول بحدة لابنتها:
- أني تعبت من حديت الاتنين الماسخ ديه.. لميتى هانلعبوا لعبة القط و الفار ما تخلي بتك تحط عقلها براسها و بكفاياها عند عاد.. عالعموم احنا نقول للحاج و هو يتصرف انا ما قدراش للملاوعة.. خلاص فاض بيا.
مراجل الغضب كانت تغلي بداخله.. وصله حديثهن كاملا دون ان يشعرن.. أوهمهن بالتباعد الذهني لكن تركيزه كان كافيا ليسمع دبيب النمل إن أراد.. إذا فرحمته تبتغي اللعب على أوتار عمرها.. ابتسم شرا بمواراة فهو كما صرحت جدته.. سيهدم البيت فوق رؤوسهم و ليكن ما يكن.. قد أنهك عنادها قلبه و أضنى فكره و ثمار قصتهما قد اتت أكلها.


وفاء حمدان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس