عرض مشاركة واحدة
قديم 03-07-20, 09:32 PM   #30

أَسْماء

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية أَسْماء

? العضوٌ??? » 140513
?  التسِجيلٌ » Sep 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,044
? الًجنِس »
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond reputeأَسْماء has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثامن

لحظات مبتورة


منذ ذلك الموقف، وأنا لا أزالُ في حيرة من أمري، أكاد أجزم أني أتوهم
الأمر، بل وأكذبه، لست أستوعبه ولا أجدُ لهُ حلاً !
إنه مرعب بقدر ما أمر به عندما أستيقظ منه، أما عندما أكون فيه فيكون
بغاية السلاسة والسهولة والروعة
وكأنه حلمي الذي حلمت به منذ زمن بعيد، ويدي تحاول
الوصول إليه بصعوبة، والآن تحقق عندما يئست منه.
أصبح الشرود رفيقي في أيامي هذه، وأمي كانت مغتاظة من شرودي المبالغ
فيه، وصمتي الطويل، وعملي الذي لا أتقنه كما تراه هي متقناً!
غضبت مرة ونحن في غرفة المعيشة عندما كان فيها يوسف وخالتي
وأختي لطيفة التي أتت للزيارة، أمي أرسلتني لإحضار غرضٍ لها،
وكالعادة لم أجد الذي طلبته مني، وبصوت منخفض لا يسمعه إلا أمي،
وبحذر شديد كي لا يسمعني يوسف قلت: «لقد بحثت عنه ولم أجدهُ »
قفز الغضب إلى وجه أمي، أغضبها همسي إلى جانب العادة
التي تعرفها جيداً وهي أن لا وجود لشيء تطلبه مني عندما أبحث عنه
أنا.
بغضب شديد، تفجر من أمي التي كانت تخبأ في داخلها الكثير من
المشاعر السلبية، قالت لي وأمام الجميع: «أين ذهب عقلكِ، أقسم
أنك لم تبحثي جيداً، أو لم تبحثي أساساً، فعقلك مشغول بأشياء لا
فائدة منها، لقد سئمت منكِ ومن كل شيء، أنا المخطئة التي أمرتكِ
بهذا »
سقطت في بحر من الصدمة والإحراج، لم أكن أتوقع أن يكون ردها
بهذا السوء، لم تكن ردودها سيئة إلى هذه الدرجة ولم تكن تؤثر بي كما
الآن، عيناي تنتقلان بين الجالسين، إلى خالتي التي نظرت
بلا مبالاة، وإلى لطيفة التي تعكر وجهها واحرج وهي ترفع يدها محاولة اعطاء امي اعذارها لكي لا أبالي، أما يوسف
فلقد كانت نظراته جامدة خالية من المشاعر وتنظر إليّ، تدخل إلى
عينيّ، تعبر خلاياي، تبعثر ما بقي في قلبي من مشاعر، لم أرد ولم يكن
ذلك من عادتي!
لأنني أشعر أن هناك ثغرة واسعة فيما بيننا ولن تملأ أبداً، وأن الكلمات
لن تحل الأمور إنما ستجعلها أسوأ، فأنا أيقنت أن الجدال لا يرمم
المشاعر.
وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن كل ذلك الإحباط لا وجود له، عصرت
كل شيء تحت أضلعي وخنقت مشاعري، جلست بينهم شاردة
الذهن، أسمع حواراتهم وضحكاتهم المتقطعة، وأشاهد انضمام
باقي أفراد العائلة، من بين كل تلك الكلمات المنسابة في الهواء، وفي
لحظة سكون قصير، نطق يوسف الذي لا يزال يقابلني وعيناه
مصوبتان نحوي، لا لم تكن نحوي إنما أنا من كان يسترق النظر إليه
طوال الوقت، خرجت كلماته: «لقد قررت السفر » واستقرت أمامي،
شهقت من هول المفاجأة، اندفعت شهقتي علناً ولحقتها الحروف
المتقطعة: «ماذا!! »
وقعت نظراته على صوتي العالي والمسموع، وتشكلت التجاعيد حول
حاجبيه لثانية وعادت في الثانية الأخرى إلى حالتها الطبيعية، قال
وكأنه يجيب على تعجبي: «لأكمل دراستي » صمت قليلاً وكأنه يمتص
دهشة الجميع ويجيب على أسئلتهم قبل خروجها، أكمل قبل أن ينطق
أحدٌ آخر غيره: «المعهد قدم لي منحة والدولة تكفلت بكل المصاريف »
طوال تلك اللحظات، التي كانت بين مد وجذب، وبين صمت
وحديث، كنتُ أحاول سحق الألم الذي بدأ يزحف إلى صدري،
وتجميع مشاعري المتبعثرة، وإسكات الصراخ الذي في داخلي ونزعه
لكيلا أحزن.
لم تتقبل أمي ولا خالتي الأمر في البداية، حاول يوسف إقناعهما
بأسلوبه، ذلك الأسلوب المقنع، العقلاني الذي يجعلك تميل إليه رغماً
عنك، اقتنعتا في النهاية وبعد جدال طويل.
كنت أجلس أستمع إلى نقاشاتهم في صمت وعزلة، أرى أمي التي
شكلت ابتسامة صغيرة في آخر المطاف، وخالتي التي ذرفت بضع
دمعات، وإلى يوسف الذي كان جامداً صامتاً، لا ... فهو لم يكن
جامداً بالنسبة إليّ إنما كان وجهه مليئاً بالمشاعر الفاضحة، لأنني
وبسبب مراقبتي له، حفظت كل تفاصيله الدقيقة وفهمتها، فيوسف
قد كشف الكثير من المشاعر أمامي وتجرد من بعض أسراره.
كنت أنظر إلى حضني، أطقطق أصابعي، قدمي تتحرك تعبيراً عن نافد الصبر والتوتر، قررت الوقوف فجأة، مشيت بخطوات بطيئة وبهدوء لم يشعر به أحد، وخرجت مقفلة الباب ورائي، لدقائق حدقت أمامي وكلمات يوسف تتردد في عقلي، كدت استند على الباب وأنا ابتلعت جرعة من الهواء، أشعر بالاختناق والتعب! تركت الباب ورائي، حدثت نفسي وأنا أتلمس طريقي إلى أقرب مقعد لي،
بأنه ليس هنالك داعٍ للحزن، وأن هذه الآلام التي أشعر بها في صدري مؤقتة وسوف تزول!
الألم يعبث بمشاعري والحزن يحبسني في دائرته، انتابني الحنين
ونظراتي تسقط على ما خلف أحد أبواب الغرف المفتوحة، في الماضي
كنت أختبئ خلفه، أعبر عن مشاعري فيه من دون أن يشعر بي أحد،
وأبكي حتى أشعر أنني تحررت من قيود حزني، أما الآن فلا أظن أن
تلك الزاوية تناسبني أو تخفيني! لكي أختفي خلفها وأعبر فيها!
الجلوس على مقعد في زاوية مقابلة للباب الخلفي الخارجي، كان ملاذي إلى أن يخرج الجميع وأرى يوسف وحيداً
كان أملي هو أن أستطيع محادثته بأقصى سرعة ممكنة، وأن يتحقق
وجوده وحيداً وأن لا يخرج قبلهم
وتحقق ما أردتهُ!
راقبتهم من تلك الزاوية المظلمة البعيدة عن أنظارهم واحداً تلو
الآخر، وبعد أن خرجوا جميعاً، مشيت بخطوات سريعة مترددة إلى
الباب
كنت حائرة في صياغة الكلمات المناسبة وفي طرح مشاعري إليه،
وقبل أن أصل إلى الباب، فُتح وخرج يوسف منه، كان يستعد
لإعطائي ظهره، وكادت خطواته تهرب بعيداً عني فهي كانت أسرع
مني وأوثق
أخرجتُ صوتاً لم يكن مسموعاً بالنسبة إليّ، كان صوتاً متردداً هزيلاً،
لأخرج آخر أقوى منه بكثير: «يوسف » وتبعته بأقوى منه: «لا تذهب »
توقف في الحال، وبدل اتجاهه بشكل عكسي ونظر حوله بتعقيدة خفيفة
بين حاجبيه وكأنه يبحث عني، اقتربت منه فتركزت عيناه عليّ،
وانعكس لونهما العسلي ليذكرني بالصغير يوسف فأوقفت خطواتي
مترددة، وعندها أقترب مني وهمس: «كنت أنتظركِ »
اعتراني الخجل
إحساس من التردد ابتلعني، فلم أخرج ولا كلمة، إنما وقفت أنتظر أن
يبدأ هو أولاً
امتلأ وجهه بابتسامته التي يرسمها كلما رآني أو كلما كان في الماضي
وبوجهه الصغير يرى ياسمين، بهجته وضحت بين تقاسيمه، وحل
الهدوء على وجهه الذي كان مختنقاً سابقاً، أعاد خطواته إلى داخل
الصالة، سرتُ وراءه، أنظم نبضات قلبي، أبحث عن
الكلمات التي نظمتها لقولها أمامه دون تردد.
سألني سؤالاً لم يخطر على بالي عندما جلس قريباً من مكان وقوفي:
«أكنتِ معنا، أم لم تكوني؟ حقيقة أنا حائر بشأنكِ دائماً، فلستُ أعلم
من أنتِ؟ »
رمشت عيناي بسرعة، ازداد توتري في لحظة إنهائه لجملته، بل
أحسست بالخوف من هذه اللحظة، لم أحب سؤالهُ ولم أُرد منه أن
يتذكره، فقط أريده أن ينساه، فأنا لا أريد الكذب عليه ولا كشف
الحقيقة، لأنه في كشف الحقيقة سيتخلى يوسف عني، سينبذني
ويكرهني، فأنا لا أريد ذلك بعد ما عدنا كما كنا، وتعلقت أنا به.
لم أجبه، قلت في تغيير سريع وجريء لمجرى الحديث: «سمعت أنك
تنوي السفر أهذا صحيح؟ »
تحركت عيناه لتنظرا إليّ نظرة طويلة عميقة، هكذا أنا أتخيل نظرات
يوسف إلي، وكأنها نظرات المبصر التي تكشف حقيقتي في الحال،
تعرف مشاعري من رمشة عين، وتبدل حالي إلى توتر عميق، توتر لم
يسعف لساني بقطع ذلك الصمت وإنهائه في الحال.
قاطع أفكاري: «هل يمكنني الحديث معكِ قليلاً في بعض الأمور؟ »
لان حاجباه، ارتخت تقاسيمه، عبرت وجهه لمحة هدوء واسترخاء،
وكأنه ينبش أفكاره ليسرح فيها
كنت على هدوئي، لم أجبه مباشرة، وبعد تردد بسيط أجبته ب « نعم
وبالتأكيد » وأنا خائفة من كل كلمة قد تخرج من فمه، أخاف الخوض
في موضوع يخصني أنا، ولكن كان هنالك شوق إلى الخوض في
الأحاديث مع يوسف، فيوسف يعيد نفسي إلي، ينسيني كل الذكريات
الحزينة ويعيد السعيدة فقط.
عيناي كانتا تراقبانه وخطواتي ذاهبة إلى الجهة المقابلة، جلست على
المقعد المقابل والبعيد عنه بخمس خطوات، جلست متوترة
وعيناي تقابلان عينيه، بعد لحظة قصيرة أبعد نظراته بعيداً عني،
وكأنه بها يخفي مشاعر رأيتها مراراً وفي مواقف عديدة، تلك المشاعر
التي أيقظت ألم صدري، وشقته إلى نصفين، ودمرت مشاعري التي
كانت متلهفة ومحبة، مشاعري التي تتوق إلى الحديث معه،
أخفضت نظراتي التمعلقة به وطرحتها إلى حجري من الصدمة
ما لذكرياتي الموجودة في ذاكرته مريضة بهذا الشكل
لمَ لا يتخلص منها!
لمَ أتت الآن إليه وفي وجودي!
تجمع الاحمرار في وجهي وارتفعت الغصة لتخنقني، كدت أصيح عليه
وأخبره أنني أنا ياسمين التي يكرهها، لعله بهذا يكف عن كرهها إذا
علم أنها أنا!
نطق وأنا أقابله، وتعابيري عكس تعابيره التي لانت وزال عنها
توترها وسرحانها: «هل يمكن أن يحصل هذا، أن يكون لديك الكثير من
الذكريات غير المحببة، ولكن وفجأة في الصباح أو في أوقات غريبة
تستيقظ منها، تتساقط عليك ذكريات جميلة عكس تلك، أحداث
تتذكرها لأول مرة، تمر عليك وكأنها حلم جميل »
وكأنها غيوم وانقشعت، كلمات يوسف أذهبت كل تلك الأحاسيس
التي كانت تتضارب في داخلي، كل ذلك الألم والقهر رحل لتحل
محله السكينة، كلماته كانت مفهومة بالنسبة لي، وكالسحر أسكرتني،
جعلت داخلي ينبض بعنف، يتذكر كل تلك المواقف والأحداث
وحتى الكلمات واللمسات، في تلك اللحظة أيقنت أن كل تلك
الأحداث ليست بحلم أو تخيلات، إنما هي حقيقة كما عشتها.
لم أستطع إمساك كل تلك المشاعر التي تفجرت وتناثرت في كل جزء
مني، جرت في عروقي وضُخت إلى كل عضو من أعضاء جسمي،
وقلبي كان من أكثر الأعضاء تهيجاً.
نطقت في تأثر شديد: «نعم، أظنه ممكناً، هنالك الكثير من الذكريات
العميقة والتي لا تنسى، تتجدد في كل حين بل وتكون بصورة أجمل
كلما تذكرتها، وأيضاً يمكنك تغييرها إلى الأفضل، نعم من الممكن أن
يحصل هذا »
بعد موجة المشاعر تلك نظرت إلى يوسف الذي لم يتغير من تعابيره
شيء، لقد كان بعيداً وأنا كنت أبعد عنه!
واستيقظت من أفكاري المستغرقة في الأوهام، أوهام أنني من الممكن
أن أغير وأمحو الكثير!
فيوسف كما هو يكرهني، وأنا ما زلت نفسي ولم يتغير شيءٌ من ذكرياتي
أو ماضيّ
إنني أتخيل حدوث ما يقوله يوسف، من الممكن أنه يقصد شيئاً لا
يتعلق بي، لا يمكن أن يحدث ما أتخيله، فلا يمكن أن يتغير شيءٌ كان
في الماضي!
الواقع والحياة لا يوجد فيهما مثل هذه المعاني!
بعد سكوتي القصير أكمل يوسف بابتسامة، وقد تغيرت تعابيره إلى
أخرى غير مفهومة بالنسبة لشخصي الغارق في أفكاره اللامتناهية:
«أعتذر على عدم إخباركِ بسفري من قبل، لقد حدثت الكثير من
الأمور، وكانت هناك خطط أيضاً لم أفكر فيها سابقاً، لا أعلم مقدار
المدة التي سأقضيها هناك أهي سنة أم أكثر، وأيضاً هنالك شيء أود
إخباركِ به »
توقف للحظات ناظراً إلى وجهي الذي يلاحظه هو فقط، وإلى تعابيري
التي تكشف أكثر مما ينبغي
الحمد لله، أنه لا يرى كل ما أحاول إخفاءه، لأنني أخجل من انكشاف
مشاعري أمامه
ارتفع وجهه وعيناه كانتا وكأنهما ترسلان مشاعره
التي شتتت كل مشاعري وأنستني كل أفكاري
أكمل بتوتر ظهر على صوته: «أطلب منك انتظاري »
خفق قلبي وأنا أسمع باقي جملته: «لا أعلم كيف أوضح المعنى، ولكن
في الحقيقة أنا أريد الارتباط بكِ » شد على كلماته الأخيرة.
بصدمة حبست نفسي، وظللت أحدق به مدهوشة مما قاله، ثوانٍ مرت
وأنا على وضعيتي، أعقد حاجبيّ مرة، وأتنفس بعمق مرة أخرى،
أحاول إخراج كلمة لكي تجر أخرى ولكن لم أستطع لأنه ليس هنالك
مجال للاستيعاب!
هل يمكن أن يطلب يوسف مني هذا الطلب!
أهو حلم أم حقيقة!
هو الجنون بعينه أن يفكر بي بهذه الطريقة، أن يفكر بالزواج مني!
وأي زواج هذا يحصل بيننا!
فالزواج منه محض خيال، لا يتخيل أيضاً!
ابعدت عيناي عنه أفكر لعلي أجمع أفكاري ثم اعدتهما إليه، رأيتُ وجهه المليء
بالتعابير المختلفة، التوتر الذي سكن عينيه والخجل الذي ملأ لون
وجهه، التغير الذي أصابه بعد ثانية، الألم ملأ وجهه وعينيه،
إحساس أنه غير مرغوب فيه انبعث منه، وأن إعاقته هي سبب صمتي
هذا، الإحساس الذي أوصله لي جعلني أتدارك الأمر وأقول: «لقد
صدمتني! »
لأكمل وأنا أهمس: «آسفة، ولكن لم أستوعب ما تقول، عذراً أيمكنك
منحي بعض الوقت لأفكر قليلاً » أمسكت يدايَ طرف المقعد الذي
أجلس عليه، لكيلا يبتلعني وليمسكني عن السقوط، وأنا أهرب
بنظراتي منه، كنت خائفة من افتضاح أمر نبضات قلبي التي تدق في
أذني، والاحمرار الذي علا وجهي وأحرقه.
ندمت على كل كلمة خرجت مني، خوفاً من فهمه لها بشكل خاطئ،
ولكن عندما عادت أخيراً إليه بتردد، رأيت ابتسامته التي
سطعت في بفرح وأشرق نور وجهه الذي كان خافتاً، وتقوس
حاجباه الكثيفان وكأنه أعجبهُ جوابي، بل أظن أنه قد فهمه بشكل
خاطئ!
تداخلت مشاعري ببعضها بين خجل وخوف
كنت أشعر أنني أتقلص وأتعرق بغزارة
لم أعلم ما الذي عليّ قوله أيضاً
لم أكن أريد إعطاء آمال زائفة، أو الكذب!
ولكن هنالك بداخل قلبي وبين جزئياته النابضة، هنالك شيء لا
أعرفه، شيءٌ يؤلمني في هذه اللحظة، مشاعر لا أستطيع تفسيرها،
ولكن أنا متيقنة أن هذه المشاعر ليوسف، لأنها الآن زادت، بعد كلماته
أصبحت أقوى وأعمق ونبضها عالٍ وأوضح.
بعد تلك الكلمات لم يكن هنالك المزيد، وكان الصمت هو الخيار
الأفضل بالنسبة لنا، والابتعاد بهدوء كان قرار نهاية الجلسة.
صعدت السلم ذاهبة إلى غرفتي، أحدق إلى قدميّ المنتعلتين لحذاء بيتي أبيض، وإلى اللون الأبيض الذي يعيد نفسه في كل مرة، لعلي أشتت أفكاري عن يوسف ولا أشعر أنني ارتبكت خطأً بحقه!
لمحت خولة تقف في الأعلى، أكملت مسيرتي إلى هناك، عندما حاذيتها كانت لا تزال ساكنة في مكانها وكأنها تنتظرني، نظرت إليها مستفسرة، وابتسمت في توتر ما زال يسكنني.
كانت خولة تضم ذراعيها إلى صدرها، تشد في آن وترخي في آخر،
نظرت إليّ بحدة وعيون دامعة سكنها الاحمرار،
استغربت تعابيرها وعقدت حاجبيّ استنكاراً لغضبها المفضوح
أمسكت يدها معصمي بشدة، وبحاجبين معقودين وعينين غاضبتين
نطقت: «أريد الحديث معكِ! » هززت رأسي بنعم وأنا أبعد يدي عنها
وأتبعها إلى غرفتنا.
في الغرفة وبعد أن أغلقت الباب بقوة، اقتربت خطواتها ناحيتي إلى أن
توقفت أمامي مباشرة، لا تزال تمسك طرفيها، تغرس أصابعها في أكمامها تحدثت في وجهي بأنفاس مسموعة وبوجه غاص في
انفعالاته: «أنتِ مجنونة، حقّاً أنتِ مجنونة! »
غاص قلبي تحت أضلعي لقصد خولة وعيناي معلقتان بوجهها الذي
تفجرت فيه حمرة الغضب
أكملت بسرعة وهي ترتجف: «أخبريني ما الذي تنوين فعله! أو ما
الذي يحدث بينكما بالضبط! وكيف يمكن أن تكونا بهذا القرب!
وكيف ليوسف أن يطرح عليكِ مثل هذا الطلب؟ أخبريني أفقدتِ
عقلكِ »
ابتلعت ريقها وفتحت فمها لتكمل وهي تنظر إلى وجهي الذي
تساقطت ألوانه وجفت مشاعره وانهارت: «لست أفهم ما يجري حقّاً!
لقد كذبت عينيّ وأذنيّ من المرة الأولى ولكن تلتها النظرات والكلمات،
كيف لي أن أفسر إلا أن هناك شيئاً غريباً لا يستوعب يحدث! »
تخلت عني مشاعري، وأصاب التبلد كل أجزاء جسمي، لم أستطع
النظر إلى خولة، ولم أستطع الرد أو الدفاع، هربت بخطواتي إلى الوراء،
ولكن أمسكت خولة ذراعي وهزتني، لم أنظر إليها فالتوتر قد أرعش
جسدي وشل لساني ، يئست من صمتي فقالت في تهديد: «أنا متيقنة
أنه لا يعرف من تكونين، لأنني استنتجتُ ذلك من حديثكما » قفزت
نظراتي إليها في فزع، وهززت رأسي في رفض وكأنني أنفي ما تقوله،
أكملت خولة بنظرة حادة قلصت من حجم عينيها المقهورتين، وانفرج
طرفا شفتيها قليلاً لتكمل: «أظن أنه يجب أن أخبره من أنتِ، فلو عرف
فلا أظنه قد يسامحكِ »
زاد التبلد حتى وصل إلى قلبي، وبوجه هربت منه ألوانه، واهتزت
مشاعره، رفعت يدي إلى الأعلى لأتحرر من يدها وأتركها عابسة الوجه،
وأضرب الأرض بقدمي وأتجاوزها ذاهبة إلى داخل الغرفة وإلى العمق
إلى مكان سريري قرب الحائط، والتفت إليها ناطقة بصوت متألم اهتز
من كلماتها: «من أنتِ لكي تحكمي أو تقولي لي هذا الكلام؟ أنتِ لم
تشهدي شيئاً من الأساس، وثانياً هو شيء خاص بيني وبين يوسف،
وليس لي يد فيه، لست أنا من أقترب منه، هو من بدأ كل شيء، وأنا لم
أفكر فيه مثلما يفكر هو فيّ »
صددتُ عنها وعلى سريري جلست منهارة، لم أشعر بها إلا وهي
فوق رأسي ويداها على خصرها، تصاعد غضبي لأرفع وجهي إليها
وأتفاجأ باختفاء كل آثار الغضب وقد حل محله الحزن، كان وجهها
محمرّاً وعيناها تحبسان فيضاناً من الدموع ينذر بالسقوط، قبل أن أنطق
قالت هي: «لقد صدمتني، أنتِ تلعبين بمشاعر يوسف! أنت تخدعينه،
لمَ لم تخبريه من أنتِ من البداية، لماذا! »
فضلت الصمت، لأنني في هذه مذنبة، ولأنه كان شيئاً خارجاً عن
السيطرة بالنسبة إلي، شيئاً لم أستطع التخلي عنه.
وأنا جالسة في مكاني مقابلة لخولة التي ما زالت على ما هي عليه تنتظر
مني تفسيراً، أسقطت يديها عن خصرها وابتعدت، قائلة بعد أن
فقدت الأمل في حديثي: «أنتِ حقيرة! يوسف أخبرني شيئاً عنكِ
وأنا بالطبع مثله لم أكن أعرف من أنتِ، وعلى الأكيد أنتِ تعرفين أنني
شخص مقرب منه منذ الطفولة، وأيضاً هو أخي يا جاهلة، أخي الذي
عشنا طفولتنا وشبابنا معه، هو أخ بالنسبة لنا »
عند هذه النقطة وقفت، انعقد بين حاجبيّ، ونطقت بغضب: «إنه
ليس أخي! أمي لم ترضعه، وليس هناك أي صلة قرابة بيننا »
اقتربت خولة مني ثانية، وقالت بسخرية: «ولكنه ابن خالتي
بالرضاعة، وأمي من ربته »
شعرت بالغرفة تضيق بي، خولة تحاول محاصرتي ومضاعفة
شعوري بالذنب، تريد اعترافاً صريحاً مني، تريد هزي وتذكيري
أنني مجرد شخص غير مرغوب به لدى يوسف، وأنني دخلت من
النافذة.
ما زالت نظرات خولة تنفذ إلى داخلي وتقيدني، كانت وكأنها تحاول
قراءة تلك الأسطر التي لا تكف عن المضي داخلي، لم يرتفع صوتي إنما
انخفض وأنا أحاول تصنع أن لا شيء قد تأثر فيّ: «ولكنه ليس أخي،
ليس محرماً لي ولا لك إنما محرم لأمي وخالتي وبناتها فقط، ولا يمكنك
تغيير هذه الحقائق »
هذه المرة فضلت خولة الصمت بدلاً عني، وكأنها يئست من محاولة
مجادلتي أو كشف أسراري.
ذهبت خولة إلى ناحية سريرها، بعثرت أغراضها لتعيد ترتيبها ثانية،
كانت وفي كل دقيقة تعيد النظر إلي في تهديد، كانت وكأنها تريد
الصراخ عليّ ولعني، أو فتح الباب والذهاب إلى يوسف والإفصاح
عما اكتشفته.
وأنا لا أزال محاصرة بين كلماتها، محبوسة بين أفكاري التي لا تقودني إلى
أي منفذ، لا يمكنها أن تكشفني بهذه الطريقة، سيكون موقفي بشعاً،
ولن يحدثني يوسف مرة أخرى وسيعرفني من صوتي، وسيكرهني،
وأنا لن أطيق ذلك، يجب أن لا يعرف عني شيئاً، أريد أن أكون مجرد
ذكرى عندما نفترق وليس شخصاً مخادعاً لعب لعبة قذرة.
لا أزال على وقفتي، وفي لحظة يأس وحزن، تقدمت خطواتي المترددة إلى
خولة، التي كانت جالسة ورأسها منكوس على كومة الملابس أمامها.
وقفت وورائي النافذة المفتوحة التي اهتز قماشها الزهري بفعل الهواء،
أرسلت نظراتي المترجية إليها لأقول: «خولة أرجوكِ لا تقولي ليوسف
شيئاً »
لم تجبني، وظل رأسها منكوساً، علا صوتي في قهر وأنا أدخل أصابعي
بين شعري: «خولة أرجوكِ أتسمعينني »
رفعت خولة وجهها الخالي من التعابير نحوي، لتقف وتهتز بعض
الخصلات الحرة من شعرها الطويل بفعل الهواء، أجابتني وهي تهز
رأسها في يأس مني: «سألتك عدة أسئلة ولم أجد أية أجوبة لديكِ،
وأيضاً أعطيتكِ أجوبتي كاملة، وأخبرتك بكل مشاعري »
رفعت يديّ أمامي في عصبية، وقلت لها وأنا أترجاها أن تكف: «رجاءً
خولة »
وفي لحظة ضعف وانكسار، تجمعت دموعي في عينيّ، وفاضت
مشاعري كالفيضان وانسابت من قلبي إلى لساني لأقول: «خولة أحقّاً
لا تعرفين ما يعني يوسف لي! الكل قد نسي من هو بالنسبة لي ولكن أنا
لم أنسَ، لم أنسَ أبداً أقرب شخص إلى قلبي، لقد كان صديق طفولتي،
وكان الشخص الوحيد الذي يحبني في طفولتي، كان يوسف يقدم لي
كل شيء لديه، وكان يفكر بي قبل الكل، يوسف لم يكن مجرد أخ أو
صديق في ذلك الوقت كان أكبر من ذلك بكثير، ولن يفهم أحدٌ ذلك
أبداً »
صمت قصير استمر لثوانٍ، كنت فيه أحبس دموعي، أمنع نفسي من
البكاء بشدة، أمنع شهقاتي من الخروج بعد كلماتي وأنظر إلى خولة التي
لم تحرك كلماتي فيها ساكناً
زمت شفتيها وعيناها ما زالتا تنظران إلي ببرود وهي تقول: «دعكِ من
الماضي، وأخبريني إلى أين وصلت علاقتكما بالضبط »
أصابتني الدهشة إلى جانب شعور بشع بالندم، تمنيت لو أنني لم أنطق
ولم أخبرها بتلك المشاعر التي خرجت بنشوة وانطفأت وتغيرت
إلى إعصار من الغضب العميق لأقول لها بصوت صارخ أطفأ كل
تعابيرها: «تبّاً لكِ، هل أنت بليدة! ألا تشعرين!، لم نصل إلى أي علاقة، ما
بال عقلك النتن يصور لكِ أموراً تافهة، وهل تظنين أنني قد أصل إلى
ما وصل إليه عقلكِ »
تحركت بخطوات سريعة ثائرة غاضبة، وأنا أتنفس بسرعة، أحاول
تهدئة نفسي، أمسك نفسي من افتعال شجار جسدي معها، والتفت
إلى خولة التي تقف في مكانها قرب النافذة وقد رحل عنها الغضب
وامتلأ وجهها بالتردد والحيرة.
قلت بصوت مرتفع وأنا أشد على كلماتي: «علاقتي به مثل علاقتكِ
أنتِ به، ألا تتكلمين معه؟ ألا تردين السلام؟ ألا تضحكين وتمزحين؟
أم هو حلال عليكِ وحرام عليّ، ما بال تفكيركِ وظنكِ بي! أم لأنني
من فعلت بيوسف فعلاً لا يغتفر، فأصبح لا يحق لي الحديث معه! .»
لان حاجبا خولة، تسرب إلى وجهها إحساس بالندم، غطت
وجهها خصلات شعرها المتأرجحة بفعل الهواء المنبعث من النافذة
وأخفت جزءاً منه علي، فرفعت يدها إلى النافذة لتغلقها وتمنع مروره.
وأنا كنت أنتظر منها ردّاً، لكي أنسفها بآخر، وأبرر لنفسي أكثر، وأطفئ
غضبي المتأجج!
اقتربت خولة مني جالسة على سريرها القريب من سريري، قائلة
بتردد واضح: «لم أقصد شيئاً خاطئاً، كنت فقط أريد معرفة حقيقة
العلاقة بينكما، أنا الآن أتفهم ما تفعلينه وأفهمه من وجهة نظركِ،
ولكن أشعر أنه ليس صحيحاً! »
صمتت قليلاً وهي تضم يديها في توتر، وعيناها الشبيهتان بعيني أمي
تحدقان بي: «انظري إلى أين وصل تفكير يوسف فيكِ، إنه لا يفكر بكِ
كما تفكرين به! أخبريني كيف ستبررين الأمر! حتى لو أخفيته فسيأتي
اليوم الذي يكتشف هو فيه ذلك! »
عند هذه النقطة انتهى حديثنا بعدة نقاط وبعدة أسئلة غير مجابة،
وبفراغات متسعة لا يمكن ملؤُها.
***


أَسْماء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس