عرض مشاركة واحدة
قديم 18-06-20, 03:00 AM   #3

أماني عطا الله

? العضوٌ??? » 472399
?  التسِجيلٌ » May 2020
? مشَارَ?اتْي » 53
?  نُقآطِيْ » أماني عطا الله is on a distinguished road
افتراضي وعاد ينبض من جديد

الحلقة الأولى:

انطلق القطار في طريقه إلى أسوان وتعلقت عيناه بتلك الجالسة على المقعد المقابل لمقعده.. لم يكن جمالها وحده هو ما يجذبه إليها بقدر ما جذبه حزنها الرهيب الذي أسرها معه إلى عالم آخر.. كانت شاردة إلى الحد الذي منعها من الإحساس بجلوسه في مواجهتها.
يستطيع أن يقسم بأنها لا تبصر شيئًا رغم تحديقها في وجوه كل المسافرين من خلال زجاج النافذة التي التصقت بها.. تخفي نفسها من شيء ما.. استدارت نحوه تائهة وانهمرت دموعها كشلالات غزيرة حاولت جاهدة أن تصدها بكلتا يديها بلا جدوى.
تراجِعت في فزع عندما مد إليها يده ببعض المناديل الورقية في محاولة للمساعدة.. رفعت إليه وجهًا كسماء يوم شتوي قارص لبدتها السحب والغيوم.. كانت صغيرة لم تتجاوز العشرين بعد.. هشة كالفراشات.. قسماتها جميلة متناسقة.. كل ما فيها رقيق خجول.. عدا ذلك الحزن العنيف..
تجاهلت يده قليلًا وهي تحاول فتح حقيبة صغيرة تتمسك بها.. فأوقعتها أرضًا وتناثرت محتوياتها.. ساعدها في جمعها.. لم يكن بها "مناديل".
عاد يمد يده بالمناديل قائلًا:
- تفضلي.
قبلتها منه بيد ترتجف وهزت رأسها شاكرة.. حاولت التحكم في انفعالاتها من أجل هذا الغريب الذي ينظر إليها في حيرة:
- بالله كُفي عن البكاء.. وأخبريني كيف يمكنني مساعدتك..
زادتها كلماته إحباطًا فانهمرت دموعها بغزارة أكبر.. زفر بضيق وهو يتناول منديلًا آخر ليقدمه لها لكنه ما لبث أن وضع المنديل في جيب سترته وقدم إليها العلبة كاملةً وهو يحذرها مبتسمًا:
- ليس معي مناديل أخرى...
ساد الصمت بينهما فترة حتى هدأت أخيرًا وهمست من بين انفعالاتها المتشنجة:
- شكرًا لك.
ابتسم في ود قائلًا:
- شريف حمدي .. طبيب بشري.
هزت رأسها مُرحبةً فأردف:
- وأنتِ... ما اسمك؟
تأملته في حذر قبل أن تهمس في صوت بالكاد وصل مسامعه:
- سالي.
- سالي... يا له من اسم جميل..!
ترى ماذا سيفعل عندما يعلم بهروبها.. وماذا عن النقود التي سرقتها من الخزانة.. كلا.. لم تسرقها بل هي ثمن بخس لحياتها التي تلاعب بها... كثيرًا ما أخبرها بأنه سيعثر عليها أينما ذهبت... لهذا السبب لم تذهب إلى منزل جدتها... حان الوقت كي تختفي من حياته للأبد.
- سالي.. سالي....... سالي...
استيقظت من شرودها لتتمعن في رفيق القطار... كان شابًا في بداية الثلاثينات تقريبًا.. مُعتدل القامة.. خمري البشرة.. أسود الشعر ويضع نظارة طبية رقيقة.. يبدو جادًا وصارمًا رغم العطف الذي يبديه نحوها.
- لماذا أنتِ فزِعة.. وخائفة.. وشاردة إلى هذا الحد؟!
هزت رأسها في ارتباك قائلة:
- أنا... أنتَ واهم.
ابتسم قائلًا:
- واهم.. أتمنى هذا.
عادا للصمت من جديد حتى قطعه:
- من لكِ في أسوان؟
غمغمت في دهشة ممزوجة بالخوف:
- أسوان....!
- هذا القطار متجه إلى أسوان.. ألا تعلمين هذا...؟!
- نعم... نعم... أنا ذاهبة إلى أسوان.
- من سيكون في انتظارك عندما يصل القطار؟
- لا أحد... أعرف طريقي بمفردي.
- سالي... مِمَّن تهربين؟
- أهرب..! قلتُ لكَ أنتَ واهم.
- أنتِ صغيرة و...
قاطعته غاضبة:
- أنا ممتنة لك على ما قدمته لي.. وسأكون أكثر امتنانًا إذا ما توقفت عن الكلام والتزمت الصمت.
أشار بيده قائلًا:
- آسف.
تنهدت بعمق والتفتت إلى النافذة تحدق في اللاشيء من جديد.. وعاد يتلصص النظر إليها عاجزًا عن منع نفسه من الاهتمام بشأنها..! ترى من هي هذه الفتاة..؟ من أي شيء هاربة..؟ وماذا سيحدث لها بعد ساعات قليلة؟ لماذا ترفض مساعدته؟
فتح حقيبته وأخرج منها بعض الشطائر التي أعدتها والدته من أجله وألحت عليه كي يتناولها أثناء رحلته بالقطار.. فلتذهب هذه الفتاة للجحيم ما الذي يجبره على الاهتمام بفتاة طائشة عنيدة مثلها؟!!
كان غاضبًا جدًا.. شعر بإهانة كبيرة على يد هذه الطفلة.. ولكنه وجد نفسه يردد اسمها دون إرادته ويقدم لها بعضًا من طعامه:
- سالي... تفضلي.
التفتت إليه... شعرت فجأة بجوع شديد.. منذ فترة طويلة لم يدخل جوفها الطعام.. فكرت بالرفض لكنها عدلت عن فكرتها وهي ترى ابتسامته المشجعة ويده الممدودة إليها باستماتة وإصرار.
ابتسمت شاكرة وهي تتناول الشطيرة من يده وتقضم بعضها في نهم قائلة:
- من أجل الطفل فقـ...
اختنقت الكلمات وكادت تختنق معها عندما انحشرت قطعة من الطعام في حلقها بينما اتسعت عيناه وهو يلقي نظرة سريعة على بطنها قبل أن يتظاهر باللامبالاة ويعاود قضم شطيرته في هدوء مصطنع.
حاولت أن تقلده وراحت تبتلع شطيرتها في صعوبة بالغة حتى نجحت أخيرًا في الانتهاء منها.
قدم لها أخرى فهزت رأسها رفضًا.. لكنه أصر قائلًا:
- من أجل الطفل.
حدقت في وجهه وابتلعت ريقها بانفعال... أهي خائفة من عابر السبيل هذا الذي اكتشف سرها مصادفة...؟
كيف إذًا ستواجه العالم كله قريبًا.. عليها أن تتحلى بالشجاعة بالفعل لا أن تتصنعها فقط ..
مدت يدها تتناول منه الشطيرة قائلة بصوت ثابت:
- من أجل الطفل.
قال بعد فترة:
- أنا تخصص "أمراض نساء وتوليد".
- تشرفت بمعرفتك.
- هل أنتِ متزوجة؟
- ليس هذا من شأنك.
عض على شفتيه قبل أن يتنهد قائلًا:
- توقعت هذا.
- ما الذي توقعته ؟!
لاحظت الاتهام في عينيه واضحًا.. فأردفت:
- نعم كنتُ متزوجة.. ولكن ليس زواجًا عاديًا.. إنما...
- زواجًا عرفيًا إذًا.
بماذا تخبره..؟ ربما ظنه هذا أفضل كثيرًا مما ستخبره به.. فما كان بينها وبين حسام.. أو هكذا تخيلت.. زواج روحي.. لا يُخط على الورق.. هزت رأسها صامتة.. لكنه عاد يقول بضيق وهو يشعل سيجارة :
- لا فرق كثيرًا بين الزواج العرفي والخطيئة.. كلاهما ينتهي بمأساة من وجهة نظري.
تأملته غاضبة ها هو وجهه الصارم قد بدأ في الظهور.. تلاشت الحنية الزائفة التي كان يمثلها.. ترى هل سيشاركه المجتمع تلك النظرة الدونية إليها..؟ ألن يوجد من يغفر لها سقطة في لحظة ضعف؟
- اسمعينى جيدًا.. أنا اؤمن كثيرًا بالقدر.
- ماذا تعني؟
- أعني أن القدر لم يضعني في طريقك عبثًا... أستطيع مساعدتك على تخطي هذه الكارثة.
تأمل عينيها المتعلقتين بوجهه في رجاء وأردف:
- في أي شهر أنتِ؟
- الشهر الثاني.
- ممتاز.
فهمت ما يعنيه فهتفت معترضة:
- لن أقبل بأي حلول ثمنها التخلي عن طفلي.
- فكري جيدا قبل أن ترفضي عرضًا من السماء.
- عرضًا من السماء.. أليس الإجهاض محرمًا..؟!
- بلى... أنا لا أقبل إجراء عمليات من هذا النوع... ولكن في حالتك فهو فرصتك الوحيدة للحياة من جديد.
- أنا لا أحتاج مساعدتك.. حياتي ثمنٌ لطفلي.
- كفاكِ عنادًا وطيشًا أوصلك لما أنتِ فيه الآن.
تحجرت الدموع بعينيها وهي تنتهره ساخطة:
- كُف أنتَ عن محاكمتي.. ليس لكَ الحق في إدانتي.
زفر بضيق قبل أن يهمس في صدق:
- أنا لا أدينك.. لكنني أخشى أن أتركك فتسقطين في يد من لا يرحم.
- ماذا تعني؟
- أنت صغيرة.. وجميلة.. أخشى أن يقودك أحدهم في طريق لا عودة منه.
تسرب بعض القلق إلى قسماتها لكنها عادت تقول وهي تهز رأسها في عناد أزعجه:
- لن أتخلى عنه.. لن أفعل به كما فعل الجميع بي.. سيكون طفلي وأخي وحبيبي ومعيني في هذه الحياة.. سوف نعيشها معًا أو نتركها معًا.
تأملها بدهشة.. ما الذي يجعلها تتمسك بطفل مثله لهذه الدرجة..؟!
- حسنًا.. اعتبريني عابر سبيل واخبريني قصتك تفصيلًا.. فربما أمكنني الإمساك بخيط ما استطيع به إنقاذك أنتِ والطفل معًا.

حدقت فيه طويلًا قبل أن تذهب إلى عالمها القاسي.. عالمها الذي هربت للتو منه إلى عالم جديد لا تعرف بعد كيف ستواجهه.. ولكم تخشى أن يكون أقسى..!






التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 18-06-20 الساعة 10:38 AM
أماني عطا الله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس