عرض مشاركة واحدة
قديم 19-02-21, 09:59 PM   #23

وسام الأشقر
 
الصورة الرمزية وسام الأشقر

? العضوٌ??? » 462759
?  التسِجيلٌ » Mar 2020
? مشَارَ?اتْي » 256
?  مُ?إني » الرياض
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » وسام الأشقر is on a distinguished road
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
سيؤتينا الله من فضله، وإنا إليه لراغبون.
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي الفصل الثالث

أخّر خطوات دخوله خطوتين تاركا لها مساحتها حتى لا تخطئ فهمه وتتهمه بإزعاجها والتطفل عليها، هذا ما لا يحبذه طوال حياته لم يسمح لحاله بأن يفرض نفسه على أي أنثى على الإطلاق، دائما تصاحبه شخصيته الرزينة المتعقلة، بعيدة كل البعد عن تهوره الحالي، رفع كفه يحك لحيته النابتة بحيرة تأكله من أمره المتقلب، فهو بذاته لا يفهمها ولم يصل لتفسيرٍ يريح عقله، نفث الهواء من صدره وضبط وضعية سترته الزرقاء وخطا بخطوات محسوبة يرمق جوانب المكتب بمقاعده المصفوفة فتقع عينيه سريعا عليها مستقرة على أحد المقاعد الجلدية مشغولة بأمرٍ يجهله، في لحظة تفكير سريعة منه قرر اختيار أحد المقاعد الأمامية لها فضلا عن المقعد الخالي بجوارها فهذا لن يمكنه من تأملها بأريحية ووضوح،x أراح جسده بعد أن حرر زر سترته وقد لاحظ عدم وجود "سهير" بمكانها، وقد شغل المكتب ثلاثة أفراد غيرهما من زبائن المكتب، رمقها خلسة من موقعه الاستراتيجى أثناء تلاعبه بهاتفه بحركات مزيفة، شعر بغرابة تحيط هيئتها الخارجية، أنثى مثابرة محاربة بمعركة لا تناسب إمكانيتها، قوية، عزيزة، ولكن لشخوص عينيها رأي أخر، عينيها المرسومتين باتقان يخفيان الكثير والكثير من الشجن، التوهة،x بل الضياع، وغزة جبارة استشعرها بنابضه كجعلته يرفع كفه يدلك مكانها خفيةً مُزيلا ألمه المفاجئ، انتبه على صوت ترحاب "سهير"، الذي يعتاده منها، فتلك المرأة دائما يشعر بؤلفتها كأنها فردا من عائلته، اجتماعية -محبوبة- بروحها البيضاء، فسمعها تتبع ترحيبه، تخبره بإحراج:
-"عدي" بك اعتذر اليوم ستضطر الانتظار قليلة، فاليوم جدول الاستاذ ممتلئ على غير العادة.
مع ذكر اسمه بصوتٍ مسموع لتلك الشاردة، كان يتمنى أن تنتبه، أو ترفع عينيها ليمحي عنهما شجنهما، التفتت سهير تراقب نظره الواقع على"زينب"، فاندفعت تصيح بحبور وترحاب معتادة عليه:
-السيدة "زينب"، المكتب أنير بوجودك اليوم.
أجفلت "زينب" في مكانها من مداهمة الأخرى بالحديث والتي سرقتها من شرودها في ذكريات، موجعة، رفعت كفها تريحه فوق صدرهها مهدئة طرقاته، تبلغها بصوتها الهادئ الذي يقتله:
-بنورك حبيبتي، هل سيتأخر موعدي كثيرا؟.
رفعت هاتفها تنظر للتوقيت المزيين شاشة هاتفها، وتكمل برجاء واضح:
-لدي موعدًا هامًا جدا.
كان هناك من يراقب الحوار بينهما بشغفٍ واضح، وابتسامة رجولية تزيين محياه إلا أنها اختفت سريعا على ذكر الموعد، ترى ما هو الموعد الهام؟، مراهقهُ المتهورُ بدأ في التململ من مكوثه ساكنا ولولا إحكامه الجيد على مراهقه المتهور؛ لأسرع في سؤالها:ما هو الموعد؟، ضغط على طرف لسانه يمنع نفسه من التدخل ولكنه لم يقدر المكوث ساكنا أكثر من ذلك صامتا، فأسرع يعرض مساعدته بشهامته:
-يمكنك الدخول أولا، لا يهم سأنتظر حتى تنتهي.
-شكرا
شكرا؟ فقط كلمة شكر!، مختصرة - خالية- من الامتنان المطلوب في تلك اللحظة، مثلت له الكثير، ما بك "عدي" ؟، هل جننت؟، إنها مجرد كلمة، انتبه ل"سهير" بعد أن استقرت خلف مكتبها تقلب بعض الأوراق بيدها تبلغه بلباقتها:
-حالا، وستكون قهوتك بين يديك.
ثم ألتفتت لتلك الضائعة تولي اهتمامها الكلي لها تسألها بتعاطف نبت مؤخرا اتجاهها:
- وأنتِ ما قهوتك؟
انتبهت لحديثها الودود لتنتشلها مرة أخري من دوامتها المهلكة الطاحنة نفسيا، تعتذر لها بصوتها الرنان الذي أوضح ذبذباته مدى الحزن الذي يشوبه:
-اعتذر منكِ، أي قهوة تقصدين!
x x x x xx .........
ظلّ يرتشف قطرات قهوته باستمتاع لم يجد بعده متعة، وهو يراقب جنيته التي رفضت عرض القهوة المجاني، بتصريح لطيفٍ منها أنها لا تحب تناولها مطلقا ولا تنجح بإعدادها على الإطلاق، تصريحا جديدا منها يقربه أكثر لاكتشاف سر من أسرارها، كم سرا أيتها الجِنّية تحملين يا تُرى؟، وكم من الوقت سيأخذه لكشف باقي الأسرار المخفاه؟، رمق حركة إبهامها التي لم تتوقف عن حك جلد حقيبتها الذي كاد يصرخ مستغيثا لترحمه قبل أن تقشرx وتفسد هيئته، قطع شروده بها رنين هاتفها الذي أسرعت في الرد عليه كأنها على علم بصاحبه، لتنتفض من مجلسها ويسقط على آثارها حقيبتها مبعثرة محتوياتها أرضها، أسرع هو بإراحة فنجانه فوق طاولته الصغيرة، وفي لحظة كان منحني على عقبيه يجمع محتوياتها المبعثرة مانعا إياها من الانحناء فتلك المرأة لن يسمح لها ابدا بالانحناء مادام حاضرا، حتى لو كانx لجمع مقتنياتها، وأذنه تلتقط كلماتها المختصرة، التي أوحت له أن أحد أطفالها يعاني من أمرٍ ما، وقف يواجهها حاملا حقيبتها منتظرا إنهاء مكالمتها بقلبٍ مقبض، ياليته يستطيع سؤالها عما تعانيه، لعله بيده محو عثرات قدمها، انتشلت حقيبتها من بين أصابعه ليتلامسا لثانية ارتبكت لذلك التلامس غير المقصود، لتختفي من أمامه تاركه إياه مغيبا بفعل تلك اللمسات الرقيقة.
x x x xx - - - - - - - -
بعد مرور أسبوعين
...........
-لن أسمح له برؤيتها، مادام أنا على قيد الحياة.
صرخ بها "عدي" في صديقه المقرب "أبو بكر"، فجاءه صوت صديقه المتعقل قائلا بعملية:
-لقد قام برفع "دعوة رؤية" وهذا حقه، لقد حظرتك أكثر من مرة، أبلغتلك بألا تدفعه للخوض في معارك قانونية، فهي ابنته وله الحق في رؤيتها.
انتفض من جلسته يجذب خصلات شعره بضيق، يقارعه:
-يجب عليه أن يحرم منها كما حرمنا من والدتها، لقد تسبب في قتلنا أحياءً بموتها.
-أنه قضاء الله، وعليك أن تقتنع أنه كان عمرها وحالتها الصحية كانت غير مبشرة.
رمقه"عدي" بنظرات حانقة متمردة، فهو لن يقتنع أبدا بأقوالهم، فصاح ببغض:
-لقد عجّل بتأخر حالتها، عجل بموتها، لقد ظهرت دناءته ومعدنه الصديء، مع أول أزمة تعرضت لها بدلا من أن يكون سندا حاميا، غدر بها وأسرع في الزواج من أخرى وهي على ذمته، ليبرر أنه رجلا ويحتاج زوجة ترعاه، ماذا لو كان أصيب بنفس مرضها؟، أكانت لتتخلّ عنهx لمرضه كما فعل؟، ملقية بابنته التي لاتتعدّ الخمس سنوات في بيت جدتها المسنّة، الأن تذكر ابنته، الأن؟
-اتفهم جيدا موقفك، ومقدرا لوضعك، ولكن الحكم يجب تنفيذه وإلا ستعرض نفسك للمساءلة.
هز رأسه بتفهم، يفكر ببعض الهدوء، فيقطع شروده رنين هاتف صديقه، ليتلقى المكالمة باهتمام واضح:
-مساء الخير سيدة" زينب".
انتفض"عدي" على ذكر اسمها ولقد نسي السبب الأساسي في حضوره اليوم، وهو السؤال عن أحوالها، لاحظ صديقه المقرب انتفاضته الواضحة على ذكر اسمها وتأهبه لسماع المكالمة، ولكن سرعان ما وصلها صوت انهيارها، وبكائها مع خروج كلماتها المتقطعة فصعب عليه فهم فحوى حديثها، فاسرع يهدئها:
-سيدة"زينب"، أنا لم أفهم شيئا مما قلتيه، عليكِ تهدئة نوبة بكائك حتى أفهم كلماتك المتقطعة.
-ماذا بها؟، تكلم.
كان هذا سؤال "عدى" المتلهف، فأسرع صديقه يهدئه بإشارة من إصبعه وتابع يقول بكياسة:
-لا عليكِ سيدة "زينب" فإنه بالشيء المتوقع منه، بل أنه تأخر في تلك الخطوة عامين.
صمت للحظات يستمع لكلماتها المنهارة، ثم طلب منها برسمية:
-سأنتظرك غدا سيدة "زينب" لنتناقش في ذلك الأمر، ولا تقلقي من أي شيء.
وقف "عدي" متحفزا للعراك والقلق يأكله، فمن المؤكد طليقها قام بمضايقتها، انتظر إغلاق الهاتف فعاجله "أبو بكر" يجيبه قبل أن يسأل:
-يبدو أنه يوم قضايا الرؤية العالمي "عدي" بك.
تنفس الصعداء بعد معرفته سبب بكائها وانهيارها ليباغته "أبو بكر" يحاصره:
-ألا ترى أن نوبة اهتمامك بالكونتيسة "زينب" فاقت المعقول "عدي"بك، أم يُهيأ لي؟!
تجاهل مواجهة صديقه له بحقيقة مشاعره، هو نفسه يجهل سبب اهتمامه المبالغ فيه، فاندفع يرجوه على استحياء:
-"أبا بكر"، هل يمكنني الاستعانة بك في خدمة؟!
x x x x x x ———————-x
في إحدى الحارات الشعبية
—————-
-افتحي يديك، أمي، وانظري ماذا أحضرت لكِ.
اتسعت عينا والدتها على اتساعهما لرؤيتها لذلك البريق اللامع المنعكس من السلسال الذهبي ثقيل الوزن والقيمة الذي يتدلى من بين أنامل ابنتها باستعراض، فاندفعت تنتشل تلك القطعة الثمينة من أناملها بلهفة، تسرع في ارتدائه قائلةً:
-لا أصدق، لقد اشتريتيه لي، أنه غالي الثمن.
ابتسمت "همسة" على سذاجة أمها وضيق أفقها، فأجابتها باستعراض لوضعها الجديد وبمشيتها المختالة:
-مابكِ، أم"همسة"، أنسيتي ممن تزوجت ابنتكِ وناسبتي مَن؟، ابنتك تزوجت من ابن أكبر تاجر لقطع السيارات بالمنطقة، الوضع الأن اختلف عن ذي قبل، ويجب عليكِ اعتياد الأمر.
عبست والدتها باسترابة واقتربت تشاركها جلستها، تسألها على استحياء:
-مِن أين لك بثمنها؟، إياك والتهور، فيجب عليكِ سحب مبالغ بسيطة من أموال زوجك، لا مبالغ تلفت الانتباه لكِ.
أراحت"همسة" جسدها فوق أريكة والدتها المتهالكة، وشردت بالطريق الظاهر من نافذة والدتها بالدور الأرضي، لقد مقتت حالها وفقرها منذ زمن وآن الأوان لتصليح ذلك الوضع، آن الأوان للتمرد على ذاتها، وعلى من حولها لتتذوق طعم وحلاوة سواد الظلم للأخرين وانتصارها، طلما تذوقت مرارة الظلم كفريسة له، آن الأوان لتصلح أوضاعها، فاقت من شرودها على وغزة مؤلمة من كف والدتها لساقها، فأولت اهتمامها لها لتريح فضولها:
-طمئني قلبك الملهوف، فذلك السلسال له قِصّة أخرى، واعتادي ذلك في الفترة القادمة، سأجلب لك أكثر من ذلك من الأن وصاعدا، أكثر مما تتخيلينه.
راقبت انصراف والدتها للداخل ثم ولّت اهتمامها للطريق أمامها، فلمحت من بعيد سير أخر شخص ترغب في رؤيته تلك اللحظة الحساسة من حياتها، تلك المرحلة التي تعاني فيها الكثير من التخبط وعدم الاستقرار النفسي، تقف وسط أمواج البحر تستقبل تلاطمها بقوة وصلابة لا منها تسقط وتستسلم لتمتزج بملوحته وتذوب، ولا منها تقدر على الثبات بقوة لمجابهة قوتها بجسدها الهزيل، لتقف بعدم ثباتٍ على شفا السقوط بأعماقه، فسقوطها لا يمثل إلا سقوطها بذكرياتها المهلكة معه التي طالما تتهرب منها، انتبهت على صوته الأجش التي تحفظ نبراته عن ظهر قلبٍ منذ نعومة أظافرها، لتجده يلقي التحية ببعض الحذر الذي يجبره الموقف:
-السلام عليكم.
رفعت نظرهها إليه باهتمام ترمقه بنظرة متمردة مزيفة -قوية- تخفي خلفها هشاشتها، ترد تحيته بتحفز فراقبت هي وجهه الذي شرد بالطريق الضيق يراقب المارة ثم بادر يسألها بعينين متهربتين يملأهما الذنب:
-كيف حالك"همسة"؟، أراك في أحسن حال الأن.
-بالطبع في أحسن حال، هل كنت تنتظر عكس ذلك؟!
قالتها بنبرة ساخرة، لكنه أكيد أن تلك السخرية تخفي خلفها شرخا كبيرا بروحها، فأسرع يدافع عن نفسه ببعض المداهنة:
-بالطبع لا، كل ما أتمناه رؤيتك في أحسن حال، كما أنت الأن.
صمت للحظات أراد إزالة حاجز الجليد الذي أقيم بيديه، فأسرع يعتذر بلباقته كأنه لا يجد مايقال في مثل تلك الظروف:
-اعتذر عن عدم حضوري لزفافك، لقد كنت وقتها مسافرا، و...
قطعت حديثه بنبرة مستهزءةٍ متسائلةً ساخرة:
-لا تقل!، إنك كنت ستحضر إن كنت متواجد.
-بالطبع كنت سأفعلها، مهما حدث بيننا ستبقين ابنة عمّي التي أكن لها كلّ معزة واحترام.
-وماذا كنت ستخبر العروس الجديد؟
أكملت ساخرة:
-أنا ذاهب لحضور زفاف زوجتي السابقة، التي من المفترض أن تكون معي الآن بدلا منك، لولا إصرار أبي وأمي للزواج ممن تمتلك رحما خصبا للإنجاب بدلا من تلك المسكينة العقيم.
------

ابتلع "مروان" غصة شقت حنجرته نصفين، فهو أكثر من عليم عن حجم الجرح المترسب بروحها، لها كل الحق في ثورتها عليه، ولكنه لم يرغب في حرمان والديه من ذريته وخاصة بعد وفاة شقيقه الأصغر بعد عدة أشهر من زفافه تاركا خلفه زوجة بأحشائها جنينا لم يكتب له الاكتمال، فأسرع يبرر بصوته المتألم لحالها:
-لك كل الحق بأن تكرهيني، ولكنك أكثر من عليمة بالوضع الذي أجبرت عليه وقتها، حرمان والدي من ذرية "مصطفى" رحمة الله عليه لأمرٍ صعبٍ علينا، مما زاد الوضع صعوبة أنك..كنتِ...
قاطعت استرساله بحدة تدافع عما تبقى من كرامتها كأنثى:
-هل الأن تلقي اللوم على كاهلي؟
-لا لا، لم أقصد ولكنك لو كنت أعطيتني فرصة، مجرد فرصة للتفاهم لكنّا في وضع مختلف الآن.
انهت الحوار بينهما، بكلماتها الجامدة الخالية من التعاطف، ستبقى دائما تلقي كامل لومها على عاتقه لأخر نفس بروحها:
-انتهى الأمر بيننا "مروان"، وكلا منّا اختار دربه باختياره، اتمنى الأن أن تكون مرتاح البال أنتَ وعمّي وزوجة عمّي.
x x x ———————
حمل ثقل جسده ليخطو بخطوات ثقيلة لبيته، يشعر كأنه يحارب لدفع قدميه الثقيلتين للوصول له كما هو مؤخرا، يدفع نفسه للبقاء خارجه أكثر من التواجد داخله، رفع كفه بتحية بلا روح لأحد المارة بدون نبسها، حتى وصل لدكان والده "حامد" وهو يجادل أحد زبائنه على سعر قطعة القماش المفصلة، قائلا:
-بالله عليك هل هذا يعقل؟، إن اشتريت ذلك القميص من المحلات من وسط المدينة، ستدفع ضعف الثمن الذي أطلبه.
-ياحاج "حامد" أعلم أن عملك لا يضاهيه شيئا، فأنت تملك أنامل ذهبية انقرضت منذ زمن، ولكن خفض لي قليلا، ليكرمك الله في ابنك وزوجته وتفرح بأحفادك عن قريب.
رفع "حامد" كفه بالهواء يبرر حجته، فهو أكثر ما يكرهه الجدال في عمله:
-بالله عليك لا طاقة لي بجدال يهد الحيل، إن لم ترغب في قطعة الملابس اتركها وسيأتي ذبونها، بإذن الله.
وقف مروان يراقبهما بصمتٍ بعد أن ألقى تحيته، مفكرا كم يهلك أبيه حاله بدون فائدة، فهل ما يفعله سيساعده على النسيان؟، انتبه لانصراف الزبون حتى ولج ببطء يلقي بجسده فوق أقرب مقعد خشبي بالدكان، رمقه والده بنظرة مقيمة وبعين خبير وهو يضع الأموال بجاروره المخصص، متسائلا بأسلوب متواري:
-مابكَ؟
-لا شيء!
سرعة إجابته أكدت ل "حامد" شكوكه، فاندفع يوبخه على ضعفه الذي يؤلمه ولا يستسيغه من ولده المتبقي له:
-هذا هو مربط الحديث، لا شيء، لقد رأيتها أليس كذلك؟
أخفض رأسه ينظر لقدميه وهو مستندا بمرفقيه فوق ساقيه، لم لا يشعر به من حوله؟، إلى متى سيظل في تلك الدائرة المغلقة؟، وهل أراد الخروج منها بالفعل من دائرتها؟، التي تجعله يدور في مدارها بلا توقف كأنها الشمس التي لن تطفئ إلا بفناء عالمه، انتبه لإقرار والده المباشر:
_لقد رأيتها وهي ذاهبة باتجاه منزل والدتها، عليك التخلص من ماضيها يابني والانتباه لحياتك القادمة، كما هي فعلت تماما.
صمت للحظات فرفع "مروان" عينيه البائستين يخبره بما يوجعه بصمت شفتيه، فأكمل "حامد" بصرامة تلزم الموقف الجديد:
-حالك لا يعجبني مع زوجتك.
-هل اشتكت؟!
-ياليتها تنطق وتشتكي بما تشعر به وتحمله داخل صمتها، هل ترانا كبرنا على رؤية ما بينكما؟، اسمع بني لم يجبرك أحد على اتخاذ خطوة ستر أرملة أخيك بعد عرضنا الأمر.
أسرع يدافع باستماتة:
-ولكني لم أبادر بالعرض!
-ولكنك لم ترفض العرض وقتها، تذكر سواء أنا أو والدتك المكلومة لم نكن لنجبرك على اتخاذ الخطوة ابدا.
صمت "مروان" يفكر في أمر أرملة أخيه، وزوجته الحالية، الذي كان يتوقع عندما يقبل بعرض زواجه منها إرضاء لوالديه، سيقابل العرض بالرفض من اتجاهها هي وينتهي الأمر، ولكن لم يكن يدرك أنه سيقع بين مطرقة وسندان عندما علم بقبولها للوضع، ليزداد كل يومٍ حنقا وكرها لما سببته بانقلاب حياته وانفصاله عن حبيبته، التي أسرعت في طلب الطلاق ردا لكرامتها المهانة، فاق على ضربات خفيفة فوق كتفه من والده يوصيه:
-راع الله في أرملة أخيك، لقد أوصانى عليها يا بني، وأن الأوان أن يأخذ زواجكما شكلا أخر.
x x x x xx - - - - - - -
تحرك بعينيه داخل منزل والده يصدر أصوات مزعجة للفت الانتباه، مع تنحنحه ليلفت الاسماع لوصوله، إن كانت بالداخل مع والدته بأريحتها أم لا، سمع صوت والدته"جميلة"، تخبره بنبرتها لائمة:
-تعال، فإنها ليست هنا.
تنحنح مرة أخرى إحراجا من كشفه أمام والدته بتلك الصورة، ليراها تظهر من خلف باب حجرتها، تخبره بنبرة قرأ بها اللوم والضيق:
-تأخرت اليوم على غير عادتك، فموعد وصولك مر عليه أكثر من ساعة تقريبا.
حك أرنبه أنفه وبعيون متهربة أجابها:
-انتظرت قليلا بالدكان مع والدي.
مال ثغرها بابتسامه يعرفها، فأمه تحفظه كخطوط يديها خطا خطا، لتبادر في القول وهي تتجه جهة مطبخها وهو يتبعها بخطواته الثقيلة:
-لا تكذب عليّ يا "مروان" فأنا منذ قليل كنت أجمع الملابس من الشرفة، ولقد رأيناك عند بيت عمك، قبل وصولك لدكان أبيك.
فهم سريعا صيغة المثنى التي تتحدث بها لتقصد بها "هنا" أرملة أخيه، قطعت شروده وهي تكشف عن الأواني الساخنة المتصاعد منها الأبخرة والروائح التي تزغزغ المعدة وتداعبها،x فتهرب من الحوار برمته ليقترب يطبع فوق رأسها يتبعها خطف إصبع من الباذنجان المحشو يتذوقه باستمتاع مزييف يحاول إرضاءها قائلا:
-سلمت أناملك الجميلة، يا "جميلة" الكوكب والمجرة بأكملها.
ابتسم ابتسامة مغتصبة، ورفعت عينيها المغشية بالدموع، تخبره:
-ذكرتني بالمرحوم "مصطفى"، بارك الله لي في عمرك ياولدي ويريح قلبك الملتاع مع من تستحقه، ورزقك الله بذرتك الصالحة.
رفعت ظهر كفها الأيمن تزيل بقايا عبراتها الهاربة من محجريها تصحح له كلماته قائلةً:
-سلمت أنامل زوجتك، فالطعام من صنع يديها كالعادة، منذ دخولها علينا ترفض مجرد وقوفي للأعداد الطعام، ابنة أصول صحيح!
ختمت جملتها تلك الكلمات ذات المعنى الذي يفهمه بدون استفسار عما تخفيه الكلمات، ثم تابعت تأمره:
-اجلس، اريد الحديث معك قليلا.
-أمي بالله عليكِ، لات...
-قلت اجلس، تخال نفسك كبرت عليّ.
جلس على مضض وهو يلبي رغبتها بملل لا يظهره احتراما لها، فسمعها تخبره بصوت متعقلٍ مهزوز النبرات لشجنه:
-أنت تعلم معزتك الغالية لا تقل ولا تنقص عن المرحوم "مصطفى" فأنت البكري، يجب عليك تحسين أمورك مع أر.. أقصد زوجتك، لا يعجبني الوضع مطلقا فزواجكما مر عليه عاما من الآن وأشعر أن الفجوة بينكما تزداد يوما بعد يومٍ، لا تنس يا بني أنها كانت عروس لم تكتمل فرحتها بموت أخيك، المسكينة يؤلمني حالها وصمتها الذي لم يتغير، فأنت الرجل في المعادلة، وعليك أنت البدأ بحياة زوجية مستقرة وتقريبها إليك، لا كل منكما بمكان، أتظن أنني لم أفهم ما يحدث أنا وأبيك بينكما.
هز رأسه بملل لا يقدر على المراوغة فهو بالفعل لا يستطع حتى النظر بأعينها فكلما فعلها وجد صورة أخيه حاجزا بينهما، كيف قبلت بذلك للوضع؟ انتبه لما تخبره به والدته باهتمام:
-هيا اصعد لها لتسرع في تجهيز حالها فالناس على وصول.
-أي ناس!
-أهلها قاموا بالاتصال سيأتون للاطمئنان عليها، حقهم يا ولدي.
x x x - - - - - - -
وقف متململا يزفر هواء صدره ضيقا، لبطء استجابتها في الرد وفتح باب شقة شقيقه تلك الشقة، التي أسس أجزائها بنفسه مع أخيه الصغير استعدادا لزفافه منها، يعلم أنها بالداخل كعادتها تهرب لحصنها المنيع ولن تتجرأ دخول شقته مع "همسة" من نفسها، طرق مرة أخرى طرقاتٍ عنيفة يبث فيها غضبه منها ومن برودها، فيفتح الباب الفاصل بينهما بعد برهة ببطء تظهر من خلفه بقصر قامتها وجسدها الذي زاد نحافةً بعد وفاة شقيقة الأصغر تخفيه خلف عباءتها البيتية بلون الكحلي مزيين بخيوطٍ زهرية من الصدر والأكمام، تلك الأكمام الطويلة التي دائما تجذبهما للأمام تخفي من ورائهما كفين نحيلين يظهر من خلفهما خطوط أوردتها الزرقاء بنفور، أجابته بعينين زائغة تتهرب من لقائها بخاصته:
-لم كل ذلك الطرق؟، لقد كنت أرتدي ملابسي.
نطق ساخرا:
-وهل كل مرة أطرق الباب بها، تكوني فيها ترتدين ملابسك، ما الجديد؟
نظر خلفها بشرودx بجوانب الشقة الذي قام بإعدادها ركنا ركنا ومنذ عام ونصف تقريبا، ليجفل فجأة عندما استشعر إغلاقها لزاوية الباب تمنعه من التمعن بالداخل أكثر، لم يهتم كثيرا بحركتها أو بها شخصيا،x فأشار لها برأسه وهو يقول:
-أمي أبلغتني بأن عائلتك ستحضر اليوم للاطمئنان على أحوالك، هل أنتِ جاهزة لرسم دورك ككل مرة؟
غصة مسننة منعت ابتلاعها لريقها لتتذوق مرارة العلقم بحلقها، فأجابته برد اعتبره تحديا منها:
-بالطبع جاهزة.
-بالطبع، نعم، ولكن بعد انصرافهم لنا للحديث بقية.
x x xx - - - - - - - - - - -
-لم يكن هناك داعٍ لكل تلك الأشياء ياحاج "اسماعيل"، فنحن لسنا أغرابا.
قالها "حامد" مجاملا بامتنان حقيقي لتعبهم كل زيارة لابنتهم؛ كعادة أصيلة لدى بلدتهم، فأردف الحاج "اسماعيل" بفخرx معتاد عليه أمثاله:
-إنه شيئا بسيطا لأبنتنا "هنا".
مرر عينيه على تلك الجالسة ضامة كفيها لحجرها وعلى وجهها ابتسامة ثابته لم تزول منذ حضورهما واستقبالها ببيت حميها، فأسرع يسألها بروتينة خالية من الود الظاهر للجميع:
-وأنتِ، كيف حالك، أراك في أحسن حالٍ الآن من المرة السابقة.
أجابته ولم تتخل عن ابتسامتها المشدودة كوتر حساس:
-بخير يازوج عمتي، ما أخبار عمتى؟، لمَ لم تأت معك تلك المرة، لقد اشتقت لها كثيرا.
-ماذا أقول؟، لقد إلتوى كاحلها أمس وقد كانت تعد نفسها للحضور للأسف، المرة القادمة سننتظر زيارتك لنا أنتِ وزوجك.
هزت رأسها بلا روح واكتفت بصمت مع ثبات نفس الابتسامة التي لم يعرف حقيقتها إلا ثلاثة فقط، فبادر "مروان" يواصل الود كما يلزم الأمر ولحين انتهاء تلك المسرحية المجبر عليها، فأردف يرحب وهو يقدم المشروب الغازي قائلا:
-وأنت يا "أكرم" متى ستقرر أن تتزوج؟
تنحنح إحراجا ومرر عينيه عشوائيا على المتواجدين فتقابلت عينيه بخاصتها ليتهرب سريعا، ثم أجابه بسماجة قصدها:
-ولمَ أجلب لي مصيبة ببيتي؟، لابتلي بها صباحا ومساء، فأنا في أحسن حال هكذا، تركنا لك هناء الزواج.
ختم حديثه بجملته بتلميحٍ فهمته تلك المبتسمة ووالده، فأردف "حامد" يلومه على حديثه بأبوه:
-هل هذا يعقل؟، الزوجة سكن ورحمة لزوجها، وهي سنة الحياة يابني، لولا هنّ ما وجدنا نحن.
ضحك الحاج "اسماعيل"برتابة على حديث ابنه يوافق "حامد" :
-لديك كل الحق والله يا حاج "حامد"، هذا جيل آخر الزمان.
-الطعام يا أم"مروان"
قالها "حامد" ليتعجلها لضايفة ضيوفه على أكمل وجه، فأجابته من الداخل تطمئنه قائلة:
-حالا، ياحاج، حالا.
ظلت تبادل الجميع نظرات ثابته فاقدة لروحها القديمة مع نفس الابتسامة التي لم تتخل عنها حتى وهي تتناول المشروب بغير شهية وعقلٍ شارد في ذكرياتها الموحشة، كم جميلة هي ذكرياتنا الحالمة مع أحبتنا الساكني وجداننا.
———————
نهاية الفصل الثالث


وسام الأشقر غير متواجد حالياً