عرض مشاركة واحدة
قديم 20-06-20, 06:30 PM   #3

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي


🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹الفصل الأول 🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

كانت تعلم أنها تقف على مفترق طرق، إما الموافقة فتحصل على كل ما أملت به أو الخسارة فتعود أدراجها بأول خيبة ستكون افتتاحا مخزيا لمشروع حياتها.
(سيدة ضحى!.. من فضلك فكري جيدا بكل ما ستُفيدين به غيرك وبما ستمنحينه من تجربة وفائدة للنساء كي لا يقعن في نفس الأخطاء..!)
حاولت مجددا هي التي كانت واثقة من جدارتها بمناصبها التي ارتقت سلمهم درجة درجة، حتى تربعت على قمة عرش مجدها.
طال صمت ضحى وظهرها إليها بوقفتها الجامدة، رأسها مطرق على صندوق الأزهار فلا تحصل وداد على إشارة واحدة تمنحها ومضة صغيرة عن ردة فعلها.
نفد صبرها وتهاوت آمالها وقد بدأ عقلها بالفعل في بحثه العملي بين شخصيات أخرى محتملة دونتها على شكل لائحة في مذكرتها الشخصية، لن تُحبط من أول محاولة فاشلة، هذا طريقها وستحاول وتعيد المحاولة لتصنع من فشلها تجربة توصلها إلى قمة النجاح في النهاية.
(حسنا سيدتي أعتذر عن ازعاجك ... كنت أود فعلا لو أحصل على قصتك ... لكن لا بأس ..أتفهم أسبابك ... إلى اللقاء..)
استدارت تهم بالمغادرة رغم الرياح العاصفة خارجا، لكن ثقل الخسارة بعد قمم الفلاح مرات ومرات يُسبب الحزن ويدفع بالدمع حتى لو تجاهلت ذلك وتناسته كما دأبت في سالف عهدها.
(انتظري!)
تسمرت قدماها على بعد خطوات من الباب حيث يقبع وعاءين ضخمين من الخزف على جانبي المدخل يحتضنان نبتتي الصبار من النوع الدائري الضخم كدلالة أخرى على طقس المدينة الجاف القريب من الطقس الصحراوي، إلا أن أرضها احتفظت بالقليل من الخصوبة لتجود بها على ساكنيها ببعض من الخضرة تُروِّح عنهم بها عناء تقلب مناخها وزيارات رياحها الموسمية.
استدارت بلهفةٍ واضحة لتجدها هي الأخرى قد أدارت جسدها نحوها لتولي الحاجز الرخامي ظهرها تفصل بينهما مسافة صغيرة فارغة وعلى يمينها تقبع أريكة جلدية، بنية ومتوسطة الحجم يجاورها كرسي من نفس الخامة، أمامهما طاولة فضية منخفضة ذات زخرفة عربية تقليدية قرب النافذة الوحيدة للمحل.... هو بالفعل محل بسيط ودافئ بحميميته، ألوان الجدران الكريمية و بعض اللوحات الفنية لبنايات أثرية اشتهرت بها تلك المدينة، يطلق عليها "القصبات التاريخية" معلقة على الجدران بأناقة اجتمعت مع البساطة فمنحت المكان طلة مبهرة.
نظرت إليها باستفسار حائر ولأول مرة منذ دخولها تتأمل لباسها المكون من طرحة وفستان طويل أسودين على أطرافهما خياطة بلون بني فاتح، يُطَوق خصرها حزام متمغط من نفس نسيج الفستان، عليه سترة بلون بني فاتح، كل ما فيها يشبه محلها، متأنقة ببساطة منحتها طلة أنيقة.
(عفو!)
تحدثت وداد مستفسرة فتقدمت ضحى بتمهل إلى أن وقفت أمامها تحدق بها للحظات طالت حتى ارتجف قلب وداد توترا، لترحمها أخيرا وهي تقول لها بنبرتها الهادئة الفاقدة لأي شعلة من حماس أو حتى حياة: (أنت بكل ما تملكينه من صبر فاقدته يا دكتورة!)
من المفترض أن تغضب الآن أو أن تشعر بالحنق من برودة هذه المرأة أمامها إلا أن نور هدفها الذي سيسطع يوما ما في المستقبل حين تنجح في مساعيها يمنحها سكينة غريبة كمخدر يلوذ بها إلى مزيد من الصبر، فما تريده وتسعى إليه يستحق منها صقيعا مماثلا للجليد المتمثل في امرأة شابة تجاوزت منتصف العشرينات بسنتين، لكن كل كيانها يظهر أكثر من ذلك بأعوام كثيرة: ( ومخطئة في أمر آخر....)
أضافت ضحى بشيء من الوجوم فارتسمت نظرة متسائلة على ملامح وداد، وأعدّت نفسها للمزيد من الانتظار حتى تحصل على كلمات مفسرة: (منذ أن عدت إلى هنا وقصتي فعلا كانت قد انتهت ...)
أخذت وداد شهيقا خافتا طويلا ثم تنهدت بزفيره لترد عليها بهدوء: (لا أنكر حيرتي حول موضوع عودتك وكيف أقنعت السيد أثير بذلك؟...لابد من أنه يحبك بحق... رغم كل ما حدث...ومازال يحدث...)
كلماتها الختامية فرت من بين شفتيها بحذر رغم لهفة الفضول فيها، فهزت الأخرى كتفيها ببساطة ترد عليها بطريقتها المتمهلة: (إنه فعلا يحبني... لكن لا علاقة لذلك بأمر عودتي... لقد كان أمرا محتوما... هنا ولدت وهنا كبرت .... وهنا تعلمت درسي الأول والأخير... وما كانت رحلتي إلى المدينة الكبرى سوى لغاية حين انقضت كان من الطبيعي أن أعود....)
تحمست جميع أطراف وداد وتأهبت لالتقاط كل همسة وحركة أو حتى نفس بأي طريقة يفر من صدر محدثتها وبين حروف كلماتها: (وما كنت أبدا لأعود لو لم تكن قصتي قد انتهت بالفعل.... )
ابتسمت وداد ولمعة مقلتيها تشع بالفضول الحارق، تتلبسها حالة الصقر وهو يطارد فريسته على بعد أميال من المسافة بين السماء والأرض: (إذن أنت موافقة؟...أحضرت معي عقدا ينص على عدم ذكر الأسماء سوى بأول حرف فقط ... وإن أردتِ أختار أسماءا وهمية أو ألقاب...)
لاحقت نظرات وداد المترقبة كف ضحى وهي تمسد بها توب فستانها على أعلى ساقيها بحركات بطيئة توحي بسهوها قبل أن تعود لتنظر إليها مجيبة بجمود: (أعلم أنك أذكى من أن تشتري عداوة زوجي لكن من أين نبدأ؟....فمفهوم البداية مختلف من معنى لآخر... )
هدأت بسمة وداد المتحمسة وتقدمت نحوها خطوة واحدة ترد عليها بذكاء: (البنود واضحة، خذي وقتك لتقرئيها بتمعن وكل ما ستقولينه لن أستطيع التصرف ب إن لم توقعي على العقد.. كما سبق وأشرتِ أنا أذكى من أن أشتري عداوة الأجاويد وليس هدفي أي مشاكل صدقيني!... أريد ما تختارينه أنت.... احكي كما تشائين ولا يهمك شيء.. أنا سأرتب القصة.. فقط أخرجي ما في أحشائك ....)
كفها في مكانها تمسد بطريقتها التي تشبه جميع حركاتها وهي ترمقها بتلك النظرة المهيبة بركودها وكأنها خالية من سمات الحياة، لتقرر العودة إلى مكانها قرب النافذة حيث وجدتها حين دخلت المحل قبل ساعة بالضبط، لكنها اختارت الجلوس على الكرسي المنفرد وسرعان ما رحلت مقلتيها إلى ما خلف بلور النافذة بينما ينبتق الضياع عبر موجات لون القهوة الغامق داخل عينيها تتمازج بموجات الرياح عبر الأزقة والتي تعصف بكل ما تجده في طريقها فيتطاير مثل الخرق البالية ليبدو بلا قيمة، بلا عنوان، بلا معالم.
(هل تعلمين ما هو أكثر شيء افتقدته بعيدا عن هنا؟...)
لم يبدُ عليها انتظار ردٍّ ووداد قد تفهمت ذلك، فاقتربت بحرص وجلست بهدوء تدعو الله أن تستمر الرياح في معاركها فلا يقاطع جلستهما متطفل.
وضعت نسخ العقد على الطاولة وسحبت جهاز تسجيل صغير، قامت بتشغيله ثم التقطت مفكرتها من جيب سترتها لتبدأ تأملها المتفحص لمن سرحت تُحدث الرياح وكأنها وحيدة لا يشاركها أحد المكان ولا الزمان.
(الرياح!.... صوتها في قمة هيجانها بالنسبة لقلبي كأنشودة ابتهال ناعمة...هادئة ... مريحة للنفس... مبهجة للروح ... كيف لا وهي البداية؟... بداية طفولة سعيدة... براءة اقتسمتها مع عائلتي جيراني ..صديقاتي...اسمعي!)
رفعت كفها تشير بها عبر الهواء ورأسها يميل على جانبه ببطء وروية وكأنها تعيش الذكرى مرة أخرى بل تعيشها كما هي أول مرة.
(اسمعي الضحكات تتعالى عبر الطرقات ... فتيات عائدات من المدارس على الدراجات الهوائية، يقاومن قوة الرياح ويتحدينها حتى يبلغ منهن التعب ما يفوق طاقتهن، فيستسلمن وينزلن على الأرض بعد أن قررن جرها ما تبقى من المسافة .. البسمة على ثغورهن تواجه التراب المثار عن جحوره دون مبالاة ولا اهتمام... وكل ما يهمهن حل واجب مدرسي ومساعدة أمهاتهن في توضيب منازلهن.... وبين المدرسة والمنزل تنزلق بعض الأحاديث بخجل ومرح عن الحب والرومانسية ... )
أعادت كفها فوق حجرها لتكمل ووجهها لا يفارق وجهة النافذة نحو الرياح وكأنها تحكي لها اشتياقها وعشقها للماضي برفقتها: (ما أحلاها من أيام! وما أمرُّه من وهم يعيشه الأطفال بسذاجة تخطو بهم نحو أعتاب النضوج، فيبنون أسوار قواعدهم بما يتلقونه من حولهم...)
نظرت إليها فجأة، فشهقت وداد بخفة مجفلة من كم القسوة التي احتلت لأول مرة قسمات وجهها الجامدة بينما تسترسل بنبرة مشبعة بالمرارة: (وكل ما يتلقونه زيف! ...خداع!...أخطاء! ... إعلام يبرر كل تجاوز وذنب بالحب ... ومدرسة كل تركيزها على الواجهة والمظاهر بينما الستارة تخفي خلفها مصائب.... وأسرة!....)
تهدل كتفاها وعادت ترخي ظهرها على الكرسي تسترسل بجمود استأنفته كما عادت إلى تأمل الرياح: (أسرة تخشى الحوار رغم الاحتواء.... هل هو الخوف؟... أو الإحراج؟... أو حتى الجهل؟... أم كلهم مجتمعين لتكون النتيجة فرض قوانين فقدت صلتها بالشرع وظلت بزي العيب والعُرف... وتاهت النفوس بين كل ذلك ... لكنه ليس بتبرير ولا حجة... وخير دليل أنا!... دفعت الثمن غاليا بعد أن تساهلت وقلدت وبررت كل معصية بالحب... رأيت ذلك في الأفلام والمسلسلات وحتى الروايات ولم يحدث للشخصيات فيها ما حدث معي...)
توجهت إليها مرة أخرى بنظراتها الخاوية من أي أثر للحياة: (أتدرين لماذا؟)
مجددا لم تنتظر الرد بينما تجيب نفسها بتمهل جامد: (لأن أولئك كانوا زيفا ..تأليفا...انعكاسا لتفكير كاتب مستهتر أو مستهدِف ... واجهة مخادعة... كذب! ...وأنا!... جسدت الواقع... الواقع المُر... كنت ضحيتهم ...ضحية كل شريط ومسرحية ومسلسل وأيضا رواية بررت المعصية بالحب والمشاعر الجياشة... فقلدت وكان أول درس دفعت ثمنه غاليا، فكنت ضحية نفسي قبل كل شيء آخر...)
لاذت بالصمت بعد أن التفتت إلى النافذة وبدا لوداد أنها ضاعت بين سراديب ذكرياتها، فنطقت بحذر تعيدها إلى وعيها: (هل زوجك الأول سبب دخولك للسجن؟)
يا الله! كم هي نظراتها مخيفة بكل ذلك الجمود بين أهدابٍ ناعسة وكأنه اليأس بعينه!.... تعبير دار في خلد وداد بينما ضحى ترمقها بخواء تبعه عودة إلى النافذة بتجاهل غريب.
تفقدت وداد ساعتها وعلمت أن الباقي من زمانها في ذلك اليوم العاصف ليس بالكثير ففكرت ثم حزمت أمرها تدفعها لاتجاه آخر: (كيف كان لقاؤك بالسيد أثير؟)
حسنا هذا جيد! فكرت وداد وشعور بالراحة عاد ليكتنفها جراء تلك البسمة التي ظهرت على جانب شفتيها بتمهل يليق بها، فكان ردها ساهما لحقت به نظراتها إلى عالم الذكريات: (لقاء مدبر لكن مقدر بنكهة صُدفة ... )
قطبت وداد مستغربة من كلماتها ولكن ضحى كانت قد راحت بالفعل محلقة بين سحب الماضي القريب قبل البعيد، فتارة تنطق بما تلتقطه وداد فتدونه بلهفة وتارة تلتزم الصمت بينما تراقب مشاهد حياتها بعين مشاهد لا يمت لما يُعرض عليه بصلة، فكان أول ما فرت إليه ذكرياتها ذاك اليوم الذي قررت فيه أخيرا اتخاذ أول الخطوات نحو حق كان يجب أن يُرد إلى أصحابه حتى لو كانوا في وقت ما ظالمين لأنفسهم.
اليوم الأخير من شهرٍ أتمته في مدينة غريبة زارتها في حياتها مرة أو مرتين، شهر رتبت فيه أمورها في بيت عمها حيث استقرت بعد أن طلبت من أهلها السفر إليهم لحاجة في نفسها لم تخبرهم بها، فساندوها بحجة النسيان، حقا!
وكأنها ستنسى ما حدث معها!
وكأنها ستنسى خمس سنوات في السجن!
دخلته في العشرين من عمرها بنفس مكسورة وقلب مقهور وجسد تعرّف الألم بكل أنواعه، لتخرج منه في الخامسة والعشرين بنفس تبلدت مشاعرها ونظرات خاوية، قلب مفطور وآمال لم تعد لها علاقة بالدنيا الفانية.
ما زالت ذكرى صباح ذلك اليوم حين شاركت زوجة عمها تحضير الفطور كالعادة يسكن خيالها، امرأة متفهمة، واعية وحنونة، لطالما أحبتها ضحى منذ أول يوم أحضرها عمها بعد أن تزوج بها وهي ابنة مدينة أخرى، فتقربت منها وتقاسمت معها أسرار العمر الفتي والأحلام الساذجة وبالرغم من بعدها وسكنها في المدينة الكبرى إلا أن ذلك لم يمنعهما من صداقة صادقة جمعتهما وإن كان فارق السن بينهما تعدى الأربع سنوات.
ولعل برودة شخصيتها المستحدثة بعد صدمات تلقها قلبها كوصلات كهربائية مميتة مما أدى إلى انطوائها بعيدا عن حياتها السابقة وما يتعلق بها من علاقات، من بينها علاقتها بزوجة عمها، ما جعلها تتخذ قرار المكوث في بيتها ومحاولة إبداء تجاوب لتقربها منها وإن كان تجاوب مشوه كشخصيتها المشوهة، فأين هي الآن من تلك الضحى الضاحكة المنطلقة والمليئة بالتفاؤل؟!... لم يتبقّ منها سوى ذكرى باهتة باردة.
لن تنكر أن غايتها في ذلك اليوم تعدت مجرد محاولة استجابة لتقرب زوجة عمها منها إلى أول خطوة على طريق نيل هدفها حين طلبت منها مساعدتها في خَبز نوع حلو معين لتحمله إلى صديقةٍ لها وعدتها بعملٍ في مجمع تجاري مشهور بضخامته كبائعة في محل ورود.
كم كانت السعادة بادية على وجه المرأة الطيبة والحماس يشع منها ببهجة بينما تحضّر معها الحلوى التي رتبتها بنفسها في علبة هدايا فاخرة ثم عرضت عليها إيصالها بنفسها إلى مكان المجمع التجاري، ذاك المكان حيث بدأت أياما جديدة كليا عن كل ما عاشته من قبل، فكان لقاء مقدرا مقصودا لكن بنكهة صدفة بكل ما حمله معه من مفاجآت.
نزلت من سيارة زوجة عمها بعد أن ودعتها بكلمات مقتضبة فرحت بها الأخيرة كتجاوب تفاءلت به كبداية لعودتها إلى شخصيتها الأولى، فأسرت في نفسها شعورَ شفقةٍ نحوها" مسكينة المرأة الطيبة، لا تعلم أنها إلى ما كانت عليه في الماضي لن تعود، فكيف يعود المفقود وقد كرهه الفاقد؟!"
تسمرت أمام بناية ضخمة طولا وعرضا فشعرت بقشعريرة سرت بتمهل عبر أوردتها، بين يديها علبة بيضاء بحواف ذهبية، ترتدي تنورة سوداء فضفاضة وقميص زهري عليه سترة سوداء من نفس خامة نسيج التنورة وحذاء رياضي بسيط بلون زهري وطرحة طويلة الطرفين سوداء على حافة طرفيها ورود زهرية صغيرة باهتة.
عبأت صدرها بأنفاس مرتعشة وعينيها الناعستين لا تستوعبان كم الضخامة أمامها بكل صخبه وازدحامه، لكنها حزمت أمرها وعدّلت حقيبة ظهرها ذات الحزام المنفرد ثم مشت بإصرار خبا ما إن لاح لها المصعد المعلوم بينما الوقت لا تملك منه الكثير، ساعة معلومة ودقائق معلومة بل وحتى الثواني، إن تأخرت عنها فرت منها الفرصة ووجب عليها الانتظار مجددا، لكن ألم تنتظر بما فيه الكفاية وحان الوقت؟! لقد حان الوقت فعلا!
كلمات ترددت داخل عقلها بنبرة واهنة نهشها المرض وغص بها الندم حيث لا فائدة منه ترجى، كلمات تؤنب ضميرها وتستنفر مواطن عاطفة جفت آبارها فلم ييأس من حفرها مرة بعد مرة في انتظار الغيث وفي انتظار الحياة!
(عديني يا ضحى! عديني بأن تحققي لي رغبتي! عديني يا ابنتي! )
(أعدك! )
كلمة نطقتها بحرقة كانت أول شعور حقيقي تفاعلت به أحشاؤها بعد أن فقدت جميع كيانها ومقدرتها على الإحساس.
(عديني يا ضحى عديني! )
عادت الكلمات لترن بجرس إنذارها فتقدمت نحو المصعد بتصميم تجدد داخلها، ستفي بوعدها، ستفي بوعدها! ودخلت المصعد ودخل هو خلفها ليُغلق بابه عليهما!
انزوت في ركن المصعد الذي ولحسن حظها كانت غرفته واسعة وكلها مرايا مما ساعد في إضاءة مساحته.
رفعت العلبة بين يديها وظلت ترمق الأرض دون أن ترفع عينيها تهمس لنفسها بتحدي صامت: (لنرى مدى معرفتك به؟... واحد... إثنان ...ثلاثة...)
(عفوا)
رفعت رأسها ما إن سمعت نبرته، وكأن روحا أخرى تلبستها أو ربما روح الأخرى من لحقت بها لتتأكد من وفائها بوعدها الذي انتزعته منها انتزاعا، فماذا يكون التفسير لما يحدث معها سوى ذلك؟ حين نظرت إليه مباشرة في عينيه، لم تتفقد باقي الملامح، فقط مقلتيه حيث لمست ظلاّ لها... لمن أنجبته وفقدته، نفس اللون المظلم، نفس الشكل الواسع، نفس الرموش الكثة السوداء، أجل! الآن علمت السر! لقد وجدت شيئا مألوفا تتعلق به فينسيها خوفها وترددها وييسر عليها الوفاء بوعدها.
كان من الغريب فعلا أن يتنازل ويحدثها، فهو ذاك الرجل ذو الواجهة الجامدة، من أولئك الذين يبقون بين طيات صفحات المجلات والجرائد، مظهر جذاب وواجهة لامعة، أناقة براقة، ولن تقول وسامة، فمع جسد عادي حتى والكثير من المال تُشترى الوسامة بل وتُصنع كأي منتوج آخر.
باختصار، هو مثال حي للشخصيات اللاتي كانت تقرأ عنها في الروايات وشتان ما بينه وبين الآخر الذي ظنت به نفس الشيء، ولكنها هي الآن ليست نفس الشخص، فقد أسقط جدار السذاجة وكشفت ستارة الكواليس عن كل ما خفي، والأنوار الساطعة التي تعمي البصيرة قد انطفأت جميعها وكل شيء أضحى أمامها كليلة حالكة السواد لكن واضحة ومكشوفة بشكل غريب.
لمحت بعض التوتر في عينيه رغم القوة المشعة منهما، عززه تبات جسده في مواجهتها لتنزل قليلا بعينيها تمشط بهما بدلته السوداء حتى قميصه وربطة عنقه كلها سواد لامع كحذائه، لقد كان فعلا رمزا للثراء والويل لمن يعميه البريق حتى يحترق به حرقا دون دراية!
لم تنطق ببنت شفة وهي تنتظر ما تعلمه سابقا، تقف بنفس الثبات وقد هدأت دقات قلبها كدليل وحيد سابق عن توترها، لتزيد قناعتها بأن تلك التجربة فعلا ستفيدها كما قالت الطبيبة النفسية أثناء فترة حبسها، حين أخبرتها أنها في حاجة لمغامرة تجبرها على اشتعال مشاعرها لا يهم نوعها، غضب، سخط، خوف، سعادة، شيء ما يكسر جدار البلادة التي سكنتها كرد فعل أو مقاومة لما عاشته لسنتين كاملتين في الجحيم، لكنها طبعا لم تعني هذا النوع من المغامرة!
(أعتذر يا آنسة ...لا تعتبريها قلة ذوق مني...هل هذه حلوى العسل؟)
نظرت إلى العلبة ثم عادت إليه تطلق سراح بسمة خشيت أن تخونها في تلك اللحظة، فقد نسيت أمرها تماما منذ سنوات طويلة فخرجت وإن كانت باردة بعض الشيء، لا بأس! ستتعود.
(أجل سيدي.... هل تريد منها؟... تفضل!)
كانت تفتح العلبة وهو يبتسم لها بالمقابل بسمةً لو كانت نفسها الحالمية السالفة من تلقتها لطعن قلبها بسهم قاتل في هواه.
(صدقيني يا آنسة .. لا أفعل هذا عادة، ولكن هذا الحلو بالتحديد نقطة ضعفي .... خصوصا إذا تم غَمْرُه بعسل النحل لا عسل السكر...وهذا قليل من يفعله الآن... يمكنني دفع ثمنه!...)
رفعت نحوه العلبة المفتوحة بينما تجيبه بنبرتها المتمهلة الهادئة وكأن العالم كله ملك لها بزمانه ومساحته: (لا بأس سيدي... إنه فعلا مغمور بعسل النحل... تفضل...)
مد يده ليسحب واحدة بملامحه الرزينة المغلفة لحماسةٍ طفولية تُقسم يقينا أنها خانته وطفت عاليا في لحظة سهو تنازل فيها عن حذره: (رجاءاً! دعيني أدفع ثمنها... لابد من أنها غالية بما أنها غُمِرت بعسل النحل... لو تسمحين من فضلك ....ما اسم المحل حيث اشتريتها؟...)
اختفت البسمة من على ثغرها وقد انتهت قوتها على الادعاء، تجيبه بنبرتها وملامحها الراكدة: (لم أشترها يا سيدي... إنها من صنع يدي ... يمكنك أخذها كلها... سأخبز غيرها...)
دفعت بالعلبة قرب صدره، فأمسك بها محرجا، حرجا لا يعلم متى آخر عهده به، ولقد اعترف لها بذلك لاحقا' معها عاش مشاعر كان قد نسيها في خضم طواحين الحياة، ولم تخبره بأنها مثله تماما.
(لا... هذا كثير ...أعتذر إليك آنسة....)
الاعتذار أمر آخر لم يكن من ضمن تصرفاته اليومية، إنه لموقف غريب بالفعل!
(لا داعي للاعتذار... فلتهنأ به... )
ثم نظرت نحو الشاشة حيث تومض أرقام الطوابق تستدرك بوجوم لم تدّعيهأوشكنا على الوصول إلى الطابق الأخير وأنا غايتي الثالث...)
أطرقت برأسها تفكر، فأتتها نبرته الرخيمة وكأنه استعاد واجهته التي انزلقت منه لوهلة بسبب المفاجأة والغرابة: (هل تعملين في المحلات أم أنك زائرة؟...)
لم تنظر إليه حين ردت عليه، بل توجهت بأنظارها الخاوية نحو باب المصعد: (كلاهما على ما أظن ...)
(عفو!)
سأل بحذر فاستدركت بعد لحظة صمت: (أنوي زيارة امرأة دبرت لي عملا في محل جوار محلها ...)
لم تنظر نحوه ولم تشعر برغبة في ذلك، كل اهتمامها منصب على رعشة قلبها من الخوف..... إنها تسترجع قلبها، مادام يرتعش خوفا فهي تسترجعه.
وكأن فرار مقلتيها منه استفزه لأنه وقف حائلا بين طرف باب المصعد ودفّته كي لا ينغلق بينما يقول لها بنبرة شابها بعض الترفع: (هذا يعني أنك لم تعملي بعد....)
أخذت نفسا بتمهل ثم أومأت وهي ما تزال ترمق حذاءه بعد أن احتل وجهة أنظارها، فتنحنح ثم تفوه بكلمات رسمية قبل اختفائه: (شكرا لك على الحلوى وأتمنى لك حظا جيدا...)
أطلقت زفيرا طويلا، وأرخت ظهرها على المرآة خلفها تهمس لنفسها بمهادنة: (لا بأس يا ضحى... أنت فتحت الباب... دعيه يأتي إليك ... سيفعل!... هي قالت ذلك ... سيفعل!... ومع قليل من الحظ سيأتي الآخر...)
لم تستطع دفع القسوة من على وجهها حين ذُكر المعني، فعادت كل مراكز أحاسيسها إلى تبلدها وراح كل ما حققته من تقدم في داخلها أدراج الرياح مع مجرد ذكرى عابرة للآخر.

مرت أيام على بداية عملها في محل الورود، لم تكن تعلم أنها ستعمل يوما وفي مجال بيع الورود تحديدا، هي التي ما إن أنهت مرحلتها الثانوية وافقت على الزواج ممن سلمت له قلبها كما سمحت له بالدخول إلى حياتها، ترى نفسها في أدوار شاهدتها في الإعلام وقرأت عنها في الروايات، فما الضير من لمسة يديه أو قبلة منه على كفيها أو حتى وجنتيها ليتحقق الحلم الضائع وترتفع الآمال وفي الحقيقة ما هي إلى خطوات نحو الفخ القاتل.
تجاهلت نصائح أهلها بالتريث، وأخبرها والدها بالحرف "يا ابنتي أكملي تعليمك حتى بعد الزواج... أستطيع فرض ذلك عليه!" لكن لا مصغي ولا عاقل! بينما القلب يدق أوهام الحب والرومانسية، وحدث ما أرادته وكانت له! وماذا كانت النتيجة؟ لا شيء سوى تذوق كلما تمنته وظنته حلوٌ بعسل النحل كالذي بقيت بضع آثارٍ لرائحته على كفيها لتواجه حائط الواقع الصلب فتكتشف مذاقه الحنظل المر بأشواكه الجارحة.
السجن! مصير لم تتوقعه ولا في أكثر خيالاتها اشتعالا بنار الجحيم، ولكنه وبكل ظلمته هو الآخر كان وبشكل لا يصدق أرحم من جحيمها مع من كان زوجا لها، فلو لم يكن السجن مهربا لها، لكان الموت لا محالة!
نفضت رأسها من تلك الأفكار بينما تعود بذاكرتها إلى أول لقاء به في المصعد، حيث خرجت وعينيها في بحث عن المكان المحدد، تفكر في كون تعلمها حرفة الورود كنسمة وسط صحراء قاحلة ما جعلها تنطق بذاك الوعد الذي طوقت به معلمتها عنقها به.
وقفت أمام واجهة المحل حيث تعمل من ادعت أمام عائلتها وأسرة عمها بأنها صديقة لها بينما هي عنوان آخر أرسلتها إليه تلك المغبونة.
(ستدبر لك عملا في محل ورود جوار محلها... لا تسألي! فقط اذهبي إليها! )
رنّت كلماتها في رأسها وتبلدت مشاعرها الساكنة في أحشائها، رحمة بكيانها كلما تذكرت أيام حبسها خلف الأسوار العالية والقضبان الحديدية.
أخذت نفسا آخر تخلع به ثوب التعب والإهمال ورغبتها في رج ركود حياتها تتزايد وتتضاعف بينما أمنية صغيرة بالانتقام تقفز لذهنها مستفزة خلايا شهواتها فتعود لتستنكر بجفاء، ليست هي من تنتقم! لأنها لو قررت ذلك ستكون هي، ضحى، أول عنوان تقصده لتثأر لنفسها.
لكن لا ضير من تخليص حق مظلوم ممن لا يكف عن الأذية! وكانت تلك آخر ومضات خيالها قبل أن تتقدم خطوات داخل محل الديكورات التقليدية حيث اجتمعت بصاحبته، فكان لها ما جاءت إليه وصدقت المغبونة في وعدها، وها هي ترتب باقة ورد أنيقة مكونة من ورد جوري أحمر وأصفر، أكثر الورود طلبا من الناس وكيف تلومهم؟ فهو ذو واجهة جذابة ورائحة عطرة.
(شكرا لك سيدتي....)
أومأت دون رد ولا حتى بسمة تتكلف عناء ادعائها بينما تمسك بالورقة المالية، لتراقب انصراف الزبون قبل أن تعود إلى ما كانت تفعله حين فراغ المحل.
ترتيب الورود وإزالة الشوك عن سيقانها، كم يسعدها ذلك بطريقة غريبة وكأن تلك السيقان نفوس بشرية تخلصها من شر هواها، فتستغرق في ما تفعله بنظرة منتشيه وعضة على الشفة السفلى بغيظ يعصر قلبها حتى أنها مرات عدة تتنهد من حلقها تعبا من حركاتها العنيفة وكأنها تعدو أميالا لا تنتهي أو تتسلق جبالا شاهقة.
تلفتت حولها تتفقد مساحة المحل الصغيرة نوعا ما، زاوية بطاولة خشبية مزخرفة عليها بضع مزهريات من الفخار الصيني، خلفه مقعد أمام الجارور تحت الطاولة، والباقي مساحة فارغة سوى من أصُص مرتبة بأناقة تحمل نبتات لأشجار صغيرة رائعة المنظر.
تنهدت وهي تنهي ترتيب ورود الياسمين ثم قامت لتقف خلف زجاج باب المدخل، تشعر بروحها عادت إلى سجنها وهي تتأمل الرائح والغادي من الناس بعضهم يتأمل واجهة محلها بفضول عابر، والبعض يمر متجاهلا بينما هي تتعدى وجودهم بنظراتها المتأملة، تشتاق إلى طقس مدينتها الجاف عبر المساحات الواسعة الخالية من البنايات والزحام، إلى صوت الرياح تحوم من حولها بذكريات سعيدة، حتى كأس القهوة في المدينة الكبرى الصاخبة فقد مذاقه الشهي بنسمة الأعشاب النافعة.
تفقدت ساعة يدها لتدرك أن موعد مغادرتها قد حان فالتفتت تمارس طقوسها قبل المغادرة، منتظرة من يستلم منها نوبة العمل الليلية التي تبدأ من الساعة الخامسة مساءا إلى منتصف الليل بينما هي تتولى فتح المحل من الساعة التاسعة صباحا.
كانت قد غادرت بالفعل حين أجفلتها نبرة جمدت الدماء في عروقها كما جمدت قدميها مكانهما وهسيس أنفاسه يضرب جانب أذنها فوق طرحتها بينما يقف صاحب الأنفاس خلف جسدها مستغلا الزحام في ذلك الوقت أمام محل للمعجنات الساخنة، قريبا من محل الورود حيث تعمل، تقتني منه كل يوم قبل عودتها بعضا من مخبوزتاهم اللذيذة لصغار عمها.
(مرحبا جميلتي!.... اشتقت إليك... ألم تفعلِي أنتِ؟!)
استغربت من نفسها كيف لم تتوتر ولم تتلبسها تلك الحالة من الذعر كما كان يحدث معها في أول السنتين اللتين قضتهما في بيته، وكل ما يغمرها الآن برودة عبرت أوردتها وجمدت كامل مراكز استشعاراتها فاتخذت قرارا لا تعلم إن كان غبيا أم فقط من فعل الصدمة، لكن أي صدمة! فقد توقعت ترصده لها، ألم يعدها بالحرف أنها ستدفع ثمن ما فعلت به غاليا، ولن يدعها تهنأ بحياتها مادام هو حي يتنفس! إذن تلك لم تكن صدمة، إنما تبلد مشاعر تفننت في إتقانه إلى أن أصبح شقا منها ومحتلا لكل جهازها العصبي، ....وبكل بساطة تجاهلته واستأنفت طريقها نحو غايتها.
تعالى هسيس أنفاسه دلالة على غضبه المشتعل، ولم يزدها ذلك سوى نشوة تسللت بمشقة تحارب لتكسر جليد عروقها العصبية بدفء يضيع منها آسفا كلما توغلت أكثر وأعمق...
حان دورها واقتنت ما أرادته بروية وتمهل تفهَّمه صاحب المحل الذي تبدو عليه الألفة نحوها كزبونة يومية، ثم استدارت دون نظرة واحدة نحو الآخر.
لمحت المصعد نازلا من الدور الأخير ومع علمها بالتوقيت المعلوم لاح شبح بسمة على جانب ثغرها وهي تخطو إلى المصعد بتصميم سهْمٍ يسرع نحو هدفه بوحشية.
كل يوم كانت تستقل المصعد في نفس الوقت وبنفس الواجهة الباردة المتجاهلة وكم ودت حقا أن يأتي ذلك بنتيجته المرجوة.
انفتح باب المصعد فاندفعت مع امرأة أخرى تنضمان إلى من كانوا داخلا ولحسن حظها كانوا قلة لم يتجاوزوا الأربعة، فاحتلت مكانها وهي تتجاهل من في الزاوية كما تجاهلت من دخل خلفها.
وقفت تطرق برأسها والكيس رهين قبضة كفها اليمنى بينما الأخرى تشد بها حول حزام حقيبة ظهرها، وساد الصمت حتى انفتح باب المصعد مرتين دون أن تتحرك من مكانها إلى أن بلغ آخر وجهاته، فخطت سابقة تخرج إلى الطابق تحت الأرض المخصص لركن السيارات ثم توجهت بصمت نحو المخرج، لكن وقبل أن تبلغ نصف المسافة أمسك بذراعها، حركةٌ انتظرتها وهي تمر جوار ركن منزوي عمن توجهوا إلى سياراتهم.
(أنا أكلمك يا غبية! )
أسدلت جفنيها تتنفس من فتحتي أنفها تفكر بإنها تغامر بحياتها، فهي أكثر من يعرف ذلك الشخص وما يستطيع فعله! سافل ومنافق من الدرجة الأولى، وحقير سادي، لكن مع النساء فقط! فهو مجرد جبان لم يجد للآن من يلقنه درسا ليتعلم قيمة قدر نفسه المريضة، حتى بعد ما فعلته به وما سببته له من أذى، لم يتعلم! بل اعتبره دافعا ليتخذ ضد أهلها إجراءا قانونيا للحماية من انتقامهم بما فعله بها.
(أترك يدي! )
نطقت من بين فكيها المطبقين، فرفع وجهها بعنف آلم عنقها يهدر ببشاعة حين تتوضح عبر قناع النفاق الذي يحتفظ به على وجهه دائما يتحول إلى وحش قميء فلا تشفع له ملامحه التي يعتبرها كثير من الناس كانت هي يوما ما من بينهم، وسيمة وجذابة.
(أنظري إلي! هل نسيت القواعد أم أن السجن أنساك؟!)
ترفض فتح مقلتيها تضغط عليهما معتصرة جفنيها، ليس من ألم ذراعها أو عنقها إنما من ألم كرهها ومقتها لذلك الانسان بل الشيطان في عباءة إنسان، أو فعلا الإنسان في عباءة شيطان، ترفض كابوسا مرعبا سيصاحب نومها وصحوها مجددا.
في تلك اللحظة بالذات انطلق لسان حالها مستنجدا ** لا!! أين ما وعدت به تلك الروح في البرزخ؟ لن تسامحها إن لم تصْدُق! قد يكون من تعرفه حق اليقين قد تغير! فجميع البشر يتغيرون، تدهسهم الحياة بين عجلاتها المسرعة فيستسلمون لها، فلماذا لن يفعل هو؟! **
(لقد سمعتها .. قالت أتركها! )
شهقت! حقا فعلت وهي تسمع نبرته الرخيمة الواثقة وهي الآن تشع قوة وشراسة دون أن ترحل عن مساحة الهدوء، لكن الآخر كان غبيا لدرجة ظن معها أنه ممسك بزمام أمورها.
حين يستبد الكبر بالنفس تسقط عن صاحبها الحكمة فيتخبط في ظلام فقدان البصيرة.
(أعتذر إليك أيها السيد.... لابد من أنك أسأت فهمنا .. إنها زوجتي وفقط نسوي أمورا بيننا..)
سحبت ذراعها من قبضته التي خفت من شدتها، وعادت إلى الخلف خطوة تبتعد عنه بينما تمسك بعنقها فوق طرحتها، قائلة بجمود بارد مع طريقة نطقها المتمهلة الخالية من الحياة: (لم أعد زوجتك منذ أربع سنوات .... )
رفعت أخيرا وجهها لتنظر في صميم مقلتيه الرماديتين الماكرتين حتى في جمالهما، تُكمل وهي تنتشي برؤية حقده من خروجها وتفلتها من تحت سطوة تسلطه: (وأخبرك يا من كنت لي يوما زوجا.... جحيم السجن أهون بكثير من جحيم حياتي معك ... وأنا مستعدة للعودة إليه مجددا فقط كي لا ألمح طيفك.. لكن ...)
لم تنظر نحو الآخر ولم تمنحه لفتة واحدة حتى بطرف مقلتيها، فحسب ما حفظته عن ظهر قلب وبما أنه تعرّف عليها وتدخل في ما حدث لينقذها، فهو يعرف كل شيء عنها سالفا.
علت نبرتها وهي تتعمق بنظراتها نحو الرماد المحترق بحقده في مقلتي طليقها، تكمل بتوعد أرجف قلبه حتى ظهرت الرعشة على عضلة خذه وإجفال نظراته اللحظي: (هذه المرة جريمتي في حقك ستكون عن سابق إصرار وترصد وليس رد فعل تلقائي ودفاع عن النفس...)
التفت طليقها إلى الآخر يخبره بسخرية أخفى به إجفاله من موقفها القوي، بينما يدس كفيه في جيبي سرواله الجينز: (إنها تهددني بالقتل ... وأنت شاهد أليس كذلك؟)
بلعت ريقها وسحبت نظراتها نحو الأرض مجددا تهم بالمغادرة حين رد عليه الآخر الذي لم تلتفت إليه إلى الآن: (كنتُ شاهدا على تهجمك عليها وأنت لا تمت لها بصلة... هذا ما سأحرص على ذكره يا سيد... ليس من عادتي إعادة كلامي، فمن الأفضل لك أن تغادر ....وحالا!)
وهنا لم تردع مقلتيها عن فرارهما نحوه، منتصبا بتحفز واضح بجسده الطويل المحتل لبدلة سوداء فاخرة لم يظهر عليها أثر يوم عمل شاق، وخلفه يقف رجل آخر في نفس طوله وحجمه تقريبا إلا أن بدلته أبسط بعض الشيء يراقب الوضع بعين لا تهدأ في محجرها.
بادلها نظرتها الناعسة بأخرى ثابتة وهادئة في عمق قوتها وهو يستدرك مشيرا لها نحو سيارته: (تفضلي سيدة ضحى لأقوم بإيصالك إلى بيت عمك..)
لم تتفاجأ لكنها ظلت مكانها لينفث الآخر سما على شكل حروف مطعمة بحقد بينما يوزع عليهما نظراته الساخرة باحتقار: (حسنا لقد فهمت ...هل أوقعتِ بضحية أخرى بهذه السرعة؟)
ثم تأمل بدلة الآخر بإعجاب مستهين وهو يكمل تهكمه: (كيف فعلتِها؟... ما الذي يجعل رجلا مثله يندفع بحَمية دفاعا عن فتاة بائسة لها سوابق؟)
ثم ابتسم بقسوة وحقد وهو يكمل ناظرا إلى الآخر: (لا تغتر يا سيد... وأنصحك بالتراجع فلا شيء لديها لتقدمه لك...)
ثم سحب كفيه من جيبي سرواله ليلوح بهما باستهانة وحقارة: (لقد حرصتُ على ذلك ...)

أراكم غدا ان شاء الله مع الفصل الثاني



التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 23-10-22 الساعة 12:54 PM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس