عرض مشاركة واحدة
قديم 01-04-20, 10:25 PM   #1506

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

القطعة السابعة
*************

فتح عينيه ظهراً ليتلفت حوله بدهشة لا يكاد يصدق أحداث ليلته الفائتة...
نظر في ساعة هاتفه ثم عقد حاجبيه بضيق ...إنها المرة الأولى التي يتأخر فيها في الاستيقاظ هكذا ...شيء عادي لكنه مربك لشخص مثله !
لهذا انتفض من فراشه ليتوجه نحو الحمام المرفق بغرفته ...
طقوسه اليومية كالعادة لا تتغير ...
ابتداء من تهذيب لحيته بدقة ...مروراً باستحمامه على مرتين ...إحداهما بنوع خاص من الصابون المطهر...وانتهاء بغسيل أسنانه بضع مرات مع استعمال الخيط الطبي !
هبط الدرج بخطوات سريعة نحو غرفتها لكنه سمع صوت حركتها في المطبخ فتوجه إليه ...
عيناه تضيقان بتفحص وهو يتابع ما تفعله بينما هي غافلة عنه...
شعرها الذي يراه لأول مرة ...لم يكن شديد الكثافة كشعره لكنه كان مميزاً بحيويته حتى مع قصره ...
ورغم أنفته من لونه الأشقر لكن به شيئاً مميزاً جعله يحب رؤيته وهو يحيط بوجهها هكذا ...
ملامحها كانت تبدو مرتاحة منهمكة فيما تفعله باهتمام ذكره بنفسه عندما يعمل ...

تفاصيل جسدها الضئيل فقير الأنوثة كانت مخفية داخل منامتها الواسعة طويلة الأكمام بلون أصفر هادئ...
وجوارها تنبعث موسيقا مبهجة بلحن غربي لا يعرفه ولا يريد أن يفعل ...
فالموسيقا في عرفه شرقية الكينونة شرقية السحر شرقية
الأثر مهما استمع لسواها ...

_صباح الخير!
قالتها بابتسامة هادئة وهي تنتبه إليه أخيراً ...
ابتسامة وجدها تنتقل إليه عفوياً وهو يرد لها تحيتها قبل أن تسأله باهتمام دافئ:
_نمت كويس؟!

تباً لهذا الحنان الصادق الذي يشعر به بين حروفها !!
إلى هذه اللحظة لا يكاد يتصور حجم هذه العاطفة التي ظلت تكنها له طوال هذه السنوات ...
لكنه لن ينجذب لصراع شكوكه هذا من جديد ...
اتفاقهما كان واضحاً من البداية ...مجرد صفقة زواج.. ولن تزل قدماه في معارك جانبية مهما كان!
لهذا ارتسمت على شفتيه ابتسامته الساخرة كالعادة مع قوله وهو يشبك ساعديه أمام صدره:
_مش هنام كويس ليه ؟! بيتي وسريري اللي بنام عليهم كل يوم ...المفروض أسألك انتِ السؤال ده !

ورغم سخافة لهجته لكنها ابتسمت وهي تقول بنفس الحنان الخبير بثغراته:
_أراهن إنك فضلت سهران طول الليل تفكر في اللي قلته.

_العيشة في لندن علمتني إني ما أشغلش بالي بكل حاجة...الأهم
فالمهم.
قالها كاذباً وهو يتحرك ليفتح باب الثلاجة عندما سمع صوتها خلفه:
_لسه بتحب القهوة سادة قبل الفطار؟!

التفت نحوها بحدة وسؤالها البسيط يصيبه بسهم ارتباك لم يخطئه!
هو "رجل التفاصيل" الذي اعتاد الاهتمام بدقائق كل من حوله ..
لكنه لم يصادف يوماً من يهتم لتفاصيله هو!
هذا الشعور الغريب الذي جعل جسده يتوتر قليلاً خاصة مع استطرادها ببساطة :
_ما بحبش القهوة بس اتعلمت طريقتها مظبوط ...يارب تعجبك !

قالتها وهي تشير له نحو مائدة المطبخ المستديرة أمام نافذته المطلة على حديقة البيت حيث أعدت الفطور ...
أغلق باب الثلاجة خلفه وكأنه نسي لماذا فتحها من الأصل ليجلس على أحد كرسيّي المائدة متجاهلاً قولها مع سؤاله:
_فين بقية الكراسي ؟!
_طلعتهم بره...مش محتاجين غير اتنين بس ...ليه نضيق المكان؟!


أجابته بنفس الابتسامة البسيطة وهي تجلس على الكرسي قبالته فانعقد حاجباه بفظاظة لم يقصدها ليهتف:
_ما بحبش أغير نظام أي حاجة في بيتي .
_عارفة ...بس أنا كمان ما بعرفش أشتغل في مكان زحمة...سيبلي المطبخ بس أتصرف فيه براحتي!

كاد يهتف بها معترضاً بحدته المعهودة لكن شيئاً ما بداخله جعله يقبل التنازل هذه المرة ...
شيئاً كافأته هي بابتسامتها الرائقة وهي تتحاشى النظر نحوه بقولها :
_دوق القهوة وقل رأيك...الوش كده مظبوط؟!
تناول الفنجان الصغير أمامه ليرتشف منه رشفة سبقت قوله المقتضب:
_كويسة!
لكنها لم تبدُ مستاءة من فظاظته بل بدأت في صنع شطيرتها قائلة:
_أنا بقى ما بحبش القهوة أبداً...بعشق الحاجات المسكرة...المربى والشيكولاتة إدمان ...عشان كده بحافظ على أسناني موت ...لو سبت نفسي هتلاقيني مقيمة عندك في العيادة!

لهجتها كانت شديدة الحيوية بعيدة تماماً عن الشجن المغلف بالمرارة الذي كساها ليلة أمس ...مما دفعه لتفحصها قبل أن يقول :
_اللي يشوفك امبارح ما يشوفكيش النهارده!
لم يكد يتفوه بها حتى انتبه لفظاظتها مما أشعره ببعض الندم الذي جعله يردف:
_واضح إنك مزاجية قوي!

لكنها تنهدت بحرارة لتجيبه ولازالت لا تنظر نحوه:
_أنا اتعودت أبص لنص الكوباية المليان...آخد من الدنيا اللي تديهولي وأنا راضية ...أعيش الحلم للآخر بعيون مفتوحة...لو كنت سلمت للخسارة كان الحزن قتلني من زمان ...ليلة امبارح أنا مسكت حلمي بإيدي حتى ولو كان في نظرك مجرد تمثيل.

مست عبارتها قلبه كما لم يفعل به حديث من قبل !

مزيج القوة والوهن الذي يحيط بها هذا يربكه ...يجعله غير قادر على السيطرة على إحساسه نحوها ...

هو اعتاد أن يرى للمرأة وجهاً واحداً يعاملها على أساسه ...
إما "قوة" تستوجب منه الحزم كما فعل مع سيلين و نبيلة أحياناً...
وإما "ضعفاً " يستنفر احتواءه وحمائيته كعهده مع بنات خالته ...
لكن هذه المرأة أمامه تذهله بصفات لم يصدق يوماً أن تجتمع في امرأة !
تعترف بحبها دون تحفظ لكنها تخبره أنها راضية بالانسحاب في أي وقت!
تخفي عنه مرارة حزنها التي يقرأها في عينيها وتتشبث بابتسامة لم يرَ في حياته أنقى منها !
هذه المرأة إما ممثلة قديرة وإما ملاكٌ لم تلوثه قسوة بشر!

_إيه حكايتك مع البالونات؟!
سألها وهو يتذكر ليلة الأمس فاتسعت ابتسامتها وهي تتشاغل عنه بصنع شطيرتها مجيبة:

_عادة قديمة علمتهالي ماما الله يرحمها ...لما كانت تشوفني زعلانة كانت تقعد جنبي تنفخ لي بلالين كتير ملونة تملا لي بها المكان وتقوللي إن سعادتنا احنا اللي بنعملها...نصيحة فادتني كتير ...قوي.
لم تخفَ عليه حشرجة صوتها في عبارتها الأخيرة فازداد توتره وهو يعاود ارتشاف قهوته تاركاً لها مساحتها الخاصة مع الذكريات التي شعر بغزوها لمخيلتها ...
قبل أن يسمعها تردف بشرود:
_ماما اتوفت في فترة صعبة جداً عليّ...وقتها كنت انت سافرت وسمعت إنك مش ناوي ترجع...فجأة حسيت إن الدنيا فضيت حواليا..حتى بعد ما بابا رجع ...ساعتها جربت إحساس الغربة اللي انت كنت عايش فيه ...الأماكن هي هي...والناس هم هم بس انت اللي ناقصك حاجة مش عارفها ...جزء جواك اتغير ومش قادر ترجعه...يمكن ده اللي خلاني وافقت اتجوز...
انقطعت عبارتها فجأة وهي تغمض عينيها بألم لم يخفَ على عينيه الثاقبتين وكأن هذه الذكرى بالذات تبقى مرارتها عصيّة على نسيان امرأة بقوتها !
لهذا لم يتعجب عندما عاودت فتح عينيها بعدها بثوانٍ لتغير الموضوع وهي تشيح بوجهها نحو النافذة بقولها :
_الجنينة بتاعتك حلوة قوي...الحاجة الوحيدة الملونة وسط سواد البيت كله !
استجاب لرغبتها في تغيير الموضوع فتنحنح ليرد :
_أول حاجة اشترطتها في البيت هنا...أبويا الله يرحمه كان دايماً يقول بيت من غير زرع مافيهوش روح!
_الحاج عبد الرحيم كان عنده ذوق عالي!

قالتها ضاحكة ببساطة انتقلت منها إليه ليبتسم بحنين مغمغماً:
_الله يرحمه كان كل حاجة عنده بحساب!
التمعت نظراتها بعاطفتها وقد التقت عيناها بعينيه أخيراً -لأول مرة- منذ بدأ الحوار ...
لقاءٌ قصير لكنه كان مفعماً بمشاعر متباينة من كليهما ...
عشقها الهادر في عينيها لم يكن يحتاج لتأويل ...
لكن "شكّه الحائر" في عينيه كان يعدها بالأسوأ ...
لهذا كانت هي أول من قطعت هذا اللقاء بين عينيهما بقولها مطرقة الرأس من جديد:
_احنا من بره عكس بعض في كل حاجة تقريباً...رغم اننا نشبه بعض قوي من جوه...الحاجة الوحيدة اللي بتفضح الشبه ده هي عنينا...تفتكر صدفة إنهم يكونوا نفس اللون؟!

اتسعت عيناه قليلاً من ملاحظتها ثم ابتسم ابتسامة شاحبة ليتجاوز عن هذا بقوله:
_ماما والبنات جايين يزورونا النهارده بالليل بعد العيادة .
_هتروح العيادة النهارده؟!

سؤالها كان للتقرير أقرب منه للاستفهام...
ومن مثلها يتفهم حرصه على ثوابت عاداته ؟!
لهذا أومأ برأسه ليغمغم بما يشبه الاعتذار:
_الفترة اللي فاتت غبت عنها كتير...ما بحبش اللخبطة.
لكنها ابتسمت بتفهم لترد:
_مفيش مشكلة...أنا كمان هروح المطعم!

ظهر بعض الضيق على ملامحه فاتسعت ابتسامتها وهي ترتكز على ساعديها لتقول بنفس التفهم:
_لو مش عايزني أروح معنديش مانع...فيه أكتر من حد يحل محلي...بس الحقيقة وجودي هناك بيفرق معايا ...بحس إني بتنفس وسط حاجة بحبها وناجحة فيها .

هنا كان دور -التنازل الثاني- الذي لم يدرِ كيف منحه لها بهذه البساطة رغم سلطان وساوسه ليجد نفسه يقول باقتضاب:
_ماشي!
_كده فتحت نفسي...أفطر بقى بمزاج!
قالتها بنبرتها الحيوية وهي تبدأ في تناول شطيرتها فارتسمت على شفتيه ابتسامة حانية وهو يراقبها باستمتاع هزم -مؤقتاً- وساوسه بشأنها ...
ورغم غرابة موقفهما الذي لا يعرف أحداً قد عاشه من قبل ...
لكنه يشعر معها بألفة غريبة وكأنه يعرفها منذ زمن ...
"عروس البحر"،"عاشقة البالونات"،"امرأة الفوضى"
آه من سحر "ألقابها" على رجل مثله لم يعد يعترف سوى باللون الأسود ولم يبقَ لديه إيمانٌ بالأساطير!
========
_شغل إيه اللي أجيبه لصاحبتك معايا؟! انتِ فاكراني مدير الشركة؟!
قالها رامز باستنكار على الهاتف وهو يجلس في مكتبه بالشركة ...
ويبدو أن الرد الذي تلقاه من هانيا زاد غيظه ليهتف:
_يوووووه نفس الاسطوانة مابتزهقيش ؟!...كل شوية تقوليلي أنا السبب في اللي حصل لها!

صمت قليلاً بعدها يستمع قبل أن يهتف بنفاد صبر:
_اقفلي دلوقت يا هانيا ...مش فاضي...لما أرجع نتفاهم!

قالها ثم أغلق الاتصال ببعض العنف وهو يشعر بالحنق ...
صحيحٌ أنه يريد -وبشدة- مساعدة البائسة غادة التي تتدهور حالتها يوماً بعد يوم ...
لكنه لا يحب هذا الانغماس الكامل لها في حياتهما التي ما عادت تخلو منها ...
هي تشاركهما الطعام والإقامة...بل ومؤخراً تصر هانيا أن تشاركهما النزهات كي تخفف عنها ...
ورغم أن والدته نبهتها أكثر من مرة أنها غير راضية عن وجود غادة في نفس البيت ولا عن اندماجها المبالغ فيه هذا بينهما ...
لكن هانيا "العنيدة" لم تزددْ بهذه النصيحة إلا عناداً ...
وها هي ذي تطلب منه أن يبحث لها عن وظيفة معه ...
هذا ما كان ينقصه!!
هو لا يضيق بغادة نفسها ...على العكس هو يحترمها كثيراً ويشفق عليها ...
لكنه صار يكره هذه المقارنة العفوية التي يجريها عقله بينها وبين زوجته كلما اجتمعتا معه في مكان ...

رقتها الفطرية أمام خشونة هانيا و شخصيتها المحبة للسيطرة على
الأمور..

طبيعتها العاطفية التي تظهر في أقل اللمسات أمام طبيعة هانيا الجافة الكارهة للتعبير عن مشاعرها بالكلمات ...
أنوثتها الطاغية حتى وسط السواد الذي ترتديه أمام ترفع زوجته عن هذه "الشكليات الفارغة"!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير وهو يشعر بخطورة أفكاره التي تسحبه لجرف شديد الانحدار لا يريد السقوط فيه ...
عندما سمع هتافها أمامه:
_متنرفز ليه ؟! المدام مزعلاك ؟!
عاد يزفر بحنق وهو ينظر لزميلته في المكتب والتي يبدو أنها سمعت حواره مع زوجته فهتف بحدة:
_يارا...خليكِ في حالك ...أنا مش ناقص!
لكن حدته لم تمنع اقترابها بخطوات متغنجة من مكتبه لتميل عليه بجذعها قائلة بدلال:
_وعشان كده جتلك...ماوحشكش الذي مضى؟!
انتهت عبارتها بغمزة لعوب فأشاح بوجهه بينما هي تستغل كل أسلحة أنوثتها لتغويه:
_واضح إن الدكتورة مضايقاك...تيجي نخرج النهارده سوا ووعد أنسيك الزعل كله .
فهب واقفاً ليهتف بها بانفعال:

_ما تصطاديش في المية العكرة ...اللي بيننا كان مجرد "ترويش" وراح لحاله...أنا دلوقت متجوز وبحب مراتي!
لكن إصراره لم يزدها إلا عناداً وعيناها تتشبثان بعينيه مع همسها المغوي:
_انت عارف كويس إنت كنت عندي إيه ...ولسه شعوري ما اتغيرش ...صدقني حاولت بس ما قدرتش!
أبعد عينيه عنها وهو يشعر بانفعالاته تكاد تخرجه عن شعوره ...بل خرج فعلاً عندما سمع عبارتها بعدها:
_مستعدة أكون زوجة تانية... وفي السر كمان !
_انتِ اتجننتِ؟! إزاي تفكري تعرضي عليّ حاجة زي دي أصلاً؟!
هتف بها بحنق وهو يبتعد عنها بضع خطوات قبل أن ينتبه لارتفاع صوته الذي أجفلها لتنكمش مكانها ...
فزفر بقوة ليعطيها ظهره مردفاً بصوت أكثر انخفاضاً:
_اخرجي دلوقت يا يارا وأنا هانسى اللي قلتيه دلوقت ...هاعتبر نفسي ما سمعتش حاجة !
لكنه شعر باقترابها منه مع همسها الحار:
_بس أنا مش قادرة أنسى يا رامز ...أنا عارفة إنك ما وعدتنيش زمان بحاجة بس أنا فعلاً حبيتك !
خبط قبضته في الجدار أمامه بقوة محاولاً كتم انفعاله وهو يكز على أسنانه مكتفياً بالصمت ...
ليسمع صوت ارتطام شيء معدني بزجاج مكتبه والذي جعله يلتفت نحوه عندما سمعها تردف:
_لو غيرت رأيك مفتاح شقتي أهه !
اتسعت عيناه باستنكار مصدوم بينما هي تغلق سحاب حقيبتها لترمقه بنظرة عاصفة سبقت مغادرتها المهرولة للمكان ...

_يا مجنونة!! هي حصلت كده؟!
غمغم بها بذهول وهو لا يصدق جرأة حركتها الأخيرة !
لكنه عاد يفكر أنها لم تتجرأ لمحادثته هكذا بعد زواجه إلا بعدما سمعت شجاره مع هانيا ...
وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتعاود الالتفاف حوله !
هز رأسه بحنق وهو يتناول المفتاح الذي تركته ليلقيه في سلة المهملات جواره قبل أن يأخذ نفساً عميقاً ليفكر ...
ويبدو أنه قد أخذ قراراً ما بعدها فقد التمعت عيناه بتحدٍّ ليهمس لنفسه:
_ماشي يا دكتورة...لما نشوف آخرتها معاكِ !
قالها ثم عدل وضع ملابسه ليتجه بخطوات ثابتة نحو مكتب مديره الذي خرج منه بعد دقائق ومعه "شبه موافقة"...
على ماذا؟!
على عمل غادة هنا في وظيفة بسيطة بالشركة !!
========
_ما لبستيش الفستان اللي جابتهولك نبيلة هدية ليه ؟!
سألها بدهشة وهو يراها تخرج من غرفتها قبل موعد وصول الجميع بقليل ...
ترتدي ثوباً طويلاً بكُمّين متسعين ينتهيان بإسورتين ضيقتين بلون أزرق فاتح ...

ورغم أن هذا التصميم منح جسدها الضئيل بعض الحجم الخادع لكنه يعلم أن أمه ستضيق كثيراً برفضها ارتداء هديتها ...
_مابحبش ألبس حاجة عريانة!
قالتها مفسرة وعيناها تحيدان عن عينيه المتفحصتين فانعقد حاجباه ببعض التفهم وهو يسترجع تصميم الثوب الذي أهدته لها أمه ...
فضيحة!!
هذا هو الوصف المبسط له مع قماشه الشفاف وتصميمه الكاشف ...
ورغم أن جزءاً من "شغفه الرجوليّ" كان يتمنى رؤيتها به لكنه شعر
بالكثير من الارتياح الذي لم يفهم سببه لما فعلته...
هذا الارتياح الذي حولته وساوسه للكثير من الشكوك وهو يسترجع ما ذكره دكتور التجميل ذاك اليوم ...
ألهذا علاقة برفضها ارتداء الملابس العارية حتى هنا في بيته؟!
هل جسدها مشوه مثلاً؟!!
والخاطر الأخير أصابه بالكثير من الارتباك والضيق فزفر بقوة لتردف هي بسرعة:
_أرجوك ما تتضايقش...أنا ما أقصدش أبان قليلة الذوق بس ...دي طبيعتي من زمان !
ظل يرمقها بنظرة متفحصة ضائقة عندما رن الجرس ليعلن وصولهن .

استقبالٌ دافئ كفلته ياسمين بابتسامتها الرائقة ومرحها المعهود الذي شاركتها فيه رانيا على استحياء ...
بينما حافظت هانيا على تحفظها المعهود ...

أما داليا فقد رمقتها بنظرة حقود وهي تلاحظ عيني يامن اللتين لم تفارقانها حتى عندما غادرت نحو المطبخ لتحضر لهن طبق الفاكهة الذي عادت به لتضعه أمامهن قبل أن تشرع في تقطيع ثمرة تفاح ليامن ...

حركة عادية لكنها مسته بدفئها وهو يشعر باهتمامها في شيء بسيط كهذا !
عيناه تلتمعان لمعة خاطفة غفلت هي عنها وهي منهمكة في تقطيع شرائح التفاح لكن داليا انتبهت لها جيداً لتهتف بنبرة مغتاظة:
_ما تتعبيش نفسك...يامن موسوس ما بيحبش حد يمد إيده في أكله !
فاتسعت عيناها بإدراك قبل أن تغمغم له معتذرة:
_ما خدتش بالي.
لكنه رمق داليا بنظرة ضائقة ليرد عليها -عملياً -وهو يأخذ الطبق من زوجته ليتناول إحدى شرائح التفاح !
مطت داليا شفتيها باستياء قبل أن تعاود هجومها السخيف:
_ما لبستيش فستان بيللا ليه؟! مش عاجبك ذوقها؟! واللا مش لايق عليكِ؟!

كانت ضربة موفقة منها حيث كسا السخط وجه بيللا التي نظرت لياسمين تنتظر إجابتها لكن الرد وصلها من يامن الذي قال بصرامة:
_أنا اللي ماخليتهاش تلبسه...ما بحبش مراتي تلبس مكشوف حتى لو قدام ستات .
_سيلين كانت بتلبس أسوأ من كده وكانت مراتك برضه!
هتفت بها داليا بتحدٍّ غير قابلة للخسارة في موقف كهذا ليرد هو بنفس الصرامة:
_ده من أسباب إني طلقتها!
_طب خدي بالك بقى ...يامن شكله بيزهق بسرعة !
قالتها مخاطبة ياسمين التي احمر وجهها بانفعال وقد عجزت عن الرد مما جرأ داليا لتردف بنفس النبرة المتحدية:
_بالمناسبة ...شفت رامي طليقك النهارده في النادي...الظاهر الرجالة كلهم بيزهقوا بسرعة!

لم يغفل هو عن ارتجافة شفتيها عندما ذكرت داليا الاسم فمد أنامله ليمسك كفها جواره ...
انقبضت أناملها بتلك الحركة "النافرة" التي يبغضها لكنه لم يستسلم ...
بل أبقى كفها بقبضته بينما يمسد ظاهره بإبهامه وهو يرمق داليا بنظرة مشتعلة قائلاً:
_هم بيعلموكِ في الكلية قلة الأدب واللا قلة الذوق؟! لما تقعدي في بيت تحترمي صاحبته !

شحب وجه داليا التي وجدت الجميع ينظرون إليها بغضب فانكمشت مكانها مجبورة وقد شعرت لتوها أنها تجاوزت الحدود لتتمتم :
_ما قصدتش حاجة !
كاد يامن يقذفها بعبارة زاجرة أخرى لولا أن شعر بارتخاء قبضتها في أنامله تدريجياً حتى استسلمت له تماماً...
هذه الحركة التي كان لها أثر غريب على نفسه لم يدرك مبعثه...لكنه أعجبه !
لهذا حافظ على تمسيد ظاهر كفها بإبهامه للحظات حتى شعر باستكانة أناملها المتشنجة والتي حافظ على احتضانها طوال تناولهم العشاء ...
لماذا؟!
حفاظاً على صورة زواجهما الخادعة ...وماذا أيضاً؟!
ردعاً لداليا كي تكف عن مضايقتها ...
لا ...لا تخدع نفسك يا رجل!
هي استنفرت حميتك لأجلها ...لم تعد المطاردة الغامضة التي تثير وساوسك ...بل العاشقة الصامتة التي تشبع طول اشتياقك لعاطفة !
لا...خطأ!
هل ستلدغ من هذا الجحر من جديد ؟!
تحبك أو لا تحبك هذه مشكلتها هي ...ابقَ أنت في صومعتك فلم يعد في القلب متسع لجرح آخر!

_فرحك امتى يا رانيا؟!
قاطعت بسؤالها الودود أفكاره فانتبه إليها عندما أجابتها ابنة
خالته بود :
_بعد أسبوعين.
_لو احتجتِ حاجة أنا تحت أمرك ...أنا متأكدة إنك هتكوني أجمل عروسة .
ابتسمت رانيا بارتباكها المعهود فيما انتقلت ياسمين لحماتها لتقول بنفس النبرة الودود:
_نجمتنا ما بتاكلش ليه ؟! تعرفي إن حضرتك أجمل بكتير من الصور ؟!..من يوم ما قابلتك في الحفلة وأنا بتمنى لما أكبر أفضل محتفظة بحيويتي زيك!

التوت شفتا يامن بابتسامة راضية وهو يراها تسمع أمه ما تود سماعه تماماً ...
لهذا لم يتعجب عندما بشت لها نبيلة وقد تناست تماماً قصة الثوب الذي لم ترتدِه لترد بكبرياء لم يخلُ من رضا:
_انتِ فعلاً زيي...من النوع اللي ما يبانش عليه سن أبداً!
ضحكت ياسمين ضحكتها الصافية وهي تلتفت نحو هانيا بقولها:
_دكتورة هانيا كمان مش بتاكل...اوعي تكون رسالة الماجستير بتاعتك عن السمنة وبتطبقي هنا !

ضحكت هانيا لمحاولتها الواضحة لفتح باب حوار معها والذي امتد لبضع دقائق قبل أن تقطعه داليا بقولها النزق:
_وأنا مش هتطمني إني باكل...ولا مش فارقة معاكِ؟!
عاد يامن يرمق داليا بنظرة زاجرة لكن ياسمين كظمت غيظها لترد ببشاشة:
_ودي تيجي برضه؟! أنا بس سايبة آخر العنقود للآخر عشان ندلعها براحتنا!
ابتلعت داليا لسانها وهي ترى نفسها قد عجزت عن استفزازها بينما تبادلت هانيا ونبيلة نظرات راضية وهما تلاحظان كف يامن الذي لم يترك كف زوجته حتى وهو يتناول الطعام...
ملاحظة بسيطة لكنها تعني الكثير لرجل مثله !
======
لم يكد يغلق الباب خلفهن حتى تنفس الصعداء ليلتفت نحوها بقوله :
_عدّت على خير!
قالها ولا يزال يشعر بالرضا من استكانة أناملها في كفه الذي ظل محتضناً كفها إلى الآن ...
هل حسد نفسه؟!
يبدو هذا ...فها هي ذي تسحب يدها منه بارتباك غافلة عن أفكاره لتسأله باهتمام:
_كنت قلقان من إيه؟!
تجاهل ملحوظته الأخيرة ليجيبها باقتضاب:
_عيلتي صعبة...كل واحدة فيهم دماغ شكل ...كان يهمني كلهم يصدقوا إننا مبسوطين سوا ...لو هم صدقوا سيلين هتصدق!
فارتسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة لتطرق برأسها قائلة:
_أول مرة أبقى محتارة في حاجة تخصك...يا ترى كنت صح لما طاوعتك على فكرتك دي؟!
_هترجعي في كلامك؟!
هتف بها بحدة ووساوس ظنونه تعاود نسج خيالاتها في رأسه لكنها تنهدت بحرارة لتجيبه:
_لا ...بس خايفة إنت تندم .
_ما تخافيش...في دي بالذات مش هاندم!
قالها بحزم غاضب فأشاحت بوجهها لتتوجه نحو غرفتها قائلة بنبرة ضائقة:
_تصبح على خير!
لكنه زفر بقوة وهو يستوقفها بسؤاله:
_انتِ مستنية إيه من الجوازة دي؟! ممكن أعرف؟!

ظلت واقفة مكانها للحظات تعطيه ظهرها وكأن السؤال فاجأها لكن الحقيقة أنه لم يكن كذلك ...
فقد كانت تفهم أن طبيعته الوسواسية لن تقبل العشق تفسيراً لما تفعله ...لهذا آثرت الصمت بينما هو يقترب ليواجهها بقوله:
_مابحبش أوعد حد بحاجة وماأوفيش بيها...وأنا عمري ما هاثق في ست أكمل معاها حياتي .

لا يدري لماذا يقول لها هذا الآن!
وهل يقولها لها حقاً أم ل-نفسه- ؟!
هل خشي أن يلج هذا الباب من جديد ؟!
هل خشي أن يصدق مشاعرها الصارخة نحوه ؟!
هل خشي خذلانه لها أم يخشى خذلانها له ؟!
لكن الغريب أنها تفهمت عبارته تماماً رغم الألم الذي افترش عينيها العاشقتين ...
فارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة وهي تتحاشى النظر نحوه قائلة:
_وإيه الجديد؟! ما تخافش أنا فاكرة اتفاقنا كويس!

عقد حاجبيه بضيق وهو يراها تبتعد بعد عبارتها وكأنه ود لو يستبقيها ...
الحنان المتراقص في عينيها يلوح له بالكأس الممتلئ وهو الظمآن الذي أرهقه التعب ...
لكنه لا يستطيع الاقتراب ...
قدماه مغروزتان في بحر من رمال متحركة تكاد تبتلعه ...
رمال اسمها "الشك"!!
وعند خاطره الأخير تنهد بحرارة لتقع عيناه على طبق الفاكهة التي قطعتها له ...
اقترب منه والابتسامة تشق طريقها نحو شفتيه ...
ورغم أن لون التفاح كان قد تغير قليلاً بعد هذه المدة وما كان هو ليأكله في حالته هذه في الظروف العادية ...
لكنه ضبط نفسه متلبساً بإمساك ما بقي من شرائحه ليتناولها ببطء مستمتع ...
قطعته...صرخة!!!!

صرختها العالية التي جعلته لا يدرك كيف ترك ما في يده فجأة ليكون بعد ثوانٍ في غرفتها ...
_فيه إيه؟!
هتف بها بسرعة قبل أن ينتبه للطائر الصغير الذي يرفرف مذعوراً بين جدران الغرفة والذي يبدو أنه قد دخل من نافذة غرفتها المطلة على الحديقة ...
وقف للحظات مرتبكاً لا يدري كيف يقنعه بالخروج لكن الطائر خرج من تلقاء نفسه بعد عدة محاولات للدوران في الغرفة !
ولم يكد يخرج حتى أغلق هو النافذة خلفه ليهتف بها بسخريته المعهودة:
_وعاملالي رومانسية وسينابون وبلالين وحركات ...وفي الآخر خايفة من عصفورة ؟!

ابتسمت لتكون ابتسامتها مع تورد وجنتيها المنفعلتين في هذه اللحظة سهماً جديداً من سهامها الصائبة نحو قلبه ...
ذاك الذي لم يرد الاعتراف به وهو يشيح بوجهه فتوجهت نحو الفراش لتجلس عليه قائلة بحرج:
_آسفة لو خضيتك...غصب عني صرخت لما لقيتها !
لكنه تجاهل اعتذارها و-مشاعره قبله-ليهتف باستنكار:
_ودي إيه بقى؟!
قالها وهو يتقدم بدوره نحو فراشها بينما يشير لحلقة دائرية كبيرة علقتها في السقف وقد تداخلت بها الكثير من الخيوط المتشابكة بينما تدلت منها بعض الحلي المعدنية والقليل من الريش!
فضحكت وهي تجيبه ببساطة بينما ترفع غطاءها عليها :
_معقول ما تعرفهاش ؟! دي مكسرة الدنيا من ساعة ما ظهرت في المسلسل التركي...مسّاكة أحلام ...
dream catcher
ابتسم ساخراً ليفاجئها بأن قفز فجأة فوق السرير ليمد ذراعيه فينتزعها من مكانها بينما يهتف :
_وعلقتيها إزاي دي يا "نخلة"؟!

أصدرت صيحة استنكار عالية لم يدرِ هل كانت لانتزاعه تميمتها أم لسخريته من قصر قامتها ...
لكنه لم يكترث وقتها على أي حال!
فقط ألقى ما بيده بعيداً قبل أن يجثو على ركبتيه علي السرير جوارها ملتقطاً نظراتها الساخطة بقوله:
_ما بحبش التقاليع !
عقدت حاجبيها بضيق وهي تهتف بنبرتها الحيوية:
_دي ثقافة هندية ...الخيوط المتشابكة جوه الحلقة دي بتحبس الكوابيس جواها لحد ما ييجي نور الشمس ويمحيها خالص...والريش والزينة اللي جنبه بتجذب الأحلام الحلوة ...اعتبرها رسالة للعقل الباطن عشان اللي بيخافوا يناموا لوحدهم زيي!
ورغم وميض الإعجاب الذي طغا على نظراته لكنه عاد يهتف بنفس الخشونة:
_هندي وتركي ؟! ماشاء الله !!لا يا حلوة ماليش فيه ...لو خايفة قولي
الأذكار قبل ما تنامي ...
أشاحت بوجهها في ضيق فاستطرد بنبرة أكثر رفقاً خالطها بعض المكر:
_ولو على النوم لوحدك ما حدش غصبك...ممكن اسمح لك تطلعي تنامي فوق معايا في أوضتي!
احمر وجهها خجلاً ليمنح جمالها لذة خاصة مع تلك الابتسامة التي لونت شفتيها مصاحبة لهمسها الخفيض:
_لأ خلاص...حافظة الأذكار هاقولها!

ظل ينظر إليها للحظات مأخوذاً لينتبه أنها لازالت تهرب من لقاء عينيه فتنحنح بخشونة ليغادر الفراش منزلاً قدميه إلى الأرض مع قوله :
_الوقت اتأخر جداً...ما اتعودتش أسهر كده ...تصبحي على خير!
قالها ثم توجه نحو باب الغرفة ليتوقف قليلاً هناك قبل أن يسألها بتردد:
_تحبي أصحيكِ تصلي معايا الفجر؟!
_ياريت!

قالتها بنبرتها التي عادت إليها حيويتها بعد ابتعاده ليدرك كم يثير قربه منها ارتباكها ...
هذا الإدراك الذي لا يدري هل يثير ضيقه أم فخره ..
لكنه أومأ لها برأسه على أي حال ليغادر ويغلق الباب خلفه ...
=======
شعر بالأرق وهو يتقلب على فراشه بعد عمل يوم شاق حاول فيه تجاهل التفكير فيها ...
لا يدري كيف ولا متى أربكت كل حياته هكذا ليجدها تحتل عقله ...
قهوتها الصباحية يشعر وكأنه يشربها منذ زمن وليس منذ ثلاثة أيام فقط...
ثرثرتها اللذيذة بنبرتها الحيوية التي تجيد بها التعبير عن حماستها تجاه كل ما تعتقده ...
طعامه الذي تعده بنفسها رغم التزامها بالعمل في مطعمها والذي تختار له كل يوم أصنافاً مختلفة ...
وعندما أخبرها بفظاظته الساخرة أنها تفعلها "استعراضاً" لعضلاتها في مهارة الطهي أجابته ببساطة رغم ألم عينيها:

(عايزة ألحق أدوّقك كل أكلة بعرف أعملها قبل ما نسيب بعض)

هذه العبارة التي ظلت تتردد بداخله فلا يدري هل منحته بعض الطمأنينة وهو الخائف من "تورطه" بها أكثر...
أم وخزت قلبه بضيق لم يعرف سببه ...وإن فسره بأنه كره أن يسبب لها هذا الألم الذي "تدعيه"!
تدعيه؟!
وهل هي حقاً تدعيه؟!
تنهد بحيرة عند الهاجس الأخير والصراع بين قلبه المصدق لها وسلطان وساوسه يزداد ضراوة ...
لا يكاد يصدق أن امرأة قد تعشق بهذه الصورة المتفانية ودون أي غاية !!

انقطعت أفكاره وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر من ألم الصداع فغادر فراشه وقد قرر النزول للمطبخ كي يتناول فنجاناً من القهوة .
قهوة؟!
في مثل هذا الوقت؟!
نعم ..."الكافيين" فقد تأثيره المنبه لديه من فرط ما يتناوله حالياً حتى أنه قد يستسلم تماماً للنوم بعد تناوله له ...
لكن يبقى ارتباطه -الشرطي- به لتخفيف ألم الصداع!
لهذا غادر الفراش نحو المطبخ الذي توقف فجأة أمام بابه وهو يراها تجلس على أحد مقعديه تعطيه ظهرها وتنحني بجسدها على شئ ما !!
عقد حاجبيه بشك وهو يقترب منها بحذر ليتبين ما تفعله ...
قبل أن يرتفع حاجباه بدهشة مع هتافه فجأة:
_من البرطمان؟!

شهقت بعنف للمفاجأة وهي تقف كالمذنبة بالجرم المشهود والذي لم يكن سوى "برطمان الشيكولاتة الكريمية" الذي أتت على أكثر من نصفه
بالملعقة التي كانت في يدها والتي لوحت بها الآن بارتباك مع قولها:
_قلت لك إني مدمنة شيكولاتة ...مبعرفش آكلها غير كده !

ارتفع حاجباه بحنان لم يستطع منعه وهو يراها قد لوثت أرنبة أنفها وزاوية شفتيها ب"جريمتها" التي وجدت أثرها في قلبه !
بشرتها النقية وملامحها "الطفولية" التي تلطخت بالشيكولاتة لم تكن تمت بصلة للمشاعر التي ألهبتها الآن "أنوثتها" في صدره ...
هذه التي حاول تجاهلها وهو يتنحنح بخشونة كعهده عندما يرتبك ليعطيها ظهره قائلاً:
_هاعمللي قهوة !
_مابتعجبكش بتاعتي؟!

قالتها بضيق وهي تضع ما بيدها على المائدة قبل أن تتحرك لتقترب منه ....
ورغم أنه كره أن يسبب لها هذا الضيق لكنه غمغم بنبرته الخشنة :
_مابحبش حد يعمللي حاجة ...بحب أعتمد على نفسي أكتر !
قالها وهو يتناول علبة البن التي سحبتها هي منه بتصميم لتواجهه بقولها:
_بس أنا بحب أعملهالك ...والحاجة الوحيدة اللي هتمنعني إنك تقول إنها مش بتعجبك ...قلها وهارجع أوضتي حالاً !

عقد ساعديه أمام صدره وهو يستمتع بمواجهة عينيها التي تعجز عن فعلها أغلب الأوقات ولا يعرف السبب ...
هي دوماً تحدثه وهي مطرقة الرأس أو حائرة النظرات في كل شيء حوله عداه هو !
وهذه اللحظات القليلة التي تنسى فيها حذرها هذا تستحق أن "يقتنصها" بمهارة ...تماماً كما الآن !!


لهذا التمعت عيناه بنظرة ظافرة وهو يقول لها بنفس الفظاظة الساخرة:
_مفيش فرق بين قهوة والتانية...كلهم نفس الطعم...لو مصرة تعمليها اعمليها!
فابتسمت وهي تهز رأسها وكأن خشونة الرد لم تعنِ شيئاً لديها قبل أن تشرع في إعداد قهوته ...
بينما تحرك هو ليجلس على مقعد المائدة متأملاً "برطمان الشيكولاتة" ليقول:
_مابحبش الشيكولاتة !
_حد ما يحبش الشيكولاتة؟! هتفضل غريب في كل حاجة حتى في ذوقك في الأكل!
قالتها وهي تضع ما بيدها على الموقد لتردف بنفس الحماسة:
_لو دقتها سادة كده من البرطمان هتدمنها زيي...جربها كده !
لكن عينيه التمعتا ببريق عابث وهو يستند بساعديه على المائدة قائلاً:
_جربي انتِ القهوة السادة وأنا أجرب النوتيللا!
التوت شفتاها باشمئزاز جعله يبتسم لكنها أغلقت الموقد لتصب القهوة في الفنجان قائلة بتردد:
_ماشي...أجرب!
قالتها ثم شرعت في إعداد فنجان آخر مدركة وسوسته من أن يشرب أحدهم مكانه ...
قبل أن تتحرك بالفنجانين لتضعهما على المائدة بينما عيناه تلتمعان أكثر بقوله المشاكس:
_مش هتستحمليها !

لكن عينيها تألقتا بالتحدي وهي ترفع الفنجان نحو شفتيها لترتشف منه رشفة بسيطة انقلبت لها شفتاها باشمئزاز جعله يضحك هاتفاً:
_لا انتِ بتخمي...راعي ضميرك واشربي بجد !

لم تفوت عيناه نظرتها العاشقة التي تعلقت بضحكته...
قبل أن تحيد ببصرها عنه كالعادة وهي تعاود نيل رشفة أخرى لتردف بعدها بلهجة انتصار:
_دورك يا دوك...
ثم تناولت برطمان النوتيللا لتقربه منه مردفة بمرح:
_اتفضل !
لكنه وقف مكانه ليتحرك نحوها مزيحاً البرطمان بعيداً قبل أن ينظر لعينيها قائلاً بنبرة وجدتها غريبة:
_هادوقها بطريقتي!

عقدت حاجبيها بحيرة تحولت لشهقة عنيفة وهي تشعر بشفتيه على زاوية فمها تطاردان ما لطخته الشيكولاتة هناك!

انتفض جسدها بقوة وهي تبتعد خطوة جعلتها تتعثر في الكرسي المجاور ليتلقفها ذراعاه ...
عيناه تطاردان "صيدها الثمين" في لقاء عينيها اللتين كان يختلط عشقهما الآن مع خوف أثار ضيقه ....وألم لم يدرِ مبعثه!
هل أفزعتها حركته إلى هذا الحد ؟!
أم هو "نفورها الغريب" من ملامسته والذي لا يعرف سببه؟!
هل يعتذر عما فعله ؟!
أم يستجيب لكبريائه ويتجاهل الأمر؟!
لكنها لم تمنحه الفرصة عندما تمتمت بكلمات لم يتبينها وهي تحتضن جسدها بذراعيها محاولة احتواء ارتجافته قبل أن تغادر المكان بخطوات مندفعة نحو غرفتها ...
تاركةً إياه خلفها لا يفهم شيئاً عن غموضها الذي يحتله يوماً بعد يوم ...
لكنه لم يغفل عن إحساسه "الخاطف" بلذة اقترابها الذي يود لو يجربه من جديد !
=======
ابتسمت وهي تعد له الإفطار في المطبخ ...
كانت تحفظ طقوسه المعتادة ليوم الجمعة ...
صوت المذياع العالي والمنضبط على إذاعة القرآن الكريم بصوت الشيخ يتلو سورة الكهف ...
جلبابه الأسود الذي يناقض طبيعة الناس عامة في ارتدائه أبيض هذا اليوم ...
لحيته التي يهذبها باهتمام وتكاد تصيبها هي بأزمة قلبية من فرط ما تزيد وسامته !
لكن قبل كل هذا ...
جولةٌ قصيرة في الحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت كي يهتم بزهوره وشجيراته بنفسه !
اتسعت ابتسامتها وهي تراقبه خلسة عبر شباك المطبخ المطل على الحديقة ...
قبل أن تتسع عيناها بجزع وهي تراه يتعثر في أحد قوالب الطوب ذات الحواف المدببة التي تستخدم كسور يفصل كل حوض زهور عما يجاوره
والذي جرح قدمه كما يبدو ليسيل منه الدم!
شهقت بعنف وهي تترك ما بيدها لتهرول نحو باب البيت الذي دخل هو منه يتحرك على قدمه السليمة متحاشياً الأخرى لتهتف بقلق:
_إيه اللي حصل ؟! أجيب دكتور؟!

ورغم سعادته الخفية بهذا القلق المشتعل في عينيها لكن طبيعته الخشنة غلبته وهو يرد بتهكم:
_لا ...اطلبي الاسعاف...أنا ممكن ماأعيشّ لحد ما الدكتور ييجي!
لكن ملامحها القلقة لم تستجب لدعابته بل تقدمت منه لتحتضن خصره بساعديها مسندةً إياه بينما هو يتقدم للداخل ...
فابتسم وهو يرى جسده الضخم يكاد يبتلع بنيتها النحيفة القصيرة ليقول بنفس النبرة المتهكمة :
_والمفروض إنك بتعملي إيه؟! انتِ فاكرة إنك هاتقدري تسنديني؟!
_مش مهم أقدر...المهم أعملها!
قالتها بعزم عاتب وهي تتشبث به فتراقص الإعجاب على ابتسامته وهو يتشبث بها أكثر محاولاً أن يعتمد على نفسه أكثر من اعتماده عليها ...
حتى تهاوى أخيراً على الأريكة المقابلة فتركته قائلة بسرعة:
_دقيقة واحدة هاجيب الحاجة من جوة !
أسند رأسه على الأريكة يراقبها بعينين مسبلتين وهي تتحرك بسرعة فخفق قلبه تأثراً بهذه اللهفة التي يدرك أنها لا تتصنعها !
خاصةً عندما تقدمت منه أخيراً لتجلس على ركبتيها على الأرض رافعةً قدمه المصاب لتمسح عنه الدم قبل أن تشرع في تعقيم جرحه البسيط .
كانت تفعلها بأنامل مرتجفة بينما جسدها ينتفض مع خيطين من الدموع سالا على وجنتيها ...
فازداد خفقات قلبه جنوناً وهو يسأل نفسه ...
منذ متى دلله أحدهم هكذا ؟!
لقد اعتاد اهتمام بنات خالته وأمه -مؤخراً- لكن التدليل الملهوف هذا شيء آخر !
ورغم أن جزءاً من طبيعته الخارجية الخشنة كانت تأنف من هذا ...
لكن جزءاً آخر دفيناً هناك في أعمق أعماق روحه كان يطالب بالمزيد !
يتيمٌ باكٍ يسكن بين ضلوعه صامتاً لا يكاد يتنفس ،لكنه وسط فيض "أمومتها" هذه يكاد يصرخ !
لهذا لم يشعر بنفسه وهو يمد لها يده بعدما انتهت ليجذبها فيجلسها على ساقه السليمة تحت نظراتها المفعمة بعاطفتها ...
والتي زادتها دموعها صدقاً مع همسها المتهدج:
_ممكن تقول عليا مجنونة عشان بعيط...بس أنا قلبي خفيف جداً قصاد منظر الدم!

قالتها ثم تحركت لتتناول محرمة ورقية من على المائدة المقابلة لكنه ظنها ستقوم ...
ليفاجأ هو -قبلها- بتمسك ذراعيه الشديد بها!
التقت عيناهما في حديث طويل ليمتزج "بحر عسله" مع "نهر عسلها"...
فيتجدد شعوره بحاجته الماسة إليها ...
والتي يحاول قمع ثورتها بوجدانه بأي صورة !
كان يتوقع نفورها من ملامسته كعهدها لكن يبدو أن قلقها عليه جعلها تغفل عن إدراك خطورة اقترابهما بهذا الوضع ...

مد أنامله أخيراً يمسح ما بقي من دموعها على وجنتيها برفق أذهلها وزاد ارتجافتها خاصة مع همسه :
_نفسي أعرف انتِ ليه بتحبيني قوي كده ؟!
كلماته حملت من الحيرة أضعاف ما حملت من امتنانه وعاطفته وحاجته ...
لتجيبه دونما تفكير:
_عمري ما سألت نفسي السؤال ده !
لهذا لم يتمالك نفسه وهو يقترب بوجهه من وجهها ليجد نفسه يهمس دون وعي:
_اوعي تبطلي تحبيني!

ورغم ظاهر نبرته الآمرة لكن قلبها الخبير به قرأ فيها رجاءه وحيرته ...
وتخبطه الذي تفهمه هي أكثر من سواها !
فهمست له بخفوت دافئ:
_حتى لو حاولت ...مش هاقدر!

قالتها غافلةً عن تأثير كلمات كهذه في رجل ب"تاريخه"!
ذاك الذي أدركته لاحقاً عندما شعرت بشفتيه تقصران الطريق بينهما لتمنحاها "هديتها الأولى"!!
وكأنما مستها نسمة باردة أنستها الزمان والمكان فيما عدا مذاق قربه الذي تجربه لأول مرة بهذه الحرارة وبهذا الشغف...
ظلت مغمضة عينيها للحظة واحدة شعرت فيها وكأن الزمان عاد بها سنوات للوراء ...
ضفيرتها الطويلة تتطاير خلفها ...
وكتابها الذي تختفي خلفه خلسة تراقبه بين يديها ...
والحلم الوردي تتطاير فراشاته حولها ...
قبل أن تحترق جناحاتها كاملة!!
وعند الخاطر الأخير وجدت نفسها تفتح عينيها فجأة لتدفعه ببعض العنف تحت نظراته المندهشة ...

لكنها لم تكن في موقف يسمح بتبرير أو شرح ...
فقد اندفعت نحو غرفتها لتغلق بابها خلفها بقوة قاطعةً عليه طريق التساؤل!
ظل جالساً مكانه للحظات مذهولاً قبل أن يزفر بضيق...
ضيقٍ هزمته أخيراً...ابتسامة!
أجل ...ابتسامة واهنة توجت شفتيه وهو يستعيد مذاقها "الملون" على أرصفته "السوداء"!
ذاك المذاق الذي يخشى إدمانه ويكاد يورثه الجنون!
لهذا تحرك أخيراً ليقوم متوجهاً نحو غرفتها التي طرق بابها وهو يقول بنبرة عالية لم تخلُ من عبث:
_هاتسيبيني أطلع لوحدي من غير ما تسنديني؟!
ظل الصمت جوابه للحظات قصيرة قبل أن تفتح الباب أخيراً لتقول بصرامة خجول:
_هاسندك بس تبقى مؤدب!

ضحك بانطلاق وهو يراها تصدق نفسها بأنها حقاً تساعده ...
فاتسعت عيناها بلهفة ونظراتها تلتهم رنين ضحكته التي تسمعها صافية هكذا لأول مرة ...
قبل أن تقول له بصوتها الدافئ:
_بحبك لما بتكابر وتخبي زعلك ورا ضحكة كدابة...بحس ساعتها إنك قوي جداً...بس بحبك أكتر لما بتضحك بجد...أيوة...الضحكة اللي بتخللي عنيك تلمع دي ....يتهيألي محدش هيقدر يفرق بين الضحكتين دول زيي ولا يفهمك زي ما أنا فاهماك .

قالتها وهي تشير بسبابتها نحو وجهه فتنهد بحرارة وهو يقترب منها ليهمس :
_ما هو لو عايزاني أفضل مؤدب...لازم تبطلي كلامك ده ...
احمرت وجنتاها بخجل وهي تشيح بوجهها بينما يردف هو بنبرة عاد إليها عبثها:
_الأدب في الحالات دي ...قلة أدب!
======
_سلامة وشك يا أشرف بيه!
قالها الموظف الجديد المسئول عن التوريدات في المصنع ،
والذي وقف أمام مكتبه يريه أحدث ملفات عمله فالتفت نحوه أشرف بشك قائلاً:
_معلش...حاجة بسيطة!
لكن الرجل رمق وجهه بنظرة متفحصة قبل أن يقول بحذر:
_أظن كانت محتاجة تتخيط عشان ما تسيبش أثر!
فكز أشرف على أسنانه قائلاً:
_لا...جرح هايف مسيره يلم...ماتشغلش بالك...المهم عرفني أخبار الطلبيات الجديدة إيه !
اعتدل الرجل بجسده يعطيه التفاصيل التي طلبها تحت نظرات أشرف الغامضة المتشحة بالشك ليقول أخيراً:
_ما تقلقش يا فندم ...هنحاول نظبط مواعيد وصولها قبل معاد الفرح عشان يكون بالك مرتاح...ألف مبروك!

فهز أشرف رأسه ليرد بفتور قبل أن يصرفه ليغادر ...
هنا عاد يتحسس جرح وجهه ثم تناول هاتفه ليتصل بها وما إن فتح
الاتصال حتى سمع نحيبها المرتفع:
_أنا السبب...كان يتقطع لساني قبل ما أقوللك...سامحني يا بيه!
فزفر بقوة ليقول لها مهدئاً:
_ما حصلش حاجة يا سيدة ...أنا كويس ...المشكلة إن الجرح اللي في وشي ممكن يكون حرق شخصيتي ...دلوقت ممكن يشكوا فيّ بسهولة عشان كده ماعادش ينفع آجي هناك تاني .
_وهتعمل إيه؟!
_مش عارف...لو اختفيت دلوقت هيتأكدوا إنه كنت أنا ...وساعتها هيأذوكِ انتِ وهياخدوا حذرهم ...
_يالهوي ...يا لهوي!
قاطعت ب"ولولتها" الباكية حديثه فعاد يهتف مطمئناً :
_هلاقي حل ما تقلقيش ...هتصرف!

_أنا مش خايفة على نفسي...أنا خايفة على اللي في بطني ...هو مالوش ذنب في غلطة أبوه...إن شالله يخلليك يا أشرف بيه اتصرف بسرعة !
تنهد بضيق وهو يغلق الاتصال بعدما حاول تهدئتها بوعود لا يدري هل سيمكنه الوفاء بها أم لا ...
لقد زلت قدمه في بئر عميق لا يعرف له آخراً من أول ولا يعرف كيف يتصرف !
هل سيغرق المركب أخيراً؟!
المصيبة أنه لن يغرق به وحده ...أمه ...شقيقته ..ابنتها...و...رانيا!!!

طرقات الباب أخرجته من أفكاره البائسة ليعقبها دخول مساعده الذي رمقه بنظرة مشفقة ليجلس قبالته قائلاً:
_مالك يا ابني؟! شايل الهم كده ليه يا عريس؟!
فتنهد بحرارة وقد شعر بحاجته لمن يفرغ له مكنون صدره لهذا رفع عينيه إلى الرجل قائلاً:
_هاحكيلك يا عمي...ماانا مش هلاقي حد أكتر منك أثق فيه !
ظهر الترقب على وجه الرجل الذي تحول إشفاقه لهلع مع التفاصيل التي كان يرويها أشرف ...
والتي كانت تعني كارثة حقيقية في الطريق!
=======



سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس