عرض مشاركة واحدة
قديم 28-06-20, 09:26 AM   #22

أَسْماء

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية أَسْماء

? العضوٌ??? » 140513
?  التسِجيلٌ » Sep 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,044
? الًجنِس »
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل السادس

سقوط
في أقصى اليسار عند إحدى الزوايا الزراعية، وعند شجرة الغاف المظلة
لمساحة واسعة من المكان، وأمام لحظة شروق الشمس، في مكاني المميز
وعند نباتاتي الصغيرة، منظر تجمع الماء تحتها واهتزازه فوق الرمال
الصفراء، رؤية هذا المكان من جديد تثير الكثير من الحنين بداخلي، حنين
إلى طفولتي وإلى نباتاتي، أصابع قدميّ تنغمس في التربة المبللة، وشجرة
الغاف تسقط زهورها الصفراء وتنثرها على مساحة ظلها وأبعد.
اللون الأحمر الخفيف يغطي أفق السماء وبالتدريج يختفي، ويبتعد
صوت المياه المنهمرة من الصنبور إلى أن يحل الهدوء ويرحل، أفتح
عينيّ على ذلك الضوء الأحمر الخفيف الذي عاد سريعاً ولكن في مكان
غير ذلك المكان الذي كنت فيه، يدي ترتفع إلى صدري
مرة أخرى ذلك الألم الذي يتربع على عرش صدري ينتابني
لا أعلم ما سره أو حقيقة ألمه!
كان من قبل عبارة عن ضيق تنفس طفيف، وفجأة تحول إلى ضيق واختناق أشعر به داخل صدري
ذهبت إلى الطبيب بعد أن استعر بي الألم ونفد صبري من تحمله، أجرى
لي الفحوصات اللازمة وقال لي بنظرات غير مبالية: «ليس هنالك
من خطب في أعضائك فكلها على ما يرام، من الممكن أنه بسبب
الضغوطات أو الامتحانات أو غيرها »
دائماً ما تكون إجابة الأطباء كهذا!
حتى لو عانيت من كل أمراض الدنيا فسيكون تشخيصي أنني على ما
يرام، وأنني لا أعاني من أي خطب!
لأنه وفي ذات مرة عندما كنت صغيرة أتاني ألم في الخاصرة، جعلني
طريحة الفراش لأيام، وأغمي عليّ بسببه وفي الأخير عندما ذهبت إلى
الطبيب، قال إنني لا أعاني من أي خطب ما!!!.
بلعت بعض الأدوية بعد تناول الإفطار، ونظراتي تنتقل عبر كل
شبر من المنزل، ها نحن هنا ثانية، في بيتنا القديم، لا إنه ليس هو إنما
يشبهه فالقديم قد هدم، وبني هذا فوقه، ولكن الذكريات تأتيني كلما
عدت إليه لتثير الحنين!
لأنه وفي كل مرة يخطر على بالِ أمي الذهاب إليه، نذهب إليه من دون
نقاش، لا أدري إن كان شوقاً أو هروباً إليه!
فلقد كان مجرد ثلاث غرف صغيرة بجانب الصالة
جلست على أحد مقاعد غرفة الصالة أشرب كوباً من الحليب
الساخن عندما خرج أبي من غرفة أختيّ الكبيرتين
ارتجف الكوب من بين يدي، وكاد ينسكب عندما تلاقت نظراتي
بنظرات أبي الحادة
كان أبي ذا بشرة حنطية، يغطي الشيب معظم شعره، يلبس ثوباً
رماديّاً قصير الأكمام فوق جسد طويل عريض البنية
عندما رآني عقد حاجبيه الكثيفين فوق عينيه الحادتين، وأنا انقبض
قلبي، حل عليّ إحساس ثقيل عندما اقترب مني وجلس ملقياً السلام..
سألته بصوت منخفض عن حاله فرد عليّ بالنبرة نفسها
كان الصمت حاضراً وبلا منازع، الصمت المشحون بالأحاسيس غير
المريحة بالنسبة لي، أمرني باحضار طعام الفطور له من دون أن يسألني
عن حالي أو عن أي شيء آخر يخصني، وحتى إن نظراته لم تكن لتنظر
إليّ مباشرة، أو لتبتسم لي أو تحدثني
هكذا أبي معنا، وهكذا كانت حياتنا مملوءة بالصمت والغربة، غربة لم
تعرف الألفة قط..
كانت أمي قد أعدت الفطور منذ الصباح وذهبت إلى بعض الجيران
أحضرت لأبي الفطور وفي تلك اللحظة التي وضعت فيها الأطباق
على المائدة
عادت أمي من الخارج، وعند الباب البني توقفت قبل أن تكمل
خطواتها إلى الداخل، عقدت حاجبيها ونظرها يسقط على أبي
امتعض وجهها، عبست تقاسيمها، نظراتها المضطربة والغاضبة
كانت تسقط على أبي وتتحول بسرعة إلي، وكأن نظراتها كانت تهرب
من أبي إلي.
الجمود احتل وجه أمي وهي ترفع قدماً وتحط بالأخرى على الأرض
وتكمل خطواتها إلى الداخل
الابتسامة انتصرت على فم أبي، كان أبي على عكس أمي في تلك اللحظة،
كان وكأنه سعيد برؤية أمي التي لم تعره أي اهتمام إنما مشت متجاهلة وجوده وذهبت إلى غرفتها، أغلقت الباب خلفها، بعد دقائق معدودة خرجت وقد مسحت كل مساحيق التجميل عن وجهها، وأوثقت حجابها الذي
دائماً ما يخرج خصلات ناعمة من شعرها البني، اقتربت منا، جلست
بجانبي، نظراتها القوية التي اكتسبتها من الزمن، ارتفعت لتحط على
أبي، أخرجت أمي الكلمات بصوت هادئ: «ما الذي أحضرك إلى
هنا! »
كنت أتوقع شجاراً عنيفاً، وغضباً عميقاً من أبي، ككل مرة يلتقيان
فيها، ولكن أبي كان هادئاً على غير العادة وأمي العكس كانت شعلة في
أشد اشتعالها، وكأن هدوء أبي أكسبها قوتها!
نظرات أبي لم تنخفض عن أمي، وإنما كانت مستقرة عليها، قال بعد أن
طال صمت أمي وتحديقها به: «لقد طلقتها »
في الحال وبشكل مستفز، وبوجه خالٍ من التعابير ضحكت أمي
ضحكة قصيرة وتلتها بقول: «وما الجديد! »
انخفضت نظرات أبي ثم عادت للارتفاع بتكبر، بنظرات أرجعت شخصه
القديم، نظراته زرعت في داخلي ذلك الخوف القديم، اضطربت أنا بين
صراعهما، وكنت أود الهروب من هذا النزاع، ولكنني بقيت في مكاني
لأسمع قول أبي: «تعرفين ما الذي أريده »
نقطة تحول كبيرة أصابت أمي، تغيرت ملامحها، طواها الاضطراب،
احتلها التوتر، زحزحها قوله فجعلها تنكس نظراتها وتقول: «لن أفعل
حتى لو نفذته! »
ولكن ومن بين عيني أبي المصوبتين على أمي وعينيّ المتنقلتين بينهما،
رفعت أمي نظراتها فجأة، تفجر الاحمرار على وجهها، ثم قالت
بقهر: «لقد أخبرتك منذ زمن بعيد، أنه انتهى من تلك المرة التي
خذلتني فيها، فشروطي وأفعالك كلها هراء، فأنت كلك أقوال لا
أفعال »
بعد كل تلك الكلمات المشحونة بالألغاز، والنظرات غير المفهومة
بالنسبة لي، والحزن المسكون في الأعماق، ألقى أبي بعض اللعنات،
وأمي صمتت على غير العادة وخرجت وكأن لا وجود لأبي، وخرج
بعدها أبي، وكأن لا وجود لمن تسمى أنا في الوجود، كرهت تلك
اللحظات وتمنيت لو أن أمي أخرجتني من قبل أن تخرج كلماتهما، فلم
يكن وجودي ذا فائدة لهما، إنما كان سيئاً على نفسي!
بعد رحيل أبي بساعات، كان الحزن يسكن وجه أمي، ولم تكن تطيق
الكلام، كانت سارحة الفكر، تشغل نفسها بالعمل، كنت أريد إخبارها
عن زيارة عمتي لها في وقت كانت هي غير موجودة فيه، ولكن وقبل
أن أبدأ النطق، أمي المنشغلة بخزانتها، والتي كانت تبحث بعصيبة
فيها، التفتت إليّ وصرخت في وجهي: «حلي عني »
صدمت من نطقها للكلمات، ومن طريقة خروجها، ومن تعابيرها
الغاضبة، لم أنطق بعدها، إنما خرجت وكُلُّ الاستياء تجمع على صدري،
وتراكم عليه القهر...
ما ذنبي أنا! وما دخلي في المشكلات ليحل عليّ غضبها!
أأنا أحتاج لجرعة من الألم في صدري غير الذي أشكو منه!
أم أن ألمي لا يشعر به إلا شخصي!
***
الموضوع نفسه، والحياة تدور حوله، لم يكن للشمس من وجود في
ذلك البعد من التفكير
كالعادة تلتف النساء في غرفة المعيشة ككل مساء، تحتل الأطعمة
مركز الوسط، وتلتهم الأطباق بنهم
تفكير كل من حولي كان منصبّاً على أمور حياتية مادية، أمور قد لا
أراها بمنتهى الأهمية، وقد تأخذ حيزاً صغيراً من تفكيري ولكن ليس
بالكامل.
أتساءل مراراً، لمَ لا تكون الأحاديث النسائية فيها شيء من الفائدة أو
المتعة..
ولكن وفي قرار نفسي أرى نفسي ثرثارة ومتذمرة
فكيف لي أن أغير من حولي قبل أن أغير من نفسي
لم يكن شيئاً سهلاً بالنسبة إلي، التخلي عن نفسي، وطمر تلك الصفات
التي اكتسبتها طوال تلك السنين حتى لو كانت سيئة!
مرة أخرى جاء ذكري وذكر خولة بتذمر وكأن لا وجود لفاطمة في
الوجود، كان لسان أمي هو المتذمر كالعادة، وانقلبت أساريرنا أنا
وخولة تبادلنا النظرات فيما بيننا وإحساس بالذل يعترينا، كانت أمي
تذكرنا بأننا عانسان، قد تخطينا سن الزواج، فعمري فقط خمس
وعشرون وخولة سبع وعشرون وكأننا بنظرها قد وصلنا إلى سن
اليأس.
في الحقيقة هذا الموضوع على الأخص كان أسوأ موضوع يفتح في كل
جلسة
ألنا يد في سير حياتنا! أم أننا ذواتا حظ سيئ يبعد الخطاب عنا!
خاطبنا أمي بعد أن تشتت الجمع وتفرق الشمل، وبقينا وحدنا في عزلة
عن البقية في الصالة، غرفة الأحداث التي تحصل في هذا المنزل.
جلسنا قبالة أمي، بوجوه لا تحمل إلا الانزعاج
بدأت خولة الحديث: «أمي لمَ فتحتِ هذا الموضوع أمامهن؟ »
ابتسمت أمي بوجه خولة، وهي تقول بلا مبالاة: «لقد كانت زلة لسان
وحثني تجاوبهن على الخوض فيه أكثر، تعرفين أنني أخاف عليكما
ويهمني مستقبلكما كثيراً »
لم يكن هذا ما أوضحته أمي لنا في حديثها مع خالاتي وبناتهن، وكأن
أمي لا تشعر بمقدار الخدوش التي تخدشنا بها كلما فتحت هذا
الموضوع.
تذمرت كعادتي، كنتُ غاضبة حزينة، فأنا لن أعطي أمي أي أعذار
مهما كانت، فكيف لي أن أعطيها وأنا أرى الأقوال تناقض الأفعال،
قلت بغضب: «أمي لماذا أنتِ دائماً هكذا؟ لماذا يكون محور الحديث عنا
نحن الاثنتين فقط، هنالك فاطمة أيضاً لماذا لا تضممنها إلى لائحة
العوانس، أم أن حديثك عنا شيق أكثر من غيرنا! »
ويا لقباحة وفظاظة أسلوبي، فلقد أضمرت نار الغضب في صدر أمي
وتجمعت كل الانفعالات في وجهها، وكل الحنق والامتعاض مني!
انتفضت أمي وكادت تقوم من مقعدها من قوة غضبها مني
غضبها الذي قذفته على وجهي وإلى داخلي الذي أحس بنفور أمي
مني، حتى لو كانت كلماتي مجرد كلمات لا معنى لها، أو لها معانٍ خفية
تدل على إدانتي لها بما تقوم به نحوي، دائماً وما زالت كلماتي تغضب
أمي وتفقدها السيطرة على نفسها.
كان السخط يكسوها، وهي تقول: «أنتِ ... اخفضي صوتكِ، ولا
تحدثيني ثانية بهذه الطريقة، فأنا لا أريد سماع أي كلمة منكِ، فهمتِ!
فعندما تحسنين من سلوككِ وأسلوبكِ فتعالي وحدثيني، حقّاً أنا لم
أربِّكِ جيداً، صدق والدكِ في هذا »
كادت تتقاطر دمعاتي من عينيّ من شدة تأثير كلمات أمي عليّ، وقفت
من مقعدي، حاصرني حنقي وغضبي ودموعي التي حبستها، وأنا
أقول والألم يعتصر صدري: «نعم أنا لم أربَّ جيداً، لأنه ليس هناك
إنصاف في هذا المنزل أبداً، ودائماً ما أكون أنا المخطئة بالنسبة لكِ،
وكل ما أقوم به سيئ، أنتِ ووالدي تشبهان بعضكما بعضاً، وأيضاً
متناقضان حد الضجر، أنتِ يا أمي دائماً ما تكونين ضعيفة أمام أبي
ولكن قوية أمام الناس، لا تدرين كم يبدو هذا كريهاً وقبيحاً، فأنا أكره
أن أكون مثلك أو آخذ رجلاً يشبه أبي إطلاقاً »
انفجاري هذا ... كان قنبلة مدمرة، قنبلة ملغومة انفجرت على حين
غرة
ولكن والأكثر خطورة منها، كان ذكر أبي بهذه الطريقة
فأبي الخاذل وأمي المخذولة، أبي الجاني وأمي الضحية!
لو كنت أريد وصف تلك اللحظة، لحظة كف أمي البارد على وجهي
لوصفت أنه أشد حدث بائس حصل لي في حياتي
كل شيء تجمد في تلك اللحظة، الدم في عروقي، شعر جسمي
ورأسي، وعيناي اللتان كادتا تخرجان من محجريهما
الصدمة كانت أشد وطئاً من كل شيء، من كل الأحاسيس، ومن كل
ما يحيط بي، حتى الهواء أصبح شيءٌ صعبٌ عليّ تنفسه!
انتقلت كفي إلى وجهي، تشد عليه في ذهول ونفي، وعيناي تنظران إلى
وجه أمي المملوء بالمشاعر المختلفة، علامات التقدم في السن تنقشه
بمرارة، تطويه في تعابير حزينة، تجاعيد عينيها كانت تخبأ الآلام المريرة،
شفتاها المفتوحتان كانتا تعبران عن وجع مرسوم، كانت وكأنها منكوبة
بذلك التعبير وبذلك الخنجر المسموم الذي طعنته في قلبها!
قالت وهي ضائقة الأنفاس: «هذا ما جنتهُ يداكِ »
وذهبت مخلفة وراءها أنا
أنا وحدي مع ذهولي وصمتي
الغرفة أصبحت فارغة من الأنفاس
فارغة إلا مني
كل شيءٍ بات أجوفَ، فارغ
حتى المنزل الذي مشيت فيه، كُل ضجيجه اختفى ليحل محله السكون
فقط لا غير..
السأم والسقم كانا يطاردانني، وأنا أترك الصالة خلفي، أمشي حافية القدمين على السجاد والبلاط، أمر بالغرف، أصعد السلم، أرفع قدماً ثم الأخرى فيعيد اللون الأبيض شكله في كل مرة، دون تغير، دون أن أشعر بأي مشاعر، وكأنني أهجر كل شيء ورائي، أتركه معلقاً في تلك الغرفة دون العودة إليه.
لو كنت أصغر سنّاً كما في الماضي لكان تعبيري دموعاً وصراخاً،
وفيضاناً من المشاعر اللانهائية
عتاباً ولوماً وبكاء، ندماً وطلب سماح سريع
ولكن الآن... لا شيء من هذا يريدني
لأنه ولأول مرة في حياتي كلها تعطيني أمي كفّاً على وجهي!
لم تستخدم أمي أسلوباً كهذا معي من قبل، عندما كنت في الطفولة
والمراهقة كانت تضربني على أجزاء متفرقة من جسمي بقليل من
الغضب والعصبية
ولكن لم تكن لتصفعني على وجهي بهذا الشكل
والآن هي تصفعني وأنا بهذا العمر، لأنني قلت لها الحقيقة فقط،
وأخرجت ما بنفسي لها!!
أليس لي الحق في قول ولو القليل مما أريده!!
ألا يكفي صمتي، ووضع رأسي في التراب كالنعامة طوال تلك السنين
أليس التنفيس هو الحل الصائب لمثل حالتي! ألا يحق لي فعل ذلك!!
نعم أنا أكره أن أكون مثل أمي، وأشعر بالسقم لتفكيري بهذا
وأكره أيضاً الرجال لأنهم مثل أبي
فكيف لي أن أحب رجلاً، وأبي عبر تعبيراً كاملاً عن الرجال
وكيف لي أن أنسى عدم حب أمي لي، والذي لا يزال يطاردني إلى الآن!
عبرت الردهة التي شعرت بأنها أصبحت أطول عن ما مضى إلى غرفتي.
شعرت للحظة بالدوار وعدم التوازن، وضيق شديد في الصدر، جعلني أتوقف للحظات، وامسك منتصف صدري، أضغط عليه بشدة، أضربه بضربات متتالية، ثم انخفضت إلى الأرض، والضيق يصل إلى بلعومي، إني اختنق، أخذ شهقات متواصلة كغريقٍ في عرض البحر، لا استطيع التنفس، سأموت!
وكأنني سقطت إلى بؤرة من السواد، ولكن فجأة سطع نورٌ باهر، أنار الظلام الذي احاط بي منذ لحظات، تدفقت كل ذكرياتي دفعة واحدة، رأيت نفسي في تلك الزاوية، زاوية سريري الخشبي بجانب الحائط، كنتُ أنطوي
على نفسي بعد أن اشتد بي الفزع من الإعصار القادم من خلف الباب.
بدأ الباب الخشبي يفتح رويداً رويداً، وكأنهُ ينذرني باقتراب الحدث
الذي كنت أخشاه
لم يكن بطيئاً كما تخيلتهُ، إنما كان شيئاً رتيباً مريضاً
كالقطرات المنسابة من الصنبور
«فمن أنا لكي تكون أمي حصني المنيع أمام إعصار أبي المدمر »
أبي المتجهم الداخل إلى غرفتي بهدوء رهيب
هدوء عصف بداخلي المرتجف جنوناً لفكرة ما سيفعله بي في تلك
اللحظة
تحركت خطواته بسرعة، تحرك ثوبه الأبيض معه
تحركت نظراتي لتنظر إلى وجهه في تحدٍّ زائف
عبر وجهه الغاضب عن تجهم عميق
واتصل حاجباه الكثيفان الأسودان ببعضهما
طوت التجاعيد وجهه حتى أخفت ملامحه، زم فمه بغضب شنيع
ضممت ركبتيّ إلى صدري، وشددت ذراعي حولي في استعداد خاضع
له
ووجهي لا يحمل أي تعابير تدل على الندم
لم يكن لندمي أن يعرف طريقه إلى وجهي الخالي من الأسف
لم أكن نادمة من الأساس، ولم أظن أنني قد اقترفت ذنباً في حقه أو في
حق نفسي أو في حق أيٍّ كان!
كانت مشاعري تثور في غضب واضطراب بين خوف وقهر
عندما وصل أبي بالقرب مني، بجانب السرير الذي كاد يحطمه بساقيه،
أظهر عصا طويلة مدببة، عصا رأيتها مراراً وتكراراً بين يديه يهدد بها
تارة ويضرب بها أخرى
رفعها بغلظة وأخذ يضربني بها، بقوة لم تعرف الرأفة، وبقلب لا يعرف
الرحمة
وكالعادة أخذتُ أصد ضرباته بذراعيّ، وأبكي عندما يشتد بي الألم،
وأحاول عدم التوسل إليه، فأنا أعرف أن التوسل لا يجدي نفعاً مع أبي
وهو في هذه الحالة إنما يزيده إصراراً.
توقف بعد أن استنزف كل قوته في ضربي
وأنا اشتد ألمي وتساقطت دموعي بلا توقف
صاح عليّ: «لمَ ذهبتِ بلا استئذان؟ »
أفلتُّ لساني، ومن بين دموعي المنسكبة قلت: «لقد أخبرت أمي
وقالت اذهبي »
«ولكن أمكِ أخبرتني أنكِ ذهبتِ بلا استئذان وخالفتِ أوامرها »
أمي .... بعد أن تعطيني موافقتها من بعد الإلحاح والتوسل وأذهب
تخبر أبي أنني ذهبت رغماً عنها!
وفي هذه المرة كنت أريد الذهاب إلى نادي الفتيات مع صديقاتي، وكان
هذا في إجازة الصيف
لم أكن أظن أن هناك مانعاً لذهابي، ولو لسويعات قليلة
ولم أكن أظن أنني قد أقلب المنزل رأساً على عقب بذهابي هذا، وأن
جحيماً ينتظرني فيه!
فعندما عدت أخبرتني خولة أن أبي غاضب جدّاً ويبحث عني
بعد مغادرة أبي للغرفة، انطلقت أهرول إلى غرفة أمي بعد تحققي من
خروج أبي من المنزل، وأنا أتلمس جسمي ماسحة ضربات أبي التي ما
زالت تلتهب تحت ملابسي.
دخلت إلى غرفة أمي الواسعة ذات اللون الأصفر، وقفت قرب
الباب البني وأمسكت بزاويته الخشبية، نظراتي التي اختطفت نظرة
سريعة إلى السرير البني المرتب وإلى النافذة الكبيرة التي دخل ضوء
الشمس من خلالها، وصلت إلى أمي أخيراً، أمي التي ناديتها وانا أراها
مضطجعة على المقعد الأحمر الطويل، تشاهد التلفاز الذي وضع على
طاولة سوداء زجاجية: «أمي لمَ فعلتِ هذا بي، لمَ أخبرتِ أبي ؟؟ »
شعرها البني الغامق القصير المتكئ على كتفيها النحيلين تطاير بغضب
وهي تلتفت ناحيتي، تقاسيم وجهها الدائري برزت في عصبية،
تطاير الغضب من عينيها البنيتين الواسعتين، ضغطت على أسنانها
بعصبية ظاهرة وهي تعدل من جلستها وتقول:
«تستحقين ذلك، ألم أقل لكِ من البداية ألا تذهبي! »
وقفتُ وقد ارتخت دفعاتي، وأرهقت مشاعري، وتساقطت دموعي:
«ولكنكِ قلتِ لي اذهبي في النهاية »
أبعدت عينيها عني، نظرت إلى التلفاز لتكمل ما كانت تشاهده،
وأضافت من دون مبالاة: «صحيح قلت لكِ اذهبي، ولكن قلت أيضاً
إن ذهبتِ فسيكون حسابكِ عسيراً، هيا اخرجي لا أريد رؤيتكِ »
لم تسعفني الكلمات ككل مرة، لم أكن أملك حق الدفاع عن نفسي
لأن أمي تقوم بتدميري بالكامل، تشعرنني وكأنني شخص كريه
وغير مرغوب فيه!
أمسكت مقبض الباب وضربته بكل قوة، مشيت أداري دموعي،
وأعاتب أمي وأبي وكل العالم..
توقفت للحظات، وعيناي ترحلان إلى ذلك الصغير الذي يمسك لعبة
إلكترونية قديمة بين يديه، كان يقف أمامي وفي عينيه نظرة تساؤل!
في تلك اللحظة انصبت الذكريات على رأسي انصباباً، وتدفقت
الأحداث إلى عقلي، وحلت الدهشة عليّ حتى كادت تصيبني بالجنون
من قوتها.
يوسف الصغير ... نعم إنه يوسف.
أنا ... يا أنا ما الذي يحدث!
كيف يحدث لي هذا... تيبستُ في مكاني، أخذت أنفاسي تتسابق
إنه يوسف بلحمه وشحمه يبعد عني بمسافة بضع خطوات، ملابسه
صغيرة مثله، وجهه القديم الذي أحب كما هو
ابتسامته قفزت إلى وجهه وهو يرى علامات الاندهاش عليّ
رفعت أصابعي الصغيرة أمامي، ضربت الهواء بها، نفخت عليها،
لأشعر بالبرودة وأستشعر كل ما حولي
لأتحقق أنني أنا، وأنني الآن أمام يوسف
يوسف الطفل الصغير الذي يبصر النور
حدقت به بدهشة وألم، وأنفاس مخنوقة من الصدمة،
وناديته: «يوسف أهذا أنت! أحقّاً أنت يوسف! »
***


أَسْماء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس