عرض مشاركة واحدة
قديم 05-06-20, 12:20 AM   #50

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي


.. الفصل الثامن والثلاثون ..

.
.

[ بعثرة الشعور ]

.
.

اجتمع كل العائلة على الطاولة ، السيد مازن بابتسامته الخبيثة يتوسطهم وزوجته دلال تجلس عن يمينه وابنتيه عن شماله وبجانبهم كرسي فارغ لعروستهم الصغيرة التي يدّعون بأنها أختهم أما مقابل السيد مازن كان يجلس وسام الذي بدا مخيفا جدا ، نظراته الباردة ووجهه الشاحب خصلات شعره البني التي تغطي ملامح وجهه بعشوائية لتكون غير ظاهرة للعيان ، يجلس بثقة واضعا قدما على الأخرى مكتفا ذراعيه بشكل استفزازي حوله هالة سوداء مخيفة ينفر منها كل من رآها ، تأففت دلال من مظهره الرث وأخذت تتمتم لزوجها ببعض الشتائم تشعر بالحنق تجاه وسام الذي يستفزهم بحركاته من أول ما دخل عليهم وكم تكره الجلوس معه على نفس الطاولة أما الفتاتين فلم يتوقفا من التهامس فيما بينهم والضحك على شكله الذي يبدو رثا وغير مرتب لتتأكدا من أنه فقير معدم وقبيح أما بالنسبة لوسام فكانت كل تلك الهمهمات والهمسات واضحة له كوضوح الشمس ، ابتسم ساخرا واخذ يتأمل الباب الذي سمع من يطرقه بخفة لتدخل تلك العجوز منحنية الرأس تستأذن بالدخول وخلفها تلك الصغيرة مطأطئة الرأس التي لم ترد الدخول وكم تمنت أن تهرب حينها ولكن بإصرار وإلحاح شديد وترجي من تلك العجوز التي لن ترفض لها طلبا استجابت لها بدون اعتراض ودخلت معها ، نهض السيد مازن واخذ يرحب بالعجوز ناعتا إياها بأنها مربية ابنته الصغيرة المدللة التي اخذ يصرخ بها قائلا بخبث بابتسامة كاذبة :
- ادخلي يا عزيزتي ادخلي فالسيد وسام يتطلع لرؤيتك وإلى تناول وجبة الإفطار مع عائلتنا ..
أمسكت العجوز بيد صغيرتها وحثتها على السير متوجهة نحو الطاولة التي تقع وسط تلك الغرفة الكبيرة المزينة بشتى أنواع التحف ذات اللون البني بسجاد كبير من الفرو الأسود ولوحات منتشرة على كل الجدران بإطارات من الذهب المنقوش بإتقان برسومات لراسمين قدماء لبعض البلاد وبعض الحكام والرؤساء السابقين وصور للعائلة أيضا ناهيك عن تلك الشموع والورود التي زينت كل ركن من الغرفة ، سحبت لها الكرسي الخشبي بجانب الفتاتين لتجلس هي بدورها بكل هدوء ، رمق وسام وجهها الذي لا يكاد يرى ملامحها من غرتها التي انسدلت على جبينها بكل عنفوان ورمق تلك العائلة التي تدعي أنها أسرتها فلاحظ فرقا كبيرا فهي كملاك لا تشبههم أبدا لا شكلا ولا تصرفات فكانت هادئة رقيقة وشديدة الجمال ليس كمثلهم فالفتاتان اللتان تدعيان بأنهما أخواتها يتشابهن كثيرا عيون والدهم ولون بشرة أمهم والكثير من الصفات الخلقية مثلهم ، لم يعر وسام ذلك أي اهتمام بل اخفض بصره لأنه كره أن يتأمل ملامح غير تلك الملامح التي لطالما تمنى بأنه يُسمح له بتأملها لتكون له هو فقط ، مر طيف مايا في مخيلته بابتسامتها العفوية ليبتسم ساخرا على حالته متألما من واقعه غاضبا من نفسه التي لم يستطيع أن يرضي رغباتها ، رفع شوكته دون اكتراث وقرب صحنه وبدأ بالأكل قبل أن يأذن السيد مازن لهم بالأكل لتتحد نظراتهم موجهة صوبه مستنكرين فعلته الغير لائقة ومتأففين منه إلا أن خادمتهم التي يدعون بأنها ابنتهم الصغيرة فاجأتهم بأنها أمسكت شوكتها أيضا وقربت صحنها بمجرد أن لمحت وسام يفعل ذلك ليستنكر الكل فعلتها الطفولية بينما ابتسم وسام نصف ابتسامة حين لاحظ تصرفها ، وأكمل تناول طعامه دون أي اكتراث لذلك المازن الذي اخذ يتنحنح وهو يقول وقد بدت حمرة طفيفة على وجنتيه غضبا وإحراج من فعل وسام الوقح ومن فعل تلك الخادمة الغبية التي أخذت تقلده في أفعاله وكأنها تستفزهم بها :
- تفضلوا تفضلوا بتناول طعامكم ..
وبعد الانتهاء من تناول الطعام نهض وسام بهدوء وخرج من تلك الغرفة التي بدت تخنقه ، كم تمنى بأن يقتل كل فرد كان فيها عله يخفف من ألمه قليلا لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة وخرج منسحبا إلى الحديقة يستنشق بعض الهواء العليل ، أما من تركهم خلفه في تلك الغرفة فكان لهم رأي آخر فأخذت دلال تصرخ بغيض قائله :
- كيف لذلك الوضيع بأن يتصرف بوقاحة معنا هكذا !! ألا يعرف من نحن سحقا لذلك الجندي الفاشل..
ثم أخذت الفتاتان تصرخان أيضا مع والدتهم وهم يرمقون الخادمة الصغيرة أختهم المزيفة التي تجلس بجانبهم قائلتان بغضب :
- ابتعدي عنا يا قذرة كيف لك أن تجلسين بجانبنا هيا ابتعدي اذهبي إلى حظيرتك تلك بسرعة فنحن لا نطيق رؤية وجهك القبيح هذا ..
نهض السيد مازن وضرب بقبضته على الطاولة ليشهق كل من كان متواجدا برعب ثم قال هو الأخر بغضب :
- يجب أن ننهي مراسم الخطوبة بسرعة وغدا سنقيم حفل الزفاف وننهي هذه السخافة ونحظى بشرف سيدنا وتكريمه لنا أما ذلك الوغد وسام سأسحقه بيداي هاتين ليتعلم مع من يتعامل ..
ثم رمق خادمتهم الحسناء الصغيرة التي تجبست أطرافها من الصدمة أقال غدا حفل زفافها ؟! بهذه السرعة أين قرارها أين رأيها لماذا لا يعتبرها أحد بأنها إنسان لماذا هذا الظلم كله وكل هذا الكره !! كم كرهت هذه التمثيلية السخيفة فكلها كذب في كذب ولن ينجح الأمر أبدا ، صاح بها قائلا :
- أنتِ أيتها الحقيرة لن تسلمين من عقابي صدقيني سأريك هيا اخرجي واغربي عن وجهي بسرعة ..
لا تعلم لماذا الجميع ينفث نيران غضبه بها ولا تعلم ما الذي قد يريها .. ألم ترى كل أنواع العذاب سابقا ؟! ما الذي قد يريها الآن فلقد أذلها بما فيه الكفاية ، ضربها حتى فقدت وعيها ، قذف بكلماته المسمومة على مسمعيها ، لقد رأت كل أنواع العذاب منهم أهانها وذلها واستحقرها فهي قد اكتفت حقا منهم ، كم تريد الهروب بعيدا لا تدري إلى أين لكنها كرهت كل شيء ، كل شيء حولها أصبح يخنقها ويوجعها ، لم ترى ممن حولها سوى الأذى والألم ، يكفي يكفي فهي لم تعد تحتمل أكثر ،
نهضت مخفضة رأسها تضم يديها الناعمتين الصغيرتين إلى صدرها ألم عميق تشعر به يفتك لها قلبها شيئا فشيئا ، استدارت وأخذت تسير بخطوات سريعة متعثرة إلى الخارج حيث كانت تلك العجوز الطيبة تنتظرها فاتحة لها ذراعيها لتضمها إلى صدرها بكل عطف ، خرجتا من ذلك القصر الذي بدأت أجوائه تزداد بؤسا وخنقا لهما ، توجهتا إلى الحديقة علهم يطردون قليلا من حزنهم ويخففون حملهم قليلا ، جلست الفتاة على العشب تضم ركبتيها إلى صدرها وتدس وجهها بين ركبتيها أما العجوز فأخذت تربت على ظهرها بخفة ، أقبلت إحدى الأختين المتعجرفتين صارخة بهما وقائلة بضحكة واستهزاء :
- هييييه أيتها الخادمة القبيحة بسرعة ادخلي إلى الداخل سوف تبدأ مراسم خطوبتك القذرة ..
تنهدت العجوز وأخذت تطلق الشتائم واحدة تلو الأخرى وهي تتوعد بأنها ستعاقبها سليطة اللسان تلك المتجردة من الأخلاق سحقا لها من فتاة ، ابتسمت صغيرتها عندما سمعتها تدندن بتلك الشتائم والغضب باد في وجهها لتضحك الأخرى وهي ترى تلك الابتسامة العذبة ، صوت خطوات اقترب منهما لتستديرا في وقت واحد وينظران بذهول لذلك الذي انتصب أمامهم واقفا الذي لا يعلم لماذا أخذته أقدامه وجرته نحوهم ، فابتسمت العجوز قائلة بكل حنان أحسه وسام يتغلغل في نبرتها الصادقة :
- أهلا بك سيد وسام لهو شرف عظيم بأن نتعرف عليك ..
أخذت صغيرتها بالتأمل في ملامحه لم يكن قبيحا كما قالتا الأختان عنه أبدا بل هو وسيم للغاية لكن آثار التعب بادية في تقاسيم وجهه ، قال وسام ببرود شديد واختصار :
- أشكرك ..
كم بدا مهذبا في كلامه رغم تلك النبرة الباردة والهادئة التي نطق بها إلا أنه بدا أكثر لطفا فأردفت العجوز قائلة بفرح :
- إذا يا بني دعني أخبرك باسم خطيبتك الجميلة وزوجتك المستقبلية إن اسمها هو ......
قاطعها وسام بنصف ابتسامة ولم يترك لها المجال لتكمل كلامها وهو يستدير متوجها نحو بوابة القصر بخطوات كسولة قائلا :
- لا يهمني بأن أعرف اسمها فهي لن تكون إلا ضيفة مؤقتة عندي ..
شحب وجه العجوز مستنكرة لما قاله توا إذا هو لم يأخذها على محمل الجد كزوجة له بل سيستقبلها عنده مؤقتا إلى أن يحصل على ما يريد ويتخلى عنها ، ضيقت عينيها بغضب سحقا له بدا طيبا للغاية قبل قليل سحقا لهم كلهم ألا يوجد أحد في هذا العالم يمتلك قلبا طيبا لكي يضم هذه الصغيرة إلى عطف جناحه !! ، سحقا لهم ما كل هذا التهكم متى يأتي الشخص المناسب الذي تضمن بأن طفلتها ستكون في أمان معه متى يا ترى متى ؟! ، نظرت إلى صغيرتها التي أخذت تنظر إليها بعينين منكسرتين مليئة بالألم والخذلان تعلم تماما أن لا مكان لها في هذا العالم صغيرة ولا حول لها ولا قوة لا تملك من أمرها شيئا لم تكن تمتلك خيارا آخر سوى أن تكون ضيفة مؤقتة عند وسام تحت مسمى زوجة له ، تنهدت العجوز بقلة حيلة فهي لا تعلم ما الذي يتوجب عليها فعله فأمسكت تلك الطفلة المنكسرة بأناملها لتحثها على السير والدخول إلى القصر تشير برأسها دلالة على أنها لا تملك أي خيار آخر غير الانصياع لأوامرهم ، دخلتا إلى قاعة كبيرة حيث تجمع الكل فيها ، ذات طراز فخم جدرانها مغطاة باللون الأحمر وزخرفات ونقوش ذهبية رسمت على الجدران بكل دقة أرائك منتشرة في جميع الزوايا مغطاة بجلد طبيعي أسود ومطرز بخيوط ذهبية تتوسط تلك الغرفة الكبيرة طاولة خشبية وسجاد عتيق ، كان وسام يجلس جلسته اللا مبالية بمن حوله بكل ارتياح واضعا قدما على الأخرى يمد ذراعيه على حافة الأريكة بشكل استفزازي مرتديا معطفا اسودا مفتوح من الأمام ليظهر قميصه الأبيض الذي كانت أزراره العلوية مفتوحة بإهمال ، كم بدا وسيما حينها لاسيما عندما رفع خصلات شعره بأنامله الطويلة ، فتعلقت نظرات الأختين الذاهلة به ، أهذا حقا ذلك الجندي القبيح كم يبدو وسيما للغاية لدرجة أن أنظارهما لم تبتعد عنه ولو لثانية إلى أن رمقهن بنظرة حادة اجفلتهما خوفا ، كانت تجلس بجانبهما بكل هدوء تكمل المسرحية السخيفة بحرفية إلى أن ناداها السيد مازن الذي اخذ هو ووسام بتوقيع بعض الأوراق وأتما بعض الإجراءات اللازمة ، اقتربت من وسام بخوف وتردد ، نظرت إلى السيد مازن وهو يقول لها بابتسامة كاذبة مزيفة كم تمقتها :
- هيا يا حبيبتي وقعي هنا لكي نتم زواجك ..
مدت أناملها الصغيرة المرتجفة نحو القلم ، جذبته بخفة وهي تحاول أن تكتم ألمها في صدرها وحزنها في أعماق قلبها ، أي موقف هذا وأي لحظة هي بالضبط ؟! فلقد اجتمعت كل مشاعر الإحباط في قلبها الصغير ، كم تمنت بأن يجف حبر القلم أو تتمزق الورقة أو يحصل أي شيء يوقف هذا الزواج الذي بالتأكيد سيكون فاشلا لأن أساسه فاشل ، ضغطت على القلم بقوة وتمنت أن تستطيع أن تقول أنا لا أريد لن يجبرني أحد على فعل شيء لا أريده لكن الليت لن تجلب سوى مزيدا من الحسرات ، رفعت نظرها بالذي يقف بجانبها والذي فاقها طولا فهي لا تكاد تصل إلى منتصفه ، نظرت إليه مطولا وكأنها تخبره بنظراتها المترجية أن يوقف هذه المهزلة أن يقول هو أنا أيضا لا أريدك وينتهي كل شيء لكنه خيب ظنونها كلها حين همس بصوت شبه مسموع بنبرته الموسيقية الباردة :
- بسرعة ..
لا ليس هذا ما تريد هي سماعه ، لا يا وسام أرجوك قل شيئا غيرها فأنت تستطيع أما هي فلا ، أشاحت وجهها بعيدا عنه بعد أن همست لنفسها بحسرة بتلك الكلمات التي لم يسمعها أحد سواها ، أغمضت عيناها بألم ثم مدت يدها وكتبت كلاما غير مفهوم ثم وقعت بجانبه، تأمل وسام بصمت وبرود مميت تلك الورقة التي جمعت اسمه واسمها دليل ارتباطهم معا لم ينتبه لاسمها أو اسم عائلتها كل ما كان يفكر به هو أنه لو كان الأمر بيده لمزقها إلى أجزاء صغيرة ورماها في البحر أو يحرقها لتتحول لرماد ، أسوأ شعور قد يشعر به الشخص هو الشعور بالعجز وعدم القدرة على فعل شيء حيال الأمر بل الوقوف كالمتفرج العاجز ، تنهد بقلة حيلة ثم اخذ يتأمل ما كتبته جانب توقيعها فرأى حروفا غير حروفهم ومؤكد أنه قد رآها سابقا ، ضيق عينيه يفكر بعمق ما الذي قد تعنيه هذه الحروف وأين رآها سابقا لكنه تجاهل الأمر كالعادة بينما عادت التي كانت تقف بجانبه بسرعة متوجهة نحو الشقيقتان وجلست بجانبهما بهدوء والألم يعتصر قلبها فمنذ هذه اللحظة أصبحت زوجة ذلك الشاب ، أتما الأمر بينما أخذت الأختان تتهامسان وتتصنعان اللطف معها وهن يقولون لها عبارات التباريك والتهنئة لها ثم اتبعن همساتهن الساخرة لها بغية قهرها بصوت منخفض كي لا يسمعهن والدهن أو وسام :
- عزيزتي سوف نجهز لك فستان زواجك بأنفسنا ما رأيك ..؟!!
قالت الأخرى بسخرية لاذعة :
- نعم نعم فأنا عندي فستان يناسبها تماما لكن لونه أسود..
هزت رأسها باستهزاء وقالت تكتم ضحكتها :
- اعتقد بأنه سيناسبها أكثر فاللون الأسود جميل عليك كما أنك ستبدئين حياة جديدة فجميل أن تبدئيها بالسواد ..
تعالت ضحكاتهن وسخرياتهن المريرة لتنتقل إلى مسامع وسام الذي تأكد في هذه اللحظة بأنها ليست أختهم
ثم أردفت دلال قائلة بسخرية لتجاري بناتها بها :
- لا لا يا بنات أنا عندي ثوب أهدته لي إحدى العجائز سابقا بمناسبة خطوبتي اعتقد بأنه سيناسبها أكثر فهو لم يصلح لي ولا لجمالي حينها ، لكن يا عزيزتي إن لم تريدي فثوبك هذا جميل يمكنك ارتداؤه بما أننا لن نجهز لك حفلا كبيرا فعلى ما يبدو أن زوجك مستعجل ولن يتغيب أكثر عن المعسكرات والتدريبات الخاصة بالجنود الوضيعين ..
أخذن يضحكن بسخرية فهن يعلمن حقا بأن لا أحد سيقف بجانبها غير تلك العجوز الواقفة في إحدى زوايا الغرفة تتقلب ألما وقهرا على سخرياتهم منها بهذا الشكل الفظيع أنهن يعلمن بأنها لا تستطيع التدخل فهي مهددة بفصلها وقطع السبيل الوحيد لكسب لقمة عيشها كما أنهن يعلمن أن وسام لا يريدها ولا يرغب بها كزوجة له أبدا فهذا ظاهر من ملامحه وهيئته وتصرفاته كما أنه يجلس بعيدا عنهم فنسبة أن يسمعهن تضاهي الصفر ، تجمع الدمع في عينيها الواسعتين أنهن يستمتعن باستفزازها والسخرية دائما منها كم هن قاسيات للغاية ، ما الذي يمكنها فعله كم تتمنى بأن تنقض عليهن وتبرحهن ضربا لكنها لا تقوى أبدا على فعل ذلك ، فأخذت تقبض على فستانها البنفسجي محاولة عدم البكاء مترجيه الصبر والمعونة لكن فجأة ودون سابق إنذار شعرت بيد أمسكت ذراعها بقوة جاذبة إياها بخفة لتصطدم بذلك الصدر العريض من قوة جذبه لها ، رفعت رأسها ونظرت إليه برعب وصدمة وإذا به وسام كان ممسكا بها من ذراعها ويشد قبضته بقوة ، تراجعت قليلا للوراء فتملكها خوف شديد كاد يفتك بقلبها الصغير ويوقفه عن العمل خوفا من نظراته تلك الباردة والحادة إلا أن وسام قربها منه مرة أخرى دون اكتراث بها فلم تستطع المقاومة بل ظلت تتأوه بصمت من ألم قبضته التي تحكم على ذراعها ليدنو منها منحنيا قائلا ببرود :
- إذا.. كنتن تتحدثن عن فستان الزفاف هااه .. ؟!!
ذهلت دلال وابنتيها من وسام الذي انتصب واقفا أمامهم دون أن يسمعوا لوقع أقدامه أي صوت بخفة حركته تلك التي اجفلتهم خوفا ورعبا لتبلع دلال ريقها بصعوبة وهي تقول بتلعثم :
- ن..نعم ل..لقد ك..كنا نتحدث عن.....
لكنه قاطعها بإشارة من يده لتصمت فهو يكره رؤية وجهها البغيض فما باله بسماع صوتها وكذباتها تلك ، رمقها بنظرة استحقار شديد مما جعلها تفور غضبا لا يعلم لماذا فعل ذلك فهو بنفسه لم يعرف كيف يفسر هذا التصرف الطائش الذي قام به ، انحنى من تلك المتصلبة بجانبه لتلتقي أعينهم ببعض قائلا لها بنبرة هادئة يتعمد فيها إثارة غيظهن :
- إذا يا عزيزتي سنذهب إلى أمهر خياطة لتخيط لك فستان زفافك خصيصا لك وعلى حسابي أنا ما رأيك .. ؟!!
تصلبت أطرافها ، ابتلعت ريقها بصعوبة خائفة منه من نظراته المميتة لم تعرف ماذا تفعل دقات قلبها تسارعت لكنها وبحركة بطيئة أماءت رأسها إيجابا ليبتسم نصف ابتسامة ويقول :
- إذا ماذا ننتظر سنذهب الآن ..
لف يده حولها محوطا كتفيها بأنامله الباردة لتجفل من الصدمة بملامحها المذعورة وسارا معا إلى أن وقف أمام العجوز الواقفة في إحدى الزوايا ، انحنى لها باحترام شديد وقال :
- سيدتي هلا رافقتنا للذهاب إلى خياطة الثياب لتخيط فستان زفاف عروسي فأنا أريد من يرافقها ويساعدها على الاختيار ولا أجد أفضل منك لفعلها بما أنك مربيتها ..
قال جملته الأخيرة وهو يرمق البنتين وأمهم الواقفين ينظرون إليه بصدمة ليزداد غضبهن عندما رمقهن بسخرية فكانت نظراته تدل على أنه قد اكتشف كذبتهم السوداء ، علمت حينها دلال بأن وسام ليس فقير معدم كما ظنوا سابقا من كلامه عن الذهاب لأمهر خياطه فحاولت استغلاله ومجاراته بكذبها وإثارة غضبه قليلا فتنحنحت وقالت لوسام بوقاحة مستفزة :
- سيدي يجب أن نذهب جميعا مع ابنتي العروس كما أن ابنتّي تريدان أن تخيطا لهما ثيابا أيضا لذلك فإن وجهتنا واحدة ..
أنهت كلامها بابتسامة خبيثة وهي ترمق بنتيها لتقول إحداهن :
- نعم نعم أيها السيد نحن سنساعد اختنا على اختيار الأقمشة والشرائط والكريستالات اللازمة وليس مربيتها العجوز فنحن نعرف أكثر منها بهذه المواضيع ..
احتقنت الدماء في وجه العجوز الطيبة غيضا فهي كانت تشعر بالسعادة عندما وقف وسام بجانب صغيرتها وعندما طلب منها الذهاب معهما بكل أدب كم بدا رجلا بكل ما تعنيه الكلمة لا يرضى الذل لزوجته بل يساندها ويساعدها ويحميها من كل من أراد أذيتها ، ابتسم وسام بسخرية يرمقهم ببرود وهو يعيد وضع يده على كتفها قائلا ببرود جعلهن يغتاظون أكثر وأكثر من هدوئه ولا مبالاته :
- اعتذر لك سيدتي لكني أريد بعض الخصوصية مع مخطوبتي وزوجتي المستقبلية..
ارتعش جسمها كله وكأن صاعقة كهربائية سرت فيه وجرت مجرى دمائها من قوله ذاك ، لم تستطع أن تفسر كلامه حينها من خوفها الشديد منه ، أقال يريد بعض الخصوصية معها ؟! يا إلهي ما الذي يقصده بكلامه هل سيقتلها ؟! أم يعذبها ويؤذيها ؟! ألم يقل قبلا بأنها ليست إلا ضيفة مؤقتة كيف تغيرت أقواله هكذا بهذه السرعة ؟! لكن في الحقيقة لم تكن تريد أن تعرف لأنها لو استمرت قليلا في التفكير قد يغشا عليها من الرعب ، أما دلال البغيضة فزمت شفتيها بغيض واتسعت عيناها ، أي وقاحة هذه !! كرهته بشدة وأرادت قتله من هو ليجرؤ على استفزازها بهذه الطريقة السخيفة ، رمقت زوجها السيد مازن تخبره بنظرات عينيها الغاضبة بأن يمنع وسام من الذهاب لوقاحته في التصرف أمامها فتنحنح السيد مازن وهب لمساعدة زوجته الحبيبة قائلا بصرامة :
- صحيح سيد وسام فأمها تريد الذهاب معها كما أن أخواتها يردن ذلك أيضا فرجاءً ......
استدار وسام ناحيته مقاطعا إياه بنظراته الساخرة الحادة المليئة بالحقد والكره ليقول مدعيا الحزن وهو يحرك رأسه بأسى :
- يا إلهي أهكذا يعامل الأب ابنته كنت اعتقد بأنك ستسعد جدا لأنني سأجلب لها أجمل فستان .. أليست هي العروس ؟! أليست هي أبتنك الصغيرة ؟! يجب على الأب أن يفرح لفرح ابنته أم أنني مخطئ .. !!
تصلبت أطرافه وشحب وجهه وعلم حينها أن وسام كان يهدده بكلامه ، لقد دس سمه بين حروف كلماته التي تظهر لكل من سمعها أنها حزينة لكنه في الحقيقة يخبره بأنه علم بأنها ليست بابنته ، تخبطت كلماته وتلعثمت ثم ابتلع ريقه متداركا خطورة الوضع الذي هو فيه فلو وسام اخبر السيد رأفت بكذبه عليه بأنه زوجه بفتاة لا تمد لهم بصلة لقطع له رأسه ولاشتعلت نيران الحروب بينهم مجددا ، فابتسم بغيض قائلا بارتباك :
- اا..أنا لم .. اا..اقصد .. ذ..ذلك ...
استدار وسام معطيا إياهم ظهره ثم قال لهن ببرود :
- هيا بنا ..
غمرت العجوز السعادة أخيرا أتى من ينقض صغيرتها ويعيد إليها كرامتها بعد سنين الذل والإهانة تلك التي تلقتها ، كانت الابتسامة لا تغادر محياها بوجهها الذي تشبع بالحب بين كل تلك التجاعيد لتلقي على مسامع وسام كل كلمات الشكر والعرفان على صنيعه وكم أنها ممتنة له أما صغيرتها فأخذت تمشي وراءهم بهدوء تنظر إلى خطواتها الصغيرة وكم شعرت بالسعادة حينها ، شعرت ببعض الأمان وهي واقفة بجانبه وعلمت حينها بأنهم لن يجرؤوا على أذيتها وأهانتها مجددا طالما هو موجود بجانبها ، تعالت أنفاسها فجأة وازدادت نبضات قلبها وكادت أن تبتسم إلا أنها توقفت في آخر لحظة فقد كانت تعلم تماما بل قطعا بأن ما فعله وسام قبل قليل لم يكن إلا كذبا وتمثيلا فهو من نعتها سابقا بالضيفة المؤقتة ووعدها أيضا بأن يعيدها إليهم بعد أن ينتهي من مشاكله وظروفه التي جعلته يضطر للموافقة بالزواج منها حتى هو وبتصرفه الشجاع هذا فهو لا يريدها ولن يعتبرها زوجته هي ليست إلا صفقة رابحة بين طرفين سيتخلص منها بعد أن يحصل على ما يريد إلا أن قلبها الصغير ابتسم بالرغم من أنها تعلم بكذبه فقد شعرت بالسعادة حقا ، فتاة بائسة مثلها كانت تريد أن يهتم بها ويقف معها ويساندها أي شخص ولو كان كذبا فلقد تحقق أسخف حلم رسمته في مخيلتها لتهتف بسخرية على حالها تحرك رأسها بأسى وقلة حيلة ، أما وسام فقد ازداد شحوب وجهه عندما خرج من القصر واحتدت عيناه أكثر لم يعلم لماذا فعل ذلك الأمر السخيف فهو لا يعتبرها شيء ولن يفعل لكن قلبه أبا أن يخضع له في تلك الحالة بل خانه وانقلب ضد هواه ملبيا نداءه بمساعدتها ، لم يحتمل رؤيتهم وهم يسخرون منها لم يحتمل ضعفها وعجزها فقط أراد أن..... قطع أفكاره بتنهيدة متعبة صامتة طويلة قاطعا كل أفكاره تلك التي لم تزده إلى ألما وتوترا ليتدارك وضعه الآن بأنه قال ويجب أن ينفذ ويكون عند كلمته ويذهب بها عند ابرع خياطة في البلاد ، رفع بصره للسماء واضعا أنامله الطويلة على ذقنه بدا على ملامحه قليلا من الحيرة والتردد يفكر بقلة حيلة فمن أين له أن يعرف من هي ابرع خياطة لتخيط فستان الزفاف فهو لا يعرف سوى المعسكرات ومخيمات الجيوش والجنود وأفضل الحدادين وصناع السيوف والسلاح وليس عنده أدنا فكره عما يخص الفتيات فلم يتعامل مع إحداهن عن قرب من قبل فأمه ماتت وعمره لا يزيد عن الثلاث أعوام ولا يعرف من النساء سوى السيدة هند وابنتها مايا ولم تجمعهم سوى أيام ومواقف قليلة لا تكفي بأن يفهم ويعرف كل ما يخص الفتيات ، سمع صوت أنفاس متقطعة متعبة ليستدير ببطء موجها نظره للخلف ويرى تلك العجوز تجاهد نفسها على مجاراة خطواته السريعة تجر خلفها تلك الحزينة المنكسرة التي توقع بأنها ستسقط في أي لحظة لضعف خطواتها ، توقف فجأة وقال ببرود بعد أن تدارك وضعه وأنه يسير بعجوز وفتاة صغيرة لا تقويان على السير كثيرا مشيرا بأصبعه جهة كراسي من الخشب :
- ابقيا هنا سأجلب عربة لكي نكمل طريقنا ..
توقفت العجوز ممسكة صغيرتها بأناملها تلتقط أنفاسها بصعوبة قائلة له :
- أشكرك يا سيدي ..
سار من أمامهم واختفى وما لبث إلا قليلا حتى جلب عربة مجهزة بحصانين أسودان رشيقان بعربة مغطاة من الأعلى تتدلى على جوانبها بعض الزينات الملونة يجلس رجل يكاد يبلغ الخمسين من العمر يقودها ، أشار وسام إليهما بنظره ليفهما ويتوجها نحوه ويدخلان بكل هدوء داخلها ، جلستا جنبا لجنب تشد السيدة العجوز بيد صغيرتها التي لم تتوقف أناملها عن الارتجاف أما وسام فكان يتحدث مع سائق العربة وبدا أنه يصف له مكان محددا وعندما انتهى من حديثه ضرب السائق له التحية وقال :
- حاضر سيدي ..
أومأ وسام إيجابا ودخل داخل العربة وجلس على الكنبة التي تقع أمامهم بكل برود مسندا رأسه على حافة الكنبة ينظر إلى الأعلى بشرود وكم بدا مرهقا ومتعبا يحاول جاهدا ألا تقع أنظاره على التي تجلس أمامه فكلما رآها شعر بوخز كوخز الإبر في صدره جهل معناه وما تفسيره وهذا ما يزيد الأمر عنده سوءا ، انطلقت العربة على صوت ضرب السائق للأحصنة بسوطه المدوي لتطلق الأحصنة صهيلها وتنطلق بأقصى سرعة ، بعد ما يقارب الأربع ساعات من السير المتواصل داخل العربة توقفوا بين أسواق ومتاجر صغيرة لطالما تجول وسام داخلها حيث يكاد يحفظ كل شبر فيها له ذكريات لا تعد ولا تحصى بين شوارعها ومتاجرها ، صرخ سائق العربة قائلا :
- سيدي لقد وصلنا إلى وسط المدينة ..
رفع رأسه لتتوجه عينيه نحو تلك الملاك الصغير مسنده رأسها على كتف تلك العجوز التي هي بدورها تسند رأسها على رأس صغيرتها تغطان في نوم عميق متشبثتان ببعض وكأن كل واحدة منهما تستمد القوة من الأخرى ، اخفض رأسه وتنهد بتعب لم يرد أن يقطع نومهما الهانئ ويوقظهما بل اكتفى بالخروج بهدوء بخطواته التي تتناغم مع نسمات الهواء ، تقدم للأمام بخطواته الكسولة الهادئة وشكر السائق واخرج من جيب معطفه بعض العملات الذهبية مكافأة له على إيصالهم ، مدها له لكن السائق رفضها من فوره فهي أكثر بكثير من حقه الذي يستحقه لم يكن طماعا أبدا ولم يكن يحب أكل أموال الناس ظلما فأخذ يقول لوسام بارتباك بان في نبرته بأنها كثيرة للغاية لكن وسام هز رأسه يمينا ويسارا دلالة على أنه لن يتراجع في أمر قد قاله بل سيأخذها دون أي رفض لكن السائق اشترط على وسام أنه إذا قبلها بأن يعمل عنده يوصله متى شاء وأينما شاء وأنه سيكون تحت أمره لثلاثة أيام كاملة فما أعطاه من عملات ذهبية تبدو كراتب شهر وليس ثمنا لإيصالهم ، راقت الفكرة لوسام كثيرا فبعد ارتباطه بهذه الفتاة لم يعد باستطاعته التجول سيرا على الأقدام فيبدو بأنها ستعيق حركته كثيرا وتعرقلها فلا بد من وجود العربة ، أومأ وسام بالإيجاب وقال ببسمة بسيطة ظهرت أخيرا على ثغرة :
- أشكرك ..









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً