عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 09:39 PM   #2274

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile7

الفصل السادس والعشرون ج2



"إذاً، أنت حصلت عليه بكل هذه السهولة ومن أول مقابلة، لما أجدني غير قادر على تصديقك؟!"

قال ممدوح بنزق وهو يفتح الباب الخلفي لسيارة إسراء والتي استولى عليها فور أن قدم لهنا "بالله عليك، وما الذي يدفعني للكذب, هذا عمل يا مراد، والرجل الذي واجهته الآن يبدو أنه يعلم جيدا كيف يقيم كل ملف مطروح أمامه وقد يحصل منه على منفعة محتملة؟!"

قال مراد متهكم "هذا مؤكد... رغم نفوري منه أنا لا أنكر أنه عقلية جبارة تستحق الاحترام.. انظر إليه استطاع في فترة قليلة أن يدمج شركته حديثة العهد بشركات الراوي التي حارب الكثير للوصول إليها..!"

عرج ممدوح بشكل واضح حتى وصل لمقدمة السيارة وإتكأ عليها وهو يقول بهدوء "هل هؤلاء هم عائلة زوجة إيهاب؟!"

لم يجرؤ على نطق اسمها، وبالطبع كيف يفعل ومجرد طيفها يسبب له جرحاً دامياً محفوف بالكثير من الندم، ربما هو تخطى الكثير من أغبرة الماضي... ولكنه ما زال محبوس في حادثين، لم يستطع أي دعم أو علاج قاسي تلقاه على يد أخته وزوجها... أن يتخطاهما، الصغيرة البريئة وصاحبة الحداد التي هجرته وتركت له أطلال من الحزن الذي لا يمحى؟!

سمع مراد يقول "يفترض أنك تعلم، ألم تتبجح بإخباري أنك درست خصومك جيداً قبل أن تقدم على ما تريده؟!"

عيناه الخضراوان كانتا شديدة العمق وهو يغرق في النظر داخل خطوط تفكيره دون تجرد ثم قال أخيراً "لن أطلق عليهم خصوم كل ما أسعى إليه هو سداد ديون تثقل كتفي؟!"

زفر مراد بتعب قبل أن يقول "حسناً.. حسناً انصتلي جيداً لأن القادم هو التهديد الحقيقي لنا؟!"

تأهب ممدوح وهو يعتدل من على مقدمة السيارة وهو يقول "لا تقل إنك استطعت أخيراً ترتيب لقاء لي معه؟!"

قال مراد "هو لا يعرف أنك طرف في هذا اللقاء.. لذا أرجوك لا تفسده، لا أهتم بما قد تخبره إياه.. ولكن احرص أن لا تضيع تلك الفرصة لأني لن أقدم لك غيرها أبداً؟!"

هزت قشعريرة عابرة جسده النحيل قبل أن يقول بنبرة مهزوزة "لا تقلق ربما هو يملك كل الحق في الحقد عليّ، زجي بعيداً لو حتى ضربي دون أنأستطيع الدفاع عن نفسي... ولكن أنا الآخر أملك من طاقة الغضب قوة، لا يستهان بها, سلاح فتاك سيجعله يرضخ لي بالنهاية مستمع لما أودّ قوله؟!"

تمتم مراد بشيء ما على وعد ما باللقاء... وأخفض ممدوح هاتفه قبل أن يلتف متوجه لباب مقعد القيادة حتى أوقفته تلك الأنثى التي اصطفت سيارتها خلفه، وهبطت برشاقة وأناقة وخفة ساحرة، تخطو نحو المكان الذي خرج منه لتوه "مريم؟!" هتف دون سيطرة على أفكاره بينما يحدق في المرأة التي التفت إليه من خلف كتفها تنظر إليه بسطحية دون اهتمامحقيقي "عفواً هل تقصدني؟!"

الارتباك كان يغرقه وهو ينظر للشعر العسلي المنسدل بحلقات حلزونية يحيط الوجه المستدير شديد البياض، ووجنتيها الممتلئتين المرفوعتين بأناقةوذلك الأنف الصغير المرتفع بكبرياء تعلوه عينين عسليتين قويتين مخيفتين، تختلط فيهما مشاعر كثيرة عدا الضعف أو البراءة؟!

عندما طالت إجابته رفعت حاجبيها المنمقين باستهجان رامقة إياه بنظرة تقليل.. مما أجبره على أن يقول باعتذار "آسف.. ظننتكِ شخصاً آخر؟!"

أومأت بجانب وجهها دون اهتمام قبل أن تلتفت مرة أخرى متخذة طريقها نحو المبنى وهي تقول "لا عليك دائماً النظرة الأولى والتي تتسم بالسطحية تصدر حكم مسبق وظالم، أنصحك بالتريث والتفكير قبل أن تسمح للأفكار أن تتجاوز شفتيك؟!"

تابعت طريقها بينما تضيق عيناها بغرابة.. هل رأته من قبل الشبه ليس غريب ومعرفته باسم أختها يثير لديها الكثير من علامات الاستفهام؟!

اختفت بعيدًا عن عينيه المفزوعة أخيراً تاركة سؤال يعلق في رأسه هل هو جاهز بالفعل لكل ما ينتويه، إذ كان مجرد مرور عابر لشبيهتها لها دمره دون رحمة..فكيف يكون الأمر إن واجهها هي ...أو أسوء إن عثر على زوجته النازحة؟!

..............................................



"مرحباً بكِ، في فرعنا المتواضع؟!"

ابتسمت بدور على المداعبة، قبل أن تتقدم نحو المقعد واضعة خطواتها واحدة تلو الأخرى بتمهل وتريث وكأن ساقيها الطويلين الممتلئين مزمارين يطلقان أعذب الألحان التي تجذب نظر كل من تمر أمامه دون قدرة لهم على نزع أعينهم عنها.. قالت أخيراً في رزانة "على الرحب سيد تميم، لقد أتيتلإخبارك بنفسي بما جرى في الاجتماع العاجل اليوم، لعدم مقدرتك على القدوم، كما أني ارتأيت أنهمن الأفضل أن أمنحك أوراق الصفقة الأخيرةبنفسي!"

كان قد وصل إليها في منتصف الطريق، فمدت يدها بتلقائية قاصدة تحية قصيرة، ولكنه في حركة جريئة كان يرفع كفها نحو فمه ويلثمها في احترام... ارتبكت وهي تسحب يدها سريعاً متمتمة بتوتر "لا أحبذ هذه التحية تميم حتى وإن اقتضىالإتيكيت بفعلها؟!"

أشار بيده نحو الأريكة الجلدية التي تتوسط مكتبه رفيع الطراز.. في دعوة للجلوس ولكنها تخطته بهدوء لتجلس على مقعد مواجه لمكتبه ثم قالت "لا داعي,أنا هنا في عمل!"

عاد لمكانه وهو يقول مباشرة "لما الاستمرار بالرفض؟!"

غمغمت "ولماذا الإصرار؟!"

تراجع في مقعده يترصدها بتلك النظرات التي تعلو عينيه المخيفتين دائماً ثم قال "وما المانع في إصراري على ملاحقتكِ.. أخبرتها لكِ سابقاً.. أجد فيكِ كل مواصفات الزوجة التي بحثت عنها طويلاً.."

مدت إصبعي السبابة والوسطى تدفنهم خلف أذنها تمسد هناك، في حركة أوضحت له كم التوتر الذيتخفيه خلف قناعها الخرساني ثم قالت بهدوء "هل تعرف تاريخي كله حقاً يا تميم؟!"

لم يظهر أي تعبير على وجهه جامد الوسامة .. بل ظل ينظر إليها متمعناً وكأنها تسأله عن طبق اليوم في أحد الجرائد، ثم قال أخيراً بسلاسة "و هل ما كان يتردد عنكِ في الوسط صحيح يا بدور؟!"

أطلقت ضحكة استهجان قصيرة قبل أن تقطعها سريعاً وهي تقول بجفاء "وهل إن كان صحيح، كان حرمني من صغيري؟!"

تميم كان رجلاً معقداً، لا تستطيع أن تصفه بالذكاء فقط أو حتى بالمكر كما أنه كان أكثر بكثير من أن تطلق عليه رجلا قوياً مسيطراً وتكتفي، بل بجانب غموض حياته هو كان أعقد من أن تفسره ببساطة، ربما لهذا السبب بالذات هي تسمح له أن يتسلل داخل حياتها ببطء... ربما الدافع الحقيقي أنه بطريقة أو أخرى يذكرها براشد..!

أغلقت جفنيها سريعاً لوهلة ناهرة نفسها بقوة "لا تذكريه هو لا يعنيكِ، مجرد رجل خطف صغيركِ، ويوم أن يعيد خالد ابنكِ ستتخطينه!"

سمعت تميم يقول بنبرة غريبة "لا ليس هذا دفاعكِ يا بدور، أنا لا أصدق ببساطة لأني الآن بتّ أعلم جيداً أي امرأة قوية، فخورة حرة أنتِ!"

لم يظهر أي تعبير على وجهها أرستقراطي الجمال، لولا لمعة دموع أبيّة طفرت من عسل عينيها وارتباك أناملها التي طرقت سطح المكتب بتوتر و شرود "كان لدي فرسة تسمى حرة، قُتلت يوم ولادتي إياب، لقد غافل كلب شوارع مسعور السايس وهجم علىوليدها الذي كانت وضعته منذ أيام، حاولت الدفاع عنه، فكان نصيبها أن يقفز على ظهرها ويترك هناك علامة عضته القاتلة!"

الآن كان الارتباك من نصيبه، إذ أنها أبداً لم تقدم على إخباره بشيء شديد الخصوصية كهذا.. أكملت وهي ترفع وجهها ترسم ابتسامة خادعة واهية مشوبة بالكثير من الحزن "لقد قام زوجي السابق بقتلها بنفسه، من فوارق القدر أن فرسته تلك كانت آخر رمز في قصة.. عش... أعني

زواجنا؟!"

قال تميم بتلقائية "سمعت عنه الكثير وقابلته مرة واحدة دون أن تأتي فرصة للتعرف المباشر بيننا، ومن بين كل ما اعتقدته عنه لم أتوقع أنه حقير بهذا الشكل؟!"

دبت بدور على المكتب بحدة وهي تهتف "لا أسمح لك أو لغيرك بنعته بهذا وأمامي!"

"هل هذا السبب في رفضي المستمر.. أنتِ ما زلتِ تتألمين.. أنتِ تحبينه؟!"

صراحته كانت مثيرة للغيظ، ومن ذاك الأحمق الذي ادعى أنها قد تنسى رجل حطمته وحطمها، أبداً...

قال بإغاظة "وهذا هو المقصود، الأحكام المسبقة التي نفرضها على البشر دون معرفة مسبقة دون أن نتعامل معهم حقيقة.. نقترب منهم ونتعرف عليهم.. نرى ما خلف الوجوه الخادعة التي يقدمها لنا مجموعة من الحاقدين من فرضيات حول الشخص المقصود؟!"

هزت رأسها بيأس وهي تقول "للأسف هذا صحيح، بعض الأشخاص يريحهم بل ويسعدهم فشل إنسان ما، أو إثارة أقاويل سيئة حوله، شاعرين بالرضى الداخلي عن أنفسهم, مشبعين أحقادهم وإخفاقهمالشخصي, متوهمين أن وقوع هذا "الشخص" نصراً لهم هم؟!"

قال تميم بهدوء "بالضبط يا بدور.. كما أنتِ تطلقين الحكم المسبق عليّ وتتحاشين سؤالي المباشر، هل جنسيتي المزدوجة و التي تتيح لي الدخول لبلاديالأصلية والخروج منها بأريحية .. كما يتهمني البعض أم لا؟!"

إلتوى جانب فمها بتلك الابتسامة الشرسة قبل أن تحدق فيه بقوة وهي تقول ببطء "بالنسبة لأبي الذي قبل التعامل معك أنت مصري بأصول فلسطينية.. وبالنسبة لي أنا شخصياً لا دخان دون نار، وأنت تطلق حولك شائعات من ذلك النوع الذي لا يقبل التهاون فيه أو التفهم؟!"

تمتم بصوت أجش شارد "كل منا يرى هذا الأمرب منظوره يا بدور؟!"

قالت ببرود "ما جعلني أقبل التعامل معك أني عانيت بالفعل من أحكام ظالمة.. ربما أنتَ لا تحمل تلك الجنسية، ربما ما يدور حولك ظلماً أو مجرد شائعات، وربما أخرى أن أهدافك نبيلة، وتناضل في القضية بطريقتك.. ولكن هذا لن يمنع اتهامك بالخيانة العظمى إن طبّعت معهم يوماً؟!"

بدا أنها أخذته على حين غرة، أو قالت شيء أثار إليه ذكرى موجعة أتت من الماضي السحيق، وكم كانت محقة عندما شردت عيناه للبعيد واشتدّ فكه متلوي بعنف وكأنه يعاني من طيف ماثل خنجر مسموم إنغرس في منتصف صدره..

رفعت وجهها بحدة تحدق فيه بحقد.. بكره لم يحجبهحتى نبرتها المشحونة بدموع العين "أنتَ منهم؟!"

ضغط تميم على ذراعها بكفه في محاولة مستميتةلجذبها بين ذراعيه.. ثم قال في مهادنة "كل منايدافع عن القضية بمنظوره؟!"

صدته بكفها بحده توقفه! ونزعت نفسها منه بغضبوهي تهمس من بين أنفاسها "بالتطبيع وبالانتماء إليهم يا خائن؟!"

بهتت ملامحه، ليس بفعل الغضب الذي أثقل لسانه،ولكن صدمة.. وذهول الجهل؟! "وماذا تعرفين أنتِ عنا"دير" لتحدثيني بتلك النبرة؟!"

لم تجبه بل لملمت خيباتها، وصدت نور الشمس التي ظنت أنها ستشرق دنياها، وحجبت نفسها المنتهكةفي الظل، في تلك الزاوية المحجوبة لخيبات البشر...

ثم كانت تترك لساقيها العنان تسابق الريح تاركة إياه خلفها "مجرد حطام تسمع صراخه باسمها"المجهول؟!"

فلا يزيده إلا إصرار للفرار....

"تباً لطيف غزالته الصغيرة المخادعة.. إلى متى سيبقى مسجون في عبيرها يحاول مقارنتها بوجه كل امرأة تقع في طريقه؟!"

نفض رأسه وكأنه ينفر ذكراها بعيداً، يعود يحدق في ابنة الراوي, يعلم أن لا أحد قادر على سد تلك الفجوة إلا امرأة كبدور.. امرأة تماثل غزالته قوة وإباء، شابة تعلم جيداً كيف تولد من رحم كل معاناة بروح جديدة وكأنها إحدى محاربي الفايكينغكلما سقطت، وظن أعدائها أنهم طوعوها بانهزام، تقف من جديد تهب حاملة سيفها، وتخوض كل معاركها بنفسها!

"ما زلت أنتظر موافقتكِ.. واعلمي أني سأقدم لكِ كل فروض العشق والإخلاص، لا أحد قادر على احتواءامرأة مثلكِ غيري؟!"

ربما جملته تتشابه مع جملة الحقير قديماً ولكن شتان بينهما, فرغم كل شيء تميم الخطيب رجل بحق، مخلص وعون في الأزمات.. رجل لا يحمل أيضغائن أو أهداف قذرة.. ورغم احمرار وجنتيها بخجل من جملته المداعبة الواعدة كانت تقول بهدوء "أنا قضية خاسرة يا تميم لا تبني أحلاماً حولي، إذ أني لا أملك شيئاً من نفسي وقد سبق وأخذ ابني وأبوه من قبله كل شيء!"

.................................................. .



الساعة كانت تخطت السابعة مساءً، كان يعلم جيداً أنه تأخر ومن المفترض أن اليوم هو يومه المرتقب الذيحدد منذ شهور طويلة بين العائلتين ولكنه كان يحتاج للعمل، للغرق في إنجاز شيء يلهيه عن ذلك الخافق بين أضلعه كما كان منذ أن تسلم الراية من والده الذي تمكن المرض منه أخيراً جابره أن يلازم الفراش معظم الوقت... ربما هو تقدم وأخذ دوره، حاول أنيقدم العون للجميع...

"حياتنا مقدرة، مهمتنا التي ولدنا من أجلها هي لعب الأدوار لحماية كيان أكبر من أنانيتناالبشرية..." تذكر كلمات راشد التي ما زالت ترن في عقله بصدى مدوي وجارح..

أغلق عينيه بألم سامح للهواء البارد أن يلفح وجهه عله يطفئ نيران الجحيم التي تضرم في سائر جسده آكلة إياه من الداخل كما الخارج! تقوس فمه بوجع بينما يهمس "وأخذت بدوري هذا يا راشد، ومحوت الأنا خاصتي من قاموسي, طيبت جروحهم وقدمت العون لهم، ولكن من يشفي ندوبي أنا؟!"

فتح عينيه وهو يولي وجهه شطر السماء، يناجى ربه بمزيد من الألم "لقد طلبتها منك يا الله، ترجيتهاوتمنيتها.. أترى حرماني منها لأني خنت حدودك يا الله فيها، أهذا كان عقابي العادل؟!..." فرك وجهه بقسوة وهو يستغفر الله مراراً مطلقا رضى وحمد بكل ما قُسم له..

ربما هو يقبل دون جدال في ترتيب رب العباد سبحانه ..ولكن بالنهاية هو مجرد بشر، بشر يملأه الحقد والغضب من عبثيته القوية التي تركته خلف ظهرها، دون أن تلتفت إليه يوماً دون أن تحاول تخطي كل الصعاب كما حلم كل ليلة، وتعود هي تتواصل معه تبحث عنه، تعتذر منه وتراضيه.. كما كانت تفعل دائماً؟!

تحرك من مكانه أخيراً مراده تلك البقعة من كورنيش النيل إلى الأبد طاوياً كل ذكرياته وملقيها في المياه الجارية لتجرفها بعيداً عنه مخلصاً نفسه من كل أطيافها.. فبعد الليلة لن يسمح لنفسه أبداً، بأن يتذكر.. بأن يزور أحلامه طيفها، بأن يناجي قلبه الخائن رحيقها... هو تخلص منها وكرهها، بل وحقد عليها منذ أن توقفت عن منحه حق التنازل من أجله كما كانت تفعل دائماً.. تحرك مستقل سيارته أخيراً راسماً وجه متماسك، سعيد وفرح لمناسبته المنتظرة...

متغافل وغافل كالكثيرين عن نقطة هامة... بأننا نقدم أنفسنا نرهقها ونتحامل على أوجاعنا.. مقدمين كل شيء للطرف الآخر حتى لا نخسره.. ليعتقد بعد مرور الزمن أن هذا حقه المكتسب فينا وبأن تلك التنازلات واجب علينا، لا تكرم منا بدافع الحب والعاطفة تجاههم.. وهذا ما فعلته سَبَنتي دائماً ما كانت تلحقه تقدم له التنازلات ترضى منه بأقل المشاعر حتى اعتقد أنه حق مطلق لا تملك هي أن تتراجع عنه أو تكتفي من فعله؟!

.................................................. .



طلت بدور متأبطة ذراع شيماء تتهادى في مشيتها الفارعة بذلك الفستان الذي اختارته بعناية لهذا الحفل الذي يعد أول ظهور لها للعلن منذ سنوات طويلة، فقد كانت تتحاشى خلال العامين السابقين أي تجمعات لطبقتهم الاجتماعية حتى تتلاشى الألسنة الجارحة التي تعلم جيداً أنها تتهامس عليها من خلف ظهرها.. ربما الناس تنسى سريعاً متلاهين في شائعة أخرى لشخص أخر، ولكن دائماً بعض الوصمات لا تمحى وتبقى شارعة في وجهها بقسوة الاتهام...

تسللت إليها ابتسامة فخورة وهي تراقب الأعين التيتعلقت بها متفحصة فستانها من طبقات الحرير والشيفون باللون

الأرجواني الغامض وتنتشر فيه ورود من البنفسج بالأكمام الواسعة عند الذراعين، ويهبط من علىكتفيها كاشفها دون أن يظهر منطقة الصدر، والتيإلتفت حول الفستان بإحكام ليهبط نحو وركيها باتساع مغطي حتى كعبي حذائها ويستدير حول خصرها الدقيق خيط من الساتان محددا نحوله...بينما امتقع وجهها بزينة بسيطة وتسريحة أنيقة جمعت فيه أطراف شعرها لتغطي عنقها وينسدل حتى منتصف ظهرها

"لا تقولي أرجوكِ أنكِ خطفتِ الأنظار من العروس" همست شيماء ضاحكة، والتي كانت قد اكتفت بفستان بسيط من الحرير الأزرق الناعم والخالي من أي بهرجة..

قالت بدور هامسة "بما أن كل الأعين تتفحصكِ أنتِ باهتمام, أعتقد أنكِ تفوقتِ على كلينا؟!"

ارتبكت شيماء وهي تضم عصاها إلى صدرها تعبث في خصلات شعرها الأشقر الكثيف محاولة جذبه ليغطي ملامحها.. أمسكت بدور بيدها وهي تقول بحزم "توقفي، لا تجعلي أحد يهزمكِ، الجميع لا ينظر إليكِ إلا بإعجاب وحسد؟!"

قالت شيماء متهكمة "تقصدين بشفقة على جمال ناقص؟!"

توجهت لإحدى الطاولات التي خُصصت لها ولأخواتها ثم هتفت باستنكار "بالله عليكِ، وكأن أحدهم يستطيع تحقيق نصف ما فعلته أنتِ، ربما العمى لم يصب أعينهم، ولكنه أصاب فطرتهم وضمائرهم؟!"

سحبت شيماء مقعداً ثم قالت "لم أقبل بأن أتي إلىهنا، ليس من أجل خوفي من نظرات الشفقة كما تعتقدين.. ولكن ما يحدث هنا خيانة يا بدور... خيانة وغدر.. أنا لن أستطيع القيام به؟!"

سحبت بدور مقعداً وجلست بجانبها متعالية علىالنظرات التي ما زالت تلحقها بعد أن تعمدت أن تكون آخر الحاضرين بدخول مميز يليق بعودتها إلى الساحة، غير سامحة لأحد منهم أن ينال من لحظات ضعفها، التي لا تترك لها حرية التحكم فيها غير داخل حدود غرفتها أو مع أخيها ومريم كما كانت دائماً ثم قالت أخيراً "نحن مجبرين على هذا.. صدقي أو لا أنا الأخرى أرفض ما يحدث هنا جملة وتفصيلاً ولكننا لا نملك إلا الابتسام وإيهام الجميع أننا نقف متكاتفين بجانب أخينا الوحيد؟!"

أطرقت شيماء برأسها ثم قالت بجفاء "أنا لن أقدم له مباركات يا بدور, فليكتفي بهذا القدر مني؟!"

قالت بهدوء بينما تراقب شذى التي تتنقل بين الضيوف تضايفهم مع والدتها كسيدة مجتمع كالمعتاد... ثم قالت "لا نحن لسن مضطرين لهذا..أخواتك الكبار يقمن بالأمر علي أكمل وجه!"

"هل من الطبيعي أن أشعر بالرغبة في التوجه لأخيكِوضربة حتى أغير ملامح وجهه؟!"

ضحكت دون بهجة وهي تقول لنوة التي احتلت مقعد بجانبها "هذا قراره يا نوة.. والذي اتخذه بعد أشهرمن التفكير، بمساعدة أبيكِ وخططه الجهنمية كالعادة؟!"

رفعت نوة كأس من العصير تتجرع منه بغيظ دفعة واحدة قبل أن تقول "ربما الفتاة جيدة, لم تترك جانبنا لسنوات ولكني لا أتقبلها؟!"

قالت بدور بهدوء "الفتاة لم تخطئ في التقرب منه وجذب اهتمامه، وفي رغبتها بالارتباط برجل كخالد.. هي لم تفعل شيء مشين ولم تقدم على خطط جهنمية لتفريقه مثلاً عن شخص يحبه.. بل وقفت بجانبنا.. آزرتنا بصبر في أحزاننا.. كم أن أبيهاوقف بجانب والدكِ ودعم موقف خالد حتى استطاع أن يقف على قدميه!"

هزت نوة رأسها قبل أن تستطيع أن تتحكم في نفسها وتعود لسكينتها وهي تقول "أعلم كل هذا.. ولكن أتظنين أنه نسيها حقاً، بأنها كانت مجرد انجذاب مراهقة كما يدعي؟!"

مرّ طيف حزين داخل عينيها ماحياً كل اللمعات الخادعة التي تتسلح بها، ثم نظرت لوجهه أخيراًالذي يرسم ابتسامة سعيدة دبلوماسية وهي تقول "انظري إليه,, تفحصي تلك البهجة التي يدعيها، وقارنيها بنظرته القديمة وهو يقدم لأخرى طبق الباستا الذي أعده لها بنفسه... وأنتِ ستعلمين من تلقاء نفسكِ أن سَبنتي لم تغادر قلب أخيكِ قط.. بل دائماً يحملها بداخله!"

،.........................

لامست أنامله أصبعها أخيراً واضعاً ذبلته وخاتمه في يدها، رابط مصيره بها كما سعت خلال أعوام، عيناها السوداوين كانت تتأمله بخجل لم يخلُ من الفرحة الحقيقية، سحبت هي الأخرى خاتمه الفضي ثم لمست كفه برهبة، غير غافلة عن تردده اللحظي وكأنه يوشك على إزاحة يدها بعيداً ووضع خاتمه بنفسه..!"

ولكن لحسن حظها لم يفعل بل اكتفى بإيماءة بسيطة عقب انتهائها ثم قال بهدوئه المستفز المعتاد "مبارك لانا!"

انكمشت كتفيها داخل فستانها المحتشم بلون تدرج بين الأزرق والذهبي الناعم مبتعدة بقصد عن أيألوان تمت للأحمر أو الأسود بصلة؟! ثم قالت بصوت رقيق خجل "مبارك عليّ أنتَ يا خالد.. أشعرأني في حلم جميل لا أريد الإفاقة منه؟!"

ابتسم لعينيها تلك الابتسامة الرجولية الجذابة جاعل قلبها يخفق بحدة داخل أضلعها ثم همس بصوت أجش "لم يعد حلماً، بل هو حقيقة، كما أنتِ أصبحتِ اختياراً واضحاً وصحيحاً في حياتي!"

تشوشت ابتسامتها لتندثر ببطء من على ملامحها وهي تقول بتقطع "اختيار صحيح فقط.. وقلبك.. أنسيت وعدك لي؟!"

للحظات كانت نظراته تتخبط، وكأنه عاد ذلك الشاب التائه والذي يعجز عن إيجاد طريقة، أو يحدد حقيقة مشاعره، ثم بسرعة البرق كان يبتلع ريقه معيد سيطرته على نفسه وهو يقول بصوت هزها حتى الأعماق "لقد سألتني بوضوح يوم أن قدمت لطلب يدك لماذا؟ وأنا لم أخدعكِ يا لانا.. أنتِ فتاة تناسبني, تشبهني، زوجة أريد أن أؤسس كيان صحيح معها أسرة مستقرة ومتفاهمة، ألسنا متفاهمين جيداً وأحدنا يكمل الآخر؟!"

نطرت إليه بألم قبل أن تقول بصوت أجش "بالطبع نحن كذلك.. ولكن في هذه اللحظة أحتاج لأنأسمعها منك مرة أخرى.. ماذا عن قلبك أما زالت تحتل ولو جزء صغير منه؟!"

تلك الابتسامة المستفزة المدروسة عادت لتكلل ملامحه وهو يقول بهدوء شديد "أنا لا أعلم عن من تتحدثينيا لانا، أنتِ فتاتي الأولى والتي لن يكون بعدها أحد أبداً!"

هل تستطيع أن تعود لبهجتها الآن, أن تتأبط ذراعه بفخر كما كانت قبل دقائق مثيرة كل نظرات الحسد والحقد في أعين جميع قريناتها لفوزها بالوريث الوحيد لياسر الراوي، الشاب الحازم والناجح، بأخلاق الفرسان؟!

ابتسمت في وجهه أخيراً، وهي تقف باعتدال بجانبه تبتسم للكاميرات التي توجهت نحوهما تلتقطالصور لتخلد لحظتهما في أول خطوة لطريق سعادتهما، ثم برفق ورقة كانت هي من تقدم علىالإمساك بيده مشبكة أناملها الرقيقة في أصابعه.. لحسن الحظ لم يرفضها أيضاً كما رفض أن يقوم بمراقصتها، متحجج بأنه غير جائز في هذه المرحلة، وهي صدقته ببساطة، ووافقته على عدم الإنجرارلأي تلامس بينهما.. ولكن هذا لا يمنع أنها مجرد فتاة فرحة بعريسها، وترغب حتى ولو في التمسك بكف يده معلنة للعالم أجمع أنه رجلها وملكها.. كما وعدها بأن تكون سيدة حياته وبيته، وملكة قلبه بعد عقد القران...

لا هي لن تسلم أبداً لشيطان نفسها الذي يوسوس لها راغب في سرقة فرحتها منها بنفسجية العينين، الدعسوقة الطفولية.. رحلت، ذهبت إلى الأبد دون عودة.. انجذاب مراهق، مسح كل آثاره عقب تركها إياه خلفها؟!

بعد وقت كان يمسك بيدها متنقلين بين الحضور مرحبين بهم، وشاكرين قدومهم, وكانا يتبادلاالهمسات الرقيقة بينهما، المزحات اللطيفة التي كانت تقولها هي فيمنحها أجمل ابتسامة مداعبة رداً عليها.. حتى أطلت أخيراً من باب القاعة أخته الغير شقيقة، تتمسك بذراع زوجها تحتمي فيه كالعادة عند أي لقاء تراها فيه ولو عرضاً.. وتمسك بيده الأخرىابنتها التي قارب عمرها الخمس أعوام الآن...شاهدت كيف سارعت حماتها المستقبليةلاستقبالها.. بينما استأذن منها هو هارعا إليها...

"الآن فقط وقعت عيني على أجمل امرأة في هذا الحفل؟!"

ضحكت مريم بارتباك قبل أن تقول "لم أتعهدك كاذب أم أن الخطبة غيرت أخلاقك؟!"

قال ببهجة "ربما عناق أخوي تمنحيه لي أخيراً يعيدني إلى عقلي؟!"

تراجعت خطوة ضاحكة وهي تقول "عش في أحلامك، لقد تمكنت أن آتي إلى هنا بمعجزة، لأجدنفسي مطالبة بعناقك أيضاً؟!"

اقترب منها يلف يده خلف رأسها ثم قبّل جبتها عنوة مسبب لها التوتر اللحظي ثم قال "قدومكِ يعني لي الكثير يا مريم"

أومأت بهدوء.. وهي تراقبه يصافح إيهاب في عناق رجولي.. ثم انحنى على ركبتيه بدون تفكير نحو إياس يعدل ربطة عنقه وهو يقول مداعباً "لقد تفوقت عليّ الليلة سيد إياس, ما كل هذه الأناقة يا رجل؟!"

أفلت إياس يد مريم ثم اندفع يحتضن خاله وهو يقول بتلك النبرة المتعقلة والتي لا تليق بأعوامهالصغيرة مطلقاً "أنت العريس هنا خالي, لذا لا أحديضاهيك وسامة؟!"

"حتى أنا إياس؟!"

تركه إياس سريعاً واندفع بطفولية نحو ذراعي بدور المفتوحتين يقبل خديها بقوة يلف ذراعيه الصغيرتين مطوق عنقها قبل أن يهتف "ماما بدور لقد افتقدتكِاليوم, لماذا لم تأتي لرؤيتي؟!"

ضمته إليها بقوة تستنشق عبيره بمرارة الحرمان تستطعم منه كلمة نُزع منها حق سماعها، متذكرة أن هذين الطفلين المعجزة لم يكونا عوض أختها الغير شقيقة وحدها.. بل كانت منحة الله لها أيضاً.. إذ أنأمومتها المغدورة التي ضُمدت بتواجدهم الدائم حولها.. هل يلومها على تقبل مريم، وحبها الغير محدود لها.. لقد كانت هي الأخرى أشد الأقطاب عونا لها، لقد أتتها يومياً وعلى مدار شهور بصحبة طفليها تستجديها الرجوع.. أن تفيق من ألمها، أنتركها صغيريها حتى وإن كانا مجرد ضمدة معنوية تتخطى ولو مؤقتاً الجرح النازف الذي خلفه إياب!

"اليوم فقط كنت أحتاج أن أكون بجانبك خالد، أعدك أنني لن أفعلها مجدداً؟!"

قبّل خديها بمحبة قبل أن يهمس "لدي الكثير لإخبارك إياه، بعيد عن تلك المتطفلة المغرورة؟!"

ضحكت "لا فائدة شجاركم لن ينتهي أبداً، أين هي بالمناسبة؟!"

وقفت حاملة إياس معها، تنظر خلف ظهر أختهامحاولة تبين تلك التي تتخفي في ذيل فستان أمهاالأسود.. انشغلت للحظة واحدة بينما تراقب شحوب وجه مريم عند تقدمت شذى ونوة وأبيها سوياً ربما أختيها لم يعودا يسببا لأختهما ذلك الانزعاج بل كما تراقب الآن تبادلا السلام بمودة عادية..

بينما اكتفت بأن مدت يدها نحو أبيهم وهي تهمس "مرحباً.. كيف حالك؟!"

قال ياسر بحنان "طالما جميعكم هنا حولي أنا بخير؟!"

قالت بجفاء "جيد من أجلك"

كان خالد قد انسحب وعاد بعد برهة بصحبة عروسة منضم إليهم، بينما توسعت دائرتهم عندما توافد عليها والد ووالدة العروس..

كانت مريم منشغلة تتلفت خلفها تحاول جذب ابنتهاالتي ليس من عادتها مطلقاً الخجل والإحراج، بينماتسمع السيدة منى تمزح قائلة "هل فعلت كارثة جديدة لهذا تخشى المواجهة؟!"

رفعتها مريم بين يديها أخيراً واستدارت إليهم أخيراً بينما تقول ضاحكة بخجل "العذر منك يا خالد لإفساد حفلك ولكنها في اللحظة الأخيرة قررت عدم ارتداء فستان الحفل الذي إخترناه سوياً وصممتبعناد أن ترتدي هذا!"

وكأن الطير هبط على رؤوسهم جميعاً عندما وضحت لهم الرؤية تماماً متفحصين ملابس ابنتها، والتيهتفت بانزعاج "بابا قال إن لي مطلق الحرية فيما أريد ارتداءه ولن أسمح لخالي بتعنيفي كما يفعل دائماً.. بعبع المخيف؟!"

"ليبريتا؟!" هتف إيهاب بتحذير!

غير غافل عن تصلب ملامح العروس وهي تتفحص عيني عريسها التي علقت تحدق في ابنة أختهبصدمة... صدمة خالطها الكثير من المرارة، من الألم، والحنين.. تابعها شحوب ملامحه.. لقد كان مذهولا وكأنه ما كان يتخيل أن يلمح تلك الملابس المشابهة لها قط، قطعتين كلاسيكيتين، بلوزة من اللون الأحمرتملؤها دوائر سوداء، ومطبوع على صدرها صورة مجسمة للدعسوقة، بينما يتلوها تنورة بنفس اللون ولكنها من قماش الشيفون "المنفوش" شعرها العسلي كان يعلوه طوق من السلك على هيئة قرنياستشعار، طوق كان آخر ما ألبسه لها في ليلة مماثلة منذ أربع أعوام...

عندما طال صمته كما توقفت همهمات الجميع، كان ينتبه أخيراً ليخرج من فقاعته الزمنية يجبر نفسه على التمثيلية السعيدة التي اختارها لنفسه، تحرر من تجمده كتمثال، ليقول أخيراً "اختيار موفق لولو، ولا.. البعبع لن يخيفكِ الليلة؟!"

لم يستطع أن يقول غيرها، بينما يسمح لخطيبته أن تقدم ترحيبها بأخته.. ويعود صخبهم مرة أخرىواندماج أبيه ووالد لانا وإيهاب مع مجموعة من الضيوف... لينسحب هو أخيراً متسلل نحو شرفة داخلية معزولة قليلاً بعيد عن صخب الخطبة.. والزغاريد التي تنبعث من كافة أنحاء الصالة مصاحبة موسيقى كلاسيكية هادئة تليق بأصول عائلة كليهما الأرستقراطية!
تذكر ها وهي تقول
"أنا أمقت الموسيقى الهادئة تشعرني بالنعاس، وبأننا في قاعة جنائزية؟!"

يتهكم منها "بالطبع يا عبثية وما الذي قد يعجب جنابكِ إلا كل شيء صاخب؟!"

تزم شفتيها بنزق طفولي وهي تقول بعبوس "أنتَ بعبع، أحمق لن تفهم يوماً أهمية الصخب، والتمرد على التقاليد المريعة الخانقة عبر الأغاني الصارخة؟!"

أسند خالد رأسه على الحائط وهو ينظر نحو السماء مرة أخرى بعجز وهمس بتوسل خاضع "انزعها من قلبي وعيني ووجداني.. إن لم تكن مقدرة لي يوماً لماذا جعلت هذا العاصي يتعلق بها.. ربى أتوسلك أن لا تجعلني أظلم غيرها بذكرها وان لا أعيش باقي عمري بقلب لا ينبض!"

..........

شيئاً فشيئاً كان الحفل يسوده الهدوء.. تراقب العروس التي ترمق ضيوفها بابتسامة مهتزة متصنعة السعادة.. للحظات أشفقت عليها، ولكنها فكرت أنها مجرد حمقاء لاحقت السراب، وصدقت الكذبة التي يتظاهر بها أخوها.. ربما هو وعد لانا قبل شهور بأنها ستُنسيه أي أثر لسبنتي إن وجدو لكنها كما جميعهم تعرف عمق الكذبة بأن أسباب خالد البحتة أتت من ضغوط كثيرة حمل عاتقها فوق كتفيه..

"أرى إنكِ تستغرقين في النظر إليها.. هل إقتنعتِ أخيراً بأنها تليق بهِ كما هو تيقن من هذا؟!"

إلتفتت بدور تنظر لوالدها بدهشة فارغة قليلا قبل أن تقول بحيرة "بل هل تصدق أنتَ أوهامك.. أنظر يا أبي وتمعن جيداً في ضحاياك.. ها أنت حطمت لتوك ثلاثة قلوب بريئة لم يكن ذنبهم إلا إثم العشق الطاهر، في دنيا لوثتها الأحقاد والمصالح، أرجوك تمعن في وجه لانا التي لن تعرف السعادة أو تجرب أن يحبها رجلها أبداً... والتفت لقلب ابنك ووحيدك الذي وقع على إقرار إعدامه لتوه بفؤاد مفطور.. ولا تنسى من حساباتك الصغيرة التي قضيتَ على آخر أمل لها في قلب يتقبلها بكل ماضيها الذي كنتم أنتم المجرمين الذين ارتكبوه؟!"

قال من بين أسنانه "هو من إختار.. أما عن الصغيرة فهي أصبحت مجرد ذكرى عابرة لن تعود للظهور أبداً!"

وكأن ما قاله كان سكين تلم انغرس في ظهرها بكل خسة

"شكراً لدعمي ومنحي الأمل.. ممَّ صنع قلبك يا أبي، ألا تدرك أن عدم عودتها تعني ضياع إياب إلى الأبد؟!"

إبيضّ وجه ياسر بعنف، وكأن المرض الذي نال منه، والعمر الذي تقدم به هزمه مرة واحدة, جعل عقله يتوقف عن تقييم ما يتفوه به "أنا آسف حقاً حبيبتي, لم أعني ما قلته ولكن تلك الفتاة؟!"

أوقفته بحدة وهي تقول "لا تعنيني مطلقاً... كانت وما زالت في مكان واحد لن يتغير.. ولكن فؤاد أخيي ستحق أن أصرخ في وجهك ووجهه معترضة.. أنا لن أستطيع أن أقف متفرجة وأراقبه يخطو نحو دمار حياته بقدميه!"

.................................................. .....



أغلق هاتفه واضعه على رف خشبي بجانب الموقدبعد أن أخذ التقرير الأسبوعي الذي يكلف به أحد رجاله بسرية تامة، ثم شرع في تقليب بعض شرائح السلمون الأحمر والخضار.. محدق في المحتوياتالتي تصدر صوت شكشكة الغليان كما غليان الدمفي أوردته..

"لقد سقطت عن جوادك وبعقلك المتخبط المحبوسداخل دوامتك الضائعة شوشت الرؤية أمامك كماحالك دائماً وخبطت رأسك في السور يا ابن عمي!"

هو كان لديه كل الحق وكما توقع لقد استطاع خالدأن يتلاعب به ويبتزه عاطفياً في الماضي إذ بالنهاية"كان راويّاً، وأدمى قلب صغيرته!"

توسعت عيناه بتلك النظرة المفترسة القاسية بينما تقوس فمه بالغضب وهو يهمس "وأنا الذي كنت أشعر بعبء الندم كل ليلة.. وتساءلت لمَ ألقيته على كهليك ورحلت.. ربما بالنهاية أنتَ مثلها واستحققت كل ما فعلته بك؟!"

"بابا.. ما الذي حدث بعد أن أسر النمر الطاووس،هل أكلها؟!"

أغلق راشد النار، وهو يرفع يده مزيحا شعره للوراءبحدة مطلق أنفاس حادة حتى يُخرج ذلك اللهيب الذي يحرقه بعيداً عن عينيّ صغيره.. دقيقة كاملةأخذها حتى استعاد السيطرة على نفسه راسماً علىوجهه ابتسامة حانية واستدار نحو إياب الذي جلسأمامه على مائدة صغيرة بأربع مقاعد، تتوسط المطبخ ذي الطراز الأجنبي المفتوح على بهو منزله المتواضع البنيان والأثاث..

"لقد أخبرتك النهاية آلاف المرات.. يا أياب ألا تمل منتلك القصة؟!"

كان كل ما يراه منه شعره العسلي الداكن الكث.. إذأنه كان يدفن وجهه بالكامل داخل أوراق رسمه وألوانه.. وهو يقول بنبرة طفولية حانقة "معلمتيتقول إن نهاية تلك الحكاية غير صحيحة، فالنمر كائن متوحش، والطاووس لا يجب أن يقترب منه بل فوررؤيته يجب عليه الفرار لا الاقتراب منه ومحاولةكسب صداقته؟!"

شردت عينا راشد لوهلة مفكر أنها بالفعل كان يجبأن تفعل هذا ولكن الطاووس الفريد خاصته فيحدود ابنه المفضلة كانت تملك من الغرور والزهووالثقة بأن لا تفعل..!

اعتدل مرة أخرى يسحب أحد الأطباق وكوببلاستيكي برسوم كرتونية لشخصيات شهيرة (شلبيوكرة البعبع) مخصصة لصغيره.. ابتسم لا إرادياًووجه سَبَنتي يكاد يصرخ من بين تلك الأكواب لاللرسوم!.. تحرك مرة أخرى برشاقة تتناغم معهاعضلات صدره الممشوق وكأن العمر الذي يمروالعبء الذي زاد عليه لم يؤثر في جاذبيته إطلاقاً بلربما زادت بالنهاية، هو كما هو لم يغير فيه شيءثقته الشديدة في تقدير نفسه...

عاد بالأطباق الممتلئة بالطعام، ثم وضع إحداهاأمام إياب، والآخر أمام مقعده، ثم جلس بأريحية وهويضع كوب من العصير أمامه ثم قال أخيراً بهدوء"ماذا أخبرتك من قبل؟!"

رفع أخيراً عينيه السوداويين الشبيهتين بعينيه يحدق فيه بجهل وكأنه يحاول بسنون عمره الصغيرةتذكر الإجابة ففشل وهو يقول بذكاء "أنتَ تخبرني بالكثير، فكيف تريد من صغير مثلي التذكر؟!"

ضحك راشد بصوت أجش وهو يسحب الألوان منأمامه ثم قال "إجابة موفقة .. ولا, أنتَ لست صغيربل ولد كبير؟!"

"أمممممم" وضع إصبع على ذقنه، والآخر على فمه في علامة تفكير وتقييم لكلماته.. فقال راشد بهدوء وهو يرفع شوكته بالطعام ويضع في فم ابنه "لايجب أن تكون كل الحكايا نمطية يا صغيري، العالممن حولك مليء بالعجائب.. وبعض الكائنات أو حتىالبشر لا يملكون أن يغيروا أقدارهم المرتبة بحكمة منرب العالمين... ربما هم مخيرين في تغيير مصائرهم ولكن هناك بدايات لا يستطيعون الفرار منها؟!"

مضغ طعامه ببطء بينما يضيق عينيه الواسعتين بتفكر، مدعي فهم ما قاله بل والتدبر فيه.. ارتسمتعلى وجهه ابتسامة أسى، بينما يشعر بقلبه الملعونوالضعيف والهش، ينبض بسذاجة أمام تلك النظرةوالحركات العفوية التي تصدر من صغيره وتفكره بها.. ها وكأنه نسيها يوماً...

قال إياب بتلعثم أخيراً متخلياً عن لغته الأجنبية التيكبر عليها في هذا البلد.. مستخدم لكنته المصرية"لماذا لم يأكلها إذاً.. بدل أن يسمح لها بهزيمته،والهرب؟!"

ارتبك للحظات وهو يطلق ضحكة أخرى مستهجنةوقال "ألا ترى أن سؤالك شرير قليلاً؟!"

هز كتفيه الصغيرين بلا مبالاة وهو يستخدم يديهأخيراً شارعاً في تناول طعامه منتظر إجابة شافيةمن أبيه.. أزاح هو طبقه بعيداً شاعر بفقدان شهيته بينما يقول بصوت مكتوم لا حياة فيه "كلاهما هزمبعضه.. معلمتك محقة ما كان يجب على النمر أنيسمح لها بالاقتراب والطاووس إن امتلك ذرة منالعقل كان يفترض أن يفر هارب بجلده... بالنهايةجميع الأطراف خاسرة في تلك الحكاية يا إياب؟!"

عاد يرفع عينيه يحملق فيه بتلك النظرة التي تقتلهوتحية في آن واحد "ولكني أحب بطليّ القصة بابا،أنت ترويها بشكل جيد.. أظن أني لن أطالبك بأنتحكي لي غيرها؟!"

سحب راشد مقعد ابنه ثم حمله يضمه إلى ذراعيه يضغط عليه بشدة داخل صدره ثم قبّل رأسه ووجنتيه وهو يقول بخفوت "يجب عليك أن تفعل.. في وقت ماربما تقابل بطليكَ على الحقيقة ووقتها لا أريد أنيتحكم فيك قلب النمر، أو مشاعر الطاووس.. بل أريدأن تطلق لبرائَتِكَ تلك الحكم عليهما فكليهما ظلم نفسه بيديه؟!"

يداه الصغيرتان المدببتان حاوطت وجه والده بمحبةثم قبّله بقوة وهو يقول بصخب سعيد وبحكم أعوامهالتي لم تتجاوز الثلاث سنوات والنصف لم يصل إلىعقله إلا أن شخصياته الخيالية هما حقيقة...

"هل أنت جاد، هل سأقابلهم بالفعل.. هل همايعيشان في تلك الغابة الخيالية؟!"

نظر إليه راشد بحنان قبل أن يربت على شعره برفق وهو يقول "إن افترضنا أن تلك الغابة موجودة وبأني اصطحبتك إليها ما أول ما ستفعله؟!"

التمعت عينا إياب بنظرة تراوحت ما بين الحماسوالاشتياق... الاشتياق لإحساس يلاحقه منذ أن بدأ إدارك العالم من حوله دون أن يعرف معناه "سأبحث عن الطاووس الذهبي وأسأله أن يفرد ريشه الناعم المبهرج، وأجلس تحته ألمسه بيدي هكذا وآخذ غفوةطويلة هناك.. وربما بعدها سأحتضنه وأرجوه تقبل صداقتي.. مثلما فعل هو مع النمر الذي هاجمه؟!"



سكن راشد تمامًا وهو ينظر إليه للحظات مصدوم،وشفتيه منفرجة قليلاً وكأنه يحاول التنفس عبرهم، إذ عجز عقله عن استيعاب أن يجري ابنه تلك العمليةبشكل طبيعي بعد ما سمعه

"هو بالفعل رابط لا ينفصل.. حبك إليها فطرياً لايحتاج لتجاورك لتتعرف عليها لتلمس حنانها ..ليرنو إليها فؤادك حتى وأنت تجهلها ؟!"



"بابا؟!"

كفه الناعم أعاد انتباهه إليه.. لم يستطع الابتسامةولم يقدر أن يمنحه إجابة بل اكتفى بإعادته لمكانه وهو يقول بصوت أجش "انهي طعامك.. لقد اقتربموعد نومك؟!"

صفق إياب بيديه قبل أن ينقلب مزاجه سريعاً للغضب وهو يقول "طبقي ناقص أين الزيت ونخاصتي؟!"

انتفض من مقعده بحدة واضع يديه علة اللوحةالرخامية للمطبخ بينما ذراعيه ينحنيان بمرارةمكبوتة.. أصابعه تتكور بعنف هناك في محاولة عبثيةليهدئ صخب قلبه وعنف أنفاسه "ليس الليلة يا إياب...

لمَ اخترت اليوم بالذات، لتحطم البقية مني، بعظم ذنب حرمانك منها.. بتصعيد حقدي وكرهي لما جنتههي في حقك.. لقد جارت عليك, على طفولتك, وسرقتمنكَ كل لحظة كانت من حقك فيها!"



"بابا؟!"

أطبق جفنيه بشدة.. ليس ذنبه أن يرى وجهك الآخريا راشد تذكر أنه مجرد طفل جاهل.. بالفطرة يحاول أن يستوعب كل ما حوله.. ليس ذنبه أبداً أنه يحن لحنان أمه الحقيقية!

عندما التفت إليه ناوياً مراضاته وجلب مطلبه.. تجمدفي مكانه شاعر هذه المرة أنه شُطر لنصفين بقسوة السؤال الذي أطلقه ابنه بفضول وهو يرفع تلك البطانية التي لا تفارق يده أبداً منذ أن طار به بعيداًعنها "من بدور؟!"

تحشرج صوته مرغماً وهو يسأله "من أين أتيت بهذا الاسم؟!"

"مدرسة القرآن.. هي من قرأته هنا وسألتني؟!" شوح بغطائه أمام عينيه...

وكأنه أصابه شلل من نوع ما ..عجز لم يشعر به منذ سنوات.. حقد كان يظن أنه تخلص منه، وضياع لميعرفه أبداً حتى في الماضي..

"إنها لا أحد.. ولن تكون أبداً أحد.."

حسناً فلتكتمل ليلته الغريبة.. نظر نحو الوجه الغاضب، المتألم والمجروح والذي نطق مكمل"ألم تكن هذه أحد شروط اتفاقنا راشد بك؟!"

قفز إياب من مقعده وركض فاتح ذراعيه نحو تلك المرأة الجميلة التي هبطت على ركبتيها تفتح ذراعيهابدورها لتلقيه, تضمه إليها بتشدد وكأنها تعلن للمرة التي لم تعد تدرك عددها أحقيتها وحدها فيه...

" ماما... لقد أتت ماما؟!"

" قلب ماما، وحبيبها والتي لن تسمح لأحد مهما كان شأنه أو صفته بأن يحرمها منك!"

انتهى

قراءة سعيدة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 03:49 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس