عرض مشاركة واحدة
قديم 24-01-21, 02:57 AM   #85

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثامن والثلاثون ❤️🔥


مررت على المروءة وهي تبكي
فـقلــت عــــــــلام تـنـتـحــب الفتــــــــاة
فقالـت كيف لا ابكي
واهلي جـمــيعـا دون خــــلـــق الله مــــاتــــــــوا..

-السيد عبد المهدي.



هناك لحظة فاصلة في حياة كل إنسان مجبر على المرور بها وكأنها ضريبة وجوده تُسمي بـ "الفراق"، ستة أحرف بسيطة قادرة على زهق روحك حتى الأعماق، وسحب بساط السعادة من أسفل قدميك دون ذرة إشفاق، فتتركنا بين العالمين جثث هامدة منطفئة نتلظى بالشوق إلى من فارقونا بينما صورتهم لا تفارق الأحداق
وليس أمامنا من حل سوي الصبر الجميل حتى وإن كان الألم لا يطاق، على أمل أن ينطوي ذاك الدهر المؤلم ونجتمع من جديد منعمين برضا الخالق وفرحة التلاق....

خيالات...
ترى كل ما حولها خيالات وأشباه وشوش غير قادرة على تحديدها، تنظر دون أن تبصر، وتسمع دون أن تعي، تشعر بالاختناق يفرض سيطرته على رئتيها وكأنها سقطت داخل فجوة عميقة بقلب المحيط المظلم، كلما حاولت الطفو يجذبها التيار إلى الأسفل، فتظل تغوص وتغرق دون أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، فترتاح...
بينما قبضته القوية لا تفارق معصمها، يرفعها كلما سقطت، ويسندها كلما تعثرت، يعلم أنها مسألة وقت قبل أن تخور قواها تمامًا وتهوي مستسلمة لغياهب الأحزان...
يرى العجز يرخي سدوله من حوله في شعور لم يختبره مُذ حادثة شقيقه، ممزق ما بين من هلعه على من تقف بين يديه، تناظره بأحداق فارغة، وتمد يدها إليه تتلمسه وكأنها لا تراه، تتمسك به في قوة وكأنها تتوسله بطريقتها الخاصة أن يحمل عنها ما لا تُطيق حمله...
ونصفه الأخر ملتاع على رفيق الطفولة والصديق، يكاد يموت يأسًا للوصول إليه ومؤازرته، فما أن تم إخباره بحادثة شقيق زوجته من قبل مدبرة منزله وركضه مذعورًا إليها، حتى آتاه اتصال أخر مستنجدًا من محامي الشركة، يخبره بالقبض على رفيقه في تهمة اغتصاب، بعد اقتحام قوات الشرطة المبني دون احترام، وما بين الفاجعتين كان عليه اختيار أسوأهم، خصوصًا وقد اطمأن لوصول باقي أفراد العائلة وعلي رأسهم الطبيب "يحيي" إلى مقر استجواب جواد والوقوف جواره ومن قبلهم حاميته المحنكة "غفران"، أما تلك المرتجفة بين يديه، فليس لها سواه....

يشفق عليها مما يحدث ومن ما هو آت، الصدمة، الخوار، الحسرة، والغضب، شعورك بأنك فاقد الحياة بينما أنت مضطر إلى الوقوف والمحاربة، التعايش وحتى فيما يلي الابتسام، كل تلك المشاعر مر بها من قبل
وخاصةً تلك اللحظات المؤلمة، بداية من سماعك مصيبة الخسارة فجأة دون وداع، إلى مشاركة يدك في موارية جسد عزيزك التراب...

أما أسوءهم على الإطلاق، والمشهد الذي يظل محفور في الذاكرة، ويشق الروح حتى الأعماق، هي الرجفة التي تصيب الفؤاد قبل الجسد وقت الوقوف داخل ثلاجة الموتى ورؤية قطعة من قلبك ممده هناك، داخل البرد، فاقدة للحياة.......
اغرورقت عيناه بالدموع وقد عادت ذاكرته الحية تُعيد أمام عينيه كل ما حدث واستغرق منه الطويل من الوقت التعافي، هذا إن استطاع التأكيد بأنه تعافى، مخرجه من شروده صوت صراخ قادمًا من خلفهم وقد وصل باقي أفراد عائلتها من العاصمة وبدأت السيدات في العويل، فشعر على الفور بجسدها يتشنج جواره، وقبضتها الصغيرة تشتد فوق قماش قميصه، خاصةً وقد وقفت زوجة عمها أمامها، تندب الراحل وتولول هاتفه في ارتياع :
-(( آه يا وجع قلبنا عليك يا غالي.. قلبي عندك يا رحمة شيدي حيلك ))..

لم تجيبها كما لم تفعل مع غيرها مُذ وصولهم، وإن كانت حاضرة معهم بجسدها ألا أن فكرها في عالم أخر، تستند بثقل جسدها عليه، بينما بصرها شاخص نحو اللاشيء، حتى أنها لم تذرف الدموع إلى الآن، وقد جفت العبرات داخل مقلتيها المتحجرتين، فقط كان صفير أنفاسها المتزايد هو الدليل الوحيد على بقاءها في عالم الأحياء..
بينما هتف طاهر يَنْهَرهَا في قوة قاطعة :
-(( لو سمحتِ بلاش صريخ.. أنتِ شايفة حالتها مش ناقصه.. ومتنسوش أننا في مستشفى.. أي حد عايز يصرخ يكون برة بعيد عننا ))..

لوت السيدة فمها ممتعضة من حديثه في ضيق، وقبل أن يتدخل شخص أخر في الحوار، ظهر المحامي الأخر للشركة يقول في إشفاق :
-(( يا فندم.. لو الهانم مستعدة محتاجينها تتأكد من.....))..

صمت لوهلة وقد بدا عليه التردد قبل أن يضيف في خفوت، يحاول انتقاء أفضل الكلمات للتعبير عن مطلبه :
-(( المستشفى طالبة منها تأكدلهم أنه الفقيد ))..

شدد طاهر من تمسكه به ومحاوطة ذراعه لجسدها يهتف رافضًا في صرامة :
-(( لأ.. مش هتتحمل.. شوف أي حل تاني ))..

هنا تدخل عمها يسأل في حيرة وانكسار :
-(( هما طالبين إيه يابني أنا مش فاهم ))..

قال المحامي شارحًا على مضض بعدما مسح جبهته في توتر :
-(( لازم حد من عيلة المرحوم يأكد أنه هو نفس الشخص.. فمحتاحين حد يجي معانا التلاجة يشوفه ))..

يبدو أن أحبالها الصوتية قد وجدت أخيرًا طريقها للعمل، فهمست تقول في نبرة هامسة مرتعشة كسائر جسدها ولكن مصرة :
-(( أنا هدخل أشوفه.. ده حقي ))..

صفير أنفاسها أصبح مسموعًا للجميع، وملامحها شاحبة تنذر بالسقوط في آية لحظة، بينما جسدها بأكمله يرتجف كورقة في مهب الريح، أما عن نظرتها فكانت زائغة وكأنها شخص أبكم عاجز يرى أهوال العالم أجمع دون القدرة على الصراخ مستنجدًا، أو الفرار هاربًا، تحاول الصمود في الوقت الذي تأبى رئتيها فيه الانصياع لرغبتها، تشعر بأنها فقدت السيطرة على سائر جسدها، خصوصًا مع حالة الهرج والمرج التي أصابت المكان من حولها وتجمهر العائلة مع سكان الحي والأقارب الغاضبين، كل ذلك أقوى من قدرتها على الاستيعاب أو التحمل...
وقبل أن ينطق طاهر برفضه مسموعًا، كانت تسير بجسد مترنح نحو اللاوجهة، وقد خانتها ساقيها بعد خطوتين كما فعلت رئتيها، ومن قبلهم خذلتها عيناها عندما تحول كل ما حولها إلى السواد الحالك، في علامة واضحة على هبوط كافة مؤشراتها الحيوية، نتيجة لما تمر به من ضغط نفسي يفوق طاقتها، فانسحبت بكامل رغبتها إلى إغماء هادئ مؤقت عله يخفف عنها ما لا تستطيع استيعابه، مستسلمه لسكون، يشبه في ظاهره سكون شقيقها ومن يرقد مفارقًا إلى غير رجعة......



***************************


هناك أُناس، خلقوا في هذه الحياة من أجل المقاومة، لا يُسمح لهم الانكسار، ولا يجوز لهم الانهيار، وكأنهم جبال شامخة، دائمًا مرفوعي الهامات كما القمم العالية، لا يليق بهم الانحناء أو يترك لهم رفاهية البكاء....
مثلها... تمامًا.
أخذت الصدمة الأولى بنفس متقبلة، كل ما فعلته فور سماعها خبر القبض عليه هو الركض إلى مقر التحقيق الكائن به، لمعرفة التفاصيل المبدئية للحادث والوقوف على أدلة الاتهام، وجمع كافة الخيوط معا، وقد بدأ عقلها عمله على الفور في ترتيب أولوياته واتخاذ القرارات الصحيحة..
وأولها هو التنحي عن تلك القضية وإسنادها لمحامي شركته، والاكتفاء بكونها شاهد إثبات، حتى يؤخذ بشهادتها، أما ثانيًا فلديها مهمة البحث عن الجاني الحقيقي وجمع الأدلة، ولفعل ذلك يتوجب عليها مقابلة الضحية، وطبقًا للوضع الحالي لا يحتاج الأمر إلى كثيرًا من التفكير لمعرفة العراقيل التي ستلاقيها في طريقها للوصول إلى المجني عليها، ولكن لن تترك يد الإحباط تتمكن من رقبتها
خاصةً بعد ذلك الاكتشاف المذهل الذي لطمها عند معرفتها ما تورط به بسببها..
نعم هناك شيء يتعدى مفهوم وحدود الصداقة، تكون ثم أخذ يتسع ويأخذ مكانه داخل قلبها دون دراية منها، ولم تستطع فهمه سوي الآن، ومن أجله ستفعل المستحيل، حتى وإن تنازلت عن قضية الملجأ بأكملها ولا يصاب بأذي.....
هذا ما قررته في عناد وهمة مرتفعة وهي واقفة داخل الممر الضيق وأمام الباب المغلق الفاصل بينهم، تنتظر انتهاء التحقيق، والخروج لرؤيته ولو لِثَوَانٍ بسيطة.
أما ما صعقها وشل حركتها، وكاد يوقف نبضها هو نبأ وفاة رفيق الأشهر الماضية ومن اعتبرته شقيقها الأصغر، وكالقشة التي قصمت ظهر البعير، لم تستطع الصمود أكثر، كان ذلك أكبر من قوتها على التحمل، كفيضان جرف كل ما أمامه من قوة وصمود، وادعاء الصلابة، ولم يترك سوي العجز والخوار، فانهارت فوق الأرضية الشبهة بالية، تبكي وتصرخ حتى انقطع صوتها وجُرحت حنجرتها، وجفت العبرات من داخل مقلتاها، وشعرت بذراع حانية تحاوطها وتشاركها البكاء، بينما امتدت أخرى أمام وجهها لرفعها، ولم تكن تلك الأذرع سوي لصديقها "يحيي" وزوجته علياء، وقد أخبرهم طاهر في اتصال هاتفي بكل ما حدث فسارعا بالوصول إليها ومساندتها
وبعد فترة من الانهيار كانت بحاجة ماسة إليها، مسحت وجهها، ومسدت ملابسها ثم قالت في حرقة :
-(( أنا لازم أروح لرحمة.. حق مصطفى مش هيروح لو حتى هموت وراه.. الحيوان ده لازم يتحاكم ))..

مسحت علياء فوق ظهرها في حنو، بينما تحدث يحيى مُتَسَائِلاً في شجن :
-(( محتاجاني معاكي ؟! ))..

حركت رأسها نافية بعدما مسحت أخر الدموع الملطخة وجنتها، قبل أن تقول في إنهاك واضح :
-(( خليك هنا مع جواد.. علياء محتجالك.. غالبًا التحقيق مش هيخلص قبل بليل.. ومش محتاجة أقوالك تهم الاغتصاب بيحصل فيها إيه.. وأنا هروح المستشفى اطمن على رحمة هناك وبعدها هطلع على النيابة أشوف الإجراءات عشان نسرع عملية الدفن ))..

قاطعها معترضًا على مضض :
-(( بس أنتِ عارفة استحالة تاخدي تصريح دفن دلوقتي.. ده قتل يا غفران عن عمد ومع سبق الإصرار والترصد.. يعني في طب شرعي وإعادة تمثيل الواقعة وأدلة وتشريح جثة.. كل ده قبل الدفن.. وخصوصًا أن القضية اتعرفت في الساعتين دول ومش بعيد بكرة ولا بعده تبقى رأي عام ))..

أجفل جسدها بقوة فور سماعها جملة "التشريح" ولكنها سرعان ما تماسكت وقالت في إصرار :
-(( أنا هامشي في كل الإجراءات التي تجيب حقه.. مهما كانت صعبة وطويلة.. ومش هرتاح غير لما اللي عمل فيه كده ياخد جزاءه ))..



*****************************


داخل إحدى المشافي الخاصة والقريبة من المشفى العام.....
وقف طاهر بالقرب من حافة الفراش الطبي، يتابع عمل الطبيب الأربعيني في يقظة تامة، حيث عيناه الحزينة لا تفوت شيء مما يقوم به، وذلك بعدما قام بنقلها عند فقدانها الوعي إلى مشفى خاص، بعيدًا عن فوضى المشافي العامة وما يحدث فيها، حتى تنعم بالرعاية الصحية المطلوبة أولا، وتبتعد عن الضغط العصبي الناتج من كآبة فاجعة شقيقها والجمع المتجمهر ثانيًا....
ويا لها من من أيام ثقال على القلوب بانتظارهم، فقط كل ما يرجوه أن توّفق في تجاوزها كما فعلها هو من قبل
نعم، يعلم جيدًا أنهم على أعتاب دخول نفق مظلم، وعليه المقاومة من أجل إنارة عتمة قلبها والخروج بهم من تلك المحنة سالمين، فالحزن المطلق كما الفرح المطلق لا يدوم، بل هي أيامًا دول، كل ما عليه فعله هو الصبر معها وعليها، كما قال تعالى في كتابه الكريم "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ" .....
كلمات أوصى نفسه بها قبل أن تفلت من حنجرته تنهيدة أسى مطولة، قاطعها صوت الطبيب يقول في إرهاق واضح :
-(( أحنا عطنالها حقنة مهدأة.. هتنيمها لحد بليل.. ولو فاقت لسه منهارة ههديها واحدة تانية للصبح وهكذا زي ما حضرتك طلبت.. وبالنسبة لجهاز التنفس أظنه ضروري لحد ما التوتر يروح ونفسها ينتظم من نفسه.. ونصيحة أخوية مش من طبيب.. أظن المدام هتحتاج دكتور نفسي لما تفوق ))..

أسبل طاهر أهدابه نحوها، يناظر ذراعها الممدود بجوار جسدها المرخي بلا حول ولا قوة وتلك الإبرة الطبيبة المغروزة بداخل كفها الضعيف، ثم ارتفعت عيناه إلى قناع التنفس الصناعي الخافي أسفله نصف وجهها تقريبًا، قبل أن يقول في غم :
-(( إن شاء الله وشكرًا لنصيحة حضرتك ))..

أومأ الطبيب برأسه مودعًا قبل الخروج من الغرفة، وتبعته الممرضة بعدما انتهت من عملها، وبقي هو وقد أتخذ من حافة الفراش مجلسًا له، ثم أخذ يمسح على وجهها الشاحب، والشبه فاقد لمعالم الحياة، يتذكر منذ نصف ساعة عندما استفاقت من إغماءها صارخة في هيستريا، تظن أنها بداخل كابوس وليس حقيقة، وكم حاول تهدأتها دون فائدة، الأمر الذي أجبره على اقتراح فكرة المنوم من أجلها، فخلال الثلاث ساعات الماضية مرت بأكثر من أربعة نوبات تنفسية، يخشى من رد فعلها عندما تستيقظ ولكنه ينوي الاستمرار في فصلها عن العالم الواقعي على الأقل حتى تنتهي أيام الحداد الأولي...
مقاطعًا شروده صوت رفيقتها "غفران" تهتف في غصة معلنة عن وصولها، وقد جاءته كالنجدة عندما هاتفته منذ قليل تخبره بقرب قدومها إليهم وتطمئن منه على حالة رحمة، فكم تتمزق نفسه لمعرفة ما يحدث مع صديقه ومن هو بمنزلة أخيه :
-(( طاهر... رحمة كويسه ؟! ))..

استدار يواجهها بعدما انتصب واقفًا بجسده المتشنج، ثم قال في شجن :
-(( الدكتور عطاها حقنة مهدئة.. عشان من شويه فاقت منهارة.. بس دلوقتي نايمة وهتفضل كده فترة.. أظن ده أحسن لها ))..

قاومت غفران بشدة نفسها من الانهيار ثانية، ورغم ذلك لم تستطع منع نبرتها من الخروج ممتلئة بالدموع وهي تقول في حسرة بعدما جلست فوق الأريكة الصغيرة الموضوعة بداخل الغرفة :
-(( أنا مش عارفة أستوعب لحد دلوقتي اللي حصل.. عقلي واقف وعاجز عن أني أعمل أي حاجة ))..

هز رأسه مشاركًا إياها إحساس العجز، فهو شَخْصِيًّا يشعر وكأنه مكبل من جميع النواحي، أينما أراد الذهاب تأبى قدماه مسايرته، فسار حتى أتخذ من جوارها فوق الأريكة مقعدًا، ثم قال في هدوء :
-(( أنتِ بالذات مينفعش عقلك يقف.. أومال مين اللي هيخرج جواد ويثبت براءته زي ما عرف يخرج رحمة قبل كده ))..

رفعت رأسها تطالع ابتسامته الباهتة المشجعة في ذهول ولأول مرة ترى نظرات الفخر في عينه، نعم تلك
هي نظرته بها من البداية إلى النهاية، حانت منه التفاتة خاطفة إلى زوجته المسجاة فوق الفراش في سكون، ثم عاد بنظره مجددًا إلى رفيقتها، فكلاهما محاربتان بطريقتهما المختلفة، ويعلم أن غفران قادرة على عبور الأزمة بجواد، كما رحمة قادرة على اجتياز محنتها بمساعدته، بينما سألته غفران في شك :
-(( تفتكر هقدر؟!.. ))..

قال مشجعًا في ثقة :
-(( معنديش ذرة شك.. قوليلي محتاجة إيه وأنا تحت أمرك ))..

مسحت وجهها ثم أجابته مفكرة في عزم، وقد لاقت كلماته الصدى المطلوب بداخلها، فعادت روح المحاربة تتلبسها من جديد :
-(( محتاجة أقعد في هدوء وأعيد ترتيب أفكاري ))..

بلعت لعابها ثم قالت في إقدام وعيناها مسلطة فوق جسد صديقتها :
-(( لازم نكون أقويه عشانها صح.. على الأقل مفيش حاجة تبرد ناري ونارها غير القصاص ))..

فركت جبهتها في عنف وكأنها تستدعي أفكارها وتحثها على الخروج، ثم وبعد دقائق من الصمت همهمت تقول في جمل مدروسة منظمة :
-(( بالنسبة لقضية مصطفى.. في الكام ساعة دول الحادثة غرقت السوشيال ميديا.. يعني مسألة وقت قبل ما النائب العام يتحرك ويحولها لقضية رأي عام.. وبكده هيمنع النشر فيها.. بس لازم عشان نضمن استمرار التحقيق العادل نضغط بالجمهور.. هحتاج هنا مساعدة جنب الجمعية بتاعتنا ))..

أومأ طاهر بعينيه موافقًا فأردفت تقول في فتور غلف نبرتها رغمًا عنها :
-(( للأسف الولد قاصر.. فأقصي عقوبة هتكون الحبس في الإصلاحية.. وده القانون مهما حاولت مش هعرف أغيره.. بس إن شاء الله هياخد أغلظ عقوبة تريح قلوبنا شوية.. وطبعًا الولد أتقبض عليه لأنه نفذ جريمته في وسط النهار.. غير أن الحادثة ليها شهود وكلهم أجمعوا على أسمه وأحتمال كبير يكون سلاح الجريمة ببصماته لأنه مش محترف يعني الجزء ده منتهي.. الموضوع ماهو ألا إجراءات روتينية أنت مريت بيها من قبل وعارفها ومش متوقعة ناخد تصريح دفن دلوقتي خالص.. كل اللي قلقانة منه هو ضغط عيلة الولد للتفاوض أو الفدية وغيره.. بس نيابة عن رحمة وباعتبارها موكلتي أنا مستحيل أرضي بحاجة غير السجن.. ومظنش بنفوذ عيلتك يا طاهر حد ممكن يساومنا هعتمد عليك في الجزء ده ))..

ردد يقول في فخر :
-(( كلهم وراكِ وورا رحمة متقلقيش ))..

همست تعقب في راحة :
-(( عظيم.. وأنا هنزل كمان شوية النيابة أتابع سير القضية من دلوقتى وهحتاج توكيل في أقرب وقت.. نيجي بقي للأصعب ))..

ضرب قلبها داخل أضلعها واختنقت معه نبرتها، قبل أن تقول في قلة حيلة :
-(( أبو المجد لفق قضية الاغتصاب لجواد عشان أبعد عن طريقه وأسكت على اللي بيعمله.. ومفيش قدامنا غير حلين ))..

سألها طاهر في ترقب، وقد ضاقت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( إيه هما ؟! ))..

ردت في بساطة :
-(( أديله كل الورق اللي معايا وأبعد عنه.. وده يتنفذ حالًا وساعتها البنت هتتنازل طبعًا وجواد مش هيتعرض للمحاكمة.. يا أحاول أثبت براءته وأخرجه ))..

بدا على طاهر عدم الاقتناع بالفكرة الأولى من رد فعله المبدئي، وأكد ظنها قوله عندما سأل في توجس :
-(( والحل التاني صعب! ))..

زفرت في عجز، ولن تنكر إحساس الخوف المتملك منها منذ سماعها خبر اعتقاله، تخشي حقًا المخاطرة به، فهو دونًا عن الجميع خط أحمر تتراجع عنده كافة مخططاتها في مقابل سلامته :
-(( طاهر.. قضايا الاغتصاب مختلفة.. القانون فيها صارم ومفيهوش تهاون.. والمتهم بيتعرض للمحاكمة على طول من غير إطلاق سراح، يعني لو مشيت في طريق إثبات البراءة جواد هيفضل محبوس لحد يوم المحكمة.. وده اللي أنا مش عارفة أتقبله.. غير أنها بتكون سريعة ووقتها ضيق اخاف ملحقش أجمع أدلة ))..

لم يتجاوز هو الأخر شعور القلق الذي أخذ يتسلل إليه من حديثها، فقد كان يظن أن الأمور أسهل من ذلك بكثير، بينما أردفت تضيف في لوعة :
-(( أنا سبت محامي الشركة اللي وصل معاه يتولى القضية.. وأنا هتابع من غير ما أظهر في الصورة.. أنا عرفت من مصادري أن الواقعة حصلت إمبارح بليل.. في الوقت ده جواد كان عندي وفي كام حد من الجيران شافه وأتكلم معاه.. يعني هكون شاهدة إثبات مع الباقي.. وهحاول أوصل للبنت أقنعها تتنازل.. أظن أنها خايفة من أبو المجد ولو اطمنت ممكن تقولي كل الحقيقة.. غير أني هطالب بعمل تحليل dna عشان نعرف هوية المغتصب ولو طلعت مش مطابقة جواد يخرج.. بس عشان متحطش أمل معرفش هنجح ولا لأ ))..

سألها طاهر في إحباط :
-(( ليه بتقولي كدة.. ما بكلامك واللي فهمته حجة الغياب تقدر تخرجه.. صح ولا أنا غلطان ))..

أجابته في حيرة مقطبة الجبين :
-(( تقدر.. بس قلقانة.. خايفة حاجة تقع مني وتكون حياته التمن يا طاهر.. خايفة أخاطر بيه.. فاهمني ))..

لن يستطيع الإنكار بأنه هو الأخر يراوده نفس الشعور، فيبدو أن القضية مُحكمة التفاصيل كلعبة الشطرنج في نهايتها، وأي حركة خاطئة قد تُكلف الملك حياته؛ لذا بعد فترة لا بأس بها من الصمت كلًا غارق في أفكاره، كان طاهر هو أول من قطعه عندما قال يُنهي حيرتهم :
-(( أنا هسيب القرار لجواد.. في الأخر القضية بتاعته فسبيني أتكلم معاه وأعرف مستعد لإيه ووقتها نرتب أوراقنا. بس أنتِ حاولي تمشي في كل الاتجاهات سوا.. ودلوقتي خليكي مع رحمة هروح اطمن عليه وعلى عمي والعيلة وأشوف المحامي وأرجع.. وكده كده بلغت البلد باللي حصل وعلى أخر اليوم هتلاقيهم واصلي.... ))..

قاطعه رنين هاتفها، فسارعت تجيب في لهفة وتستمع إلى حديث المتصل، ثم وبعدما أغلقت الهاتف همست تبلغه في إكتراب :
-(( التحقيق خلص.. جواد اتحبس ١٤ يوم على ذمة التحقيق.. ويحيي بيقول أنه رفض يديهم حجة غياب.. كل اللي قاله أنه كان في مشوار ضروري لحد الصبح ))..

سألها طاهر في غضب، حيث انتفض من جلسته وراح يذرع الغرفة في تشنج :
-(( مشوار إيه ده اللي كان فيه ومش عايز يقوله ويخرج نفسه ))..

اجابته من بين دموعها المنسكبة :
-(( كان عندي.. إمبارح حصل اعتداء من رجالة أبو المجد على شقتي.. وجواد لما عرف جالي وفضل قاعد معايا للصبح.. أنا الغلطانة وكله بسببي عشان مردتش أبلغ البوليس فهو صمم يقعد معايا ))..

توقف طاهر عن الحركة، ثم أستدار برأسه ينظر إليها قبل أن يقول في دهشة :
-(( عمل كده عشان يحميكي ويساعدك!! ))..



*************************


بعد مرور أسبوع....

بداخل غرفتهم الخاصة بمنزل المناويشي....

انقضت سبعة أيام كاملة وهي بتلك الحالة المزرية، تعتزل مظاهر الحياة وترفض استقبال الجميع ألا من "يحيي" طبيبها القديم والذي حرص على زيارتها يَوْمِيًّا وحثها على الحديث دون كلل أو ملل على الرغم من تجاوبها الشبه معدوم معه، ثم ومن بعد رحيله تعود إلى سيرتها الأولى، غالقة الباب في وجه الجميع حتى مدبرة منزله، وتظل جالسة فوق الفراش، شاخصة البصر، زاهدة في صحبة البشر، صامتة بينما قلبها لا يتوقف عن الذكر والدعاء، تقضي يومها بالتناوب بين الذكر وقراءة القرآن، إلى أن يحين موعد عودته، وقتها تتسلل إلى ذراعيه وتبكي في صمت حتى يغالبها النعاس فتغفي بين يديه وقد بللت دموعها صدره...

وكعادته منذ الحادثتين دلف طاهر أخر الليل الغرفة يجوبها بعينيه بحثًا عنها، حيث يُمضي نهاره ما بين العمل ومتابعة القضيتين، ويعود مَسَاءًا منهك القوى لا يقو سوى على تهويدها بيده وكلماته الحانية حتى تهدأ نوبات بكاءها، فينام هو الأخر ضائق الصدر، معلول الفكر مما أصابهم...
أما الليلة فوجدها جالسة فوق الأرضية مجاورة جانب الفراش وليس فوق أريكتها المفضلة، مستندة بظهرها عليه، فسار حتى وصل إليها وجلس أمامها دون كلام، مخالفًا بذلك العادة، حيث كل مساء ومن بعد عودته وتبديل ملابسه يبدأ في سرد أحداث يومه وأخر مستجداته إليها، فحتى وإن امتنعت عن التعقيب، يكفيه لمعة عينيها المرتاحة التي تضوي ولو لِثَوَانٍ معدودة فور رؤيتها له قبل أن تعود لخمودها مجددًا، وكأنها ترحب به بطريقتها الخاصة، بل وتحثه على مشاركتها الأخبار، أما هذه الأمسية فلم يملك جديد يُذكر ليشاركها إياه؛ لذا اكتفى بالجلوس والتربع أمامها، يتأمل ملامحها الباهتة، وقد اتشحت بالسواد كاملًا ورغم ذلك لم تقل زهوتها في عينيه، بل كانت كالقمر الخاسف، كل ما يحتاجه هو بعض الوقت ليعود سحره اللامع إليه من جديد..
بينما أغلقت هي المصحف فور جلوسه قبالتها، بعدما صدقت وتوقفت عن القراءة ووضعته فوق المنضدة الملاصقة للفراش، ثم وللمرة الأولى منذ أيام تحدثت تسأله في خفوت :
-(( أنت كنت حاسس ناحيتي كده؟! ))..

ناظرها مطولًا يلاحظ مقاومتها للنهوض وتلك اللمعة الخافتة بعيناها وكأن مقلتيها آتون منطفأ تجاهد للاشتعال من جديد، كل ما تحتاجه هو الوقود المناسب، ليس فقط عيناها بل كلها، تحارب للطفو على السطح فيبدو أنها قد سأمت أخيرا من القاع، وبعدما تنهد مطولًا فيما يشبه الارتياح، ومد أحد ذراعيه يحتضن كفها، همس يستفسر في إنهاك :
-(( حاسس بأيه؟! ))..

ضغطت فوق شفتيها في عنف بالتزامن مع تقطيبة جبينها، تمنع سيل دموعها الغير متوقف مُذ إفاقتها من الجريان، وقد تقرح جفناها وتشوشت الرؤية من خلف عدستاها، ثم قالت مفسرة في بكاء مرتعش :
-(( الكره ده كله.. زي مانا حاسة ناحيته ))..

علم على من ترمي بحديثها وهاء الغائب، فحرك رأسه عدة مرات على مضض ولأول مرة تلاحظ بعدما نظرت بداخل عيناه الحزن الكاسي ملامحه، والهالات المحتلة أسفل جفونه من كثرة السهر وقلة الراحة، وأخيرًا إرهاق كلي لا يخفى على ناظر، بينما همس يقول في غصة بعدما ابتلع لعابه في قوة فتحركت على أثرها تفاحة آدم بداخل عنقه :
-(( صدقيني أكتر بكتير.. الكره ده أقل حاجة حسيتها ناحيتك وقتها ))..

أشاح بوجهه بعيدًا عنها، وكأنها بسؤالها البسيط، أعادت إحياء كل تفاصيل اَلْمَاضِي الذي يحاصره منذ وقوع حادثة شقيقها أينما ذهب، ويأبى تركه ألا بعد نفخه الحياة في ألمه المدفون كي يكتوي بنيرانه من جديد.....
وها قد نجح في النهاية، فصور شقيقه المحفورة بذاكرته لا تنفك تومض واحدة وراء الأخرى، ليس فقط صورته وهو مفارق الحياة شاحب الوجه، بل ما قبل ذلك بكثير، طفولتهم ومراهقتهم، أحزانهم قبل أفراحهم، ضحكاتهم وجدهم وهزلهم، كل ذلك عاد يضربه دون رحمة، وبعد دقائق طويلة من الصمت المثقل، صمت نابع من عدم الرغبة في الحياة، همس يقول في حشرجة :
-(( أنتِ عارفة أن لحد دلوقتي مبكتش عليه.. كتمت ناري جوايا وسكتت.. أصل عندنا الراجل مايبكيش.. عودونا وروبونا على كده وأنا مبكتش.. اتاهيت في كرهك.. ومن بعدها اتلهيت في الشغل.. وبعدهم دخلتي غصب عني حياتي ))..

صمت وقد تمكنت الدموع بشكل تام من نبرته، فتوقف حتى يسيطر عليها ويمسح في الخفاء بطارف أصبعه ما يفلت عنوة، قبل أن يضيف بابتسامة ألم :
-(( عارفة.. من الحاجات الغريبة أن عمرو كان دايمًا يقولي ربنا يوعدك بواحدة تلهيك عني.. ومع الأيام وفي عز كرهي ليكي كنت بشوف نفس النظرة اللي خارجة من عيونك دلوقتي.. وكأنك بتقولي أنا آسفة.. أنا عذراك.. كل الكره اللي في قلبك ده من حقك.. حتى لما كنتي بتقفي قصادي صوتك كان يقول حاجة.. ونظرتك مش بتقول غير معلش.. كل ده انشغلت بيه عن فراقه وبعد شهور وأنا ملهى بيكي وليه بتعملي كده اكتشفت أن ده تدبير ربنا عشان الأيام تعدي وأنسى.. فاصبري وادعي ربنا وأكيد هيبعتلك اللي يلهيكي عن الحزن ))..

ارتفعت زاوية فمه بنصف ابتسامة ساخرة، مجيبًا وكأنه يهزأ من حاله :
-(( وفي الأخر واضح أن دعوته اِسْتَجَابَتْ.. كنت فاكر أن قصده اتلهي عنه وعن جنانه وهو جنبي مش وهو تحت التراب ))..

رفعت ذراعها تضغط بكفها فوق موضع قلبه متسائلة من بين دموعها التي لا تتوقف عن السقوط :
-(( ولو اتلهيت.. هنا في أمل يرتاح؟ ))..

حرك رأسه بلا هدف، بينما غصة مؤلمة تحشر الكلمات في حلقه، يحاول ابتلاعها مرات ومرات حتى نجح في النهاية في إخراج نبرة متهدجة مريرة :
-(( الناس في الحزن نوعين.. في اللي بيصرخ ويعيط.. وفي اللي بيكتم ناره جواه.. اصرخي مادام قدامك فرصة.. متبقيش زي طاهر ))..

ومضات اَلْمَاضِي أرهقته واستنزفت روحه عن أخرها وكانت كلماته تلك هي أخر طاقته للحديث فصمت بعدها، أو ربما هو جرح غائر، التأم على تلوثه فلم يشف، بل ظن يئن منتظرًا اللحظة المناسبة للنزف مجددًا، وكأنها شعرت بعجزه عن استئناف الكلام ففتحت ذراعيها على اتساعهما، تدعوه بينما دموعها تتناثر مع ذرات الهواء ولا تدري أتبكي من جرحه أم جرحها، أم تشابهت الجراح فصارت واحدة...
كل ما علمته أنه يحتاج إلى حضنها كما احتاجت كلها إليه، وإما الآن والفرصة قائمة أو سيظل طوال عمره يتلظى بنيران حسرته، فهمست تحثه من بين شهقاتها الملتاعة :
-(( أبكي.. أصرخ ومتبقاش زي طاهر ))..

كانت لحظة غريبة بينهم، شيء عميق يتشاركانه، وكأن إحدهما خلق كي يشد من أزر الأخر، يدعمه ويواسيه وينصهر بداخل حاجته متناسيًا حاله، وعندما استجاب لها وأرح جبينه فوق صدرها وطوقته ذراعاها، انهارت كل حصون مقاومته، وأخذ ينشج في بكاء شديد، بينما جسديهما يهتزان سَوِيًّا في عنف وقد اختلفت الأعين وتماثلت المرارة واختلطت الدموع معًا حتى استكان بين ذراعيها منهك القوى ولكن، يشعر وكأن حمل ثقيل حمله لأشهر، قد انزاح من فوق صدره.


************************


بداخل شركة المجد...
ضربت الباب بقدمها، قبل أن تقبض بكفها المتشنج على مقبضه وتدفعه مقتحمة الغرفة دون استئذان، بينما سكرتيرته الخاصة تركض من خلفها بقدر ما تسمح لها تنورتها الضيقة وحذائها ذو الكعب العالي، هاتفة في نزق :
-(( يا فندم ميصحش كده أبدًا.. على الأقل سبي....... ))

أصمتتها غفران بنظرة نارية محذرة من عينيها قبل أن يفعل هو، ذاك الملقب بأبي المجد، عندما أشار بكفه إلى المساعدة يطلب منها في لامبالاة الانصراف، ثم اتكأ بظهره فوق المقعد المريح يضع ساقًا فوق الأخرى في وقاحة زائدة يتعمد بذلك استفزازها، هي من اندفعت بجسدها تخبط في عنف حافة مكتبه وتصرخ مهتاجة في لهجة تحذير قوية :
-(( طلع جواد من حسبتنا.. وألا.... أقسم بالله هتشوف واحدة تانية غير اللي قدامك.. ويا روح ما بعدك روح.. سامعني! ))..

اتسعت ابتسامته السمجة بالتزامن مع تمرير عيناه فوقها، يعترف بإخطاءه في حقها وانتقاصه من قدرها، ففي البداية كان يراها "أنثى مسترجلة" بشعرها القصير وملابسها الخالية من حُلي النساء المعتاد، أما الآن وبعد بضعة أشهر من الصمود أمامه، يراها محاربة كما الساموراي، تقف مدافعة عن كل عشيرتها دون أن يرف لها جفن، أو تُحني لها هامة، وكم يتمنى امرأة مشابهة في حياته، فقط لو تتعلم عدم حشر أنفها فيما لا يعنيها وتتركه يمارس عمله كيفما ارتأى، أو لو فُتح بينهم باب تفاهم، لحرص بعدها كل الحرص على وصل الود، فمحظوظ من تقع تلك الشُجاعة من قسمته، ويا له من خاسر من يفرط بها بعدما أضحت في عصمته....
وبعد فترة من الصمت انتهى خلالها من تأملها، قال في نبرة ساخرة أجشة :
-(( وهو أستاذ جواد.. بقي الروح! ))..

عزيمتها لا تقل عن نظرتها الثائرة، ولن تتواني في التكشير عن أنيابها والتهامه حَيًّا كما انتوت، وعند تلك الفكرة تذكرت سبب وجودها فقالت في هدوء نسبي ونبرة جدية جامدة :
-(( أنا مش غبية عشان معرفش أنك السبب ورا تهمة الاغتصاب الكيدي.. وإن البنت اللي أنت مخبيها عني عشان معرفش أوصلها كانت من بنات الملجأ.. فلخص وقول عايز إيه مقابل تنازلها عن اتهام جواد ))..

انتفخت أوداجه شاعرًا باقتراب خلاصه؛ لذا قال في اندفاع :
-(( بيقولوا عنك ذكية يا أستاذة.. ومش محتاج أقولك.. إنك تحلى عني وتديني كل نسخ الأوراق اللي جمعتيها ضدي.. مقابل حريته.. لا مقابل أني أنسى وجوده خالص ))..

قالت مماطلة في حنكة :
-(( وإيه يضمنلي أن بعد ما أنفذ اللي طلبته متخلاش بيا.. أضمن منين أنك تتنازل عن البلاغ الكاذب ضده وهيخرج منها قبل المحكمة؟! ))..

أجابها بعدما حك بنصره بجانب وجهه في تفاخر لا يليق به :
-(( أحنا ولاد بلد يا اوستاذة.. وكلمتنا وعد وسيف على رقابينا ))..

صمتت لوهلة ثم قالت مساومة بعدما تفرست ملامحه تقرأها وتستبين نيته الحقيقة :
-(( موافقة بشرط. تقدم الجاني الحقيقي للمحكمة.. وكده عدل ربنا ))..

هتف متراجعًا في ذعر بعدما اعتدل في جلسته ملتاعًا ورفع كلا كفيه أمام وجهها :
-(( لا يا اوستاذة مقددرش.. لحد هنا واستوووب.. ده راجل تقيل ونروح كلنا في داهية لو اتجاب في الرجلين.. ليكي عليا اخرج حبيب القلب.. وبس ))..

حركت لسانها في جوانب فمها مدعية التفكير، ثم ردت متراجعة في ثقة :
-(( كده اتفاقنا ملغي.. ونتقابل في المحكمة.. سلام ))..

استدارت بجسدها عنه سائرة حتى باب الخروج، قبل أن يوقفها صوته يقول ساخرًا :
-(( وماله.. طلعيه لو عرفتي.. بس على حساب سمعتك ))..

التفت برأسها تناظره في توجس، بينما أردف يقول محذرًا إياها بصوته الرجولي الخشن :
-(( أنا مش بتاع لب يا أستاذتنا.. والمحاميين اللي قاعد بدفعلهم بالشيء الفلاني دول مش زينة.. أنا عارف انك هتحاولي تطلعيه بجحة الغياب.. مش الباشا برضه كان بايت عندك ساعة الحادثة ولا إيــه ))..

ضغط فوق حروف كلمته الأخيرة يعطيها الأهمية المطلوبة، قبل أن يضيف في تهكم :
-(( شوفي بقى لما يعترف أنه كان عندك.. والبلد كلها تعرف أن سليل عيلة المناويشي.. كان بيقضي ليلة حلوة مع المحامية المطلقة في بيت مأجراه لوحدها.. خبر حلو مش كده؟!.. أصل أعرف أن عيلة المناويشي دي بيحبوا الحرام أوي.. ماهو ماتلهم واحد قبل كده وهو........ ))..

ترك جملته ناقصة عن قصد، يراقب ملامح وجهها وقد استحالت للصفار، ثم اضاف أخيرًا بعدما اشاح لها بكفه كي تغادر في أزدراء واضح :
-(( قدامك يومين.. يا الأوراق بكل النسخ تكون عندي.. يا نتقابل في المحكمة.. وبعد الفضحية.. سلام يا قطة )).



**************************



بداخل غرفة وكيل النيابة....
وبعدما نجحت في الحصول على تصريح زيارة مشترك، أخذت تذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا في عصبية واضحة، وهي تفرك كفيها معًا في توتر وغيظ، بينما وقف طاهر يستند بجسده على حافة المكتب الخشبي يراقب ما يحدث في صمت، وجلس هو "جواد" في لامبالاة، يتابع غضبهم غير المبرر وجهة نظره، غاضض الطرف عن نظراتها البركانية التي ترمقه بها كلما تلاقت أعينهم، حتى يأست من صمته، فصاحت تقول في حنق :
-(( أنت بتعاند معايا ليه!!.. لو مش خايف على نفسك.. أشفق على باباك اللي هيموت نفسه عشانك يا أخي.. أشفق على مامتك وعلياء ومن قبلهم لينة.. ما تقول حاجة يا طاهر أنت كمان!! ))..

حرك طاهر كتفيه في عدم اهتمام كعلامة على عدم نيته المشاركة في الحديث، بينما أجابها جواد في هدوء جعلها تستشيظ غضبًا من برودته :
-(( قلتلك مش هجازف بسُمعتك مهما حصل.. أنا مش عيل وكنت عارف داخل على إيه لما صممت أساعدك.. يبقي مش من أول جولة هنخاف ونرضخ للي عايزه.. ولو قلتي كان معايا أو جبتي بكده شهود هنكر ))..

همست تتوسله وقد اختنقت نبرتها بالدموع يأسة من عناده وصلابة رأسه :
-(( جواد الموضوع مش لعبة.. أبوس أيدك افهمني.. عقوبة الاغتصاب بإعدام أو مؤبد والتقرير الطبي مش في صالحنا بعد ما نجحوا انهم يخفوا أثار الجاني الحقيقي والdna بتاعه.. يعني احنا اتحاصرنا واللي بنتكلم عليها دي روحك.. تفتكر روحك ولا سُمعتي؟ ))..

هنا تدخل طاهر وقد هالته نبرتها الباكية وانتقل إليه تباعًا خوفها الظاهر من توترها وخلف كل حركة صادرة منها :
-(( جواد.. غفران عندها حق.. حياتك مش لعبة.. يا أنا هروح أسلم الأوراق ليه بنفسي يا تسيبها تشوف شغلها وتثبت حجة غيابك بيها وبالشهود وتخرج.. كفاية أنك مرمى هنا من غير ذنب بقالك أسبوع.. وعيلتك برة ربنا العالم بحالتها ))..

صاح جواد يقاطعه في نبرة عدائية واضحة بعدما انتصب واقفًا بجسد متصلب :
-(( والحل إيـــه!!.. اسيبه يتهمها في شرفها!.. أنت عقلك مستوعب اللي لسانك بينطقه! دي بتقولك هددها بحادثة عمرو الله يرحمه وأنه هيفضحها.. وأنا مش هسمح بكده مهما كان التمن.. أكيد في حل تاني.. مش معقول عيلتنا دي كلها مش عارفة تقف قصاده ))..

هتف طاهر من بين أسنانه يعقب في قسوة :
-(( وأنا مش هجازف بيك.. تخرج منها وبعدين نقف قدامه بقوتنا.. مش هتحرك طول ما روحك تحت ايده فااااهم ))..

توقف جواد بجسده أمامه، هاتفًا هو الأخر في عنف وكأنه صراع أسود، يرفض كلاهما التقهقر أو التراجع عن موقفه :
-(( وأنا كلامي مفيهوش رجوع.. غفران برة الحسبة ))..

دائمًا ما كانت تتفاخر بقدرتها على إيجاد الحلول، وإلى الآن وفي أهم المواقف لم يخذلها عقلها في ذلك، حيث اهداها فكرة بسيطة، قادرة على إخراجهم من ذلك المأزق، جريئة نعم ولكن عملية؛ لذا همست تقول في إصرار بعدما سحبت نفسًا عميقًا تستجمع به شجاعتها :
-(( اتجوزني.. دلوقتي وحالًا قبل المحكمة.. وبكده هنحمي سمعتنا أحنا الاتنين ))..


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس