عرض مشاركة واحدة
قديم 22-07-20, 12:38 AM   #354

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الحادي والخمسون (الجزء الثاني)



الفصل الحادي والخمسون (الجزء الثاني)



عُرف عن الألم الجسدي بزوال آثاره مع مرور الوقت، أما ألم الروح؛ فقلما يتم التعافي منه! بصعوبة بالغة استهلكت بقايا ثباته الزائف، كافح "تميم" في حضور "حمدية" السقيم ليخفي ما عصف بصدره من حزنٍ أمات قلبه النابض، آه لو أطلع أحدهم على روحه المتآكلة، لأدرك مدى العذاب الذي يعانيه الآن! غلف ملامحه بقساوة خارجية، ونظراته بجمودٍ مصطنع، حتى لا يُرى ما بهم من قهر يفتك بجوارحه. ومع ثرثرتها الزائدة عن ترتيبات الخطبة المزعومة من قبل زوجها، انفرطت آخر حبات عقد أمله الميؤوس منه، وتأكد عن ظهر قلب بأنها لم ولن تكون له يومًا. أوصلته "حمدية" عند منزل الحاج "اسماعيل"، ترجلت من السيارة قبل مسافة لا بأس بها، وتولى مهمة صفها عند بقعة خاوية، على مقربة من ذلك السرادق المقام على مرمى العين. استطاع أن يتبين رفيقه وسط الضيوف المتزاحمين، دنا من "منذر" الذي تزين في أبهى ثيابه، لتليق بهذه المناسبة السارة، وهنأه على عقد قرانه. سأله الأخير باهتمامٍ، ونظراته تتجول على ملامحه الواجمة:

-ها عرفت توصل بسرعة، ولا قابلت مشاكل في السكة؟

ابتسامة مرسومة بالإجبار على محياه، كانت وسيلته المؤقتة، لدفن أحزانه في الأعماق، حافظ عليها "تميم"، وأجابه بهدوءٍ:

-الطريق تمام يا "منذر"، بس فجأة كده قررت تتجوز؟

جاوبه "منذر" بصوتٍ انخفض قليلاً:

-شوية حاجات حصلت كده عجلت بالموضوع.

هتف مجاملاً، ودون أن تظهر رغبة واضحة عليه في معرفة التفاصيل:

-ربنا يتمم بخير..

تفرس أكثر في تعابيره المهمومة، وسأله:

-شكلك مش فرحان؟

تعلل كاذبًا:

-لأ إزاي .. ده بس إرهاق السفر.

-تمام.

قالها "منذر" وهو يصطحبه للداخل ليجلس وسط المدعوين من أهل البلدة، وأقرباء العريس ومعارفه. كان ممتنًا لبقائه في معزل عن البقية بالرغم من الصخب المحيط به؛ لكن لا شيء يُقارن بالصراخ المكتوم المتألم المنطلق بين جنبات نفسه. عــاد إليه "منذر" ليقف إلى جواره متسائلاً:

-الحاج "بدير"، والحاج "سلطان"، وباقي العيلة بخير؟

قال وهو يومئ برأسه:

-كلنا في نعمة .. تسلم على سؤالك.

جالت نظرات "تميم" على الوجوه المألوفة التي التقاها من قبل في حفل زفاف ابن خالته، دفعه ذلك للسؤال بجديةٍ:

-بأقولك يا "منذر"، هو إنت تعرف نسايب "هيثم" منين؟

أحنى الأخير جزعه عليه، وأشــار له بعينيه قائلاً:

-شايف اللي قاعد ناحية الشمال ده.

تساءل في حيرة وهو يركز نظره على كلٍ من "اسماعيل" و"فتحي":

-أنهو واحد، اللي قالب سحنته ولا التاني اللي بيتكلم مع آ....

قاطعه بصوت أجش رغم خفوته:

-لأ الأول، اللي اسمه "فتحي".

رفع "تميم" أنظاره نحوه، وسأله:

-ماله بقى؟

على مضض أجابه:

-ده قريب الجماعة، ابن خالة أمها، وبعيد عنك شخصية ما يعلم بيها إلا ربنا، سواد من برا وجوا، مايتوصاش في الغل والحقد.. عمل أفلام وحركات عشان ياكل حق الغلبانة قريبته.

كان وصفه دقيقًا عنه، حتى أن قسماته عكست بُغضه الظاهري بوضوح، فتساءل في غرابة:

-طب وعملت معاه إيه؟

غمز له رفيقه في ثقة قبل أن يرد:

-عيب عليك، ده أنا "منذر طه حرب"، وإنت عارفني في الحق زي السيف، معرفش أبويا.

ربت على كتفه قائلاً بزهوٍ لا يقل عنه:

-أبو الرجولة كلها يا عمنا.

خفف حضور "منذر"، ومرحه الذي مزج بين الجدية والهزل من وطــأة الأحزان الجاثمة على قلبه، هكذا خدع نفسه ليلتهي مؤقتًا عما أهلك روحه .. وظل بالقلب نبضة أخيرة، تتلهف بتوقٍ رهيب لرؤيتها –ولو للحظة- قبل أن تصبح مستحيلة للأبد.

.................................................. ......

تلفت حوله بتوترٍ، وهو يدقق النظر في الطريق الذي امتد على مرمى البصر، متفحصًا عن كثبٍ، كل مَركبة تعبر من جواره. أراد الالتقاء به أولاً قبل أن ينتقل لمنزل "اسماعيل"، لوضع النقاط على الحروف، والتأكد من اتباعه للنهج الذي رسمه للظفر بابنة أخته كعروس. حرك "خليل" الهاتف المحمول على أذنه، ليتلقى إشارة إرســال قوية، واستدار برأسه للجانب وهو يقول بتلهفٍ:

-أنا واقفلك على أول الطريق أهوو ..

أتاه صوت "آسر" معلقًا عليه:

-خلاص شوفتك يا أستاذ "خليل".

أنهى المكالمة الهاتفية معه ليجد إحدى السيارات تقترب منه، لمح يد "آسر" وهو يخرجها له من النافذة ليلوح له بها، تنحى للجانب مفسحًا المجال لإيقاف السيارة على جانب الطريق، صفها على مهلٍ، وترجل منها ليلتقي بمُضيفه الذي هتف مرحبًا به:

-حمدلله على السلامة يا أستاذ "آسر".

قال وهو يحتضنه في ودٍ:

-الله يسلمك، ومافيش داعي للألقاب، احنا خلاص قربنا نبقى نسايب

رد في استحسانٍ:

-فعلاً..

ثم سأله مبديًا اهتمامًا مبالغًا فيه:

-ها، قولي البلد مش بعيدة عليك، مظبوط؟

أجاب بدبلوماسيةٍ استساغها الأخير:

-الطريق حلو، مسألتش كتير، وعرفت أوصل على طول.

غمغم "خليل" في حبورٍ:

-كويس.. تعتبر ماخدتش وقت من آخر مرة كلمتني.

ضاقت نظرات "آسر" بشكٍ وهو يسأله:

-وإيه الأخبار يا أستاذ "خليل"؟ في مشكلة لو فاتحت عمها وخطبتها النهاردة؟ هو مش عارفني وآ...

قاطعه مؤكدًا بما لا يدع أي مجال لإثارة الريبة:

-لأ.. اطمن، أنا مظبطلك الدنيا كلها، كلمت الحاج "اسماعيل" عنك من يومين، وهو بعت ناس تسأل عليك زي ما قولتي أروح فين، وعند مين، وطبعًا جيتك عنده عشان تتكلم معاه شخصيًا دي حاجة كبيرة، وهايقدرها.

التوى ثغره بابتسامة ممتنة وهو يعقب:

-شكرًا يا أستاذ "خليل"، حضرتك سهلتلي حاجات كتير.

هتف الأخير في خبثٍ، وتلك النظرة الماكرة تتراقص في حدقتيه:

-ما أنا يهمني مصلحة بنت أختي.

تنحنح مرددًا بنبرة ذات دلالة غامضة:

-مفهوم، وبالنسبة لموضوع التأشيرة لقريبك ده اللي كلمتني عنه أنا خلاص تقريبًا خلصتها، كلها كام يوم وهتبقى عندك.

انفرجت أساريره عن ابتسامة غريبة وهو يهلل:

-أيوه بقى، بشرني بالأخبار الحلوة..

مسح على كتفه مؤكدًا من جديد:

-اطمن، أنا عند وعدي.

تساءل "خليل" بجدية:

-والحساب هيبقى أد إيه؟

بسمة منمقة تشكلت على جانبي شفتيه حين أجابه:

-الحساب وصل .. عيب نتكلم في الحاجات البسيطة دي، احنا بقينا تقريبًا نسايب.

تحدث "خليل" في صوتٍ متحمس، جعل "آسر" أكثر ثقة عن ذي قبل:

-طبعًا، هو في زيك يا ابني، وأنا مش عايزك تقلق، موضوع "فيروزة" هيخلص على خير بأمر الله، وأنا عند وعدي.

.................................................. ..........

في كل غضب الدنيا استدارت بثوبها البراق لتواجه والدتها، بعد أن أخبرتها بمجيء "آسر" لخطبتها دون علم مسبق منها. رمقتها "فيروزة" بنظرة نارية محتقنة، عبرت عن قدر محدود من الثورة المندلعة بداخلها، احتجاجًا على تقرير مصيرها بهذا التجاهل المستفز. هدرت مستنكرة فرض الأمر عليها، وهي تلوح بيدها:

-وإزاي محدش يقولي؟ أنا آخر من يعلم يا ماما؟!

بررت "آمنة" موقفها بتوترٍ ملحوظ في صوتها:

-يا بنتي أنا زيي زيك.. خالك مقاليش حاجة غير على آخر وقت.

صاحت بصوتها المتشنج تلوم خذلانها، حتى في أهم القرارات الحياتية:

-ده جواز يا ماما، مش فستان ولا جزمة جديدة عاجبته فجبهالي..

صمتت والدتها، ونظرت لها بأسفٍ مما زاد من غيظها، تصلبت عروقها، وتابعت صياحها الغاضب:

-والمفروض أوافق على اختياره.

قالت محاولة تهوين المسألة عليها:

-دي أعدة رجالة، هيتكلموا ويشوفوه .. ومافيش حاجة رسمي.

احتد صوتها وهي ترد:

-أنا مش "همسة"، مافيش حد يقدر يجبرني على حاجة مش عايزاها.

وضعت "آمنة" يدها على ذراعها، وقالت بترددٍ:

-طيب خلاص، أنا هاكلم عمك وآ....

وقبل أن تكمل عبارتها اقتحمت "حمدية" الغرفة لتقاطعها قائلة ببرودها السمج:

-يعني عاوزة تحرجي خالك قصاد الخلايق دي كلها؟ وتقللي منه؟ ما تبطلي أمور الجنان دي!

استدارت "فيروزة" لتصبح في مواجهتها، كانت الأخيرة تقف عند باب الغرفة الذي أغلقته من خلفها، تستند بظهرها عليه، وعلى وجهها تلك الابتسامة الباردة المليئة بالحقد. قست نظراتها نحوها، واشتعلت بحمرتها الملتهبة، ثم تقدمت ناحيتها لتصبح على بعد خطوتين منها، وهتفت فيها بعصبيةٍ:

-وهو خالي كان عملي حساب؟ ده ما يرضيش ربنا إنه يجوزني غصب عني!

ردت "حمدية" ببرود، وهي تتغنج بجسدها:

-ده مجرد تعارف.. مش حاجة يعني.

صاحت توبخها في غيظٍ:

-يا سلام، بأمارة ما جايبينه لحد هنا؟ بلاش الكلام الأهبل ده!

اعتدلت زوجة خالها في وقفتها، وحدجتها بنظرة جافية غير مبالية، ثم نطقت بسخافةٍ قاصدة إخراجها عن شعورها:

-وإنتي إيه اللي مزعلك؟ هو أنا اللي جيباه؟ ما هو من طرف صاحبتك إياها..

كزت "فيروزة" على أسنانها في حنقٍ ووالدتها ترجوها:

-خلاص يا "حمدية"، هي مش عايزاه، بناقص منه.

توحشت نظراتها، وردت:

-احنا جايين نهزر يا "آمنة"؟ ده جواز، وكلام رجالة.

استغربت شقيقة زوجها من حميتها الزائدة، وتحفزها لأمر تلك الخطبة بتلك الحدية؛ وكأنها مسألة مصيرية .. ومع ذلك لم يظهر انفعالها، وقالت لها:

-أيوه، بس بالاتفاق، مش بالغصب.

تقوست شفتا "حمدية" عن بسمة خبيثة، وعمدت إلى تزييف تفسير الأمور لتربك والدتها، وبالتالي لا تتخذ صفها، فقالت تتهمها بنفس الأسلوب المستفز:

-ما جايز يا "آمنة" قايلين لبعض من قبلها، عاملة الشويتين دول علينا، أل يعني بنتك المصونة في الحركات دي..

ثم غمزت لـ "فيروزة" بعينها خاتمة حديثها:

-يا بت اطلعي من دول، أنا فهماكي كويس.

جاء النفي من أعماق "فيروزة" مصحوبًا بصراخٍ رافض، لتدافع به عن نفسها:

-أنا مش كده يا مرات خالي، طول عمري واضحة ودوغري، ماليش في اللف ولا حركات البنات إياها، و"علا" صاحبتي ليا لي كلام معاها بسبب ده.. أنا مش هاسكت.

مدت "حمدية" يدها لتضرب كتفها عدة مرات، وقالت بجمود:

-وماله، اتعاتبوا، اتحاسبوا، اصطفلوا مع بعض، بس ده اللي حصل يا حلوة ...

ثم تعمدت التباطؤ في نبرتها وهي تستكمل:

-ولعلمك الموضوع دلوقتي بقى في إيدين عمك، يعني خالك مالوش دعوة، عمك "اسماعيل" صاحب الكلمة الأخيرة فيه.

وكأنها منحتها الحل السحري لكافة مشكلاتها، تسلحت "فيروزة" بشجاعتها النابعة من قوة شخصيتها، وتحدتها قائلة:

-سهلة! أنا هاطلع أتكلم مع عمي، وأقوله إني مش موافقة على العريس ده.

همّت بالتحرك، لكن أمسكت بها "حمدية" قبل أن تخطو للأمام خطوة أخرى، شدت على معصمها، وجذبتها بقوة للوراء، لتقول لها بعينين يملأوهما الحقد:

-اخربيها زي تملي، ده اللي بيريحك، ما هو إنتي غيتك تولعي الدنيا، لا ليكي كبير، ولا بتعملي اعتبار لحد.

استلت بعنفٍ يدها من قبضتها، وردت عليها بنظرات غلفها الكره:

-أنا حرة في حياتي.

نظرت لها بازدراءٍ وهي تنعتها:

-بدل ما تبقي عانس يا عين أمك، بايرة، لا تنفعي في جواز، ولا تنولي خلفة، الحق علينا بنعمل اللي فيه مصلحتك؟

انفجرت صارخة بها:

-ملكيش دعوة بيا، أنا مش زيك!

هنا ولج "خليل" للغرفة متسائلاً بوجهٍ متجهم وهو يدور بنظراته على ثلاثتهن:

-صوتكم عالي ليه؟

على الفور قلبت "حمدية" الطاولة على رأس الجميع، واتهمت ابنة أخته علنًا لتوغر الصدور:

-البت دي عاوزة تفضحك يا "خليل"..

استشاطت نظراته غضبًا، وتساءل بملامح نافرة:

-نعم تفضحني؟

ردت "فيروزة" نافية على الفور:

-لأ يا خالي الحكاية مش كده، ماتصدقش كدبها ده!

هتفت "حمدية" تعنفها بحدةٍ:

-أنا كدابة؟ سامع يا "خليل"؟ دي جزاتي عشان بأنصحك؟ وبأقولك بلاش تتبتري على النعمة اللي جيالك لحد عندك؟

تجاهلتها "فيروزة"، ووقفت قبالة "خليل"، لتقول له بأنفاسٍ هادرة:

-اسمعني يا خالي.. أنا مش هاتجوز أي حد بالطريقة دي، حتى لو كان العريس ملاك نازل من السما، صحيح اتضايقت إنك عملت كده من ورايا واتكلمت مع اللي اسمه "آسر" ده، بس أنا بأقولك أنا مش عايزاه، وهاروح لعمي أعرفه ده، وهو يتصرف معاه.

مجرد تلميحها الصريح بنيتها للجوئها لعمها لدعمها ونصرتها عليه، أصابه بالمزيد من الغضب نحوها، ليس لتجاوز سطوته التي أكد عليها لـ "آسر"، بل لإفسادها للمصالح السرية بينه وبين زوج المستقبل، أطبق على عنقها يخنقها منه، انحشرت أنفاسها في حلقها، وبرزت عينيها في ذهول صادم.. ضغط "خليل" بأصابعه أكثر على عروقها ليقطع الهواء أكثر عنها، وهو يهتف بغلٍ:

-إنتي إيه؟ جبروت! عاوزة تجبيلنا الفضايح حتى هنا كمان؟

تدخلت "آمنة" لنجدة ابنتها من بين براثنه، وبكت في حرقةٍ ترجوه، محاولة إبعاد قبضته عنها:

-سيبها يا "خليل"، هتموت في إيدك.

زاد من ضغطه الخانق على عنقها، وهو يتابع بتهديد عدائي:

-أنا مش هاعجز إني أموتك.. هادفنك حية ولا إنك تفضحيني قصاد أهل البلد.

قاومت "فيروزة" انقطاع أنفاسها بتشنجٍ، نجحت في تحرير نفسها، لكن بقيت آثار أصابعه القاسية على جلدها، لم تضعف أو تهتز، غالبت ألمها، ووقفت تواجهه باستبسالٍ جريء، رافضة خشونته وعنفه المفرط:

-فضيحة إيه بالظبط؟ هو أنا عملت حاجة حرام؟ خلي عمي يعرف، ويحكم بنفسه، وبأقولهالك يا خالي، أنا مش موافقة على البني آدم ده، هتدفني بالحيا عشان قولتلك لأ؟!

أطلقت جراءتها غير المرتاعة نوبة غضبه عليها، تلقت صفعة موجعة على صدغها، لم تكن قد استفاقت منها بعد، لتحصل على أخرى عنيفة جعلتها ترتد بترنحٍ نحو والدتها التي احتضنتها لتحميها من بطش شقيقها الغاضب، بالكاد نجت من عنفه الأعمى، نظرت له بكراهيةٍ، وهي تحاول الوقوف ثابتة أمام قسوته، وقبل أن تنطق مدافعة عن حقها، ونابذة كل محاولاته لردعها، وضعت "آمنة" يدها على شفتيها تكتم صوتها، توسلتها بانكسارٍ:

-خلاص يا "فيروزة"، عشان خاطري يا بنتي، ماتكلميش وهو في الحالة دي.

آلمها ضعف والدتها ورضوخها الدائم، استعطفتها الأخيرة بنظراتها الذليلة، فصمتت لأجلها مرغمة، ومع هذا رفعت عينيها نحو خالها تتحداه بصمودها. نظرات الشماتة الظاهرة في عيني "حمدية" كانت مستفزة لأبعد الحدود، وبكل برودٍ هتفت -من تلقاء نفسها- تستثير أعصاب زوجها عن قصدٍ:

-يا ساتر على نشوفية دماغها، عمالة اتحايل عليها من صباحية ربنا، وهي ولا عايزة تسمع لحد، أعوذو بالله من كُهن البنات، إيش حال ما كان العريس من طرفها؟

أشــار "خليل" بسبابته آمرًا:

-البت دي تفضل هنا ماشوفش خلقتها برا، تحبسوها في الأوضة دي لحد ما الليلة دي تعدي على خير.

ردت زوجته على الفور تؤيده:

-وماله يا خويا، اللي تشوفه، احنا مش ناقصين فضايح.

تابع ملقيًا أوامره على زوجته وشقيقته بصوته الأجش:

-متخرجش منها إلا في وجودي، سامعيني إنتو الجوز.. الخطوبة هتم قصاد الكل، بيكي من غيرك، هتحصل يا بنت "آمنة"!

ضربت "حمدية" على صدره مدعية خوفها عليه:

-اهدى بس يا "خليل"، كل اللي إنت عايزه هايحصل.

لم تكلف نفسها عناء إخفاء تشفيها فيها، ونظرت لها باستمتاعٍ حاقد قبل أن تتبع خطوات زوجها لتغلق الباب بالمفتاح. نفرت الدمعات المختنقة من عيني "فيروزة" التي دمدمت شاكية لأمها بصوتها المجروح:

-والله العظيم اللي بيحصل فيا ده حرام، ومايرضيش ربنا، هو بالعافية؟!

.................................................. .............

ذوى قلبه بألم لا يطاق في ضلوعه، وكأن أحدهم يقتلعه بشراسة غير آدمية، حين أبصر تعانق الأيدي بحرارةٍ، لمباركة الخطبة الجديدة، عقب قراءة الفاتحة، خلال مراسم عقد القران الخاص برفيقه "منذر". كان حاضرًا بجسده، مغيبًا عمن حوله، لم يظهر حتى طيفها بين الحضور ولو لمرة واحدة. رأى "تميم" والدتها بابتسامتها المنقوصة، زوجة خالها بنظراتها النهمة الطامعة؛ لكن طاووسه الأبيض أبى أن يمنحه نظرة أخيرة، غابت عن خطبتها، وتركته وحيدًا يعايش الآن حزنًا محتومًا، ومن نوع مختلف؛ ينهش في بقايا الروح، ويحيل القلوب الحية لحجارة صماء. دمعة أخرى غادرة فرت من عينه، أزاحها على الفور قبل أن تلحقها أخرى. انسحب من السرادق باحثًا عن بقعة خاوية من البشر، اختلى بنفسه لبعض الوقت، لم يحتسب كم مضى؛ لكنه كان مفصولاً عمن حوله، بكى في صمتٍ يدمي القلوب، بعد أن فشلت كل محاولاته لكبح ذلك الضعف المخزي.

شعر باحتراقٍ يلتهم أحشائه، ازدادت قسوته مع اختناق أنفاسه، وقد أدرك الحقيقة المفطرة لقلبه، بأنه تذوق عذاب الحب الحقيقي قبل حلاوته. الآن بعد فوات الأوان، اعترف بينه وبين نفسه بأن ما ضمره في وجدانه من مشاعر مرهفة، شغلت عقله كثيرًا، وألهبت عواطفه بالرغبة، كان فقط لأجلها، نعم لقد امتلأ قلبه شغفًا بها، ودبيب الحب الموجع الذي اشتعل في صدره لم يكن إلا لها وحدها؛ وإن كانت لا تعلم هذا .. وحدها من حركت الماء الراكد من أسفله، لتطلق العنان لأحاسيسه الكامنة، ووحدها من اغتالت أحلامه، وأعادته للحضيض.

أخرج من جيبه علبة سجائره، التقط واحدة منها، ودسها بين شفتيه، ثم حاول إشعال ولاعته؛ لكنها عاندته، لم تنبعث الشرارة منها، فكف عن المحاولة. انتصب في وقفته بتأهبٍ حذر، عندما رأى تلك الذراع الممتدة نحوه، بشرارة لهبٍ صغيرة تريد إشعال عقب سيجارته. استدار للجانب ليجد "آسر" بتعبيراته الباردة، تنعكس في عينيه المحتقنتين بوضوح، رغم العتمة المتواجد بها. استهل الأخير حديثه ناطقًا بصوتٍ رتيب؛ لكنه ساخر:

-صحيح الدنيا صغيرة، مكونتش أتوقع أشوفك هنا.

لفظ "تميم" السيجارة من فمه ليرمقه بنظرة احتقارية بائنة، ثم هدر به بخشونة:

-هات آخرك معايا.

استقام "آسر" في وقفته، ليرد بغموضٍ أصابه بالحيرة والارتباك:

-أنا أخري معروف، الدور والباقي عليك إنت!

اخشوشنت نبرته مرددًا بما يشبه الزئير:

-ماتحورش، وهات اللي في بطنك.

غامت عينا "آسر" بشكلٍ غير أليف، بات شخصًا آخرًا وهو يوضح له:

-يا عم ما تتحمأش أوي، بس أنا فاهمك، ما احنا رجالة زي بعض!

اعترض عليه بغلظةٍ، وبوجه مشدودٍ على الأخير:

-لأ مش زي بعض!

اختفت الابتسامات المنمقة من على تعابيره، تحول "آسر" لما يشبه المسخ وقد سقط القناع المهذب الذي دومًا يغلف به تقاسيمه، من المؤكد أن نظرة "تميم" له كانت في محلها، خاصة حين سأله بفحيح بعث على نفسه الرهبة؛ ليس خوفًا منه، وإنما خوفًا عليها:

-بيني وبينك كده .. المُزة عجباك؟ صح ........................................... ؟!!!

.................................................. ...............






منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس