عرض مشاركة واحدة
قديم 06-04-20, 11:33 PM   #2612

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile7

تابع الاربعة والثلاثون

لماذا في مدينتنا ؟ نعيش الحب تهريباً وتزويراً؟ ونسرق من شقوق الباب موعدنا ونستعطي الرسائل والمشاويرا لماذا في مدينتنا ؟ يصيدون العواطف والعصافيرا لماذا نحن قصديرا ؟ وما يبقى من الإنسان حين يصير قصديرا ؟
.................................................. .................................................. ..............

كان يهرول ببدن مسلوب الإرادة داخل أروقة المشفى بينما يضم صغيرته المضرجة بدمائها على صدره.. يلاحقه عويل بنات أيوب بدموعهن وبكائهن بينما تحاول لورين التي قيدتها يدا أبيها باستماتة أن تنزعها منه، وهي تبكي بفاجعة خسارتها الوشيكة لصغيرتها!!!

لقد اتصل نفس الجار الذي لحقه ليطاردوا المجرمين بالدكتور طه حتى يستقبلهم.. وقد فعل عندما قابلهم وهو يدفع أحد الأسرة أمامه جرياً مع بعض من طاقم التمريض... بلهفة كان يمد يديه ليأخذ منه الصغيرة.. فيضمها ممدوح إليه وهو ينظر لوجهها بعينين غرقت في الدموع التي لم تتوقف عن الجريان على خديه منذ أن راقب مخالب هؤلاء الذئاب تنهش في جسد صغيرته الجاهلة، متلمسين إياها بشهوة شرهة واعدين أنفسهم بالمزيد... خرجت منه شهقة عالية خشنة وهو يحدق فيها ثم ليدي طه الممدودة "رباه... لا أقدر"

"سيد ممدوح إن أمل تنزف وما تفعله لن ينقذها"

بيد مهتزة كما ذراعيه كان يغلق عينيه ويمدها له بتردد شديد متذكراً بقسوة خوف الجبناء عندما أدركا عجزهما عن الإفلات منهم فألقوها دون تردد على الإسفلت من دراجتهم المسرعة، فأخذت كل الصدمة على رأسها الذي شعر بتهشمه داخل رأسه هو.. قلبه هو الذي تهشم معها حتى وإن لم يسمع صوته.. لقد كان كل ما يحدث معها كل ما تعانيه وكأنه يشطره هو لقطع صغيرة.. صغيرة للغاية وكأنه يقطع من جسده وهو على قيد حياة... وقف مكانه وهو يفتح جفنيه يراقب طه يندفع جريًا.. داخل غرفة بدت بعيدة وكأنها بآااااخر الدنيا.. كان يبتعد ويبتعد كما تتحرك الدنيا من حوله وكأنها شريط سينمائي.. كان كل شيء يجري بخطى مجنونة يتغير ويتبدل.. بينما هو واقف مكانه كالحجر الثابت، لا يقدر على الصراخ والاعتراض وتمني النجاة.. ولكن كل ذرة بداخله تهدر بالكثير ويعيش كل الويلات.. يعود العويل ليصم أذنيه، بكاء مرح وفرح، تضرع أيوب.. هجوم لورين نحوه، تتجرأ وهي تضرب صدره باتهامه أنه السبب.. وأن أمل تدفع فاتورة اقترابه منها.. أنه رجس لا فائدة من وجوده ولا بديل عن جلبه الدمار لكل شيء تلمسه أصابعه الملعونة...

كان يرفع حاجبيه وهو ينظر إليها دون شعور حقيقي إذ أن بجانب حركتهم المسرعة تلك كان كل شريط حياته يمر حوله بلقطات من ذكريات عن ماضي طفولته، مراهقته ثم شبابه ووجه مريم "لاااااا.. ليس أنتِ الآن، ابنتي دفعت الفاتورة كاملة عني، ليته قتلني لما فعلت يا مريم"

تمر اللقطة سريعا بلمحات وومضات تجري من حوله وهو ما زال ثابت في مكانه حتى يصل لكل لحظة عاشها مع تلك القاسية.. المتجبرة.. المتحجرة.. الكاذبة.. المخادعة.. مخادعة وعند وصوله لهذه النقطة.. عند الومضة التي خصتها وهي تتخايل برجل آخر بجانبها وتنكر ابنته عليه.. عند ذلك المشهد الذي لم ترحم فيه الصغيرة وهي تنزعها عن صدره مهددة إياها بالعقاب.. كان كل شيء ينفجر في وجهها دون إنذار وكأنه جماد دبت الروح فيه، ليتذوق معنى الشعور لأول مرة, معنى الحرية.. وأنه روح هدها الدمار وانتشر فيها رماد الحروب...

اندفع ممدوح ليمسكها من عضديها بقسوة يهزها بعنف يخضها بكل ما يمتلك من قوة وهو يزأر بنبرة وحشية "توقفي.. توقفي.. من تظنين في نفسكِ؟! ما أنتِ إلا امرأة استفحل فيها الغباء ونالت منها عقدها حتى طالت برجسها فتاة صغيرة بلا حول ولا قوة"

انكمشت وهي تحدق فيه من بين دموعها وكأنها هي الأخرى تستفيق من حالة الجنون والفزع الذي سيطر عليها تمامًا..

"أمل ابنتي.. انطقي ما عاد هناك مجال للإنكار.. هي ابنتي" كرر بصوت جهوري صارخ بإثبات وثقة فيه لم يتيحا أمامها إلا خيار واحد..

عندما نظرت إليه بعينيها الواسعتين وهتفت بخشونة ونبرة كان الذهول مرافق لعدم الوعي فيها "هي ابنتك... ماذا كنت تظن وكل جزء منها حمل سرك بداخلها... أمل ابنتك التي كبرت أمامي وبين ذراعي لتجلدني وتتحداني إن كنت سأقدر على نسيانك يوماً.. لقد حملت عيناك.. ورثت نقطة ضعفك وضعفي.. تباً لك أنتَ السبب.. أنتَ السبب!"

انهارت بين يديه فتوقف عن هزها وهو ينظر إليها بذهول وكأن نطقها صراحة دمره وترك أثر لن يمحى فيه.. حتى وإن كان يجزم بالحقيقة من قبل همس بحقد "أنتِ شيطانة يا لورين، شيطانة تغذت على لحظات ضعفي ولم تكتفي بل استمريتِ في غِيِّكِ"

تركها دون تردد نافرها بعيداً عنه وكأنها مرض عضال سترديه قتيلاً.. بل كأنها إحدى تلك الساحرات المتشحات بالسواد و اللاتي ملأن الأساطير قديماً بأنهن أغرقن العالم في ظلام الطاعون الأسود...

تلقتها مرح بين يديها بينما وقف أيوب أمامه يحدق فيه بعينين رأى الضعف فيهما إذ أن أمل تمثل له شيئاً عظيماً وغالي للغاية.. لن يبالغ إن أقسم انها أغلى من كل أولاده مجتمعين..

"لقد أتيتك أرجوك رحمة من قلب أب عرف معنى حرمان الضنى.. أن تنظر لي بعين إنسان أخطأ وظَلم وظُلم .. أن تكون لي والد لم أعرف عطفه قط ولكنكَ مثل أي شخص مر في حياتي، فاستغليت رجائي لتؤمن ابنتك وتبعد حفيدتك عني بأنانية"

"ممدوح أنا كنت أحاول حماية أمل.. لقد كنتما تعيدان الماضي بحذافيره"

تغضن وجه ممدوح بكل علامات البؤس ثم خرجت من شفتيه شهقة مكتومة أخرى و قال بنبرة خرجت من بين ضلوعه مصحوبة بدموعه الأبوية "وهل هي الآن أمنة كما رغبت؟ انظر لم تخطف على يد مغتصبين ولم ينفجر رأس ابنتي على الإسفلت البارد ولم تلوث دمائها البريئة ملابسي ولعبتها!"

رفع يده في أشارة علي الوضع الحالى وهو يبتسم بسخرية بينما دموعه تجري على خديه غير مستوعب حتى كيف بقي ذلك الدب بين كفيه وسط كل هذا..

انهار أيوب على أقرب مقعد وانفجر دون خجل في البكاء بينما يتضرع لله أن يقف بجانبه وأن لا يفقدها..

بينما تراجع ممدوح بعيداً عنهم خطوات وخطوات للوراء.. حتى وجد بقعة غير مرئية للأعين المراقبة فتوارى فيها ليدفن رأسه بين ركبتيه وينهار في بكائه مثل الأطفال... أخرج هاتفه وطلب رقماً وانتظر للحظات قبل أن يأتيه صوتها "حبيبي لقد اشتقت إليك!"

"أنا لديّ ابنة.. أصبحتِ عمة يا إسراء"

تصاعد القلق داخلها وهي تتشبث بالهاتف مستمعة لانهيار بكائه الذي كاد أن يوقف أنفاسه وقالت بجزع: "يا قلب أختك، وهل هذا الخبر يدعك بتلك الحالة؟!"

لم يكن يشعر بنفسه, إنه فقط يحتاج أن يفرغ ذلك الضغط الهائل بداخله حتى لا يفقد عقله هذه المرة ويركض للخارج رامياً نفسه تحت أول سيارة "أمل.. اسمها أمل، لقد ورثت عيناي.. عينا والدتنا، عندما تضحك تشرق الدنيا، أنا لأول مرة أفهم معنى أن تغرد العصافير.. هل تتخيلين أنا الآن أتغنى بالشعر الذي كنت أسخر منه؟!"

لم تسيطر إسراء على نفسها وهي تبكي لبكائه دون حتى أن تفهم أسبابه بعد.. فقط كان قلبها يخبرها أن شيئاً سيئاً للغاية قد حدث وجعل أخاها في حالة اللاوعي هذه.. فقالت بصوت أجش "هذا ما يفعلونه بنا حبيبي.. عندما تحمل أول طفل منك يسرق عالمك ويزرعك في دنيا جديدة كلياً جاعلك تلج لداخل عالم سحري يُمحَى فيه كل ماضيك ويعدك بمستقبل جديد!"

ضحك بطريقة لم تفهمها ثم قال باكياً مرة أخرى..

"أمل ممدوح، لقد أجادت أمها تسميتها.. لقد سرقتني أمل العفريتة بالفعل... وسرقوها مني"

همست بخفوت: "ليس مهم ما حدث.. أنتَ الآن معها"

"هل كنتِ تعرفين فأمها كانت صديقتكِ؟!"

"لا والله أبداً.. لم تخبرني لقد قاطعت كل شيء يخصنا"

كرر مرة أخرى باستسلام موجع "أمل ممدوح.. أملي الأخير بين الحياة والموت وكأن ذنب مريم لن يسدد أبداً"

تجمدت إسراء مكانها بينما تسأله بهلع "ماذا تقصد.. من التي بين الحياة والموت؟!"

"ابنتي.. لقد خُطِفت أمام عينيّ ووضعوا أيديهم النجسة عليها أمامي.. ثم ألقوها دون رحمة على الأرض الصلبة لتنازع أمامي أيضاً.. قبل أن أضمها إليّ.. قبل أن أخبرها أني لست الرجل الوسيم الذي يحب اللعب معها بل إنها مِني كما أنا أصبحت منها.. لم تتح لي الفرصة لأخبرها أن تذكر نفسها ليلاً أني أبيها!"

أجهشت إسراء بالبكاء وهي تهدر فيه بذهول "كيف؟ ممدوح لا تخلع قلبي، لا تتلاعب بي... كيف حدث هذا لابنتك؟!"

"ذنبي، الله يخبرني أن توبتي لم ولن تُقبل"

شهقت قائلة: "لا تقل هذا يا قلب أختك، أنا آتية إليك ولن أتركك هناك وحدك.. ممدوح هل تسمعني؟!"

أغمض عينيه ويديه تلامس زر الإغلاق ثم أمسك الدب يحدق فيه من بين دموعه بنظرة يعجز أي بشر عن وصفها... عاد يحدق هناك في البعيد، في الطريق الذي انتهى بالغرفة التي توارى طه بابنته فيها فبدت له كأميال وأميال من الأشواك التي قُدِرَ له السير عليها بقدميه العارية ليصل إليها..

*********

دخل مراد سريعاً وأغلق غرفة النوم ورائه بعد أن طلب من ابنته الكبرى أن تأخذ أخويها لغرفتها حين رأى انهيار والدتهم الغير مسبوق.. لم يستعجب وهو يراها في حالة من الانفصال عن الذات تلقي بعض الملابس بعشوائية بحتة في حقيبة صغيرة مفتوحة على الفراش، ثم تتحرك بتخبط تعبث بكل أدراجها المنظمة وهي تهتف بانهيار من بين دموعها "أين جواز سفري؟ لقد كان هنا... أحتاج للوصول إليه.. إن أخي وحيد في مصيبته كما كان دائماً"

تقدم مراد منها يمسك بكتفيها ساحبها لتستدير إليه "هل يمكن أن تهدئي..."

"لا لن أفعل.. ليس قبل أن أراه وأشد عضده بي.. أقف بجانبه لأدعمه دون قسوة.. دون جلده بذنوبه كما فعلت في الماضي"

"وجودكِ لن يقدم له المساعدة التي يحتاجها"

صرخت في وجهه منفعلة "لا تحاول أن تمنعني, سأذهب لأخي هو يحتاج لي، لحناني ودعمي لأفهمه أنه سدد فاتورته كاملة وأن الله أرحم من أن يعذبه أو يرفض توبته"

قال مراد بهدوء حاسم "أنا سأذهب إليه, إنه يحتاج لمن يستطيع التصرف سريعاً، شخص لا يزيد حمله بل يقدم له العون بأمور قد يغفل عنها عقله في ظل المصيبة التي يعيشها"

رفعت عينيها التي فاضت بالدموع تنظر إليه بضعف أهلكه ثم همست "أخي لديه طفلة صغيرة لم يكد يستوعب وجودها حتى وضع في اختبار فقدها أي قسوة تحملها تلك القلوب.. أي غباء واستعلاء حملته لورين حتى لا تخبرنا عنها.. لقد وقفتُ بجانبها ودعمتها هي، أفرغت كل غلي وسخطي فوق رأسه.. رباه أنا لم أرحمه يا مراد في وقت كان يحتاج لأن أضمه على صدري فقط"

سحبها يضمها بقوة إليه ثم همس "بل فعلتِ.. إياكِ أن تحملي نفسكِ ذنب لم ترتكبيه.. لقد جلستِ معه فوق العام وراعيته مبتعدة عن بيتكِ، نازعة سلام أولادكِ معكِ وعدتِ لبلد كنا قد أقسمنا بعدم دخولها أبداً... لقد قدمتِ كل ما في استطاعتكِ ودعمتيه كما يجب ليحدد طريقه أخيراً ويشفي من كل الشرور التي أهلكت روحه.. أنتِ صنعتِ منه رجلاً آخر وأخرجتِ ذلك الآخر الذي استطاع أن يتحمل مسؤولية نفسه، متفاخراً بما صنع وقادر أن يطالب بغفران مما طالتهم أذيته وسط تخبطه.. لقد نجا يا إسراء وما يحدث معه الآن ما هو إلا اختبار أخير ليثبت كل ما أصبح عليه!"

أجهشت في البكاء فوق صدره وهي تقول "مهما قلت أنا قصرت معه... أخي لم ينجو تمامًا ما زال هناك موضع الألم يئن بجروحه"

ربت على ظهرها بحنان وأطراف أصابعه تلامس شعرها الناعم ثم قال "عندما تنجو أمل سنعود بها سوياً إليكِ لتمنحيها حبكِ سيمحى كل هذا.. أعدكِ"

أغمضت عينيها وهي تردد بحرقة "نعم.. ستنجو.. ستنجو لأجله, يجب أن تفعل إنها أمله الأخير كما أخبرني.. أمل ممدوح!"

قال برقة وهو يدفعها إليه أكثر ليحتويها كما يفعل دائماً فيمنحها من قوته وثقته كما اعتادت أن تتقبل عطاياه بنهم "ستبقين هنا مع أولادنا وسأذهب أنا إليه, حتى لا يبقى وحيداً، يجب أن يسانده رجل من أهله في محنته"

هزت رأسها ببقايا رفض غير قادرة على تقبل فكرة عدم رؤيته الآن وضمه إليها مانحة إياه من دعمها عارفة أن لا أحد قد يستطيع أن يتفهم ويحب أخاها مثلها... ثم اشتعل عقلها الذي لا يطفئ فجأة وهي تبتعد عنه، فرفض إفلاتها بينما هي ترفع عينيها البنيتين تسأله بجمود من بين دموعها "كيف علمت باسم أمل، أنتَ لم تستمع لحديثنا وأنا لم أخبرك؟!"

"تباً!" هذا أول ما نطقه لسانه متذكراً أنه التزم بوعده لإيهاب ولم يخبرها وأيضاً لم يجد الوقت ليرد على رسالة ممدوح إذ فور قراءتها بعد ساعات بعد أن انهى عمله وأتى إلى منزله مرسلا له رده.. كان هو يتصل بإسراء ويخبرها بما حدث معه

"هل كذبت عليّ.. أنتَ كنت تعلم وأرسلته إلى هناك وحيداً ومهزوزاً مقطوع الدعم من العائلة كما كان دائماً يا مراد؟!" همست مصدومة فيه، بينما كلها يثور مقاومة إياه تبعده عنها..

"إسراء تماسكي, ليس وقت عتاب، للأسف إيهاب ألزمني بعهد لم أستطع خيانته مرة أخرى"

صرخت فيه منهارة "تباً لك.. وتباً لإيهاب هو الأخر، ألم يكفيكما كل ما جرى له؟.. اللعنة عليك يا مراد إن كنت نسيت سأذكرك أنا لم أخن إيهاب.. ولا يعنيني شعورك أنتَ"

اقترب محاولا احتواءها بينما يشعر بغضبه وتملكه المعتاد يشتعل لتطرق كلاهما لحدث استطاعا دفنه بصعوبة "ششش.. توقفي لا تذكري هذا الأمر.. نحن لدينا بالفعل كارثة يجب حلها"

اشتعل الغضب في عينيها معبرة عنه باصطكاك ضروسها ببعضها محدقة فيه بإحساس بشع من البرد... برد لم تفهم أسبابه وكأنها في لحظة غمرت في شعور قريب من الخسارة.. من التهديد أن تفقد كل ما تعبت وكافحت ليبنياه سوياً.. لبنة تتبعها لبنة بروية وتأني وأحياناً بإخفاق "إياك أن تسمح لأي بشر أن يجعلني أعود لنقطة الصفر معك أو ألا أثق فيك فهذا يعني موتي مرة أخرى.. وأنا أريد الحياة بك يا مراد"

راقب كيف كفكفت عيناها من الدموع عدا عن قطرة وحيدة أخذت تجري على وجنتها حتى سقطت على صدرها صانعة بقعة تكاد لا ترى لأي أحد إلا لعينيه.. بقعة كان لها صدى داخل روحه لينتابه فجأة شعور بالخوف وهو الذي لم يخشى شيء أبداً إلا فقدها هي فقال بصدق "فاتورة أخيرة.. أعدكِ أن لا أسدد سواها"

أومأت بوجهها الشاحب ثم قالت محذرة بصوتٍ أجش "من الأفضل لك أن تفعل، سأكون زوجة متفهمة ولن أعاتبك الآن ولكن هذا لن يمنِعني من إخبارك بأني غاضبة وبشدة!"

سمح لنفسه أن يقترب منها يمسك وجهها بين كفيه ثم يحرك إبهاميه نحو عينيها يمررهما هناك برقة ثم همس "عندما أعود سأحرص على امتصاص كل غضبكِ وأن أكفر بالطريقة التي تريدين"

ابتلعت ريقها ثم قالت "عد بأخي وابنته بخير، وأنا سأنسى كل هذا!"

ابتسم بلطف قبل أن يقول بصوته الرخيم "حسناً جوازات السفر في غرفة مكتبي سأذهب لآخذ ما يخصني فقط بينما أنتِ تجهزين لي حقيبتي يا أم سيف الدين"

أومأت موافقة بينما هو تلكأ في تركها لبرهة.. ثم استجمع كل رباط نفسه ليتحرك أخيراً منفذاً ما قاله... أتاه صوتها المرتعش فجأة من وراء ظهره "مراد هل تعد قلة إحساس مِني إن أخبرتك أن لا تغادر قبل أن تضمني بقوة وتقبلني؟!"

ابتسم بتسلية قبل أن يستدير نحوها, يقترب منها على عجل ثم يسحبها سريعاً لتستقر هناك في مكانها الدائم داخل رحابة صدره العريض وهو يهمس "لم أكن لأجرؤ وأغادر قبل أن أفعلها!"

نظرت له بعينين ترقرقت الدموع فيهما مرة أخرى ثم همست باستسلام "أنا لم أخطئ عندما أحببتك.. نحن لا ندين لأحد بشيء.. هل تفهم.. أنتَ حياتي قلبي وحبيبي.. أنا أحبك يا مراد"

رباه كيف بعد أكثر من ثلاثة عشر سنة من زواجه منها ما زال يهدر قلبه بصخب وتغلي دمائه داخل عروقه بل يكاد يفقد كل ثباته عند تفوهها بحبه الذي يجبرها تقريباً على الصراخ به عند كل علاقة حميمية بينهما وكأنها سمفونية عذبة تزيد نهمه وجموحه الذي ما زال بينهما كأول ليلة..

همس قبل أن يلتقط شفتيها في قبلة شرهة جشعة لا تكفي أبداً من النهل من رحيقها "وأنا أحبكِ يا فتاتي شرقية الملامح"

**********



عندما أدارت لانا عينيها في الوجوه القلقة للمرة الثانية... وجهت لنفسها السؤال بقسوة... ما الذي تفعله هنا وسط أناس لم يظهروا لها للحظة واحدة أنها تنتمي إليهم.. عائلة لا تراها ولا تهتم بها.. ولم يكلف واحد منهم نفسه أن يقترب منها ويجبر بخاطرها, يخبرها أنها الأساس هنا وأن لهفته على "محبوبته" ما هي إلا مشاعر طبيعية لفتاة كبرت معه حتى ولو كذباً ومن باب المجاملة..

السؤال كان وحشاً ينهش من أنوثتها من فؤادها المحطم، ولكنه كان في وقته تماماً إذ كانت تستحق وقفة حازمة مع نفسها لا تخضع فيها لأبويها.. ولا لعاطفة مهينة..

ما الذي قدمه لها خالد وأسرته... لا شيء... هي حاولت إذ كان واجبه عليها أن تصبر قليلاً وتحارب أشباحه تلك كما طالبها ولكن إلى هنا وكل شيء انتهى بعد الساعات العصيبة الماضية.. بعد أن فضح لسانه في تلك اللحظات المريرة بصدق ما يكتمه في نفسه ما عاد أي شيء في العالم يجبرها على القبول بتلك العلاقة المهينة لروحها.. هي أرادت خالد نعم، رغبت به كزوج توافرت فيه كل الصفات التي تمنتها ....، لن تخدع نفسها إذ أنه فعل ولكن شيء واحد أدركته بعد فوات الأوان أنه لن يناسبها أبداً قلبه الذي تدرك أنه ملك فتاة واحدة.. لن يخلعها منه أبداً..

ما الذي كانت تفعله بنفسها.. كيف رضيت بكل هذه الإهانة.. هي ما كانت أبداً ترغب في سرقته منها، لم تفكر أصلاً في أي نوع من التحدي.. هي فقط وافقت بكل المنطق والعقل على الشاب الذي رآها أخيراً في الصورة وأتى إليها راغباً.. وإن لم يمتلك هو الشجاعة لأن يفعل.. إن كان ما زال يتمسك بأخلاق الفرسان ويوفي بوعده لها وأد روحه معها.. هي أبداً لن تسمح.. لن تقبل برجل يتواجد معها جسدا بينما عقله وقلبه وروحه وكل ذرة فيه تصرخ باسم امرأة أخرى...

"كما وعدته.. ووعدت نفسها يوماً لن يسدل أحد الستار على تلك الحكاية إلا يدها هي"

*****

كان الدور أغلق الآن بجميع أفراد عائلته، حتى مريم انضمت إليهم وصديقتها وذلك النزار ... اشتعلت عيناه بغيرة خانقة وهو يتذكر وقوفها معه، تمنحه ما ضنت عليه هو به منذ رجوعها... تقبضت يداه بعنف جانبه مذكراً نفسه بقوة أن ما عاد شيء يهم إلا هي وعقاب هؤلاء الكلاب...

كانت لانا ما تزال في مكانها تنتظر لحظتها المناسبة ليستعيد كل شيمه وببساطة مع تعاطيه الآن مع والدته واحتضانه لشيماء المنهارة علمت أنه فعل لذا تقدمت نحو مقعده ووقفت أمامه وهي تهمس بصوت ضعيف: "خالد أحتاج للحديث معك"

رفع رأسه وهو يترك شيماء التي تبكي تحت ذراعه ببطء.. ينظر لوجه لانا الشاحب و... المصدوم...

حرك كفه على رأسه بعصبية مفرطة متسائلا فجأة عن كم الألم الذي سببه لها، إذ أنه يدرك الآن فقط أي فقدان سيطرة كان فيه وأي طعنات وجهها إليها وهي بجانبه طوال الوقت ولم يكن يراها..

"لانا" تمتم بخفوت

قالت بشحوب "ليس هنا من فضلك.. "

وقف بجانبها وتحرك يرافقها بخطوات رتيبة للخارج مدركاً لوجه أمه وأختيه الذي يشيعانه بغموض وغضب، عندما قطعا خطواتهما لخارج المبنى.. وقفت لانا أمامه موقفة إياه عن المزيد من التقدم ثم قالت بصوت أجش "لا تبتعد أكثر من هذا ستحتاجك فور أن تستفيق... لا تخذلها يا خالد"

شحب وجهه وهو ينظر إليها بعدم تصديق في حين كانت هي تتحاشى النظر إليه حامية نفسها من انهيار محقق ثم قالت "ظننت أني قادرة على محاربة أشباح تلك الطفولية العبثية.. إذ أنها لا تليق بك ودائماً ما كنت أراها هكذا"

هز رأسه مستنكراً جملتها التي طابقت تمامًا حجج والده لإقناعه بأن سَبنتي لم تكن مقدرة له يوماً "أنا لم أقصد إيذائكِ، كل ما يربطني بها يقيدني يا لانا.. لن يُفِيد إن حاولت أن أتخلص منها سأموت قاتلا أرواح بريئة معي كما خيبت كل آمالكِ وفعلت معكِ"

سيموت إن ابتعد عنها.. إنه لا يرى غيرها.. لم تحتاج لأن يقر بها إذ أنها أجزمت من تلقاء نفسها سابقاً بما يقول..

اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه خطوة ثم بهدوء شديد كانت تخلع خاتمه الذي قيدها.. ذلك الذي ألبسه لها واعدها معه بالحب بالاستقرار وبعدم جرحها أبداً أو تنكيله بوعده ولم يقدم لها شيء سوى الجرح..

"أنا أحررك من كل وعودك لي يا خالد... ليس تضحية مني أو خوف على حياتك أن تموت كما تقول في بعدك عنها... ولكن لأني أنا أستحق من هو أفضل منك"

توتر فمه وهو يقول "لم أقصد إيذائكِ.. لقد توهمت أن رغبتي آنذاك حقيقية"

صححت له بحزم "بل أردت أن تنساها بي.. بتلك البساطة ولكن كما أخبرتك أنت لم تعد تستحق أن أتنازل عن كبريائي وأن أتحول لمسخ قبيح، يصنع المكائد لأبعدها عن طريقك... أنا حتى لم أعد أدرك من منا التي استولت على حق الأخرى فيك ولكن ما أجزم به أنه لا يوجد رجل جدير بأن تتنازل الفتاة عن كرامتها من أجله.. ليتك ومن مثلك يتقي الله في مشاعر بنات الناس وأن يقيم قلبه جيداً ويحقق وعده الذي قطعه لأول فتاة ادّعى حبها.."

صمت أمام وجهها الذي أشاح عنها متجنباً الرد ومقدراً لجرحها الرطب ثم صدمته وهي تقول "هل وعدت سَبنتي من قبلي... هل أحببتها بالفعل؟!"

أغمض عينيه بقوة وهو يقول "من الأفضل لكِ أن لا تسمعي الإجابة التي تعرفينها يقيناً كما كل فرد محيط بنا أدركها قبل أن نقر أنا وهي بها حتى"

بدأت تبكي بصمت وهي تقول بصوت مرتجف "إذاً لماذا أقدمت على خيانتها.. إن كان الأمر منوط بي سأخبرك أنك لا تستحقها كما لم تستحق أي من هوسي بك لأربع سنوات"

"لانا أنا لم أكن أنوي الغدر بأي وعود قدمتها لكِ.. كنت سأخلص لكِ وحدكِ للنهاية.. ولكن..."

قالت بخشونة "تقدم لي مظهر اجتماعي فارغ.. بينما كلك لها جسدك عاطفتك وقلبك وحتى لسانك, كل ما فيك ملكها هي.. لقد رأيت الصورة بأعلى وضوح اليوم"

"نعم أنا كذلك بالفعل يا لانا, لقد حاولت أن أقدم لكِ كل ما أملك بداخلي.. ولكن عند عودتها أدركت بمرارة أنه ليس هناك أي شيء يمنح لسواها لقد سبق وأخذت منذ زمن طويل كل شيء"

تلك النبرة التي أقر بها، تلك النظرة التي أطلت من عينيه قتلتها ببطء ومحتها من الوجود.. ثم بطريقة غريبة كانت تحييها من جديد لتشمخ برأسها في وجهه وهي تقول "سعيدة لسماع اعترافك هذا وأسعد أني من وضعت نهاية كل هذا العبث بنفسي، كما بدأت خيوط حكايتك معي أنا من ستنهيها... إذ أنه لا يوجد لديك شيء يا خالد قد أرغب فيه أو أحلم به كامرأة... وداعاً يا ابن الراوي"

ثم بهدوء كانت تضع خاتمها في كفه واستدارت مغادرة إياه مبتعدة شيئاً فشيئاً سامحة لنفسها بعد حرب طويلة أن تتنفس بحرية حتى وإن كانت سببت لها جرح سيحتاج وقتاً من الزمن ليشفى ... إذ هي كانت بالفعل تستحق من يحارب العالم لأجلها.. لا هي من تحط من قدرها لاكتسابه... الصورة أصبحت واضحة تنظر إليها من بعيد بعمليتها المعتادة، بعقلانيتها التي تتجنب الآن جرحها العميق وإحساس الفشل.. إن رأت سَبنتي مجرد سارقة خطفت خطيبها منها... فماذا كانت تراها وهي الأولى في حياته.. من قدم وعده وقلبه لها.. من استهلك كل مشاعره الأولى معها.. مؤكد تراها مجرد مجرمة حرمتها مما كان لها الحق فيه.. ربما تستطيع أن تلوم خالد وحده الآن، كما يجب أن يلام كل رجل مثله.. بالنهاية لا يرى إنسان نفسه مخطئ، الجميع عندما يضع هو داخل الصورة يرى نفسه بريء مظلوم جار عليه الآخرون.. متجنب أن يفكر ماذا قد يرى الطرف الآخر من الحكاية.. أليس من الممكن أن يرى نفسه مجرد مظلوم آخر...

**********



استطاع منذ وقت أن يستعيد بعض من توازنه وإن كان لم يمحو رهبة الموقف الذي وضع فيه بعد.. جلس أمام غرفة الطوارئ التي أخذوا فيها ابنته متجنباً أي تماس مع لورين أو عائلتها، إذ أصبح كل ما يهمه الآن هو ابنته فقط...

خرج طه أخيراً جاذباً اهتمامه كما اهتمامهم فهرعوا إليه بوابل من الأسئلة الجزعة... بتماسك قال طه "بخير وحالتها مستقرة حتى الآن، الحمد لله أنه لم يحدث كسر في الجمجمة أو ارتجاج في المخ"

أطلقت لورين شهقة طويلة، ثم انهارت بين يديّ أبيها التي تلقتها.. بينما جاورته مرح وهي تقول سريعاً ببديهة حاضرة "أريد أن أراها مع والدها"

اتبعها ممدوح وهو يقول بصوته الذي هزه القهر "نعم، كما قالت أريد أن تلمحها عيناي لأطمئن"

عينا طه انحرفت قليلاً نحو لورين مانحها نظرة تعاطف غامضة، ثم عاد لممدوح الذي انمحت كل أسباب العداء بينهما في هذا الوقت العصيب ولم يبقى إلا علاقة مهنية رحيمة بين طبيب ووالد لطفلة ضحية ذلك الحادث الذي يعلم الله وحده ماذا كان سيكون نهايته إن لم يروها في الوقت المناسب.. ربما اغتصاب، تجارة أعضاء، بيعها لدول أخرى لأغراض جنسية أيضاً.. أو حتى التربح منها للتبني.. كل الأفكار المريعة مطروحة إذ أصبحت تلك الفئة الملعونة تغزو كل المجتمعات شرقية كانت أو غربية...

"بالطبع تستطيع، ولكن أرجوك فقط تمالك أعصابك وأن تضع في رأسك أنها تتلقى رعاية طبية أي بعض الأجهزة موصلة بجسدها كما...."

قاطعة ممدوح هاتف بتوتر "أعرف كل هذا, فقط دعني أراها"

******

دخل الغرفة بخطوات مترددة، نظرته لا تحيد عن الوجه الصغير الشاحب والغائب عن الوعي، إلى الضمادات التي تحيط ذراعها وأحد جانبيها، وجزء كبير من رأسها...بينما بعض الأسلاك موصولة كما قال الطبيب عليّ صدرها موضع القلب...

دمعت عيناه مرة أخرى وهو يقترب من الفراش غافلا عن مرح التي تتبعه محاولة كتم بكائها بكلا كفيها وهي تراقب صغيرتها بتلك الحالة...

ركع ممدوح بجانب الفراش يمرر أنامله ببطء على كفها الموضوع بجانبها يتأملها بجمود متذكراً أول مرة رآها، وكل مرة اندفعت إليه فيها تحارب قلبه بجهلها أن يستدل عليها وحده.. صغيرته البريئة الشقية والمرحة تتسطح الآن بسبب أناس بشعين الروح, شياطين قذرة مثله.. مثلما كان ينال هو بكل حقارة من مراهقة بريئة..

دفن رأسه في الفراش بينما يسحب يدها يقبلها بهوس وهو يهمس "هذا ما جناه أبوكِ يا أمل.. أنتِ دفعتِ ثمن جرمي أنا.. الآن أفهم يا صغيرتي لما يصعب عليه الغفران، الآن فقط أنا أحس بما جعلته يشعر به.. العجز والخسارة. والكسر المرافق للقهر... سأمزقهم لن أرحمهم كما أبدى هو رحمة لي"

"ممدوح.. أرجوك اهدئ ما عاد كل هذا يهم، إلا أنها بيننا.. الأذى لم يمسها"

رفع رأسه يلتفت ناحيتها وهو يقول بجمود: "وما الذي تعرفينه أنتِ عن الأذى.. ربما هي تجهل ما رأته عيناي.. لن تفهم ما كانوا يخططون له.. ولكن أنا أعرف جيداً أننا مهما فعلنا لن يمحى أثره منها.. لقد طالها الأذى يا مرح.. وبسبب لورين وحدها"

"ربما أنا أعرف أكثر مما تفهم أنتَ.. ولكني أتشبث برحمة رب العالمين أنه لم يدعها تعيش نهش جسدها حية... رحمةً بها وبك وبنا، أنها مجرد جاهلة كل ما ستتذكره هو ألم الاصطدام"

ظل ينظر إليها بلا معنى... بلا روح نظرات غير مفهومة رغم فرط التعب الكامن فيهم... ثم قال بهدوء شديد بنبرة شبه حد السيف الباتر "أنا ألوم نفسي منذ اللحظة الأولى، كنت طوال تلك الأسابيع كلما اقترب منها وألمسها أحاول كبح نفسي وأبعدها عني, إذ أني أدمر كل ما تلمسه يداي كما قالت أختكِ المصون.. ولكن الآن وبطريقة ما أعلم أنها غير منصفة.. لا أقدر إلا على لومها هي.. هي السبب وحدها إن كانت صارحتني بها منذ مولدها لكان تغير الكثير في حياتي كما كبرت ابنتي تحت رعايتي... إن لم تكن تكبرت وتجبرت وأنكرتها مني كما حدث لكنت الآن أحتضنها محاولا أن أعوضها كل المشاعر التي حرمتني منها، كما وضح جوع ابنتي لها حتى وإن كانت لا تستطيع تفسيرها والمطالبة بها.. إن لم تكن طردتني أمامها في كل مرة وقطعت بيننا الأمل ما كانت تسللت صغيرتي للبحث عني وتعرضت لكل هذا.. لكانت الآن بين ذراعي أبيها تشاركه اللعب كما تفسر مشاعرها بطفولة حبها لي ربما هذا غير عادل.. ولكن لن أقدر على أن أتجنب التفكير به.. أنتِ التي أوصلتِ أمل إلى هنا يا لورين"

التفتت مرح ببطء نحو حدقتيه التي اشتعلتا بخضار مخيف وهو ينظر نحو الباب الذي فتح جانبياً ووقفت عنده لورين بوجه شاحب وتطلق نشيجاً خافتاً فهمت مرح من خلاله أنها سمعت كل شيء وأن كل كلمة خرجت منه كانت موجهة إليها منذ البداية..

بعد لحظات من الصمت كان تشبع فيها من كل شيء فنهض من مكانه وطبع قبلة على شعرها الأسود الناعم الذي قص جزء كبير منه لتخيط جرحها.. ثم وضع بجانبها ذلك الدب بإصرار أن يترك جزء من روحه معها وهمس بخفوت "بابا هنا الآن يا أمل.. بابا هنا حبيبتي ولن يترككِ لتضيعي في هذا العالم القاسي، سيحميكِ بروحه يا كل روحه ممزقاً كل من قد يحاول لمسكِ بأذى مرة أخرى"

ثم اعتدل يمنحها نظرة أخيرة صامتة.. وانسحب تارك لهن الغرفة حتى حين قريب جداً..

********



فتحت عيناها فجأة وبدون إنذار.. محاولة القفز من مكانها وكأنها تحاول الهروب من كابوس أسود أبى إلا أن يتكرر أثناء غيبوبتها... يئن سائر جسدها بألمٍ فتاك جعلها تطلق صرخة مختنقة مصحوبة بالوجع ورهبة الموقف الذي لم يتركها بعد...

"سَبنتي، أنتِ هنا صغيرتي معنا!"

كانت كلها تختض بعنف بينما تجبر جفنيها أن يفتحا ببطء تنظر للوجوه التي حولها برهبة ثم انكمشت لدقائق غير مستوعبة الزمان والمكان الذي تتواجد به... مد راشد يده بحذر محاولا أن يتواصل معها بينما اندفعت بدور للخارج تنادي الطبيبة الخاصة بها... ووقفت منى فوق رأسها من الناحية الأخرى تراقب بعينين قلقتين حالتها من الأجهزة الموصولة بها ثم قالت "علاماتها الحيوية بخير.. فقط ربما هذا أثر صدمة أول إفاقة بعد ما حدث"

أومأ موافقًا بينما يداه ما زالت تحاول أن تتواصل معها فلمس يديها وهو يهمس مختنقاً: "أنا هنا صغيرتي"

عادت تحدق فيه بنوعٍ من الصدمة وكأنها تحاول أن تتعرف عليه من جديد، أو تطرد خيالات ترهق عقلها، مصحوبة بالذعر الشديد الذي عاشته تحت رحمة المعتدين...

"سَبنتي أريد أن أطمئن أنكِ تريني، وتسمعيني، سأضمكِ الآن, هل تسمحين لي؟" نطق راشد بحذر وأصابعه تصل لوجنتها يمسدها ببطء ماسحاً دمعة وحيدة هبطت من حدقتيها التي اهتزت وهي تنظر له بضعف أهلكه.. جلس راشد على الفراش ثم رفعها بتمهل شديد، مستمعاً لنصيحة الطبيبة التي انضمت اليهم و أمرته بالحذر...

لم تخيب صغيرته أمله إذ أنها على الفور اندست محتمية فيه تدفن وجهها تحت ذراعه ثم أطلقت تأوه طويل.. مكتوم حطمه هو..

استمع للطبيبة وهي تقرأ بعض البيانات من على الحاسوب ثم تتجه إليها محاولة فحصها وهي تقول "هناك بعض الأسئلة التي يجب أن تجيبي عليها"

قال راشد دون أن ينظر إليها أذ أن كل مشاعره واهتمامه مع تلك التي تحتمي فيه" هل يمكن أن تؤجل؟!"

ردت بعملية "لا, المريضة هنا منذ عصر الأمس ودخلت في غيبوبة وليس إغماء بسيط.. يجب أن أطمئن على مؤشراتها الحيوية كما ذاكرتها"

همست بضعف من بين طيات قميص راشد "لم يتم ضربي على رأسي, وأنا أذكر من أنا وكل ما حدث بالتفصيل.. ربما أشعر ببعض التشوش ولكني بخير"

تنهدت الطبيبة بابتسامة صغيرة ثم قالت "أنتِ طالبة صيدلة كما عرفت"

همست بصوت متحشرج في اعتراض بسيط أنها لن تستطيع منحها ما تحاول الوصول إليه "أريد ماء، حلقي جاف"

سألت بدور بقلق "هل يمكنها؟!"

ردت الطبيبة بهدوء وهي تسحب إحدى كفيها جاعلة إياها تجفل بين أحضان راشد "يمكنها بالطبع... ستكون بخير"

دقائق أخذتها تغير ضمادات كفيها دون أن تحاول تحريكها من مكانها بينما ناولت بدور الكوب لوالدتها التي ساعدتها على تناول بعض منه.. ثم اعتدلت الطبيبة أخيراً وهي تقول "الزجاج الذي أخرجناه من هنا كان سميك جداً أوضح أي مقاومة قمتِ بها, إذ أنه تبين أنكِ كنتِ تتمسكين بشيء محاولة الهرب"

اهتز كتفاها بقوة مع نشيج متقطع مكتوم وهي تحرك رأسها بالرفض على صدر أخيها "أخر... أخرجها"

رفع عيناه الحارقة نحوها... بينما تدخلت منى سريعاً تقول بتعقل "هل يمكن إجراء هذا الحديث لاحقاً؟"

"سيدة منى" قالت الطبيبة معترضة على رفضهم التام لتدخل الشرطة في الأمر، كما أمر هذا المتسلط مدير المشفى بأن يتم التكتم بل وهدد بالويل للجميع إن تسرب أي خبر بوجود أخته هنا...

قالت منى بهدوء بينما تسحبها معها للخارج بلطف "من فضلكِ، لقد رأيتِ بنفسكِ الحالة التي كانت عليها حين جاء بها ابن عمها.. واعتقد حالته آن ذاك لن تشكك أبداً بأن ما حدث ليس لنا يد فيه"

قالت الطبيبة "أعرف صدقيني إن خوفكم الصادق قد أكد هذا لي ولكن هكذا ستضيعون حقها.. إن لم تنقذ الفتاة في الوقت المناسب ربما كانت لفظت أنفاسها"

ابتسمت منى ابتسامة رائعة حنونة كالعادة ثم قالت ببساطة مذهلة "كوني على ثقة أن من فعل في ابنتي هذا سيندم على اليوم الذي ولدته امه فيه, فعائلة الراوي ليست متسامحة على الإطلاق نحو أي أحد تُسَوِل له نفسه بالنظر لإحدى نسائها"

توجست الطبيبة وهي تنظر لها ببعض التوتر, ربما وجهها الجميل ونبرتها المريحة وهي تتحدث تخدع من يسمعها, ولكن ذلك الغضب الذي يختبئ بين طيات الكلمات يجعلها تحمد لله أنها لا تنتمي لهؤلاء المعتدين بأي صورة...

*******



"هل فاقت؟"

اندفع خالد نحو الباب وهو يهتف بوالدته التي أوقفته تنظر إليه بنوع من الغضب وهي تقول "وجودك لن يكون في صالحها يا خالد"

قال خالد بعصبية "أنا لن أتحرك من هنا قبل أن أنظر لعينيها مباشرة وأطمئن أنها عادت إليَّ"

نظرت منى لولدها الذي لم يتحرك منذ الأمس من أمام غرفتها بل بات ليلته رافضاً كل محاولات راشد المستفزة لدفعه للمغادرة..

قالت منى من بين أسنانها "سَبنتي ليست لك.. لا تُجن.. أنت وجدت امرأتك المثالية.. هل تذكر؟!"

كان على شفى حفرة من الانفجار وهو يقول: "دعيني أمر أمي وبعدها سنتحدث"

أزاحت نفسها من طريقه وبقيت خارجاً بينما شعرت ببدور تنضم إليها وهي تقول "سأحدث شيماء لأن تأتي, لقد وعدتها إن غادرت واعتنت بإياب من أجلي سأخبرها بإفاقتها حتى تعود إلى هنا"

منعتها منى وهي تقول بغموض "انتظري بعض الوقت, ما سيحدث قريباً يفضل أن لا تسمعه شيماء"

سألت بدور بهدوء "هل علمتِ؟!"

مال فم منى بضحكة ساخرة ثم قالت "وكيف لا أعرف بعد أن اتصلت ابتسام بي تهدد وتتوعد واتهمت ربيبتي بخراب بيت ابنتها ثم تطلب مني أن أعقل ابني... تلك المرأة لم تحاول أن تسألني ولو مجاملة عن الفتاة التي كانت بين الحياة والموت"

هزت بدور رأسها بأسى ثم قالت "لقد فعلت لانا الشيء الصحيح أخيراً... رغم إشفاقي عليها حقاً من تلك المرأة المدعوة أمها"

*****

قَبَّل راشد جبهتها وهو ينظر إليها بعينيه الدامعتين ثم قال بحزن "لا أنفك أفكر أني السبب, لو لم أجبركِ على العودة إلى هنا.. لو لم أصر على تلك الجامعة؟!"

لم ترد ليس لعدم رغبتها بل لعجزها عن التفاعل الآن بأي طريقة.،محبوسة داخل الحدث، فقط دموعها تهبط بعجز مغرقة ملابسها..

"آسف حبيبتي, ليت ألف رصاصة دخلت صدري ولا مكروه أصابكِ" همس راشد بوجع

حركت رأسها يميناً ويساراً وكأنها تحاول أن توصل إليه رفضها لما يقوله... قبل أن تشعر فجأة بطيفه الذي ملأ المكان برائحته التي تسللت لأنفها متذكره صوته من بين غيبوبتها يقول بقسوة داخل أذنيها هامساً لها بوعده أن يأتي لها بحقها، وأن لا يسمح لتحطيم آخر أن ينال منها...

"حمد الله على سلامتكِ يا بقة" قال خالد بخفوت وهو يميل إلى الأمام نحوهما..

رد فعل جسدها العنيف لم يخطئه راشد على الإطلاق.. رد فعل لم يتسم بالرفض كما كانت تحاول أن توهمه عندما دست رأسها كله مختبئة فيه.. بعيداً عنه رافضة التواصل معه.. بل كان رد فعل مزق نياط قلبه إذ علم إلى أي حد ما زالت تحبه و تتأثر به.. وكم وصل قهرها وخذلانها وخيبة أملها العظيمة فيه...

عم الصمت بين ثلاثتهم عدا أنفاسهم التي ملأت أجواء الغرفة بالتوتر..

"سَبنتي هل يمكنني الاطمئنان عليكِ؟!"

كان رد فعلها الوحيد أن حشرت نفسها حشراً داخل راشد، بينما يراقب ساقيها تنكمش تحت غطاء المشفى الأبيض برهبة!

"اخرج يا خالد.. ها أنتَ أديت واجبك وهي أصبحت بخير"

نظر إليه مبتلعاً ريقه بينما يعود ذلك الغضب ليشعل كل جنونه... لم يفكر على الإطلاق قبل أن يندفع مغادر الغرفة والمشفى والمنطقة كلها متوجهاً إلى مكان واحد كان قد أجّل ذهابه إليه حتى يسرق نظرة واحدة منها ضنت عليه بها..

أخرج هاتفه واتصل بصديقه: "نضال"

رد رفيقه بهدوء "نحن في انتظارك منذ منتصف ليل الأمس، هذا ليس تعامل رحيم، إن أضاحيك معلقة في السقف منتظرة ساطورك الرقيق يا خالد"

*******

دخل خالد إلى أحد مخازنهم على أطراف المدينة الصناعية واستقبله نضال ورجاله الذين كانوا ينتشرون هنا وهناك... وببطء كان يخلع سترته ثم سحب أزرار قميصه واحداً وراء الأخر وهو يقترب من فرائسه كوحش جائع لا يشبع روحه ولا يهوى إلا إراقة الدماء..

"ألن تتحدث معهم؟!"

نظر خالد لنضال بعينيه الحارقتين ثم قال بصوت مرعب "أتحدث عن أي شيء؟ هي لم تخطئ ولا أحتاج السماع منها لأعرف.. إنها ضحية لمجموعة من قذرين النفس عدماء الشرف"

أومأ نضال وهو يفسح له الطريق جاعله يتحرق لرؤية الخمس شباب الذين علقوا في السقف من أرجلهم، كما طلب بالضبط...

الأمر لم يكن صعب للحقيقة إذ فور أن تلقى نضال رسالة خالد لم يحتاج لأن يخابره بل تهرب من جوان على الفور حتى لا يشعرها بالشيء الذي عَلِمَه حدسها الأمومي مسبقاً... ثم هاتف أحد رجال خالد الذين كانوا تحت إمرته ودربهم بنفسه في الماضي وأخبره بالتفصيل بكل ما حدث و يحدث فلحقهم إلى هنا بعد أن قبضوا على هؤلاء في استراحة قريبة يحتفلون بما فعلوه "بابنة زوجته"..

مد نضال وجهه للأمام وهو يحرك رقبته يمين ويسار مطرقعاً معها عضلاته مثل الطريقة الشهيرة لهؤلاء المصارعين...

"هل بدأتم الحفلة بدوني؟" قال خالد وهو يكور يديه بغضب ثارت له كل عروقه منتفضة في عنقه وغطت أصابعه بلون أخضر وكأنه يتحول لتلك الشخصية الشهيرة "هالك!"

"تأخرت.. ولم أستطيع مقاومة نفسي"

"تأخرت.. لقد نالوا مني" اشتد جنونه عند هذه الكلمة ليفرغ جام غضبه في أول جسد قابله موجهها نحو معدته مباشرة... سامعاً الصرخات المذعورة من تحت اللجام الذي وضعوه على فم كل واحد منهم.. وهو بالطبع لن يحرره.. إذ أن كل ما يفكر فيه الآن هو صوتها المتألم وجسدها المنهار ورعبها وهي وحيدة في مكان نائي، يعصف بعقلها كل التصورات التي يمكن أن يفعلوها بها... ثم عجزه وهو مقيد ببعد المسافات وبالوقت الذي لم يكن في صالحه على الإطلاق وهو يسمع صوتها تستنجد باسمه...

وكانت لحظة الانفجار وهو يضرب كالثور الأعمى في أجسادهم وكأنهم مجرد أكياس ملاكمة تتحداه باهتزازها الخائف في محاولة مضنية للإفلات... فلا يرد عليهم إلا بزيادة ضرباته جنوناً وهوساً بل وربما سادية مكتسبة منهم هؤلاء الحقراء.. خمسة من معدومي الذكورة يجتمعون حول ضحية واحدة لم توجه إليهم أي خطأ يُذكر...

كان زئيره يزداد بينما جسده يتصبب عرقاً من المجهود المبذول ولكن غيظه لم يهدأ وغضبه لم يبدد... حتى وإن كانت طاقة جسده نفذت... لم يتردد للحظة أن يفك حزام بنطاله ذو الجلد الحر والحديدة العريضة بأوله.. "غالي الثمن ولكنه لن يغل على أجسادهم" قال بنفس قد أنهك ثم أشار لأحد رجاله وأمره: "جردهم من ملابسهم" ترافق مع صراخهم وتحركاتهم الآلية من شدة الألم..

قال نضال بحزم: "خالد أنت لست مجرم.. رجاءً تعقل, سنجد عقاباً آخر!"

لكنه لم يسمع ولا يرى أمامه وهو يعيد زئيره آمراً بوحشية: "أريدهم مجردين من ملابسهم, سيكسر كل كلب فيهم كما..."

صمت مغلقا عينيه بقوة ثم سأل بصوت مرعب "من مروان؟!"

همهمات صدرت من أربعتهم وهم يحاولون الإشارة نحو أحدهم بمنتهى الخضوع والجبن...

حرك خالد كتفيه قبل أن يثني حزامه مفرقعاً به في الهواء وهو يهمس بشرر "جيد.. جيد للغاية يا مروان، هذا أنا إن لم تكن تعرفني.. خالد الذي سخرت من استنجادها بي"

زام مروان وهو يحدق فيه برأسه المقلوب بذعر... اقترب خالد منه خطوة ثم أمال رأسه بشدة يحدق فيه وهو يجذب فروة رأسه ساخراً ثم قال "أنتَ لك معاملة خاصة قبل أن أجعلك تركع على ركبتيك ويديك مثلك مثل أي حيوان.. مع الاعتذار للحيوان بالطبع.. وتتذلل لي لأرحم ضعفك"

زام مروان مرة أخرى وهو ينتفض بجنون ورعب خالص لم يحرك في خالد أي شيء، بل في برهة كان يخلع عنه قميصه ثم يجلده على ظهره وذراعيه دون أن يرف له جفن...

لقد فتح خالد أبواب الجحيم ولا ينوي أن يغلقها في وقت قريب بأي صورة..

*********


يتبع ألان
:a555::a555::a555::a555:


Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس