عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 10:57 PM   #2295

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile1

التاسع والعشرون ج2




بعد ساعات كان يستيقظ من نومه على صوت أزيز هاتفه، فرك عينيه بتعب وهو يجذب الغطاء على زوجته الذي تزيحه كالعادة أثناء نومها، ثم مدّ يده حتى يعرف من هذا المزعج الذي قطع عليه ساعات راحته... اعتدل بحرص وهو يرفض المكالمة ثم أرسل باختصار "لن أستطيع الرد الآن، هل هناك أمر طارئ؟!"

أتاه الرد "أحتاج للحديث معك، أنا أمام صالة التدريب خاصتك.. اعتقدت أنك لم ترحل بعد؟!"

أرسل بهدوء "لقد رحلت باكراً، ماذا هناك يا خالد.. هل حدث شيء آخر؟!"

"لقد عادت وأنا فقط أشعر بالتشوش... أريد التحدث مع صديق سيفهم ما أريد قوله!"

يقصد سيستمع بصبر وصمت تام دون أن يوجّه له انتقاد حاد يحتاجه، إذ أن العلاقة تطورت بينهما منذ رحيل راشد الراوي لمرحلة صداقة حقيقية.. بالطبع بعيد عن معرفة جوان، حيث أنه أيضاً خلعها خلعاً من أي شيء يمتّ لبيت الراوي بصلة "هل تريد مني القدوم الآن؟!"

أرسل خالد "لا، سأمر عليك في الغد, لا تزعج نفسك بالقدوم، أنا فقط كنت أشعر بالاختناق، إذ أن أمور كثيرة قد حدثت منذ وفاة أبي"

"حسناً.. غداً مساءً سأنتظرك!"

أغلق الهاتف واضعه على الطاولة الصغيرة، ثم التفت متأمل وجه جوان التي تنام بدون كوابيسها المعتادة.. دون قهرها وشعورها بالدونية.. دون أشياء كثيرة موجعة، والتي يتوقع أن تطفو على السطح إن كانت سَبنتي بالفعل قد عادت كما فهم.

وضع رأسه على الوسادة بجانبها يتأملها بهدوء شاعر بالأسف مع اضطراره لقرار صارم آخر بأن لا يخبرها أن ابنتها معها على نفس الأرض، هو ليس بغبي ليكرر الخطأ مرتين، ليفسد عالم الفتاة الجديد وينبش في ماضيها، أو يزلزل سعادة تستحقها امرأته بعد كل ما عانته..

تحركت منقلبة للناحية الأخرى مانحة إياه ظهرها وهي تهمس ناعسة "هل ما زلت غاضب مني؟!"

قلص المسافة بينهما معاود احتضانها,, ملصق ظهرها بصدره، ثم حرك شعرها الغزير بعيداً مريحه على الوسادة وهو يقول "هل أنتِ جادة في السؤال عقب ما حدث؟!"

همست دون وعي حقيقي وكأن عقلها الباطن من يتحدث "لقد رأيت غضبك في المطبخ، عارفة أنك لم تتخطى كذبي عليك قديماً بشأن حالتي.. إلا أنك تصدق الآن أني كنت فقط في محاولة دفاعية لحماية نفسي من أي أمل زائف قد تمنحه لي!"

تنهد وهو يضع شفتيه على كتفها العاري دون أن يجيبها متذكراً كيف كانت حالته عند اكتشافه الأمر، إذ أنها لم تخبره بطريقة مباشرة بل احتمت خلف ظهر أمه الجاهلة تمامًا بما يحدث, وهي تقول مازحة أن عليه أن يبيت في غرفة أخيه لأن زوجته لديها ظروف شهرية وتخجل من إخباره، يذكر جيداً توسع عينيه غضباً وذهولاً.. كيف استطاعت أن توهم أمه بأمر يصعب حدوثه وهو من كان يعتقد أن لا رحم لها، ليحدث لها هذا كالنساء، يومها شدّها من يدها دافعها لداخل الغرفة بغضب يهتف باستنكار من بين شفتيه "كيف استطعتِ خداع أمي، لم نتفق على منحها أمل زائف؟!"

انحنت كتفيها بقهر تنفجر في البكاء وهي تقول بخوف "أنا لم أكذب، ربما كل العيوب بي ولكنك تعرف أني لست بمخادعة"

كان جاف غير مبالي وغضبه يتحكم فيه إذ أنه لم يكن سامحها بالفعل لتركها إياه يواجه الموت وهو يقول "بل أنتِ أكبر مخادعة عرفتها، ألم نتفق أنكِ ستصمتين تماماً غير مفصحة عن أي من ماضيكِ واتركيني أنا أحيك مسلسل كذبكِ الذي لا ينتهي؟!"

ما زال يذكر شحوب ملامحها وهي تحدق فيه بصدمة ووجع ثم أدارت وجهها عنه وهي تقول بحرقة "أنا لم أكذب عليها، لم أستطيع فعل هذا أذ أني أحبها كأمي، توقف عن جرحي بكلماتك المسمومة؟!"

اقترب منها وغشاء الغضب الأعمى يزاح عن عينيه ببطء، وهو يسأل بتوتر "أنتَ لا تنجبي يا جوان, لقد جعلكِ والدكِ عاقر لحماية اسمه من خطأ قد ترتكبينه بغبائكِ مرة أخرى.. ألم تخبريني بهذا؟!"

الضياع والتوسل كان يختلط مع دموعها المستجدية التفهم داخل عينيها وهي تهمس "لقد كذبت عليك أنتَ، وقتها لم أكن أريدك أن تتمسك بزواجك مني فقط أردت اختصار الأمر علي... الصفقة!"

عرق أحمر ناري كان ما يحدد ما بين عينيه وهو يقول بجمود "آه, بالطبع حماية ووصول لسبنتي أمام عاطفة مقززة تمنحينها لي وكأنكِ...!"

صرخت فيه بقوتها الوليدة "توقف، إن نعتني بأي شيء يجرحني أقسم أن أتركك بغير عودة.. أنا ما عاد بي طاقة لتحمل الإهانة من أي مخلوق حتى وإن كان أنت!"

تراجع غضبه مع إصابة دامية لقلبه بالندم وهو يبتعد عن مرماها.. يقطع الغرفة ذهاب واياب كمن يكاد يوشك على فقدان عقله ثم قال بنفاذ صبر "هل يمكن للسيدة أن تفهمني الآن معنى كل هذا؟!"

ابتلعت ريقها برهبة وهي تستند على طرف الفراش ثم جلست عليه كالتائهة تبحث عن الحروف المناسبة فتتخبط تماماً وهي تعترف "لقد رغب بالفعل ودفع مالاً كثيراً للطبيبة التي قامت بتوليدي لتستأصل الرحم مع ابنتي، وتدّعي حدوث نزيف لصغر سني وقتها"

صمت فقال من بين أسنانه "وبعد؟!"

جلست وهي تفرك شعرها في حركة مضطربة يعلم أنها تلازمها وهي تهمس باختناق "أشفقت عليّ، بعد حديث والدتي السري معها إذ أنها كانت تعلم بمخطط أبي بالفعل، فحمتني كلتاهما، واكتفت الطبيبة بقطع إحدى قنوات التبويض خاصتي، وأخبرته بأن صفقته عديمة الرحمة تمت وبنجاح!"

توقفت أنفاسه للحظات فاغراً فاهه بصدمة نافست صدمته عندما أخبرته بكذبتها السابقة، التشوش هو ما كان يغرقه وهو يقول "وكيف لم يكتشفكِ أحد، أخبرتني أنه كان يضيق الخناق عليكِ حتى الخدم كان يراقبونكِ... بل كيف لم اكتشفه وأنا من أعيش معكِ قرابة العام ونصف؟!"

أخفضت وجهها والعار يتلبس روحها ثم قالت من بين جفونها المغلقة "لقد علمتني أمي كيف أخفي أثاري جيداً بعيداً عن الأعين، وساعدني بالطبع أنها لا تأتي إلا كل شهرين.. أما عنك، فأنت لم تقربني إلا لماماً وبناءً على توسلي أنا إياك لتعاملني كزوجة، لذا لم يكن من الصعب إخفائه عنك أيضاً!"

تصلبت ملامحه وصمت كل شيء وكأنه صنم خالي من الحياة..

دافعها لترفع عينيها فيه وهي تقول "أخبرتها، وقررت كشف نفسي لأنك منحتني فرصة لأعيش من جديد، أنتَ لم تقدم لي بالسابق الأمان لقلبي.. لإنسانيتي يا نضال، ولكن بسحبك لي إلى هنا، بمعاملتي أخيراً كزوجة منحتني حقوقي بعدل، قررت أن أتصارح معك.. بأن لا أحتفظ بنفسي بعيداً مرة أخرى"

لم يرد أيضاً بل كان يحدق فيها بغضب العاجز عن كسر رأسها وتمزيقها، كما هي تمزقه تباعاً باعترافاتها التي لا تتوقف!

انتصبت أمامه تقف بحرص قبالته ثم قالت بهدوء شديد وحزم غريب على أذنيه منها "ها أنت عرفت آخر أسراري، ولديك الحق في الاختيار، إما تقبلها، وتمسك يدي في رابط زوجي حقيقي هذه المرة... أو تتركني لحال سبيلي وتطلقني ماحني من حياتك تماماً؟!"

انتفض من مكانه وهو يمسك بذراعها بقسوة ثم قال "اذكري هذه الكلمة مرة أخرى يا جوان, وأقسم أن أدفنكِ مكانكِ!"

وببساطة كان يدفعها بعيداً ويغادر هاجرها لشهرين آخرين رافض أي بادرة سلام تقدم عليها... حتى أتاها أخيراً مطيباً خاطرها وعاقد صفقة رؤوفة معها لا أكاذيب بينهما أبداً مرة أخرى مهما كانت الحقيقة قاسية ..

عاد من ذكرياته وهو يفكر بأنه يقدم على كسر هذا الاتفاق لتوه بإنكاره معرفة تواجد سَبنتي هنا...

همس بخفوت محاول أن يزيح كل أرقه بعيداً "جوان هل نمتِ؟!"

لم ترد، حرك يديه من تحت الشرشف بهدوء على طول خصرها، شاعر بعاطفته تتأجج مجدداً، برغبته التي لا تنطفئ تتصاعد بقوة لا يستطيع التغاضي عنها وتركها لحال سبيلها.. شفتاه كانت تقبل ظهرها العاري ببطء وهو يهمس مجدداً "سأغضب بالفعل إن لم تستيقظي وتجاريني!"

قشعريرة دافئة كانت تمر على طول عمودها الفقري وهي تهمس ناعسة "لا أريد"

عدلها بين ذراعيه ثم اعتلاها محاوطها بكلا يديه وهو يهمس كأنه يبوح بسر خطير "ولكن أنا أريدكِ، هل ستتركين زوجكِ المسكين يحترق بنيرانه؟!"

همست لاهثة بين الصحيان والنوم "هذا غش، أنت تلعب بدون إنصاف.. لقد أطفئتك بالفعل بغلالة عفاف!"

ضحك بخشونة وهو يقول "تلك هدية أمي التي أكاد أن أتيقن أنها تبنتني إذ أنها لا تحرص على صحتي؟!"

فتحت عينيها ببطء تناظره بتلك النظرة الناعسة الناعمة التي تسلبه كل تعقله ثم همست "قالت أنها ترغب في منحك الترفيه؟!"

همس بصوت أجش "وماذا إذاً عن رغبة حبيبتي؟!"

حاوطت عنقه بذراعيها الناعمتين، ثم همست وهي تقبل صدره صعودًا لرقبته ببطء شديد متقصده "دائماً في اشتياق إليك، مستعدة لمنحك حتى ما لا ترغبه فيها!"

لملمها كلها بعاطفته مانحاً كل إنش فيها من فيض رغبته، يداه تسابق شفتاه في إشعالها.. حريصاً على أن لا يجعلها تنطفئ أبداً بداخله.. ساحبها دون رفق لعالمهما الخاص, ليغرق فيها كما هي تذوب على كل عضلة في جسده الصلب، ثم همس أخيراً من بين أنفاسه المتقطعة "لا يوجد لديكِ حتى ولو إنش صغير جداً لا أرغب فيه مصيباً إياي بالهوس!"

همست وهي تقبله بجنون من بين شهيقها وزفيرها المتصاعد "لماذا نهمس أخبرني؟!"

غمز وهو يلمسها بمزيد من وقاحته "الهمس يحفظ الأسرار في قمقم محكم غلقه.. كما العاطفة البركانية التي تنفجر بيننا دون أن تتوقف أبداً"

دفعته بعيداً فاستسلم لفعلتها كما رفع ساعديه الصلبين ليحتوي اندفاعها وهي تستبدل موقعه ثم قالت "لهذا السبب تحديداً أرغب بأن لا تتوقف عن الهمس أبداً"

يوماً ستتسبب في توقف قلبه, هذا ما كان يوقنه وهو يغرق في دوامتهما العاطفية، ولكن كيف له أن يقاومها أو يزهدها يوماً وهو الذي إن كان أحب جوان القديمة بكل أوجاعها، بات يعشق زوجته بشخصيتها الجديدة التي نضجت تحت ظله.. كبرت بعد أن توقف عمرها عند حادثها، باتت تؤمن بأن من حق كل تائب فرصة ليعيش كما البشر...



هو الحب .. كالموج

تكرار غبطتنا بالقديم _الجديد

سريع بطيء

بريء كظبي يسابق دراجة

وبذيء ك ديك .. جريء كذي حاجة

عصبي المزاج رديء

هادئ كخيال يرتب ألفاظه

مظلم معتم .. ويضيء

فارغ ومليء بأضداده

يفاجئنا حين ننسى عواطفنا .. ويجيء

هو الفوضوي الأناني

والسيد الواحد المتعدد

نؤمن حيناً ونكفر حيناً ولكنه لا يبالي بنا

حين يصطادنا واحداً واحدة

ثم يصرعنا بيد باردة

إنه قاتل بريء •~

محمود درويش



في الصباح الباكر استيقظت بنشاط لتعد كل ما تعرف أنه يفضله ومؤكد قد اشتاقه من بين يديها، بهمة كانت تضع الطبق تلو الأخر مع ابتسامة حنان تكلل شفتيها تسرقها عبرة تتمكن منها، محاولة استيعاب أن الغائب الحبيب قد عاد، نزار الهوى قضى بين ذراعيها الأمومية ليلته وهي تحاوط رأسه رافضة تركه كما هو يتمسك فيها وكأنه بطريقة ما أصبح طفلها الصغير الذي لم يتعدى أعوامه الخمسة، بالطبع لم ينم أحدهما وهي تحكي عن كل ما فاته معها كما هو قص عليها كل ما مر عليه، تسامرا ضاحكين وأحيانا باكيين ولكن مؤكد حديثهما هذا خلا من كل الأحقاد التي فرقتهما قبل سنوات, لقد تناست هي بقلب أم، وتغاضى هو عن الماضي بحنان وتفهم ابن كان تستجديه قبل أعوام...

مسحت دمعة فارة من عينيها بطارف حجابها وهي تهمس "لم يعد مهماً يا هناء، لقد أخبرتِ مريم بالأمس القريب أننا نمنح الصفح لأننا نستحق السلام مع أنفسنا، فكيف إن كان الأمر يتوقف عند ولد قلبك؟!"

لقد بدت وهو يراقبها من بعيد أنها صغرت لعشر أعوام أخرى، بالطبع هي ما زالت طالبته الجميلة الصغيرة في عينيه، ولكن لمّ شملها مع ابنها محى حزنها أخيراً، له وقع على النظرات الخاصة بالفؤاد الذي يقيده مخلص في عشقها... متى تمنحه السلام, الإذن بالاقتراب، غفرانها الذي يستحقه هو الآخر؟!

"بسم الله الرحمن الرحيم، لقد أخفتني، منذ متى وأنت تتلصص عليّ؟" قالت هناء غاضبة وهي تنتبه لوقفته أخيراً..

نفخ جوش ببعض الملل وهو يقول بفلسفة معتادة "سؤال لديه إجابتين.. أيهما تريدين سماعها؟!"

قالت بجفاف "ها قد عدنا لفلسفتك الكريهة، أجب على قدر السؤال أو أغرب عن وجهي؟!"

تمطى جوشوا بلا مبالاة وهو يقول بهدوء "هل أخبرتكِ من قبل أن رفض المرأة لرجل متقصدة استفزازه وإشعال غضبه لا يعني إلا أنها ترغبه بشدة, محفزة فيه روح الصياد مطارد فريسته العصية؟!"

أحست بضغط دمها يعلو كالمعتاد.. هذا الرجل سيتسبب لها ببروده بجلطة أخرى عن قريب، لوّحت أمامه بمعلقة خشبية كانت تقلب بها طبق الفول الشهير خاصتها، ثم قالت بسخط "أو تعني انضج يا رجل وعش عمرك وأغرب عن وجهي تاركني بسلام مع ابننا الذي أصبح كتفه يساوي كتفك؟!"

اقترب منها قاصد المزيد من استفزازها الممتع أو ربما ابتزازها عاطفياً وهو يقول "هناك الكثير من الآباء الذين يلامس أبنائهم كتفهم بل ويفوقهم طولاً، وما زال يعيش في سعادة مع امرأته ضاممها بين ذراعيه ومانحة هي إياه سلامة عقله وقلبه على فكرة!"

"أنت أصبحت شخصاً مستفز، ماذا أفعل لتفهم أن لا تعني لا؟!"

مدّ يده يغطي يدها القابضة على سلاحها الخشبي مسبب لها الارتباك والخجل الممتع لعينيه، ثم رفعها متذوق الفول من عليها مطلق صوت نهم مستمع ثم قال "نكهة أنفاس هناء الخاصة تضيف لكل شيء جمال فرعوني خاص بلعنتها السرية كما أجدادها القدامى!"

أفلتت المعلقة كما ابتعدت عنه وهي تقول بحزم فضح هشاشتها في حضرته "أتعلم أنا نادمة جداً للسماح لك بالمبيت في غرفة نزار.. وعدم دفعك خارج منزلي بالأمس!"

قال برقة ماكرة عابثة "لوهلة اعتقدت أنكِ ستقولين أنكِ نادمة لعدم جلبكِ المأذون وتجديد زواجنا لأبيت أنا بين ذراعيكِ بدل ابنكِ الأحمق!"

صرخت في وجهه بذعر ووجهها يمتقع بالأحمر القاني "أنتَ مصيبة، توقف.. إن سمعك نزار أقسم أنه سيخنقك بيديه!"

امتعض وهو يقول "وأنا من كنت أتساءل من أين أتى الغبي بحماقته، لاكتشف أنه ورثها عنكِ، بماذا أخبرتِ ابنكِ تحديداً عن كيفية إنجاب الأطفال؟!"

زمت شفتيها وهي تهتف فيه ساخطة "اخرج من هنا يا مكشوف الوجه، قبل أن ايقظه بالفعل وأخبره عن ما تفعله!"

بالطبع لم يهتم بتهديدها ولكنه توجس وهو يضيق ما بين عينيه ثم أبهرها وهو يقول "ماذا تعني (مكشوف الوجه)؟ هل تسبيني يا هناء؟!"

قلدت لهجته الفصحى وهي تقول "لا سيدي, ثكلتني أمي إن فعلت، هذا بالطبع إن لم تتسبب أنتِ في قصف عمري قبل أوانه؟!"

اقترب.. اقترب بحد خطير وهو يقول بنبرة وضع كل حنانه وعشقه فيها "عودي إليّ يا هناء، ألا تكفي ثلاثة وعشرون عام من الهجر والعقاب، أرجوكِ اسمحي لي بأن أعوضكِ الماضي، بأن أحبكِ كما تستحقين.. أرجوكِ حبيبتي كلانا يستحق تلك المكافأة بعد عذاب، أن نستند على بعضنا لما تبقى من حياتنا"

لحسن حظه لم تصدّه هذه المرة بل رفعت عينيها إليه بهدوء وهي تقول "أنا لا أقصد تعذيبك أو تعذيب نفسي، ولكن ما مررت به معك وبسببك لم يكن هين، أخبرتك سابقاً إن كنت تسعى لغفراني فأنا أسامحك، إكراماً لما فعلته لابننا، ولكن جزء الحرة التي سقطت في الوحل بسببك، وقلب الأنثى الذي تحطم على يديك ما زال يقف حائل بيننا!"

هل عليه أن يسعد بتخليها عن حجتها غير المقنعة أخيراً الخاصة بالعمر، واعترافها بما يعلم يقين أنه ما زال يوجعها، أم عليه أن يحزن وييأس من صفحها يوماً وطي تلك الصفحة؟!

هو ليس بغر حتى لا يدرك أن بعض الصفحات يصعب طيها أو تناسيها...

شحبت ملامحه عند الوصول للفكرة بحد ذاتها، إذ أنها تعني الحكم عليه بفراق أبدي، بإعدام الأمل الذي ما زال يتمسك فيه..

حتى قال بروحه العنيدة أخيراً "إن سمحتِ لي بالاقتراب، يا هناء سأمحو كل هذا، سأرمم أنوثتكِ كما أعدت لكِ كرامتكِ باعترافي بجريمتي في حقكِ!"

صمت طويل ساد بينهما قبل أن تجيبه بنبرة مغلقة "من قال أنك أعدت لي شيئاً جوشوا.. ما كسرته داخل نفسي أنا، وجع الحرة التي مرغت كبريائها ما زال يسكنني.. ينزف هنا!"

أشارت نحو قلبها كما عقلها ثم قالت بجمود "كل ما عرفه الناس لا يعنيني لأني عندما أحببتك تركت الجميع ورائي، بعت كل شيء مقابل حبك أنت، لذا تفهمهم أخيراً وتقبلهم لما حدث أيضاً لا يمنحك أبداً صك غفران، أنا كان ما يهمني أنتَ.. وأنتَ كسرتني أنا!"

عيناه الخضراوين كانتا تنظران إليها بمرارة مما جعل إرهاقه وتعبه يزداد بروزا، وهو يقول بهدوء "أخبريني عن الطريق لأصل إليكِ، وإن كان الثمن طعني لنفسي، سأفعل"

هزت رأسها وهي تحدق فيه بنظرة غريبة لم يفهم معناها حتى همست أخيراً مجفلة إياه على حين غرة "ومن قال أني أريد طعنك أو انتقم منك، أنا ما زلت أحبك جوشوا.. أنا لم أكرهك أو أنساك قط كما ادّعي، وارتعب كل لحظة من سوء قد يطالك وتلك هي كارثتي الحقيقية ومصيبتي التي يصعب تخطيها!"

ما زال كلاهما يناظر الآخر بتحدي، ولكنه لأسباب مختلفة تمامًا عن بعضهم...

حتى قال ممدوح أخيراً ببطء مستفز "ألم أخبرك أنتَ لم تتغير أبداً, ما زال حس الحماية لديك يطغى على أي شيء آخر!"

قال إيهاب مستخفاً "بل هو حب المعرفة ليتيقن ضميري الحي أنك تستحق حكمي المسبق بالعذاب والموت ألف مرة، وأنا أرى بعيني المزيد من ضحاياك الذين تتركهم خلفك!"

أسند ممدوح رأسه بكفه سامحاً لإرهاقه الطويل بأن يطفو على السطح حتى قال "لماذا لا تريد أن تصدق بأني تغيرت، أصبحت شخصاً آخر غير الذي تعرفه؟!"

زم إيهاب شفتيه وهو يزيح وجهه بعيداً مشمئز من مجرد نظرة يمنحه إياها ثم قال "لا أهتم, كل ما يعنيني نفيك بعيداً عني مرة أخرى"

قال ممدوح "أريد غفرانك"

رد بهدوء "لن تحصل عليه، وإن زحفت على سطح الأرض من مشرقها حتى مغربها تكفيراً عن ما فعلت!"

قال باستسلام بنفس تلك النبرة الواهنة "لم تكونا أنت وهي المقصودين بفعلتي, لقد كنت أعمى معدوم الضمير والقلب"

عاد إيهاب للنظر إليه بتحكم معتاد ثم شبك أصابعه فوق المكتب وهو يقول "اسمع يا ممدوح، سأخبرك نصيحة أخيرة، اترك مطاردتي وعائلتي، تناسى ضميرك الذي بزغ من العدم فجأة، واخلع من رأسك تلك الفكرة عن التكفير والبحث عن غفران منّا لن تحصل عليه، وركّز كل مجهودك هذا نحو مطاردة زوجتك كما تدّعي!"

قال بجمود "لورين هي هدفي الأول، من قال أني لا أنبش عنها منذ مدة طويلة، ولديّ إيمان قويّ أني سأجدها قريباً!"

بهدوء أبرز إيهاب ملف أمامه يحوي تذكرة طائرة بموعد حدده بنفسه، ثم قال "لن تحتاج للبحث، لقد وجدت لك غايتك، ولكن لأمنحك إياها ستعدني والآن أنك ستنزع زوجتي من رأسك وكأنك لم تعرفها يوماً قط!"

ابتلع ممدوح ريقه وعيناه تتجمد نحو ذلك الملف الذي يعني أنه قد ينقذ حياته وقلبه المعذب ثم قال "هل هذه نقطة لصالحي يا إيهاب.. ستثق في وعدي؟!"

ضحك باستهجان وهو يقول "ما زلت سافل مغفل كما أنت، من تحدث عن أية ثقة هنا، بل وعدك الذي ستقطعه مجرد ثمن وتحذير!"

صمت لبرهة قبل أن يرفع الملف عاليا ملوح به بابتزاز وهو يكمل ببطء "ثمناً لبعدك عنا، إذ أني أريد حماية أبنائي من ظهورك في حياتهم، وهذا السبب الوحيد الذي دفعني لإخبارك الآن بما وصلت إليه.. وتحذير لك إذ أنك فور إطلاق وعدك هذا إن رأيتك تقترب من محيطنا على بعد أميال سأحرص بنفسي على أن أدمر حياتك ومستقبلك، كما دمرت أنت بداخلها شعورها بالأمان بين أفراد أسرتها"

ابتلع ريقة بصعوبة وهو يحدق في وجه ابن عمه بتلك الواجهة الشرسة التي تذكره أن وجه إيهاب الناعم الحنون يخفي تحته وجه آخر شراني، لا يقبل بالتلاعب معه ولكنه قال "قد يساعد الضحية أحيانا أن تفهم، بأن العيب لم يكن فيها، لم تكن هي المذنبة.. بأن تعرف الحقائق!"

هتف إيهاب فيه بعدم تحكم "لا تحاول استفزازي، لن أتردد في أن أبرحك ضرباً مرة أخرى!"

قال بتوتر ووجهه يشحب وما زالت عيناه الخضراوين تثبت نحو الملف الذي قد يعني حياته "أخبرها واتركها تقرر؟!"

دفع كرسيه للوراء بحزم وضغط على زر فرامة الأوراق وهو يقول "كلمتك والآن يا ممدوح، جنونك ومطاردتك تلك التي لن تربح منها إلا تدميرك، أو هذا الملف تأخذه بهدوء وتغادر من مصر دون عودة؟!"

تشنج لبرهة مصارع عدة رغبات بداخله، حتى حسمت معركته بسهولة لصالح "حبيبته المهاجرة" وهو يقف مختطف منه الملف بتهور، يخالطه اللهفة، فتحه على الفور مقلباً داخله بعدم تصديق.. عيناه تجري على الأسطر الأولى تحمل اسمها ومكان عملها وإقامتها بنهم، شاعر أنه قد يغمى عليه في أي لحظة من فرحته... أخيراً حبيبتي سأراكِ...

همس "الأردن.. كانت تختبئ في بلد مجاور، كيف لم يطرأ هذا الأمر لعقلي الغبي عندما ذكرته أمها بالتبني بعد أن يئست من مطاردتي إياهم وسؤالي عنها؟!"

لم يعني إيهاب أي من مشاعره تلك وهو يقول في برود "وعدك الآن!"

رفع وجهه بتوهان ورغبته الحارقة تتصارع بداخله حتى قال أخيراً "أعدك، لن أحاول تدمير سعادتك بلعنة قربي مرة أخرى!"

استرخى في مقعده أخيراً وهو يقول بعدم اهتمام "الآن فقط أستطيع أن أقول "نذل" مطيع ومهذب"

بلع إهانته وإذلاله بوجع، وهو ينظر إليه بعتاب لم يقدر على مقاومته، مما جعل إيهاب يحس بشعور قديم كان يجتاحه اتجاه ابن عمه الصغير الضائع، ذلك الإحساس بالحماية والحب الفطري نحوه، ولكن كيف له أن يتناسى جريمته في حقه؟!!

انمحت القسوة لبرهة، لثوانٍ معدودة، وهو يعتدل في مقعده ثم قال بهدوء "هذه ليست أرضك يا ممدوح ولا غايتك، اذهب وحارب في جبهة أخرى قد تمنحك ما يسكّن روحك المعذبة، حاول أن تصحح أخطائك برجولة هذه المرة مبتعداً عن طيشك وظلمتك، ربما وقتها ستحصل على فرصة ثانية لتطبيب أنينك مثلنا جميعاً!"

رغم الوجع الذي لا يطاق الذي يتمكن منه كان يقول بهدوء "شكراً أبا إياس للنصيحة والمساعدة"

افتر فمه عن شبه ابتسامة مقتضبة وهو يومئ بهدوء حتى قال بنصيحة أخيرة "ما ستجده هناك قد لا يعجبك مطلقاً، هذا الملف أنا اقتطعت منه قاصداً بعض المعلومات التي قد تصيبك بالجنون!"

توجس "ماذا تقصد؟!"

هز كتفيه وهو يقول "إن كنت أريد إخبارك ما كنت اقتطعتها، فقط حاول أن تتماسك أمام عنف المفاجأتين!"

تحرك ناوياً المغادرة إذ أنه وضح بالفعل أنه ما عاد شيء قد يفعله هنا, كما أن لقاءه بلورين أصبح هو كل ما يسيطر عليه، ثم ما لبث أن قال مودعاً "عندما تكبر كفاية تصبح كل الأشياء ممكنة الحدوث، لذا لا أعتقد مطلقًاً بأن هناك ما قد يصدمني؟!"

ودعه إيهاب بابتسامة ساخرة ورغم عنه شاعر بالتشفي قليلاً، المعدن لا يتغير بسهولة، وإن لم تقضي عليه صدمة زواج امرأته بآخر، مؤكد وجود طفلة يجهلها سيهز الأرض من تحت قدميه، متسبب في إخراج مارد شره!"

**********

كان يقف منزوياً عن الأعين، في مكان يكشف له ما يريد رؤيته دون أن يلمحه أحد، ربما مرت أكثر من ساعة الآن، ولكنه لن ييأس أو يغادر تاركها لحال سبيلها كم طلبت منه هناء، لا بل هي أمرته مهددة إياه تقريباً، عندما اجتمع ثلاثتهم لأول مرة في تاريخهم الحافل على مائدة واحدة كان يسودها الدفء أخيراً، حتى انجر لسانه رغماً عنه يسأل متوارياً خلف الكلمات عن حال بنات الراوي بعد موت ياسر، بالطبع أمه لم تحتج للشرح لفهمه فسرعان ما كانت تحذره كالطلقة أن يعود ليقترب من الفتاة الهشة التي راقبتها لأعوام تحارب باستماتة لبناء نفسها، لمنح الأمل لصغار في نفس حالتها، ابتسم بحنان متذكر أحلامها القديمة.. عصفورته الرقيقة, أميرته المحبوسة داخل قصر والدها وجدت أخيراً القوة لتحلق فاردة أجنحتها في عنان السماء...

تنهد بضيق وهو يتكئ على الحائط متذكر بإحباط جملة هناء الصارمة، بأنه ليس من حقه العودة لتهديد عالمها بنزع سلامها, مما دفعه أن يصرح لها بهدفه الذي لن يحيد عنه "وربما اقترابي سيمنحها أمل جديد، حماية تحتاجها، سأزهر قلبها نازع عنها أي مرارة تسكنها، أنا ما زلت أحبها أمي، لم أستطع نسيانها أبداً!"

يذكر كيف تجهمت ملامحها وهي ترمق والده بقصد ثم قالت بنبرة خالية من العطف "ستدمرها، جيناته تعيش فيك يا نزار، أنتَ لن تمنح لقلبها إلا الخذلان، وستحطم قلبها البكر بغباء التملك.. هذا ما تجيدانه!"

هز رأسه وهو يبتسم باقتضاب متذكر توسع عيني أبيه مجفلاً من رميه في أمر ليس علاقة به حتى تخيل للحظة أن البروفيسور السويدي إن كان يعلم ثقافتهم الساخرة قد يقول "وأنا مالي يا لمبي، أو يا هناء لن تفرق؟!"

ولكنه ببساطة لم يهتم أو يستمع، شاعر بروح الصبي العابث تعود لتتلبّسه، بذلك الغر العاشق يسيطر عليه، ليقتحم محيطها غير عابئ بالعواقب!

ولكنه لن يفعل... صحيح شيماء تستحق منه أن يضحي بفؤاده أمام سلامها، إن تيقن بأي طريقة أنها تخطته بالفعل ولم تعد عالقة في دائرته كما أوهمته يوماً وهو صدقها باندفاع صبياني حيث كان وقتها معمي عن الكثير لإدراكه!

وظهرت أخيراً كنسمة باردة تهب على قلبه الذي ملأته قسوة الصيف الذي يحرقه بنار جهنم، مرت أمام عينيه التي تحدق فيها بانبهار، كحمامة بيضاء ناعمة تنشر السلام على كل روح عانت ويلات الحرب، أينما حلت، لتمنحه ترياق الشفاء..

"عصفورتي زرقاء العينين!" همس من البعيد بينما يشعر بها تقترب وتقترب حتى تلامس فؤاده وكأن هناك كاميرا سينمائية تقرب منه لقطة تباعدها لتربت على قلبه، بدت له وهو يراقبها من بعيد كملاك بريء, لم تتغير تفاصيلها، بل ما زالت تحمل وجهها الطفولي المحبب، جمالها الأخاذ بنعومة أسرته داخل سجن أجاد هو إقامة قضبانه بيديه مغلقه بنفسه رامياً مفتاحه بين يديها، لم تتغير على الإطلاق وكأن الأعوام التي نالت منهم جميعاً رضخت أمام رقتها وهشاشتها، رافضة أن تمس هيئتها المقدسة..

ومن مكانه القصي البعيد كان يدرك أيضاً لمحة الحزن الطاغي والألم الأسود الذي يسيطر عليها.. منافساً في شدته ملابس الحداد التي ترتديها!

يداه ارتفعت تخط في الهواء بنعومة شديدة ملامحها، مجتاحه شعور قوي تخيلي بأنه يلامس وجهها كما كانت تفعل هي لتطبع ملامحه في عقلها "هل رسمتِ لوحتي من خيالك، أم لم يُقدّر لذلك الوعد التحقق أبداً، ليوأد في مهده كما وأدنا أبوك احياءً يا أميرة؟!"

راقبها بألم وهي تتقدم نحو سيارة رباعية الدفع، تفتح بابها وتتوقف قليلاً متفحصة محيطها بلهفة و توهان وكأنها تبحث عن شيء مفقود أدركت أنه يجاورها؟!

ابتلع ريقه وهو يقول بصوت مكتوم لا حياة فيه "هل شعرتِ بي، كيف أصدق الخدعة التي أقنعت نفسكِ بها... لم تكوني وهماً يا شيماء بل عشقاً احتلّ كياني، ولم أجد الرغبة أبداً حبيبتي لمحاربته وإجلائه بل سلمته منذ زمن كل راياتي، فماذا عنكِ؟!"

وإن كانت المسافات تنطق، وإن كان للغة القلوب صوت يجهر لكان فضح تشتتها، وضياعها، بل وخوفها وهي تبحث بعينين لا تبصران محيطها، معتمدة على بصيرة القلب الذي ارتعش مخبرها بأن طيفاً قديماً قد عاد ليحيطها، طيف لم تنسه أو تتناساه قط بل احتفظت به داخل صدرها كما هديته التي تعلقها حول عنقها، متعشمة في يوم أن يعود ليطارها!

سمعت صوت السائق العجوز الذي يخصصه لها خالد يسألها برفق وقلق "هل هناك شيء ضاع منكِ يا ابنتي؟!"

انخفضت تحتل مقعدها وهي تغلق الباب ثم ضمت عصاها إلى صدرها مقاومة بقوة أن لا تهبط دموعها التي سبحت داخل عينيها وهي تقول بصوتٍ أجش "لا, إنه مجرد حلم قديم ومستحيل، ضاع وسط قسوة الواقع!"

نظر الرجل إليها بعاطفة معتادة جاهلاً بمعنى جملتها مما دفعها أن تطلب بهدوء "هل يمكنك أخذي لنفس عنوان الأمس؟!"

قال "بيت رفيقتكِ؟!"

تفهمت جهل الرجل الحديث في خدمتهم، والذي يجهل لحسن الحظ الكثير من ماضيهم الحافل.. ابتسمت أخيراً بوهن وهي تخبره "بل أختي، من رأيتها بالأمس هي أختي الغائبة التي حدثتك عنها وعادت من أجل أن توفي بوعدها القديم!"

**********



عندما هبطت الطائرة في المطار الدولي للمملكة، كان المغيب يسدل ستائره مودع نور الشمس على استحياء معلن غياب النور المكتسي بحمرة الخجل، كما خجله من نفسه، توتره وارتباكه، عندما يتخيل يده تطرق بابها أخيراً ويرى وجهها الأسمر الجميل يطل عليه بسحره الأخاذ ويلدغه مذكره بسمّ آخر لقاء، عندما حلت ظلمته هو مبددة أشعتها التي أنارت أرضه.. جعلها تلملم كل ضوئها تاركة إياه في وحشة السواد.. ترى ما ردّ فعلها عندما تصطدم بتواجده أمامها... ما يعرفه يقيناً أنها سترميه خارجاً ببرودها الشهير, بقسوتها التي تغلف بها كبريائها, بتوحشها الذي تحمي فيه نفسها من مرارة الفشل..

أطلق زفيراً حاداً من صدره علّه يبرد تلك المشاعل التي أوقد عليها لسنين منذ أن فارقته أو عملياً هو من لفظها ببشاعة نفسه... مشاعل تستمد حرقتها من جمر مشتعل، لن يطفأ إلا عندما تمنحه سلامه، ولكن هل يكذب على نفسه، يعلم أنه يطارد السراب ويتمسك بأمل أسود.. أسود كلون الحداد في عينيها اللتان لم تفارقا خضار الربيع الموحش في عينيه أبداً...

حاول أن يشتت نفسه، يلقي تفكيره السلبي بعيداً قليلاً علّه يجمع شتات نفسه، وهو ينظر من نافذة السيارة التي استأجرها لتوصله للمنزل الذي أصبح يحفظه عن ظهر قلب.. بالطبع هذه أول مرة في عمره يزور بلداً عربياً غير مصر، المناظر كانت خلابة كما الطريق الهادئ الخالي من الأجواء الصاخبة المزعجة كأميركا.. الهواء كان نقي تغذيه كما يتوقع تلك الأشجار الكثيفة التي تقع على جبل يقع بأسفل قلعة تاريخية... الأضواء تشتعل بشموخ تشق طريقه الطويل، نور يضيء شوارع بلد تمزج حضارته بين العراقة والحداثة... لن ينكر أنه أسره منذ أول زيارة، لا عجب إن اختارت لورين وجودها هنا، هذا بالطبع بجانب معلوماته التي غذاها بنفسه وهو يقرأ تاريخ فلسطين الكامل، والتي كان يبزغ دائماً بجوارها اسم الأردن كمنفذ ومهرب لهم ليروا الحياة، ليسمعوا صرختهم الحارقة الجارحة للعالم بعيد عن طغيان المحتل الغاشم..

ابتسم بمرارة.. ابتسامة تعجب من شاب أرعن, أسود, أناني لم يهتم يوماً ليرى أبعد من ماضيه، أنانية كان يرفض أن يرى من خلالها أوجاع غير أوجاعه.. ليجد نفسه هو الذي لم يهتم يوماً بإشهار عروبته بالاعتراف والانتماء لبلده الأم.. ينغرس على حين غرة في قضية قومية يحملها كل عربي حرّ داخل قلبه.. ربما في بادئ الأمر كان كل غايته أن يعلم كل شيء عن قضية تحملها امرأته في قلبها دائماً، تاريخ جدود وأصول حبيبته.. ليجد نفسه بعد وقت يزرع في الأمر رغماً عن إرادته.. يخلص للقضية بكل جوارحه، دون أن يكون للورين أي صلة أو فضل في انتمائه هو هذه المرة...

"بقي خمسة عشر دقيقة على الوصول" أخبره السائق البشوش في هدوء بلكنة محببة تشابه لكنة لورين الأم التي كانت تحب أن تنطلق بالحديث بها معه، متخلية عن تظاهرها بأنها تنتمي لدولة أخرى رغم كل شيء لم تستطع أن تنزع جذورها أو تجعلها مواطنة فيها...

رد بهدوء شاكرًا الرجل.. هدوء لم يكن يمتّ لاضطرابه.. لشوقه.. وخوفه النابع من أنين القلب بصلة.. خمسة عشر دقيقة تعني البداية التي تأتي دائماً برعب أن تجر ورائها ذيول خيبة النهاية...

**********



حفل عقد القران الذي أصرّ عليه طه بصلابة رأسه الشرقي، والذي غلب بالتأكيد تيبس رأسها هي التي حاولت التمسك بخطبة، كان رغم تواضعه، فخم, دافئ وجميل.. جميل بنساء الحارة اللاتي أتين مجاملات إياهم مساندات عائلتهم لتكبر بهم أمام جاهة العريس كما قالوا، هي لن تنكر أنها لأول مرة منذ زمن كانت سعيدة، مبددة كل مخاوفها, متناسية جروحها، بادئة صفحة جديدة كلياً وهي تجلس بجانب عريسها الفخور...

الحفل أقيم أيضاً بناءً على طلب أبيها في الحديقة الصغيرة للمنزل.. حفل مختلط بالرجال الذين تراوحت ملابسهم ما بين الزي القديم لرجال الحارة الكبار، مغطين رؤوسهم بعقال أسود وتلك الكوفية المموهة.. وبين بدل حديثة الطراز شبابية كالتي يرتديها طه مضيف إليها سحراً ورجولة لا يحتاجها بالأساس، إذ أن كل خط عربي خالص يرتسم على ملامحه الخشنة كان يعكس ألف حكاية من شيم كبريائه...

بينما هي وأخواتها أصررن على ارتداء الثوب الفلسطيني الفخم يتشابه في الطراز ويختلف في التطريز والألوان المميزة.. قفطانها هي كان من طبقات الحرير المخملي بلون ثلجي مطرز بخيوط مموهة من سكري هادئ، غير ملفت للعين كثيراً، وشعرها عقدته في تسريحة بسيطة ولكن أنيقة، لم تميل للبهرجة، إذ أنه رغماً عنها كان يجتاحها شعور مؤلم أنها لا تستحق أن تفرح كأي عروس ستتزوج أول مرة.. لقد سبق وسرق ممدوح فرحة أشياء كثيرة بداخلها، كأن يزوجها وليها بنفسه مثلاً.. كأن تفخر برجل يحمل دمائها كطه يحبها بإخلاص ويريد أن يقدم الأرض ومن عليها فقط لتبقى جانبه.. لا رجل كانت هي من تحارب لتنجح بعلاقتهما، هي لم تنكر يوماً أنها أخطأت بل ربما أجرمت في حقه ولكنها أبداً لم تستحق أن تخط النهاية بذلك الشكل ال.....

"لورين.؟!" لحسن الحظ أن طه أخرجها من شرودها اللحظي وكأنه قرأ داخل عينيها بوادر ألم سيطفو على السطح حارق كل سعادتها الوليدة..

ابتسمت بلطف في وجهه، تاركة ليده حرية الاستراحة فوق كفها يمسك بها بتشدد مانحها دعمه، بالطبع هناك بعض المنغصات من عائلته هو الآخر، إذ أنها علمت أن والدته ما زالت ترفض ارتباطه بتربية أمريكا المطلقة... من حسن الحظ أن زوجها المستقبلي رجل كامل مسيطر لا أحد يستطيع فرض عليه أمرًا لا يريده.. "صوته من رأسه" كما يقول العرب..

"معك..!" همست برقة

اشتدت أصابعه بقوة على أصابعها وهو يقول بتأكيد لا يقبل الشك "دائماً أنتِ ووشومكِ؟!" أنهى وعده وهو يغمز مشير نحو أمل التي تجلس متجهمة رافضة أن تترك ذراعي مرح!

قالت ضاحكة "هذا إن سمحت لك هي وخالتها بالاقتراب.. قد توافقان على مضض منحك إياي ولكن "أمل" فأنا وأنت نحلم!"

قال مداعباً "بالصبر كسبت قلبكِ المتحجر، فهل تعتقدين أنه يصعب عليّ كسب تلك المشاكسة لصفي؟!"

نظرت إلى ابنتها شاردة للحظات قبل أن تقول "أتمنى يا طه، أن تحصل هي على استقرار لم يكن من حقنا نحن على ما يبدو.. فقط لا أريد لصغيرتي أن تعيش أي شيء مما قاسيناه نحن"

شد على يدها مرة أخرى بوعوده الخفية والمنطوقة منها.. قبل أن تتقدم أخته أخيراً حاملة شبكتها التي سيلبسها إياها قبل أن يعقد قرانه أخيراً لتصبح لورين أيوب زوجته وفي كنفه غير سامح لها بالمغادرة أو تركه أبداً...

*********

وقف السائق بالسيارة أمام باب المنزل الذي منحه عنوانه، ليجد هناك أنوار وصخب وموسيقى كأنه يُقام زفاف هنا ..مما دفعه ليسأل بتشكك "هل أنت متأكد أن هذا العنوان الصحيح؟!"

رد الرجل البشوش بهدوء "بالطبع، و الفتى الذي سألناه أول الشارع أكد هذا، البيت الأخضر، وتخرج منه أصوات موسيقى!"

كان مشوش كلياً وهو يومئ إليه ينقده أجره ثم يهبط جارّاً حقيبته الصغيرة وراءه، وبقلب منقبض، يكذّب حدسه, ينفض كلمات إيهاب الساخرة بعيداً، كان يدخل من البوابة الحديدية دون أن يستأذن، على كل حال هي كانت مفتوحة على مصراعيها كأنها ترحب بالجميع دون دعوة مسبقة.. ربما زفاف أحد الجيران، أو ربما أحد حماماتها، ما اسم تلك مجنونة العينين أختها التي قابلها مرتين.. آه.. مرح، مؤكد هو زفاف تلك المرح...

كان يتمسك بحبال كذب قصيرة يمنحها لنفسه، حاميها من حدث واقعي بشع سيغتاله، حتى يضمن بالكذب هذا سير الأمور لما يناسب دوامته هو..

ولكن منذ متى حمى الكذب أحد من خوفه؟!

سقطت الحقيبة من يده وهو يتسمر في مكانه، عيناه تجحظان في بئريهما المعتم، أنفاسه تنقطع تماماً وكأن الهواء نفذ من محيطه، أو ربما هو مات في تلك اللحظة ولم يحيا أبداً إذ أن قلبه الصاخب شعر به يتوقف متخلي عن دقاته الهادرة التي تبقيه إنسي، لتنفيه داخل عالم الجن والشياطين...

لقد كانت زوجته المصون تتمسّك بيد رجل داخل دائرة من الناس يرقصون في شيء أشبه برقصة "الدبكة".. حبيبته التي ظن أنها تتعذب مثله غير قادرة على تخطي فعلته.. كانت تتزين لآخر كعروس.. هل عليه الآن أن يضحك من سذاجته أم يبكي نحرها لكرامته مرة أخرى، ويهرب من هنا تاركها لحال سبيلها..

كاد أن يفعل.. كاد أن يرحل رافض أن تذله لورين مجدداً حتى وان كانت هذه المرة دون قصد منها, إذ أنها تخطته ببساطة كما هو واضح بينما هو كان يقف في مكانه رافض أن يتخطى طيفها ...لا لم يكن من حقها يا غبي، إلى متى تستسلم لما تفعله بك يد النساء، اللعنة.. تلك امرأتك التي تشاهد يد رجل آخر تلامسها!

واشتعل جنونه متقدم خطوة أخرى بوجه لا يبشر بالخير أبداً.. سيقتلها.. سيخنقها بيده.. بعد أن ينزعها من ذاك المعتدي، محاسبها بقوة، معتذر داخل أذنيها, متوسلها السماح, مخبرها كم هو نادم مذنب، بأنها كانت كل شيء، ومنذ أن غابت شردت روحه تحلق بعيداً على أطراف حلم بلا ملامح...ثم يؤدها حيه من فرط احتراقه بغيرته ...

توقف الضجيج واحدة واحدة كما توقفت الأرجل عن الدبك في وتيرة متتابعة وكأنه أخيراً وسط كل هذا الهرج استشعر أحدهم وجود الغريب، ولكنها لم تنتبه, لم تنظر إليه أو حتى يستشعره فؤادها الكاذب والظالم!

شيء صغير اصطدم في قدميه موقفاً تقدمه، كاد أن يزيحه بساقه "الناقصة" متخطيه بعمى أصبغ قلبه قبل عينيه، لولا أن صوت ذلك الشيء الصاخب شتمه ببساطة وبصوت طفولي، لا يعلم حقاً هو عاجز، كيف استطاعت تلك الشتيمة على قدمين والتي تبلغ دون مبالغة طول ذراعه، أن تطفئ من جحيمه شيئاً هين جاذبة اهتمامه "هل أنت غبي، هنا في رأسك لا يوجد عقل.. لقد آذيتني؟!"

"ها..؟!" هذا كل ما استطاع نطقه وهو يسلط كامل اهتمامه نحوها.. مدت ساقها نحوه وهي تقول بغضب بينما يتبين تحت الأضواء عينيها الخضراوين المشعتين داخل وجهها الاسمر الطفولي..

"لقد أوجعتني هنا!"

ما الذي يحدث معه، لماذا يجد نفسه متصلب كالتمثال أمام تلك الصغيرة.. اللعنة.. هو كان ينوي لتوه أن... أن ماذا... همس بانتفاضة استجابة لبتر قلبه من مكانه وعودته بطريقة غير صحيحة أكرأماً للشبه المألوف ؟! "أنا آسف"

قالت سريعاً ودون تردد "قبّلها لتطيب!"

فغر فاهه ببلاهة وهو يقول "ماذا؟!"

شوحت بيدها بلا اهتمام وهي تقول بنزق "أنتَ رأس بلا عقل كما تخبرني ماما عندما أفعل شيء خاطئ!"

"أمل؟!" بصرخة مذعورة ووجه شاحب شابه لون الجدران.. وبيد تلمع بها حلقة رابط رجل آخر تستند على فؤادها.. وكأنها تحاول حمايته من سقوطه بين ضلوعها.. كانت تنتبه إليه أخيراً...

ما حدث بعد ذلك كان الصمت التام، كل الأعين تترصده ما بين الفضول والنفور لملامحه الغريبة، عادى بالطبع عن الشابة التي تقدمت تنزع الفتاة من أمامه وتحتضنها بحماية، تنظر إليه بحقد ووعيد يتخلله خوف مرعب لم يفهم أسبابه، وهي تشرد من أمامه بالطفلة... "مرح!" هو يذكرها جيداً!

تقدم أخيراً بعد أن نفى سبب تشتته، بعد أن شعر بإحساس غريب ومبهم لم يفهمه اتجاه خضراء العينين المشاكسة وكأنها سرقت شيء منه على حين غرة.. كان تائه، ولكنه لم يكن أبداً هادئ أو بارد، وهو يقف أمامها يواجهها كأنه صفعة قوية ومؤلمة أيقظتها من أوهامها.. كانت تفتح فمها بصعوبة, بعجز، محاولة أن تتنفس أولاً قبل أن تستوعب وجوده... مما دفعه لأن ينطق بمرارة متهكماً "أحببتني، ولم تريدي رجلاً قبلي ولن تقبلي بآخر بعدي، واهمة إياي لأجعل منك غائب حاضر أعيش على بقاياكِ، بينما أنا كنت الغائب المنسي؟!"

الصدمة الشديدة كانت سيدة الموقف.. لم تستطع أن ترد ولكنها رأت من خلال تصلبها وعجزها خيال طه الغاضب الذي تقدم يزيحه بحدة مهدداً إياه بمعركة سيرديه فيها قتيلاً "من أنتَ وكيف تسمح لنفسك بالتحدث معها بهذا الشكل؟!"

أزاحه هو الآخر بغضب ممسك بتلابيب قميصه مبادله عدائيته ثم قال من بين أسنانه ساخراً "أنا من كان يجب أن تأتي لطلب يدها مني، إذ أنه في تلك الحالة الزوج أولى بلعب دور ولي الأمر، أليس كذلك يا عروسه المصون؟!"

*********

انتهى :a555::a555::a555::a555::a555::a555:

قراءة سعيدة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 03:58 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس