عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 09:58 PM   #2279

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile7

الفصل السابع والعشرون ج1




قول الحقيقة وإزعاج الناس .. أفضل من الكذب لإرضاء الناس

باولو كويلو

**********



هبطت على ركبتيها وهي ترمي عصاها جانباً.. ضاحكةبعفوية بينما تستقبله بين كفيها التي أخذت تتحرك في فروةرأسه وهي تقول "مهلاً يا عجوز.. لقد تسببت في خدشساقي، أعلم أنك متحمس لرؤيتي وشمّ بقايا ذكرياتها بي.. ولكنك تفهم جيداً أني لن أكون يوماً هي؟!"

أخذ شلبي كالعادة في دفن رأسه في كتفها يتمرغ فيها هناكوهو يطلق أنينه... كأنه يشكيها ألم الفراق.. يبكيها لوعةالحرمان من رفيقة دربه، صديقته التي لم ينسها.. ولم ينفصلرابطه بها حتى هذه اللحظة رغم مرور السنوات.. دفنت يدهافي حقيبتها المعلقة عكسيًا على ذراعها ثم أخرجت له أعوادالقرنفل تطعمه كمكافأة كما كانت تفعل صاحبته... ثم قالت"هل ما زلت تشتاقها مثلي.. تحلم باليوم الذي تعود وتضمكإليها لتمحو كل أوجاعك التي أجدت حجبها عن الجميع... حسناً دعني أخبرك سراً هي تهفوا إليك أيضاً وترفضاستبدالك بغيرك رغم أن "والدها" حاول معها مراراً بأنيخرجها من كل ماضيها بما فيه أنت يا عجوز!"

تناول منها شلبي التحلية يقضمها بنهم، كما وصل لأذنيها.. ثم أجبرها أن تجلس على أرض الحديقة تسند ظهرها إلىالحائط الزجاجي للغرفة التي شهدت ريعان طفولة ثلاثتهم"هي وسبنتي.. وخالد!"

"تفرقنا كعقاب لم نقترفه نحن، دفعنا ثمن سوء تصرف واختيارالكبار يا عجوز.. أليس هذا ما تشعره أنت الأخر؟!"

تنهدت وهي ترفع عينيها المطفأة نحو السماء وكأنها تناجيشيئاً مخفياً ليعينها لعله يمحى لوعة أنينها الصامت ! متذكرةبدمعتين فارتين من بين أهدابها.. صدمة رحيل رفيقتها عنها... بعد وجع هجرة نزار الهوى كما تطلق عليه هناء!

شعرت بالكلب الضخم يزيح ذراعها عنوة دافن نفسه علىقدميها.. مطلق نباح خافت وكأنه يحاورها.. وكأنه يخبرها أنهيشعر بتلك الطعنة الغادرة مثلها.. جاعلها تتذكر نباحه الهلعيوم أن قدم به إحدى حراس راشد مع رسالة مختصرة بأنسَبنتي تركته كأمانة لها.. متوسلة أن لا تفرط به أبداً ولكنها لمتستطع أن تنفذ الوصية حرفياً, إذ أن أخيها سلب ولائه منهاتقريباً، وأصبح بطريقة أو أخرى ينتمي إلى خالد وحده... ولكن الكلب الوفي كان أكثر ذكاء بأن يودها هي الأخرى..!

"لقد حققت حلمي يا شلبي.. وضعت يدي على أول الطريقفي إنشاء أول معهد مجاني لذوي الاحتياجات الخاصة، علّيبتقديم المساعدة الطبية والنفسية والمادية لمن لا يستطيعونأجد سلواني، ولكن هناك الألم بداخلي لم يمحَ.. ما زالت هذهالمضغة تأن، شاعرة بعدم العدل لما فعلوه بنا ويفعلونهبأنفسهم؟!"

انفرجت شفتاها الناعمتان مخرجة نفس طويل، والذكرياتتتدفق إلى عقلها عنوة... الأمر لم يكن سهل على الإطلاق، بعدأن دخلت في حالة من الإنكار وعدم الثقة في نفسها... إنكارحقها في الحياة.. إنكار استحقاقها للحلم، تحويلها لمجردعاجزة تحتاج للعون في أقل الأمور الحياتية! ربما لم يهملهاكلا أبويها وقتها، وربما تكفلت بها نوة مع والدتها ليعيداها إلىالطريق الصحيح مقدمين لها كل الدعم الذي تحتاجه، ولكنهاأيضاً أخذت وقتاً طويل لتدرك أن الأمر لا يتوقف عليها فقط.. بل رغبتها تصاعدت وازدهر فيها الأمل عندما ركزت على نقطةواحدة وهي محاربة القوانين، حتى يحصل من هم أدنى منها"مالاً" ويماثلوا حالتها على فرصة عبرها...

فرصة تمثلت في فتح معهدها الخاص الذي طوعت فيهالتكنولوجيا لخدمتهم، والتي أصرت أيضاً أن توظف بداخلهأساتذة متخصصين في تعليم الأطفال طريقة "بريل" للكتابةوالقراءة . إذ أنها علمت أن التعليم للفئة خاصتها داخل مصرلا يُوفر إلا لنسبة اثنان بالمئة من المكفوفين، فكان حلمهاالإنساني أن ترفع تلك النسبة، أن تمنح الفئة المنبوذة حقوقهم.. ربما حلمها الصغير ما زال في أول طريقه ولكنها تأمل بالعملوالصمود أنه سيكبر يوماً ليشمل الجميع...!

ولا تستطيع بالطبع إنكار مساندة خالد ومالك زوج أختها فيدعم موقفها الذي قابل الكثير من الرفض, إذ أنها نفسهااحتاجت لوصي قانوني لمنحها أحقية فتح المعهد كما تنصالقوانين المجحفة، وكأن هذا المجتمع العقيم يصر أن ذويالاحتياجات الخاصة فئة منبوذة وعالة عليهم لا يحق لهم الاعتماد على أنفسهم!

بالنهاية قدم أبوها هذا الدعم كنوع من التكفير، وتحايل بنفوذهلإخراج كل الأوراق اللازم.. ثمة كان الدور الحقيقي الذي قدمهكل رجل في عائلتها من ماله الخاص لتطوير حلمها.. ثم فتحبابه المجاني للجميع!

"أتعلم يا شلبي، لقد تلمست اليوم فتاتين، هن مجرد صديقتين،إحداهن في صفي ومثلي عمياء العينين، أما رفيقتها التي أتتاليوم تدعمها في صف الفنون وتعظم في لوحتها المرسومة،كانت مثل صاحبتك عانقتها وأخبرتها بثقة أنها رسمت أحلىلوحة رأتها في حياتها مذكره أياى بإيمان البقة بي!"

بباطن كفها كانت تجفف دموعها وهي تهمس ضاحكة "أستاذالفنون أخبرني أن اللوحة لا تحمل أي نوع من الفن، بل مجردشخبطة ليس لها معنى بالمناسبة... ولكن ثقة تلك الرفيقةجعلتني أمنح الصغيرة جائزة أفضل رسم، فقط لأسمع صوتبهجتهن، كما كنّا أنا وهي صغار؟!"

فزع الكلب من على ساقيها فجأة, وقف متأهب في مكانه وكأنهيستعد لاستقبال شخص ما، ولكنها لم تكن بحاجة لرؤيته أوسماع صوته إذ أنها علمت من هو فور أن هز شلبي ذيلهكدليل على السعادة..

"مرحباً شلبي، لقد مر وقت طويل على رؤيتك!"

الصوت الأنثوي الرقيق الذي خرج من صاحبته مقترن بنبرةالسعادة قلب ملامحها تماماً ليعلوها التجهم..

انحنت لانا قليلاً تمسد على رأس شلبي الذي لم يصدر منه أيرد فعل على ما يبدو.. حتى تقدم خالد يقف على مسافة آمنةبجانبها، يضع هو الآخر يده على رأس شلبي وهو يقول بهدوء"مؤكد هو الآخر اشتاقك؟!"

قالت لانا باسمة "لا يبدو لي هذا.. من مجاورتي لكم أصبحتأعلم متى يحتفل برؤية شخص ومتى يتجنبه؟!"

تدخلت شيماء من جلستها الجانبية وهي تقول بخشونة "هذاأمر ليس له يد فيه يا لانا، إذ إنه يعلم جيداً بانتمائه لواحدةأخرى!"

تقبضت يد خالد بجانبه بينما رأسه يميل قليلاً متفحص جلسةأخته وسمع لانا تقول بتوتر "ومن قال أني أحاول فرض نفسيعليه، أو سرقة ودّه؟!"

بأصابع مرتعشة قليلاً كانت شيماء تنبش الأرض باحثة عنعصاها ثم قالت بنفس مكتوم "أنا لا أحاول اتهامك كماتلوحين، فقط تعودت أن أواجه الأشخاص بالحقائق!"

بهدوء كان خالد يتولى دفة الحديث مديره بعيداً عندما قال"مساء الخير يا شوشو.. متى عدتِ؟!"

أجابته باقتضاب "في موعدي كالعادة، مع أحد الحراس الذينيعينهم والدك لي، وكأنه يصر أني ما زلت عاجزة ولا أستطيعحماية نفسي؟!"

صمتت لبرهة قبل أن تجد عصاها أخيراً تتكئ عليها، وتقفمن مكانها بتثاقل وهي تكمل بهدوء "أنت من أتيت باكراً، لعلهخير؟!"

نظرت إليه لانا متمعنة لدقائق منتظرة منه إجابة شافية ولكنهتشاغل بمداعبة شلبي، فردت هي بسعادة "لقد تعطل عنالعمل اليوم من أجلي، لقد كنا نرى بيتنا المستقبلي!"

كانت يدها ما زالت تتعلق هناك على مقربة من أصابعه،منتظرة كأي عروس أن يحاول استغلال الفرصة ليلامسهابعفوية, ليقبض عليها بدعم وتبجيل للحظتهم الأثيرة ولكنهببساطة لم يفعل.. كما لم يفعل منذ أسبوع مضى، وكأنالشغف الذي تسمع وتقرأ عنه بين المخطوبين، معدم لدىالحبيب تماماً؟!"

"حسناً" غمغمت شيماء باقتضاب.. دون أن تحاول أن تنطقباي مباركة..

والتي التقطتها لانا وهي ترفع يدها أخيراً بأحباط تضمها إلىصدرها وهي تقول بخيبة "ألن تباركي لي.. مثل يوم الخبطةشيماء؟!"

قالت شيماء بهدوء "هل تريدين مني خداعكِ يا لانا؟!"

هتف خالد فيها بصوت مكتوم محذرًا "شيماء.. كفى إيذاء فيمشاعر غيرك؟!"

رفعت عينيها التائهة بحدة وهي تقول دون مداراة "أنا لا أوذيأحد.. فقط كغيري من المكفوفين أتعامل بمبدأ أن لا أيراعيمشاعرنا فلما علينا تحمل خداع مشاعر البشر الطبيعيينمثلكم؟!"

اغرورقت عينا لانا بالدموع وهي تقول بصوت أجش "لما كلهذه الحدة.. وإزاحتي بعيداً، أنا صادقة في اكتسابكِ كأختلي!"

قالت شيماء دون تردد "لديّ خمس أخوات يا لانا، أربعة منهنحولي، وإحداهن هاربة ولكنها ستعود كما وعدتني يوماً!.. لذالا أعتقد أنى أحتاج المزيد... آسفة لإخباركِ أن تكتفي بمكانةزوجة مستقبلية لأخي فقط!"

ثم دون تردد كانت تغادر من أمامها قبل أن تجبر على الجدالمع خالد, إذ أنها تتجنبه منذ شهور... منذ أن اتخذ قرارهالظالم والخائن.. بارتباطه بها!

ودعها خالد بعينين متفهمتين قبل أن يقول بصوت أجش"اعذريها يا لانا.. موقفها الدفاعي لشدة ارتباطها بأخرى،رافضة الاعتراف بأني لم أرها يوماً ولم أعد أذكرها!"

يكذب.. كانت كل ذرة في قلبها تصرخ محتجة، ولكن متى هياعترفت بسيطرة ذلك الأحمق،الذى يدعي " فؤاد" ومنحتهالتفوق على التفكير العقلاني والمنطق "المشكلة لا تكمن فيهافقط، بل تقريباً جميعهن؟!"

ابتسم في وجهها وهو يرضيها برقة "والدتي تحبكِ، كما أنبدور وشذى تعاملانكِ كفرد أصبح منا.. والأهم من كل هذا هوانتمائي لكِ.. أليس أنا كافياً يا لانا؟!"

ربما شذى تتعامل معها بلطافة.. ووالدته بمحبة متكلفة... ولكنمؤكد جمود بدور وتعاملها العملي معها لا يمت للحب أو التقبلبصلة!.. أما نوة فكل تعاملها يصرخ بكره غير مفسر حتى وإنلم تفصح عنه... ناهيك عن أخته غير الشقيقة والتي لا تتعاملمعها بأي صورة على وجه الإطلاق.. تنحنحت بينما يرق قلبها،متبع إشارة عقلها الذي أرسل بهجة وسعادة جعلها تتراقصداخلياً من اعترافه بأنه ملكها "بلا.. إن لم تكن كافياً، إن لمأتلمس الصدق في طلب اقترانك بي، ما كنت أقدمت علىالارتباط بك أبدا!"

نظر إلى عينيها البنيتين الدافئتين، لملامحها المريحة والتييحيطها حجاب رقيق ينشر داخل نفسه الراحة والبهجة.. لانابالفعل ماثلت جزء فيه، طابقت بداخله جزؤه المتحفظ.. فتاةشابهته حتى كادت أن تكون نسخة منه.. امرأة حقيقية ستعينهعلى طريقه، سيدة مجتمع أوكلت لتقف في المستقبل بجانبه... حتى لا تشتته أو تجعله يوماً "بعبثيتها وجنونها" يخرج عنطور نفسه.

"ولكن هذا لن يجعلني لا أخاف يا خالد.. إذ أني دائماً أسألنفسي.. هل سيأتي يوم وأرى فيه ما يبصره الجميع في قبحرابطنا؟!"

قال بحزم لطيف "كلانا بات يعلم جيداً أن هذا مستحيل إذ أنقرار زواجنا كان رغبة عقلية!"

قالت سريعاً ودون تردد "والقلب؟!"

لم يتردد هو الآخر بينما يديه تبتعد عن ظهر شلبي بنوع منالحدة وكأنه يقطع حبل خفي يربطه بمكنونات الماضي "والقلبيا لانا.. أخبرتها لكِ أني سأطوعه من أجلكِ, فلم تسبقكِ إليهأخرى ولن تفعل أبداً.. أنا لا أخون عهداً قطعته!"

ارتبكت برقة وابتسمت بتحفظ خجل بينما تقول بنبرة تقطعت"وأنا أصدقك وأثق بك... إذ أني أصبحت لا أستطيع أن أعيشبدونك ليوم واحد!"

الرجفة والارتعاشة التي تحدثت بها، جعلته يجمد في مكانه،مصدوم المشاعر.. مسلوب الوجدان.. ومبتور الإحساس.. إذ أنهتذكر جملة مشابهة نطقت بنفس اللهفة, بنفس التخبط الجاهللحقيقة مشاعرها عندما سألها مترجياً أن لا تختار جانبراشد عنه وهي وعدت! أوهمته وصدق انها لن تخيب ظنه أوأمله بالبقاء جانبه أبداً.. "كاذبته العبثية الصغيرة كيف آن لهاأن تغدر؟!"

شعر بيد لانا التي امتدت تلامس محبس خطبتهم في يده وهيتقول برقة "خالد.. ما الذي يجري معك هل قلت شيءأزعجك؟!"

نتش يده التي تكورت بعيداً دون أن يشعر بينما يحدق فيهاوهو يتنفس بحدة بصدر يهبط ويعلو بانفعال... حتى قال أخيراًلعينيها الجاهلتين سبب تحوله "دعيني أوصلكِ لمنزلكِ.. لقدتأخر الوقت"

.................................................. .



كالعادة جدته الأميرة برتبة ملكة كما يحب أن يدعوها والدهوعمه.. كانت تجلس بهيبة أنيقة في حديقة منزلها المغلقة،حولها الزهور متعددة الأجناس والألوان، تطرب لسماعموسيقى هادئة وناعمة بينما أمامها على طاولتها الحديديةالمشغولة بترف دون بهرجة... يعلوها طقم شاي من الخزفالمشغول أيضاً.. "هل تعلم عمر هذه الأكواب يا أميري؟!"

ضحك وهو يجلس أمامها, لقد أمسكته العجوز بالجرم المشهودوهو يحدق فيها بانبهار كالعادة ؟! "لقد أخبرتني عدة مراتجدتي أنها صنعت منذ ما يزيد عن مئة عام وكانت أول هديةلكِ من جدي؟!"

قالت ڤيڤيان وهي ترفع فنجانها بيد والأيد الأخرى تضعهاأسفل طبق الفنجان "لا بأس بتذكيرك، إني أتمسك بقوانينالعائلة.. لا عيب أن أصر على الاحتفاظ بدمائنا نقية؟!"

انمحت ابتسامته ببطء بينما يراقب والده الذي دخل أخيرامجاور إياه وهو يتنفس بسأم قال نزار اخيراً "هذا ينفي تقبلكِلي جدتي إذ أن دمائي مختلطة مع أحد العامة أليس كذلك؟!"

نصبت الجدة ظهرها الذي انحنى بفعل تقدم العمر والزمنفقط.. ثم قالت بهدوء "لا أنت حالة خاصة.. ما فعلته تلك المرأةمعك يمحو كل رفضي لها، بل أجدني إذ قابلتها سأقدم لهاعرفاني وشكري.. حتى وإن كنت راقبت ابني ينصهر فيأوجاعه بسببها كل سنون شبابه!"

أومأ جوشوا برأسه احتراماً ثم قال بركيزة "ما نلته منهااستحققته، إن كانت أختي مكانها ..وقتها ربما كنت تفهمتِمعاناتها!"

"آسفة لإسماعكم هذا ولكنها استحقته أيضاً إذ أنها تطلعتلمكان ليس مكانها, وقبلت برجل ليس من دمائها ولا عشيرتها!"

لا فائدة مهما حدث، أو سيحدث لن يغير الإنسان من أفكارهومعتقداته يوما.. ربما عائلته احتضنت ابنه قدمت له الدعم،الحب المفقود ودفء عائلة كان يرنو إليها بكل كيانه.. ولكن مازالت أحقادهم اتجاه حبيبته لم تهدأ وإن كانوا تفهموا الماضيالذي أجرم هو فيه أخيراً.. قالت والدته أخيراً بينما تضعفنجانها على الطاولة بحركات مدروسة "دعنا لا نخوض هذاالحديث غير المجدي مرة أخرى, وندخل في الأمر الذياستدعينا ابنك من أجله!"

قلب نزار نظراته بينهم بترقب وهو يقول "إذاً هذه لم تكن دعوةشاي لأنكِ اشتقتِ لمجالستي كما قلتِ على الهاتف؟!"

ابتسمت العجوز وهي تقول بهدوء "رغم أنك تدخل البهجة إلىقلبي.. ورغم أنك الوحيد الذي يجعلني أضحك دون تحفظ؟!"

قال نزار سريعاً بسماجة "من الجيد أني ترقيت من مكانةحمار والدي الأبيض.. للقرد الخاص بمرحك جدتي؟!"

تنحنح جوش حتى يداري ضحكته بينما عبست ڤيڤيان وهيتقول "صه.. واستمع!"

جلس نزار بأدب يمقته.. يتقيد بقوانين تخنقه، ببروتكول فيالتعامل أُجبر على تعلمه، حتى يكون فرداً من هذه العائلة..

هز رأسه علامة على الاستماع بينما يسمع والده أخيراً يقولبهدوء مترقب "الجامعة قررت كما هو محدد منذ سنوات منحكمنصب معيد بها، بالطبع بناء على تميزك الدراسي و..؟!"

قاطعته والدته وهي تقول بصرامة "وتدخلي الشخصي.. إذأني أعلم رغبتك في الانتماء لإحدى شركات المحاماة وشقطريقك بنفسك بها.. ربما أنا أعلم جيداً أن معظم أفراد الأسرةالمالكة يعملون في وظائف عاديه كما العامة.. ولكن كونكحفيدي الأول أنا أرغب أن تكون مثل والدك أستاذ جامعي لهمكانته في المجتمع كما بيننا؟!"

ساد صمت ثقيل للحظات بينما لم يصدر عن ابنه الذي تحولللنقيض عما كان عليه عندما قابله أول مرة أي رد فعل يذكر... بل ظل صامتاً يقلب نظراته بينهم في سكون تام وكأنه يخشىالتحدث... يخاف الاعتراض الذي يقرأه كوضوح الشمس.. إذأنه يفهم أن صغيره.. الرجل الصغير يخاف أن يخسر جانبوالدته التي منحته الدفء.. أشبعت لديه جوعه الشديد للانتماءعندما استقبلته بيدين مفرودتين وبقلب حمل رحاب الأرض.. ولكنه يوقن أيضاً أنه مهما عوض نزار طفولته التي أُهدرت وهويطارد إحساسه باليتم وذلك الرجل الذي حمل اسمه فيماضي ينفره، يكرهه.. يظل هناك جزء من ولده يشعر بالغربةوبالحنين لأم لن يعوضها أي إنسان مطلقاً.

"أنتِ تتدخلين في حياتي هكذا جدتي، أليس هذا يعدم مبدأحريتي وحقوقي الشخصية؟!" قال أخيراً بهدوء مبالغ فيه!

عبست جدته قليلاً وهي تقول بترفق "أعلم أني أفعل، ولكن لديمبرراتي الشخصية.. أنا لا أريد فقدك كما فقدت والدكبالماضي؟!"

وخرج ابنه عن طوره وهو يقول بتصادم حاد "أبي فقدتيهعندما حاربتِ أمي! وانظري للنتيجة، عشت أنا مفقود محرومعشرون عام بينما سرق من أمي حقها في الحياة منالأساس؟!"

لم تكن والدته بالمرأة السهلة على الإطلاق عندما جابهته بهدوء"آه بالطبع حفيدي الغالي، أنا أشعر بالأسى نحوها.. إذ أنهاعندما أخطأت لم تجد ابن يتفهم كما فعل والدك معي.. بل منضيعت عمرها وحقوقها من أجله هو بنفسه من أراق دماءهادون أن ترجف له عين!"

وكأنها صفعته على وجهه مدمية آدميته على حين غرة.. إذشحب وجهه حتى تنافس مع لون طاولتها الأنيقة, وانتفض منمكانه يدور في حدود جلستهم، كفأر صغير حشر في أخر الزاوية.. حاول بكل جهده أن يقول شيء.. أن يتنفس.. أنيعترض أو يوضح موقفه فلم يستطع.. سمع أخيراً والده يقولباحترام "لا داعي لتذكيره بجرمه يا أمي.. رغم تفهمي لصدمتهوتخبطه وقتها وأسباب فعلته ..ولكنه حدث وانتهى وذكرنا إياهلا يجلب إلا الوجع!!"

زفرت جدته بحنق قبل أن تقول بسخط "لهذه الأسباب بالضبطأريده أن يتابع حياته، أن يتفوق في المجال و كل ما يجيده.. أن يجد امرأة تليق به ويبدأ حياته.. ربما ابنك يجيد التظاهرأنه مضى في طريقه.. ولكن بداخله هو مثلك جوش ما زاليرتكز في بؤرة الماضي والوجع!"

قال نزار غاضباً "الآن لم يقتصر الأمر على مشواري المهني،بل التدخل في حياتي العاطفية.. أخبرتكِ أن ديني يمنعني،بأني لست حيوان لأقفز لفراش كل فتاة تعجبني وأقضي معهابعض الوقت؟!"

"اخرس" قال جوش من بين اسنانه..

بينما كانت والدته أكثر هدوء ، أكثر حنكة وتفهم وهي تقول"قبل أمك كان والدك حيوان بطريقة ما!"

"لا إله إلا الله.. مشكور يا بني على التسبب في سبي" نطقهاجوش باللغة العربية الفصحى.

حك نزار رأسه وهو ينظر لوالده معتذراً كاتم ضحكته علىتعليق جدته بصعوبة..

بينما خبطت هي بحدة على المائدة قائلة "لا تتناجيان بلغة لاأفهمها.. ونعم والدك كان عربيداً وهو في عمرك، حتى وإنأنكر هذا.. حتى أتت تلك الخمرية العربية وغيرت كل شيء،ربما الأمر صدمنى .. لن أنكر ولكنه أراحني لأننا على غيرتوقعك غير مسموح لنا بعلاقات خارج الزواج أيضاً.. جدك كانرجلي الأول على فكرة والأخير.. أنا تزوجته عذراء وكان هو أولمن...."

هتف جوشوا بهلع عند وصولها لهذا الجزء إذ أنه يعلم جيداًشغفها بالتطرق لهذا الجزء وسرد ليلتها الصاخبة مع والدهالفخور بعفتها "أتوسلكِ أمي توقفي, لا تضيعي ذكرياتيالأمومية عنكِ؟!"

التفت إليه ڤيڤيان ترمقه بترفع وهي تقول بقرف "هذا علىأساس أنك لم تفعل نفس الشيء بتلك العربية؟!"

"لاااا" صرخ نزار بهوس ثم أكمل بصرخة غاضبة "هو لم يفعلمع أمي أي شيء ولا يحلم أن يمسها حتى.. صفّي حساباتكِمع ولدكِ بعيداً عن والدتي؟!"

امتعض جوش كما جدته بطريقة متطابقة بينما يرمقانه وكأنهمجرد رضيع أحمق حتى قالت ڤيڤيان "فلنبتعد عن هذا الجزءالبيولوجي وكأنك وأبيك مجرد عذارى أبرياء؟!"

لم تكن هدأت أنفاسه ولا غيرته الحارقة على أمه وهو يقول"حول ماذا تحومين جدتي.. تعودت أنكِ صريحة ومباشرة؟!"

قالت ڤيڤيان بحسم "ما أرغبه أفعله وما أفكر فيه أقوله.. أرغببانتمائك الكامل، أن تستحق هذا الاسم واللقب الذي حصلتعليه أميري الشاب.. بأن تبدأ في البحث عن نصفك الآخر،أعرف جيداً أن دينك لن يسمح لك بالمواعدة وأنا لن أخسركوأحاربك كما فعلت مع والدك.. لقد تعلمت من أخطائي جيداً،لذا كل ما اقترحه هو إيجاد فتاة من وسطنا تتعرف عليها ثمتقوم بخطبتها وقبل كل هذا تقبل بمنصبك الجديد، كماوالدك!"

ساد الصمت المهيب عقب انتهاء كلماتها، بينما بقي هومتسمر في مكانه ليس صدمة ولكنه بدا أنه ينازع وحوشتتغذى على صراعاته.. وكأنه صورة مرئية لموج البحر الهائجالذي يلطم بعضه آكلاً ماءه داخل دوامة انتحارية.. حتى نطقأخيراً بضياع يناقد تماماً نبرته التي امتلأت بالعزم والإصرار"لا أستطيع تقديم ما فوق احتمالي.. لا أريد أن أمضي فيحياتي وابحث عن الحنان والحب في وجه كل امرأة أقابلها.. إذ أنه لدي حبيبة أخرى تركتها في دياري تترقب عودة الغائب،وتتلظى بنيران الهجران التي تكويني معها.. لقد حان وقتحسمي بالفعل يا جدة لطعم عينيها نورها المسروق؟!"

.............................................
"أنتِ خالتي مثل بدور, صحيح؟!" نطقتها بميوعة ودلال وهي تتراقص يمين ويسار باعوجاج يليق بالوصف الذي سمعت الجميع ينأدي به "مائعة مدللة أبيها"

ضحكت نوة بينما تمد كفيها تمسك بخصرها لتثبتها مكانها وهي تقول برفق "نعم، ولقد تقابلنا عدة مرات, ألا تذكريني؟!"

حركت كتفها بدلال ثم قالت "إن لم تمنحيني الاهتمام الكافي لن أذكركِ!"

"توقفي عن إزعاج الضيفة لوليتا الحمقاء" هتف توأمها بحزم طفولي مبهج ذكرها بخالد قديماً عندما كان يحاول أن يفرض رجولته المبكرة عليهن حتى وهو الأصغر سناً بينهم!

قالت بمحبة وهي تطالعه "لم تزعجني يا صغير.. في الواقع هي تذكرني بطفلتي؟!"

" أنا لست صغير بل صقر والدي!"

"هل لديكِ فتيات.. أين هن ولماذا لم تأتي بهن لأشاركهن ألعابي؟!"

هتف كليهما في نفس واحد، رغم اختلاف الإجابتين!

مما جعل نوة تضحك بتحفظ مرة أخرى وهي تهمس لشقيقتها "هل أنتِ متأكدة أنهما توأم، اختلافهما كما اختلاف الليل والنهار؟!"

قالت بدور بهدوء بينما تقترب لتحمل إياس وتضمه بين ذراعيها كالمعتاد "إن لم يولدا ويكبرا أمام عيني كنت تشككت أنا الأخرى، ولكن هناك تفسير منطقي.. البنت لأمها والولد لخاله!"

"بل لأبيه يا بدور!" نطقت مريم وهي تدخل عليهم أخيراً حاملة بين يديها صينية الضيافة..

التوتر المعتاد كان يطفو على السطح عندما تلاقت عيناها بعيني نوة ثم قالت "مرحباً بكِ لأول مرة في منزلي.. وأشكركِ لانتظاري، إن كان لدي علم مسبق بوجودكِ لكنت في استقبالكِ؟!"

تأملتها نوة الهوينى قبل أن تقول متصنعة المزاح "وأنا أشكركِ لاستقبالي.. الأمر أني لم أرتب لهذه الزيارة بل تشبثت ببدور كالأطفال عندما ذكرت قدومها اليومي عندكِ؟!"

قالت ليبرتا بتبرم "لم تأتي منذ أربعة أيام.. والمزعج إياس لم يكف عن البكاء مثل البيبي وهو يطلبها؟!"

"أنا لست بيبي.. أنتِ هي الحمقاء الطفولية"

تنهدت مريم بتعب وهي تهتف في كليهما "حسناً وقت مستقطع من شجاركما.. هل تركتمانا نكمل حديثنا قليلاً؟!"

"لن أترك ماما بدور" قال إياس بحزم متجهم.

بينما قالت ليبرتا بتبرم "وأنا أريد أن أبقى مع خالتي "إعصار""

غطت مريم فمها ضاحكة وهي تلوح بيدها معتذرة ..بينما لم تراعي بدور أختها المصعوقة إطلاقاً وهي تضحك بقهقهة رنانة..

"حسناً هذه الفتاة تحتاج لتهذيب كما يقول أخوها" نطقت نوة وهي تفتح عينيها الذاهلتين المحدقتين في الصغيرة!

فقالت ليبرتا بحنق لذيذ "ماما بدور هي من تنعتكِ بهذا، كما أخبرتني عن لقب البعبع المخيف لانتقم من خالي، عندما كان يضايقني ويعنفني؟!"

وكأن الإدراك ضرب نوة عندما ارتخت ملامحها وهي تطالع بدور التي رفعت أحد حاجبيها تحدق فيها بتلاعب خبيث "أها خالتكِ بدور أخبرتكِ عن لقبه، هل أستطيع التخمين أن فستان حفل خطبة خالكِ هي من أنتقته أيضاً؟!"

ببراءة قالت ليبرتا "لقد كان صفقة بيننا، هي تسمح لي بأن أنام جانبها بدون إياس "اثنتان"..... وأنا ارتدي هذا الزي!"

رفعت نوة حاجبيها وهي تقول بترصد "اختياره المناسب والفتاة لم تخطئ، صحيح يا بدور؟!"

انزلت بدور إياس هامسة له بشيء ما.. مما دفعه أن ينطلق وهو يهمس لأخته أيضاً جاعلها تطيعه ويخرجا على الفور ثم قالت بهدوء "إن قرر والدكِ اللعب على ولاء أخيكِ الأحمق الذي يخدع نفسه، فلا ضرر ولا ضرار من بعض المكر الأنثوي؟!"

لم تجبها نوة بل نظرت لمريم ثم قالت "وأنتِ على علم بالقصة ومتعاونة بهذا؟!"

هزت مريم رأسها نفياً قبل أن تجلس على الأريكة حديثة الطراز ثم تجذب إحدى الوسائد المنقوشة بورود زرقاء جاذبة للعين "في الحقيقة أعلم القشور عن الفتاة الصهباء التي كانت ترافقه دائماً، بأنها ربما كانت حبيبته!"

تنهدت نوة قبل أن تقول بحزن "ليس حباً بالمعنى الصحيح إذ أنها كانت مجرد مراهقة، تنجذب للشاب الوحيد الذي يسمح لها بأن تقترب منه، بينما هو حسناً ربما كان عشقاً من نوعٍ خاص؟!"

ابتسمت مريم بإشراق قبل أن تقول "بالنسبة لمرأة أحبت زوجها وحلمت بأول قبلة تحصل عليها منه وهي مجرد فتاة في الصف السابع، حسناً أستطيع أن أجزم أن تلك الفتاة الغائبة أحبت أخاك أيضاً!"

"وأنا لا أعتقد.. لقد كان الشاب الذي يجاورها ليس إلا، ربما اختلطت عليها المشاعر بين ابن العم والحبيب.. وإلا ما كانت ابتعدت كل هذا الوقت دون أن تحاول التواصل معه؟!" قالت نوة في محاولة واهية لإقناع نفسها بتفكير أخيها..

فردّت مريم وهي تفرك كفيها بتوتر "وبالنسبة أيضاً.. لمراهقة سخيفة أحبت الرجل الذي رباها كأبٍ لها وأخ راعاها لوقت طويل، وطاردته حتى يقبل هو بعاطفتها.. أخبركِ أنه ربما سَبنتي أحبته وما زالت تحبه متعشمة في وعد منه على وفاء الانتظار؟!"

"رجال الراوي لا يجيدوا الوفاء، بل يحترفون الطعن والغدر، تاركين إياكِ مع جروح غائرة لا تندمل أبداً"

نظرت كلتاهما لجلسة بدور المستريحة وهي تطوي كلا قدميها تحت ركبتيها بينما ترتشف من عصير المانجو بكل سكينة وكأنها لا تتحدث عن أمرٍ ذاقت هي بنفسها مرارته وتجرعت من كأسه الويلات..

"خالد لا يشبهم" قالت نوة

"خالد منهم رغب أم أبى.. لقد كنت أتعشم أنه لن يتبع هذا المصير الذي كتب علينا ولكنه بالنهاية فعل وحقق نبوءة راش.... أعني زوجي السابق!!"

سألت مريم بفضول "ألهذا أنتِ تحاولين معه دون يأس، من أجلها؟!"

قالت بدور بتجهم "من سَبنتي، بالطبع لا، ولكن من أجله هو، يجب عليه أن ينتظر حتى تعود وبعد مواجهتها وحسم أمره بعدل, ربما يستطيع أن يشرع في طريقه!"

هزت نوة رأسها وهي تقول "أحياناً أفكر إن لم ترفضيها وتنفريها منذ الصغر، ما الذي كان قد يتغير؟!"

زمت بدور شفتيها وهي تجلس باستقامة ثم قالت "ما الذي يعنيه هذا؟!"

قالت نوة بتهرب "لا شيء، هذا ليس موضوعنا بالأساس، الذي جئت من أجله؟!"

وقفت بدور من مكانها قبل أن تتوجه نحو أحد النوافذ الزجاجية المطلة على الحديقة الصغيرة والتي تقطع كل جدار الغرفة ثم قالت بصوت أجش "مريم تعلم كل شيء عني يا نوة، العام الذي جلسته في المصحة كان كفيل بأن أخرج بكل ما اكتمه من وجع و من أفكار سوداوية.. ومن ندم يعتصرني لها ولخالد؟!"

"ولكن ليس لي؟!" اغرورقت عينا نوة بالدموع وهي تطالع انحناء كتفيها عالمة بأنه رغم تسامح بدور الظاهري, عودتهن لعلاقة أخوية محبة، لم تستطع أن تتخطى قط أنها كانت أحد من خدعوها وتسببوا في حرمانها من طفلها المنزوع؟!

اختنقت عبرتها داخل صدرها قبل أن تهمس "يوم أن أضم إياب إلى صدري.. يوم أن تهدأ نيران لوعة قلبي.. سأمنحكِ الغفران يا نوة.. بل سأمنحكم جميعاً ما لن أمنحه لنفسي مطلقاً، إذ أني كنت أول المجرمين المتسببين في نزعه مني..!"

صمتت لبرهة قبل أن تختنق أكثر بغصة دموع القلب الموجوع وهي تهمس "فقط لو أعلم أنه بخير، لو أسمع أي خبر عنه يعينني على مرارة الحرمان؟!"

هبت كلا الأختين متوجهتين نحوها إحداهما تربت على كتفيها بعطف.. بينما مريم تحتضنها عنوة جاعلة إياها تبكي على صدرها كما فعلت هي معها قديماً...

"سيعود!" همست نوة!

فقالت بدور بأمل "أعلم.. واثقة من هذا!"

ثم في حركة سريعة لا تصدر إلا من امرأة كبدور كانت توازن نفسها عائدة لصلابتها تمسح دموعها بكبرياء وهي تقول "حسناً ما أردت إخباركِ به أني بتّ أعلم جيداً بأنني كنت مجرد تهديد بالنسبة إليها، أنا أعرف الآن أن سَبنتي بعد كشف ماضيها كانت خائفة.. ضائعة.. مرتعبة من فكرة أن يختارني راشد وابني.. ويزيحها هي من طريقه؟!"

فغرت نوة فمها بصدمة، غير مستوعبة تفهم بدور إلى هذا الحد.. اعترافها العادل دون زيف.. بينما كانت مريم تضيق عينيها بجهل وهي تسأل بتشكك "أي ماضي هذا لفتاة مراهقة، ولماذا قد تخاف أن يبيعها أخوها من أجلكِ؟!"

ابتسمت بدور بلطف ثم نظرت نحو نوة وهي تقول باتفاق ضمني كان بينهم منذ أعوام أصروا على دفنه بوعد أن لا ينبش أبداً "ماضي يخص علاقتي بها.. إذ أني فور حملي حاولت باندفاع طفولي أن تزود الجفاء بيننا.. وأجدني اليوم رغم عدم تقبلي إياها أتفهمها!!"

"ولكن هذا تطرف منها؟!" قالت مريم..

فأجابتها نوة بهدوء "بدور كان حولها الكثيرين المستعدين لدعمها.. بينما هي لم تمتلك أحد غير راشد يا مريم!"

"كما أنا لم أمتلك غير إيهاب" همست بنبرة شابهت الحلم..

مما دفع بدور للابتسام وهي تقول "لا من المستحيل تشابه الأمرين، راشد أبوها فعلاً وقولاً تستطيعين القول أنه أبوها بالدم؟!"

"حق دمائي ونسبي نطفتي لم تسكن امرأة سواك"

أغلقت عيناها لبرهة محاولة أن تنسى قسمه، صوته الأجش، ملمس يده العطوفة وأنفاسه العاصفة التي كانت تجرفها لعالم آخر حدوده ذراعيه وقلبه..

"لقد انتهى، وحطم كل شيء، ليس من حقكِ التفكير.. التنفس.. العيش كما البشر أو الحلم، حتى يأتي رضيعكِ المختطف يا غبية" نهرت نفسها بعنف بصوت داخلي..!

قبل أن تسمع مريم تقول "اتفهمها أيضاً يا بدور.. ربما هو أبوها بحق الدماء ..وربما أنا لم ولن أحصل على والد مثلها ومثلكم يوماً.. ولكني أفهم جيداً الاشتياق لتلك العاطفة ومرارة الحرمان منها.. أعرف معنى أن يكون ظهرك مكشوف دون سند، أن تصبحي مجرد كائن مبتور الأجنحة, مرارة اليتم تلطم فيه دون أن يجد من يحميه تحت ظلاله ويأتي إليه بحقه ممن سلبوه أبسط معاني الحياة.. لذا أي كان ما آذتك به، أي ما دفعها لتفعل ما فعلت.. أنا أتفهمها!"

ها قد وصلوا أخيراً لهدف نوة الخفي من الزيارة... نظرت بدور لوجه نوة الشاحب وهي تسمع الوجع في صوت أختها غير الشقيقة، وهي تجرب ما سمعته هي منها من قبل ونالت كل عاطفتها وحبها بسببه.. أن تعلم نوة أخيراً بالأدلة أن مريم مجرد ضحية من ضحايا شهوات أبيها... ولم تستحق يوماً ذاك الرفض والظلم الذي قابلوها به.

"ووالدتكِ أين كانت من كل هذا؟!" سألت نوة بصوت أجش كاره للمرور بذكر تلك المرأة..

الاضطراب الكامل بل الخوف والرعب طاف في عينيها الشبيهتين بعيني بدور قبل أن تقول بتوتر "كانت أول من اضطهدني, لقد كانت تنتقم منه فيّ، لقد حاولتُ اكتسابها ولكنها رفضتني بكل السبل، هل أخبرتكِ من قبل أنها أرادت قتل صغيريّ، ووالدتكِ من تصدت لها؟!"

شحب وجه نوة أكثر من شحوبه بالفعل وهي تهتف "يا إلهي، مؤكد أنتِ تهولين الأمر.. ليس لهذه الدرجة؟!"

ابتسمت مريم كمن يحاول تخطي أزماته، محو ماضيها الموجع والتشبث بحاضرها المفرح! ثم قالت "والدتكِ شاهدت الأمر بنفسها، أعتقد أنها كانت تستكثر عليّ النجاح فيما فشلت هي في ، بالنهاية كيف لابنة الحرام خاصتها أن تحصل على رجلٍ كزوجي وطفلين هما الدنيا بما فيها لي ولحبيبي؟!"

لم تجد نوة ما تقوله إلا الرد بخشونة دافعها التعاطف "أنتِ لستِ ابنة حرام، رغم ثقل اعترافي بهذا ولكن والدي تزوج من تلك الحقيرة!"

"عرفياً.. وكنت أنا ضحية هذا الرابط، وليس هو أو هي.. إذ إنهما كانا ناضجين كفاية لتحمل اختيارهما ولكن... ما ذنبي أنا أن أوصم بعارهما؟!"

"ألهذا ترفضين الغفران لأبي؟!" سألت نوة

قالت مريم بجمود "نعم، أنا أفعل.. أبوك ربما والدي على الأوراق لأسبابٍ بتِّ تعرفينها جيداً.. ولكنه أبداً لن يكون والداً فعليّاً لي!"

اقتربت منها نوة خطوة ثم قالت "حتى وأنتَ تعرفين أن المرض تمكّن منه، بأننا قد نفقده بأي لحظة؟!"

تطلعت إليها مريم راصدة الدموع الغريزة التي غشيت الرؤية أمامها، شاعرة بنبرة صوتها المهتز وهي تقر بحقيقة بات الجميع يعرفها..

"هو قدّم لكِ ولإخوتكِ ما يستحق عليه الغفران، ولكن أنا لم يقدم لي إلا الضياع والألم، آسفة لتخييب رجائكِ.. ربما طفلاي يذهبا إلى منزلكم بانتظام، وربما نتقابل في مناسبات قليلة وباتت مهمة لعمل زوجي وتلبية لرجاء والدتكِ.. ولكني أبداً لن أسمح لوالدكِ بأكثر من هذا فيّ؟!"

هزت نوة رأسها وهي تفكر أنها آخر من عليها أن تحكم على مريم إذ أنها في الماضي وقبل مأساة بدور التي كانت هي عن غير قصد طرف فيها، مجرد صوت بلا فعل حقيقي يلمس، مجرد بعبعة صوت تمنح النصائح دون دور فعال في حياة أشقائها.. دون أن تقدم الفعل الحازم والعون الجازم لهم، ربما المقارنة غير عادلة ولكنها تتفهمها كما أنها بطريقة ما وكأخت كبرى للجميع باتت تشعر بالشفقة وربما الحب الحقيقي نحوها "لقد تعشمت أن تمنحي رجل مريض من أجل خاطري لقاء واحد, تخبريه فيه ولو كذباً أنكِ ستغفرين له يوماً!!"

أطرقت مريم برأسها مفكرة قبل أن تشير بأناملها نحو بدور التي منحتهما ظهرها تنظر من النافذة للبعيد حاجبة نفسها عنهم ثم قالت بصراحة مطلقة "كانت أحبّ أبنائه، قدم لها ما حرمني أنا منه، فلماذا لم تمنحه غفرانها؟!"

قالت نوة بخشونة "الأمر مختلف!"

قالت مريم بدون تردد "سيان لمن جرب الحرمان يا نوة.. ياسر لم يقدم لي أبداً ما يمنحه حجة لدي للقائه وعناقه.. لست مطالبة نحوه بشيء, لن أجبر للتفكير بمصيره ولوعته كما رماني هو قديماً ولم يفكر في مصير طفلة مجهولة النسب مع امرأة كأمي لم تستحق أبداً هبة الأمومة؟!"

................................................


يتبع الان



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 03:51 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس